الكتاب: تجارب الأمم وتعاقب الهمم المؤلف: أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه (المتوفى: 421هـ) المحقق: أبو القاسم إمامي الناشر: سروش، طهران الطبعة: الثانية، 2000 م عدد الأجزاء: 7   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تجارب الأمم وتعاقب الهمم ابن مسكويه الكتاب: تجارب الأمم وتعاقب الهمم المؤلف: أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه (المتوفى: 421هـ) المحقق: أبو القاسم إمامي الناشر: سروش، طهران الطبعة: الثانية، 2000 م عدد الأجزاء: 7   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [ المجلد الاول ] تصدير التصدير نشر الجزءان الأوّل والثاني من كتاب تجارب الأمم عام 1987 م. وحظى عملنا المتواضع بالقبول والتشجيع من قبل الباحثين من ذوى الإختصاص، سواء في ايران أو خارجها، ولكن تأخّر- ولظروف طارئة- صدور الأجزاء المتبقّية الجاهزة في المطبعة بحيث صدرت عام (1997- 2001 م) في الوقت الذي نفذت فيه النسخ المنشورة من الجزأين الأوّلين. إذن وعند ما عزم الأمر على إصدارها كاملة ومتزامنة، أعدنا النظر في تصديرنا الذي صدّرنا به عملنا يوم ذاك، وأدخلنا فيه بعض ما استجدّ لنا بعد ذلك. والجدير بالذكر أنّ هذه الطبعة المحقّقة الكاملة الأجزاء من تجارب الأمم لا تقاس إطلاقا بالطبعة السابقة الناقصة الأجزاء التي نشرها آمد روز (ج 5، ج 6 الذيل، مصر 1916- 1914) وترجمها المستشرق مرجليوث إلى الإنجليزية (أكسفورد 21- 1920) والتي لم تشمل إلّا أقلّ من نصف أجزاء الكتاب من آخره. حيث إن نشرتنا هذه تشمل ولأوّل مرّة في تاريخ النشر ومنذ عهد غوتمبرغ، كلّ أجزاء تجارب الأمم الستة مع ذيله وفهارسه، لتصبح في النهاية ثماني مجلدات. هذا، وقد شاءت الأقدار أن لا يكون فراغنا من هذا العمل إلّا في عامنا هذا بالذات، الذي صادف السنة الألف من وفاة مسكويه من ناحية، والسنة الدولية لحوار الحضارات من ناحية أخرى. لقد سبق أن عمل مسكويه الكثير من أجل هذا الحوار، فإنّه حكيم اسلامىّ غنوصىّ برغماتىّ، فلسف التاريخ ونظر في تاريخ الأمم والشعوب المعتدّة بها في ذلك العصر وحسب مصادر كانت في متناوله، للتعرّف على مناحى حياتهم ولاستخلاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تجاربهم والتنبيه على مواضع الإعتبار منها، كما درس آداب العرب والفرس واليونان والهند وذلك لإكمال ال «جاودان خرد» أى الحكمة الخالدة التي وجد نواتها عند الفرس الأقدمين وألفاها تعمّ الإنسانيّة جمعاء، كما خدم الإنسان من حيث هو إنسان ومن دون أىّ انتماء، وذلك بمحاولته الرائدة المعترف بها لدى الجميع في فلسفة الأخلاق التي لم تكن مدوّنة قبله، الفلسفة التي لا تهدف إلّا سعادة الإنسان القصوى، ولا تنشد إلّا رقيه إلى كماله الأعلى، الخاصّ واللائق به والمتوقّع منه، ولا يقصد إلّا تقويم سلوكه وذلك لإنقاذه ممّا اعتاد أن يعانيه طيلة حياته. وفي الختام، نسأل الله تعالى شأنه، وذلك بعد شكره على هذا التوفيق، أن يوفّقنا في إكمال الترجمة الفارسية لهذا الكتاب أيضا وفي إتمام ما تبقّى من العمل لسائر مصنفات هذا العالم العلم الإيرانىّ الإسلامى نصّا وترجمة، وفي نشر دراستى المستقلّة الشاملة، الخاصة بمسكويه ودوره العلمي في عصره، والتي أودّ أن تكون آخر حلقة من هذه السلسلة، وذلك لسدّ الفراغ المشهود على هذا الصعيد، في لغتنا الفارسية. الدكتور ابو القاسم امامى طهران- شتاء 1379 ش./ 1421 ق./ 2001 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تصدير عام حول مسكويه وتصنيفه تجارب الأمم مناهل دراسته لم يرد في المصادر القديمة التي وصلت إلينا حتى اليوم، ذكر بالتفصيل عن حياة مسكويه يجيب على الكثير من الأسئلة المطروحة أمام دارسيه. وكلّ ما لدينا هو نصوص مبعثرة في هذا المصدر أو ذاك، تناقلها أصحاب التراجم ومؤرّخو الحكمة، وهي نزر قليل للغاية. ومن حسن الحظّ أن نرى حكيما من كبار الحكماء المعاصرين لمسكويه، ممّن يعرف مسكويه عن كثب ويقدّر القيم التي تنطوى عليها شخصيّته، نراه ولم يقنعه ما كتبه عن مسكويه في كتابه والذي ليس إلّا بقدر ما كتبه حول الحكماء الآخرين بالاختصار والتلخيص، بل يعدنا فيه أنّه سيخصّص رسالة بمسكويه يعالج فيها مزيدا من تفاصيل حياته. وهذا الحكيم هو أبو سليمان المنطقي السجستانىّ الذي يعدّ بدوره من أعظم الحكماء في تلك الحقبة. ثم نرى- وهذا من سوء الحظّ- أنّ ما وعده أبو سليمان لم يصل إلينا، سواء كان لم يوفّق في إنجاز ما وعد، أو لأنّه أنجزه، ولكنّ صروف الدهر هي التي حرمتنا هذه الوثيقة القيّمة التي كان من شأنها أن تغنينا ممّا هو مبعثر هنا وهناك، وليس إلّا تردادا لقليل من الكثير اللازم في التعرّف على حياة مسكويه. أمّا ما وعده أبو سليمان، فهو ما قاله في كتابه صوان الحكمة: « ... أمّا ما سمعته من مجاري حياته، وشاهدته من سيره الحسنة، وأخلاقه الطاهرة، فسأفرد فيه رسالة أقصرها على ذلك، إذ ليس يحتمل هذا الموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أكثر ممّا ذكرته.» وكان ظهور هذا الوعد الفريد في الصوان، ومصيره المجهول بعد ذلك، بالنسبة للمعنيّين بدراسة مسكويه «غمامة أبرقت- كما قال القائل- قوما عطاشا، فلمّا رأوها، أقشعت وتجلّت» ولم تمطر ما يشفى غليلهم. وأمّا تصنيفه تجارب الأمم، الذي ضمّنه في الجزأين الأخيرين منه حوادث عصره، ومن خلالها بعض حوادث حياته، فهذا المصدر أيضا، يتوقّف عند سنة 369 هـ، وهذا يعنى أنّ مسكويه عاش بعد ذلك حوالى نصف قرن، تاركا كتابة الحوادث المتبقّية من عصره، الحوادث التي كان من شأنها أن تلقى مزيدا من الضوء على النصف الثاني من حياته أيضا، وذلك من خلال اتّصاله الوثيق بالشخصيّات الدخيلة في تلك الحوادث، حيث كان مسكويه من وجوه أوساطهم. ومهما يكن من أمر المصادر، فإننا لا نعمد هنا الخوض في تفاصيل حياة مسكويه، بل نكتفي بإيراد أهمّ المصادر التي فيها ترجمة أو ذكر لمسكويه، نثبتها في أربع فئات: أ. آثاره كسيرة ذاتيّة: إنّ مسكويه قد يتحدّث في مطاوى آثاره عن نفسه، بأحاديث لها دلالات مهمّة في معرفة أحواله وبعض نواحي حياته، وأخصّ بالذّكر كتابه: تهذيب الأخلاق، وكتابه الآخر: الهوامل والشوامل، والجزءين الخامس والسادس من تجارب الأمم. ب. المصادر المعاصرة لمسكويه (320- 421 هـ) : 1. أبو حيّان التوحيدي (320- 414 هـ) في الإمتاع، والمقابسات، ومثالب الوزيرين، والصداقة والصديق. 2. أبو سليمان المنطقي (العقد الأوّل من القرن الرابع- 391 هـ.) في كتابه صوان الحكمة. 3. أبو منصور الثعالبي (350- 429 هـ.) في تتمّة اليتيمة. وأمّا ما ذكره عن مسكويه في اليتيمة نفسها فلا يتجاوز نقل بيتين من شعر مسكويه قالهما في ابن العميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 4. أبو بكر الخوارزمي (المتوفّى سنة 382 هـ.) في رسائله. 5. بديع الزمان الهمذاني ( ... - 389 هـ.) أيضا في رسائله. ج. المصادر المتأخّرة عن عصر مسكويه: 1. البيهقي (المتوفى سنة 575 هـ.) في مخطوط كتابه تاريخ حكماء الإسلام، عند كلامه عن الفيلسوف ابن الطيّب وتطاول ابن سينا على علماء عصره. وهو مخطوط يتشابه كما قال عزّت (ص 146) في هذا الموضوع وغيره مع كتاب آخر مطبوع هو تتمة صوان الحكمة، بل هما كتاب واحد بعنوانين مختلفين، نشر عزت في كتابه (ص 146) النصّ الخاصّ بمسكويه، كما نشر الكتاب بكامله في دمشق سنة 1943. 2. ابن أبى أصيبعة (579- 616 هـ.) في عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء. 3. ياقوت (المتوفى سنة 629 هـ.) في معجم الأدباء أو إرشاد الأريب. 4. القفطي (564- 656 هـ.) في إخبار العلماء بأخبار الحكماء. 5. الشهرزوري (عاش شطرى القرنين السادس والسابع) في مخطوطة نزهة الأرواح وروضة الأفراح. وتجد النص منشورا في عزّت (ص 144) . وكلام الشهرزوري في هذا النصّ اقتضاب محرّف من كلام أبى سليمان المنطقي في نشرة بدوي (ص 346) . والعجيب من أمره أنّك تجد في نصّ الشهرزوري هذه العبارة: «إلى وقتنا هذا» دون إشارة إلى أنّ الكلام لأبى سليمان وأنّ الوقت وقته ووقت مسكويه. 6. الصفدي (696- 764 هـ.) في الوافي بالوفيات. ترجم له في هذا الكتاب بترجمة وافقت ترجمته في معجم ياقوت. 7. حاجي خليفة (1017- 1067 هـ.) في كشف الظنون. 8. عبد الله أفندى التبريزي الاصفهانى (من أعلام القرن الثاني عشر) في رياض العلماء. 9. الخوانساري (1224- 1313 هـ.) في الروضات. 10. السيد حسن الصدر (1272- 1354 هـ.) في تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، وفي الشيعة وفنون الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 11. محمد على مدرس (1296- 1373 هـ.) في ريحانة الأدب. 12. الطهراني (1293- 1389 هـ.) في الذريعة، وذلك عند ذكره لآثار مسكويه. د. الدراسات الحديثة: أمّا الدراسات الحديثة التي قام بها الباحثون في الشرق والغرب، فبالإضافة إلى ما نشر منها في دوائر المعارف، أو في تواريخ الفلسفة الإسلامية، أو في الفهارس، أو في المجلات العلميّة، أو في معاجم الأعلام، أو في مقدمة النشرات لآثار مسكويه، وغيرها، فإنّ هناك دراسات أخرى مسهبة مستقلة، أنجزت أيضا، حول مسكويه ونقد آثاره وتقييم أعماله العلمية. وهي حسب تاريخ النشر: الدكتور عزيز عزّت: «ابن» مسكويه وفلسفته الأخلاقيّة ومصادرها (القاهرة 1946 م) ، والدكتور عبد الرحمن بدوي: مقدمته المسهبة على نشرته لجاويدان خرد (الحكمة الخالدة القاهرة 1952 م، طهران 1358 هـ. ش.) ، والدكتور عبد الحق أنصارى: فلسفة مسكويه الأخلاقية (بالإنجليزية عليكره 1964 م:M.S.Khan، (مسكويه، حياته وآثاره، بالإنجليزية. أخبرنا بذلك في نشرته لرسالة مسكويه في ماهيّة العدل (ليدن 1964 م: ص 1 حاشية 1) ولكنّنا لم نجد أىّ إشارة إلى هذا الكتاب فى الدراسات التي أنجزت بعد ذلك، والدكتور م. أركون: (M.Arkoun) الإنسيّة العربيّة في القرن الرابع الهجري، مسكويه الفيلسوف والمؤرّخ (باللغة الفرنسيّة، باريس 1970 م، وباللغة العربيّة: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، جيل مسكويه والتوحيدي، بيروت، دار الساقي 1997 م.) ، وأخيرا فإنّ لنا أيضا دراسة شاملة عن مسكويه باللغة الفارسية حاولنا من خلالها سدّ الفراغ المشهود هنا في ايران، مع العلم بأنّه رازىّ، أى إيرانىّ. هذا علاوة على هذا التصدير الذي بين يدي القارئ، والذي نقل بتمامه وعن طبعته الأولى، في مستدركات أعيان الشيعة في مادّة «أحمد مسكويه» ، ومقدّمتنا لترجمتنا الفارسيّة لهذا الكتاب، وما كتبناه في مادّة «أبو على مسكويه» في «دايرة المعارف بزرگ إسلامي» (دائرة المعارف الإسلاميّة الكبرى) المعاد نشره في «ذكرى ألفيّة أبى على مسكويه» التي أقيمت في مدينة قم في هذا العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الفترة التي عاشها عاش مسكويه حوالى مائة سنة، ووصل إلى أرذل العمر الذي امتدّ من سنة 320 هـ على الأقوى، إلى التاسع من صفر سنة 421 هـ. بالتحديد على ما ذكره ياقوت نقلا عن يحيى بن مندة. ويبدو أن مرجليوث هو أوّل من حاول تحديد مولد مسكويه، وذلك في المقدمة التي قدّمها لترجمته الإنجليزية للجزأين الأخيرين من تجارب الأمم وذيل الروذراورى له (أنظر. (LEcl.,Pref.,P.ii:فنراه وقد حدّد مولد مسكويه «مؤقتا» سنة 330 هـ.، ثم يعود قائلا: «أو أسبق بقليل» . ثم يحاول الدكتور عزّت (ص 79- 80) تقديم هذا التاريخ من 330 إلى 325 هـ. كما يقدّمه الدكتور عبد الرحمن بدوي (ص 20- 21) أكثر من ذلك ويجعله سنة 320 هـ. قائلا: «إن لم يكن قبل ذلك» . وأمّا الدلائل أو الأمارات الموجودة لتحديد مولد مسكويه فهي: 1. ما قاله مسكويه نفسه في تجارب الأمم في مقدمة حوادث سنة 340 هـ. فصاعدا، ذاكرا مصادره في تقرير تلك الحوادث، قال: «أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة، [أى بعد سنة 340 هـ.] فهو عن مشاهدة وعيان، أو خبر محصّل يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته. وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد- رضى الله عنه- خبّرنى عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره وما اتّفق له فيها، فلم يكن إخباره لى دون مشاهدتى في الثقة والسكون إلى صدقه، ومثل أبى محمد المهلّبى- رحمه الله- خبّرنى بأكثر ما جرى في أيّامه، وذلك بطول الصحبة وكثره المجالسة، وحدّثنى كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة، وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجرّبته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.» 2. ما قاله مسكويه في تجارب الأمم أيضا عن نفسه، (أنظر حوادث سنة 341) ، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عند ذكر معزّ الدولة بالحدّة والبذاءة، وموقف الوزير المهلّبى من أخلاقه. قال مسكويه: «وكان معزّ الدولة حديدا سريع الغضب بذيء اللسان، يكثر سبّ وزرائه والمحتشمين من حشمه، ويفترى عليهم، فكان يلحق المهلّبى- رحمه الله- من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه، فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله، وكنت أنادمه في الوقت، فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا، ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا .... » أمّا في الدليل الأوّل فيحدّثنا مسكويه عن «طول الصحبة وكثرة المجالسة» التي كانت بينه وبين الوزير المهلبي، وفي الدليل الثاني يقول: «وكنت أنادمه في الوقت.» والمعروف أنّ المهلّبى قد تولّى الكتابة لمعزّ الدولة سنة 339 هـ. وخوطب بالوزارة سنة 345 هـ. وتوفّى في شعبان سنة 352 هـ. (أنظر التجارب، حوادث سنة 339، 345، 352) ، والفترة الواقعة بين سنتي 339 و 352 هي التي كانت فيها تلك المنادمة والصحبة والمجالسة التي وصفها مسكويه بالكثرة والطول. نعم صحيح أنّه «قد صحب الوزير المهلّبى في أيّام شبيبته» - كما صرّح به أبو سليمان أيضا في الصوان (ص 346- 347) - ولكنّ مسكويه في هذه الشبيبة، لا يمكن أن تكون سنّة أقلّ من 25 سنة، وخاصّة بالنظر إلى أنّه «كان من خواصّه ووجوه المختصّين به» - كما أضاف أبو سليمان- وكان من الحنكة والبصيرة على مستوى جعل المهلّبى يتخذه نديما له و «يخبره بأكثر ما جرى في أيّامه» ، كما جعل مسكويه بالذات يعدّ نفسه مصدرا من مصادر تاريخ سنة 340 فصاعدا، وذلك في قوله: «وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجرّبته بنفسي، فسأحكيه بمشيئة الله.» فبذلك لا يصحّ أن يكون مولده بعد سنة 320، كما تكون منادمته وصحبته الطويلة ومجالسته الكثيرة للوزير المهلّبى ابتداء من عام 345 أى دون احتساب الخمس السنوات الأولى (339- 344 هـ.) من وزارة المهلّبى وذلك لبعض الاحتمالات السلبيّة التي قد تعترى هذا الافتراض. 3. وهناك دليل آخر، وهو دليل على طول عمره أكثر من كونه دليلا على تحديد سنواته أو تحديد ميلاده، وهو أنّ لمسكويه أبياتا يشكو فيها «سوء أثر الهرم وبلوغه أرذل العمر» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 (أنظر الثعالبي، التتمة ص 96) . فبهذا لا نستبعد أن يكون مسكويه قد عمّر مائة سنة كاملة (320- 421) إن لم نقل أكثر من ذلك، وعاش قرنا كاملا هو ألمع القرون الإسلاميّة حضارة، وهو عصر النهضة في الإسلام كما سمّاه آدم متز. وإذا عرفنا أنّ دولة البويهيين قد بدأت في سنة 320 هـ، فيكون مسكويه والدولة البويهية، تربين، أو، لدتين، تعاصرا قرنا كاملا. والسنوات المائة هذه كانت قمّة ازدهار تلك الدولة، وأمّا السنوات المتبقّية من عمر الدولة (27 421- 448 هـ.) فهي سنوات تنحدر الأسرة البويهيّة فيها، إلى حضيض الضعف والاضمحلال. فبذلك، يصبح مسكويه وثيقة حيّة من أوثق وثائق تلك الحقبة التاريخية التي لها خصائص وميزات في تاريخ الفكر والعلم الإسلاميين، وإن كانت بالنسبة للخلافة العباسية عصر تفكّك وتعدّد في مراكز الحكم، مع العلم بأنّ هذا بالذات، أدّى إلى تعدّد مراكز العلم أيضا، كما أدّى إلى ازدهار تلك المراكز، ونبوغ العلماء المنتمين إلى مختلف أرجاء العالم الإسلامى آنذاك، وذلك لتنافس الأمراء وتفاخرهم فيما بينهم باجتذاب العلماء والأدباء إلى بلاطاتهم. فنبغ في غضون ذلك رجال علم وحكمة وأدب وسياسة عاصرهم مسكويه وعاصروه، وكان مسكويه على اتّصال وثيق بكثير منهم. مسكويه، لا ابن مسكويه واختلفوا لا سيّما في القرون الإسلامية الأخيرة في أنّه: من هو الملقّب بمسكويه؟ هو، أى أحمد، أو أبوه محمّد، أو جدّه يعقوب؟ والواقع أنّ مسكويه لقبه هو، أى لقب أحمد، وأمّا الاختلاف الموجود بهذا الصدد، فيرجع أولا، إلى عدم الانتباه إلى التسمية التي سمّاه بها معاصروه من أصدقائه وزملائه، وثانيا، لأنّ بعض المتأخرين رأوا مسكويه يسمّى نفسه بشكل لا يمكن معه البتّ، لو لم نستدلّ بما دعاه به معاصروه. فإنّنا نراه قد يسمّى نفسه «الأستاذ أبو على أحمد بن محمد مسكويه» (أنظر التجارب، المخطوطة المصورة 182 بن 6, 480 بن 5 والمطبوعة من نشرتنا، ج 5: 170، ج 6: 410، جاويدان خرد [الحكمة الخالدة] : 375) ، كما قد يسمّى «أحمد بن محمد بن يعقوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مسكويه» (أيضا جاويدان خرد ص 5، ورسالته إلى أبى حيّان في ماهيّة العدل، ص 12) . فوقوع «مسكويه» تارة بعد اسمه أحمد، وتارة بعد اسم أبيه محمد، وتارة بعد اسم جدّه يعقوب، كان سبب الخطأ الذي شاع في ما بعد، في ضبط اسم مسكويه، فأوهم بعض الكتّاب أنّ مسكويه لقب لأبيه، أو جدّه، فكتبوه: «أحمد بن مسكويه» ، أو: «أحمد بن محمد بن مسكويه» أو بشكل أغرب: «أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه» ، بمعنى أنّ «مسكويه» أصبح لقبا لأبى جدّه (أنظر الخوانساري، الروضات 1: 254، والطهراني، الذريعة 3: 374) . والحقيقة أنّه عند ما يقال: «أحمد مسكويه» أو «أحمد بن محمد مسكويه» ، أو «أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه» ، فالقصد أن يجيء اللقب بعد أحمد أى بعد اسمه، فإذا ذكر الاسم وحده فاللقب يتلوه مباشرة. ولكن إذا ذكر الاسم مخصّصا بذكر اسم الأب، فيجيء اللقب بعد ذكر الأب، وإذا كان هناك تخصيص آخر بذكر اسم الجدّ فيأتى اللقب بعد ذكر اسم الجدّ، وهكذا. لأنّ مسكويه ذاته لم يذكر اسمه متلوّا باسم أبيه، أو جدّه دائما، بل نراه أحيانا يذكر لقبه بعد كنيته (أبى على) فقط، ونراه يفعل ذلك بتكرار مشهود يبدّد كلّ الشكوك بهذا الصدد. ففي شوامله على هوامل أبى حيّان التي يبلغ عددها 175 مسألة، نراه يذكر اسمه في مستهلّ كل جواب بقوله: «قال أبو على مسكويه» اللهم إلّا في الإجابة الأولى، حيث يذكر اسمه متلوّا باسم أبيه فيقول: «قال أبو على أحمد بن محمد مسكويه» ، أى لمرّة واحدة فقط، وذلك لتخصيص اسمه باسم أبيه كما أشرنا إلى ذلك. فأحمد نفسه هو الملقّب بمسكويه، وهو ليس ابنا لمسكويه، أو سبطا له. وأمّا المعاصرون لمسكويه (320- 421 هـ.) الذين سمّوه في كتبهم «مسكويه» فهم: أبو سليمان المنطقي (310- 391 هـ.) في صوان الحكمة: ص 321، وأبو حيّان التوحيدي (320- 414 هـ.) في الإمتاع: 1: 35، 136، 3: 227، وفي الصداقة والصديق: 67- 68، وفي مثالب الوزيرين: 18- 19، وأبو منصور الثعالبي (350- 429 هـ.) في تتمّة اليتيمة 1: 96، وأبو بكر الخوارزمي ( ... - 382 هـ.) في رسائله: 102. وأمّا بديع الزمان الهمذاني ( ... - 389 هـ.) فنقل ضبطه ياقوت في معجم الأدباء حيث قال: «وللبديع الهمذاني إلى أبى على مسكويه» على أنّ هناك طبعة غير محقّقة من رسائل البديع (ص 100، 323) ورد فيها اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 مسكويه بصورة خاطئة هكذا: «أبو على بن مشكويه» فلو كان ضبط البديع كمصدر لياقوت مخالفا لضبط ياقوت، أو ضبط أبى حيّان، أو ضبط ابن مندة، من الذين ذكرهم ياقوت في معجمه، لكان ياقوت ذكر هذا الاختلاف. وأمّا القدماء من غير معاصري مسكويه الذين سمّوه «مسكويه» فهم: الروذراورى (437- 488 هـ.) في مقدمته على الذيل، وابن أبى أصيبعة (579- 616 هـ.) في عيون الأنباء (الطبعات الثلاث: ص 245، ص 236، ص 331) ، وياقوت في معجم الأدباء (نشرة مرجوليوث ج 5: ص 5، 6، 10، 11) ، والصفدي (696- 764 هـ) نقل كلام ياقوت بتمامه (أنظر مرجوليوث في نشرته لياقوت 5: 5 الحاشية) . وقد صرّح ياقوت بأنّ مسكويه لقب لأحمد حيث ذكره في عنوان كلامه بقوله: «أحمد بن محمد بن يعقوب الملقّب مسكويه» (برفع «الملقّب» ) . والحقّ مع مرجوليوث حيث ضبط «الملقّب» بالرفع نعتا لأحمد لا ليعقوب، وذلك لأنّ مرجوليوث شاهد بوضوح أنّ ياقوت نفسه يكرّر ذكر مسكويه في خمسة مواضع (ناقلا عن معاصريه) بلفظ مسكويه، فلم يتردّد في ضبط «الملقّب» بالرفع إذا كان الضبط منه وليس من مخطوطة معجم الأدباء، ونحن نعتبر ابن مندة أيضا من الذين ذكروا مسكويه «مسكويه» حيث نرى ياقوت ينقل عنه بنفس الضبط. ومن هؤلاء القدماء القفطي (564- 646 هـ) في تاريخ الحكماء (ص 331) ونصير الدين الطوسي (597- 672 هـ.) في أخلاق ناصري (باللغة الفارسية ص 35، 36) ، وحاجي خليفة (المتوفى 1067 هـ.) في كشف الظنون، والسخاوي (القرن التاسع) في التوبيخ (ص 39) . وأمّا في الموسوعات ودوائر المعارف، فهو مسكويه أيضا في: دائرة المعارف الإسلامية (الطبعة الجديدة 1971 م.، الإنجليزية والفرنسية) انسحابا من الموقف في الطبعة القديمة، ففي تلك الطبعة ورد «ابن مسكويه» كما في الطبعة العربية والطبعة الفارسية (دانشنامه ايران وإسلام) ، وهو مسكويه أيضا عند دهخدا في لغتنامه، وكذلك في دائرة المعارف للبستانى، كما صرّح العاملي في الأعيان بقوله: «مسكويه لقب أحمد نفسه كما صرّح به جماعة .... » أمّا الدراسات المستقلّة التي نشرت عن مسكويه، فهو في كلّها مسكويه كما رأيت من عناوينها التي سبق أن ذكرناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ومن بين المستشرقين فإنّ مرجوليوث أيضا صرّح بقوله: «إنّ مسكويه لقب له بالذات لا لأبيه وهذا يظهر بجلاء كثير من كلام معاصريه ... » (أنظر (Ecl.,Preface ,ii وكذلك برجشتر أيسر الذي أورد مواضع جاء فيها «مسكويه» بدون «ابن» (أنظر P.674:بن 65 بن، (ZDMG كما أخبرنا الدكتور عزت عن مخطوطات رسائل مسكويه (مجموعة راغب باشا) جاء فيها ضبط «مسكويه» بالصورة الصحيحة. أمّا ما ورد في مخطوطة كتاب تاريخ الحكماء للبيهقي (أنظر عزت: 146) أو في مخطوطة نزهة الأرواح للشهرزورى حيث جاء «ابن مسكويه» فهو اقتضاب محرّف خاطئ من صوان الحكمة لأبى سليمان، ونحن عرفنا ضبط أبى سليمان سواء في ما نقله عنه ياقوت، أو في الصوان نفسه في نشرة بدوي (ص 321، 346) . فهاتان المخطوطتان لا يمكن الاعتماد عليهما، ولعلّ أخطاء المتأخرين في ضبط اسم مسكويه إنّما نشأ عنهما. وأمّا ما جاء في مخطوطة ابن خلكان (608- 681 هـ) الذي كتبه بخطّ يده (المتحف البريطانى، الإضافات، رقم 25735، ورقة 10 ب) والذي اعتمد عليه بروكلمن،GAL) الملحق 1: 582 رقم 1) وقال «من المحتمل أن يكون مسكويه- وأصله مشكويه- لقب جدّه» كما فعل آمد روز (NoteontheHist.P.XVI) فمردود ما دام مسكويه ومعاصروه الكبار يشهدون بخلافه. فبذلك كلّه، وفي نهاية المطاف، فهو: مسكويه، أى هو أبو على أحمد مسكويه (ابن محمد بن يعقوب) أى اللقب له، لا لأبيه، ولا لجدّه. مسكويه: مشكويه إنّ الأصل الفارسي لمسكويه هو «مشكويه» كما جاء في بعض طبعات رسائل الهمذاني، وعند دولتشاه السمرقندي (القرن التاسع الهجري) في تذكرة الشعراء، (ص 24) وعند يوستى في الأسماء الايرانية (بالألمانيّة، ص 218) ، وعند بروكلمن (الملحق 1: 582 الحاشية) وعند جب (Gibb) في دائرة المعارف الإسلامية، وكذلك عند لفيف من الكتّاب الإيرانيين منهم سعيد نفيسى في ترجمته لابن سينا (ص 131) ، دانش پژوه على ظهر نشرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 لجاويدان خرد. أمّا في تاريخ كمبردج فالشكل الفارسي للاسم هو بالسين: مسكويه) Muskuya:أنظر P.429 -30 بن. (theCamb.Hist.ofIran ,Vol.4 وهذا غريب. لأنّ النطق الفارسي للكلمة منذ عصر مسكويه، أو أسبق من ذلك، لا يعترف بوجود حرف السين فيها، مهما يكن من أمر أصلها في اللغات الهندو إيرانية القديمة. فالسين هذه علامة وجود شكلين لتعريب هذا الإسم: مسكويه، مسكويه. والأوّل أوفق للنطق العربي والثاني أقرب إلى الشكل الفارسي: مشكويه. إنّ كلمة مشكويه تركّبت من جزأين: مشك أويه (Lmoshk uyeh) أمّا الجزء الأوّل فهو في الفارسية بضم الميم وكسرها، وأصله في السنسكريتية) muska مصغر mus:بالفارسية موش: الفأرة) ، وفي اليونانية،Lmoskos وفي اللاتينيّة،Lmuskus ومعنى الكلمة: المادة العطرة المعروفة المأخوذة من غزال المسك، ولا حاجة إلى القول إنّه عرّب إلى «مسك» . قال الجوهري: المسك من الطيب فارسىّ معرّب. قال: وكانت العرب تسميه «المشموم» . أمّا الجزء الثاني (أويه) فهو لاحقة تلحق بالكلمات لبيان الاتصاف، أو النسبة، أو التصغير، أو الاستعطاف، وأمّا إذا قلنا «مشك (Lmashk) «بفتح الميم، فمعناه جلده الغنم مدبوغا وغير مدبوغ، أو الوعاء الذي يصنع منه ويجعل السقّاء فيه الماء. وتعريبه «مسك» بالسين المهملة وبنفس المعنى (أنظر اللسان، نفس المادّة) . وهذا الشكل بمعناه ربما يهمّ الذين ضبطوا «مسكويه» بفتح الميم، كما نجده عند مرجوليوث في نشرته لمعجم ياقوت (5: 5- 17) مع العلم بأنّه ذكره بكسر الميم في مقدّمته لترجمة تجارب الأمم. أمّا المعاني التي أوردها أصحاب القواميس الفارسية لكلمة «مشكويه» (مشكوى moshkuy مشكو (Lmoshku فهي: بيت الأصنام. سرادق الملوك. القصر. الطابق الفوقاني من البيت. كما أنّ مشكويى Moshkuyi اسم لنغمة موسيقيّة. (أنظر معين: نفس الموادّ) . وهناك ملاحظة أخرى حول كلمة «مشكويه» ، وهي أنّها اسم- كما قال المؤرّخون الجغرافيون- لبليدة من أعمال الري بينها وبين الرىّ مرحلتان على طريق ساوه (أنظر مراصد الاطلاع: نفس المادة، والمقدسي: ص 400، وأشباههما من المصادر) ، ولذلك اعتقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بعضهم بأنّ مولد مسكويه هو بليدة مشكويه هذه. (أنظر: رى باستان [الري الأثرية] : 625) . وقال الدكتور عزّت بهذا الصدد: إنّ مسكويه لقّب بمسكويه ربما لأنّه كان يحبّ هذا العطر، ويفضّله، ويتطيّب به، وهو في بعض أشعاره (أنظر التتمة: 98) يستعمل كلمة المسك للمقارنة الحسنة، فهو يشبّه خيار الناس وفضلاءهم بالمسك في قوله: والناس في العين أشباه وبينهم ... ما بين عامر بيت الله والخرب في العود ما يقرن المسك الذكىّ به ... طيبا، وفيه لقى ملقى مع الحطب وكم كان بودّنا أن نجد دليلا نعتمد عليه على أنّ مسكويه من بليدة مشكويه من أعمال الري- كما قيل- حتى يأتى دور التأمل في كيفية استعمال النسبة بهذا الشكل في اللغة العربية، لأنّها لو كانت نسبة فارسيّة بلاحقة «أويه» ، لكان المنسوب هو «مشك» ونحن نعلم أنّ البليدة اسمها «مشكويه» ، فيلزم أن تكون النسبة إلى «مشكويه» بأحد الأشكال التالية: مشكويجى (من الأصل الفارسي: مشكويگى، كخانجى وميانجى) أو: مسكويى بحذف ما يشبه تاء التأنيث في النسبة العربية: أو: مسكويهى، على وزن سيبويهى. ثمّ يأتى دور هذا السؤال: لماذا لم يقولوا: أبو على المسكويهى؟ أى لماذا لم يعرّفوه بأل التعريف في ضبطه العربي؟ إلّا أن يقال: إنّ النسبة في أصلها الفارسىّ كانت على شكل «مشكويه اى» وكانت تكتب بالصورة التقليدية: «مشكويه» أى بإثبات ياء صغيرة على شكل همزة على الهاء، ثم حذفت الهمزة استخفافا بشأنها في نهاية الكلمة، وعلى القاعدة القائلة: «تلك كلمة أعجميّة فالعبوا بها كيف شئتم» فقيل في التعريب: مسكويه على وزن سيبويه ونسى أمر التعريب فأصبحت النسبة لقبا له، ثم ابتليت بمصير سائر الكلمات الفارسية المختومة ب «ويه» التي تنوس بين ضبط «- أويه (Luyah) «و «- ويه. (LWayh) «وما دمنا لم نتوصل إلى دليل مقنع يدلّ على صحّة أحد هذه الفروض، فلا يمكن الاطمئنان إلى أىّ شيء يقال بهذا الصدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أوصافه وألقابه الأخرى لقد وصفه المترجمون له من القدماء والمتأخّرين بقولهم: الحكيم، المتكلّم، الفيلسوف، الأخلاقى، المؤرّخ، الرياضىّ، المهندس، اللغوي، الأديب، الشاعر، الكاتب، الذكىّ، الناقد، النافذ الفهم، الكثير الاطلاع على كتب الأقدمين ولغاتهم المتروكة. كما كان من ألقابه، علاوة على لقب مسكويه: الخازن، والنديم، كما لقّب بالمعلم الثالث، مع أنّ اللّقب كان قد ترشّح له ابن سينا أيضا. ويقال إنّ مسكويه لقّب بالمعلم الثالث لدوره الفذّ الذي لعبه في إعادة بناء الفلسفة اليونانيّة في فرعها العملي، أى في فلسفة الأخلاق، وجمع أشتاتها وتمحيصها وترصيص أركانها، بصورة لم يزد عليها أىّ مصنّف صنّف في فلسفة الأخلاق حتى زماننا هذا. أضف إلى ذلك أنّ أبرز كتاب في الأخلاق، ظهر في اللغة الفارسيّة، هو كتاب: أخلاق ناصري، الذي ليس إلّا ترجمة لكتاب مسكويه: تهذيب الأخلاق، نقله إلى الفارسيّة نصير الدين الطوسي وكان معجبا بمسكويه وكتابه إعجابا كبيرا يعرب عنه بأبياته المعروفة التي نظمها في زمن سابق وقبل أن يقوم بترجمته، وأوّلها: «بنفسي كتاب حاز كلّ فضيلة ... » (أنظر أخلاق ناصري: 36) . إنّ هذه الألقاب والنعوت التي لقّب بها مسكويه ونعت، لهى دليل على تعدّد عناصر شخصيّته وسعة آفاقه في العلم والحكمة، تعزّزه أدلّة أخرى تتمثّل في تلك الآثار الكثيرة القيّمة التي تركها لنا، والتي نوردها هنا باختصار: آثاره في حقول المعرفة 1. ترتيب السعادات ومنازل العلوم (الترتيب، ترتيب السعادات، ترتيب السعادات ومنازل العلوم. أنظر التهذيب: زريق: 15، 39، 49، 91، 124، السعادة. طبعة الطوبجى، ترتيب العادات. أنظر العاملي: 5: 10) ، المسعدة. أنظر: مجلس، ف 7001 وفي الصوان هو اسم لكتاب آخر لمسكويه. وقد حقّقنا ونشرنا هذا الكتاب الصغير الحجم تحت عنوان: ترتيب السعادات ومنازل العلوم، وذلك في «مجموعه گنجينه بهارستان» : خزانة بهارستان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 حكمت 1، صص 97- 127، التي صدرت عن مكتبة ومتحف ومركز وثائق مجلس الشورى الإسلامى (طهران 1379 هـ. ش/ 2000 م.) والكتاب شرح لمراتب السعادة الثلاث وتحديد دقيق لمراتب العلوم حسب مدرسة أرسطو وقيمتها في الرقىّ بالإنسان نحو السعادة والكمال الإنسى (التهذيب: 15) . 2. الفوز الأصغر (الفوز الصغير. أنظر الصوان، بدوي: 347، والقفطي: 332) وقد يسمّى الكتاب باسم آخر هو: كتاب الجواب عن المسائل الثلاث. اختصر إقبال اللاهورى نظام مسكويه الفلسفي من خلال الفوز الأصغر، وقال: «إنّى أطرح الفلسفة الأولى لمسكويه التي لا شك أنّها أكثر انتظاما من فلسفة الفارابي، كما استبدل الفلسفة الأفلاطونيّة الحديثة لابن سينا، بالخدمة الأصيلة التي أدّاها مسكويه تجاه فلسفة بلاده.» (أنظر: سير فلسفه در ايران: 33) . 3. الهوامل والشوامل. وقد استعار أبو حيّان التوحيدي كلمة الهوامل لأسئلته المبعثرة التي تنتظر الجواب (175 مسألة) واستعمل مسكويه كلمة الشوامل في الإجابات التي أجابه بها، فضبط بها هوامل أبى حيّان التي كانت كالإبل المسيّبة، لأنّ الشوامل هي الحيوانات التي تضبط الإبل الهوامل فتجمعها (أنظر أمين، المقدمة ص «ج» ) . 4. تهذيب الأخلاق (كتاب الطهارة، كتاب طهارة النفس، طهارة الأعراق. أنظر نشرة زريق: 91، 104) أمّا تهذيب الأخلاق اسم أطلقه مسكويه أيضا على هذا الكتاب في كتابه الآخر: جاويدان خرد (أنظر نشرة دانش پژوه: 24) . وقد اتخذ اسم الكتاب أشكالا مختلفة في مخطوطات الكتاب. نقله نصير الدين الطوسي إلى الفارسية وسمّاه: أخلاق ناصري، كما قال فيه وفي مؤلّفه أبياته الأربعة المعروفة، إعجابا بهما. ونقله أبو طالب الزنجاني أيضا وبعده السيدة العالمة نصرت أمين إلى الفارسية، كما نقله زريق إلى الإنجليزية (بيروت 1968 م) وأركون (M.Arkoun) إلى الفرنسية (دمشق، المعهد الفرنسى 1969 م) . والكتاب يتألّف من ستّ مقالات هي: الأولى في مبادئ الأخلاق، والثانية في الخلق وتهذيبه والكمال الإنسانى وسبيله، والثالثة في الخير وأقسامه، والسعادة ومراتبها، والرابعة في العدالة، والخامسة في المحبّة والصداقة، والسادسة في صحّة النفس وحفظها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 5. الفوز الأكبر (الكبير) ليس للكتاب أثر في فهارس الكتب المطبوعة، بيد أنّ هناك رأيّا قائلا بكون الفوز الأكبر وتهذيب الأخلاق كتابا واحدا، وليس كذلك، لدلائل أقمناها في بحثنا المستقلّ عن مسكويه. ونكتفي هنا بالقول: إنّ أبا سليمان أورد العنوانين لكتابين مختلفين (أنظر الصوان: 347) . 6. فوز السعادة (نور السعادة. أنظر العاملي 10: 146) . نرجّح أن يكون الشبه القريب بين «فوز» و «نور» قد أدّى إلى تصحيف جعل صاحب ريحانة الأدب (8: 208) يعدّهما عنوانين لكتابين مختلفين وهما كتاب واحد. كما أنّ موضوع الكتاب يظهر من عنوانه بجلاء. 7. رسائل فلسفية. محفوظة في مجموعة راغب باشا تحت رقم 1463. وهذه الرسائل مختصرة تبلغ صفحاتها 32 صفحة وتتراوح بين صفحة واحدة و 16 صفحة وعناوينها هي: أ. رسالة في اللّذّات والآلام، ب. رسالة في الطبيعة، ج. رسالة في جوهر النفس والبحث عنها، د. رسالة في العقل والمعقول، هـ. رسالة في النفس والعقل، ورسالة في إثبات الصور الروحانية التي لا هيولى لها، ز. ما الفصل بين الدهر والزمان. 8. رسالة في ماهيّة العدل. العنوان الكامل لها كما جاء في مستهلّ المخطوطة الموجودة في مشهد (1: 43، 44/ 137) هو: رسالة الشيخ أبى على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه إلى على بن محمد أبى حيّان الصوفي، في ماهيّة العدل وبيان أقسامه. 9. جاويدان خرد. قال مسكويه عنه: « ... فهذه جمل نحكمها قبل تفصيلها بالجزئيات، ولولا أنّا قد أحكمنا لك الأصول كلّها في كتابنا الموسوم بتهذيب الأخلاق، لأوجبنا لك إيرادها هاهنا، ولكن هذا كتاب غرضنا فيه إيراد جزئيات الآداب بمواعظ الحكماء من كلّ أمّة ونحلة، وتبعنا فيه صاحب كتاب جاويدان خرد [أحد ملوك الفرس الأقدمين] كما وعدنا به في أوّله، ولأنّ موضوع الكتاب الأوّل كتاب فارسىّ، وجب أن نبدأ بآداب الفرس ومواعظهم، ثمّ نتبعها بآداب الأمم الآخرين.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فإذن، القسم الأوّل للكتاب بنى على جاويدان خرد من تأليف قدامى الفرس، والقسم الثاني هو آداب الأمم الأخرى، بدأها بآداب الفرس المتأخرين (إلى ما قبل الإسلام) . وأمّا آداب الأمم الأخرى فهي: آداب الهند، آداب العرب، آداب الروم (منها لغزقابس) ، حكم الإسلاميين. 10. آداب الدنيا والدين. ذكره العاملي (10: 145) وصاحب الذريعة (1: 387) بفارق أنّ الأخير ضبطه «أدب الدنيا والدين» ومصدرهما صاحب الروضات الذي نقل بدوره عن النراقي في الخزائن. كلّ ما نقله الخوانساري بشأن هذا الكتاب هو ما أورده في حاشية الروضات (1: 255) وهذا نصّه: «وقال المحقّق النراقي في كتابه الخزائن: قال (ابن) مسكويه في كتاب آداب الدنيا والدين: الفرق بين السرف والتبذير، أنّ السرف هو الجهل بمقادير الحقوق، والتبذير هو الجهل بمواقع الحقوق. انتهى.» . ثم قال صاحب الروضات: «وظنّى أنّ الغالب على كتابه هذا الذي لم نذكره في المتن، متون اللغة، وأصول المعرفة مع شيء من مراسم الشريعة وأحاديث العلم والحكمة، فيلاحظ إن شاء الله منه ره.» 11. أنس الفريد. هذا هو عنوانه عند أبى سليمان في الصوان: (247) ، وياقوت (5: 10) والقفطي (331) والشهرزوري (أنظر عزّت: 144) ، وعنوانه: نديم الفريد، عند كلّ من الخوانساري (1: 255) والعاملي (10: 146) . قال ياقوت: «وله كتاب أنس الفريد وهو مجموع يتضمّن أخبارا وأشعارا وأمثالا غير مبوّب» . وقال القفطي: «فمن تصانيفه كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنّف في الحكايات القصار والفوائد اللّطاف.» قال آدم متز (1: 468) ، وذلك بعد أن تحدّث عن تطور القصص المسلّية والأسمار الأجنبيّة الظاهرة في فنّ القصة منذ القرن الثالث، قال: «وأخيرا جاء دور مسكويه، وكان أكبر مؤرّخى القرن الرابع، فألّف كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنّف في الحكايات القصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والفوائد اللّطاف. وهذه القصص الجديدة، هي من نوع يغاير كلّ المغايرة القصص القديمة التي ألّفها ابن قتيبة وصاحب العقد، ففيها نجد ولأوّل مرّة تمام الأسلوب القصصى الإسلامى، أعنى طريقة القصص التي ليست عربيّة خالصة.» 12. الخواطر (أنس الخواطر؟) . ذكره أبو سليمان في الصوان باسم الخواطر ونقل منه نصّا تدلّ على أن الكتاب في النفس، وأنّها جوهر بجهة وعرض بجهة، وما إلى ذلك. 13. حقائق النفوس. هكذا ورد عند العاملي (10: 146) وتبعا له في ريحانة الأدب (8: 208) وهو مجال آخر لدراسات مسكويه النفسيّة. 14. كتاب السياسة للملك (العاملي 10: 146، والخوانساري 1: 255) ذكره مسكويه في التهذيب. ذكر السيد حسن الصدر في كتابه التأسيس (ص 384) كتابا لمسكويه بعنوان: كتاب السياسة السلطانيّة. ونحن نظنّ أنّه ليس غير كتاب السياسة للملك. 15. المستوفى في الشعر. ذكر هذا الكتاب بنفس العنوان عند كلّ من أبى سليمان (ص 247) وياقوت (5: 10) . وذكره الشهرزوري (ص 76، عزّت: 144) ، والعاملي (10: 145) . ولكنّ الخوانساري ذكره بوصفه لا بعنوانه. فقال عند إحصاء آثار مسكويه « ... كتاب في مختار الأشعار» فأصبح ذلك عنوانا للكتاب عند صاحب الريحانة (8: 208) . ذكره أبو سليمان قائلا: «المستوفى في الشعر المشتمل على حلّ المختار منه.» 16. الرسالة المسعدة. ذكره مسكويه في التهذيب بنفس العنوان كما ذكره أبو سليمان (ص 247) بعنوان «رسالة المسعدة» دون أىّ شرح له ولكن عنوان الرسالة- لو فرضنا أنّه لكتاب غير ترتيب السعادات، (أنظر رقم 1) - فإنّه ينطق بكونها دراسة في مسألة السعادة، لا سيّما بالنظر إلى ما نعرفه عند مسكويه من الاهتمام بموضوع السعادة. 17. فوز النجاة. ذكر الكتاب عند بعض من درس مسكويه هامشيّا بعنوان: فوز النجاة في الاختلاف (الأخلاق) . يمكن أن يكون عنوانا ثانيا لكتابه الآخر المسمى فوز السعادة، ولكنّنا لا نستبعد أن يكون عنوانا لكتاب على حدة، بالنظر إلى كثرة ما كتبه مسكويه خصيصا في علم النفس والأخلاق. 18. كتاب السير. ذكره ياقوت (5: 10) كما عرّفه باختصار قائلا: « ... وكتاب السير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أجاده، ذكر فيه ما يسيّر به الرجل نفسه من أمور دنياه. مزجه بالأثر، والآية، والحكمة، والشعر.» هذا كلّ ما أورده ياقوت ونقل عنه العاملي بتمامه (العاملي 10: 146) . 19. كتاب الجامع. ورد بنفس العنوان عند كلّ من ياقوت (5: 10) والعاملي (10: 146) . رجّح عزّت (ص 140) أنّه في الطبّ. إن كان هذا صحيحا يمكن القول: إنّه أجمع من كتاب الرازىّ المسمّى بالحاوى، لأنّ مسكويه درس الرازي وأكبّ على كتبه، ثم كتب هذا الكتاب في ضوء اجتهاداته بعد تلك الدراسة. 20. كتاب في تركيب الباجات من الأطعمة (كتاب الطبيخ. أنظر ابن أبى أصيبعة ص 245) . قال القفطي (ص 332) وذلك عند إحصائه لكتب مسكويه الطبيّة: «.. وكتاب في تركيب الباجات من الأطعمة، أحكمه غاية الإحكام، وأتى فيه من أصول علم الطبيخ وفروعه بكلّ غريب حسن.» وقد ذكر الكتاب عند البعض بعنوان: كتاب البطيخ! وهو تصحيف لا محالة. 21. كتاب الأشربة. ذكره ابن أبى أصيبعة (ص 245) بنفس العنوان، كما ذكره العاملي (10: 146) بقوله: «كتاب الأشربة وما يتعلق بها من الأحكام الطبيّة.» واختصره أمين الدولة ابن التلميذ (ابن أبى أصيبعة 1/ 276) . 22. كتاب في الأدوية المفردة. هذا الكتاب تفرّد بذكر اسمه القفطي (ص 332) فلم يذكره غيره من المترجمين لمسكويه، من أمثال ابن أبى أصيبعة الذي ذكر بعض آثاره في الطبّ والعلاج. 23. مختصر النبض. كتاب في الطب، كتب لعضد الدولة البويهي، وهو متنازع فيه بين ابن سينا وبين أبى على مسكويه، أو أبى على مندويه. أمّا انتساب الكتاب إلى ابن سينا فمردود، لأنّه كان طفلا عمره سنتان عند ما مات عضد الدولة، ولذلك ذهب فيلسوف الدولة صاحب كتاب مطرح الأنظار إلى أنّ الكتاب لأبى على مسكويه أو لأبى على مندويه (أنظر الگود، تاريخ پزشكى ايران ص 280) . 24. رسالة في المحرّك والمتحرّك. ذكرها مسكويه في كتاب العقل والمعقول. 25. رسالة في الحكمة النادرة. ذكرها دفّاع في كتاب اسهام العرب (ص 148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 26. رسالة في ذكر الحجر الأعظم. في الكيمياء، 47 آ، دانشگاه طهران 941 (291 بن 4 بن. (GAS 27. رسالة في الكيمياء. أصغر مهدوى 280 نشريه 2 (291 بن 4 بن. (GAS ويتحدّث سزگين عن مقارنة تمّت بين هذه الرسالة ورسالة في ذكر الحجر الأعظم، وأنتجت أنّ العنوانين لرسالة واحدة. 28. الكنز الكبير. بشير آقا 505، 126 آ- 158 آ (291 بن 4 بن. (GAS 29. تتمّة كتاب كنز الحكمة. (الكنز الكبير؟) آستان قدس 14148، مجموعة (1) صص 231- 275. هذه التتمّة قدّمناها. في المؤتمر السنوى العشرين لتاريخ العلوم عند العرب (حلب، 25- 27 سبتمبر 1999) . 30. تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين. قال في الذريعة: «ذكر هذا العنوان صاحب الريحانة ولم نجد عند غيره. قال صاحب الريحانة [عند ذكره لآثار مسكويه] : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين في الأخلاق، وللراغب الاصفهانى أيضا كتاب في معرفة النفس بهذا العنوان.» 31. أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السلف. هكذا ورد العنوان عند الخوانساري (1: 256) ، وهو عند العاملي: «أحوال الحكماء السلف وصفات بعض الأنبياء السالفين» . 32. المختصر في صناعة العدد. إنّ أبا سليمان المنطقي (ص 247) وبعده الشهرزوري (عزّت: 141) يشيران إلى أنّ له مصنفات «في جميع الرياضيّات و ... والحساب و ... ممّا هو متداول في الأيدى يقرأ عليه في أيام مجالسه.» دون ذكر لعنوان واحد من عناوين آثاره الرياضيّة. بيد أنّ مسكويه نفسه ذكر في التهذيب اسم أحدها وهو: المختصر في صناعة العدد. 33. فقر أهل الكتب. ذكره الشهرزوري (ص 76، أنظر عزّت: 141) ، وهو كتاب قد يكون طريفا كما نبّه عليه عزّت. لأنّ مسكويه ربما يعرض فيه نتائج تجربته الخاصّة مع هذه الفئة التي احتكّ بها، والتي ينتمي إليها بحكم كونه خازنا لمكتبات الأمراء والوزراء البويهيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 34. رسالة في دفع الغمّ من الموت. هكذا ورد عند سزكين (336 بن 3) حقّقها لويس شيخو ونشرها تحت عنوان رسالة في الخوف من الموت (عام 1911 م.) ، ونسبها خطأ إلى ابن سينا وهي من مسكويه (انظر أخلاق ناصري، نشرة مينوى ص 606) ونسبت مرّة أخرى إلى ابن سينا عند ما نشرت ضمن رسائل ابن سينا في الحكمة المشرقية (ليدن 1894 أنظر محقق ص 209، 430) ، كما نقلها إلى الفارسية البرقعى القمي في 73 صفحة تحت عنوان: چرا از مرگ بترسم: لماذا أخاف من الموت؟ (قم، ط 2، 1327 ش- أنظر مشار) . 35. تعاليق على الكتب المنطقية. ذكرها أبو سليمان المنطقي (ص 247) بقوله: تعاليق حواشي الكتب المنطقية. كما ذكرها الشهرزوري والخوانساري والعاملي بتغيير طفيف في الاسم. 36. وصيّة له. أوردها أبو سليمان في الصوان (ص 347- 352) ومسكويه نفسه في جاويدان خرد (نشرة بدوي ص 285- 292) أولها: «يا طالب الحكمة طهّر لها قلبك ... » وختامها: «بلا حاجة إلى تفكير وتمييز وتطلّب.» كما أورد أبو سليمان فصلا آخر من كلام مسكويه بعد إيراده الوصيّة. 37. وصيّة أبى على مسكويه (عهده مع نفسه) . أوردها ياقوت (5: 17- 19) ونقل عنه العاملي (10: 198- 199) ، أولها: «هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد وهو يومئذ آمن في سربه ... » وختامها: «وصرف جميع البال إليه.» أعجب بها التوحيدي ونقلها في المقابسة 94 (ص 383) دون تصريح باسم صاحبها، مع الثناء الجميل الكثير عليه. 38. مراسلة بينه وبين بديع الزمان الهمذاني. للبديع رسالة اعتذار إلى مسكويه، أجاب عليها مسكويه. تجد الرسالة والجواب عند ياقوت (5: 11- 17) . 39. شعر مسكويه. نقل الثعالبي (التتمة: 96- 100) ونقل عنه ياقوت (5: 7- 17) نماذج من شعره. وأثنى عليه الثعالبي بقوله: «وكان في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر.» 40. نزهت نامه علائى. ذكره العاملي (10: 145) وصاحب الريحانة (8: 208) ونسباه إلى مسكويه. كما ذكره صاحب الذريعة (24: 130) ونسبه إلى شهمردان بن أبى الخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الرازي قائلا: «وقد نسبه إسماعيل پاشا (هدية 1: 73) خطأ إلى «ابن» مسكويه وعنه أخذ في أعيان الشيعة وكذلك أخطأنا نحن في النابس- ص 28 فإذن الكتاب ليس لمسكويه. 41. تجارب الأمم. وهو الكتاب الذي بين يدي القارئ. كتاب جليل في التاريخ، ومصدر لا يستغنى عنه في الدراسات التاريخيّة، لم ينشر حتى الآن- مع الأسف- لا عندنا في ايران، ولا في غيرها من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، إلّا بعض أجزائه. فأخذنا على عاتقنا تحقيق نصّه ونشره بكامل أجزائه، مشفوعا بجزئى الذيل والفهارس، كما عزمنا على ترجمته إلى اللغة الفارسية، حتى لا يبقى مواطنونا الذين هم مواطنو مسكويه أيضا، محرومين من قراءته، والتمتع بما يتضمّنه هذا الأثر العظيم، من الفوائد في دراسة الماضي، والاعتبار به. ولتجارب الأمم من حيث نظرة مسكويه التاريخية، أهميّة بالغة، كما له من حيث عرضه ونشره والاهتمام به، مصير ملتو غريب، نحاول أن نتناوله هنا بقدر ما يتيح لنا المجال في هذا التصدير، فنقول: التاريخ كما يراه مسكويه بنظرة إلى مقدمة تجارب الأمم، يتّضح أنّ التاريخ في رأى مسكويه، يشتمل على أحداث يمكن للإنسان أن يستفيد منها تجربة في حياته الفردية والاجتماعية، في أمور لا تزال يتكرّر مثلها، وينتظر حدوث أشباهها، وإذا عرف الإنسان تلك الأحداث وقيمتها التجريبيّة ثم اتّخذها إماما لنفسه، يقتدى به، فهذا يجعله يحذر ممّا ابتلى به قوم، ويتمسّك بما سعدوا به. والنظرة هذه تبتنى على رأيه القائل: إنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة. فباستطاعة الإنسان أن يقارن الحاضر بالماضي، ويهتدى بهدى التجارب التي حصلت فيه للأسلاف. ثم إنّ ما يحفظه الإنسان من التاريخ، كأنه تجارب له، باشرها بنفسه، فأصبح خبيرا بالأمور التي لم يجرّبها فعلا في حياته، حتى إنّه يعرفها بعد ذلك قبل وقوعها، فيستقبلها استقبال الخبر، فيفعل في علاجها الأنسب والأجدى، فيحلّ مشاكله، وينجح في مشاريعه نجاح الخبير الواعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بيد أنّ مسكويه لا حظ أنّ تلك الأخبار التاريخيّة الحقّة مغمورة بالأسمار، متبدّدة في الخرافات والأساطير التي ليست لها فائدة إلّا استجلاب النوم بها، والتأنّس بالمستطرف منها. فأخذها بالنقد واستخراج ذات القيمة منها، وضرب صفحا عمّا لم يجد فيها قيمة تاريخيّة تجريبيّة وتركها وهو يرى أنّ للأحداث التاريخيّة الحقّة أيضا أنس السمر الذي يوجد في الخرافات والأساطير. إنّ مسكويه لم يثق بروايات ما قبل الطوفان، لفقدانها القيمة التاريخيّة التي ينشدها هو، كما لم يجد في المعجزات تجربة إنسيّة يستطيع الجميع أن يمارسوا مثلها، أو يعتبروا بها، وهذا لا يعنى أنّه ترك ما كان للأنبياء من تدابيرهم البشريّة التي ليست مقرونة بالإعجاز، لأنّ هذا النمط من أخبارهم وارد في صميم ما اهتمّ به مسكويه في كتابة التاريخ. مع العلم بأنّ لمسكويه كتابا في صفات الأنبياء السالفين تحت عنوان: أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السالفين (أنظر التصدير: الآثار) . وهذا ردّ على المستشرق كرادى فو (I ,106) في ما اتّهمه به من أنّه لم يحترم السنّة. وأخيرا، عمد مسكويه إلى أحداث تجرى على البخت والاتّفاق، ممّا هو خارج عن نطاق تدبير الإنسان وقدرته، حتى تكون في حسبانه، ولا تسقط من ديوان الحوادث عنده، وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه. إنّه لن ينسى ما ضمنه في مقدّمة الكتاب، بل نراه يؤكد هنا وهناك وبمناسبات شتّى، على أغراضه ويصرّ على المضىّ في النهج الذي نهجه لنفسه في عمله. فحينا نراه يبرّر تركه ذكر بعض الأشياء بقوله: «لخروجها عمّا بنينا عليه غرض هذا الكتاب (264 بن 1) ، وحينا يؤكّد على هذا الغرض حتى في عنوان حدث أراد ذكره. ففي عنوان الحديث عن الشورى يقول: «ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب.» وكذلك، وبعد أن ينقل الحوار الذي جرى بين الإمام على بن أبى طالب والزبير: الحوار الذي أثّر في الزبير حتى أقسم لا يحارب عليّا- لولا وسوسة ابنه له واقتراحه التكفير عن اليمين بعتق غلام له يقال له: مكحول- وبعد إيراده هذا الحدث نراه يقول: «وإنّما حكينا هذه الحكاية لأنّ فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب على قوم فإنّا ننبّه عليه، وذلك أنّ المحنق ربما سكن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتّى من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 (550 بن 1) . ولا يهمّه في ذلك شخصيّة القائل أو الفاعل، ولا ينظر إلى من قال أو فعل، بل يهمّه مغزى ما قال أو فعل، من حيث تلاؤمه وأغراضه في كتابه تجارب الأمم. فنراه يستحسن موقفا من مواقف الضحّاك الشهير بالسفك والقتل والظلم، وينقل كلاما منه حيث قال في الإجابة على أمّه البذيئة: «فلمّا هممت بالسطوة بهم (أى: بكابى الاصبهانى وأصحابه عند ما زاروه للتأتّى له واستعطافه- 15- 14 بن 1) وقف الحقّ بيني وبينهم كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت.» ثم يعلّق مسكويه على هذا الكلام بقوله: «فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله ولا يعرف له شيء مستحسن غيره.» إنّ هذا الالتزام الواعي الذي يبديه مسكويه تجاه منهجه، هو ما لا نراه عند كثير من المصنّفين. فمسكويه، كما قال روزنتال (196، 197) يمثّل مستوى عاليا في الكتابة التاريخيّة، فهو قلّما يهتمّ بالأمور التافهة، بل يدرك كلّ ما له قيمة تاريخيّة جوهريّة، ويعرض الأحداث الهامّة بشكل معقول متماسك. إنّ المؤرخين المسلمين- ومعظمهم ممّن تأخّر عن مسكويه وتأثّر به بالذات- نظروا إلى التاريخ من حيث هو درس وعظة وعبرة، ولكنّ مسكويه، السابق في هذا المضمار، هو المؤرّخ الوحيد الذي نهج منهج الاستدلال الفلسفي مع ما كان له من نظرة أخلاقية عمليّة برغماتية (Pragmatic) إلى حوادث التاريخ (زرياب: 180- بتصرّف) . إنّك لا تجد بين المؤرّخين المسلمين مؤرّخا عمد إلى التاريخ عن وعى وجدّ، نشدانا للفوائد التي تنطوى عليها أحداثه، بالمستوى الذي عمد إليه مسكويه. إنّه حكيم أخلاقىّ، ومصنّف كتاب حكيم باسم تجارب الأمم. كما هو رائد في الكتابة العلميّة للتاريخ، وأوّل من شقّ الطريق إلى فلسفة التاريخ، ليكون أسوة حسنة فيما بعد، لأمثال رشيد الدين فضل الله (645- 718 هـ) في جامع التواريخ، وابن خلدون (732- 806 هـ) في مقدمته، ثم الكافيجي (القرن التاسع) في كتابه: المختصر في علم التاريخ، والسخاوي (830- 920 هـ) في كتابه: الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ أهل التاريخ (زرين كوب: 71، 74- بتصرف) . وهناك ميزة أخرى أشار إليها كيتانى في مقدمته حيث قال: إنّ الأثر الذي بقي لنا من مسكويه، بنى على أساس منهج قريب جدا من المبادئ المتّبعة عند مؤرّخى العالم الغربي والمؤرّخين المتأخّرين، ومسكويه خلافا لسلفه الشهير الطبري الذي استهدف- أساسا- جمع المواد التاريخيّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وعرضها على ترتيب تاريخىّ لائق، عزم على أن يصنّف تاريخه كبناء عضوي يكون الفكر الأساسى المحدّد عنصرا بنّاء في الكتاب بأسره، رابطا كلّ أجزاء التصنيف بعضها ببعض. يرى القارئ على صفحات هذا الكتاب عنصرا شخصيا لا يجده في المصنّفات التاريخيّة الأخرى المؤلّفة في تلك الحقبة. إنّ تجارب الأمم- وبصورة جلّية- عمل فكرى نتج عن ذهن استدلالى بنّاء، يسوده انطباع سام من غرض المؤرّخ وواجبه، وبهذا، يبدى مسكويه فضلا كبيرا على من سبقه أو عاصره من المؤرّخين الذين كتبوا آثارهم باللغة العربية. إنّه لا يرضيه مجرّد جمع المادة التاريخيّة وعرضها في ترتيب تاريخىّ، لأنّه يعتقد أنّ أحداث الماضي تترابط في ما بينها بشبكة من المصالح الإنسيّة. وفي الحقيقة، فإنّ التاريخ- كما يراه مسكويه- ليس غير هذا، كما يرى العاقل في رواية التاريخ الحقّة ينبوعا من العلم الثمين (كيتانى، المقدمة. (IIX- IXL: إنّ مسكويه لا يميل إلى أحد في كتابة التاريخ، ولا يحيد به عن المنهج القويم أىّ انتماء. «لقد كتب تاريخه- كما نبّه عليه مرجوليوث أيضا- في حياد تامّ، مع أنّه عاش في خدمة الأمراء والوزراء البويهيّين، وكان من المتوقع أن يشيد بهم ويمدحهم، ولا يتعرّض لنقدهم أبدا، في حين نراه لم يمل إليهم في كتابة التاريخ،» ولم يراع جانبهم في ما كتبه عنهم، بل نراه يؤاخذهم على أشياء في سلوكهم وتدابيرهم. مصادر مسكويه في كتابة التاريخ صرّح مسكويه بأنّه لمّا قرأ أخبار الأمم، وسير الملوك، وأخبار البلدان، وكتب التواريخ (أنظر مقدّمة المصنّف) وجد فيها ما تستفاد منه تجربة، وهذا دليل واضح على تعدّد مصادره، في كتابة التاريخ. بيد أنّه اعتمد اعتمادا كلّيا على الطبري (224- 310 هـ.) ، كما اعتمد على المصادر الأخرى التي تتنوّع وتختلف، حسب الفترات التاريخيّة التي أرّخها في تصنيفه، وحسب مصادر كانت في متناوله، بحيث لا يمكن عدّها وحصرها إلّا بعدّ المصرّح منها في الكتاب، وحصر غير المصرّح منها بإرجاع نقول مسكويه المختلفة إلى أصولها وأصحابها، وهذا يتطلّب دراسة مستقلة قد تأخذ وقتا طويلا. فمصادر مسكويه حسب هذه العجالة هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 1. تاريخ الطبري: عوّل مسكويه، أوّلا وقبل كلّ شيء، على الطبري. وذلك بحذف كثير من موادّ الطبري، من مكرّره وما لم يدخل في إطار منهج مسكويه في كتابة تاريخه. فمسكويه يوازى الطبري ابتداء من العصر الفيشداذى وذكر أوشهنج بالذات، أو ممّا بعد الطوفان حسب تصريحه، إلى سنة 295 هـ، مع العلم بأنّ الطبري استمرّ في تاريخه حتى سنة 302 هـ. ومسكويه ليس المؤرّخ الوحيد الذي ينهل من مناهل الطبري ويعوّل عليه في تصنيفه. فمن هو الذي لم يعوّل على الطبري؟ فها هو ابن الأثير يصرّح في مقدمته (ص 3) قائلا: «فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو المعوّل عند العامّة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه. فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخلّ بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذات عدد، فقصدت أتمّ الروايات، وأضفت إليها من غيرها ما ليس منها ... فلمّا فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة [منها تجارب الأمم] فطالعتها، وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه .... » هذه هي الحالة عند جلّ المؤرخين منهم ابن خلدون أيضا (العبر 4: 1140) . إنّهم وجدوا تاريخ الطبري ينبوعا ثرّا يتدفّق منه ذلك الحجم الهائل من المواد التاريخيّة، والروايات المختلفة الكثيرة التي أوردها فيه، دون نقد، أو تعليق، واعيا عامدا ما يفعله، كما صرّح به في مقدمته. ولكن المؤرّخين صاغوا ما أخذوه عن الطبري في قوالب ارتضوها لتصانيفهم، كلّ على شاكلته. ومن هؤلاء مسكويه، الذي أخذ بدوره عن الطبري أخذ نقد واختيار وتمحيص وحذف وإضافة من مصادر أخرى، وفقا لأغراضه التي تحدّث عنها في مقدمة تجارب الأمم. والجدير بالذكر أنّ هناك مناسبة خاصّة بين مسكويه والطبري يمتاز بها مسكويه من بين سائر المؤرّخين، حيث يعتبر مسكويه تلميذا غير مباشر للطبري في استماع تاريخه عن صاحبه، وقراءة كتابه عليه، والحصول على الإجازة منه. قال مسكويه بهذا الصدد (تجارب الأمم 6: 224) : «وفيها [أى في سنة 350 هـ.] مات أبو بكر أحمد بن كامل القاضي، رحمه الله، ومنه سمعت كتاب التاريخ لأبى جعفر الطبري، وكان صاحب أبى جعفر، قد سمع منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 شيئا كثيرا، ولكنّى ما سمعت منه عن أبى جعفر غير هذا الكتاب، بعضه قراءة عليه، وبعضه إجازة لى، وكان ينزل في شارع عبد الصمد، ولى معه اجتماع كثير.» 2. نفائس المكتبات: لم يكتف مسكويه بالطبرى، حتى بالنسبة إلى القسم الذي قلنا إنّه عوّل فيه عليه تعويلا كليّا (العصر الفيشداذى إلى سنة 295) ، بل أورد في تاريخه نصوصا إيرانيّة عديمة النظير لا نجدها لا عند الطبري ولا عند غيره من كبار المؤرخين من أمثال المسعودي وابن الأثير ومن إليهما، ونخصّ بالذكر عهد أردشير الذي يعتبر من أقدم النصوص الإيرانية المدوّنة التي وصلت إلينا، وكذلك السيرة الذاتيّة لأنوشروان، وخطبته المشحونة، اللتين نقلهما مسكويه عن كتاب كتبه أنوشروان نفسه في سيرته. من أين أتى مسكويه بهذه النصوص وغيرها ممّا تفرّد بنقلها بين المؤرّخين؟ إنّه كان خازنا لمكتبات البويهيين من أمثال ابن العميد، وابنه أبى الفتح، وعضد الدولة. لقد دامت صحبته أو خزانته سبع سنين لابن العميد فقط (تجارب الأمم 6: 315) ، وكان لفهرس مكتبة ابن العميد 1056 ورقة (44 كراسة لكلّ منها 24 ورقة- متز 1: 297) ولم يثبت في هذا الفهرس إلّا أسماء الكتب، وقد اجتمعت في تلك المكتبة كلّ أنواع العلوم والحكم والآداب، تحمل على مائة وقر وزيادة (تجارب الأمم 6: 262) . وعن مكتبة عضد الدولة حكى لنا المقدسي (الذي كان يختلف إليها، فلا جرم أنّه زار مسكويه أيضا) حيث قال عند وصفه لدار عضد الدولة بشيراز وغرفها وعجائبها: « ... وخزانة الكتب، عليها وكيل وخازن ومشرف من عدول البلد، ولم يبق كتاب صنّف إلى وقته من أنواع العلوم كلّها إلّا وحصّله فيها، وهي أزج طويل، في صفّة كبيرة، فيه خزائن من كلّ وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوّق، عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر منضّدة على الرفوف، لكلّ نوع بيوت وفهرستات، فيها أسامى الكتب لا يدخلها إلّا وجيه ... » (المقدسي: 449) . فلا شكّ أنّ مسكويه استفاد من هذه المكتبات كثيرا من علمه والمواد التاريخيّة التي أوردها في كتابه ممّا لا يوجد عند سائر المؤرّخين سواء ما أضافه في تاريخ ما قبل الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 مستمدّا من مصادر إيرانية قديمة موجودة في تلك الخزانات، أو ما أضافه إلى تاريخ ما بعد الإسلام آخذا عن مصادر إسلامية كانت فيها. 3. ثابت بن سنان: هناك فترة تاريخيّة تبدأ من سنة 295 إلى سنة 340 هـ يعتمد مسكويه فيها على مصادر مستقلّة عن الطبري، منها: تاريخ ثابت بن سنان (المتوفى سنة 363 هـ) ابن ثابت بن قرّة الصابي الحرّانى (221- 228 هـ) خال أبى إسحق هلال بن محسن الصابي. كتب ثابت بن سنان تاريخه ابتداء من خلافة المقتدر (من سنة مائتين ونيّف- القفطي) إلى سنة 360 هـ. فكتب أبو إسحق هلال بن محسّن تتمة لتاريخ ثابت بن سنان وصلت إلى سنة 447 (كلود كاهن، دانشنامه ايران وإسلام) . ومن دلائل كونه مصدرا لمسكويه ما جاء في التجارب 5: 313 حيث قال: «.. وحكى ثابت بن سنان في كتابه أنّ ... » فهذا تصريح من مسكويه أنّه أخذ في تاريخ هذه الفترة عن ثابت بن سنان أيضا. 4. أبو إسحاق الصابي، إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون (هارون) : .... قال الروذراورى في ذيل تجارب الأمم (ص 33) : «وعمل أبو إسحق الكتاب الذي سمّاه: التاجى في الدولة الديلميّة وهو كتاب إذا عمل منه جزءا حمله إلى عضد الدّولة حتى يقرأه ويصلحه، ويزيد فيه وينقص منه. فلمّا كان تكامل ما أراده حرّر وحمل إلى خزانته. وهو كتاب بديع الترصيف حسن التصنيف، فإنّ أبا إسحاق كان من فرسان البلاغة، الذين لا تكبو مراكبهم ولا تنبو مضاربهم، ووجدنا آخره موافقا لآخر كتاب تجارب الأمم، حتى إنّ بعض الألفاظ تتشابه في خاتمتهما، وانتهى القولان في التاريخ بهما إلى أمد واحد، والكتاب موجود يغنى تأمّله عن الإخبار عنه.» وللكتاب وصاحبه أبى إسحاق الصابي، وسبب تأليفه إيّاه بأمر من عضد الدولة البويهي حكاية طريفة تجدها عند الروذراورى في ذيل تجارب الأمم (ص 30- 33) . هذا، وقد التبس الأمر علينا في الطبعة الأولى بين إبراهيم الصابي كاتب التاجى وبين حفيده هلال الصابي (384- 359) الذي ذيّل على تاريخ ثابت بن سنان (288- 221) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 حيث أوردنا (ص 34) على الروذراورى صاحب الذيل فيما قاله بشأن الشبه بين آخر كتاب التاجى وبين آخر تجارب الأمم، الأمر الذي كان في نيّتنا، وذلك بعد صدور الطبعة الأولى ووقوفنا على هذا الالتباس، أن نشير إليه في استدراكاتنا التي رجّحنا أن نثبتها في مجلد الفهارس، أى المجلد الثامن لتجارب الأمم من طبعتنا، غير متوقّعين أنّه سيعاد طبع هذا التصدير قبل أن يطبع مجلد الفهارس. وهنا نشكر زميلنا الدكتور ع. منزوى الذي نبّه بدوره على ذلك في مقدمته الممتعة (ص 21) التي وضعها لترجمته للجزئين الأخيرين من الكتاب اللذين نشرهما مع الذيل آمد روز (القاهرة 16- 1914) . 5. مسكويه مصدرا: مهما يكن من أمر الفترة السابقة، أى التي تنتهي إلى سنة 340 هـ، فإنّ مسكويه بشهوده وعيانه تارة، وبسماعه من الأصدقاء والزملاء الساسة المشايخ تارة أخرى، يعتبر مصدرا حيّا لكتابة تاريخه. لقد صرّح مسكويه بذلك في بداية ذكر الحوادث لتلك السنة حيث قال: «أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة (340 هـ) فهو مشاهدة وعيان، أو خبر محصّل، يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبى الفضل محمد بن الحسين بن العميد- رضى الله عنه- خبرني عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره، وما اتفق له فيها، فلم يكن إخباره لى دون مشاهدتى في الثقة به، والسكون إلى صدقه، ومثل أبى محمد المهلّبى- رحمه الله- خبّرنى بأكثر ما جرى في أيّامه، وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة، وحدّثنى كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة، وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجرّبته بنفسي، فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.» وهكذا يصل تاريخه إلى سنة 369 هـ. مع أنّه عاش حتى سنة 421 هـ. أى لمدة نصف قرن، تاركا كتابة تاريخ تلك المدّة. وبالرغم من ذلك، فإنّ تجارب الأمم عرف كمصدر أساس لا يستغنى عنه لدراسة القرن الرابع الهجري والعصر البويهي الذي يعتبر ألمع العصور الإسلامية علما وحضارة . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 تجارب الأمم: اسمه اسم الكتاب هو: تجارب الأمم، كما سمّاه مسكويه نفسه في مقدمته حيث قال: «.. فجمعت هذا الكتاب وسمّيته: تجارب الأمم.» وقد ذكره بضبط أمين كلّ من ياقوت 5: 10، وابن الأثير 7: 118، 8: 86، وكذلك القفطي: 331، والبيهقي: 18- 19، وابن خلكان 2: 19، وابن خلدون 3: 772، والخوانساري 1: 255، وغيرهم. ولكنه ورد بزيادة «عواقب الهمم» عند كل من أبى سليمان في الصوان: 347، والروذراورى في الذيل: 5، والسخاوي نقلا عن عمر بن الفهد الهاشمي المكي في إتحاف الورى (روزنتال: 441) . والزيادة عند العاملي 10: 146 هي «تعاقب الهمم» وهي ضبطت عند كيتانى (Caetani) في مقدمته LTaaqib بكسر القاف وهو خطأ. والزيادة هذه إنما نشأت عن أسلوب السجع في عنونة المصنفات، الأسلوب الذي طالما ساد أو ساط الكتّاب والنسّاخ طيلة القرون ممّن لم يرضوا بما سمّاه المصنفون تصانيفهم، فشفعوا أسماءها بما شاء لهم السجع والصنعة المتكلّفة، بالرغم من تصريح المؤلّفين في ضبط أسماء آثارهم. ولذلك نرى الشطر الثاني: «عواقب الهمم أو: تعاقب الهمم» موضوعا مختلقا، لأنّ مسكويه وهو صاحب الكتاب، أثبت اسم كتابه في مقدمته بقوله: «تجارب الأمم» لا أكثر ولا أقلّ، حيث قال: «فجمعت هذا الكتاب وسمّيته تجارب الأمم» . والغريب في الأمر أنّ الناسخ الذي انتسخ هذه المقدّمة وتصريح المصنّف باسم كتابه، نراه في عبارات الختام والفراغ، وقد أضاف على الاسم شطرا ثانيا تارة، وقدّم الشطر الثاني على الشطر الأوّل تارة أخرى. أى كتب مرّة: «تجارب الأمم وعواقب الهمم» ، ومرّة: «عواقب الهمم وتجارب الأمم» ! تجزئة تجارب الأمم إنّ التجزئة الكاملة الوحيدة التي وصلت إلينا من تجارب الأمم هي تجزئة مخطوطة أيا صوفيا وهي ستّة أجزاء. أمّا مخطوطة ملك (مط) فهي في مجلّد واحد كبير، وليس فيه تجزئة، اللهم إلّا إشارة بسيطة في الهامش تدل على أنّ المخطوطة انتسخت عن نسخة كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 على ثلاثة أجزاء، دون أىّ إشارة إلى عبارات الافتتاح من البسملة والتحميد وغير ذلك. وهذا التثليث يبدو أيضا ممّا بقي من مخطوطة ملك الثانية (مح) ، أو مخطوطة آستان قدس (آ) ، فهما أيضا كانتا في الأصل ثلاثة أجزاء. أمّا تجزئة أيا صوفيا فهي تجزئة كمّية، أى لم يعتبر فيها التقسيم التأليفي الذي يبتنى عادة على المواضيع الرئيسة، أو الفترات التاريخيّة المحدّدة خاصّة في أثر تاريخىّ مثل تجارب الأمم. لذلك يرى القارئ أنّنا نقلنا 43 صفحة من بداية الجزء الثاني وأضفناها إلى نهاية الجزء الأوّل، أوّلا لإكمال الفصل الأخير من الجزء الأوّل، ثانيا من أجل إكمال عصر ما قبل الأموى، وسنراعى هذا المبدأ في الأجزاء الباقية أيضا إذا اقتضى الحال. ومن ناحية أخرى، قسمنا الجزء الأوّل إلى قسمين: قسم خاصّ بما قبل الإسلام وهو مفصّل بدوره إلى فصول حسب عصور الأسر الحاكمة الإيرانية مثل: الفيشداذية، والكيانيّة، والأشغانيّة، والساسانيّة، وقسم آخر خاص بالعصر الراشدي، وفيه فصول حسب أيّام الخلفاء. أمّا بالنسبة للعصر الأموى والعصر العباسي أيضا سنراعى مبدأ التقسيم والتفصيل مهما أمكن. أمّا العناوين الفرعيّة التي كانت في أصل المخطوطة لم نجدها كافية لإرشاد القاري إلى موادّ الكتاب ومواضيعه، ولذلك اخترنا لها عناوين جديدة مناسبة وضعناها في أماكنها. ومما دفعنا إلى ذلك، أنّنا وجدنا بين مخطوطات الكتاب، ومن حيث العناوين الفرعيّة اختلافا، سواء في وجود عنوان ما، أم في عدمه، أو في صياغة عبارته، ممّا برهن على أنّ غير المصنف من النسّاخ وغيرهم، هم الذين وضعوا قسما من هذه العناوين الفرعيّة الّتى لا تؤثّر دون شكّ على نظرة الباحث المدقق الذي ينظر في نصّ الكتاب. مخطوطات تجارب الأمم لم يصل إلينا من مخطوطات هذا الكتاب إلّا القليل، لا سيّما إذا كان المراد المخطوط الكامل المشتمل على كل أجزائه. وهذه المخطوطات بغضّ النظر عن كمالها ونقصها هي: 1. أيا صوفيا (الأصل) : مخطوط كامل في ستة أجزاء محفوظ في أيا صوفيا بأسطنبول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 برقم 3116 إلى رقم 3121. انتسخه محمد بن على بن محمد أبو طاهر البلخي بكامل أجزائه، بحيث فرغ من انتساخ الجزء الأوّل في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وخمسمائة (505) ومن انتساخ الجزء السادس والأخير منه في منتصف شهر ربيع الأول سنة ستّ وخمسمائة (506) . أى في مدة سنة واحدة. قطعه صغير، وفي الصفحة الواحدة منه 12 سطرا، وفي كل سطر 13 كلمة. أوّل هذه المخطوطة أى في فاتحة الجزء الأوّل وبعد البسملة والتحميد: «قد أنعم الله علينا ... » وآخرها أى في نهاية الجزء السادس: «إلّا أنّه لم يظهر أمره لأحد. هذا آخر ما عمله الأستاذ أبو على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه رضى الله عنه والحمد لله وصلواته على محمد النبىّ وآله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.» أما تجزئة الكتاب في هذه المخطوطة فهي كما يلي: الجزء الأول (أيا صوفيا، رقم 3116، 296 ورقة: 591 صفحة) . تاريخ النسخ: ربيع الأول سنة خمس وخمسمائة (505) . يشتمل هذا الجزء على الحوادث التاريخية منذ العصر الفيشداذى الإيرانى حتى سنة 37 هجرية. الجزء الثاني (أيا صوفيا، رقم 3117، 297 ورقة: 593 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 120، والصورة رقم 290) . ويشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 38 إلى سنة 103 هجرية. الجزء الثالث (أيا صوفيا، رقم 3118، 297 ورقة: 593 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 121، والصورة رقم 244) . يتضمن هذا الجزء على حوادث سنة 104 إلى سنة 191 هجرية. الجزء الرابع (أيا صوفيا، رقم 3119، 290 ورقة، 580 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 122، والصورة رقم 293) . يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 191 إلى سنة 233 هجرية. الجزء الخامس (أيا صوفيا، رقم 3120، 293 ورقة: 585 صفحة) تاريخ الانتساخ: شهر محرّم سنة ست وخمسمائة (506) . يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 234 إلى 326 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 هجرية. الجزء السادس (أيا صوفيا، رقم 3121، 260 ورقة: 520 صفحة) تاريخ الانتساخ: منتصف شهر ربيع الأول سنة ستّ وخمسمائة (506) . يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 326 إلى سنة 396 هجرية. ما نشر من هذه المخطوطة: نشر كيتانى (L.Caetani) الجزء الأوّل، والجزء الخامس، والجزء السادس من المخطوطة (ليدن 1909، 1913، 1917 م) عن مؤسسة جب (Gibb) التذكارية، طبعة فتوغرافيّة. (facsimileedition) إنّه قدّم الجزأين الخامس والسادس على الأجزاء الأخرى (الثاني والثالث والرابع) نظرا لكونهما مكمّلين لتاريخ الطبري. وكان مشروع المؤسسة يقضى بأن يعود كيتانى وأعوانه إلى العمل لنشر الأجزاء الوسطى (2، 3، 4) بعد الفراغ من الجزأين الأخيرين (كيتانى، مقدمة الجزء الخامس (XIV:ولكنّهم لم يوفّقوا في إنجاز مشروعهم لأسباب قد تكون ظروف الحرب العالمية الأولى منها. فلم تنشر تلك الأجزاء وبقيت بعيدة عن متناول الباحثين. امّا الملاحق التي ألحقت بهذه الطبعة (طبعة كيتانى الفتوغرافية) فهي في الجزء الأول: مقدمة لكيتانى (5 صفحات) وكلمة آمد روز (Amedroz) عن حياة مسكويه (13 صفحة) وملخّص لمضمون الجزء الأول بقلم ملونى (G.Meloni) وفهرس أعلام لملونى أيضا، كما ألقى لى سترنج (G.LeStrange) نظرة على الملخص والفهرس قبل إرسالهما إلى المطبعة. وفي الجزء الخامس، مقدمة لكيتانى أيضا (4 صفحات) مع ملخص وفهرس. أمّا الجزء السادس فليس معه غير مقدّمة كتبها لى سترنج (صفحتان) . أمّا ما نشره آمد روز (مد) فهو الجزءان الخامس والسادس من هذه المخطوطة (القاهرة شركة التمدن 1914، 1915 م) بإسقاط 56 صفحة من أوّل الجزء الخامس وضمّ 28 صفحة من الجزء السادس إلى الجزء الخامس، كما نشر معهما جزءا ثالثا يتألّف من ذيل تجارب الأمم للوزير أبى شجاع محمد بن الحسين الملقّب بظهير الدين الروذراورى (من سنة 369 إلى سنة 389 هجرية) ، وجزءا رابعا يتشكّل من الجزء الثامن من تاريخ أبى الحسين هلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بن المحسّن بن إبراهيم الصابي الكاتب (من سنة 389 إلى سنة 393) وهذان الجزءان صدرا في مجلّد واحد تحت عنوان: ذيل تجارب الأمم (القاهرة شركة التمدن 1916 م) ، مع العلم بأنّ آمد روز لم يوفّق في إكمال تحقيق نصّ الذيل بسبب وفاته، فتابع عمله مرجوليوث، فحقّق النصف الباقي منه (مرجليوث، المقدمة. (I:فكلّ ما نشره آمد روز هو مجلدان (5، 6) من تجارب الأمم، ومجلد ثالث عرف بذيل تجارب الأمم (ذيل الروذراورى الجزء الثامن من تاريخ هلال الصابي) . والأجزاء الثلاثة هذه (نشرة آمد روز) نشرت بترجمة إنجليزية (ثلاثة أجزاء) ترجمها مرجوليوث بمقدّمة من 11 صفحة وفهرس من 144 صفحة (جزء واحد) والمجموع من النصّ العربي والترجمة الإنجليزية والفهرس سبعة أجزاء، تحت عنوان) AbbasidCaliphate:أكسفورد 1920- 1921 م) . أمّا نشرتنا هذه، كما هي بين يدي القارئ، فتشمل أجزاء تجارب الأمم الستّة مع الذيل: الجزء السابع، والفهارس: الجزء الثامن، لنكون قد نشرنا الكتاب ولأوّل مرّة بأجزائه الكاملة (طهران، سروش 1987- 2001 م) كما ستشمل ترجمة الكتاب إلى اللغة الفارسيّة التي نشر الجزء الأوّل منها حتى الآن (طهران، سروش 1990) ، وليكتمل العمل وفي نهاية المطاف، في 16 جزءا، فنكون بذلك قد أسهمنا في سدّ الفراغ الذي طالما شغل بال الكثيرين من المعنيّين بالدراسات التاريخية الإسلامية الإيرانية. 2. ملك (مط) برقم 4145. نسخة كاملة من حيث الكمّية، في مجلّد واحد من القطع الكبير. عدد صفحاتها 1014، في كلّ صفحة منها 25 سطرا ولكل سطر 21 كلمة. هي مثل أيا صوفيا في أوّلها وآخرها. وعبارة الفراغ في الختام هي: «قد تمّ الفراغ من هذه المسودّة في عشر (العشر) الأوّل من شهر ذى الحجّة الحرام في الليلة (ليلة) الأضحى منه، من سنة أربع وتسعين ومائتين بعد الألف (1294) من الهجرة المقدسة، على يد أقلّ الطلّاب والسادات محمود الطباطبائى الأردستانى الإصفهانى.» خط النسخة نسخىّ جميل مقروء، ولكنّ الهفوات والأخطاء الناتجة عن قلّة الثقافة لدى الناسخ، حطّت من قيمتها كنسخة. وسيأتي الكلام عنها في مكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 3. ملك الثانية: (مح) برقم 4324. عدد أوراقها 231 وعدد صفحاتها 462، بالقطع المتوسط، في كلّ صفحة منها 21 سطرا. انتسخه محمد بن داود الحسيني المشهدي في سنة 1307 هجرية. أولها: «ودخلت سنة إحدى ومائة وفيها ولى يزيد بن عبد الملك الخلافة ... » وآخرها: «.. واتصل خبر انصرافه بالمهتدى، فكتب إليه في ذلك كتابا (كتبا) كثيرة، فلم يؤثر (تؤثّر) شيئا، فلمّا نظر ... ، تمت ... » . تشتمل المخطوطة هذه على حوادث سنة 101 إلى سنة 256 هجرية. فهي مخطوطة ناقصة. 4. آستان قدس: (أ) برقم 4090، جامعة طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 1638 والصورة رقم 3/ 6188 (ثلاثة أقسام) عدد الأوراق 257، وعدد الصفحات في الأقسام الثلاثة 514 صفحة. أوّلها بعد البسملة والحمدلة: «ودخلت سنة إحدى ومائة» وآخرها: «وخرج واتصل خبر انصرافه بالمهتدى، فكتب إليه كتابا [كتبا] كثيرة، فلم يؤثّر (تؤثّر) شيئا. فلمّا نظر ... » تشبه في أولها وآخرها مخطوطة ملك الثانية (مح) . يعود تاريخ انتساخ المخطوطة إلى شعبان سنة 1297 وهذه المخطوطة ناقصة أيضا كمخطوطة ملك الثانية. 5. باريس 5838 (Shefer ,A.B 1) :بن Paris ,Bib 1.Nat.,Arab نسخة ناقصة تشتمل على حوادث سنوات 249- 315 هجرية فقط. (كيتانى، المقدمة. (XIII: 6. بودلى 357 ,UriI ,No.804) :بن. (LMarsh وهذه النسخة تشتمل على حوادث 340- 365 هجرية. (كيتانى المقدمة. (XIII: 7. أمستردام: مخطوطة ناقصة تشتمل على حوادث سنة 196 إلى سنة 251 هجرية (101 بن Cat.deJong كيتانى، المقدمة (XIII:أوّلها ناقص بأكثر من سطرين، ثم تبدأ هكذا: «.. أمر العراة باتخاذ تراس من البواري، وبالرمي بالمقاليع ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب، ووكّل الأمر كلّه إلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى الهرش ... » وآخره: «.. ونزل الحسين بالقرب من دممّا. نجز الكتاب ... ويتلوه في الجزء السادس: ذكر رأى أشير به عليه صواب. والحمد لله ربّ العالمين، وصلواته على محمّد النبىّ وآله الطاهرين وسلّم.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 نشر المخطوطة دى خويه (M.J.DeGoeje) بترجمة لاتينيّة ومقدمة (بريل 71- 1869 م) تحت عنوان entaHistoricorum:كما نشرت مرّة ثانية بالأفست وبحذف الترجمة اللاتينية (بغداد، المثنّى، دون تاريخ) تحت عنوان: العيون والحدائق، لمؤلف مجهول (من خلافة الوليد بن عبد الملك إلى خلافة المعتصم) ويليه مجلّد من تجارب الأمم. والعنوان الخاص بقسم تجارب الأمم هو: تجارب الأمم، تأليف أبى على أحمد بن محمد بن يعقوب «بن» مسكويه، الجزء السادس. فالنشرة هذه هي من قسمين: القسم الأوّل هو الجزء الثالث المتبقّى من كتاب «العيون والحدائق في أخبار الحقائق» (عح) اشترك (يونج (P.DeJong مع دى خويه في تحقيقه، والقسم الثاني وهو جزء صغير من تجارب الأمم (تد) حقّقه دى خويه وحده. (من صفحة 411 إلى صفحة 583، المجموع: 172 صفحة مطبوعة) . 8. اسكوريال.Escorial ,No.1704.Cat.1709:نسخة ناقصة تشتمل على حوادث سنة 36 إلى سنة 67 هجرية (كايتانى، المقدمة. (XIII، تحقيق النص ّ وبمقارنة بسيطة بين هذه المخطوطات التي وصفناها، يتّضح أنّ المخطوطة الكاملة الوحيدة التي عرفت في العالم حتى الآن، هي مخطوطة أيا صوفيا، وهي التي يؤهّلها تاريخها المتقدّم (605- 606 هـ) وأصالتها وصحتها نسبيّا لأن تكون أساسا لعملنا في تحقيق نصّ الكتاب، وإخراجه بجميع أجزائه. لأنّ سائر المخطوطات، كما أشرنا إليه، ناقصة تشمل أجزاء متقطعة من الكتاب، وحتى لو سنح لنا جمع أشتاتها من مكتبات العالم، وضمّ بعضها إلى بعض، لا تعطينا النصف من نصّ الكتاب. لأنّها إمّا تكرار لبعض أجزاء الكتاب وإمّا متقطّعة لا صلة بين بعضها والبعض الآخر (أنظر السنوات التي تشتمل عليها هذه الأجزاء) . وأمّا مخطوطة (مط) فهي برغم اشتمالها على كلّ الكتاب، فهي مخطوطة متأخرة (أنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تاريخ الانتساخ) من ناحية، ومليئة بأخطاء الاستنساخ من ناحية أخرى. وأمّا كثرة الأخطاء والتصحيفات فيها فترجع في ما نظنّ، إلى أمرين: أولهما عدم وضوح الخطّ في الأصل الذي نقل عنه الكاتب، وثانيهما عدم الثقافة اللازمة لمثل هذا العمل عند هذا الكاتب. ولذلك بالذات، ظهرت في هذه المخطوطة أخطاء فادحة وتصحيفات عجيبة كثيرة تبلغ عشرين إلى ثلاثين خطأ في صفحة واحدة، وهي وصلت فعلا حوالى الخمسين في الصفحة الأولى من الكتاب من خطأ وبياض. وهنا لا بأس في أن نذكر نماذج من أخطاء هذه المخطوطة ليقف القارئ على نوعيّة الأخطاء، ومن ثمّ على قيمة هذه المخطوطة السلبيّة: لقد كتب الناسخ خطأ «عمر بن خان» بدل «غزا برجان» ، و «عهته» ! بدل «عرضه» ، و «على حاله مؤخرا» ! بدل «على خاله سوخرا» ! و «أبوال» ! بدل «أموال» ! و «يعرضوا السن» بدل «صغير السنّ» ! و «فطرر بن» بدل «وضرار بن» ! و «ما قدر جمعا إنّك في هذا الأمر» ! بدل «ما قدر جعالتك في هذا الأمر» ، و «قبالة بخطه» ! بدل «قبالة لحظه» ! و «ناش» ! بدل «باشر» ، و «وكان سعد هذا تزوّج أمّه خدمة لجذيمة» ! بدل «تزوّج أمة تخدم لجذيمة» ! و «خر شدن» بدل «خر شيدان» ! وأخطاء كثيرة أخرى، لا جدوى لذكر جميعها. وبالنظر إلى الحالة هذه، فإنّا اعتمدنا أساسا على نسخة أياصوفيا (الأصل) ثم (مط) كما استعنّا بالأصول التاريخية خاصة بالطبرى، وبالمخطوطات الناقصة الموجودة في متناولنا مثل: مح، آ، تد، (والأخيرة عن طريق نشرة دى خويه) كما استعنّا بصورة غير مباشرة بالمخطوطتين اللتين استفاد منهما الدكتور احسان عباس في نشرته لعهد أردشير التي رمز إليها ب: ر، غ، خصيصا لتحقيق العهد (أنظر مقدمته لنشرته) . ونعنى بالأصول التاريخية، تاريخ الطبري، والكامل لابن الأثير، والآثار الباقية للبيرونى، وسير الملوك للثعالبي، والمروج للمسعودي، وحمزة والدينوري وغيرها. وهذه- ما خلا الطبري- استفدنا منها في قسم ما قبل الإسلام، أى ما يخصّ بالتاريخ الإيرانى القديم، لا سيّما في تحقيق الأعلام الإيرانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وأمّا بالنسبة للطبري (طبعة أوروبا) فانّنا استفدنا منه الكثير سواء بالنسبة للاعلام، أو بالنسبة لإزاحة الشكوك في قراءة الكلمات والعبارات، وملأ الفراغ الناتج عن البياض والسقط والانمحاء والخرم وغيرها، ولا سيما من حواشي الطبري في نشرة دى خويه المليئة باختلاف النسخ، حيث إنّ الطبري منهل كبير ارتوى منه جلّ المؤرخين الآتين بعده ومنهم مسكويه. وهذا بالنسبة للفترة التاريخية الطويلة التي اشترك فيها الطبري ومسكويه في ذكر أحداثها، وأمّا بالنسبة للزمن الزائد عليها (العصر البويهي عند مسكويه) فرأينا أن نقارن النصّ مع أصول أخرى متأخرة عن الطبري حسب إلحاح الحاجة لأنّ الطريق كان معبّدا في هذا القسم من العمل وإلى حدّ ما، بعد أن نشر آمد روز الجزأين الخاصّين بهذا العصر مع الذيل، فذلّل لنا بعض الصعاب مشكورا. والجدير بالذكر أنّنا ذكرنا صفحات الإرجاع في كلّ مقارنة عملناها بين الأصل والطبري، مع ما في هذه المقارنة من صعوبات، لأنّ المقارنة بين نصّ ما، ونصّ يخالفه في الحجم وترتيب الموادّ، تتطلّب أناة، ولكنّها في نفس الوقت عمل فيه نفع كبير للباحثين. وفي تاريخ ما قبل الإسلام، أى أوائل الجزء الأول، يوجد كثير من الأعلام الإيرانيّة القديمة ذات جذور في اللغات الفهلويّة والأفستائيّة وغيرها، ضبطت وصحّفت في الأصول التاريخيّة ومنها تجارب الأمم، بصور شتّى، أوّلا: بسبب غرابة أشكالها في أصلها القديم، ثانيا: اللعب الذي لعبته اللغة العربيّة في تعريبها ثالثا: عبث الكتّاب والنساخ بها. وهذا هو ما أدّى إلى أشكال غريبة من التحريف والتصحيف. لذلك أرجعنا- قدر المستطاع- مثل هذه الأعلام إلى أصولها في الحواشي، بعد إثبات اختلاف صور الضبط فيها، مستفيدين من عمل سابق قمنا به بهذا الصدد، معوّلين على قواميس اللغات الإيرانيّة القديمة ودراسات الإخصائيين في هذا المجال. وممّا هو جدير بالذكر هنا، أنّه، لمّا كانت الأعلام كثيرة متوالية في الصفحات الأولى من الجزء الأوّل، وذلك لاختصار تقارير مسكويه لتلك الفترة، لذلك، نرى حواشي تلك الصفحات مكثّفة، مع أنّنا حاولنا- قدر المستطاع- تلخيص تعاليقنا وإثباتها بأوجز وجه. وكذلك حاولنا شرح الأعلام الجغرافية، أو بعض الكلمات، قدر ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 تيسّر وسنحت لنا فرص البحث والتتبع، أو بدافع حاجتنا في تحقيق الكلمة وضبطها، دون أن نكون قد وفّقنا في شرح كلّ تلك الأعلام أو المفردات. كما استعملنا لهذا الغرض الرموز الصوتية الدولية، ولكن بشيء من التغيير الذي دفعتنا إليه الظروف المطبعيّة، فأصبحت الرموز كما يلي: (الفارسيّة V (هـ) h الكسرة العربية) إ Ai ا a خ x ش) sh بالمدّ) اى I آ a ى y ث th ج ch چ j ز z أو u ا o ذ zh ژ dh و w غ gh گ g وقد اتبعنا في رسم الكلمات وكذلك في إثبات الحوار الوارد في النصّ وما إلى ذلك، معدّل الطرق الحديثة المقترحة في تحقيق النصوص، ممّا يتلاءم وطبيعة نصّ تاريخىّ مثل تجارب الأمم، وبالنتيجة، فقد غيّرنا ضبط رهط من الكلمات نثبت هاهنا نماذج منها: أثبتنا: أثنائها بدل أثنايها، وبقاؤه، بقاءه، بقائه بدل بقاه، والحياة بدل الحيوة، وتدنو بدل تدنوا، وإساءة بدل إسآة، وجاءت بدل جآت، وابنة بدل ابنت، وثمانين بدل ثمنين، وحارث بدل حرث، ورؤوس بدل رؤس، وسبعة آلاف بدل سبعة ألف، وأربعة آلاف بدل أربعة ألف، وأيّة، بدل أيّت، وما إليها.. وأمّا، بشأن إثبات الحوار فقد اتبعنا المناهج المألوفة ليكون النصّ عند القراءة، أوضح وأنطق، ووضعنا العبارات المنقولة بين «» ، كما جعلنا كلّ كلمة دخيلة مقحمة ممّا نقلناها عن الأصول الأخرى، أو اقترحناها نحن، جعلناها بين [] ، حفظا للأمانة وحرصا على أصالة النصّ، وأثبتنا رقم صفحات مصورة كيتانى، أى صفحات المخطوطة، بين [] ، أوّلا: لتسهل على القارئ المقارنة بين نشرتنا وبين الأصل إن شكّ في صحّة ما أثبتناه، ثانيا: لسهولة المراجعة حسب الإرجاعات الموجودة في دراسات الباحثين، ثالثا: لسهولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الإرجاعات الداخلية التي احتجنا نحن إليها، خصيصا بالنظر إلى ثبوت مواضعها قبل الطبع وبعده. ثم يرى القارئ أنّنا أوردنا النصوص الطويلة الهامّة بسطور أقصر تمييزا بينها وبين النصّ العادي، وما إلى ذلك من القواعد المألوفة. وفي الختام أشكر الله على أن وفّقنى لإتمام هذا العمل الملتوى المضنى، الذي طالما فكّرت في إنجازه، كما أقدّر الجهود التي بذلتها دار سروش للنشر، بمن فيها من أصحاب القرار، والمباشرين، والمتعاملين معهم من خارجها، منذ بدء هذا العمل حتى الآن، أشكرها على تحمّلها أعباء مراحل طبع هذا السفر التراثىّ الكبير، علما منها بأنّ جهدها هذا سينعكس في إثراء المكتبة العالمية، وذلك في حقل الدراسات الإسلاميّة الإيرانيّة، التاريخيّة، والحضاريّة. وأشكر أخيرا- وهل يبرئ الشكر ذمّة المدين؟ أشكر قرينتي الفاضلة التي وقفت بجانبي في أشدّ اللحظات واستظهرت بها وبدورها المشجّع في آناء التواني والفتور، فلولا ذلك لما أمكننى إنجاز هذا العمل، كما أشكر ابنىّ العزيزين آرش ومازيار، الذين حرموا وفي أغلب الأحيان من كامل حضورى بينهم، حيث طال ما انزويت في مكتبتى بمنأى عنهم وعن الإسهام معهم في تفاصيل الحياة العائليّة. فلا أقلّ من أنّ أهديهم حصيلة هذا الجهد، رمزا لأداء ما فاتنى من الواجب تجاههم، متمنّيا أن يعوّضهم الله حياة طويلة عريضة، ملؤها السلامة والسعادة والهناء. والله ولىّ التوفيق. الدكتور ابو القاسم امامى شتاء 1379 ش./ 1421 ق./ 2001 م.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مقدّمة المصنّف الحمد لله ربّ العالمين [1] حمد الشاكرين، وصلواته على محمّد النبيّ وآله أجمعين [2] . قد أنعم الله علينا، معاشر خدم مولانا الملك السيّد الأجلّ، وليّ النعم- أطال الله بقاءه، وأكبّ أعداءه، وحرس ملكه، وأعزّ سلطانه- لمّا أخرجنا في زمانه، وأنشأنا في أيامه، وبوّأنا ظلّه، وأنزلنا كنفه، وجعلنا من خاص خدمه. فنحن نتقلّب [3] من نعمه فيما لا شكر له غير الدعاء، ولا ثمن له غير الثناء، فنسأل الله بأخلص نيّة وأصدق طويّة، إدامة أيّامه، والإمتاع بما خوّلناه من إنعامه، إنّه جواد كريم. وإنّى لمّا تصفّحت أخبار الأمم، وسير الملوك، وقرأت أخبار البلدان، وكتب التواريخ، وجدت فيها ما تستفاد منه [2] تجربة لا تزال [4] يتكرّر مثلها وينتظر حدوث شبهها وشكلها: كذكر مبادئ الدول، ونشء [5] الممالك، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك، وتلافى من تلافاه وتداركه إلى أن عاد إلى أحسن حال، وإغفال من أغفله واطّرحه إلى أن تأدّى إلى الاضمحلال والزوال، وذكر ما يتّصل   [1] . ربّ العالمين: سقطت من مط. [2] . التصلية في مط: وصلّى الله على نبيّه وآله أجمعين. [3] . تقلّب في الأمر: تصرّف فيها كيف يشاء. يقال: فلان يتقلّب في أعمال السلطان وفي نعمائه. [4] . مط: لا يزال. [5] . مط: ونشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بذلك من السياسات في عمارة البلدان، وجمع كلم الرعيّة، وإصلاح نيّات [1] الجند، والحروب ومكايد [2] الرجال، وما تمّ منها على العدوّ، وما رجع على صاحبه، وذكر الأسباب التي تقدّم بها قوم عند السلطان، والأحوال التي تأخّر لها آخرون، وما كان منها [3] محمود الأوائل مذموم العواقب، وما كان بضدّ ذلك، وما استمرّ أوّله وآخره على سنن [4] واحد، وذكر سياسات [3] الوزراء، وأصحاب الجيوش، ومن أسند إليه حرب وسياسة، أو تدبير أو إيالة، فوفى بذلك وتأتّى له [5] ، أو كان بخلاف ذلك. ورأيت [6] هذا الضرب من الأحداث، إذا عرف له مثال مما تقدّم، وتجربة لمن سلف، فاتّخذ إماما يقتدى به، حذر مما ابتلى به قوم، وتمسّك بما سعد به قوم. فإنّ أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة، وصار جميع ما يحفظه الإنسان من هذا الضرب كأنّه تجارب له، وقد دفع إليها، واحتنك [7] بها، وكأنّه قد عاش ذلك الزمان كله، وباشر تلك الأحوال بنفسه، واستقبل أموره استقبال الخبر [8] وعرفها قبل وقوعها، فجعلها نصب عينه وقبالة لحظه [9] ، فأعدّ لها أقرانها وقابلها بأشكالها. وشتّان بين من كان بهذه الصورة وبين من كان غرّا [10] غمرا [11] لا يتبيّن الأمر إلّا [4] بعد وقوعه، ولا يلاحظه إلّا بعين الغريب منه، يحيّره [12] كلّ   [1] . مط: يثاب [2] . مط: ومكانة. [3] . مط: ومنها ما كان. [4] . السنن: الطريقة والمثال. [5] . مط: وتأنى له. [6] . الكلمة غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه يؤيّده ما في مط. [7] . احتنكت السنّ الرجل: حنكته، أى: أحكمته التجارب وجعلته حكيما. [8] . مط: بياض. يقال: أخبرنى بذلك الخبر: العالم بالخبر. وفي ما نقله بعض الباحثين عن هذه المقدمة: «الخبير» ، وما أثبتناه هو الصحيح نصّا. [9] . مط: «قبالة بخطه» ! بدل «قبالة لحظه» . [10] . هو غرّ: غير مجرّب. [11] . صبىّ غمر: لم يجرّب الأمور. [12] . مط: ويجبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 خطب يستقبله، ويدهشه كلّ أمر يتجدّد له. ووجدت هذا النمط من الأخبار مغمورا بالأخبار التي تجرى مجرى الأسمار والخرافات التي لا فائدة فيها غير استجلاب النوم بها، والاستمتاع بأنس المستطرف منها، حتى ضاع بينها، وتبدّد في أثنائها، فبطل الانتفاع به، ولم يتصل لسامعه وقارئه اتصالا يربط بعضه بعضا، بل تنسى النكتة منها قبل أن تجيء أختها، وتتفلّت [1] من الذهن قبل أن تقيّدها نظيرتها، ويشتغل الفكر بسياقة خبرها دون تحصيل فائدتها. فلذلك، جمعت هذا الكتاب، وسمّيته تجارب الأمم. وأكثر الناس انتفاعا به وأكبرهم حظّا منه، أوفرهم قسطا من الدنيا، كالوزراء، وأصحاب الجيوش، وسوّاس المدن، ومدبّرى أمر [5] العامّة والخاصّة. ثم سائر طبقات الناس. وأقلّ الناس حظّا، لا يخلو [2] أن ينتفع به في سياسة المنزل، وعشرة الصديق، ومداخلة الغريب، ولا يعدم مع ذلك، أنس السمر الذي يوجد في القسم الآخر الذي اطّرحناه. وبعد، فلو كان الخادم لا يتقرّب إلّا بما يعزّ وجوده عند سلطانه، ولا يلطف في الخدمة إلّا بما لا يجد مثله، لانقطعت أسباب الهدايا والتحف، وارتفعت الملاطفات بالآداب والطرف [3] ، ولا سيما عند من كان في علوّ الهمّة، وتوقّد القريحة، وحفظ الآداب، وسياسة الملك والرعيّة في الخير، على ما عليه الملك السيّد، أدام الله سلطانه [4] . وأنا مبتدئ بذكر الله ومنّته، بما نقل إلينا من الأخبار بعد الطوفان، لقلّة الثقة بما كان منها قبله، ولأنّ ما نقل [إلينا] [5] أيضا لا يفيد شيئا مما عزمنا على ذكره [6]   [1] . مط: وتنقلت. [2] . رسم الأصل: لا يخلوا. [3] . مط: والطرق. الطرفة: كلّ شيء مستحدث عجيب. [4] . مط: ظلاله. [5] . إلينا: أضفناها عن مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وضمنّاه [1] في صدر الكتاب. ولهذا السبب بعينه، لم نتعرّض لذكر معجزات الأنبياء- صلوات الله عليهم- وما تمّ لهم من السياسات بها، لأنّ أهل زماننا لا يستفيدون منها تجربة فيما يستقبلونه من أمورهم، اللهمّ إلّا ما كان منها تدبيرا بشريّا لا يقترن بالإعجاز. وقد ذكرنا أشياء مما يجرى على الاتّفاق والبخت [2] وإن لم يكن فيها تجربة، ولا تقصد بإرادة. وإنّما فعلنا ذلك لتكون هي وأمثالها في حساب الإنسان وفي خلده [3] ووهمه، لئلّا تسقط من ديوان الحوادث عنده وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرّزا من مكروهه إلّا بالاستعانة بالله، ولا توقّعا لمحبوبه إلّا بمسألته التوفيق، وهو- عزّ اسمه- خير موفّق ومعين.   [1] . هكذا ضبطت في الأصل. [2] . البخت: في اللسان عن الأزهرى: لا أدرى أهو عربي أم لا. في المعرّب عن ابن دريد: فارسي معرّب. بالفهلوية baxt:بالأفستائية Lbaxta:بمعنى النصيب المقدّر (حب) . [3] . الخلد: البال والنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الفيشداذيّة ومن عاصرهم أوشهنج فأوّل من يحفظ اسمه وسيرته من الملوك أوشهنج [1] [7] وأنا ذاكره [2] والملوك بعده على توال ونسق. فإن كان لواحد منهم سيرة محمودة أو تدبير مرضىّ، ذكرته وذكرت سائر ما ضمنته في صدر الكتاب، ومن لم يحفظ له سيرة، ذكرت اسمه فقط، ليكون نظام التاريخ محفوظا، فأقول: إنّ أوشهنج هذا هو الذي خلف جدّه جيومرت [3] وجمع الأقاليم السبعة، ورتّب الملك، ونظم الأعمال، ولقّب ب «فيشداذ» [4] ، وتفسيره بالعربية: أوّل سيرة العدل. [5] ويقال: إنّه كان بعد الطوفان بمائتي سنة. وهو أوّل من عرف قطع [6]   [1] . في الأصول: أوشهنج، أوشهنك، أوشهنق، هوشنگ. بالأفستائية Haushyanha:أى: واهب المنزلة الحسنة (يو: 126، حب) . بالفهلوية) Hoshyang:ف) . [2] . ذاكره: غير واضحة في الأصل وما أثبتناه هو من مط. [3] . في الأصول جيومرت، كيومرث. بالأفستائية Gaya -Mareta:أى: الحيّ الذي يموت، أو: الحياة الفانية. بالفهلوية) Gayomard ,Gayomart:حص: 399- 411) . [4] . في الأصول: فيشداد، بيشداذ، پيشداد. بالفهلوية) Peshdat:ف) . بالأفستائية Para -Dhata:أى: من وضع القانون أمامه وحكم بالعدل (يد 1: 178) . [5] . كذا ضبطت في الأصل: أوّل سيرة العدل. [6] . يشاهد مثل هذا التعبير عند مسكويه في مواضع أخرى أيضا، قال مثلا: أول من عرف ذلّل الفيلة، أو: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الشجر، وبنى به، واستخرج المعادن وبنى مدينتي بابل [1] والسوس [2] . وكان فاضلا سائسا محمودا، ونزل الهند، ثمّ تنقّل في البلاد، وعقد التاج، وجلس على السرير. وكان من حسن سياسته أن نفى أهل الفساد والدّعارة [3] من البلدان [8] إلى البراري، وألجأهم إلى رؤوس الجبال وجزائر البحار، وطهّر منهم الممالك، واستخدم من كان يستصلحه منهم، وسمّاهم الشياطين والعفاريت، وقرّب أهل الصلاح وأحسن رعاية الأمور، إلى أن انتهى ملكه إلى طهومرت [4] بعده. طهومرت وهو من ولد أوشهنج، وبينهما عدّة آباء، وسلك سيرة جدّه، وتنقّل في البلدان، وبنى الموضع الذي جدّده بعد ذلك سابور [5] من فارس، ونزله، وطلب الدعّار ونفى الشياطين أعنى الأشرار. وهو أول من كتب بالفارسية. وسلك سبيل جدّه، فاستمرّ نظام الملك على حال واحدة من عموم الصلاح، واستقامة أحوال الجند والرعية، إلى أن ملك بعده جمّ شيذ [6] .   [ () ] عرف خندق الخنادق (أنظر ص 51، 61) . [1] . بابل: بالبابليه LBabilu:أى: باب إيل، أى: باب الله. بالأفستائية.LBavari:في نقش بيستون) Babirauv:حب) . [2] . في المصادر الفارسية القديمة) Shusha ,Shusa ,Susa:حب) . [3] . مط: الذعارة. [4] . كذا في الأصل ومط: طهومرت، وهو تصحيف. وفي الأصول: طهمورت، طهمورث. بالفهلويّة: ) Taxmuritف) . [5] . سابور: مدينة منها إلى شيراز خمسة وعشرون فرسخا، كما هو اسم لكورة بفارس بها مدن أكبر من مدينة سابور (يا) . [6] . مط: جمشيد. في الأصول الأخرى: جمّ الشّيذ، جمّ، جمشاسب، جمشيدون. بالأفستائية: .Yima -Xshaetaبالفهلوية Yimshet:أى: جمّ المشرق (ف، حص، لد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 جمّ شيذ وهو أخو طهمورت، وتفسير «شيذ» الشعاع. لأنه كان وضيئا، جميلا. وملك الأقاليم، وسلك [9] السيرة المتقدمة، وزاد عليها بأن صنّف الناس وطبّقهم ورتّب منازل الكتّاب، وأمر أن يلزم كل أحد طبقته. وعمل أربعة خواتيم: خاتما للحروب والشرط، وكتب عليه «الأناة» ، وخاتما للخراج، وجباية الأموال، وكتب عليه «العمارة» ، وخاتما للبريد [1] ، وكتب عليه «الوحا» [2] وخاتما للمظالم، وكتب عليه «العدل» . فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام، وألزم من غلبه من أهل الفساد والشياطين الأعمال الصّعبة، وأذلّهم بقطع الحجارة والصخور من الجبال، وعمل الكلس والجصّ والبناء والطين، وعمل المعادن، وغير ذلك من الأمور الصعبة. فحسنت سيرته، وخافه أهل العيث [3] والفساد، بما ألزمهم من الأعمال الشاقّة. وأحدث النوروز [4] ، وجعله عيدا وأمر الناس بالتنعم فيه. [10] ثم إنّه بعد ذلك، بدّل سيرته. فكان من نتيجة فعله وسوء عاقبته، أن دخل الوهن في الممالك، وتجاسر أهل الفساد عليه. فمما حكى من تبديل سيرته، إظهار الكبر والجبرية على وزرائه وكتّابه وقوّاده، وإيثار التخلّى والإغرام باللذّات، وترك مراعاة كثير من السياسيات التي   [1] . البريد: عربي (ابن دريد) . فارسي معرّب من «دم بريده» [أى: «محذوف الذّنب» حسب تعبير المؤرخين- أنظر ص 93 وما علّقناه على تلك الصفحة] . أو معرّب من «بردن» أى: الذهاب بالشيء (باللغة الفارسية) . أو معرّب للكلمة اليونانية veredus:ومعناها: الحيوان ذو القوائم الأربع، ثمّ تحوّل إلى معنى «فرس البريد» ، ثم إلى «البريد» بالذات (لد، حب) . [2] . الوحا: السرعة. والمكتوب على الخواتم عند ابن الأثير. الرفق والمداراة العمارة والعدل الصدق والأمانة السياسة والانتصاف (1: 64) . [3] . وفي مط: أهل العبث (بالباء الموحّدة) . [4] . في الطبري: نوروز (1: 180) . الثعالبي: النوروز (ص 14) . ابن الأثير: نيروز (1: 497) . أبو نواس في شعره: النوكروز. بالفهلوية nok -roch:أو) Lnoghroz حب) . مف.nik -roch: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 كان يتولّاها بنفسه. فأحسّ بذلك بيوراسب [1]- وهو الذي تسمّيه العرب الضحّاك [2]- وعلم استيحاش الناس منه، وتنكّر خواص أصحابه له، فدسّ إلى رجاله [3] من استصلحه [4] لنفسه، ودبّر عليه حتى قوى، ثمّ قصده، فهرب منه جمّ وتبعه حتى ظفر به، فنكل به، وأشره بمئشار [5] . وقد كان جمّ تنقّل في البلدان قبل ذلك، إلى أن جرى عليه ما جرى. وكان الضحّاك هذا- على ما تزعم الفرس- من ولد جيومرت، وبينه وبين جيومرت من الآباء «تاج» [6] وإليه تنتسب العرب، فيقال لهم: «تاجى» [7] وهم   [1] . مط: هوراسب. [2] . الضحّاك: معرّب «ده آك» (حمزه: 24) . [3] . مط: رحاله. [4] . مط: من استخلصه. [5] . في الطبري: ونشره بمنشار (1: 181) . أشر الخشبة وغيرها: نشرها. المئشار: المنشار. [6] . في الطبري: تاز (1: 202) . البيروني: غار (قار) وهو أبو العرب العاربة (ص 104) . حمزة: تاج، ولذلك قيل لهم: تاجيان (ص 34) . ابن الأثير: يارين (1: 74) . [7] . بالفهلوية) LTazhik فم) Tazik ,tajik، (ف) : المنسوب إلى قبيلة طىء أو العرب. تاجيك، تاجك، تازيك،- وبأحد المعاني- تاژيك: شيء واحد. باللغة التركية: تات (الرعيّة) چيك (في الأصل وبأحد المعاني: الولد، أو بمعنى التصغير) : 1- غير الترك عامة، ومن ليس بترك أو مغولى. 2- الإيراني خاصة. 3- أهل تاجيكستان (فم) . أما الوجوه التي ذكرها الباحثون في تسمية العرب ب «تازى» فهي: 1- أن تكون الكلمة من المصدر الفارسي: «تازيدن» أى: شنّ الإغارة لأن العرب كانت تكثر ذلك في غابر الزمن. 2- لفظة «تاژ» معناها الخيمة، والعرب كانت تسكن الخيام فسمّاهم الإيرانيون ب «تاژيك» تازى، ثم تبع الصينيّون الايرانيين في هذه التسمية، فقالوا للعرب: «تاش» (لد) . 3- كان الإيرانيون، في عصر أنوشيروان، على اتصال باليمن، وكانوا يسمون طيّئا ب «تاژ» ، فقالوا للمنسوب إلى هذه القبيلة «تاژيك» ، ثم أطلقوا الاسم على كل العرب (حب) ، وهذا التعميم نراه أيضا في التلمود والموارد اليهودية السريانية الأخرى، حيث أطلق على العرب: طييعه، طييه، طيايه، وأصلها: طىء Obermeyer ,s.233.ff.) نقلا عن المفصّل 1: 660) . 4- ان لفظة: «تازى» هي الشكل الفارسي للفظة: «طائى» العربية التي تطلق على المنسوب إلى قبيلة «طىء» (لش) . 5- كان الايرانيون منذ القديم يسمون غير الايرانيين ب «تاجيك» أو «تاژيك» ، كما سمّت الإغريق غيرهم «بربرا» ، وسمّت العرب غيرهم «أعجميا» ، فتحول هذا اللفظ إلى «تازى» في اللغة الفارسية الحديثة، ثم اختص بالعرب قليلا قليلا، بينما بقي في بلاد الترك وما وراء النهر بشكله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يلقّبون بيوراسب ب «الازدهاق» [1] . [11] وقوّم منهم يزعمون أن جمّ شيذ زوّج أخته من بعض أشراف أهل بيته وملّكه اليمن، فولدت له الضحّاك. وأما العرب فينسبون الضحّاك غير هذه النسبة. ورغم قوم أنّه نمرود. وزعم آخرون أنّ نمرود كان عاملا من قبله على كثير من أعماله، ولا ينبغي أن نذكر من أمره فيما قصدنا له، أكثر من هذا النّبذ، لئلّا ننقطع عن غرضنا. بيوراسب وما جرى بينه وبين كابى الإصبهانى ولما ملك بيوراسب [2] ظهر منه خبث شديد وفجور كثير، وملك الأرض كلّها، فسار فيها بالجور والعسف، وبسط يده بالقتل والصلب، ليهابه الناس، وليمحو عن صدور الناس سياسة من تقدّمه وذكرهم وسنّتهم. فسنّ العشور، واتخذ المغنّين والملهين. وكان على منكبه سلعتان [3] يحركهما [4] إذا شاء، كما يحرّك يديه. فادّعى أنهما حيّتان، تهويلا على [12] ضعفاء الناس، وأغبيائهم، وكان يسترهما بثيابه. فلما طالت أيامه وعمّ الناس جوره، كان من سوء عاقبة ذلك أن ظهر بإصبهان   [ () ] القديم وبمعناه العام (مطلق الأجانب) ، ثم بعد أن اختلطت الترك الألتائيون والفرس في تلك التخوم، دخلت كلمة «تاجيك» في لغة الترك فسمّت الترك الإيرانيين ب «تاجيك» فقيل: «ترك وتاجيك» (بس 3: 50 الحاشية) . [1] . في الأصول: أزدهاق، أژدهاك، ده آك. شا: أژدها، أژدهافش، بالأفستائية.LAgi -Ldahaka:بالفهلوية: ) Azhi -dahakف) . [2] . في سائر الأصول: بيوراسب، بيوراسف، بهراسب. بالفهلوية) Bevarasp:ف) ، أى: من له عشرة آلاف حصان (فم) . [3] . السلعة: زيادة تحدث في الجسد. [4] . مط: حركهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 رجل يقال له: «كابى» [1] من أثناء [2] العامة، وكان الضحّاك قتل له ابنين. فلما بلغ الجزع من كابى هذا على ولديه ما بلغ، أخذ عصا، فعلّق بطرفها [3] جرابا [4] .- ويقال: إنّه كان حدّادا وإنّ الذي علّقه نطع [5] كان يتوقّى به من النار- فجعله علما ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب [6] ، فأجابه خلق كثير، لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور. فاستفحل [7] أمره وقوى، وتفأل الفرس بذلك العلم، وعظّموا أمره، وزادوه ورصّعوه بعد ذلك بالجوهر، حتى جعله ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبرّكون به، وسمّوه «درفش كابيان» . فكانوا لا يسيّرونه إلّا في الأمور العظام. ولما استعلى كابى الإصبهانى، وأشرف على بيوراسب، هرب [13] عن منازله. واجتمع أشراف الناس على كابى، وناظروه في الملك. فقال لهم كابى: إنّه لا يتعرّض للملك، لأنه ليس من أهله. وأمرهم أن يملّكوا بعض ولد جمّ. وكان أفريذون [8] بن أثفيان [9] مستخفيا من الضحّاك في بعض النواحي، فوافى هو ومن معه إلى كابى، فاستبشر الناس به، لأنّه كان مرشّحا للملك. فصار كابى أحد أعوان أفريذون حتى احتوى [10] على منازل بيوراسب [11] ، وحتى تبعه وأسره   [1] . كذا في الطبري (1: 207) ، وابن الأثير (1: 75) ، الثعالبي (ص 34) . في الفارسية الحديثة: كاوه. بالفهلوية) LKavagh:حب) . [2] . مط: من أبناء العامة. [3] . في الأصل: بأطرافها، والتصحيح من مط. [4] . الجراب: الوعاء، أو: المزود من إهاب الشاء. [5] . النطع: بساط من الأدم أى من الجلود المدبوغة. [6] . مط: هوراسب. [7] . استفحل أمره: تفاقم واشتدّ. [8] . في سائر الأصول: أفريدون، أفريذون، في بندهش.LFreton:بالأفستائيّة.Thraetaon:في فيدا: ) Traitanaيد 1: 188) . [9] . مط: ايقبان. في سائر الأصول: أثقابان، أثقيان، أثقيال (حب) . يد: آسپيان (1: 188) بالأفستائية: .Atawyaفي فيدا) Aptya حص: 465، يد 1: 199) . بالفهلوية) Asfian ,Asvian ف) LAsviyan ,Asfiyan (وب: 31) . بالفارسية الحديثة: آتبين، ثم آبتين. [10] . احتوى الشيء وعليه: حواه: استولى عليه وملكه. [11] . مط: هوراسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بدنباوند [1] ، فقتله. ولم يسمع من أمور الضحّاك بشيء يستحسن، ولا نقل من أخباره ما يكتب غير شيء واحد. وهو أنّ بليّته [2] لما اشتدّت، وطالت أيّامه وتراسل وجوه الناس في أمره، وأجمعوا على المصير إليه من البلدان، وافى بابه العظماء والوجوه من النواحي والأقطار، وتناظروا في الدخول عليه والتأتّى له [3] واستعطافه، وأجمعوا على تقديم كابى الإصبهانى، وذلك لما رأوا من تحرّقه على ولديه، [14] وجرأته على الكلام. فلما اجتمعوا ببابه أعلم بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا يقدمهم كابى. فمثل بين يديه، وأمسك عن السلام. ثم قال: - «أسلّم عليك سلام من يملك الأقاليم كلّها، أم سلام من يملك هذا الإقليم؟» فقال: «بل سلّم سلام من يملك الأقاليم كلّها، فإنّى ربّ الأرض.» فقال له كابى: «فإن كنت مالك الأقاليم كلّها، فما بالك خصصت بتحاملك ومؤنك [4] وإساءتك ناحية كذا؟ وهلّا قسمت أمر كذا بين الأقاليم؟» ثم عدّد أشياء، وجرّد له الصّدق، حتى انخزل [5] له الضحّاك وأقرّ، ووعد الناس بما يحبّون، وأمرهم بالانصراف ليتّدعوا [6] ، ثم يعودوا إليه ليقضى حاجاتهم. وكانت له أم فاحشة بذيئة [7] جبّارة، وكانت تسمع كلامهم لمّا دخلوا عليه، فاغتاظت منهم وأنكرت إقراره للقوم. فكلّمت بيوراسب [8] منكرة عليه وقالت: - «هلّا دمّرت عليهم وأمرت بهم؟»   [1] . دنباوند، دمباوند، دباوند. دماوند: كورة من كور الرىّ. جبل عال جدّا، مستدير قرب الرىّ. سجن أفريذون بيوراسب في رأسه (مع) . [2] . مط: نكبته. [3] . تأتّى للأمر: ترفّق وأتاه من وجهه. [4] . المؤن: جمع مفرده: مؤنه: الشدّة والثقل. [5] . انخزل: انقطع. وفي مط: «تحرك» بدل «انخزل» . [6] . ليتّدعوا: لا توجد في مط. اتّدع: سكن واستقرّ. [7] . بذأ: فحش في قوله. [8] . مط: هوراسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فقال لها [15] الضحّاك على عتوّه: - «إنك لم تفكّرى في أمر، إلّا وقد سبقت إليه. إنّ القوم بدهونى [1] بالحق. فلما هممت بالسطوة بهم، وقف الحقّ بيني وبينهم، واعترض كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت.» فهذا ما استحسن من فعل الضحّاك وقوله، ولا يعرف له شيء مستحسن غيره. ثمّ ملك أفريذون وهو من ولد جمّ. ويقال: إنّه كان التاسع من ولده. فردّ مظالم الناس، وأمر بالإنصاف والإحسان، ونظر إلى ما غصب عليه الضحّاك من الأرضين وغيرها، فردّها كلّها على أهلها، إلّا ما لم يجد له أهلا، فإنّه وقفه على المساكين ومصالح العامة. وكان موثرا للعلم وأهله، وكان صاحب طبّ ونجوم وفلسفة. وكان له ثلاثة أولاد: سرم، وطوج، وإيرج [2] . فخشي ألّا يتّفقوا بعده. وأن يبغى بعضهم [16] على بعض. فظنّ أنّه إذا قسم الملك بينهم أثلاثا في حياته، بقي الأمر بعده على انتظام وصلاح. فجعل الروم [3] وناحية المغرب لسرم، والترك والصين   [1] . بدهه: فجأة، بغته. [2] . في الطبري: سرم (سلم) ، طوج، إيرج (1: 222، 230) . المسعودي: سلم، اطوج، ايراج ايران (1: 247) . الثعالبي: سلم، توز ايرج (ص 14) . حمزة: سلم، طوج، ايرج (ص 25) . البيروني: سلم (شرم) ، طوج (توژ) ، إيرج (ص 104) . شا: سلم، تور، ايرج (1: 79) . تور تورج (بق) توژ (لد) توج (اليعقوبي 2: 134) طوس (الدينوري 1: 9) . في الفهلوية (LTurch) Sarm ,Eretch:بن.Tutch بالافستائية Sairimyana:أى: بلاد سرم، أى: الروم. و Tuiryana أى: بلاد الترك. و Airyana:أى: بلاد الإيرانيين (حص: 469- 474، يد 1: 194، يد 2: 52) . [3] . لقد ذكر انقسام ملك فريدون بين أبنائه الثلاثة في «چهر دادنسك» الذي هو من الأنساك المفقودة لأفستا، وهذا ما نفهمه من «دينكرد» الفصل الثالث الفقرتين التاسعة والعاشرة. وفي «فروردين يشت» ذكرت خمسة أقوام، فأضيف على الثلاثة المذكورة قومان وهما: «سائى نى» و «داهى» . وقد أخذت الفرس هذه القصة من الهند وأوروبيين ولا يمكن إرجاع تاريخها إلى أبعد من عصر الأشكانيين الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 لطوج، والعراق والهند لإيرج وهو صاحب التاج والسرير، فلمّا مات أفريذون، وثب طوج وسرم بإيرج، فقتلاه، وملكا الأرض بينهما. وأفريذون أوّل من تسمّى ب «كي [1] » . فكان يقال له: كي أفريذون [2] ، وهي كلمة تعنى التنزيه، أى: روحانى، أى: هو منزّه متصل بالروحانية. [3] وكان جسيما وسيما حسن البهاء، محربا [4] عظيم القوة. ويقال: إنّ بيوراسب [5] قال له لمّا ظفر به: - «لا تقتلني بجدّك جمّ.» فقال له أفريذون منكرا لقوله: «لقد سمت بك نفسك وهمّتك، وعظمت في نفسك، حين قدرتها لهذا. جدّى كان أعظم [17] قدرا من أن يكون مثلك كفؤا له في القود [6] ، ولكنى أقتلك بثور كان في دار جدّى.» وأفريذون أوّل من عرف ذلّل [7] الفيلة، وقاتل بها الأعداء. ثم قسم الأرض كما ذكرنا بين أولاده. ولأجل ما صار بين أولاده من العداوة، بقيت الذحول [8] بين   [ () ] ما كانوا يعرفون القومين Tura و LSairima اللذين ذكرا في «فروردين يشت» ، ولكنهم كانوا يطلقون الإسمين على أعدائهم القاطنين في الشمال وشرقىّ الشمال والمغرب من بلادهم، فأطلقوا LSairima على اليونان، والروم، واللّان، كما أطلقوا Tura على أقوام، عاشوا في شرقى الشمالي أى قبائل «تخار» . و «خيون» ، ثم على الهياطلة، وأخيرا على قبائل الترك (حص: 469- 474) . [1] . بالأفستائية.Kavi:بالفهلوية Kay:أى: الملك (فم) وبمعنى العزيز، والقهار، والجبّار (لد) . [2] . مط: أفريذون. [3] . مط: متصل الروحانية. [4] . مط والطبري: مجرّبا. المحرب: الخبير بالحرب، الشجاع. [5] . مط: هوراسب. [6] . القود: القصاص. [7] . مط: عرف تذليل الفيلة، والأصل هو الأصح نصا، لأن أسلوب التعبير هذا معهود من مسكويه في مواطن كثيرة من الكتاب. انظر مثلا: ص 51، 59، 61. [8] . الذحول جمع مفرده الذحل: الحقد والثأر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الترك، وملوك إيرانشهر [1] ، والروم، وطلب بعضهم بعضا بالدماء والترات [2] . وكان إبراهيم النبي- صلى الله عليه- في أيام الضحّاك. ولذلك زعم قوم أنّه نمرود وأن نمرود عامل من عمّاله. ولم ينقل من أخباره- عليه السلام [3]- شيء من النمط الذي هممنا بإيراده في هذا الكتاب، إلّا أشياء حكاها مانى [4] ، وهي بعيدة من الحقّ، فلذلك لم أوردها، ولم أتعرّض لذكرها. منوشهر فكان من سوء عاقبة وثوب طوج وسرم بإيرج وقتلهما إيّاه، أن نشأ ابن لإيرج بن أفريذون [5] يقال له: منوشهر [18] حقد على طوج، فدبّر عليه، إلى أن قاومه، وتغلّب على ملك أبيه إيرج، ثم نشأ ولد لطوج التركي، فنفى منوشهر [6] عن بلاده. وكانت بينهما حروب لم ينقل منها شيء يستفاد منه تجربة. ثم [7]   [1] . ايران ايراج. شهر: الملك (المسعودي 1: 248) . بالفهلوية EranShatr:أى: أرض ايران كما كان يستعمل في العصر الساسانى (فم) . [2] . مط: التراب، والترات جمع مفرده التّرة: الظلم في الذحل عامة، الجناية على الغير من قتل ونهب وسبى. [3] . في مط: بدون «عليه السلام» . [4] . مانى: بالأفستائية.Namanya:بالفهلوية LManik:أى: المنسوب إلى البيت: (باروچا: 312) . مانى: الفذّ، عديم النظير (بق) . ولد عام 215 م. في مردينو ببابل (البيروني: 208) ، ويقال: إنّه ولد في همدان، ثم انتقل إلى بابل، وقتل 274 م. وادّعى بأنه فارقليط، ومزج بين الزرادشتية والمسيحية (حب، لد، فم) . له من الآثار: سابورقان (شاپورگان) في المعاد. كنز الأحياء. سفر الأسفار. فراقماطيا (بنگاهيك) . سفر الجبابرة (كوان) . إنجيل زند (إنجيل مانى) مكتوبا ب 22 حرفا من حروف الهجاء التي أبدعها، ملحقا بمجموعة من الصور سميت باللغات الايرانية: أردهنگ، أرثنگ، أرتنگ، أرژنگ، أرجنگ، وباليويانيّة: أيقون، وبالقبطية: أيقونس (لد، حب، فم) . [5] . مط: أفريدون. [6] . في سائر الأصول: منوشهر، منوشجهر، منوجهر. مط: منوچهر، بالأفستائية) ManushC Lhithra يو 191) . [7] . ثم: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أديل [1] منه منوشهر، فنفاه عن بلاده، وعاد إلى ملكه. وكان منوشهر موصوفا بالعدل والإحسان. وهو أوّل من عرف خندق الخنادق وجمع آلة الحروب، وأوّل من وضع الدّهقنة، فجعل لكل قرية دهقانا، [2] وجعل أهلها عبيدا وخولا [3] ، وألبسهم لباس المذلّة، وأمرهم بطاعته. ولما قوى سار نحو التّرك وطالب دم جدّه إيرج بن أفريذون، فقتل طوج بن أفريذون وأخاه سرما، وأدرك ثأره وانصرف. ثم نشأ فراسياب [4] بن ترك الذي ينسب إليه الترك من ولد طوج بن أفريذون، فحارب [19] منوشهر، وحاصره بطبرستان. ثم إن منوشهر وفراسياب اصطلحا، وضربا بينهما حدّا لا يجاوزه واحد منهما، وهو نهر بلخ- والفرس تحكى في ذلك حكايات [5] لا فائدة في إيرادها- فانقطعت الحرب بين فراسياب ومنوشهر.   [1] . قال الحجاج: يوشك أن تدال الأرض منّا، أى: يجعل لها الكرة والدولة علينا، فتأكل لحومنا كما أكلنا ثمارها، وتشرب دماءنا كما شربنا مياهها (لع) . [2] . بالفهلوية:dehikan:مالك الأرض ورئيس القرية (حب، فم) . [3] . الخول: عطية الله من النعم، والعبيد، والإماء، والأتباع، والحشم. [4] . مط: أفراسياب. في سائر الأصول: فراسيات، فراسياب، أفراسياب (الطبري 1: 434، 528، البيروني: 194، 222، حمزة: 20، المسعودي 1: 249) ، بالفهلوية) Frasyak:برثلمه: 986) . [5] . منها أسطورة آرش شواتير المسمى في الأفستا ب EroxshaXshwivi -isu:أى: آرش الصلب القوس، أو: صاحب السهم السريع (اليشت 8، الفقرات 6- 8) . بالفهولية) ErexshaShepak -Tir:حص: 588 لد، حب) . ورد اسمه في المصادر كما يلي: إيرش، ارششياطير، ارشسياطير (الطبري 2: 435) ، أرش (الثعالبي: 107، البيروني: 220) ، ارسناس (الدينوري ص 11) ، ايرشى (ابن الأثير 1: 166) . جاء في الأفستا: «نحمد تيشتريا Tishtrya النجمة الساطعة الرائعة التي تسير إلى بحر فوروكش: ] VouruKashaبالفهلوية: فراخ كرت] بسرعة ينطلق بها سهم إرخش LErexsha الصلب القوس، ذلك الآرىّ الذي كان أصلب الآريّين قوسا، ورمى من جبل خشوث LXshutha إلى جبل خفنفنت،Xvanvant ومسّته نفحة من أهورا مزدا، وشقّ له الماء والكلأ والشمس صاحبة السهول الفسيحة، منهجا عريضا.» والمراد بجبل خشوث: جبال «البرز» وبجبل خفنفنت: أحد جبال منطقة جيحون (حص: 589، 590، زند اوستا 2: 416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 خطبة منوشهر فمما حكى ونقل من تدابير منوشهر أنّه لما مضى من ملكه نحو ثلاثين سنة، تناولت الأتراك أطراف أعماله، فجمع قومه، ووبّخهم، ثم خطب عليهم، وهذه أوّل خطبة [1] عرفناها، ونقلت إلينا. قال: «أيها الناس: إنّكم لم تلدوا الناس كلّهم. وإنّما الناس ناس ما حفظوا أنفسهم [2] ، ودفعوا العدوّ عنهم. وقد نالت الترك منكم [3] ، ومن   [ () ] وأمّا أبو ريحان البيروني فيروى الأسطورة بقوله: «زعموا أنّ أفراسياب لما تغلّب على ايرانشهر، وحاصر منوشجهر بطبرستان، طلب منه أمرا، فأنعم به عليه، على أن يردّ إليه من ايرانشهر رمية نشّابة في مثلها. فحضر ملك من الملائكة اسمه إسفندارمذ، وأمر أن يتخذ قوسا ونشابة، على مقدار مثّله لصانعها على ما بيّن في كتاب الأبستا [الأفستا، الابستاق، بالفهلوية Apistak:بن،Avistak بالفارسية الحديثة: أوستا (بالواو الفارسية) ] ، وأحضر أرش، وكان شريفا ديّنا حكيما، وأمر بأخذ القوس ورمى النشّابة. فقام، وتعرّى وقال: أيها الملك، وأيها الناس! أبصروا بدني، فإنّى بريء من كل جراحة وعلة، وإنّى موقن بأنّى إذا رميت بهذه القوس والسهم، تقطّعت قطعا وتلفت نفسي وقد جعلتها فداء لكم. ثم تجرّد، ومدّ القوس بما أعطاه الله من القوة، فرمى بها، وتقطّع قطعا، وأمر الله الريح حتى اختطفت النشابة من جبل الرويان، وبلغ بها إلى أقصى خراسان بين فرغانة وطبرستان، فأصابت أصل شجرة من شجرة الجوز كبيرة، لم يكن لها في الدنيا شبه من الأشجار كبرا. ويقال: إنّ من موضع الرمية إلى موقع النشّابة ألف فرسخ. فاصطلحا على تلك الرمية، وكانت في هذا اليوم: التيركان. فاتخذه الناس عيدا ... » (البيروني: 220) . إنّ منطلق السهم كما جاء في الأفستا والمصادر الإسلامية هو أحد هذه الأمكنة: خشوث، قمّة دماوند، آمل، سارى، جرجان، رويان، طبرستان. وموقعه: خفنفنت، ساحل جيحون، مرو، نهر بلخ (جيحون آمودريا) . [1] . هذه الخطبة تجدها كاملة عند الطبري أيضا (1: 437) ، كما تجد ملخّصها بنسبة أقل من النصف عند ابن الأثير (1: 166) . وقد قارنّا في تحقيق نصها بين الأصل ومط والطبري. [2] . أول الخطبة في مط: أيها الناس بئس ما حفظوا أنفسهم. وفي الطبري: ... ما عقلوا من أنفسهم. [3] . منكم: غير موجودة في الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أطرافكم، وليس ذلك إلّا من ترككم جهاد عدوّكم، وقلّة المبالاة، وإن الله تعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا: أنشكر فيزيدنا [4] ، أم نكفر فيعاقبنا؟ ونحن أهل بيت خير [5] ، ومعدن [20] الملك [6] . فإذا كان غدا، فاحضروا.» فاعتذر الناس، وواعدوه الحضور. فلمّا كان من غد، أرسل إلى أهل بيت المملكة وأشرافهم، وإلى الأساورة [7] وكبارهم، فدعاهم، وأذن للرؤساء من الناس ودعا «موبذان موبذ [8] » ، وأقعده على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره خطيبا. فقام أشراف الناس، وأهل بيت المملكة والأساورة، فقال: اجلسوا. فإنّى إنّما قمت لأسمعكم. فجلسوا، فقال: «أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنّه لا أضعف من مخلوق، طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته [9] في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه. «ألا وإنّ التفكّر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة. وقد ورد الأوّل، ولا بدّ للآخر من اللحوق [10] بالأوّل، وقد مضت قبلنا [21]   [4] . مط: فنريد. [5] . في الطبري: عزّ. [6] . في الطبري: الملك لله. [7] . الأساورة: جمع مفرده الأسوار: الرامي، وقيل: الفارس (المعرّب) ، القائد (لد) ، الحر، العظيم (فاب 1: 223) . بالأفستائية Asbaray:ركوب الفرس، بالفارسية القديمة،asa -bara:بالفهلوية aspavar:بن aspabarak الأسوار: الراكب مقابل الراجل (حب) . [8] . موبدان موبد: أعلى درجة في رتب رجال الدين الزرداشتى. (فم) بالفهلوية) magupat:مغ بد) . [9] . الطّلبة والطّلبة: المطلوب. [10] . في الطبري: اللحاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أصول نحن فروعها، فما بقاء [1] فرع بعد [2] ذهاب أصله، وإنّ الله- عزّ وجلّ- أعطانا هذا الملك، فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين. «ألا وإنّ للملك على أهل مملكة حقّا، ولأهل مملكته عليه حقّا [3] . فحقّ الملك على أهل مملكته، أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنّه تجارتهم [4] وحقّ الرعية على الملك، أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحمّلهم ما لا يطيقون. فإنّ أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم، لآفة أو ضرر من السماء أو الأرض، أن يسقط عنهم خراج ما نقص وإن اجتاحتهم [5] مصيبة، أن يعوّضهم ما يقوّيهم على عمارتهم [6] ، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين. والجند للملك بمنزلة جناحي [22] الطير [7] ، فهم أجنحة الملك، ومتى قصّ من الجناح ريشة، كان ذلك نقصانا منه، وكذلك الملك، إنّما هو بجناحه وريشه. «وإن الملك ينبغي له أن يكون فيه ثلاث خلال [8] : أوّلها أن يكون صدوقا فلا يكذب، وأن يكون سخيّا فلا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنّه مسلّط [9] ، ويده مبسوطة، والخراج يأتيه. فينبغي له أن لا يستأثر [10] عن جنده ورعيته، بما هم أهل له، وأن   [1] . في الطبري: بقي. [2] . مط: مع ذهاب. [3] . سقطت من مط: «حقا، ولأهل مملكته حقا. فحقّ الملك على أهل مملكته» . [4] . في الأصل ومط: وإنّه تجارتهم. في الطبري: وإنّها تجارتهم. ابن الأثير: إنّه خازنهم. [5] . اجتاحتهم مصيبة أو جائحة: أهلكت مالهم. [6] . في الطبري: عماراتهم. [7] . كذا في الأصل ومط. وفي الطبري: الطائر. [8] . الخلال: جمع الخلّة: الخصلة، الخلق. [9] . مط: سلط. [10] . استأثر بالشيء: خصّ به نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يكثر العفو. فإنّه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو [1] ، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة. وإن المرء لأن [2] يخطئ في العفو، خير له من أن يخطئ في العقوبة. فينبغي له أن يتثبّت [3] في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها. وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة، فلا ينبغي له أن يحابيه [4] ، وليجمع بينه وبين المتظلّم، فإن صحّ عليه [23] للمظلوم حقّ خرج إليه منه، وانعجز عنه أدّى [5] الملك عنه [6] ، وردّه إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد. فهذا لكم علينا. ألا ومن سفك دما بغير حقّ، أو قطع يدا بغير حقّ، فإنّى لا أعفو عن ذلك إلّا أن يعفو عنه صاحبه. فخذوا هذا عنّى. «ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا [7] ، فإنّما تكفون أنفسكم. وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأى. وإنّما لى من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم. ألا وإنّ الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف، فذلك مملوك وليس بملك. ومهما [8] بلغنا من الخلاف، فإنّا لا نقبله من المبلغ، حتى نتيقّنه. فإذا صحّت معرفة ذلك، أنزلناه [9] منزلة المخالف. «ألا وإنّ أكمل الأداة عند المصيبات، الأخذ بالصبر، والراحة إلى اليقين. فمن قتل في مجاهدة العدو، رجوت له الفوز برضوان الله. وأفضل الأمور التسليم [24] لأمر الله، والراحة إلى اليقين، والرضا   [1] . العفو ... العقوبة: سقطت من مط. [2] . كذا في مط. في الطبري: أن يخطئ. [3] . تثبت في الأمر والرأى: تأتّى فيه ولم يعجل. [4] . حاباه محاباة: اختصه ومال إليه. [5] . مط: أذى! [6] . مط: عند. [7] . في الأصل: «فاكفوها» والتصحيح من الطبري. [8] . مط: مما. [9] . في الطبري: وإلّا أنزلناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بقضائه. أين المهرب مما هو كائن، وإنّما نتقلّب [1] في كفّ الطالب. وإنّما هذه الدنيا سفر، أهلها لا يحلّون عقد الرحال إلّا في غيرها [2] . إنّما بلغتهم فيها بالعوارى [3] . فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم لمرّ قضاء الحق [4] ، ومن أحقّ بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلّا إليه [ولا معوّلا إلّا عليه] [5] . فثقوا [6] بالغلبة إذا كانت نيّاتكم أنّ النصر من عند الله. وكونوا على ثقة من درك [7] الطلبة إذا صحّت نيّاتكم. واعلموا أنّ هذا الأمر لا يقوم إلّا [8] بالاستقامة، وحسن الطاعة، وقمع العدوّ، وسدّ الثغور، والعدل للرعيّة، وإنصاف المظلوم. فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة والأمر بالخير والنهى عن الشرّ، ولا قوّة إلّا بالله. «أنظروا للرعية، فإنّها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيهم، رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبيّن في زيادة أرزاقكم. وإذا [25] حفتم [9] على الرعيّة زهدوا في العمارة وعطّلوا أكثر الأرض، فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم. فتعاهدوا الرعيّة بالإنصاف. وما كان من الأنهار، والبثوق [10] ، مما نفقته على السلطان، فأسرعوا فيه قبل أن يكبر [11] . وما كان من ذلك على الرعيّة، فعجزوا عنه، فأقرضوهم من بيت مال الخراج،   [1] . في الطبري: يتقلّب. [2] . مط: في غير بناء. [3] . جمع العارية. [4] . مط: لمن قضاء الحق. في الطبري: لمن القضاء له. [5] . زيادة من مط والطبري. [6] . مط: فتقوّوا. [7] . الدرك: اسم مصدر من الإدراك: الوصول، والبلوغ. [8] . لا: غير موجودة في مط. [9] . حاف عليه: جار وظلم. وفي مط: جنفتم. [10] . البثوق: جمع البثق: موضع انبثاق الماء. [11] . الطبري: يكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فإذا جاءت [1] أوقات خراجهم [2] ، فخذوا من خراج غلّاتهم على قدر ما لا يجحف بهم. ذلك ربع في كل سنة، أو ثلث، أو نصف، لكيلا يتبيّن [3] عليهم. هذا قولي وأمرى. يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وجدّ [4] في الذي سمعت في يومك. أسمعتم أيّها الناس؟» قالوا: «نعم.» وأثنوا عليه، ودعوا له، ثم أمر بالطعام. فوضع، وأكلوا وشربوا، وخرجوا وهم له شاكرون. ثم كان من أمره ما كان مما ذكرناه. منوشهر والرايش بن قيس وفي أيّامه غزا الرايش بن قيس بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان [26] من ملوك [5] اليمن. وكان اسم الرايش الحارث. غزا الهند، فغنم غنائم عظيمة، فأنفذ رجلا من أصحابه يعرف بشمر بن العطّاف، فدخل الترك من أرض آذربيجان، وهي يومئذ في أيديهم، فقتل وسبى وغنم. وغزا بعده ذو منار بن الرايش بعد أبيه، وانّما سمّى ذا منار لأنّه غزا بلاد المغرب، فوغل فيها برّا وبحرا، وخاف على جيشه الهلاك عند قفوله [6] ، فبنى المنار ليهتدوا بها. ثم وجّه ابنه إلى أقاصى المغرب، فغنم، وأصاب مالا، وقدم عليه بسبي لهم خلقة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّوه ذا الأذعار.   [1] . في الطبري: حان. [2] . في مط: إخراجهم. [3] . في مط: يتبيّن ذلك عليهم. [4] . كذا في مط: جدّ. في الطبري: خذ. [5] . ملوك اليمن ... بشمر: سقطت من مط. [6] . القفول: الرجوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وإنّما ذكرتهم في هذا الموضع، لاتصال ذلك بذكر [1] منوشهر، وأنّ الفرس تدّعى أنّ ملوك اليمن كانت عمّالا لملوك الفرس بها، وأنّ الرايش كان من قبل منوشهر يغزو الترك وغيرهم. والعرب تنكر ذلك، وتزعم أن ملكهم لم يكن قطّ من قبل أحد، وإنّما كانوا برؤوسهم. ظهور موسى في أيّام منوشهر وفي أيّام منوشهر [27] ظهر موسى- صلّى الله عليه- ويقال: إنّ عمره- عليه السلام- كان مائة وعشرين سنة، منها في أيام أفريذون عشرون سنة، وفي أيام منوشهر مائة سنة. وكان من حديث موسى مع فرعون وما أنزل من الآيات على يده، ما هو مشهور. وقد اعتذرنا من ذكر هذه الأخبار وتركها. ثم كان من حديث التّيه [2] ما كان، إلى أن أخرج بنى إسرائيل منه يوشع بن نون بعد موت موسى، وغزا الكنعانيين، ونفاهم إلى السواحل، وافتتح مدينة الجبّارين. فيقال إنّ إفريقس بن قيس بن صيفي بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مرّ بهم متوجها إلى إفريقية [3] ، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها، وقتل ملكها جرجيرا [4] ، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم من سواحل الشام، فهم البرابرة. وإنّما سمّوا بذلك لأنّ إفريقس [28] قال لهم: «ما أكثر بربرتكم!» فسمّوا بذلك «بربرا» [5] . وكان إفريقس هذا عاملا لمنوشهر على ما تزعم الفرس. وكان تدبير يوشع أمر   [1] . مط: بذكر. [2] . التيه: حيث تاه بنو إسرائيل، أى حاروا، ولم يهتدوا للخروج منه. [3] . مط: فريقيّه. [4] . مط: جرجيز. وفي الطبري: جرجير. [5] . بربر: ثرثر، فهو بربار، أى: ثرثار. وفي لغة الإغريق والرومان barbares:الأجنبى (حب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بنى إسرائيل، من لدن مات موسى إلى أن توفّى يوشع في زمان منوشهر، عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين. ولمّا هلك منوشهر، تغلّب فراسياب على مملكة فارس، وطلب بالذحول. وصار إلى أرض بابل وأقام بمهرجاقذق [1] ، وأكثر الفساد، وخرّب ما كان عامرا، ودفن الأنهار والقنىّ، فقحط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن أخرج، وردّ إلى بلاد الترك. فغارت [2] المياه في تلك السنين، وحالت [3] الأشجار المثمرة. زوّ بن طهماسب ولم يزل الناس في أعظم بليّة إلى أن ظهر زوّ [4] بن طهماسب، ويقول بعضهم: زاغ، وبعضهم: زاب، وبعضهم: زاسب، وهو من أولاد منوشهر، وبينه وبينه عدّة آباء. فلما ظهر زوّ طرد فراسياب عن مملكة فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب [29] [5] كثيرة جرت بينهما لم يذكر لنا منها ما نستفيد منه تجربة. وكانت غلبة فراسياب على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة من لدن توفّى منوشهر إلى أن طرده زوّبن طهماسب، إلى تركستان. ثم ابتدأ زوّ في عمارة ما خرّبه فراسياب. فأمر ببناء ما هدم من الحصون وإعادة ما طمّر [6] وعوّر [7] من الأنهار والقنىّ وكرى [8] ما كان اندفن من المياه   [1] . مهرجاقذق، مهرجانقذق: معرّب من «مهرگان كذه (كذك) . بالفهلوية Mitragan -Katak:أى: بيت ميترا (حب) . ولاية محيطة على صيمرة (لج: 218) وصيمرة بلدة بين ديار الجبال وديار خوزستان (يا) . [2] . غار الماء: ذهب في الأرض وسفل فيها. [3] . حالت النخلة: حملت عاما ولم تحمل آخر. [4] . بالأفستائية LUzava:ابن) LTumaspa يد 2: 46) . بالفهلوية) LOz av ,Uzav:ف) . [5] . في الأصل (مصورة ليدن) : حصل تقديم وتأخير بين صفحتي 29 و 30. [6] . طمّره: بالغ في طمره، أى دفنه. [7] . مط: غور. عوّر عيون المياه: دفنها وسدّها. [8] . كرى النهر: حفر فيه حفرة جديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 حتى عاد جميع ذلك إلى أحسن ما كان، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين. فعمرت البلاد في أيّامه، وكثرت المياه، ودرّت معايش الناس، واستخرج بالسواد [1] نهرا، وسمّاه: الزاب، وبنى على حافتيه [2] مدينة، وهي التي تسمى: المدينة العتيقة، وكوّرها كورة [3] ، وجعلها ثلاث طساسيج [4] : الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسفل، ونقل إليها بذور الرياحين وأصول الأشجار من الجبال. وزوّ هذا أوّل من عرف [30] اتّخذ [5] ألوان الطبيخ، وأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم بالخيل [6] ، ومما أوجف عليه من أموال الترك، وكان وزيره «كرساسف» من أولاد طوج بن أفريذون. وقد حكى أنّ زوّا وكرساسف [7] ، اشتركا في الملك. والصحيح من أمره أنّه كان وزيرا لزوّ ومعينا له. فكان جميع ملك زوّ ثلاث سنين.   [1] . السواد: رستاق من رساتيق العراق. وحدّ السواد على قول أبى عبيد: من حديثة الموصل طولا إلى عبّادان، ومن عذيب القادسية إلى حلوان عرضا، فيكون طوله مائة وستين فرسخا (يا) . [2] . مط: حافته. [3] . الكورة: لفظ فارسي معرّب، وأصله: «خوره» (خره) : الناحية. البقعة التي يجتمع فيها قرى ومحال (فم، مو) . [4] . طساسيج: جمع مفرده: طسّوج، أى المحلة والناحية، وطسّوج تعريب ل «تسو» . وأصله في الفهلوية: ) LTasukيد 2: 330) . [5] . مط: «أوّل من عرف اتخاذ» . أسلوب للكتابة عند مسكويه تجده في مواطن كثيرة من الكتاب، انظر مثلا: ص 51، 59، 61. [6] . مط: الجبل. [7] . مط: كركاسب. بالأفستائية،keresaspa بالفهلوية) Karshasp:حب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الكييّة ومن عاصرهم كيقباذ بن زو ّ ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ، وسلك سبيل أبيه. فكوّر الكور، وبيّن حدودها وحريمها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلّات لأرزاق الجند، وكان حريصا على العمارة، ومانعا لحوزته. والملوك الكييّة من نسله. وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكان مقيما في الحدّ الذي بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ، يمنع الترك من تطرّف [1] شيء من حدود فارس. فجميع هذه العداوات والحروب سببها سوء نظر من قسم الملك بين أولاده، ثم وثوب من وثب من الإخوة [31] بأخيه، واستمرار الشحناء بعد ذلك والعداوات. وأما القيّم بأمر بنى إسرائيل بعد يوشع، فكان كالب بن توفيل [2] ، ثم حزقيل الذي يقال له: ابن العجوز- وكانت لهما أخبار مشهورة تركنا ذكرها لأنها معجزات لا تستفاد منها تجربة [3]- وحزقيل هو صاحب القوم «الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم» [4] لأنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا من بلاء كان أصابهم: إمّا طاعون، أو ما أشبهه، فخرجوا   [1] . مط والطبري: تطرّق: ابتغى إليه طريقا. تطرّف الشيء: أخذ من أطرافه. [2] . مط: يوفنا. [3] . أنظر الطبري 2: 535. [4] . س 2 البقرة: 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فرارا من ذلك. ثم إلياس، ثم اليسع، ثم إيلاف. وفي خلال هؤلاء، كان يتملّك عليهم قوم من الكنعانيين وغيرهم، فيسومونهم البلايا والعظائم، وليس في ذكرهم فائدة. إلى أن جاءهم شمويل النبىّ. وكان من خبره مع جالوت وطالوت ما ذكره الله تعالى. وملك داود [1] لما كان منه من مبارزة جالوت. والخبر [32] مشهور مقرون بمعجزة الأنبياء. ثم ملك سليمان، وأخباره ومعجزاته مذكورة. كيقابوس وما جرى على ابنه سياوخش ثم ملك بعد كيقباذ، كيقابوس [2] بن كيبنة [3] بن كيقباذ الملك. فشدّد على أعدائه وقتل خلقا من عظماء البلاد، ممن كان ينكر أمرهم وسكن بلخ. وولد له ابن لم ير مثله في عصره جمالا وتمام خلقة، وسمّاه سياوخش، [4] وضمّه إلى رستم [5] الشديد بن دستان من ولد كرساسف الذي ذكرناه قبيل، وكان إصبهبذ سجستان وما يليه من قبله، وأمره بتربيته وأوصاه به. فأخذه رستم، ومضى به إلى سجستان وتخيّر له الحواضن والمرضعات، حتى أدرك [6] ، فجمع له المعلّمين، وأدّبه، ثم علّمه الفروسة [7] ، حتى فاق فيها، وقدم على والده رجلا كاملا،   [1] . سقط من مط: داود. [2] . البيروني ص 107 وحمزة ص 30: كيكاوس. بالفهلوية) KaiKayus:ف) . في الأفستا Kaviusan:الملك الثاني من الأسرة الكيية. [3] . مط: كييه. في الطبري وحواشيه: كسه (مهملة) ، كتيبه!، كييه، كيبيه، وتصحيفات أخرى (2: 597) . أصله حسب الروايات الايرانية القديمة: أئى پيفنگهو) Aipivanghu فم 6: 1641 «كيكاوس» ) ، والشبه ظاهر بين الأصل وصورة التعريب خاصة إذا أدخلنا عليه.Kavi: [4] . بالأفستائية.Syavarshan:بالفهلوية) Siavaxsh:ف) . [5] . بالأفستائية.Rosataxm (-Ltahm) :بالفهلوية.Rostahm: [6] . أدرك الصبىّ: بلغ الحلم. [7] . مط: الفروسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فامتحنه كيقابوس والده، فوجده كاملا نافذا [1] بارعا. وكان لكيقابوس زوجة بارعة الجمال، يقال: إنّها بنت [33] فراسياب ملك الترك، ويقال: إنّها بنت ملك اليمن. فهويت سياوخش، وهويها. والفرس تحكى أمورا طويلة، وتزعم أنّها كانت ساحرة، وأنّها سحرته، إلّا أن آخر أمرها آل إلى أن علم كيقابوس بما يجرى بينهما. فكان من عاقبة ميلهما إلى الهوى، وظنّهما أنّ ذلك ينكتم، أن تغيّر كيقابوس لابنه سياوخش، وأشفق سياوخش على نفسه. فسأل رستم أن يسأل أباه توجيهه لحرب فراسياب. وكان قد تجدّدت وحشة بين كيقابوس وفراسياب. وأراد سياوخش بذلك البعد من والده، والتنحّى عما تكيده به امرأة أبيه [2] . ففعل ذلك رستم وخاطب أباه فيه، واستأذن له في جند يضمّهم إليه. فأذن له، وضمّ إليه جندا كثيفا وأشخص [3] سياوخش إلى بلاد الترك. فلما التقى سياوخش وفراسياب، جرى بينهما صلح. وكتب بذلك سياوخش إلى أبيه يعلمه ما جرى بينه وبين [34] فراسياب. فكتب إليه أبوه بإنكار ذلك، وأمره بمناهضته ومناجزته الحرب. فرأى سياوخش أنّ في فعله ما كتب به أبوه من محاربة فراسياب- بعد الذي جرى بينهما من الصلح والهدنة، من غير نقض [4] فراسياب شيئا من أسباب ذلك- عارا ومنقصة. فامتنع من إنفاذ أمر أبيه في ذلك. ورأى أنّه يؤتى في كلّ ذلك من زوجة أبيه [5] . فمال إلى الهرب من أبيه، فراسل فراسياب في أخذ الأمان لنفسه منه، واللحاق به وفراق والده، فأجابه فراسياب إلى ذلك. وكان السفير بينهما رجلا من   [1] . مط: ناقدا. [2] . في الطبري: كان يقال لها سودابه. [3] . أشخص فلانا إليه: بعث به إليه. [4] . «الذي ... نقض» : سقطت من مط. [5] . الطبري: من زوجة أبيه التي دعته إلى نفسها، فامتنع عليها (2: 529) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 عظماء الترك يقال له: فيران [1] . فلمّا فعل ذلك سياوخش، انصرف عنه من كان [2] معه من جند أبيه، إلى أبيه. وأكرم فراسياب سياوخش، وزوّجه ابنة له، وهي أمّ كيخسرو، ولم يزل على إكرامه [3] ، إلى أن ظهر له من أدب سياوخش وإربه [4] وكماله، ونجدته ما أشفق منه، وضرّب [5] بينهما أخ كان [35] لفراسياب وابنان له حذرا على ملكهم. وله خبر طويل في ذلك، إلى أن قتل وامرأة سياوخش- وهي ابنة فراسياب- حامل منه، بابنه كيخسرو. فطلبوا له الحيلة، لاسقاطها ما [6] في بطنها، فلم تسقط. ثم إن فيران الذي توسّط الصلح بين سياوخش وبين فراسياب، أنكر ما جرى من فعل فراسياب، وحذّره عاقبة الغدر والطلب بالثأر، وأشار عليه أن يدفع ابنته إليه، يعنى: زوجة سياوخش، لتكون عنده إلى أن تضع، ثم إن أراد قتله قتله [7] . ففعل فراسياب ذلك. فلما وضعت، امتنع فيران من قتل الولد، وستر أمره حتى بلغ المولود، وهو كيخسرو. ويحكى: أن كيقابوس بعث بيب [8] بن جوذرز إلى بلاد الترك، وأمره بالبحث عن أمر المولود الذي لسياوخش، والتأتّى لإخراجه مع أمّه. ففعل بيب ذلك، وبقي زمانا طويلا يبحث عن أمره، إلى أن وقف على خبره. فاحتال [36] فيه وفي أمّه، حتى أخرجهما من أرض الترك. فاستقبلهما رستم الشديد في جند عظيم من أولى البأس والنجدة، وطلب الترك أثر كيخسرو، فجرت بينهم وبين رستم حروب ظفر فيها رستم.   [1] . بالفارسية: پيران. [2] . «كان ... سياوخش» : سقطت من مط. [3] . مط: الكرامة. [4] . الإرب: الدّهاء والفطنة. [5] . ضرّب بين القوم: سعى، أغرى بعضهم ببعض. [6] . في الأصل: وما. [7] . قتله: سقطت من مط. [8] . الطبري: بىّ بن جوذرز. حمزة: ويو بن جوذرز. بالفهلوية.ViviGutarzan:شا: گيو. (Giv) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فللفرس هاهنا خرافات، وتزعم أنّ الشياطين كانت مسخّرة لكيقابوس. وقوم يزعمون أنّ سليمان بن داود- عليهما السلام- أمرهم بذلك، في خرافات كثيرة ظاهرة الإحالة، من الصعود إلى السماء، وبناء مدينة كنكرز [1] بأسوار ذهب وفضّة وحديد ونحاس، وأنّها بين السماء والأرض، وأشباه ذلك مما لا فائدة في ذكره. إلّا أنّ جملة أمره، أنّه تجبّر لما تمّ له أكثر ما كان يقصده. وسار من خراسان حتى نزل بابل، وترك ما كان يسوسه بنفسه، ويباشره برأيه. وأوحش الناس بالحجّاب والتعظّم، وآثر الخلوة. فكان من عاقبة ذلك أن فسد عليه ملكه، وكثرت الملوك في النواحي، حتى كان يغزوهم بعد ذلك ويغزونه، [37] فيظفر مرّة وينكب أخرى، إلى أن غزا بلاد اليمن والملك يومئذ بها ذو الأذعار بن أبرهة بن ذى المنار بن الرايش. فلمّا أظلّه [2] كيقابوس، خرج إليه ذو الأذعار في جموع حمير وولد قحطان، فظفر بكيقابوس، وأسره واستباح عسكره، وحبسه في بئر وأطبق عليها طبقا. فخرج من سجستان رستم الشديد في من أطاعه من الناس. وأمّا الفرس فتحكى حكايات لا فائدة فيها عن شدّة رستم وبأسه، وأنّه وغل في البلاد بلاد اليمن، واستخرج كيقابوس من محبسه [3] . وأما اليمن فتزعم أنّه لم يكن من ذلك شيء، وأنّ ذا الأذعار لمّا بلغه إقبال رستم، خرج إليه في جنود عظيمة، وخندق   [1] . مط: كندر. الطبري: كيكدر، قيقدور (2: 602) . الثعالبي. كنك دز. التصحيفات والمترادفات كما وردت في الأصول هي: كنكرز، كنگ دز، گنگ دز، گنگ دژ، گنگ ديز، گندز، بهشت گنگ، گنگبهشت، گنگ دژهوخت (هخت، هوخ) ، دژهوخت: مدينة في الجبال الحدودية الشرقية لإيران القديمة (المصادر الفهلوية) ، أو: في ما وراء بحر فراخكرت (بندهش) ، أو: في أرض الترك (شا) ، أو: هي قهندز بخارا (تاريخ بخارا) ، أو: مدينة في ما وراء بحر «فوروكش» ، أو: هي بيت المقدس (فهرست شا) . أو اسم لقلعة بناها الضحّاك في بابل (بق) . انظر أيضا: حب، لد، كيا: 123. [2] . أظلّ فلانا: دنا منه، وأقبل عليه. [3] . مط: من جبسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 كل واحد منهما على نفسه وعسكره، وأنّهما أشفقا من البوار على جنديهما، وتخوّفا- إن تزاحما- أن لا يكون لهما بقيّة. فاصطلحا على دفع كيقابوس إلى رستم ووضع [38] الحرب. فانصرف رستم بكيقابوس إلى بابل، فكتب له كيقابوس كتابا بالعتق، وأقطعه [1] سجستان وزابلستان. وكانت [2] الكتب يومئذ والرسائل يسيرة نزرة الكلام، لا يذكر فيها الأسباب والعلل. ونسخة الكتاب: «من كيقابوس بن كيقباذ، إلى رستم. إنّى قد أعتقتك من العبودة، وملّكتك على بلاد سجستان. فلا تقرّنّ لأحد بعبودة. واملك سجستان كما أمرتك، واجلس على سرير من فضّة مموّهة بالذهب. والبس قلنسوة منسوجة بالذهب متوّجة [3] » . ومما يدلّ على صدق ما حكيناه من أمر كيقابوس، قول الحسن بن هاني: وقاظ [4] قابوس في سلاسلنا ... سنين سبعا وفت [5] لحاسبها ثم ملك كيخسرو [6] بن سياوخش [7] بن كيقابوس فعقد التاج على رأسه، وخطب رعيّته خطبة بليغة، أعلمهم فيها أنّه على الطلب بدم أبيه سياوخش قبل فراسياب. ثم كتب إلى [39] جوذرز بإصبهان وكان   [1] . الإقطاع يكون تمليكا وغير تمليك (لع) . [2] . مط: كاتب. [3] . مط: مموهة. [4] . قاظ بالمكان: أقام فيه في زمن القيظ أى الحرّ. [5] . وفت: تمّت. [6] . بالفهلوية) KaiHusrave:حب) . [7] . سياوش. بالفهلوية.Siavaxsh: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 إصفهبذه [1] على خراسان، يأمره بالمصير إليه، وأمره أن يعرض جنده وأن [ينتخب] [2] ثلاثين ألف رجل، وضمّهم إلى طوس، [3] وكان في من أشخص معه برزافره [4] عمّ كيخسرو، وابن لجوذرز، وجماعة من إخوته. وتقدّم [5] كيخسرو إلى طوس أن يكون قصده لفراسياب وطراخنته [6] ، وحذّره من ناحية ببلاد الترك فيها أخ له يقال له: فروذ بن سياوخش، من بعض نساء الأتراك، كان سياوخش تزوّجها أيام صار إلى فراسياب، فولدت له فروذ، وأقام بموضعه إلى أن شبّ. فكان من غلط طوس أن خالف كيخسرو، وذاك أنّه لمّا صار بالقرب من المدينة التي فيها فروذ، هاجت الحرب، وقتل فروذ. واتصل خبره بكيخسرو. فكتب إلى برزافره عمّه كتابا غليظا يعلمه فيه ما ورد عليه من خبر طوس، ومحاربته فروذ، وقتله إيّاه. وأمره بتوجيه طوس إليه مقيّدا مغلولا. وتقدّم إليه في القيام بالعسكر، [40] والتوجه إليه لوجهه [7] . ففعل برزافره ذلك، وتولّى أمر العسكر، وعبر النهر المعروف ب «كاسرود» [8] ، وانتهى خبره إلى فراسياب. فوجّه إلى برزافره جماعة من إخوته وطراخنته لمحاربته. فالتقوا وفيهم فيران واخوته. فاقتتلوا قتالا شديدا، وظهر من برزافره في ذلك اليوم فشل لما اشتدّ الحرب، وكثر القتلى، فهرب وانحاز بالعلم إلى رؤوس الجبال، واضطرب على ولد جوذرز أمرهم، فقتل منهم في تلك الملحمة، في وقعة واحدة، سبعون رجلا، وقتل بشر   [1] . الإصفهبذ: لقب لملوك، جبال طبرستان (البيروني: 109) . [2] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه من مط. [3] . قال نولدكه: طوس (توس) إن كان اسم شخص فأصله،Tus:وإن كان اسم مكان فأصله.Tos:ثم حصل الخلط بينهما في الكتابة، وهذا أدّى إلى وحدة التلفّظ بينهما، فقيل لكليهما) Tus:يد) . [4] . شا: فريبرز. [5] . تقدم إلى فلان بكذا: أمره به، أو طلبه منه. [6] . الطراخنة: جمع مفرده طرخان (ترخان) : ملك الترك (لف) ، اسم عام لأمراء سمرقند (لد) . يقال لملوك سمرقند: طرخون (البيروني 1011) . [7] . مط: التوجه لوجهه. [8] . شا: كاسه رود. اسم قديم لنهر يسمى: «چرم» ، أو: «لائين» (حب 5: 255) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كثير. وانصرف برزافره ومن أفلت معه إلى كيخسرو. فرئيت الكآبة في وجهه، وامتنع من الطعام والشراب، إلى أن مضت أيام. ثم راسل جوذرز. ولمّا دخل عليه شكا إليه برزافره، وأعلمه أنّه كان سبب الهزيمة بالعلم وخذلانه ولده. فقال كيخسرو: - «إنّ حقّك لازم لنا لخدمتك أبانا [1] ، وهذه جنودنا وخزائننا [2] مبذولة لك. فاطلب ترتك [3] ، واستعدّ [41] وتهيّأ للتوجّه إلى فراسياب. فنهض جوذرز، فقبّل يده وقال: - «أيها الملك، نحن رعيّتك وعبيدك. فإن كانت آفة، أو نازلة، فلتكن بالعبيد، دون الملوك. وأولادى المقتولون فداؤك، ونحن من وراء الانتقام من فراسياب والاشتفاء من الترك.» وكتب كيخسرو إلى رؤساء أجناده ووجوه عسكره يأمرهم بموافاته في صحراء تعرف بشاه اسطون [4] من كورة بلخ، في وقت وقّته لهم. فوافت رؤساء الأجناد في ذلك اليوم، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذيه وأصحابهم وفيهم برزافره عمه، وجوذرز وبقية ولده. فتولى كيخسرو بنفسه عرض الجند، حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم. ثم دعا بجوذرز وثلاثة نفر معه، فأعلمهم أنه يريد إدخال العساكر على الترك من أربعة وجوه، حتى يحيطوا بهم برّا وبحرا، وقوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز وجماعة من الإصهبذين [42] كثيرة. ودفع إليه يومئذ العلم الأكبر الذي يسمونه: درفش كابيان، ولم يكن يدفع قبل ذلك إلى أحد من القواد، وإنّما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك [5] ، وأمر أحد   [1] . مط: إيانا. [2] . مط: وخزانتنا. [3] . الترة: الثأر. [4] . شاهستون: كانت ناحية من أعمال بلخ (لد) . [5] . وانما ... الملوك: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 القواد [1] بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كبيرة، وأمر آخر بالدخول من ناحية الخزر، وضمّ إلى آخر ثلاثين ألف رجل وأمرهم بالدخول من طريق بين [2] جوذرز، وبين الذي دخل من طريق الصين. ودخل جوذرز من ناحية خراسان، وبدأ بفيران. فالتحمت بينهما حرب مذكورة، تحكى فيها الفرس عجائب، بارز فيها بيزن [3] بن بيب خمان وهو أخو فيران، فقتله مبارزة وقتل جوذرز فيران مبارزة أيضا. وقصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر من كل وجه، واتّبع القوم كيخسرو بنفسه، وجعل قصده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه. فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن [4] [43] في القتل. وقتل فيران إصهبذ فراسياب والمرشّح للملك بعده، وجماعة كبيرة من إخوته وأولاده، وأسر بروين [5] قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى وما غنم من الكراع [6] والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفا ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفا وستين ألفا على ما تزعم الفرس، وحاز من الكراع والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه، أن يجعل أسيره أو قتيله عند علمه، لينظر إليه كيخسرو عند موافاته. فلمّا وافى كيخسرو العسكر موضع الملحمة، اصطفّت الرجال له وتلقاه جوذرز. فلمّا دخل العسكر، جعل يمرّ بعلم علم. فكان أول قتيل رآه جثّة فيران. فنظر إليه، وخاطبه بما يجرى مجرى الاشتفاء، ولم يزل يفعل ذلك حتى وقف على علم بيب بن جوذرز، ووجد تحته بروين حيّا أسيرا، فسأل [44] عنه، فأخبر   [1] . مط: «وأمره» بدل «وأمر أحد القوّاد» . [2] . مط: بنى جوذرز. [3] . بيژن، ويژن، ويجن. الطبري: بيزن بن بىّ خمان (2: 610) . مط: بيزن بن كيب خمان. [4] . أثخن في الأمر: بالغ فيه. [5] . مط: روبن. الطبري: بروا بن فشنجان (2: 611) . [6] . الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 أنه قاتل سياوخش الذي مثل به بعد قتله. فقرب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسه بالسجود، ثم قال: «الحمد لله الذي أمكننى منك.» ووبّخه طويلا. ثم أمر بقطع أعضائه حيّا. فلمّا لم يبق له طابق [1] ذبحه. ثم استقرّ في مضربه، وأجلس عمّه عن يمينه، ودعا بجوذرز [2] ، فأحسن صلته ومخاطبته، وحمد ما كان منه، وفوّض إليه الوزارة التي يقال لها: بزرج فرمذار [3] ، وهو مرتبة الوزارة، وجعل إليه مع ذلك إصبهان وجرجان، وفعل مثل ذلك من الحباء [4] والكرامة بكلّ من أبلى [5] من قوّاده ورجاله. ثم أتته الأخبار من الوجوه الثلاثة الأخر: أنّهم قد أحاطوا بفراسياب. وبرز فراسياب، وما كان بقي من ولده إلّا شيذه، [6] فتوجه نحو كيخسرو بعدّة وعتاد. فيقال: إنّ كيخسرو أشفق يومئذ، وهابه، وظنّ أن لا طاقة له به، وإنّ القتال بقي متّصلا [45] بينهما أربعة أيام، إلى أن انهزم شيذه واتّبعه كيخسرو، فلحقه وضربه بالعمود على رأسه فخرّ ميّتا، وغنم كيخسرو ماله. وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل في جمع عظيم. فلمّا التقى مع كيخسرو، نشبت بينهما حرب يقال: إنّه لم ير مثلها قطّ على وجه الأرض، حتى اختلط رجال إيرانشهر برجال الترك. ثم انهزم فراسياب وكثر القتل. فتزعم الفرس أنّه بلغ عدد القتلى أمرا عظيما، لم أستحسن ذكره لكثرته. وجدّ كيخسرو في طلبه، حتى لحقه بآذربيجان، فظفر به واستوثق منه بالحديد. ثم وبّخه، وسأله عن سبب قتله سياوخش. فلم تكن [7] له حجّة، فذبحه كما ذبح سياوخش. ثم انصرف غانما   [1] . الطابق والطابق: العضو، كاليد والرجل. [2] . مط: ودعا بحق جوذرز. [3] . بالفارسية: بزرگ فرماندار: الوزير الأعظم (لد) . بالفهلوية) Va zurgFarmatar:ف) . [4] . في الأصل: الحبا. مط: الحبى، الحباء: العطاء. [5] . أبلى في الأمر: اجتهد فيه وبالغ. [6] . الطبري: شيده (2: 615) . [7] . فلم تكن ... ذبح: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 مسرورا. وكان لفراسياب أخ يقال له: كي شواسف [1] ، صار إلى بلاد الترك بعد أخيه، وكان له ابن يقال له: خرزاسف [2] ، فملك البلاد بعد أبيه كي شواسف، وهو ابن أخى فراسياب الذي حارب منوشهر. ولما فرغ كيخسرو [46] من المطالبة بوتره [3] ، واستقرّ في ملكه، زهد في الملك، وتنسّك وأعلم الوجوه من أهل بيته ومملكته، أنّه على التخلّى. فاشتدّ جزعهم، وتضرّعوا إليه، وراودوه [4] على المقام على تدبير ملكهم. فأبى عليهم، ولما يئسوا، قالوا: - «فإذا قمت [5] على ما أنت عليه، فسمّ من يقوم به.» وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنّه خاصّته ووصيّه. فقبل لهراسف الوصية، وأقبل الناس عليه، وفقد كيخسرو. فبعض الناس يقول: إنّه غاب للتنسك، ولا يدرى أين مات. وبعضهم يقول غير ذلك. وكان ملكه ستين سنة. ثم ملك بعده لهراسب [6] . لهراسب وما كان من أمر بختنصّر ويقال: إنّه ابن أخى كيقابوس. واتّخذ سريرا من ذهب مكلّلا بالجوهر، للجلوس عليه. وبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ [7] وسمّاها: الحسناء. وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود لنفسه [47] وعمر الأرض.   [1] . مط والطبري: كي شراسف (2: 617) . [2] . في الطبري أيضا: خرزاسف. بالفارسية: أرجاسپ. بالفهلوية LArjasp:أو.Archa sp:بالأفستائية: Arjataspaأى: مالك الأفراس الثمينة (حص: 626، يد 1: 285) . [3] . الوتر والوتر: الذحل، الثأر، الانتقام. [4] . راوده على الأمر: طلب منه فعله. [5] . قام على الأمر: دام وثبت. مط: ماذا أقمت عليهم. [6] . بالفهلوية.Luhrasp: [7] . بالفهلوية) Baxl:ف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وذلك أنّ الأتراك اشتدت شوكتهم في زمانه، فجعل منزله بلخ ليقاتل [1] الأتراك. ووجّه بختنصّر [2] إصبهبدا لما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة. ويقال: إن اسمه بالفارسية: بخت نرسى. فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها. ووجّه قائدا له، فأتى بيت المقدس، فصالح ملك بنى إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم، فقتلوه وقالوا: - «داهنت [3] أهل بابل وخذلتنا» ، واستعدّوا للقتال. فكان من عاقبة جنايتهم [4] على ملكهم أن كتب قائد بختنصّر إليه بما كان. فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، وسار بختنصّر، حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وهرب الباقون إلى مصر. فكتب بختنصّر إلى ملك مصر: [48]- «إنّ عبيدا لى هربوا منّى إليك. فسرّحهم [5] إلىّ، وإلّا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل.» فكتب إليه ملك مصر: - «ما هم عبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار.» فغزاه بختنصّر، فقتله، وسبى أهل مصر. ثم انصرف بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن فيهم دانيال النبىّ وغيره من أبناء الأنبياء، وخرب بيت المقدس   [1] . مط: ليقابل. [2] . الطبري: اسمه بالفارسية: بخترشه، بخت نرسه، بخت سه (2: 645) بالبابلية Nabukadurri usur:أى: نبو يحرس التاج (حب) بنوخذ نصر، بنوخذ راصر (المفصل 1: 350) . [3] . الطبري: راهنت (2: 246) . [4] . مط: خيانتهم. [5] . فسرحهم ... مصر: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 منذ ذاك. وكان لهراسف بعيد الهمّة، طويل الفكر، شديد القمع للملوك المحيطة بإيرانشهر. وكانت ملوك الروم والمغرب والهند يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة [1] معلومة، ويقرّون له أنّه ملك الملوك هيبة له. وكان بختنصّر حمل إليه من بيت المقدس خزائن وأموالا عظيمة. ثم كبرت سنّه، وأحسّ بالضعف. فملّك ابنه بشتاسف [2] ، واعتزل الملك، وكان عمره وملكه فيما ذكر مائة وعشرين سنة. [49] وقد قيل: إنّ بختنصّر كان في خدمة لهراسف، وتوجّه من قبله إلى الشام وبيت المقدس، ليجلى اليهود عنها، ففعل، ثم انصرف. ثم كان في خدمة ابنه بشتاسف، ثم في خدمة ابنه بهمن، وإنّ بهمن أقام ببلخ التي كانت تسمى: الحسناء، وأنفذ بختنصّر إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود، وإنّ السبب في ذلك كان وثوب صاحب بيت المقدس على رسل بهمن وقتله بعضهم. فمضى بختنصّر، فسبى وهدم بيت المقدس. وانصرف إلى بابل، وملّك «متنيا» [3] وسمّاه: «صدقيا» [4] . فلمّا صار بختنصّر ببابل، خالفه صدقيا. فغزاه بختنصّر ثانيا، وظفر به. فأخرب المدينة والهيكل وأوثق صدقيا وحمله إلى بابل، بعد أن ذبح ولده وسمل عينيه، فمكث بنو إسرائيل ببابل، إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس. فكانت غلبة بختنصّر- وهو بخت نرسى- إلى أن مات، في هذا القول الذي حكيناه آنفا، أربعين سنة. ثم قام بعده ابن له يقال له: نمروذ، [50] ثم ابن له يقال له: بلتنصّر [5] ، فخلّط،   [1] . الإتاوة: الجزية، الخراج، ما يؤخذ كرها. [2] . الطبري: بشتاسب (2: 647) گشتاسپ، ويشتاسب. بالفهلوية) Vishtasp:ف) . [3] . الأصل غير واضح. مط: سيبا وما أثبتناه من الطبري المطابق لقاموس الكتاب المقدس. في حواشي الطبري: شيبا، منيثا، مثينا (2: 642، لد) . [4] . مط: صندقيا. الطبري صديقيا، صيدقيا (2: 643) . [5] . في الأصول الأخرى: بلتشر، بلطشاصر Belsharrasur،بن) Besazar المفصل 1: 611) . جاء في الطبري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ولم يرتض بهمن أمره، فعزله، وملّك مكانه: كيرش [1] وتقدّم إليه بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبّوا، والرجوع إلى أرضهم وأن يولّى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي- عليه السلام- فولّا أمرهم. وكان ملك كيرش ومدة سنيه معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصّر ومبلغها سبعون سنة. ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن [2] رجل من قرابته يقال له: اخشوارس [3] إبن كيرش بن جاماسب الملقّب ب «العالم» ، وولد لإخشوارس ولد من امرأة من سبى بنى إسرائيل يقال لها: أشير [4] ، صنعا من الله لبنى إسرائيل ، فسمّاه: كيرش فملك بعد أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وعلّمه خاله التوراة، وفهم أمر دانيال   [ () ] (2: 652) : «فلما ملك بلتشر خلط في أمره، فعزله بهمن وملّك مكانه على بابل وما يتصل بها من الشام وغيرها داريوش الماذوى ... حين صار إلى المشرق، فقتل بلتشر وملك بابل وناحية الشام ثلاث سنين، ثم عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمى ... » . [1] . بالفارسية القديمة: كوروش، كورو. بالعيلامية.Ku -rash:بالبابلية.LKu -ra -ash:بالروميةپ) Cyrus اب (LKent،فترة الحكم: 559- 529 ق م (فم) . [2] . بالفهلوية) LVahman:ف) . [3] . اخشوارش، اخشويرش خشايارشاه. وفي النقش الخاص به.Xashi -arsha: [4] . الطبري: اشتر (2: 653) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومن كان معه: مثل حننيا، وعازريا، وعزير [1] . وتأدّب وعلم العلوم. وسأله [51] بنو إسرائيل أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال: «لو كان معى منكم ألف نبىّ، ما فارقنى [ما فارقنى] [2] ما دمت حيّا» . وولّى دانيال القضاء، وأمره ان يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصّر أخذه من بيت المقدس، فبنى وعمر في أيام كيرش، ومات بهمن لثلاث عشرة سنة خلت من قيام كيرش ببابل. وقد حكى أهل التوراة في أمر بختنصّر أقوالا مختلفة تركنا ذكرها. إلّا أنهم ذكروا أن بختنصّر لما خرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس. فقذفوا فيه من التراب ما ملأه. ولما انصرف إلى بابل، اجتمع معه سبايا بنى إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم. فاجتمع عنده الكلّ، فاختار منهم سبعين ألف صبىّ. فلمّا خرجت غنائم جنده، سألوه أن يقسم فيهم الصبيان. فقسم في الملوك [52] منهم، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة. فكان من أولئك الغلمة: دانيال النبىّ، وحننيا، وميشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط آسر بن [3] يعقوب، وعلى ذلك سائر أولاد يعقوب الأسباط. ثم غزا بختنصّر العرب. وذلك في زمن معدّ بن عدنان. فوثب على كلّ من كان في بلاده من تجّار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات، ويمتارون [4] من عندهم الحبّ والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، وبنى لهم حيرا [5]   [1] . مط: حنينا، وعادنيا، وغرير. الطبري: حننينا وميشايل وعازريا (2: 654) . [2] . التكملة من الطبري (2: 654) . مط: كالأصل. [3] . الطبري: أشر، أشير (1: 355، 357) . [4] . امتار لنفسه أو أهله: جمع الميرة. والميرة: الطعام ونحوه يجمع للسفر ونحوه. [5] . الحير: شبه الحظيرة أو الحمى. مدينة على الفرات غربي بغداد، كانت الفرس تسميها: فيروز سابور، أول من عمرها سابور ذو الأكتاف (يا) . بالفارسية: فيروز شاپور، باليونانية) LPerisab or:لج: 72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 على النجف، وحصّنه، وضمّهم فيه، ووكّل بهم حرسا. ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهّبوا لذلك، وانتشر الخبر في من يليهم من العرب، فخرجت إليهم طوائف منهم مسالمين فأحسن إليهم، وأنزلهم بختنصّر شاطئ الفرات، فابتنوا موضع معسكرهم، وسمّوه: «الأنبار» وخلّى عن أهل الحيرة، فاتّخذوها منزلا مدّة حياة بختنصّر. فلمّا مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابا. [53] وملك كي بشتاسف بن كي لهراسف فبنى مدينة فسّا، وهو أول من عرف بسط دواوين الكتّاب، لا سيّما ديوان الرسائل، وأمر الكتّاب أن يطيلوا كتب الرسائل، ويذكروا فيها الأسباب والعلل. وكان له ديوانان: أحدهما ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات. فكان كلّ ما يرد، فإلى ديوان الخراج، وكل ما يخرج من جيش وغيره، فإلى ديوان النفقات. وكان من رسم الوزير- واسمه: «برزج فرمذار» [1]- أن يكون له خليفة يسمى: «إيرانمارغر» [2] ، يصل إلى الملك، ويعرض عليه وينوب عن الوزير. فأمّا المتقلّد لديوان الرسائل فيسمّى: «دبيرفذ» [3] ، وكان له كاتب موكّل بدار المملكة، فان وقع على أحد تقصير في منزلة، أو حطّ في درجة، رجع إلى ذلك الكاتب حتى يبيّن حال مرتبته، فيجري عليه رسمه. ظهور زردشت وظهر في أيامه زردشت [4] ، وأراده على قبول دينه، فامتنع من [54] ذلك، ثم   [1] . مط: برزج فريدار. [2] . مط: ابدا مارعن! بالفهلوية:Eran -amargar:المحاسب، أو المحصى لإيران (حب) . [3] . دبيربد. بالفهلوية) Dipir -pat:حب) . [4] . الطبري: زرادشت بن اسفيان (2: 675) . بالأفستائية:Zarathushtra:صاحب البعران الصفراء. اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 صدّقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به، من كتاب يكتب في جلد اثنى [1] عشر ألف بقرة، حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب. وصيّر بشتاسف ذلك بإصطخر ووكّل به الهرابذة [2] ، ومنع تعليمه العامة، وبنى ببلاد الهند بيوتا للنيران، وتنسّك واشتغل بالعبادة. وهادن خرزاسف بن كي سواسف ابن أخى فراسياب وملك الترك على ضرب من الصلح. وفي شريطة الصلح أن يكون [بباب] [3] خرزاسف دابّة موقوفة في منزلة الدواب التي تكون على أبواب الملوك، فأشار زردشت على بشتاسف، بنقض الهدنة [4] ، ومفاسدة ملك الترك. فقبل منه، وبعث إلى الدابّة، والموكّل بها، أن ينصرف، وأظهر الغدر. فغضب خرزاسف، وكتب إليه كتابا غليظا، وأمره بتوجيه زردشت إليه، وأقسم- إن امتنع- أن يغزوه حتى يسفك دمه ودماء أهل بيته. فلما ورد الرسول بالكتاب، كتب كتابا أغلظ منه [55] جوابا عن كتابه، وآذنه   [ () ] أسرته) .LSpitama حب) بالفهلوية) aratushtSpitaman:ف) . حول مكان الولادة، قيل: الري، وفي الأغلب يقال: الشمال الشرقي لإيران. زمان الولادة: هناك اختلاف أيضا. دأب أتباعه وأغلب المستشرقين على تحديده بحوالى عام 600 ق. م. قتل زرداشت في الحملة الثانية التي شنها أرجاسب التركي على ايران (حب) . [1] . في الأصل: اثنتي. وهو خطأ. في الطبري: في موضع من إصطخر يقال له: دربيشت (2: 676) . إنّ كور فارس خمسة، أكبرها وأصلها كورة إصطخر (مع) . [2] . جمع هربذ هيربد. بالأفستائية:Aethrapaiti:المعلم (الجزء الأول بمعنى التعليم، والجزء الثاني لاحقة تفيد معنى الاتصاف والملكية.) واستعمل بمعنى التلميذ أيضا، ثم استعمل بمعنى موبد، ثم بمعنى رجل الدين على الإطلاق (كسا: 417) ، وبمعنى عميد الجامعة (دات: 92) . بالفهلوية،LEhrpat:وفي النقوش LHerpat:أنظر أيضا (حب) . [3] . في الأصل ومط: ببلاد. في الطبري: أن يكون لبشتاسف «بباب» خرزاسف دابة موقوفة بمنزلة الدواب التي «تنوب» [وفي نسخة «تكون» ] على أبواب الملوك (2: 676) . [4] . الهدنة: المصالحة بعد الحرب، أو فترة تعقب الحرب يتهيأ فيها العدوان للصلح، ولها شروط خاصة (مر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بالحرب، وأعلمه أنّه غير ممسك [عنه] [1] إن أمسك، فسار بعضهما إلى بعض، ومع كلّ واحد منهما إخوته وأهل بيته. فقتل بينهما خلق كثير، وأحسن الغناء [2] ابن بشتاسف إسفنديار، وقتل بيدرفش الساحر [3] بيده مبارزة. فصارت الدبرة [4] على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا على وجهه، ورجع بشتاسف إلى بلخ. فلمّا مضت لتلك الحرب سنون، سعى على إسفنديار رجل يقال له: فرّوخ، [5] فأفسد قلب بشتاسف عليه. وذاك أنه أعلمه: أنه ينتدب [6] للملك، ويزعم أنه أحقّ به، وأن الناس مائلون إليه. فصدّق بشتاسف بذلك، وترك الرفق ومعالجة الأمور على تؤدة، وأخذ في أن يندبه لحرب دون حرب [7] . فكان ينجح فيها كلّها، ثم أمر بتقييده، وصيّره في الحصن الذي فيه حبس النساء. وصار بشتاسف إلى جبل يقال له: «طميذر» [8] ، لدراسة دينه، والتنسك هناك، وخلّف أباه لهراسف [56] في مدينة بلخ شيخا هرما قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله على [9] امرأته. فكان من عاقبة ذلك، أن حملت الجواسيس خبره إلى خرزاسف، فجمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ. فلما انتهى إلى تخوم [10] ملك   [1] . عنه: تكملة من الطبري (2: 677) . [2] . مط: وأحسن الفناء. في الطبري: وأحسن الغناء عنه ابنه إسفنديار (2: 677) . بالفهلوية: بن) Spendat Espandyaz يد 2: 288) . [3] . بالفهلوية) Vedaratsh:ياز) . كان بيدرفش بطل جيش أرجاسب ملك الترك. في الطبري: بيدرفش الساحر (3: 677) بيدرفش جادو (حب، لد) . [4] . الدبرة: الهزيمة في القتال. [5] . بالفهلوية:Farraxv:المشع، الجميل (حب) . [6] . ينتدب: يسرع، يجيب الدعوة إلى الأمر. [7] . كذا في الأصل ومط: لحرب دون حرب. وفي الطبري: لحرب بعد حرب (2: 677) . [8] . طميذر، طميدر: جبل حصين في بلخ (لد) . [9] . في الطبري: مع امرأته. [10] . التخوم: جمع مفرده تخم وتخم: الحد الفاصل بين أرضين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فارس، قدّم أمامه جوهرمز [1] أخاه- وكان مرشّحا للملك- في جماعة من المقاتلة كثيرة، وأمرهم أن يغذّوا [2] السير، حتى يتوسطوا المملكة، ثم يوقعوا [3] بأهلها ويغيروا على المدن والقرى. ففعل جوهرمز ذلك، وسفك الدماء، واستباح الحرم، وسبى ما لا يحصى كثرة، واتبعه خرزاسف، فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين [4] لبشتاسف، وأخذ فيما أخذ «درفش كابيان» ، وشخص يتبع بشتاسف، فهرب منه بشتاسف، حتى تحصّن في الجبل الذي يعرف بطميذر مما يلي فارس، ونزل ببشتاسف ما ضاق به ذرعا [57] وندم على ما صنعه بإسفنديار. فيقال: إنه وجّه إليه بجاماسف [5] ، حتى استخرجه من محبسه، وصار به إلى أبيه. فلما دخل عليه، اعتذر إليه ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل به لهراسف، وقلّده عسكره، وأمره بمحاربة خرزاسف. فلما سمع إسفنديار كلام أبيه، طابت نفسه، وكفّر [6] بين يديه، وتولّى الأمر، وتقدم فيما احتاج إليه. ثم عبّى ليلته أصحابه، فلما أصبح، أمر بنفخ القرون، وسار بالجنود نحو عسكر الترك. فلما رأت الترك عسكره، خرجوا إليه على وجوههم يتسابقون وفي القوم جوهرمز وأندرمان [7] . فالتحمت الحرب بينهم، وانقضّ إسفنديار [و] [8] بيده   [1] . جوهرمز گوهرمزد: گو Lgaw ,gow البطل، أى: هرمزد البطل. في الثعالبي وترجمة زوتنبرغ: كهرم) LKohram ص 336) . [2] . أغذّ في السير: أسرع. [3] . أوقع بالأعداء: بالغ في قتالهم. [4] . وهما خمانى، وباذافره (الطبري 2: 678) هماى وبه آفريد (شا) . [5] . الطبري: جاماسب العالم (2: 681) . بالفهلوية.LJamasp: [6] . كفّر لسيده: انحنى ووضع يده على صدره وطأطأ رأسه تعظيما له. [7] . وندريمان، وندريمن. هو أخو جوهرمز وخرزاسف (الطبري 2: 671) . [8] . و: زدناها من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الرمح كالبرق، حتى خالط القوم، وأكبّ عليهم بالطعن. فلم تكن هنيهة حتى ثلم في القوم ثلمة عظيمة، وفشا في الترك: إسفنديار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع العلم الأكبر، [58] وحمل معه منشورا. فلمّا دخل على بشتاسف، استبشر بظفره، وأمر باتّباع القوم وقتل خرزاسف إن قدر عليه، بلهراسف، وبقتل جوهرمز وأندرمان، بمن قتل من ولده، وبهدم حصون الترك وبحرق مدنها وبقتل أهلها، بمن قتلوا من حملة الدين، وباستنقاذ السبايا، ووجّه معه من القواد والعظماء خلقا كثيرا. فدخل إسفنديار بلاد الترك، ورام ما لم يرمه أحد، واعترض- على ما تزعم الفرس- العنقاء المذكورة [1] ، ورماها، ودخل مدينة الصفر [2] عنوة، حتى قتل ملكها وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله، وسبى ذراريّه ونساءه واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه. ياسر أنعم فأمّا ملوك اليمن، فقد كتبناهم إلى عهد سليمان وأيّامه، ثمّ صار الملك إلى ياسر [3] بن عمرو الذي يقال له: ياسر أنعم، [4] لإنعامه على العرب. وكان سار غازيا نحو المغرب. حتى بلغ واديا يقال له: وادي الرمل، ولم يكن [59] بلغه أحد قبله، ولم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل. فبينا هو مقيم إذ انكشف الرمل. فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه. فعبروا، ولم يرجعوا. فأمر بصنم من نحاس،   [1] . انظر الثعالبي: 333. [2] . من أسماء مدينة بخارا (لد) . في الطبري: دز روئين، وتفسيرها بالعربية: الصفرية (2: 680) روئين دژ (حص) . [3] . مط: ياشر. [4] . مط: ناش نعم! هذه التصحيفات العجيبة نوردها بين حين وآخر للاشارة إلى ما لمخطوطة مط من قيمة سلبية، حتى تكون في حسبان القارئ عند مقارنته بينها وبين الأصل. في المفصل: ياسر يهنعم، ياسر ينعم، ياسر أنعم الحميري ملك سبأ (1: 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فصنع ثم نصب على صخرة عظيمة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند [1] : «هذا الصنم لياسر أنعم [2] الحميري، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلّفن ذلك أحد فيعطب.» تبّع ثم ملك بعد تبّع. وهو تبان [3] ، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن مليكيكرب، تبّع بن زيد بن عمرو بن تبّع ذى الاذعار بن أبرهة تبّع ذى المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ. وكان تبّع هذا في أيام بشتاسف و أردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف. خرج وغزا، وبلغ الأنبار، والموصل، ثم آذربيجان [4] ، ولقى بها الترك، فهزمهم، وقتل بها المقاتلة، وسبى الذريّة، فأقام بها دهرا، وهابته الملوك، وأهدت إليه، وقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والطرف من الحرير والمسك، [60] وسائر الطرف، فرأى ما لا يرى مثله. فقال: «ويحك! أكلّ هذا في بلادكم؟» فقال: أبيت اللعن [5] ، هذا أقلّ ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين.» ووصف له بلاد الصين، وسعتها وخصبها. فآلى ليغزونّها، وسار بحمير، حتى أتى الصين في جمع عظيم، حتى دخلها، فقتل مقاتلتها، واكتسح ما وجد فيها. ويزعمون أنّ مسيره إليها كان- ومقامه بها ورجعته منها- في سبع سنين. وخلّف   [1] . اسم لخط الحمير باليمن (مو) . [2] . مط: ناش النعم! [3] . مهملة النقط في الأصل، وضبطناها حسب الطبري (2: 684) . وما في مط: ييان. انظر أيضا المفصّل 1: 547. [4] . بالفهلوية) Aturpatakan:حب، ف) . [5] . أبيت اللعن: من تحيات الملوك في الجاهلية، معناها: أبيت أن تأتى من الأمور ما تلعن عليه وتذمّ بسببه (لع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بالتبّت [1] اثنى عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت اليوم، ويزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانهم. أردشير بهمن وملك بعد بشتاسف أردشير بهمن. وانبسطت يده، وتناول الممالك بقدرة [حتى] [2] ملك الأقاليم. وابتنى بالسواد مدينة وهي المعروفة ب «همينيا» [3] وهو أبو دارا [الأكبر] [4] ، وأبو ساسان أبى الفرس الأخير [5] أردشير بن بابك وولده. وكان بهمن بن إسفنديار كريما، [61] متواضعا، مرضيّا. وكانت تخرج كتبه: «من أردشير [6] بهمن [7] عبد الله، وخادم الله، والسائس لأمركم» . ويقال: إنّه غزا الرومية الداخلة [8] ، في ألف ألف مقاتل. ولم تزل ملوك الأرض تحمل إليه الإتاوة، إلى أن هلك، وابنه دارا [الأكبر] [9] في بطن أمه. فملّكوا خماى بنته شكرا لأبيها. وكان من أعظم ملوك الفرس شأنا، وأفضلهم تدبيرا. وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده. وتفسير «بهمن» بالعربية: «الحسن النيّة» .   :Tibet. [1] من بلدان آسيا المركزية في غربي الصين. [2] . ما في الأصل غير واضح، وما أثبتناه من مط. [3] . جاء في الطبري: وسماها: آباد أردشير، وهي القرية المعروفة ب «همينيا» من الزاب الأعلى (2: 687) همانيا، همانية، همنى: قرية كبيرة في ضفة دجلة فوق النعمانية (مع) . [4] . الأكبر: ليست في الأصل ومط. فأضفناها من الطبري. [5] . كذا في مط. في الطبري: «الأخر» ، ضد القدم: المؤخّر. [6] . بالفارسية القديمة:Artaxshathra:الملك المقدس (شاك: 48) . بلوتارخ: ماكروخير،Makroxeir البيروني: مقروشير: طويل اليدين (ص 11) ، ويقال له: طويل الباع، أيضا (لد) . [7] . بالأفستائية:Vohamana:النصيح، الحسن النية. (يپ 1: 88، حب) . [8] . الرومية: اسم لمدينتين: مدينة ببلاد الروم وأخرى بالمدائن (مع) . [9] . الأكبر: تكملة من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 خماى ثم ملكت خماى [1] بنته، لأنّها حملت منه دارا الأكبر، وسألته أن يعقد التاج له في بطنها، ويؤثره بالملك، ففعل بهمن ذلك. وكان ساسان [2] بن بهمن في ذلك الوقت رجلا يتصنّع للملك، [لا يشكّ] [3] فيه. فلما رأى ساسان ما فعل أبوه، شقّ عليه، فلحق بإصطخر، وتزهّد، وخرج من الحلية، واتخذ غنيمة، فكان يتولّى ماشيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وقالوا: - «صار ساسان راعيا» . وسبّوه به. [62] ثم لمّا كبر دارا حوّل التاج إليه. وكانت خماى ضبطت الحكم [4] بنجدة ورأى وحصافة، وأغزت الروم جيشا، وأوتيت ظفرا. فقمعت الأعداء وشغلتهم عن تطرّف [5] شيء من بلادها، ونال رعيّتها في تدبيرها خفض ورفاهة، إلى أن ملّك ابنها : دارا [6] بن بهمن فنزل بابل، وكان ضابطا لملكه، قاهرا لمن حوله من الملوك يؤدّون إليه الخراج. ابتنى بفارس مدينة، وسماها: «دارا بجرد [7] » . وحذف دوابّ البريد [8]   [1] . في الطبري وحواشيه: خمانى، هماى، خماى (2: 686) . هماى (شا) . هماك (ياز، كيا: 41) . بالأفستائية:LHumaya:المباركة (حب) . [2] . بالفهلوية:LSasan:الفقير (يو) : هو جد الملوك الساسانية. كان من الأشراف ورئيس معبد آناهيذ (آناهيتا) في إصطخر وبابك ابنه (سا: 86) . [3] . لا يشك: مهملة في الأصل والإعجام من مط. [4] . مط: الملك. [5] . الأصل والطبري: كذا. مط وابن الأثير: تطرّق. [6] . في سائر الأصول: دارا، داريوش، داريوس، داراب، داريوشن. [7] . بالفهلوية) Darap -kart:ف) . [8] . قال الثعالبي: هو أوّل من وضع البريد، ورتب له الدواب، وأمر بتحذيف أذنابها علامة لها (ص 398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ورتّبها. وكان معجبا بابنه «دارا» ، وبلغ من حبّه إيّاه أن سمّاه باسم نفسه، وصيّر له الملك من بعده، وكان له وزير يسمّى: «رشتين [1] » محمودا في عقله. فشجر بينه وبين غلام تربّى [2] مع دارا الأصغر يقال له: «بيرى [3] » ، شرّ وعداوة. فسعى رشتين عليه عند الملك. فيقال: إنّ الملك سقى بيرى شربة فمات، فاضطغن دارا الأصغر على رشتين، وعلى جماعة كانوا عاونوه. دارا الأصغر فلمّا ملك دارا ابن دارا بن بهمن، كان أول ما تكلم به حين عقد التاج [63] على رأسه، قال: - «لن ندفع أحدا في مهوى الهلكة، ومن تردّى فيها، لم نكففه عنها.» واستكتب أخا بيرى، واستوزره، رعاية لحق أخيه، وأنسا به، ولم يكن في موضع الوزارة، ولا كان له كفاية رشتين. فكان من عاقبة ذلك، أن أفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت منه الخاصّة والعامّة، ونفروا عنه، وكان حقودا جبّارا. فعرف خبره الإسكندر فغزاه وقد ملّه أهل مملكته، واستوحش جنده، وأحبّ الجميع الراحة منه. فلحق كثير من وجوه أصحابه وأعلام جنده بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا وقوّوه عليه، فلمّا التقيا ببلاد الجزيرة [4] ، اقتتلا سنة. ثمّ إنّ رجالا من   [ () ] وقال الطبري: ... وحذف دوابّ البرد، ورتّبها (2: 692) . حذف الشيء: قطعه من طرفه. تحذيف الشعر: الأخذ من نواحيه وتسويته (لع) . [1] . مط: رستين. والكلمة مهملة النقط في الطبري مع تصحيفات في الحاشية. [2] . مط: ربى. [3] . الكلمة مهمة النقط في الطبري مع تصحيفات في الحاشية. [4] . أنظر مراصد الاطلاع 1: 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أصحاب دارا وثبوا به، فقتلوه، وتقرّبوا بذلك إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم وقال: - «هذا جزاء من اجترأ على ملكه.» وتزوّج ابنته: روشنك [1] . ثم غزا الهند ومشارق [64] الأرض، فملكها. ثم انصرف وهو يريد الاسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل في تابوت من ذهب إلى أمّه. وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم وكان قبل الإسكندر متفرقا، وتفرّق ملك فارس وكان مجتمعا. مما يحكى عن الإسكندر وحيله الإسكندر ودارا وقد كان فيلفوس أبو الإسكندر، صالح دارا، على خراج يحمله إليه في كلّ سنة. فلمّا هلك الأب، وملك الإسكندر، وطمع في دارا، منعه الخراج الذي كان يحمله أبوه إليه. فأسخط دارا، فكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، وأنه إنما دعاه إلى حبس ذلك، الصبى والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وبقفيز [2] من السمسم: يعلمه بذلك أنه إنّما ينبغي أن يلعب مع الصبيان بالصولجان [3] ، ولا يتقلّد الملك، ولا يتلبّس به، ويعلمه أنه إن لم يقتصر على ما أمره به، وتعاطى الملك، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، [65] وأن عدّة جنوده الذين يبعث بهم، كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه. فكتب الإسكندر في جواب ذلك، أن قد فهم ما كتب به، ونظر إلى ما أرسله   [1] . بالفهلوية Roshanak:بالأفستائية.Raoxshana:ابنة دارا وزوجة الإسكندر (يو، حب) . ابنة دارا هي Stativa وأما روشنك (باليونانية (LRoxano فهي ابنة شريف من شرفاء سغد، تزوجت من الإسكندر (إيب: 1736، 1883) . [2] . القفيز: مكيال كان يكال به قديما ويختلف مقداره في البلاد (مو) . [3] . الصولجان: معرّب چوگان، بالفهلوية) Chopakan:حب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 من الصولجان والكرة، وتيمّن به، لإلقاء الملقى الكرة إلى الصولجان واجتراره [1] إيّاها، وأنّه شبّه الأرض بالكرة، وتفأل بملكه إياها، واحتوائه عليها، وأنه يجترّ ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيّزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به، كنظره إلى الصولجان والكرة، لدسمه وبعده من المرارة والحرافة. وبعث إلى دارا مع كتابه بصرّة من «خردل» ، وأعلمه في ذلك الجواب: أنّ ما بعث به إليه قليل، غير أنّ ذلك مثل الذي بعث به في القوّة، والحرافة، والمرارة، وأنّ جنوده فيما وصف به منه. فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده [2] ، وتأهّب لمحاربة الإسكندر، وتأهّب له الإسكندر، وسار نحو [66] بلاد دارا. فلمّا التقيا، وجرى ما جرى من أمر القائدين اللذين تقرّبا إلى الإسكندر وطلبا الحظوة عنده والوسيلة، وكان نادى الإسكندر ألّا يقتل دارا، وأن يؤسر أسرا، فلمّا أعلم الإسكندر بما جرى، سار [3] حتى وقف عنده، فرآه يجود [4] بنفسه. فنزل الإسكندر عن دابته، حتى جلس عند رأسه، وأخبره أنه ما همّ بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رأيه. وقال له: «سلني ما بدا لك [5] فإنى أسعفك به.» فقال له دارا: «لى حاجتان: إحداهما أن تنتقم لى من الرجلين اللذين فتكا بى- وسمّاهما- والأخرى أن تتزوج ابنتى: روشنك.» فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين انتهكا من ملكهما ما انتهكا، وتزوّج روشنك وملك الأرض كلها. ويقال: إن الرجلين اللذين قتلا دارا، إنّما فعلا ذلك بأمر الإسكندر، وكان شرط   [1] . مط: واحتياز. [2] . جنده: سقطت من مط. [3] . سار: سقطت من مط. [4] . مط: بحول. [5] . مط: ما بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 لهما شرطا. فلما طعناه، دفع إليهما حكمهما، ووفى لهما بشرطهما، [67] ثم قال: - «قد وفيت لكما بالشرط، ولم تكونا شرطتما أنفسكما، وأنا قاتلكما، فإنّه ليس ينبغي [1] لقتلة الملوك أن يستبقوا، إلّا بذمّة لا تخفر [2] » ، فقتلهما وصلبهما. ويقال: إنّ الإسكندر في الأيام التي نازل فيها دارا كان يصير إليه بنفسه على أنه رسول. فيتوسط العسكر، ويعرف كثيرا مما يحتاج إليه. فكان إذا وصله [3] دارا، أعجب به واستحسن سمته [4] ومجاراته. إلى أن اتهمه وأحسّ الإسكندر، فهرب. ذكر حيلة للإسكندر فلمّا تواقفت [5] الخيلان يوم الحرب، خرج الإسكندر من صفّ أصحابه وأمر من ينادى: - «يا معشر الفرس! قد علمتم ما كتبنا [6] لكم من الأمانات، فمن كان منكم على الوفاء، فليعتزل عن العسكر، وله منّا الوفاء بما ضمنّاه.» واتهمت الفرس بعضها بعضا. فكان أول اضطراب حدث فيهم. حيلة أخرى ومما يحكى من حيله في الحروب: [68] أنه لما شخص عن فارس إلى أرض الهند، تلقّاه فور ملكها في جمع عظيم، ومعه ألف فيل عليها السلاح والرجال، وفي خراطيمها السيوف والأعمدة، فلم تقف دواب الإسكندر وانهزم. فلما حصل   [1] . ينبغي: سقطت من مط. [2] . مط: لا تخف! خفر بالعهد: وفي به. خفر العهد وبه: نقضه (مو) . [3] . في الأصل: أوصله. وفضّلنا ضبط مط. [4] . السمت: السكينة والوقار، الهيئة. [5] . مط: تواقف. [6] . مط: ما اتعالكم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 في مأمنه، أمر باتخاذ فيلة من نحاس مجوّفة، وربط خيله بين تلك التماثيل حتى ألفتها، ثم أمر فملئت نفطا وكبريتا، وألبسها الدروع، وجرّت على العجل إلى المعركة، وبين كلّ تمثالين منها [1] جماعة من أصحابه. فلما نشبت الحرب، أمر بإشعال النيران في أجواف التماثيل، فلما حميت، انكشف أصحابه عنها، وغشيتها [2] الفيلة، فضربتها بخراطيمها، فنشطت وولّت مدبرة راجعة [3] على أصحابها، وصارت الدبرة على ملك الهند. حيلة أخرى له ومما يحكى أيضا عنه: أنه كان نزل على مدينة حصينة. فتحصن منه أهلها وعرف [4] خبرها، فأعلم أنّ فيها من الميرة والعيون المنفجرة كفايتهم. فدسّ [5] تجّارا [69] متنكرين، وأمرهم بدخول المدينة، وأمدّهم بمال على سبيل التجارة، وتقدم إليهم ببيع ما معهم، وابتياع ما أمكنهم من الميرة، والمغالاة بها. ففعل التجار ذلك، ورحل الإسكندر عنهم. فلم يزل التجار يشترون الميرة، إلى أن حصل في أيديهم أكثره. فلما علم الإسكندر ذلك، كتب إليهم أن أحرقوا الميرة التي في أيديكم واهربوا. ففعلوا ذلك، وزحف الإسكندر إليها، فحاصرهم أياما يسيرة، فأعطوه الطاعة، وملك المدينة. وكان أيضا إذا انصرف عن مثل هذه المدينة، شرّد من حولها من أهل القرى [6] ، وتهدّدهم بالسبي، حتى خرجوا هاربين معتصمين بالمدينة، فلا يزال بذلك حتى يعلم أنّه قد دخلها أضعاف أهلها وأسرعوا في الميرة، فيرجع حينئذ، فيحاصرهم، ويفتح المدينة.   [1] . مط: فيها. [2] . مط: وغشّها. [3] . راجعة: سقطت من مط. [4] . مط: وتعرف. [5] . مط: فدبر. [6] . القرى: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الإسكندر وأرسطوطالس ومما يحكى عنه: أنّه كتب إلى أرسطوطالس يخبره: أنّ في عسكره من الروم [70] جماعة من خاصته، لا يأمنهم على نفسه، لما يرى من بعد هممهم وشجاعتهم وكثرة آلتهم، ولا يرى لهم عقولا تفي بتلك الفضائل، ويكره الإقدام بالقتل عليهم بالظنّة، مع وجوب الحرمة. فكتب إليه أرسطوطالس: - «فهمت كتابك، وما وصفت به أصحابك. فأمّا ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمة. وأمّا ما ذكرت من شجاعتهم ونقص عقولهم عنها، فمن كانت هذه حاله، فرفّهه في معيشته، واخصصه بحسان النساء. فإنّ رفاهة العيش توهى العزم، وتحبّب السلامة، وتباعد من ركوب الخطأ والغرر [1] . وليكن خلقك حسنا تخلص لك النيات، ولا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط إخوتك مثله. فليس مع الاستيثار محبة، ولا مع المواساة بغضة. واعلم أنّ المملوك [2] إذا اشترى لا يسأل عن مال مولاه وإنّما يسأل عنه خلقه.» [71] وكان الإسكندر في الأيام التي لقى فيها دارا، وجل من محاربته، ودعاه إلى الموادعة، لما رأى كثرة عدّته وعتاده وعدد جنده. فاستشار دارا أصحابه في أمره، فغشّوه، وزيّنوا له الحرب، لفساد قلوبهم عليه، وكاتبوا الإسكندر، وأطمعوه فيه. وكان ملك دارا أربع عشرة سنة. فهدّم الإسكندر حصون الفرس، وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، ودواوين دارا. وكاتب [3] معلّمه ووزيره أرسطوطالس يعلمه: أنّه شاهد بإيرانشهر رجالا ذوى أصالة في الرأى، وجمال في الوجوه، لهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأى لهم   [1] . مط: الغدر. والغرر: الخطر. التعريض للهلكة. [2] . مط: الملوك! [3] . مط: وكتب إلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 هيآت وخلقا، لو كان عرف حقيقتها، لما غزاهم، وأنّه إنّما [1] ملكهم بحسن الاتفاق والبخت، وأنّه لا يأمن- إن ظعن عنهم- وثوبهم، ولا تسكن نفسه إلّا ببوارهم. فكتب إليه أرسطوطالس: - «فهمت كتابك في رجال فارس. فأما قتلهم فهو من الفساد في الأرض ولو قتلتهم لأنبت البلد أمثالهم [72] لأنّ إقليم بابل يولّد أمثال هؤلاء الرجال، من أهل العقول والسداد في الرأى، والاعتدال في التركيب، فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنّك تكون قد وترت [2] القوم، وكثرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممن بعدهم، وإخراجك إياهم في عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك. ولكنى أشير عليك برأى هو أبلغ لك في كلّ ما تريد من القتل، وهو أن تستدعى أولاد الملوك منهم، ومن يستصلح للملك ويترشح له، فتقلّدهم البلدان، ويتوليهم الولايات، ليصير كل واحد منهم ملكا برأسه، فتتفرّق كلمتهم، ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدّى بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتّفقوا على أمر واحد، ولا تجتمع كلمتهم.» ففعل الإسكندر ذلك، فتمّ أمره، وأمكنه أن يتجاوز ملك الفرس، فسار قدما إلى أرض الهند، حتى قتل ملكها مبارزة، بعد حروب عظيمة هائلة، وفتح مدنها، ثم صار إلى الصين، وصنع بها [3] كصنيعه بأرض الهند، ثم طاف مما يلي القطب [73] الشمالي، ورجع إلى العراق، وخرج منها بعد أن ملّك ملوك الطوائف، فمات في طريقه بشهرزور [4] ، ويقال: بل في قرية من قرى بابل، وكان عمره ستّا   [1] . مط: لما! [2] . مط: سرت. [3] . بها: سقطت من مط. [4] . شهرزور: مدينة تقع في ناحية بنفس الاسم في الشمال الغربي من دينور، والمسافة بينهما أربعة منازل (لج: 205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وثلاثين سنة، وملك منها ثلاث عشرة سنة وأشهرا. وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه. الإسكندر وملك الصين وفي الرواية الصحيحة: أنّ الإسكندر لما انتهى إلى بلاد الصين، أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره، فقال: - «هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن في الدخول عليك.» قال: «أدخله.» فأدخله. فوقف بين يدي الإسكندر، وسلّم، ثم قال: - «إن رأى الملك يستخلينى.» فأمر الملك من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا كلهم وبقي حاجبه. فقال: - «إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غيرك.» قال: «فتّشوه.» فلم يوجد معه سلاح. فوضع الإسكندر بين يديه سيفا مسلولا وقال له: - «قف بمكانك وقل ما شئت.» وأخرج كلّ من كان بقي عنده. فقال: - «أنا ملك الصين، لا رسوله، جئت أسألك عما تريده، [74] فإن كان مما أمكن عمله- ولو على أصعب الوجوه- عملته، وأغنيتك عن الحرب [1] .» فقال له الإسكندر: «ما الذي آمنك منى؟» قال: «علمي بأنّك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة، ولا مطالبة بذحل، وأنّك تعلم، إن قتلتني، لم يكن ذلك سببا لتسليم أهل الصين إليك ملكهم، ولم يمنعهم   [1] . مط: عن الحروب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قتلى من أن ينصبوا [1] لأنفسهم ملكا، ثم ينسب إلى غير الجميل، وضدّ الحزم.» فأطرق الإسكندر، وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له: - «الذي أريد منك ارتفاع [2] مملكتك لثلث سنين عاجلا، ونصف ارتفاع مملكتك لكلّ سنة» . قال: «هل غير هذا؟» قال: «لا.» قال: «قد أجبتك، ولكن سلني: كيف تكون حالي بعد ذلك؟» قال: «قل، كيف تكون حالك؟» قال: «أكون أول قتيل من محارب، أو أول أكيلة مفترس.» قال: «فإن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف تكون حالك؟» قال: «تكون أصلح قليلا وأفسح مدّة.» قال: «فإن قنعت منك [3] بارتفاع سنة؟» قال: «يكون في ذلك بقاء لملكى، وذهاب جميع لذّاتى.» قال: «فإن قنعت [75] منك [4] بارتفاع الثلث، كيف تكون حالك؟» قال: يكون السدس للفقراء ومصالح البلاد، ويكون الباقي لجيشى ولسائر أسباب الملك» . فقال: «قد اقتصرت منك على هذا.» فشكره وانصرف. فلما طلعت الشمس، أقبل جيش الصين، حتى طبّق الأرض، وأحاط بجيش الإسكندر، حتى خافوا الهلاك. وتواثب أصحابه حتى ركبوا الخيل، واستعدوا للحرب بعد الأمن والطمأنينة إلى السلم. فبينا هم كذلك،   [1] . مط: أن يصبوا. [2] . الارتفاع: ما حصل من الزراعة. الخراج. [3] . منك: سقطت من مط. [4] . منك: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 إذ طلع ملك الصين وعليه التاج وهو راكب. فلما تراءى [1] الصفّان، ورأى الإسكندر ملك الصين، قدّر أنه حضر للحرب. فصاح به: «أغدرت؟» فترجّل، وقال: «لا، والله.» قال: «فادن منى.» فدنا وقال: «ما هذا الجيش الكثير؟» قال: «إنى أردت أن أريك أنّى لا أطيعك من قلّة وضعف، ولكنّى رأيت العالم العلوي مقبلا عليك، ممكّنا لك ممن هو أقوى منك وأكثر عددا، ومن حارب العالم العلوي غلب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلل له [76] بالتذلل لك.» فقال له الإسكندر: «ليس مثلك من يسام الذلّ، ولا من يؤدّى الجزية، فما رأيت بيني وبينك من الملوك، من يستحق التفضيل والوصف بالعقل، غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك» . فقال ملك الصين: «فلست تخسر.» ثم انصرف عنه الإسكندر، فبعث إليه ملك الصين بضعف ما قرّره معه. وبنى الإسكندر اثنتي عشرة مدينة، وسمّاها كلّها «الاسكندرية» ، منها: مدينة «جىّ [2] » بإصبهان، وثلاث مدن أخرى بخراسان، وهي: هراة، ومرو، وسمرقند. وبنى بأرض بابل مدينة لروشنك، وبنى بأرض يونان سبع مدن [3] .   [1] . مط: رأى! [2] . جىّ: بالفهلوية) Gay:حب) وكانت تسمى شهرستانة (لج: 219) . [3] . وليس لهذا الحديث أصل، لأنه كان مخرّبا ولم يكن بناء (حمزة: 29) . الروايات الخاصة بالإسكندر تجدها عند الطبري 2: 692- 704. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 البطالسة وعرض على ابن للإسكندر الملك بعد وفاة أبيه، فأبى واختار النسك، ملّكت اليونانية على رواية أكثر الناس بطليموس. ثم ملك عدة متوالية يقال لكل واحد منهم: «بطلميوس» [1] ، كما يقال لملوك الفرس: «الأكاسرة» وتغلّب قوم من اليونانيين بعده على نواحي مصر [77] والشام.   [1] . باليونانية) Ptalemaios:حب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الأشغانيّة [1] ومن عاصرهم واختلف أهل الرواية في عدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، إلى أن قام بالملك أردشير بابكان [2] ، فنظم ملك الفرس. فبعضهم يزعم أنّ آشك [3]- وهو ابن دارا الأكبر- جمع جمعا كثيرا وسار إلى أنطيخس [4] ، وكان مقيما بسواد العراق من قبل الروم، وزحف إليه أنطيخس. فالتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس، وغلب آشك على السواد، وصار في يده من الموصل إلى الرىّ وإصبهان، وعظّمه سائر [5] ملوك الطوائف لشرفه، وما كان من فعله، وبدءوا به على أنفسهم في كتبهم، وبدأ فيما كان يكتب إليهم بنفسه، وسمّوه ملكا، وأهدوا إليه، من غير أن يعزل أحدا منهم، أو يستعمله. ثمّ ملك جوذرز بن أشكان وهو الذي غزا بنى إسرائيل المرّة الثانية. وذلك بعد قتلهم يحيى بن زكريّا.   [1] . فترة الحكم: 250 ق م- 226 م. [2] . أول السلسلة الساسانية. في الأصل: أردشير بن بابكان، فحذفنا «بن» لأن الألف والنون في آخر «بابك» علامة تفيد نسبة البنوّة، ف «بابكان» أى: ابن بابك. انظر الطبري 2: 704. [3] . أيضا الطبري (2: 709) . .Antiochus. [4] [5] . مط: «روابو الملوك» بدل «سائر الملوك» ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فسلّطه الله عليهم، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم [جماعة بعد] [1] ذلك [78] ورفع الله عنهم النبوّة، وأنزل بهم الذلّ. وكان من سنّة الفرس بعد الإسكندر، أن يخضعوا لمن ملك بلاد الجبل. فخضعوا للأشغانيّة، وأوّلهم: أشك [2] بن أشكان، ثمّ سابور بن أشكان- وفي أيامه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين- ثمّ ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، ثمّ بيرى الأشغانى، ثمّ جوذرز الأشغانى، ثمّ نرسى [3] الأشغانى، ثمّ هرمز الأشغانى، ثمّ أردوان الأشغانى، ثمّ كسرى الأشغانى، ثمّ بلاش الأشغانى، ثمّ أردوان الأصغر الأشغانى، ثمّ أردشير بن بابك. فكان مدّة هؤلاء إلى أن وثب أردشير على الأردوان، فقتله وجمع أمر الفرس، مائتين وستّا وستّين سنة. ولم يقع إلينا شيء من تدابيرهم يستفاد منه تجربة إلّا خبر لبعض الروم، وهو : ذكر حيلة لبعض ملوك الروم كان أحد ملوك [4] الفرس وجّه رجلا من جلّة قوّاده في جيش إلى ملك الروم، فحاربه، فأجلاه الفارسىّ عن أكثر بلاده، حتّى فتح [79] أنطاكية [5] ، وجاوزها، وأوغل في بلاد الروم. فجمع ملك الروم رؤساء قومه، فشاورهم. فأشاروا بأمور مختلفة، حتّى انفرد له رجل من أهل مملكته، ولم يكن من أبناء الملوك. فقال: «إنّ [6] عندي رأيا أشير به. فإن رزق الله الظفر، فما لى عندك؟»   [1] . ما في [] مطموس في الأصل، ومأخوذ عن مط. [2] . بالفهلوية LArshak:أشك: أول الملوك الأشكانيّين (حب) . [3] . بالفهلويّة) LNarsah:حب) . [4] . ملوك: سقطت من مط. [5] . أنطاكيه: مدينة على شاطئ النهر العاصي [نهر حماة وحمص ويعرف بالميماس- يا] ، ويقال لها أنتوخيا أيضا (لد) . [6] . إنّ: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قال الملك: «سل حاجتك.» قال: «إنّى أرى الرأى الصحيح، وأخاطر فيه بنفسي، فاجعل لى الملك من بعدك.» قال: «نعم» ، فوثّق له به. فقال الرومي: «إنّ الفرس قد طمعت في ملكنا، فلم يبق منهم نجد [1] ولا ذو رأى إلّا وجّهوه في وجوهنا، وقد ضعفنا عنهم، وقد حملوا ذراريّهم إلى الشام والجزيرة. فالرأى أن تأذن لى فأنتخب من عسكرك خمسة آلاف رجل، ثم أحملهم في البحر، وأصير من خلفهم، فأوكل بمضائق الطرق، وصعاب العقاب، رجالا من أصحابى من أهل البأس والنجدة، فإنّ خبري إذا بلغهم، فتّ في عضدهم ونخبت [2] قلوبهم، ورجعوا إلى عيالاتهم وأموالهم متقطّعين [3] ، فلا [80] يمرّ بالمواضع التي وكّلت بها أحد من الفرس إلّا قتل، فلا يسلم إلّا القليل الذين إذا صاروا إلى الشام أتيت عليهم [4] وتشرّدهم أنت من خلفهم.» فأجابه الملك إلى رأيه، وأنفذه إلى الشام. فلما بلغ الفرس أنّ الروم قد خلفتهم في أموالهم، وأهاليهم، خرج أكثرهم على وجوههم متقطّعين لا يلوون على شيء، ومرّوا بمضائق الطرق، فقتل أكثرهم، وخرج ملك الروم إلى من بقي منهم، فهزمهم، فلم يسلم منهم إلّا القليل. فتحوّل الملك بذلك السبب من أهل بيت المملكة بالروم، إلى قوم ليسوا من أهل بيتها، بل هم من أهل إرميناقس [5] ، فبقى فيهم إلى هذه الغاية.   [1] . النجد: الشجاع. [2] . نخب الحرب فلانا: جبّنته، أضعفته. [3] . تقطّع أمرهم بينهم: تفرّقوا به. تقطّعت بهم الأسباب: عجزوا، وانقطعت سبلهم. [4] . أتيت عليهم: سقطت من مط. [5] . مط: ارمينافس. وارميناق ناحية من نواحي الروم القديمة (لد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ذكر سبب طمع العرب في أطراف الفرس كنّا حكينا من أمر بختنصّر أنّه أنزل الحيرة من العرب جماعة، فانتقلوا بعد موته إلى الأنبار، وبقي الحير خرابا يبابا، زمانا طويلا، لا تطلع [عليهم] [1] طالعة من بلاد العرب، ولا يطمع [2] أحد فيهم من الريف، بعد ما قصدهم [81] بختنصّر. فلمّا غلب الإسكندر على مملكة الفرس، وجعلها مقسومة في ملوك الطوائف، ضعف كل واحد منهم في نفسه، وصار عدوّه بالقرب منه من الأرض، ولكلّ واحد خندق [3] يقصده الآخر، فيغير بعضهم على بعض، ثمّ يرجع كالخطفة. وقد كان كثر في ذلك الزمان أولاد معدّ بن عدنان، ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يليهم، وحدثت بينهم أحداث وحروب، فتفرّقوا، وخرجوا يطلبون متّسعا في بلاد اليمن ومشار [ف] [4] الشام، وأقبلت منهم قبائل حتّى نزلوا البحرين وبها جماعة من الأزد، وكانوا نزلوها في زمان ابن ماء السماء، وتحالف القوم الذين خرجوا من تهامة على التنوخ بالبحرين- التّنوخ: المقام- وكان منهم قوم من قضاعة، وقوم من معدّ، وقوم من إياد. فتعاقدوا على التوازر والتناصر، وصاروا يدا على الناس وصار اسمهم: «تنوخ» . ثمّ لمّا بلغهم انتشار [82] أمر الفرس واختلاف كلمتهم، تطلّعت نفوسهم إلى ريف العراق، وطمعوا في الفرس وفيما يلي بلاد العرب من أعمالهم، أو مشاركتهم فيها، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على   [1] . التكملة من الطبري. والعبارة في الطبري: لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب ولا يقدم عليهم قادم (2: 745) . [2] . مط: ولا طمع أحد. [3] . معرّب «هندك» ، كنده (لد) . [4] . في الأصل: «مشارق، والتصحيح من الطبري (2: 745) . والمشارف، جمع مشرف: قرى قرب حوران منها بصرى من الشام، ثمّ من أعمال دمشق. والمشارف من المدن: على مثل مسافة الأنبار من بغداد، والقادسية من الكوفة (يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 المسير الى العراق. فلمّا ساروا، وجدوا الإرمانيّين- وهم القوم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل- يقاتلون الأردوانيّين، وهم: ملوك الطوائف، وهم فيما بين نفّر [1]- قرية من سواد العراق- إلى الأبلّة [2] وأطراف البادية. فلم تدن لهم، فدفعوهم عن بلادهم. وإنما قيل: «الإرمانيّين» لأنّه كان يقال لعاد: «إرم» ، فلمّا هلكت، قيل لثمود: «إرم» ، ثمّ سمّوا: «الإرمانيّين» وهم بقايا «إرم» ، وهم نبط السواد. ويقال لدمشق: «إرم» . ثمّ طلع قوم من تيم الله، وغطفان في من تنخ معهم من الحلفاء والعشائر على الأنبار، على ملك الإرمانيّين. وطلع قوم من كندة وبنى فهم مع من حالفهم. وتنخ بعضهم على نفّر على [83] ملك الأردوانيّين، فأنزلوا الحير، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة نفّر على ذلك، لا يدينون للأعاجم، ولا تدين لهم الأعاجم، حتّى قدمها تبّع- وهو أسعد بن مليكيكرب- في جيوشه، فخلّف بها من لم تكن به قوّة ومن لم يقو على الغزو معه، ولا الرجوع إلى بلاده. فانضمّوا إلى أهل الحيرة، وخرج تبّع في حمير سائرا، ثمّ رجع إليهم، فأقرّهم على حالهم، وانصرف إلى اليمن وفيهم من كلّ القبائل من بنى لحيان- وهم بقايا جرهم- وطيّء، وكلب، وتميم، وغيرهم، واتّصلت جماعتهم وقووا، وكانوا بين الأنبار والحيرة إلى طفّ [3] الفرات في المظالّ والأبنية، وكانوا يسمّون [4] : «عرب الضاحية» . من عاصر الأشغانيّين من ملوك العرب فكان أوّل من ملك منهم: مالك بن فهم، وملوك الفرس طوائف، وقد دخل الوهن عليهم، وطمع فيهم.   [1] . نفّر: بلدة على نهر النرس من بلاد الفرس. قال الخطيب، فإن عنى أنّه من بلاد الفرس قديما جاز، فأمّا الآن فهو من نواحي بابل (مع) . [2] . الأبلّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة (مع) . [3] . مط: أطراف. [4] . يسمون: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ثمّ ملك أخوه عمرو بن فهم. ثمّ جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم، فقوى أمره، وكان جيّد الرأى، شديد النكاية في الأعداء [84] بعيد المغار. فاستجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وعظّمته العرب، وكنت- عن برص به- ب «الأبرش» وب «الوضّاح» ، فكان تفد عليه الوفود، وتجبى إليه الأموال. وكان عنده غلام من إياد يقال له: عدىّ بن نصر بن ربيعة، وضيء، له جمال وظرف، يلي شرابه. فعشقته أخت جذيمة رقاش، وما زالت تحتال، وتواطئه، حتّى زوّجها الملك بعدىّ في سكره. فوطئها من ليلته وعلقت [1] منه. فلما أصبح جذيمة وعرف الخبر، ندم ندامة شديدة. وعرف عدىّ الخبر، فهرب، ولحق بإياد حتّى هلك. واشتملت رقاش على حبل، فولدت غلاما وسمّته عمرا [2] . فترعرع الغلام وحسن وبرع، فالبسته وحلّته، وأزارته خاله جذيمة، فأعجب به، وأحبّه، وخلطه بولده، وأمر فطوّق، وهو أوّل عربىّ ألبس طوقا. ثمّ تزعم العرب أنّ الجنّ استهوته [3] زمانا إلى أن عاد إلى [85] جذيمة. وله خبر [4] . عمرو بن ظرب وكان قد ملك بأرض الحيرة ومشار [ف] [5] بلاد الشام، عمرو بن ظرب بن حسّان العمليقى. فجمع جذيمة جموعه من العرب ليغزوه. وأقبل عمرو بن ظرب بجموعه من الشام. فالتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عمرو بن ظرب، وفضّت   [1] . علقت منه: أحبّها وشغف بها. علق بها وعلقها: أحبّها. علقت المرأة بالولد: حبلت (لع) . [2] . عمرو: يكتب بالواو للفرق بينه وبين عمر وتسقطها في النصب لأنّ الألف تخلفها (لع) . [3] . استهوى فلانا: أثّر فيه حتّى يتقبّل رأيه دون أن يقوم لديه دليل على صحّته. [4] . انظر الطبري (2: 753) . [5] . في الأصل ومط «مشارق» ، والتصحيح من الطبري (2: 756) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 جموعه، وغنمه جذيمة وانصرف موفورا. فملكت من بعده ابنته : الزبّاء [1] واسمها نائلة. وكان جنودها بقايا من العماليق، والعاربة الأولى، وقبائل من قضاعة. فلمّا استحكم حكمها، أجمعت على غزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها. واستشارت أهل الرأى، فأشير عليها بالعدول عن الحرب إلى المكر، وأعلموها [2] أنّها امرأة، والحرب سجال [3] بين الرجال، وأنّها لو قد هزمت كان البوار، وأعلموها من غبّ [4] مباشرة مثلها للحرب، ما كرهته. وأشارت عليها أختها «زنيبة [5] » وكانت ذات دهاء وإرب- أن تأتى الأمر من جهة الخدع والمكر، وأن تكتب إلى جذيمة [86] تدعوه إلى نفسها وملكها. فقبلت ذلك وكتبت إليه: أنها لم تجد ملك النساء إلّا إلى قبح في السماع، وضعف في السلطان وقلّة ضبط للمملكة، وأنّها لم تجد لملكها موضعا، ولا لنفسها كفؤا «غيرك. فهلمّ إلىّ، واجمع ملكي إلى ملكك، وصل بلادي ببلادك، وتولّ تدبيري كلّه وأمرى، لتموت الضغائن والأحقاد، وتزول عن قلوب الناس ما خامرها من العداوات.» فلما انتهى كتاب الزباء إلى جذيمة، وقدم عليه رسلها بمخاطبات شبيهة بهذا المعنى، استخفّه [6] ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، وجمع أهل الرأى من أصحابه، فاستشارهم. فأجمع رأيهم على أن يسير إليها، ويستولى على ملكها. وكان فيهم رجل يقال له :   [1] . الزبّاء) Zenobia:المفصّل 3: 99) . [2] . في الأصل: أعلموه. [3] . السجال: المباراة، والمفاخرة. [4] . الغب من كلّ شيء: عاقبته وأخرته. [5] . زنيبة: مهملة في الأصل، والإعجام من الطبري. في مط: «زنيبة» وهي تنطبق على زنوبيا LZenobia أكثر من انطباقها على ما في الطبري (زبيبة) . [6] . استخفّه: استفزّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قصير بن سعد [1] وكان سعد هذا تزوّج أمة تخدم لجذيمة [2] ، فولدت له قصيرا، وكان حازما، أريبا، أثيرا عند جذيمة. فخالفهم في ما [87] أشاروا به عليه، وقال: - «رأى فاتر [3] وغدر [4] حاضر.» - فذهب مثلا. فنازعوه الرأى، فقال لجذيمة: - «أكتب إليها: فلتقبل إليك إن كانت صادقة. فإن لم تفعل. لم تسر إليها ممكّنا [إيّاها] [5] من نفسك وقد وترتها، وقتلت أباها.» فلم يوافق جذيمة ما أشار به عليه قصير، وقال جذيمة: - «أنت امرؤ رأيك في الكنّ [6] ، لا في الضحّ [7] » - فذهبت مثلا. دعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدىّ، فاستشاره، فشجّعه على المسير، وقال: - «هناك نمارة [8] قومي، ولو قد رأوك [9] ، صاروا معك.» فأطاعه وعصى قصيرا. فقال قصير: - «لا يطاع لقصير أمر.» وفي ذلك يقول الشعراء ما حذفناه طلب الإيجاز. واستخلف جذيمة عمرو بن عدىّ على ملكه وسلطانه. وسار في وجوه   [1] . أنظر الطبري (2: 758) . [2] . مط: تزوّج أمّه خدمة لجذيمة! [3] . الفاتر: الضعيف. [4] . مط: عذر. [5] . إيّاها: تكملة منّا. [6] . الكنّ: كل ما يردّ الحرّ والبرد من الأبنية والغيران ونحوها. [7] . الضّحّ: الشمس أو ضوؤها إذا استمكن من الأرض. ما أصابته الشمس. البراز الظاهر من الأرض. [8] . نمارة: بطن من إياد من العدنانية (كحّالة) . [9] . في الطبري: ولو قدروا لصاروا معك. بدل: ولو قد رأوك صاروا معك (2: 759) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أصحابه، فأخذ على الفرات من الجانب الغربىّ. فلمّا نزل رحبة [1] مالك بن طوق- وكان تدعى في ذلك الزمان «الفرضة» - دعا قصيرا، فقال: - ما الرأى؟» فقال: «ببقّة [2] تركت الرأى.» - فذهبت مثلا. [88] واستقبلته رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: - «يا قصير كيف ترى؟» قال: - «خطر يسير في خطب كبير- فذهبت مثلا- وستلقاك الخيل، فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك، فالقوم غادرون، فاركب العصا، فإنّى مسايرك عليها.» وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تجارى، فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير مولّيا على متنها، فقال: - «ويل أمّه حزما على ظهر العصا.» - فذهبت مثلا. ونجا قصير، وأدخل على الزبّاء. فلما رأته كشفت له عن إسبها [3] ، فإذا هو مضفور. فقالت: - «يا جذيمة! أدأب عروس ترى؟» - فذهبت مثلا. فقال: «بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى.» - فذهبت مثلا. فتمّت حيلتها على جذيمة، حتّى قتلته بأن قطعت راهشيه [4] ، في خبر طويل، وأمثال محفوظة. فهلك جذيمة، وخرج قصير حتى قدم على عمرو بن عدىّ   [1] . رحبة مالك بن طوق: على الفرات بين الرقّة والعانة، أحدثها مالك بن طوق في خلافة المأمون (مع) رحبة الشام (لج) . [2] . بقّة: اسم موضع قريب من الحيرة، وقيل: حصن كان على فرسخين من هيت كان نزله جذيمة الأبرش (مع) . [3] . الاسب: شعر الفرج، وقيل: شعر الاست. الشعر النابت على قبل المرأة والرجل. [4] . الراهشان: عرقان في باطن الذراعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [89] وهو بالحيرة. فقال له قصير: «أداثر [1] ، أم ثائر؟» فقال:- «بل ثائر سائر.» - فذهبت مثلا. ذكر حيلة لقصير على الزبّاء تمّت له عليها كانت الزبّاء قد سألت الكهنة والمنجّمين عن أمرها وملكها، فقالوا: - «نرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين.» ووصفوا قصيرا و عمرو بن عدى ّ، وقالوا: - «لن تموتي إلّا بيده، ولكنّ حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون.» فحذرت عمرا، واتّخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه، إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجئنى أمر دخلت النفق إلى حصني. ثمّ دعت مصوّرا حاذقا فجهّزته، وقالت: - «سر حتّى تقدم على عمرو بن عدىّ متنكّرا فتخلو بحشمه وتخالطهم بما عندك من التصوير، ثمّ أثبت [2] عمرو بن عدىّ معرفة، فصوّره جالسا، وقائما، وراكبا، ومتفضّلا [3] ، ومتسلّحا بهيئته، ولبسته، وثيابه، ولونه. فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إلىّ.» فانطلق المصوّر، حتّى قدم على عمرو بن عدىّ [90] وبلغ جميع ما وصّته به، ثمّ رجع إليها بما وجّهته له من الصور. فعرفت عمرا على جميع هيئاته، وحذرته. ثمّ إنّ قصيرا قال لعمرو: «إجدع أنفى، واضرب ظهري، ودعني وإيّاها.» فقال عمرو: «وما أنا بفاعل، ولا أنت بمستحقّ منّى لذلك.» فقال قصير: «خلّ عنّى إذا وخلاك ذمّ.» فذهبت مثلا.   [1] . الداثر: الغافل. دثر السيف. صدى. دثر القلب: غفل. [2] . أثبته: عرفه حق المعرفة. [3] . تفضّل: لبس الفضال. والفضال ما يلبس في البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فقال له عمرو: «فأنت أبصر.» فجدع قصير أنف نفسه، وأثّر بظهره، وقيلت فيه الأشعار. وخرج قصير كأنّه هارب، وأظهر أنّ عمرا فعل به ذلك، وأنّه يزعم أنّه مكر بخاله جذيمة، وغرّه من الزبّاء. فسار قصير حتّى قدم على الزبّاء. فقيل لها: «إنّ قصيرا بالباب.» فأمرت به، فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب. فقالت: «ما الذي أرى بك يا قصير؟» قال: «زعم عمرو أنّى غررت خاله، وزيّنت له المسير إليك، وغششته، ومالأتك [1] عليه، ففعل بى ما ترين، فأقبلت إليك، وعرفت أنّى لا أكون مع أحد هو أثقل [91] عليه منك.» فأكرمته، وأصابت عنده حزما ورأيا وتجربة ومعرفة بأمور الملوك. فلمّا علم أنّها قد وثقت به، واسترسلت إليه، قال لها: - «إنّ لى بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزوزها، وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة، والطيب، والتجارات، فتصيبين ما لا غناء للملوك عنه، مع أرباح عظيمة، فإنّه لا طرائف كطرائف العراق.» فلم يزل بها يزيّن لها ذلك، حتّى سرّحته، ودفعت إليه أموالا، وجهّزت معه عيرا، وقالت: - «انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهّزناك به، وابتع لنا طرائف ما يكون بها.» فسار قصير، وأتى الحيرة متنكّرا، فدخل على عمرو، وأخبره بالخبر، وقال: - «جهّزنى بالبزّ والطرف من الأمتعة، لعلّ الله يمكّن من الزبّاء، فتصيب ثأرك،   [1] . مالأه: ساعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وتقتل عدوّك.» فأعطاه حاجته، وجهّزه بصنوف الثياب وغيرها. فرجع بذلك كلّه إلى الزبّاء [92] فعرضه عليها. فأعجبها ما رأت، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثمّ جهّزته بأكثر ممّا كانت جهّزته به. فسار حتّى قدم العراق، ولقى عمرو بن عدىّ، وحمل من عنده ما ظنّ أنّه موافق للزبّاء، ولم يترك جهدا ولا حيلة في طرفة ولا متاع قدر عليه إلّا حمله إليها. ثمّ عاد الثالثة إلى العراق. فقال لعمرو: - «اجمع إلىّ ثقات قومك وأصحابك وجندك، وهيّئ لى الغرائر [1] والمسوح [2] .» وحمل كلّ رجلين في غرارتين، وجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها، وقال: - «إذا دخلنا مدينة الزبّاء، أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإذا أقبلت الزبّاء تريد النفق، حلّلتها بالسيف.» ففعل عمرو بن عدى جميع ذلك. فلمّا قرب من المدينة، تقدّم قصير إليها، وبشّرها، وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال. وكان قصير يكمن النهار ويسير بالليل. فخرجت الزبّاء فأبصرت [93] الإبل. فلمّا توسّطت الإبل المدينة أنيخت، ودلّ قصير عمرا على باب النفق، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة، ووضعوا فيهم السلاح. وقام عمرو بن عدىّ بباب النفق، وأقبلت الزبّاء مبادرة تريد النفق لتدخله. فأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي صوّرها المصوّر، فمصّت خاتمها وكان فيه سمّ، وقالت:   [1] . الغرائر: جمع مفرده الغرارة، وهي وعاء من الخيش يوضع فيه القمح ونحوه، وهو أكبر من الجوالق. [2] . المسوح: جمع المسح: الكساء من شعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 - «بيدي، لا بيدك يا عمرو!» فحلّلها بالسيف، فقتلها وأصاب ما أصاب، وانكفأ [1] سالما. عمرو بن عدى ّ وصار الملك بعد جذيمة لعمرو بن عدىّ بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وإليه تنسب ملوك آل نصر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، لا يدين لملوك الطوائف، ولا يدينون له، حتّى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس، فكان من أمرهم ما كان. [2] ولم يكن لملوك اليمن نظام قبل آل نصر، وإنّما كان الرئيس يكون ملكا على مخلافه [3] ومحجره [4] ، ولا يتجاوزه، [94] فإن نبغ منهم نابغ مثل تبّع وغيره، فتجاوز ذلك، فإنّما هو عن غير نظام ولا ملك موطّد [له] [5] ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من تشرّد، فيغير عند الغرّة، فإذا قصده الطلب، لم يكن له ثبات. فكذلك كان أمر ملوك اليمن كان الواحد منهم بعد الواحد، في قديم الدهر، يخرج من مخلافه ومحجره أيّاما، فيصيب ما مرّ به، ثمّ يتشمّر عند الطلب [6] راجعا إلى موضعه من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه ومحجره بالطاعة، أو يؤدّى إليه خرجا إلّا ما يصيب على جهة الغارة، حتى كان عمرو بن عدىّ، إبن أخت جذيمة، فإنّه اتّصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على من كان بنواحي العراق، وبادية الحجاز، باستعمال ملوك فارس إيّاهم   [1] . انكفأ: رجع، انصرف. [2] . انظر الطبري 2: 768. [3] . المخلاف: الكورة، وهي المحافظة، أو المديرية في الإصطلاح الحديث. [4] . المحجر: محجر القيل من أقيال اليمن: حوزته، وناحيته، وحماه. [5] . تكملة أوردناها لما يبدو هنا من نقص. [6] . عند خوف الطلب (الطبري 2: 769) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 واستكفائهم أمر من وليهم من العرب. طسم وجديس وممّن أساء السيرة فاصطلم [1] ، طسم وجديس [2] ، وكانوا في أيّام ملوك الطوائف. فأما طسم فكان الملك [95] فيهم، وكانوا ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار، ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة. وكان ملكهم ظلوما غشوما راكبا هواه. فكان مما لقوا من ظلمه: أنه أمر ألّا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها [3] . فغبر على ذلك دهرا، حتى أنف منهم رجل يقال له: الأسود بن عفار [4] . فقال لرؤساء قومه: - «قد ترون ما نحن فيه من العار والذلّ، الذي ينبغي للكلاب أن تعافه، وتمتعض منه، فأطيعونى، فإنّى أدعوكم إلى عزّ الدهر ونفى الذلّ.» قالوا: «وما ذاك؟» فأخذ عهودهم إلى أن وثق ثم قال: - «إنّى صانع للملك طعاما، فإذا حضر نهضنا إليهم بأسيافنا، فانفردت به فقتلته، وأجهز كلّ رجل منكم على جليسه.» فأجابوه إلى ذلك، واجتمع رأيهم عليه. فاتّخذ طعاما وأمر قومه، فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال: - «إذا أتاكم [96] القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفكم ثم شدّوا عليهم قبل   [1] . اصطلمهم العدو أو الموت: استأصلهم وأبادهم. [2] . أنظر الطبري 2: 771، وابن الأثير 1: 351. [3] . افترع البكر: افتضّها. [4] . الطبري: غفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنّكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا.» وحضر الملك، فقتل وقتل الرؤساء، ثم شدّوا على البقيّة، فأفنوهم. حدّة بصر اليمامة فهرب رجل من طسم يقال له: رياح بن مرّة، حتى أتى حسان بن تبّع، فاستغاث به. فخرج حسّان بن تبّع في حمير، فلمّا كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح: - «أبيت اللعن، إنّ لى أختا متزوّجة في جديس يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها. إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإنى أخاف أن تنذر القوم، فمر أصحابك، فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه.» ففعلوا ذلك، فأبصرتهم، فقالت لجديس: - «لقد سارت حمير.» فكذّبوها وقالوا: - «ما الذي ترين؟» قالت: «أرى رجلا في شجر معه كتف يتعرّقها [1] أو نعل يخصفها.» فلم يستمعوا منها، واستهانوا، فكان كما قالت. وصبّحهم حسّان فأبادهم [97] وأخرب بلادهم، وهدّم قصورهم وحصونهم. وأتى حسّان باليمامة ففقأ [2] عينها، وقالت العرب في ذلك الأشعار، وهي معروفة.   [1] . تعرّق العظم: أكل ما عليه من اللحم نهشا بأسنانه. [2] . فقأ العين: شقّها فخرج ما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الساسانيّة [1] ومن عاصرهم أردشير بن بابك ثمّ لمّا استولى أردشير بن بابك [2] على الأرمانيّين (وهم ملوك العراق وأنباط السواد، وكان كلّ واحد منهم يقاتل صاحبه، فاستولى أردشير عليهما، وقتل الأردوان- ويسمّى «شاهنشاه» ) ، كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، فخرجوا، فلحقوا بالشام، وانضمّوا إلى من كان هناك، وكان ناس من العرب يحدثون الأحداث لو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة على ثلاثة أثلاث: الثلث [الأوّل [3]] : «تنوخ» ، وهم [4] من كان يسكن المظالّ وبيوت الشعر والوبر في غربىّ الفرات فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها. والثلث الثاني: «العبّاد» ، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا بها. والثلث الثالث: «الأخلاف» ، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيهم ممن لم تكن من تنوخ الوبر [98] ولا من العبّاد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار جميعا بنيتا في زمن بختنصّر، فخربت الحيرة لما تحول أهلها عند هلاك بختنصّر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عدىّ باتّخاذه إيّاها منزلا، فعمرت الحيرة خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة، إلى أن   [1] . فترة الحكم: 224- 652 م (فم) . [2] . أنظر الطبري (2: 813) . [3] . الأوّل: تكملة منّا. [4] . في الأصل: وهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وضعت الكوفة، ونزلها المسلمون. ودبّر أردشير أمر الفرس والعرب، وردّ نظام الملك، وكان حازما أريبا كثير الاستشارة طويل الفكر، معتمدا في تدبيره على رجل فاضل من الفرس يعرف ب «تنسر» ، وكان هربذا. فلم يزل يدبّر أمره ويجتمع معه على سياسة الملك، إلى أن أطاعه من جاوره من ملوك الطوائف، وعرفوا فضله، ودخلوا تحت رايته رهبة ورغبة، وحارب من امتنع منهم عليه. وله مكايد وحروب يطول الكتاب بذكرها. فمن أحسن ما حفظ له عهده إلى الملوك بعده، وهذه نسخته: [99] عهد أردشير - «باسم ولىّ الرحمة. [1] من ملك الملوك أردشير بن [2] بابك، إلى من يخلفه [3] بعقبه من ملوك فارس، السلام والعافية. أمّا بعد [4] ، فإنّ صيغ [5] الملوك على غير صيغ [6] الرعية، فالملك يطبعه [7] العزّ والأمن والسرور والقدرة، على طباع الأنفة والجرأة والعيث [8] والبطر. ثم كلّما ازداد في العمر تنفّسا وفي الملك سلامة، زاده [9] في هذه الطبائع الأربع [10] ، حتّى يسلمه [11] إلى سكر السلطان الذي هو أشدّ من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات [12] والغير   [1] . ر: بدون بسملة. 6: بسم الله الرحمن الرحيم. [2] . غ: من أردشير ملك الملوك. [3] . غ: يخلف. [4] . غ: بدون «أما بعد» . [5] . مط: منع. [6] . مط: منع. [7] . غ: بطبعه. [8] . غ: البطر والعيث. [9] . غ: «ثم له كلما ازداد ... زيادة» بدل «ثم كلما ازداد ... زاده» . [10] . في الأصل: الأربعة. والتصحيح من غ. [11] . غ: يسلّمه ذلك منه. [12] . غ: بدون «العثرات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 والدوائر وفحش تسلّط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول. وقد قال الأوّلون منّا: عند حسن الظنّ بالأيّام تحدث الغير. وقد كان من الملوك من يذكّره عزّه الذلّ، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وبطره [السوقة] [1] ، [وقدرته المعجزة] [2] ، ولا حزم إلّا في جميعها. - «اعلموا أنّ الذي أنتم [100] لاقون بعدي، هو الذي لقيني [3] من الأمور، وهي بعدي واردة عليكم [بمثل الذي وردت به علىّ] [4] ، فيأتيكم السرور والأذى في الملك من حيث أتيانى، وأن منكم من سيركب الملك صعبا فيمنى من شماسه [5] وجماحه وخبطه واعتراضه بمثل الذي منيت به. [6] ومنكم من سيرث الملك عن الكفاة المذلّلين له مركبه، وسيجرى على لسانه ويلقى فيه قلبه [7] أن قد فرع [8] له، وكفى، واكتفى وفرغ للسعي في العبث والملاهي [9] ، وأنّ من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا، وفي التمكين له سعوا، وأن قد خصّ بما حرموا، وأعطى ما منعوا، فيكثر أن يقول مسرّا ومعلنا: خصّوا بالعمل وخصصت بالدعة، وقدّموا   [1] . في الأصل: بالسوقة، مهملة، فاعجمناها وحذفنا الباء. في مط أيضا: بالسوقة. [2] . زيادة من غ. وقدرته المعجزة، فإذا هو قد جمع مهجة ( «بهجة» - رسائل البلغاء) الملوك، وفكرة السوقة ( «وحذر الرعية- رسائل البلغاء) ولا حزم إلّا في جمعها» بدل: «بطره ... جميعها» . [3] . غ: لقبته. [4] . زيادة من غ. [5] . الشماس: الإباء. [6] . غ: منيت به منه. يقال: منى الله (يمنى منيا) فلانا بكذا. أى ابتلاه وأصابه. [7] . غ: أمنيته. [8] . غ: فرغ، بالغين المعجمة. وفرع (بالعين المهملة) الفرس: كبحه. [9] . غ: في السعى في الملاهي واللعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قبلي إلى الغرر، وخلّفت في الثقة. وهذا الباب من الأبواب التي تكسر سكور [1] الفساد، ويهاج بها قربات [2] البلاء، ويغنى البصير اللطيف ما ينتهك من الأمور في ذلك [3] . فإنّا قد رأينا الملك الرشيد السعيد المنصور المكفىّ المظفر [101] الحازم في الفرصة، البصير بالعورة، اللطيف [للشبهة] [4] المبسوط له في العلم والعمر، يجتهد فلا يعدو [5] صلاح ملكه حياته [6] ، إلّا أن يتشبّه به متشبّه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدّته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير تدبير [7] يدرك، أفسد جميع ما قدّم له من الصلاح قبله، ويخلّف المملكة خرابا على من بعده [8] . - «وقد علمت أنكم ستبلون [9] مع الملك بالأزواج والأولاد والقرناء والوزراء والأخدان والأنصار والأصحاب والأعوان والمتنصّحين والمتقربين والمضحكين والمزيّنين [10] : كلّ هؤلاء- إلّا قليلا- أن يأخذ لنفسه أحبّ إليه من أن يعطى منها، وإنّما عمله لسوق يومه وحياة غده. فنصيحته الملوك [11] فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها.   [1] . جمع مفرده السكر: ما يسدّ به النهر ونحوه. [2] . ر: دواهم، بدل: «قربات» . [3] . غ: بدل «تكسر ... في ذلك» : يكثر بها فنون البلاء، وتعيى البصر عن لطيف ما يتهتك من الأمور في ذلك» . [4] . زيادة من غ. [5] . في الأصل: يعدو. [6] . حياته: مهملة في الأصل والتصحيح من مط. [7] . غ: صواب تدبير. [8] . غ: بدل «أفسد ... من بعده» : أفسد واستفسد جميع ما قدّم له من قبله، وخلّف المملكة خرابا من بعده. [9] . غ: ستبتلون. [10] . المزيّن: الحلّاق. غ: المتزيّنين. [11] . غ: لملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يجعل نفسه هي العامّة، والعامّة [1] هي الخاصّة: فإن [2] خصّ بنعمة دون الناس فهي عنده نعمة عامّة، وإذا عمّ [102] الناس بالنصر على العدوّ، والعدل في البيضة، والأمن على الحريم، والحفظ للأطراف، والرأفة من الملك، والاستقامة من الملك، ولم يخصص من ذلك بما يرضيه، سمّى تلك النعمة نعمة خاصّة. ثم أكثر شكيّة [3] الدهر، ومذمّة الأمور. يقيم للسلطان سوق المودّة ما أقام له سوق الأرباح، ولا يعلم ذلك الوزير والقرين أنّ في التماس الربح على السلطان فساد جميع الأمور [4] ، وقد قال الأوّلون منّا: رشاد الوالي خير للرعيّة من خصب الزمان [5] . - «واعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان. لا قوام لأحدهما إلّا بصاحبه، لأنّ الدين أسّ الملك وعماده، [6] وصار الملك بعد حارس الدين، فلا بدّ للملك من أسّه، ولا بدّ للدين من حارسه، فإنّ [7] ما لا حارس له ضائع، وإنّ ما [8] لا أسّ له مهدوم. وإنّ رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إيّاكم إلى دراسة الدين [وتلاوته والتفقّه فيه، فتحملكم الثقة بقوّة السلطان] [9] على التهاون بهم [10] ، فتحدث في الدين رئاسات مستسرّات في من قد وترتم [11] وجفوتم [103]   [1] . غ: ويجعل العامة. [2] . غ: فإذا. [3] . غ: شكاية. [4] . غ: بدل «ولا يعلم ذلك الوزير ... فساد جميع الأمور» : «ولا يعلم ذلك الوزير أنّ الوضيعة عنده في التماس الربح على السلطان» . [5] . في رسائل البلغاء: رشاد الملك. في كامل المبرّد: عدل السلطان. [6] . غ: بدون «عماده» . [7] . غ: لأنّ. [8] . غ: بدون «إنّ» . [9] . ما بين [] زيادة من ر، غ. [10] . مط: به. [11] . وتره: قتل حميمه وأدركه بمكروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة [1] الناس والرعيّة وحشو العامّة، ولم يجتمع [2] رئيس في الدين مسرّ، ورئيس في الملك معلن، في مملكة واحدة قطّ، إلّا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأنّ الدين أسّ والملك عماد، وصاحب الأسّ أولى بجمع [3] البنيان من صاحب العماد. - «وقد مضى قبلنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الجملة بالتفسير [4] والجماعات بالتفصيل [5] ، والفراغ بالأشغال، كتعهّده جسده بقصّ فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر [6] ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن. وقد كان من أولئك الملوك من صحّة ملكه أحبّ إليه من صحّة جسده، وكان بما يخلّفه من الذكر [الجميل [7]] المحمود، أفرح وأبهج منه بما يسمعه بأذنه في حياته. فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد، وكأنّ أرواحهم روح واحدة، يمكّن أوّلهم لآخرهم، ويصدّق آخرهم أوّلهم بجميع أنباء أسلافهم، ومواريث آرائهم [8] ، وصياغات عقولهم، عند الباقي منهم بعدهم، فكأنّهم جلوس [104] معه، يحدّثونه، ويشاورونه [9] ، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان، وغلبة [10] الإسكندر على ما غلب [11] من ملكنا. فكان إفساده أمرنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمران مملكتنا، أبلغ له في ما أراد من سفك دمائنا. فلمّا أذن الله في   [1] . السّفلة والسّفلة من الناس: أسافلهم وغوغاؤهم. [2] . غ: واعلموا أنه لن يجتمع. [3] . غ: بجميع. [4] . ر. بالتفتيش. [5] . مط: والجماعة بالتحصيل. [6] . الغمر: الحقد والغلّ. نتن العرق. [7] . زيادة من غ. [8] . غ: آبائهم. [9] . غ: ويشاورهم. [10] . غ: من غلبة. [11] . غ: غلب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 جمع مملكتنا ودولة أحسابنا، كان من ابتعاثه [1] إيّانا ما كان، وبالاعتبار [2] تتّقى الغير، ومن يخلفنا أوجد للاعتبار، منّا، لما استدبروا من أعاجيب ما أتى علينا. - «واعلموا أنّ سلطانكم إنّما هو على أجساد الرعيّة، وأنّه لا سلطان للملوك على القلوب. واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ذات [3] أيديهم، فلن تغلبوهم على عقولهم. واعلموا أنّ العاقل [المحروم] [4] سالّ عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإنّ أشدّ ما يضربكم [5] به من لسانه، ما صرف الحيلة فيه إلى الدين: فكأنّ بالدين يحتجّ وللدين- فيما يظهر- يغضب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، و [6] هو أوجد للتابعين والمصدّقين والمناصحين والمؤازرين [105] منكم. لأنّ بغضة الناس هي موكّلة بالملوك، ومحبّتهم ورحمتهم موكلّة بالضعفاء المغلوبين. وقد كان من قبلنا من الملوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فانّ العاقل لا تنفعه [جودة] [7] نحيزته [8] إذا صيّر عقله خرابا [مواتا] [9] ، وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوك، فيسمّونهم المبتدعين. فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويريح الملوك منهم. ولا ينبغي للملك أن يعترف للعبّاد والنسّاك [والمتبتّلين] [10] أن يكونوا أولى بالدين، ولا أحدب [11] عليه، ولا أغضب له منه. ولا ينبغي للملك أن يدع   [1] . غ: ابتعاث الله. [2] . غ: العثار. [3] . غ: ما في. [4] . زيادة من غ. [5] . غ: ما يضرّكم. [6] . غ: «ثم» بدل «و» . [7] . زيادة من غ. [8] . النحيزة: الطبيعة. [9] . زيادة من غ. [10] . زيادة من غ. [11] . حدب عليه: عطف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 النسّاك بغير الأمر والنهى لهم في نسكهم [ودينهم] [1] فإنّ خروج النساك وغير النسّاك من الأمر والنهى عيب على الملوك وعيب على المملكة. وثلمة يتسنّمها الناس بنيّة [2] الضرر للملك ولمن بعده. - «واعلموا أنّ مصير الوالي إلى [3] غير أخدانه، وتقريبه غير وزرائه، فتح لأبواب [الأنباء] [4] المحجوب [5] عنه علمها. وقد قيل: إذا استوحش الوالي ممّن لم [106] يوطّن [6] نفسه عليه، أطبقت عليه ظلم الجهالة [7] ، وقيل: أخوف ما تكون العامّة آمن ما يكون الوزراء. - «اعلموا أنّ دولتكم تؤتى من مكانين: أحدهما غلبة بعض الأمم المخالفة لكم، والآخر فساد أدبكم [8] . ولن يزال حريمكم من الأمم محروسا، ودينكم من غلبة الأديان محفوظا، ما عظّمت فيكم الولاة، وليس تعظيمهم بترك كلامهم، ولا إجلالهم بالتنحّى عنهم، ولا المحبّة لهم بالمحبّة لكل ما يحبّون. ولكن تعظيمهم تعظيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال منزلتهم من الله، ومحبّتهم محبّة إصابتهم، وحكاية الصواب عنهم.   [1] . زيادة من غ. [2] . غ: بينة الضرر. [3] . مط: على. [4] . الأنباء: زيادة من غ. [5] . ر: لأبواب محجوب. [6] . ص: مما يوطّن. [7] . قس هذه السطور بما جاء في رسائل البلغاء: «وإذا أذن الملك للعقلاء من مناصحى دولته، في إنهاء ما يتجدّد عندهم من النصائح التي لا يعلمها خواصه، أو يعلمونها ويكتمونها، انفتحت له أبواب من الأخبار المحجوبة عنه، فيحذر وزراؤه وخواصه من الاتفاق على أمر يكرهه، خوفا من أن يطالع به، فيأمن مكايدهم، وتسلم الرعية من ظلمهم، ومن غلبت عليه خواصه، حتى منعوا عنه الناس، فلا يصل إليه إلّا من يحبّون، أطبقت ظلم الجهالة عليه» . [8] . ص: رأيكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 - «واعلموا أنه لا سبيل إلى أن يعظّم الوالي إلّا بالإصابة في السياسة، ورأس إصابة السياسة أن يفتح الوالي لمن قبله من الرعية بابين: أحدهما باب رقّة ورحمة [ورأفة وتضرّع وبذل وتحنّن وإلطاف ومواساة ومؤانسة] [1] وبشر وتهلل [وعفو] [2] وانبساط وانشراح، والآخر: باب غلظة وخشية [3] وتعنّت [107] وتسدّد وإمساك ومباعدة وإقصاء ومخالفة ومنع وقطوب [4] وانقباض [وتضييق وعقوبة] [5] ومحقرة إلى أن يبلغ القتل. واعلموا انّى لم أسمّ [هذين البابين] [6] باب رفق وباب عنف، ولكنّى [سمّيتهما] [7] جميعا «بابى رفق» ، لأنّ [8] فتح باب المكروه مع باب السرور هو أو شك لغلقه [9] ، حتّى لا يبتلى به أحد. و [10] في الرعيّة من الأهواء الغالبة للرأى والفجور المستثقل للدين والسفلة الحنقة على الوجوه بالنفاسة والحسد، ما لا بدّ معه أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وبباب الاستبقاء باب القتل، وقد يفسد الوالي بعض الرعيّة من حرصه على صلاحها، ويغلظ [11] عليها من رقّته لها [12] ، ويقتل [13] فيها من حرصه على حياتها. - «واعلموا أنّ قتالكم الأعداء من الأمم قبل قتالكم الأدب من أنفس رعيّتكم، ليس بحفظ، ولكنّه إضاعة. وكيف يجاهد العدوّ   [1] . زيادة من غ. [2] . زيادة من غ. [3] . غ: وخشنة وتعصب وتشديد وجفاء، بدل «وخشية وتعنّت وتسدد وإمساك» . [4] . غ: «عبوس» بدل «قطوب» . [5] . زيادة من غ. [6] . في الأصل: هذا الباب، والتصحيح من غ. [7] . في الأصل: سميتها، والتصحيح من غ. [8] . غ: واعلموا أنّ. [9] . غ: لإغلاقه. [10] . غ: واعلموا أنّ. [11] . غ: وقد يغلط. [12] . غ: من شدة رأفته بها. [13] . غ: وقد يقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بقلوب مختلفة، وأيد متعادية. وقد علمتم أنّ الذي بنى عليه الناس، [108] وجبلت عليه الطباع [1] ، حبّ الحياة وبغض الموت، [وأنّ الحرب تباعد من الحياة وتدنى من الموت] [2] ، فلا دفع ولا منع [3] ولا صبر ولا محاماة مع هذا، إلّا بأحد وجهين: إمّا بنيّة، والنيّة ما لن يقدر على الوالي عند الناس بعد النيّة التي تكون في أوّل الدولة، وإمّا بحسن الأدب وإصابة السياسة. «واعلموا أنّ بدء ذهاب الدول [4] من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة، ولا أعمال معلومة. فإذا فشى الفراغ [في الناس] [5] ، تولّد منه النظر في الأمور، والفكر في الأصول. فإذا نظروا في ذلك، نظروا فيه بطبائع مختلفة، فتختلف بهم المذاهب، ويتولّد من اختلاف مذاهبهم، تعاديهم وتضاغنهم وتطاعنهم [6] ، وهم في ذلك مجتمعون- في اختلافهم- على بغض الملوك، لأنّ كل صنف منهم إنما يجرى إلى فجيعة الملك بملكه، ولكنهم لا يجدون سلّما إلى ذلك [7] أوثق من الدين، ولا أكثر أتباعا، ولا أعزّ امتناعا، ولا أشدّ على الناس صبرا [8] . ثم يتولّد من تعاديهم [109] أنّ الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد، فإذا انفرد ببعضهم، فهو عدوّ بقيّتهم، ثم تتولّد من عداوتهم [للملك] [9] كثرتهم، فإنّ من شأن العامّة الاجتماع على استثقال الولاة والنفاسة [10] عليهم. لأنّ في   [1] . غ: الطبائع. [2] . ما في [] زيادة من غ. [3] . ليس في غ: فلا دفع ولا منع. [4] . غ: واعلموا أنّ ذهاب الدول يبدو. [5] . زيادة من غ. [6] . غ: بدون «تطاعنهم» . [7] . غ: مع ذلك مجمعون. [8] . غ: صوابا. [9] . زيادة من غ. [10] . النفاسة: الحسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الرعيّة المحروم، والمضروب، والمقام عليه وفيه وفي حميمه الحدود، والداخل عليه بعزّ الملك الذلّ في نفسه وخاصّته. فكلّ هؤلاء يجرى إلى متابعة أعداء الملك. ثمّ يتولّد من كثرتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم، فإنّ إقدام الملك على جميع الرعيّة تغرير [1] بملكه ونفسه، ويتولّد من جبن الولاة عن تأديب العامة تضييع الثغور التي فيها الأمم من ذوى الدين والبأس، لأنّ الملك إن سدّ الثغور بخاصّته المناصحين له، وخلت [2] به العامّة الحاسدة المعادية [3] ، لم يعد بذلك تدريبهم في الحرب، وتقويتهم في السلاح، وتعليمهم المكيدة مع البغضة، فهم عند ذلك أقوى عدو [وأضرّه، وأحنقه] [4] ، وأحضره، وأخلقه بالظفر، ولا بدّ من استطراد [110] هذا كله إذا ضيّع أوّله. - «فمن ألفى منكم الرعيّة بعدي وهي على حال أقسامها الأربعة التي هي: أصحاب الدين، والحرب، والتدبير، والخدمة- من ذلك: الأساورة صنف، والعبّاد والنسّاك وسدنة النيران صنف، والكتّاب والمنجّمون والأطبّاء صنف، والزرّاع والمهّان والتجار صنف- فلا يكوننّ بإصلاح جسده أشدّ اهتماما منه بإحياء تلك الحال، وتفتيش ما يحدث فيها من الدخلات [5] ، ولا يكوننّ لانتقاله عن الملك بأجزع منه من انتقال صنف من هذه الأصناف إلى غير مرتبته. لأنّ تنقّل الناس عن مراتبهم سريع في نقل الملك عن ملكه: إمّا إلى   [1] . غرر به: عرّضه للهلكة. [2] . خلت به: خادعته. [3] . غ: المعادية المنافسة، وإن التمس سدّ الثور بالعامة الحاسدة ولم يعد. [4] . زيادة من غ. [5] . الدخلات: النيات. دخلة الأمر: بطانته. الدخلة: المذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 خلع، وإمّا إلى فتك. فلا يكوننّ من شيء من الأشياء أوحش بتّة [1] من رأس صار ذنبا، أو ذنب صار رأسا، أو يد مشغولة أحدثت فراغا، أو كريم ضرير، أو لئيم مرح. فانّه يتولّد من تنقّل الناس عن حالاتهم، أن يلتمس كلّ امرئ منهم أشياء فوق مرتبته. [111] فإذا انتقل أو شك أن يرى أشياء أرفع مما انتقل إليه، فيغبط وينافس. وقد علمتم أنّ من الرعيّة أقواما هم أقرب الناس من الملوك حالا. وفي تنقّل الناس عن حالاتهم مطمعة للذين يلون الملوك في الملك، ومطمعة للذين دون الذين يلون الملوك في تلك الحال، وهذا لقاح بوار الملك. - «ومن ألفى منكم الرعيّة وقد أضيع [2] أوّل أمرها، فألفاها في اختلاف من الدين، واختلاف [3] من المراتب، وضياع من العامّة، وكانت به على المكاثرة قوّة، فليكاثر [4] بقوّته ضعفهم، وليبادر بالأخذ بأكظامهم قبل أن يبادروا بالأخذ بكظمه [5] ، ولا يقولنّ: أخاف العسف [6] . فإنّما يخاف العسف من يخاف جريرة العسف على نفسه، فأمّا إذا كان العسف لبعض الرعيّة صلاحا لبقيّتها، وراحة له ولمن بقي معه من الرعيّة، من النغل [7] والدغل والفساد، فلا يكوننّ إلى شيء بأسرع منه إلى [112] ذلك، فإنّه ليس نفسه ولا أهل موافقته يعسف، ولكنّما [8] يعسف عدوّه. - «ومن ألفى منكم الرعيّة في حال فسادها، ولم ير بنفسه عليها   [1] . بتّة: قطعا. غ: منه بدل: بتّة. مط: نية. [2] . غ: ضاع. [3] . غ: واختلال. [4] . كاثره: غالبه بالكثرة. [5] . أخذ بكظمه: كربه وغمّه. [6] . العسف: الظلم. [7] . النغل: الإفساد بين القوم. نغلت نيته: ساءت. [8] . غ: ولكنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قوّة في [إ] صلاحها [1] ، فلا يكوننّ لقميص قمل [2] بأسرع خلعا منه لما لبس من ذلك الملك، وليأته البوار- إذا أتاه- وهو غير مذكور بشؤم، ولا منوّه به في دنياه [3] ، ولا مهتوك به ستر ما في يديه. - «واعلموا أنّ فيكم من يستريح إلى اللهو والدعة، ثم يديم من ذلك ما يورثه خلقا وعادة. فيكون ذلك لقاح جدّ لا لهو فيه، وتعب لا خفض [4] فيه [5] ، مع الهجنة في الرأى والفضيحة في الذكر. وقد قال الأولون منّا: لهو رعيّة الصدق بتقريظ الملوك، ولهو ملوك الصدق بالتودّد إلى الرعيّة. - «واعلموا أنّ من شاء منكم ألّا يسير بسيرة إلّا [6] قرّظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم تكن الناس بعيب نفوسهم بأعلم منه بعيبه. - «ثم إنه ليس منكم [113] ملك إلّا كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده، ومن فساد الرعيّة [7] نشر أمور ولاة العهود، فإنّ في ذلك من الفساد أنّ أوّله دخول عداوة ممضّة [8] بين الملك، وولى عهده، وليس يتعادى متعاديان بأشدّ من أن يسعى كلّ واحد منهما في قطع سؤل [9] صاحبه. وهكذا الملك، وولى عهده: لا يسرّ الأرفع أن يعطى الأوضع سؤله في فنائه. ولا يسرّ هذا الأوضع أن يعطى الآخر سؤله في البقاء، ومتى يكن فرح أحدهما في الراحة من صاحبه،   [1] . الهمزة، زدناها. [2] . القميص قمل إذا كثر عليه القمل. [3] . غ: دناءة. [4] . الخفض: لين العيش وسعته. [5] . غ: معه. [6] . مط: بدون «إلّا» . [7] . غ: الملك. [8] . أمضّه الأمر: أخرقه وشقّ عليه. [9] . غ: شوكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 تدخل كل واحد منهما وحشة من صاحبه في طعامه وشرابه، ومتى تداينا [1] بالتهمة، يتّخذ كلّ واحد منهما [أحبّاء وأخدانا وأهلا، ثم يدخل كلّ واحد منهما] [2] وغر [3] على أحبّاء صاحبه. ثم تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما لما لا بدّ منه من الفناء، فتفضى الأمور إلى الآخر وهو حنق على جيل من الناس، يرى أنه موتور إن لم يحرمهم ويضعهم، وينزل بهم التي كانوا يريدون إنزالها به لو ولوا. فإذا وضع بعض الرعية وأسخط بعضا على هذه الجهة، [114] تولّد من ذلك ضغن وسخط من الرعيّة، ثم ترامى ذلك إلى بعض ما أحذر عليكم بعدي. ولكن ليختر الوالي منكم لله، ثم للرعيّة، ثم لنفسه، وليّا للعهد من بعده، ثمّ ليكتب اسمه في أربع صحائف، فيختمها بخاتمه، فيضعها عند أربعة نفر [4] من خيار أهل المملكة. ثم لا يكوننّ [5] منه في سرّ ولا في علانية أمر يستدلّ به على ولىّ ذلك العهد، لا في إدناء وتقريب يعرف به، ولا في إقصاء وتنكّب يستراب له، وليتّق ذلك في اللحظة والكلمة. فإذا هلك، جمعت تلك الكتب التي عند الرهط الأربعة، إلى النسخة التي عند الملك، ففضضن جميعا، ثم نوّه بالذي وضع اسمه في جميعهن. فيلقى الملك- إذا لقيه- بحداثة عهده بحال السوقة [6] ، فلبس ذلك الملك- إذا لبسه- ببصر السوقة، وسمعها، ورأيها. فإنّ في سكر السلطان الذي   [1] . تداينا: تحاكما. [2] . زيادة من غ. [3] . الوغر والوغر: الحقد والضغن والعداوة. [4] . النفر: الجماعة من الرجال من ثلاثة إلى عشرة أنفار. ويقال: ثلاثة نفر، أو: ثلاثة أنفار. [5] . في الأصل: لا يكون. ونون التأكيد من غ. [6] . السوقة للمفرد والجمع: الرعية، ويقال للجمع: سوق كغرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 سيناله [1] ، ما يكتفى به له [2] من سكر ولاية العهد مع سكر الملك. فيصمّ ويعمى قبل لقاء الملك لصمم الملوك وعماهم، ثم يلقى الملك، فيزيده صمما وعمى مع ما يلقى في ولاية [115] العهد من بطر السلطان، وحيلة العتاة، وبغى الكذّابين و [ترقية] [3] النمّامين وتحميل الوشاة بينه وبين من فوقه. - «ثم اعلموا أنّه ليس للملك [أن يبخل، لأنه لا يخاف الفقر، وليس له] [4] أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، وليس له أن يغضب، لأنّ الغضب والعداوة لقاح الشرّ والندامة، وليس له أن يلعب ولا يعبث، لأنّ العبث واللعب من عمل الفرّاغ، وليس له أن يفرغ، لأنّ الفراغ من أمر السّوق، وليس له أن يحسد إلّا ملوك الأمم على حسن التدبير، وليس له أن يخاف، لأنّ الخوف من المعور [5] ، وليس له أن يتسلّط، إذ هو معور [6] . - «واعلموا أنّ زين الملوك، في استقامة الحال: أن لا تختلف منه ساعات العمل والمباشرة، وساعات الفراغ والدعة، وساعات الركوب والنزهة، فإنّ اختلافها منه خفّة، وليس للملك أن يخفّ. - «اعلموا أنّكم لن تقدروا على ختم أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم، ولا قدرة بكم [7] على أن تجعلوا القبيح حسنا [116] .   [1] . غ: «بينّاه» ، بدل «سيناله» . مط: نسبنا له. [2] . غ: بدون «له» . [3] . رقى في الحديث: زاد فيه. مط: «وتتبع الكذابين» بدل «وترقية النمامين» . [4] . ما بين [] زيادة من غ، ورسائل البلغاء. [5] . مط: المعوز. غ: من أمر المعور. رجل معور: قبيح السيرة. أعور الرجل والمرأة: بدت عورتهما. [6] . غ: إن هو أعور. مط: إذ هو معوز. [7] . غ: لكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 - «واعلموا أنّ لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحرىّ أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا. وليس فضل الملك على السوقة إلّا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فإنّ الملك إذا شاء أحسن، وليس السوقة كذلك. - «واعلموا أنّه يحقّ على الملك منكم أن يكون ألطف ما يكون نظرا، أعظم ما يكون خطرا، وألّا يذهب حسن أثره في الرعيّة خوفه لها، وألّا يستغنى بتدبير اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للملاقين أشدّ من حذره للمباعدين، وأن يتّقى بطانة السوء أشدّ من اتّقائه عامّة السوء، ولا يطمعنّ ملك في إصلاح العامّة إذا لم يبدأ بتقويم الخاصّة. - «واعلموا أنّ لكل ملك بطانة، وأنّ لكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكلّ امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع في ذلك [جميع] [1] أهل المملكة! فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب، أقام كل امرئ منهم بطانته [117] على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامّة الرعيّة. - «اعلموا أنّ الملك منكم قد تهون عليه العيوب، لأنّه لا يستقبل بها إن [2] عملها حتى يرى أنّ الناس يتكاتمونها بينهم كمكاتمتهم إيّاه تلك العيوب. وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، وطاعة الهوى داعية إلى غلبته، فإذا غلب الهوى اشتدّ علاجه من السوقة المغلوب [3] فضلا عن الملك الغالب. - «اتّقوا بابا واحدا طالما أمنته فضرّنى، وحذرته فنفعني: احذروا   [1] . ما في [] زيادة من غ. [2] . في الأصل: وإن (بزيادة الواو) . [3] . يبدو أنّ تذكير الصفة باعتبار معنى «السوقة» المفرد. في مط أيضا: المغلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 إفشاء السرّ عند الصغار من أهليكم وخدمكم، فانّه لا يصغر أحد منهم [عن] [1] حمل ذلك السرّ كاملا! لا يقول منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون، إمّا سقطا وإما غشّا [2] ، والسقط أكثر ذلك. اجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم [3] لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وسرّكم عند من يلزمه خير ذلك وشرّه وزينه وشينه. [118] «واعلموا أنّ صحة الظنون مفاتيح اليقين، وأنكم ستستيقنون من بعض رعيّتكم بخير وشرّ، وستظنّون ببعضهم خيرا وشرّا، فمن استيقنتم منه بالخير والشرّ، فليستيقن منكم بهما، ومن ظننتموهما به [4] ، فليظنّهما بكم في أمره، فعند ذلك يبدو من المحسن إحسانه، فيخالف الظنّ فيغتبط [5] ، ومن المسيء إساءته، فيصدق الظنّ به فيندم. «واعلموا أنّ للشيطان في ساعات من الدهر طمعا في السلطان عليكم، منها: ساعات الغضب والحرص والزهو، فلا تكونوا له في شيء من ساعات الدهر أشدّ قتالا منكم عندهنّ حتّى يتقشّعن. وكان يقال: اتّق مقارنة الحريص الغادر، فإنّه إن رءاك في القرب، رأى منك أخبث حالاتك، وإن رءاك في الفضول، لم يدعك وفضولك. أسعدوا [6] الرأى على الهوى، فإنّ ذلك تمليك للرأى. واعلموا أنّ   [1] . في الأصل: «على» ولم نجد لها وجها من الصحة. [2] . الغشّ: اسم للغش. [3] . الحباء: العطاء. [4] . مط: منه. [5] . مط: فيسقط. [6] . أسعدوا: ساعدوا. غ: استعدوا: استعينوا. (الأول من الإسعاد والثاني من الاستعداء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 من شأن الرأى الاستخذاء [1] للهوى، إذا جرى الهوى على عادته. وقد عرفنا [119] رجالا كان الرجل منهم يؤنس من قوّة طباعه، ونبالة رأيه ما تريه نفسه أنّه على إزاحة الهوى عنه، وإن جرى على عادته، ومعاودته الرأى، وإن طال به عهده قادر، لثقة يجدها بقوّة الرأى. فإذا تمكّن الهوى منه، فسخ عزم رأيه، حتى يسمّيه كثير من الناس ناقصا في العقل. فأمّا البصراء فيستبينون من عقله عند غلبة الهوى عليه ما يستبان من الأرض الطيّبة الموات. - «واعلموا أنّ في الرعية صنفا من الناس هم بإساءة الوالي أفرح منهم بإحسانه، وإن كان الوالي لم يترهم، وكان الزمان لم ينكبهم، وذلك لاستطراف حادثات الأخبار، فإنّ استطراف الأخبار معروف من أخلاق حشو الناس. ثمّ لا طرفة عندهم فيما اشتهر، فجمعوا في ذلك سرور كلّ عدو لهم ولعامّتهم مع ما وتروا به أنفسهم وولاتهم. فلا دواء لأولئك إلّا بالأشغال. وفي الرعية صنف وتروا [2] الناس [120] كلّهم وهم الذين قووا على جفوة الولاة، ومن قوى على جفوتهم فهو غير سادّ ثغرا ولا مناصح [3] إماما، ومن غشّ الإمام فقد غشّ العامّة وإن ظنّ أنه للعامة مناصح، وكان يقال: لم ينصح عملا من غشّ عامله. - «وفي الرعيّة صنف تركوا إتيان الملوك من قبل أبوابهم وأتوهم من قبل وزرائهم. فليعلم الملك منكم أنّ من أتاه من قبل بابه فقد آثره بنصيحته [4] إن كانت عنده، ومن أتاه من قبل وزرائه فهو موثر للوزير على الملك في جميع ما يقول ويفعل.   [1] . استخذى له: انقاد واتّضع. [2] . غ: ضروب وتروا. [3] . غ: بدون «لا» . [4] . غ: بنصيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 - «وفي الرعيّة صنف دعوا إلى أنفسهم الجاه، بالإباء والردّ له، ووجدوا ذلك عند المغفّلين نافقا [1] ، وربّما قرّب الملك الرجل من أولئك لغير نبل في رأى، ولا إجزاء [2] في العمل، ولكن الإباء والردّ أغرياه به [3] . - «وفي الرعيّة صنف أظهروا التواضع، واستشعروا الكبر. فالرجل منهم يعظ الملوك زاريا عليهم بالموعظة، يجد ذلك أسهل طريقي طعنه عليهم [121] ويسمّى هو ذلك- وكثير ممن معه- تحرّيا [4] للدين. فإن أراد الملك هو انهم لم يعرف لهم ذنبا يهانون عليه [5] ، وإن أراد إكرامهم فهي منزلة حبوا بها أنفسهم على رغم الملوك، وإن أراد إسكاتهم كان السماع في ذلك أنّه استثقل ما عندهم من حفظ الدين، وإن أمروا بالكلام قالوا [ما يفسد ولا يصلح] [6] . فأولئك أعداء الدول وآفات الملوك. فالرأى للملوك تقريبهم من الدنيا، فإنّهم إليها أجروا [7] ، وفيها [8] عملوا، ولها سعوا، وإيّاها أرادوا. فإذا تلوّثوا [9] فيها بدت فضائحهم، وإلّا فإنّ فيما يحدثون ما يجعل للملوك سلّما إلى سفك دمائهم. وكان بعض الملوك يقول: القتل أقلّ للقتل. - «وفي الرعيّة صنف أتوا الملوك من قبل النصائح لهم، والتمسوا صلاح منازلهم بإفساد منازل الناس. فأولئك أعداء الناس وأعداء   [1] . مط: نافعا. نفقت السوق: قامت وراجت تجارتها. [2] . الإجزاء: الكفاية والإغناء. [3] . به: الأصل مطموس، والمثبت من غ. [4] . غ: محرزا. [5] . وفي غ: به. [6] . الضبط من غ، وفي الأصل: إنما نفسد ولا نصلح. وفي رسائل البلغاء: وإن أطلق لسانه، قال بوعظه بين الملأ ما أفسد حال الدولة. [7] . أجرى إلى الشيء: قصده. [8] . غ: لها. [9] . مط: تكونوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الملوك، ومن عادى الملوك وجميع الرعيّة، فقد عادى نفسه. - «واعلموا أنّ الدهر [122] حاملكم على طبقات، منهنّ: حال السخاء حتى تدنو من السرف، ومنهن: حال التقتير [1] حتى تقرب من البخل، ومنهنّ: حال الأناة، حتى تصير إلى البلادة، ومنهنّ: حال المناهزة للفرصة حتى تدنو من الخفّة، ومنهنّ حال الطلّاقة في اللسان حتى تدنو من الهذر، ومنهنّ: حال الأخذ بحكم الصمت حتى تدنو من العىّ، فالملك منكم جدير أن يبلغ من كلّ طبقة في محاسنها حدّها، فإذا وقف على الحدود التي ما وراءها سرف، ألجم نفسه عمّا وراءها. - «واعلموا أنّ الملك منكم ستعرض له شهوات في غير ساعاتها. والملك إذا قدّر ساعة العمل، وساعة الفراغ، وساعة المطعم، وساعة المشرب، وساعة الفضيلة [2] ، وساعة اللهو، كان جديرا ألّا يعرف منه [3] الاستقدام بالأمور، ولا الاستيخار عن ساعاتها. فإنّ اختلاف ذلك يورث مضرّتين: إحداهما السخف، وهي أشدّ الأمرين، [123] والأخرى نقص الجسد، بنقص أقواته وحركاته. - «واعلموا أنّ من ملوككم من سيقول: لى الفضل على من كان قبلي من آبائي وعمومتي ومن ورثت عنه هذا الأمر، لبعض الإحسان يكون منه. فإذا قال ذلك، سوعد [4] عليه بالمتابعة [5] له.   [1] . غ: حال الإقتصاد. قتّر على عياله: بخل، وضيّق عليهم في النفقة. [2] . غ: الفضلة. [3] . مط: بدون «منه» . [4] . غ: وسوعد. [5] . مط: بالمبايعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فليعلم ذلك الملك والمتابعون [1] : إنما [2] وضعوا أيديهم وألسنتهم في قصب [3] آبائه من الملوك وهم لا يشعرون. ولبالحرىّ أن يشعر بعض المتابعين له فيغمّض [4] على ما لا يحزنه من ذلك. - «واعلموا أنّ ابن الملك وأخاه وعمّه [5] وابن عمّه كلّهم يقول: كدت أن أكون ملكا، وبالحرىّ ألّا أموت حتى أكون ملكا، فإذا قال ذلك، قال ما لا يسرّ الملك. فإن كتمه، فالداء في كلّ مكتوم، وإن أظهره كلم [6] في قلب الملك كلما [7] يكون لقاحا للتباين والتعادي. وستجدون [8] القائل ذلك من المتابعين والمحتملين [9] والمتمنّين، ما تمنّى لنفسه ما يريده [10] ، إلّا [11] [124] ما اشتاق إليه شوقا. فإذا تمكّن في صدره الأمل، لم يرج النيل له، إلّا في اضطراب من الحبل [12] ، وزعزعة تدخل على الملك وأهل المملكة. فإذا تمنّى ذلك فقد جعل الفساد سلّما إلى الصلاح، ولم يكن الفساد سلّما إلى صلاح قطّ. وقد رسمت لكم في ذلك مثالا لا مخرج لكم منه إلّا به. اجعلوا أولاد الملك من بنات عمومتهم. ثمّ لا يصلح من أولاد بنات الأعمام، إلّا كامل غير سخيف العقل، ولا عازب الرأى، ولا ناقص الجوارح، ولا معيوب عليه في الدين. فإنّكم إذا فعلتم ذلك، قلّ طلّاب الملك، وإذا قلّ طلّابه استراح كلّ امرئ على جديلته، وعرف   [1] . مط: المبالغون. [2] . مط: بدون «إنما» . [3] . قصبه: شتمه. [4] . غ: فيغضى. [5] . مط: «وابن أخى الملك» بدل «عمه وابن عمه» . [6] . الكلم: الجرح. [7] . غ: كلّ ما. [8] . في الأصل: وستجد. غ: وستجدون. [9] . غ: «والمخيلين له» بدل «المحتملين والمتمنين» . [10] . غ: ما يزيده. [11] . في الأصل ومط: إلى، والتصحيح من غ. [12] . الحبل: العهد والذمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 حاله [1] ، وغضّ بصره، ورضى بمعيشته واستطاب زمانه. - «واعلموا أنّه سيقول قائل من عرض [2] رعيّتكم، أو من ذوى قرابتكم: ما لأحد علىّ فضل و [3] لو كان لى ملك..، فإذا قال ذلك فإنّه قد تمنّى الملك [125] [4] وهو لا يشعر، ويوشك أن يتمنّاه بعد ذلك وهو يشعر. فلا يرى ذلك من رأيه خطلا [5] ، ولا من فعله زللا، وإنّما يستخرج ذلك فراغ القلب واللسان ممّا يكلّف أهل الدين والكتّاب والحسّاب، أو فراغ اليد ممّا يكلّف الأساورة، أو فراغ البدن مما يكلّف التجّار، والمهنة، والخدم. واعلموا أنّ الملك ورعيّته جميعا يحقّ عليهم ألّا يكون للفراغ عندهم موضع، فإنّ التضييع في فراغ الملك، وفساد المملكة في فراغ الرعيّة. - «واعلموا أنّا على فضل قوّتنا، وإجابة الأمور إيّانا، وحدّة دولتنا، وشدة بأس أنصارنا، وحسن نيّة وزرائنا، لم نستطع إحكام تفتيش الناس، حتى بلغنا من الرعيّة مكروهها، ومن أنفسنا مجهودها. - «واعلموا أنّه لا بدّ من سخط سيحدث منكم على بعض أعوانكم المعروفين بالنصيحة لكم، ولا بدّ من رضى سيحدث لكم من بعض أعدائكم المعروفين بالغشّ لكم، فلا تحدثوا، عند ما يكون من ذلك، انقباضا عن المعروف [126] بالنصيحة، ولا استرسالا إلى   [1] . غ: «واقتصر على ما يليه، واستكثر كل امرئ حاله» بدل «على جديلته وعرف حاله» . الجديلة: الطريقة، والشاكلة. [2] . هو من عرض الناس: من العامة. [3] . غ: بدون «و» . [4] . حصل تقديم وتأثير بين صفحتي 125 و 126 من مصورة ليدن، فصححناه. [5] . الخطل: الحمق. المنطق المضطرب الفاسد. الكلام الكثير الفاسد. الطول والاضطراب يكون في الإنسان والرمح والفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المعروف بالغشّ. - «قد خلّفت لكم رأيى، إذ لم أستطع تخليف بدني، وقد حبوتكم بما حبوت به نفسي وقضيت حقّكم فيما آسيتكم به من رأى. فاقضوا حقّى بالتشفيع لى في صلاح أنفسكم والتمسك بعهدي إليكم. فإنّى قد عهدت إليكم عهدي، وفيه صلاح جميع ملوككم وعامّتكم وخاصّتكم. ولن تضيعوا ما احتفظتم بما رسمت لكم ما لم تصنعوا [1] غيره. فإذا تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم ما بقي الدهر. - «ولولا اليقين بالبوار النازل على رأس الألف من السنين [2] ، لظننت أنّى قد خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به، كان علامة في بقائكم الدهر. ولكن القضاء إذا جاءت أيّامه، أطعتم أهواءكم، واستثقلتم ولاتكم، وأمنتم وتنقّلتم عن مراتبكم وعصيتم خياركم [وأطعتم شراركم] [3] ، وكان أصغر ما تخطئون فيه سلّما إلى أكبر منه حتى تفتقوا ما رتقنا، [وتوهوا ما وثّقنا] [4] ، وتضيعوا ما حفظنا. والحقّ [5] علينا وعليكم [127] ألّا نكون [6] للبوار أغراضا، وفي الشؤم أعلاما. فإنّ الدهر إذا أتى بالذي تنتظرون، اكتفى بوحدته [7] . ونحن ندعو الله لكم بنماء المنزلة، وبقاء الدولة، دعوة لا يفنيها فناء قائلها حتّى المنقلب [8] ، ونسأل الله الذي عجّل بنا وخلّفكم، أن يرعاكم رعاية يرعى بها ما تحت أيديكم [وأن يرفعكم رفعة يضع بها من   [1] . مط: ما لم تضعوا. [2] . غ: ألف سنة. [3] . زيادة من غ. [4] . زيادة من غ. [5] . غ: ويحق. [6] . نكون: من غ. وفي الأصل: ألّا تكونوا. [7] . غ: حدّته (بالتشديد) . [8] . المنقلب: المعاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 عاداكم] [1] ، ويكرمكم كرامة يهين بها من ناوأكم. ونستودعكم الله وديعة يكفيكم بها الدهر الذي يسلّمكم إلى [2] زياله [3] وغيره [وعثراته] [4] وعداوته، والسلام على أهل الموافقة ممّن يأتى عليه العهد [5] من الأمم الكائنة بعدي [6] .» ثم انتهى الملك إلى سابور بن أردشير [7] فمن وجوه المكائد الغريبة [8] ما تمّ على رجل من الجرامقة [9] يقال له: الساطرون، وهو الذي تسمّيه العرب: الضيزن، وكان ينزل بجبال تكريت بين دجلة والفرات في مدينة يقال لها: الحضر [10] . وزعم هشام بن الكلبي أنّه من العرب من قضاعة، وأنّه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من قبائل قضاعة [128] ما لا يحصى، وبلغ ملكه الشام. ثم إنه تطرّف [11] بعض السواد في غيبة لسابور إلى ناحية خراسان. فلمّا قدم من غيبته، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصّن الضيزن، كما قال الأعشى ميمون بن قيس، سنتين، لا يقدر سابور على الوصول إليه، وهو قوله: ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى، وهل خالد من نعم   [1] . زيادة من غ. [2] . من مط. وما في الأصل: إلّا. [3] . غ: زواله. الزيال: الفراق. [4] . زيادة من غ. [5] . غ: هذا العهد. [6] . غ: بعدي إلى يوم القيامة. [7] . أنظر الطبري (2: 823) . [8] . في الأصل ومط: «القريبة» . [9] . جمع مفرده: الجرمقانى. قوم من العجم هبطوا الموصل أوائل الإسلام. [10] . الحضر: باليونانية حترا (هترا) : شيّدها الفرتيّون على بعد أربعة كيلو مترات من وادي الثرثار بين دجلة والفرات في القرن الأول، كانت حصنا دفاعيا لهم ضد التوسع الرومانى ومركزا تجاريا (لج، مع، أم) . [11] . مط: تطرق. في الطبري: تطرّف السواد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أقام به شاهبور الجنو ... د [1] حولين يضرب فيه القدم [2] وكان للضيزن هذا ابنة يقال لها: النضيرة، عركت [3] فأخرجت إلى ربض المدينة- وكذلك كان يفعل بالنساء إذا عركن- وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان سابور أيضا من أجمل رجال زمانه. فاطّلعت عليه يوما، فرأته، فعشقته، وأرسلت إليه: - «ما تجعل لى، إن دللتك على ما تهدم به سور هذه المدينة، وتقتل أبى؟» قال: - «حكمك، وأرفعك على نسائي، وأخصّك بنفسي دونهن» . فاحتالت للحرس حتى سقتهم الخمر وصرعتهم، وأظهرت علامة ذلك لسابور. فنصب للسور حتى [تسوّر] [4] وفتحها عنوة [129] ، وقتل الحرس والضيزن، وأباد قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باق يعرف إلى اليوم، وأخرب سابور المدينة، وفي ذلك يقول عمرو بن إله: ألم يحزنك والأنباء تنمى ... بما لاقت سراة بنى العبيد ومصرع ضيزن وبنى أبيه ... وأحلاس الكتائب من تزيد [5] أتاهم بالفيول مجلّلات ... وبالأبطال سابور الجنود فهدّم من أواسى الحصن صخرا ... كأنّ ثفاله زبر الحديد   [1] . والعرب تلقّبه: سابور الجنود (المسعودي 1: 113) . [2] . في بعض الأصول: القمم. والأبيات تجدها ستة في الطبري (2: 828) . [3] . عركت: حاضت. [4] . في الأصل غموض، وما أثبتناه من مط. تسوّر السور أو الحائط: صعد عليه. [5] . من تزيد بن حلوان (الطبري 2: 829) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 واحتمل سابور النضيرة بنت الضيزن، فأعرس بها بعين التمر. فذكر أنّها لم تنم، وتضوّرت [1] ليلتها من خشونة فرشها وهي من حرير محشوّة بالقزّ. فالتمس ما كان يؤذيها. فإذا ورقة آس، ملتزقة بعكنة [2] من عكنها قد أثّرت فيها من لين بشرتها. فقال لها سابور: «ويحك! بأىّ شيء كان يغذوك أبوك؟» فقالت: «بالزبد، والمخّ، وشهد الأبكار من النحل، وصفو الخمر.» قال: «وأبيك لأنا أحدث عهدا بك، وأوتر [3] لك من أبيك، الذي غذّاك بما تذكرين.» فأمر رجلا، فركب فرسا جموحا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها، فقطّعها قطعا. [130] وقد أكثر الشعراء في ذكر الضيزن هذا، وإيّاه عنى عدىّ بن زيد بقوله: وأخو الحضر [4] ، إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه، والخابور شاده مرمرا، وجلّله كل ... سا، فللطّير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه، فبابه مهجور [5] توالى ستة ملوك ومضت أيّام سابور، وهي ثلاثون سنة، حميدة. وفي أيّامه ظهر مانى   [1] . تضوّر: تلوّى وصاح من وجع الضرب والجوع ونحوهما. [2] . العكنة: ما انطوى تثنى من لحم البطن. [3] . الطبري: أوثر، آثر. [4] . مط: الحصن. [5] . تجد الأبيات في الطبري (2: 830) ، وفي الوفيات (7: 245) ، وفي ديوان عدىّ: (84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الزنديق، [1] وكذلك أيّام ابنه هرمز الملقّب بالبطل والجريء. وكان عظيم الخلق جريئا. له حكايات عظيمة جدّا، وكوّر مدينة «رامهرمز» وملك سنة. ثم مضت أيّام ابنه بهرام بن هرمز كذلك، وقتل مانى وسلخه. ومضت أيّام ابنه بهرام بن بهرام، ثمّ [أيّام] [2] ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام، ثم [أيّام] [3] نرسى بن بهرام أخى [4] بهرام الثالث، ثم أيّام هرمز بن نرسى، وكان فظّا، إلّا أنّه رفق بالرعيّة، وسار بأعدل سيرة فيهم، وحرص على العمارة وانتعاش الضعفاء، ثم هلك وببعض نسائه حبل. فبعض الناس يزعم أنه وصّى بالملك لذلك الحمل في بطن أمّه، وبعضهم زعم أنّ الناس لما شقّ عليهم موت هرمز، سألوا عن نسائه. فلمّا عرفوا [131] أنّ ببعضهنّ حبلا، عقدوا التاج عليه في بطن أمّه، ثم ولد: سابور الملقّب بذي الأكتاف [5] وهو سابور بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. فكتب إليه الناس الكتب من الآفاق، ووجّه البرد إلى الأطراف، وقلّد الوزراء والكتّاب، والعمّال، الأعمال التي كانوا يعملونها في ملك أبيه. فممّا حدث في أيّامه: أنّ خبره لمّا فشا وشاع، وعلم أصحاب الأطراف أنّ ملك الفرس صبىّ يدبّر، ولا يدرى ما يكون منه، طمع فيهم وفي مملكتهم الروم، والترك، والعرب. وكانت أدنى بلاد الأعداء إلى فارس بلاد العرب، وكانوا من   [1] . الزنديق: المخالف لأوامر زند و پازند (بق) . بالفهلوية.LZandik في المانوية: فاسد العقيدة. في الأفستائية: قاطع الطريق، الساحر، ناقض العهد، الخادع. وفي العربية: المرتد، الدهري، من لا دين له (حب) . [2] . ما في [] تكملة منّا. [3] . ما في [] تكملة منّا. وتجد أخبار هؤلاء الملوك في الطبري (2: 831- 836) . [4] . في الأصل: أخو بهرام. [5] . لقبه: هوبه سنبا (البيروني: 121، والطبري 2: 836، والمسعودي 1: 279) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أحوج الأمم إلى تناول شيء من المعايش، لسوء حالهم وشظف عيشهم. فسار جمع عظيم منهم في البحر، من ناحية بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة [1] ، حتى أناخوا براشهر [2] وسواحل أردشير خرّه، وأسياف [3] فارس، وغلبوا أهلها على [132] مواشيهم وحروثهم ومعايشهم، وأكثروا الفساد في تلك البلاد، ومكثوا بذلك حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لقلّة الهيبة، وانتشار الأمر، وكثرة المدبّرين، ولأنّ الملك طفل، حتى ترعرع سابور، وجعل الوزراء يعرضون عليه أمر الجنود التي في الثغور، ووردت الأخبار بأنّ أكثرهم قد أحلّ. وعظّموا عليه الأمر بعد الأمر. وكان ممّن عرض عليه، أمر الجنود التي في الثغور، ومن كان منهم بإزاء الأعداء، وأنّ الأخبار وردت بإحلال أكثرهم. وهوّلوا عليه الخطب في ذلك. فقال لهم سابور: «لا يكبرنّ عليكم هذا، فانّ الحيلة فيه يسيرة» ، وأمر بالكتاب إلى أولئك الجنود بأنه: - «انتهى إلىّ طول مكثكم في النواحي التي أنتم فيها، وعظم غناءكم عن إخوانكم وأوليائكم، فمن أحبّ منهم الانصراف إلى أهله، فلينصرف مأذونا له في ذلك، ومن أحبّ أن يستكمل الفضل بالصبر في موضعه عرف له ذلك.» وتقدّم إلى من اختار الانصراف، في لزوم أهله وبلاده إلى وقت [133] الحاجة إليه. فلمّا سمع الوزراء ذلك من قوله ورأيه، استحسنوه وقالوا: «لو كان هذا قد أطال تجربة الأمور وسياسة الجنود، ما زاد رأيه على ما سمعنا منه.» ثم تتابعت آراؤه في تقويم أصحابه وقمع أعدائه، حتى إذا تمّت له ست عشرة سنة، وأطاق حمل السلاح وركوب الخيل، واشتدّ عظمه، جمع إليه رؤساء أصحابه وأجناده،   [1] . كاظمة: جوّ على سيف البحر في طريق البحرين من البصرة، بينها وبين البصرة مرحلتان (مع) . [2] . راشهر (ريشهر) : مدينة إزاء بوشهر (لج) . ناحية من كورة أرجان (مع) . [3] . الأسياف: جمع مفرده السيف: ساحل البحر، ساحل الوادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ثمّ قام فيهم خطيبا. فذكر الله عزّ وجلّ، وذكر ما أنعم به عليه وعليهم بآبائه، وما أقاموا من إربهم، ونفوا من أعدائهم، وما اختلّ من أمورهم في الأيّام التي مضت من أيّام صباه، وأعلمهم: أنّه يستأنف العمل في الذبّ عن البيضة، وأنّه يقدّر الشخوص [1] إلى بعض الأعداء لمحاربته، وأنّ عدّة من يشخص معه من المقاتلة ألف رجل. فنهض إليه القوم داعين متشكرين، وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجّه القواد والجنود ليكفوه ما قدّر من الشخوص فيه. فأبى أن يجيبهم إلى المقام. فسألوه الإزدياد على العدة التي ذكرها، فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد [134] جنده وأبطالهم وأغنيائهم، وتقدّم إليهم في المضىّ لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على العرب وعلى من لقوا منهم، ووصّاهم ألّا يعرّجوا [2] على مال ولا غنيمة ولا يلتفتوا إليه. ثم سار بهم، حتى أوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارّون [3] . فقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيّتهم. ثم قطع البحر في أصحابه فورد الخطّ [4] ، واستبرى بلاد البحرين. فجعل يقتل أهلها ولا يقبل فداء ولا يعرّج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر [5] وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس. فسفك فيهم من الدماء سفكا سالت كسيل المطر، حتى كان الهارب منهم يرى أن لن ينجيه غار ولا جبل ولا بحر ولا جزيرة. ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلّا من هرب منهم. فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة [6] ،   [1] . يقدّر الشخوص: ينوي الخروج. [2] . عرّج: مال. [3] . مط: غازون. الغارّون: الغافلون. [4] . أرض تنسب إليها الرماح، وهو خطّ عمان في سيف البحرين، والسيف كلّه الخطّ، وفيه: القطيف، والعقير، وقطر (مع) . [5] . هجر: ناحية البحرين، وقيل: مدينة هي قاعدة البحرين (مع) . [6] . اليمامة: بلد كبير فيه قرى وحصون ونخل، وكان اسمها أولا جوّا (مع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فقتل بها مثل تلك المقتلة. ولم يمرّ بماء من مياه العرب إلّا عوّره [1] ولا جبّ من جبابهم إلّا طمّه. ثمّ أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر. ثمّ عطف نحو [135] بلاد بكر وتغلب وفيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام. فقتل من وجد بها من العرب وسبى وطمّ مياههم. ثمّ أسكن قوما من بنى تغلب ومن سكن منهم البحرين، دارين [2] والخطّ، ومن كان من عبد القيس وطوائف تميم، هجر، ومن كان من بكر بن وائل، كرمان،- وهم الذين يدعون بكر إياد- ومن كان منهم من بنى حنظلة، بالرميلة من بلاد الأهواز. وبنى بالسواد مدينة بزرج سابور [3] ، وبنى الأنبار، وبنى السوس والكرخ. وغزا بعد ذلك أرض الروم، فسبى سبيا كثيرا. وبنى بخراسان نيسابور. ثمّ هادن قسطنطين [4] ملك الروم الذي بنى قسطنطينيّة [5] ، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الروم. ذكر حيلة لقسطنطين كان قسطنطين لمّا ملك الروم كبرت سنّه، وساء خلقه، وظهر به وضح. فأرادت الروم خلعه، وكاشفته وقالت:   [1] . عوّر: عيون المياه: طمّها، دفنها، سدها، كبسها بالتراب. [2] . فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند فينسب إليها (مع) . [3] . بزرج سابور: من طساسيج بغداد، حدّه من أعلى العلث من شرقى دجلة (مع) . .Constantinus. [4] [5] . قسطنطينيّة Constantinople اسطنبول، إستانبول (تغيّر هذا الاسم في العصر العثماني إلى إسلامبول، أى: مدينة الإسلام، وإلى الآستانة) ، وهو معرّب من الأصل اليوناني Eistenbolin:أو من اليوناني البيزنطى.Estinbolin:أى: إلى المدينة. بوزنطيا، بوزنطة، بيزنطه، من الأصل اليوناني Byzantion:لا.، إنجل،Byzantioum:.فر.Byzance:ويطلق هذا الاسم، من باب تسمية الكل بالجزء (العاصمة) ، على امبراطورية الروم الشرقية التي تأسّست في الفترة الواقعة بين 330 إلى 395 م. في القطاع الشرقي من الامبراطورية الرومية الكبرى ودامت حتى عام 1461 م (لد، فم. (Col.NewAgeEnc.، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 - «اعتزل الملك، فإنّ لك من المال ما لا تفقد معه شيئا ممّا أنت فيه من نعمتك.» فشاور نصحاءه [136] فقالوا له: - «لا طاقة لك بالقوم، فقد اجتمعت كلمتهم على خلعك.» قال: «بما الحيلة؟» قالوا: «تحتال بالدين- وكانت النصرانية قد ظهرت وهي خفيّة- وذلك بأن تستأذن في زيارة بيت المقدس، وتستمهلهم مدّة ما تعود. فإذا حصلت بها دخلت في هذا الدين النصراني تحمل الناس عليه، فانّهم يفترقون فرقتين، فتقاتل بمن أطاعك من عصاك، وما قاتل قوم على دين قط إلّا غلبوا.» ففعل قسطنطين ذلك، فظفر بالروم. فأحرق كتبهم وحكمتهم، وبنى البيع، وحمل الناس على النصرانية، ونقلهم من الرومية وكانت دار مملكتهم، وبنى قسطنطينية ولم يزل الملك محروسا بالنصرانية، وغلب على الشام، إلى أن ظهر الإسلام. ثم ملك من الروم لليانوس [1] وكان يدين بملة اليونانية القديمة [2] التي كانت قبل النصرانية. فلمّا ملك، أظهر ملّته، وأعادها كهيئتها، وأمر بهدم البيع، وجمع جموعا من الروم والخزر ومن كان في مملكته من العرب. [137] عاقبة سرف سابور في القتل فكان من عاقبة ذلك السرف الذي أقدم عليه سابور من قتل العرب: أن اجتمع   [1] . لليانوس،LJulian:جوليان، يوليان (المفصّل 2: 642) . [2] . في الطبري بملّة الروم القديمة (2: 840) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 في عسكر لليانوس من العرب مائة وسبعون ألف مقاتل. فوجّههم مع بطريق [1] له في مقدمته. وأقدموا على فارس حنقين موتورين. وذلك أنّ سابور لم يقتصر على الانتقام ممّن أذنب وتجاوز حدّه، حتى قتل البريء، وسفك من الدماء ما لا يحصى. فلما انتهى إلى سابور كثرة من مع لليانوس من الجنود، وشدّة بصائرهم، وحنق العرب، وعدد الروم والخزر، هاله ذلك، ووجّه عيونا تأتيه بأخبارهم، ومبلغ عددهم، وشجاعتهم، وعدّتهم. فاختلفت عليه أقاويل العيون في ما أتوه من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكّر سابور، وسار في ثقاته ليعاين عسكرهم. تخلّصه بحسن الاتّفاق فكان مما جنى فيه على نفسه وتخلّص منه بحسن الاتفاق: أنّه لمّا قرب من عسكر البطريق الذي كان على المقدمة وكان اسمه [138] يوسانوس [2] ومعه العرب والخزر، وجّه قوما ليتجسّسوا الأخبار ويأتوه بحقائقها. فنذرت [3] بهم الروم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس. فأقرّ من جملتهم رجل واحد، وأخبر بالقصة على وجهها وبمكان سابور، وسأله أن يوجّه معه جندا فيدفع إليهم سابور. فأرسل يوسانوس رجلا من بطانته إلى سابور يعلمه [4] ما ألقى إليه من أمره وينذره. وإنّما فعل ذلك لميله إلى النصرانية التي قصدها لليانوس. فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه وصار إلى عسكره. ثم زحف لليانوس بمسألة العرب إيّاه، فقاتل سابور وفضّ جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب سابور في من   [1] . بطريق: معرّب أصله اليوناني البيزنطى،Patrikios:معناه بالرومية: أمير الجيش، وفي المسيحية: القسيس، باللاتينية) patricus:لد، فم) . [2] . مط: بوسابوس. وهو) LJovian المفصّل 2: 642) . [3] . نذر به: علمه، فحذره. [4] . في الأصل ومط: ويعلمه. فحذفنا الواو، كما يتطلّبه السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بقي من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلّة سابور، وظفر ببيوت أمواله وخزائنه فيها. ثم اجتمع إلى سابور من آفاق بلاده جنوده، وحارب لليانوس، واستنقذ منه طيسبون، واختلفت الرّسل بينه وبين لليانوس. سوء تحفّظ لليانوس فكان من سوء تحفّظ لليانوس في تلك الحال واسترساله: [139] أن كان يوما جالسا في حجرة من فسطاطه، والرسل تختلف بينه وبين سابور، فجاءه سهم غرب فأصاب مقتله من فؤاده، فسقط ومات، وأسقط [1] في روع جنده وهالهم ما نزل به، ويئسوا من التقصّى في بلاد فارس، فصاروا نشرا لا ملك عليهم. فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولّى الملك لهم ليملّكوه عليهم. فأبى ذلك، وألحّوا عليه، فأعلمهم أنّه على ملّة النصرانية، وأنّه لا يلي قوما هم له مخالفون في دينه. فأخبرتهم الروم أنّهم على ملّته، وأنّهم كتموها مخافة لليانوس. فأجابهم حينئذ، فلمّا ملّكوه [2] أظهروا النصرانية. ثم إنّ سابور لما علم بهلاك لليانوس، أرسل إلى قوّاد جنوده الروم يقول: - «إنّ الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، ونرجو أن تهلكوا ببلادنا جوعا من غير أن نهزّ لقتالكم سيفا، أو نشرع له رمحا، فسرّحوا إلينا رئيسا إن كنتم رأستموه عليكم.» فعزم يوسانوس على إتيان سابور لما كان بينه وبينه، لما أنذره ومن عليه. فلم يتابعه أحد [140] من قوّاد جنده. فاستبدّ برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه. فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقّاه، وتساجدا، فعانقه سابور شكرا لما كان منه في أمره، وطعم عنده   [1] . أسقط في روعهم: فزعوا، خافوا. [2] . في الأصل ومط: ملّكوا بدون «هـ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 يومئذ ونعم. وإنّ سابور أرسل إلى قوّاد جند الروم وذوى الرئاسة فيهم يعلمهم: أنّهم لو ملّكوا غير يوسانوس، لجرى هلاكهم في بلاد فارس، ولكن تمليكهم إيّاه ينجيهم من سطوته. ثم قوّى أمر يوسانوس بكلّ جهد، وقال له عند منصرفه: - «إنّ الروم قد شنّوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرا كثيرا، وقطّعوا بأرض السواد من الشجر والنخل ما كان بها، وخرّبوا عمرانها، فإمّا أن تدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخرّبوا، وإمّا أن تعوّضونا من ذلك نصيبين وحيّزها.» فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصيبين. فبلغ ذلك أهلها، فجلوا عنها إلى مدن للروم، خوفا على أنفسهم من ملك مخالف ملّتهم. فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف [141] أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر، من بلاده إلى نصيبين، فأسكنهم إيّاها. وانصرف يوسانوس إلى الروم وملكها يسيرا ثم هلك. وضرى سابور على قتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم زمانا طويلا، فسمّته العرب «ذا الأكتاف» . ثم إنّه استصلح العرب وأسكن من بعض تغلب وعبد القيس وبكر، كرمان وتوّج [1] والأهواز. وبنى مدينة نيسابور ومدائن أخر بالسند وسجستان [2] ، ونقل طبيبا من الهند، فأسكنه السوس، فورث طبّه أهل السوس. وهلك سابور بعد اثنتين وسبعين سنة من ملكه. أردشير بن هرمز [3] وقام بالملك بعد سابور، أخوه أردشير بن هرمز بن نرسى بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك. فلمّا استقرّ به الملك ظهر منه شرّ، وقتل   [1] . مط: نوخ. وتوّج: مدينة بفارس على شاطئ نهر سابور خربت في القرن السادس (لج: 280) . [2] . سجستان سگستان سيستان (لج: 385) . [3] . انظر الطبري 2: 846. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 [من] [1] ذوى الرئاسة والعظماء خلقا كثيرا، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه، وملّكوا: سابور بن سابور ذى الأكتاف فاستبشرت الرعية به وبرجوع ملك أبيه إليه. فأحسن السيرة ورفق بالرعية، إلى أن سقط عليه فسطاط كان ضرب عليه، فمات وملّك بعده [142] أخوه: بهرام بن سابور ذى الأكتاف وكان يلقّب بكرمان شاه، لأن سابور ولّاه «كرمان» ، فمضت أيّامه محمودة، وكان جميل السياسة محبّبا [2] . ثم قام بالملك: يزدجرد المعروف بالأثيم ابن بهرام بن سابور ذى الأكتاف [3] ومن الفرس من يقول: هو أخو بهرام وهو يزدجرد بن سابور ذى الأكتاف. وكان فظّا غليظا ذا عيوب كثيرة، وكان من أشدّ عيوبه وضعه ذكاء ذهن وحسن أدب كانا فيه، غير موضعهما. وذلك أنّه كان كثير الرؤية في الضارّ [4] من الأمور، واستعمل علمه الذي أوتيه، في الدهاء والختل، واستخفّ بكلّ علم كان عند الناس، واحتقر آدابهم واستطال بما عنده، وكان من ذلك معجبا، غلقا، سيئ الخلق، ردىء الطعمة [5] ، حتى بلغ من شدة غلقه وحدّته أن يستعظم صغير الزلّات ولا يرضى في عقوبتها إلّا بما لا يستطاع أن يبلغ مثلها. ثم لم يقدر أحد من بطانته- وإن كان لطيف المنزلة منه- أن يشفع لمن ابتلى به، وإن كان ذنب   [1] . ما في [] تكملة من مط. [2] . مط: مجيبا. [3] . أنظر الطبري 2: 847. [4] . مط: الصغار من الأمور. [5] . ردىء الطعمة: ردىء السيرة في الأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 المبتلى [143] به يسيرا. ولم يكن يأتمن أحدا على شيء من الأشياء. ولم يكن يكافئ على حسن البلاء. وكان يعتدّ بالخسيس من العرف إذا أولاه ويستجزل ذلك. فإن جسر على كلامه أحد في أمر قال له: - «ما قدر جعالتك [1] في هذا الأمر الذي كلّمتنا فيه، وما الذي بذل لك؟» وما أشبه ذلك. فلقى الناس منه عنتا. فلما اشتدّت بليّته، وكثر إهانته للعظماء، وحمل على الضعفاء، وأكثر من سفك الدماء، اجتمعوا وتضرّعوا إلى ربّهم في تعجيل إنقاذهم منه. فتزعم الفرس: أنه كان مطّلعا من قصره ذات يوم إذ رأى فرسا عائرا [2] لم ير مثله قطّ في الخيل، حسن صورة وتمام خلق، حتى وقف على بابه، فتعجّب الناس منه، لأنه كان متجاوز الأمر [3] . فأمر يزدجرد أن يسرج ويلجم ويدخل عليه. فحاول ساسته وأصحاب مراكبه إلجامه وإسراجه، فلم يمكّن أحدا منهم من نفسه. فخرج بنفسه إلى الموضع الذي فيه الفرس، فألجمه بيده وأسرجه ولّينه [4] فلم يتحرّك، فلمّا استدار به [144] ورفع ذنبه ليثفره [5] ، رمحه الفرس على فؤاده رمحة هلك منها مكانه، ثم لم يعاين ذلك الفرس. فأكثرت الفرس في حديثه وظنّت الظنون. وكان أحسنهم مذهبا من قال: «إنما استجاب الله دعاءنا» . ثم ملك بعد يزدجرد الأثيم ابنه: بهرام جور [6] وكان أسلمه يزدجرد إلى المنذر بن النعمان ليربّيه في ظهر الحيرة، لصحّة   [1] . مط: جمعا إنك! بدل: جعالتك. [2] . عار: ذهب وجاء متردّدا. [3] . في الطبري: متجاوز الحال. [4] . مط: وكتبه! [5] . أثفر الدابة: شدها بالثفر: سير في مؤخر السرج يشدّ على عجز الدابة تحت ذنبها. [6] . أنظر الطبري 2: 845. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 التربة والهواء، وليتعلّم هناك الفروسية. وتكفّله النعمان وعظّم يزدجرد المنذر بن النعمان وشرّفه، وملّكه على العرب، وسار به المنذر، فربّاه، واستدعى له الحواضن من الفرس والعرب، ثم أحضره المؤدّبين، وحرص بهرام على الأدب. فتحكى عنه حكايات من النجابة في صغره، فمنها أنّه قال للمنذر بن النعمان وهو ابن خمس سنين: - «أحضرنى مؤدّبين ليعلّمونى الكتابة والفقه والرمى والفروسية.» فقال له المنذر: «إنّك بعد صغير السنّ، ولم يأن لك ذلك بعد.» فقال له بهرام: «أما تعلم أيّها الرجل، أنّى من ولد الملوك، وأنّ الملك [145] صائر إلىّ، وأولى ما كلّف به الملوك وطلبوه، صالح العلم، لأنّه زين لهم وركن، وبه يفوقون؟ أما تعلم أنّ كلّ ما يتقدّم في طلبه ينال وقته، وما لا يتقدّم فيه، بل يطلب في وقته، ينال في غير وقته، وما يفرّط فيه وفي طلبه، يفوت فلا ينال؟ عجّل علىّ بما سألتك!» فوجّه المنذر ساعة سمع مقالة بهرام، إلى باب الملك من أتاه برهط من المعلّمين والفقهاء ومعلّمى الرمى والفروسية، وجمع له حكماء الروم وفارس ومحدّثى العرب، فألزمهم إيّاه، ووقف أوقاتا لكل قوم منهم. فتفرّغ بهرام لتعلّم كل ما سأل أن يعلّم، واستمع من أهل الحكمة، ووعى ما سمع، وثقف كل ما علّم بأيسر سعى، وبلغ أربع عشرة سنة وقد فاق معلّميه، واستفاد كل ما أفيد وحفظ وفاق. ثمّ حرص على انتخاب الأفراس العربيّة وركوبها وإحضارها والرمى عليها، فبرع في ذلك. وتحكى الفرس عنه حكايات عظيمة جدّا [1] . ثمّ أعلم المنذر أنّه على الإلمام بأبيه، فشخص، [146] وكان أبوه لا يحفل بولد له، فاتّخذ بهرام للخدمة، ولقى بهرام من ذلك عنتا. واتفق أن ورد على يزدجرد   [1] . أنظر الطبري (2: 856) والثعالبي: 539 وابن الأثير (1: 401) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وفد من قيصر- وفيهم أخو قيصر- في طلب الصلح والهدنة، فسأله بهرام أن يكلّم يزدجرد في الإذن له في الانصراف إلى المنذر. فأذن له أبوه وانصرف إلى بلاد العرب وقد عرّض بأبيه ورأى قلّة نفاق [1] أدبه عليه، ولقى شدّة وهوانا. فأقبل على التنعم والتلذّذ، إلى أن هلك أبوه يزدجرد وبهرام غائب. فتعاقد قوم من العظماء ألّا يملّكوا أحدا من نسل يزدجرد، وأظهروا: أنّ ولد يزدجرد لا يحتملون الملك، وليس فيهم نجيب غير بهرام، وبهرام لم يتأدّب بأدب الفرس، وإنّما أدبه أدب العرب، وأخلاقه أخلاقهم، لنشئه في ما بينهم وبين أظهرهم، واجتمعت كلمة العامّة معهم على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بن بابك يقال له: كسرى فملّكوه، وانتهى هلاك يزدجرد وما كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام. [147] فدعا بالمنذر وبالنعمان ابنه وناس من علية العرب. فذكّرهم إحسان والده إليهم وإنعامه عليهم مع فظاظته وشدّته على الفرس، وأخبرهم بموت والده وما كان من الفرس من تمليك غيره، ومنّاهم من نفسه ووعدهم بما أنسوا به. فقال المنذر: - «لا يهولنّك ذلك حتى ألطف للحيلة.» ثمّ إنّ المنذر جهّز عشرة آلاف من فرسان العرب مع ابنه إلى طيسبون وبهأردشير [2] مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قريبا منهما، وأن يغير على ما والاهما، وإن تحرّك أحد لقتاله قاتله. وأذن له في الأسر والسبي، ونهاه عن لقتل.   [1] . كذا في مط والأصل: «قلّة نفاق» . والظاهر أنّ إحدى الكلمتين زائدة لأنّ النفاق بمعنى النفاد، والفناء، والقلّة. [2] . مهملة في الأصل وأعجمناها كما في مط والطبري. أصلها: ويه أرتخشر. صور التعريب: بهرسير، بردسير، بردشير، گواشير، جواسير، جواشير، وبهادرشير هي كرمان (لج: 325) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فسار النعمان حتى نزل قريبا من المدينتين، ووجّه طلائعه إليهما واستعظم قتال الفرس. فاجتمع رأى العظماء وأهل البيوتات على إنفاذ حواى [1] على تأدية رسالة- وحواى هذا صاحب رسائل يزدجرد- إلى المنذر ويستكفونه أمر النعمان ابنه، ويخوّفونه من عقبى جنايته عليه. فلمّا ورد حواى على المنذر قال له: «الق الملك بهرام.» [148] ووجّه معه من يوصله إليه. فلمّا دخل عليه راعه منظر بهرام وما رأى من وسامته. فكلّمه بهرام ووعده ومنّاه وردّه إلى المنذر، ورسم له أن يجيب عمّا كتب إليه. فقال المنذر لحواى: «قد تدبّرت ما جئتني به، وقرأت الكتاب ولست صاحب النعمان، وإنّما صاحبه الملك بهرام، وهو الذي وجّهه إلى ناحيتكم، ورسم له ما هو لا محالة متمثّلة، لأنّ الملك صار له بعد أبيه، ولا حظّ لغيره فيه.» فلمّا سمع حواى مقالته، وتذكّر ما عاين من بهاء بهرام وروائه [2] وحسن كلامه، علم أنّ جميع من يشاور في صرف الملك عنه مخصوم [3] محجوج. فقال للمنذر: - «إنى لست محيرا [4] جوابا، ولكن سر- إن رأيت- إلى محلّة الملوك فيجتمع إليك من بها من العظماء وأهل البيوتات، وأت في الأمر ما يجمل، فانّهم لن يخالفوك في شيء مما تشير به.» فردّ المنذر حواى، واستعدّ وسار بعده بيوم مع بهرام في ثلاثين ألف رجل من فرسان العرب [149] وذوى البأس والنجدة منهم إلى مدينتي الملك. فلمّا   [1] . حوابى، في الطبري: جوانى، جوابي، حواني (2: 859) . [2] . الرواء: حسن المنظر. [3] . المخصوم: المغلوب في الخصومة، والمحجوج: المغلوب في الحجة. [4] . أحار الجواب: ردّه، ومنه: لم يحر جوابا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وردهما، جمع الناس وجلس بهرام على منبر من ذهب مكلّل بالجوهر، وجلس المنذر عن يمينه، وتكلّم عظماء الفرس، وفرشوا [1] للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد كانت [2] وسوء سيرته [3] ، وأنّه أخرب الأرض وأكثر القتل ظلما حتى قلّ الناس. وذكروا أمورا فظيعة، وذكروا أنّهم إنّما تعاقدوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك. وسألوا المنذر ألّا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه. فقال المنذر لبهرام: - «أنت أولى بإجابة القوم.» فقال بهرام: - «إنى لست أكذّبكم في شيء مما نسبتم إلى يزدجرد لما استقرّ عندي من ذلك. ولقد كنت منكرا سوء هديه متنكّبا طريقته، ولم أزل أسأل الله أن يفضى بالملك إلىّ فأصلح كلّ ما أفسد، وأرأب ما صدع، وسأعيد الأمور بمشيئة الله إلى أتمّ ما كانت عليه في وقت من الأوقات انتظاما، وأعمر البلاد، وأرفّه الرعيّة، [150] وأوسع لهم، وأوطّئ جانبي [4] ، وأدرّ أرزاق الجنود وأهل الطاعة، وأسدّ الثغور، وأنفى أهل الفساد. فإن أتت لملكى سنة ولم أف لكم بهذه الأمور التي عددت عليكم، تبرّأت من الملك طائعا، وأشهد الله بذلك وملائكته وموبذان موبذ.» فسمع أكثر الناس ورضوا، وتكلّمت طائفة كان رأيها مع كسرى. فقال بهرام: - «فإنّى على ما ضمنته لكم، واستيجابى [5] للملك، وأنّه حقّ لى. قد رضيت   [1] . فرشوا: بسطوا: شرحوا. [2] . كذا في مط والطبري. [3] . ابن الأثير: فذكروا فظاظة يزدجرد أبى بهرام وسوء سيرته (1: 403) . [4] . مط: بدون «جانبي» . وطأ جانبه: كان سهل الأخلاق، كريما، مضيافا. [5] . كذا في مط. وما في الأصل غير واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أن يوضع التاج والزينة بين أسدين مشبلين، فمن تناوله فهو الملك.» بهرام يتناول التاج والزينة من بين أسدين مشبلين فلمّا سمع القوم هذه المقالة، مع ما وعد من نفسه، سكنوا، وأظهروا الاستبشار والرضاية، وقالوا: - «إنّا إن تمّمنا صرف الملك عن بهرام، لم نأمن هلاك الفرس على يده بمن يرى رأيه ولكثرة من استجاش من العرب. وقد عرض علينا ما لم يدعه إليه أحد، لولا ثقته ببطشه وجرأته. فإن يكن على ما وصف به نفسه، فليس الرأى إلّا تسليم الملك إليه والسمع والطاعة، [151] وإن يهلك ضعفا وعجزا فنحن برءاء منه، آمنون لشرّه وغائلته.» فتفرّقوا على هذا الرأى، وجلس بهرام من الغد في مثل مجلسه بالأمس، وحضر من كان يحادّه فقال: - «إمّا أن تجيبوني عمّا تكلّمت به أمس، وإمّا أن تسكتوا باخعين لى بالطاعة.» فقال القوم: «قد رضينا بحكمك، وأن يوضع التاج والزينة بين الأسدين كما ذكرت بحيث رسمت، وتنازعاهما أنت وكسرى.» فأتى بالتاج والزينة، وتولّى موبذان موبذ الذي كان يعقد التاج على رأس كلّ ملك يملك، فوضعهما ناحية، وجاء إصبهبذ مع ثقات القوم بأسدين ضاريين مجوّعين مشبلين. فوقف أحدهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما. ثم قال بهرام لكسرى: - «دونك التاج والزينة!» فقال كسرى: - «أنت أولى بالبدء منّى، لأنّك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه دخيل.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولم يكره بهرام قوله لثقته بنفسه، وحمل جرزا وتوجّه نحو التاج والزينة. فقال له موبذان موبذ: - «استماتتك في هذا الأمر الذي تقدم عليه [152] هو تطوع منك، لا عن رأيى، ولا عن رأى أحد من الفرس، ونحن برءاء إلى الله من إتلافك نفسك.» فقال بهرام: - «نعم أنتم برءاء، ولا وزر عليكم.» ثم أسرع نحو الأسدين. فلمّا رأى موبذان موبذ جدّه، هتف به وقال: - «بح بذنوبك وتب منها، ثمّ أقدم إن كنت لا محالة مقدما.» فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبذر أحدهما، فلمّا دنا من بهرام، وثب وثبة، فإذا هو على ظهر الأسد، وعصر جنبي الأسد بفخذيه حتى أثخنه [1] ، فجعل يضرب على رأسه بالجرز، ثم قرب من الأسد الآخر. فلمّا تمكّن منه قبض على أذنيه وعركهما [2] بكلتي يديه، ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان ركب ظهره، حتى دمغهما، ثمّ قتلهما ضربا على رأسهما بالجرز، وذلك كلّه بمشهد من جميع من حضر ذلك الموضع وبمرأى من كسرى. فتناول بهرام التاج والزينة، وكان كسرى أوّل من هتف به وقال: - «عمّرك الله بهرام، الذي يسمع له من حوله ويطيع، ورزقه الله ملك [153] أقاليم الأرض السبعة.» ثم هتف الناس وجميع من حضر ذلك المجلس، وقالوا: - «أذعنّا للملك بهرام ورضينا به ملكا.» وكثر الدعاء والضجيج. ولقى الرؤساء المنذر بعد ذلك وسألوه أن يكلّم بهرام في التغمّد لاساءتهم   [1] . أثخنه: تكاثر عليه وغلبه. [2] . عرك الشيء: حكّه حتى محاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والصفح عنهم. فسأله المنذر وأسعفه الملك. ثم جلس بهرام- وهو ابن عشرين سنة- سبعة أيّام متوالية للجند والرعيّة، يعدهم الخير من نفسه ويحضهم على تقوى الله وطاعته، وغبر زمانا يحسن السيرة ويعمر البلاد ويدرّ الأرزاق. ثم آثر اللهو على ذلك، وكثرت خلواته بأصحاب الملاهي والجواري، حتى كثرت ملامة رعيّته إيّاه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده والغلبة على بلاده. خاقان يغزو بهرام وكان أوّل من سبق إلى مكاثرته ومغالبته خاقان ملك الترك. فإنّه غزاه في مائتين وخمسين ألفا من الأتراك. فبلغ الفرس إقبال خاقان في هذا الجمع العظيم فهالهم وتعاظمهم، ودخل إليه من عظمائهم قوم من أهل الرأى [154] فقالوا: - «أيّها الملك، قد أزفك [1] من بائقة [2] هذا العدوّ ما يشغلك عمّا أنت فيه من اللهو والتلذّذ، فتأهّب له، كي لا يلحقك منه أمر يلزمك فيه مسبّة وعار.» فكان بهرام لثقته بنفسه ورأيه، يجيب القوم: بأن الله ربّنا قوى ونحن أولياؤه، ثم يقبل على المثابرة واللزوم لما فيه من اللهو والصيد. حيلة بهرام جور على خاقان [3] إلى أن أظهر ذات يوم التجهّز إلى آذربيجان لينسك في بيت نارها ويتوجّه منها إلى أرمينية ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره، في سبعة رهط من العلماء وأهل البيوتات وثلاثمائة رجل من رابطته، ذوى بأس ونجدة. واستخلف أخا له يقال له: «نرسى» ، على ما كان يدبّر من ملكه. فلم يشكّ الناس حين بلغهم   [1] . أزف: اقترب ودنا، ومنه أزفت الآزفة، وأزفت الساعة. [2] . البائقة: الشرّ. [3] . أنظر الطبري 2: 863. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 مسير بهرام في من سار بهم، واستخلافه أخاه على ما استخلف، في أنّ ذلك هرب من عدوّه، وإسلام لملكه. وتوامروا [1] في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإقرار له [155] بالخراج، ومخافة منه، لاستباحة بلادهم، واصطلامه [2] مقاتلتهم ووجوههم، إن هم لم يفعلوا ذلك ويبادروا إليه. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع. فأمنهم وتودّع وترك كثيرا من الجدّ والاستعداد، وآثر جنده أيضا ذلك. وأتى بهرام عين له من جهة خاقان، فأخبره بحاله، وحال جنده وفتورهم عن الجدّ الذي كانوا عليه. فسار بهرام في العدّة الذين كانوا معه، فبيّت خاقان وقتله بيده، وانهزم من سلم من القتل منهم، وخلّفوا عسكرهم وأثقالهم. فأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم، ويحوى الغنائم ويسبى الذرارىّ، وانصرف هو وجنده سالمين، وظفر بتاج خاقان وإكليله، وبخع له أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه، بالطاعة. وسألوه أن يحدّ لهم حدّا بينه وبينهم فلا يتعدّوه. ثم بعث قائدا له إلى ما وراء النهر، فأثخنهم وأقروا له بالعبوديّة وأداء الجزية. وانصرف بهرام بالغنائم العظيمة والتاج والإكليل [156] وما فيهما من الياقوت الأحمر وسائر الجواهر فنحلها [3] بيت النار بآذربيجان. ورفع الخراج عن الناس ثلاث سنين، وقسم في الفقراء مالا عظيما، وفي البيوتات وأهل الأحساب عشرين ألف ألف [000 بن 000 بن 20] درهم. وكتب كتبا إلى الآفاق يذكر فيها أنّ الخبر كان ورد عليه بورود خاقان بلاده وأنه مجّد الله وتوكّل عليه، وسار في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلاثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق آذربيجان، وجبل القبق [4] ، حتى نفذ إلى براري خوارزم ومفاوزها، وأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر في الكتاب ما وضعه عن   [1] . توامروا تآمروا. [2] . اصطلمه: استأصله. صلمه: قطعه من أصله. [3] . نحل: أعطى وتبرّع. [4] . جبال قفقاز (لد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الناس من الخراج، وهذا الكتاب كان بليغا، والفرس يحفظونه. ويقال: إنّ بهرام ترك من حقّ بيت المال من الخراج سبعين ألف ألف [000 بن 000 بن 70] درهم بقسط تلك السنة، وكان هذا مقدار ما بقي منه، ثمّ [أمر بترك] [1] الخراج ثلاث سنين أخر. قصده الهند والروم والسند والسودان ثم إنّ بهرام لما انصرف من غزوه خاقان مظفّرا قصد الهند، فيحكى له حكايات عظيمة وأمور كبار تولّاها، وغلب عليها، وزوّجه [157] ملك الهند ابنته ونحله الديبل [2] ومكران وما يليها، فضمّها بهرام إلى أرض الفرس، وحمل خراجها إلى بهرام. ثم أغزى بهرام «مهرنرسى» إلى بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها. فتوجّه مهرنرسى في تلك العدّة، ودخل قسطنطينية، ومقامه مشهور هناك، فهادنه ملك الروم، وانصرف بجميع ما أراد بهرام- وكان مهرنرسى هذا من ولد بهمن بن اسفندياذ بن بشتاسف، وربما خفّف اسمه، فقيل: «نرسى» - وبلغ مبلغا، وكلّ ذلك بهيبة بهرام وما تمكّن له في قلوب الملوك وأهل الأطراف والجند من جودة الرأى وحسن التدبير والشجاعة ونفاذ العزيمة، وقلّة الاتّكال على غيره. وذكر أنّ بهرام بعد فراغه من أمر خاقان وأمر ملوك الروم والسند، مضى إلى بلاد السودان [3] من ناحية اليمن، فأوقع بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسبى منهم خلقا، وانصرف إلى مملكته.   [1] . كلمة مطموسة في الأصل، وما أثبتناه من مط. [2] . ديبل: كرسي ارمينية في الحكم الإسلامى (لج: 196) . أنظر الطبري 2: 868، وابن الأثير 1: 406. [3] . ما في الأصل يشبه «السردان» ، وما أثبتناه يؤيده مط والطبري 2: 871. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ارتطام بهرام في سبخة وهلك بعد ذلك في «ماه» [1] وذلك أنه توجّه إليها للصيد [158] فشدّ على عير وأمعن في طلبه فارتطم في ماء في سبخة [2] وغرق هناك. فسارت والدته إلى ذلك الموضع بأموال عظيمة، فأقامت قريبة منها، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه. فنقلوا طينا عظيما وحمأة كثيرة، وجمعوا منه إكاما عظاما، ولم يقدروا على جثة بهرام. وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة. ثم ملك بعده: يزدجرد بن بهرام جور فكان يسير بسيرة أبيه ولم يزل قامعا لعدوّه رؤوفا برعيّته وجنوده. وكان له ابنان: أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. فغلب هرمز على الملك بعد أبيه يزدجرد، وهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة [3] ، وأخبر ملكها بقصّته وقصّة أخيه هرمز، وأنّه أولى بالملك منه، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل بهم أخاه. فأبى عليه ملك الهياطلة وقال: - «سأعلم علمه، ثم أمدّك إن كنت صادقا.» فلما عرف ملك الهياطلة أنّ هرمز ملك ظلوم غشوم، قال: - «إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسة، ولا   [1] . بالفارسية القديمة.Mada:بالفهلوية:May:البلاد، بلاد ماد (ميد) ، عراق العجم وآذربيجان، أرض الجبل (حب) . ماه البصرة: الدينور. ماه الكوفة: نهاوند (حب، نقلا عن جماهر البيروني: 205) . [2] . السبخة: أرض ذات سباخ، والسباخ ما يعلو الماء من طحلب ونحوه. [3] . الهياطلة: المنسوبون إلى هيطل وهو معرّب LHeptal أو.LHeftal وفي بندهش) Heftalan:انكساريا: 215) . بالفارسية: هيتال (حب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يحترف [1] [159] الناس في ملك الملك الجائر إلّا بالجور، وفي هذا هلاك الناس وخراب الأرض.» فأمدّ فيروز، ودفع إليه الطالقان [2] . فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان [3] وطوائف خراسان [4] ، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد وهو بالرىّ، وكانت أمّهما واحدة، وكانت بالمدائن تدبّر ما يليها من الملك، فظفر فيروز بأخيه، فحبسه وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن، إلّا أنّه كان محارفا [5] مشؤوما على رعيته، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن فيها إلى الناس، وقسم ما في بيوت الأموال وكفّ عن الجباية، وساسهم أحسن سياسة. ويقال: إنّ الأنهار غارت في مدّة هذه السبع السنين، وكذلك القنىّ والعيون، وقحلت [6] الأشجار والغياض [7] ، وتماوتت الوحوش والطيور، وجاعت الأنعام والدوابّ، حتى كانت لا تطيق أن تحمل حمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد [8] والمجاعة. حسن سياسة من فيروز فبلغ من حسن سياسة فيروز لذلك الأمر [160] أن كتب إلى جميع أهل رعيّته: أنّه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنّه قد ملّكهم أنفسهم وأمرهم   [1] . مط: لا يحترق. [2] . الطالقان مدينة على ثلاث منازل من مرو الروذ من جهة بلخ، وكانت مدينة ذات أهمية في القرن الثالث الهجري (لج: 449) . [3] . طخارستان: ولاية في شرقى بلخ على الساحل الجنوبي من جيحون تمتد إلى بدخشان (لج: 453) . [4] . مط: خوارسان. [5] . المحارف: المجازى على الخير والشرّ. [6] . قحل: يبس. [7] . الغيضة: الأجمة: الموضع الذي يكثر فيه الشجر ويلتفّ. [8] . الجهد: المشقّة والفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 بالسعي فيما يقوتهم [1] ويصلحهم. ثم كتب إليهم في إخراج الهوى [2] والطعام والمطامير [3] لكلّ من كان يملك شيئا من ذلك مما يقوت [4] الناس، والتآسى فيه، وترك الاستيثار به، وأن يكون حال أهل الفقر والغنى وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدة، وأخبرهم أنّه إن بلغه أن إنسيّا مات جوعا، عاقب أهل تلك المدينة أو القرية أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الإنسى، ونكّل بهم أشدّ النكال. ويقال: إنّه لم يهلك في تلك اللزبة [5] والمجاعة أحد من رعيّته إلّا رجل من رستاق كورة أردشير خرّة. ثم إنّ فيروز لما حييت بلاده، وأغاثه الله بالمطر، وعادت المياه، وصلحت الأشجار، واستوسق [6] له الملك، أثخن [7] في الأعداء وقهرهم، وبنى مدنا: إحداها بالرىّ، والأخرى بين جرجان وصول، [8] والأخرى بناحية آذربيجان. ثم سار بجنوده نحو خراسان مريدا حرب أخشنواز [9] [161] ملك الهياطلة، لأشياء كانت في نفسه، ولأنّ هؤلاء القوم كانوا يأتون الذكران ويرتكبون الفواحش، فتأوّل بها وسار إليهم. فلما بلغ أخشنواز خبره اشتدّ منه رعبه وعلم أن لا طاقة له به. حيلة تمت لملك الهياطلة على فيروز فكان مما تمّ له على فيروز من الحيلة حتى قهره وقتله وقتل عامّة من كان   [1] . مط: يقويهم. [2] . الهوى: جمع الهوّة: الحفرة، البئر المغطاة. [3] . المطامير: جمع المطمورة: مكان تحت الأرض قد هيئ ليطمر فيه البرّ والفول ونحوه. [4] . مط: يفوت! أنظر إلى كاتب مط كيف يعامل مع كلمتين من أصل واحد فيكتبهما: «يقويهم» و «يفوت» . [5] . اللزبة: الشدة، الأزمة، القحط. [6] . استوسق: انتظم. [7] . أثخن في الأعداء: بالغ في قتالهم. [8] . صول: معرّب «چول» مدينة في بلاد الخزر في نواحي باب الأبواب وهو الدربند (يا) . [9] . الطبري: أخشنواز، خوشنواز (2: 875) . بالفهلوية) Xshunvaz:فم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 معه: أنّ رجلا من أصحاب أخشنواز، لما علم أنّ ملكه قد بعل [1] ، وأنه قد أشرف على الهلاك هو وأهل بلاده، تنصّح إليه وقال: - «إنّى رجل كبير السنّ قريب الأجل، وقد فديت الملك وأهل مملكته بنفسي [2] فاقطع يدىّ ورجلىّ وأظهر في جسمي وجنبي آثار السياط والعقوبات، وألقنى في طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي بعدي، فإنّى أكفيك أمر فيروز.» ففعل ذلك أخشنواز بذلك الرجل، وألقاه في طريق فيروز. فلمّا مرّ به أنكر حاله ورأى شيئا فظيعا. فسأله عن أمره، فأخبره: أنّ أخشنواز فعل به ذلك، لأنّه قال له: «لا قوام لك بالملك فيروز وجنوده» ، وأشار عليه بالانقياد [162] له والعبودة. فرقّ له فيروز، ورحمه، وأمر بحمله معه، فأعلمه على وجه النصح، أو في ما زعم، أنه يدلّه على طريق قريب مختصر لم يدخل أحد منه قطّ إلى أخشنواز على طريق المفازة، وسأله [3] أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك منه وأخذ الأقطع [4] بالقوم في الطريق الذي ذكره له، فلم يزل يقطع بهم مفازة [5] بعد مفازة. فلما شكوا عطشا أعلمهم أنّهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة، حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على تقدّم ولا تأخر، بيّن لهم أمره. فقال أصحاب فيروز لفيروز: - «قد كنّا حذّرناك، أيّها الملك، فلم تحذر، فأمّا الآن فلا بدّ من المضىّ قدما، فإنّه لا سبيل إلى الرجوع، فلعلّك توافى القوم على الحالات كلّها.» فمضوا لوجوههم وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى   [1] . بعل بأمره: دهش وتحيّر. [2] . مط: بنفسه. [3] . وسأله ... ومن قطع المفازة: سقطت من مط. [4] . الأقطع: المقطوع اليد أو الرجل. [5] . المفازة: الصحراء، المهلكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عدوّهم. فلمّا أشرفوا عليهم- وهم بأسوأ حال من الضرّ والضعف- دعوا أخشنواز إلى الصلح، على أن يخلّى سبيلهم حتّى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل له فيروز عهد [163] الله وميثاقه ألّا يغزوهم ولا يروم أرضهم ولا يبعث إليه جندا يقاتلونهم، ويجعل بين المملكتين حدّا لا يجوزه. فرضي أخشنواز بذلك، وكتب له كتابا مختوما وأشهد له على نفسه شهودا، ثمّ خلّى سبيله وانصرف. فلما صار إلى مملكته حمله الأنف على معاودة أخشنواز. عاقبة غدره فكان من عاقبة غدره: أنّه غزاه بعد أن نهاه وزراؤه وخاصّته عن ذلك، لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبى إلّا ركوب رأيه. وكان في من نهاه عن ذلك رجل يخصّه ويجتبى رأيه يقال له: مربوذ [1] . فلمّا رأى لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها. ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد أخشنواز. فلمّا بلغ فيروز منارة كان بناها بهرام جور في ما بين تخوم [2] بلاد خراسان وبلاد الترك- لئلّا يجوزها الترك إلى خراسان، لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدّى لها، وكان فيروز عاهد [164] أخشنواز أن لا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة- أمر فيروز فصمد [3] فيها خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجرّت أمامه جرّا واتّبعها، وزعم أنّه يريد بذلك الوفاء، وترك مجاوزة ما عاهد عليه. فلمّا بلغ أخشنواز ذلك من فعل فيروز، أرسل إليه يقول له: - «إنّ الله عزّ وجلّ لا يخادع ولا يماكر، فانته عمّا انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه» .   [1] . مط: مرديو. الطبري: مزدبوذ، مربود. [2] . جمع التخم: الحد الفاصل بين أرضين. الحدّ. [3] . صمد: قصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فلم يحفل فيروز لقوله، ولم يكترث برسالته، وجعل يستطعم محاربة أخشنواز ويدعوه إليها، وجعل أخشنواز يمتنع من محاربته ويتكرّهها، لأنّ جلّ محاربة الترك إنّما هو بالخداع والمكر والمكائد. ثم إنّ أخشنواز أمر فحفر [1] خلف عسكره خندق عرضه [2] عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعا، وغمّى بخشب ضعاف، وألقى عليه التراب، ثم ارتحل في جنده ومضى غير بعيد. فبلغ فيروز رحلة أخشنواز بجنده من معسكره، فلم يشكّ أنّ ذلك هزيمة منهم وأنّه قد انكشف [3] وهرب. فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في [165] طلب أخشنواز وأصحابه وأغذّوا [4] السير. وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلمّا بلغوه اقتحموه على عماية، فتردّى فيها فيروز وعامّة جنده، وهلكوا من آخرهم [5] . وعطف أخشنواز إلى عسكر فيروز واحتوى على كلّ شيء فيه، وأسر موبذان موبذ، وصارت فيروز دخت بنت فيروز في من صار في يده من نساء فيروز. ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد، ابنه: بلاش بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور [6] وكان حسن السيرة، حريصا على العمارة. وبلغ من حسن نظره أنّه كان لا يبلغه أنّ بيتا خرب وجلا أهله عنه، إلّا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت، على تركه إنعاشهم وسدّ فاقتهم، حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم.   [1] . مط: أن يخف! [2] . مط: عهته! [3] . انكشف: انهزم في الحرب. [4] . مط: أعدوا. أغذّ السير: أسرع. [5] . أنظر الطبري 2: 876. [6] . نفس المصدر 2: 882. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ثم ملك قباذ بن فيروز أخو بلاش [1] وكان صار إلى خاقان يستنصره على أخيه بلاش ويذكر أنّه أحقّ بالملك منه. فبقى هناك أربع سنين، ثمّ جهّزه خاقان. فلمّا عاد وبلغ نيسابور [166] بلغه موت أخيه بلاش [2] . وكان في وقت اجتيازه تزوّج ابنة رجل من الأساورة متنكّرا، وواقعها، فحملت بأنوشروان [3] . ولما عاد في هذا الوقت الذي ذكرناه، سأل عن الجارية، فأتى بها وبابنه أنوشروان. فتبرّك به وبها. ولما بلغ حدود فارس والأهواز بنى مدينة أرجان [4] ، وبنى حلوان، وبنى قباذ خرّة [5] ، وعدة مدن أخر. من آرائه الجيّدة فكان من آرائه الجيّدة وعزائمه النافذة، قبضه على خاله «سوخرا [6] » . وكان سبب ذلك أنّ فيروز لما جرى عليه ما جرى من الهياطلة كان سوخرا يخلفه على مدينة الملك بالمدائن. فجمع جموعا كثيرة من الفرس، وقصد أخشنواز ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه وتحكّم عليه. وكان وقع في يده دفاتر الديوان الذي صحب فيروز. فتقاضى بجميع ما كان في خزائنه وخزائن قوّاده وأهله، وطلب الوجوه من الأسارى الذين بقوا في يد أخشنواز. ولم يزل يحارب أخشنواز ويكيده ويبلغ منه [167] ما يتحكّم به عليه، حتى استنقذ من يده عامّة الفرس، وأكثر ما احتوى عليه من خزائن فيروز.   [1] . نفس المصدر 2: 883. [2] . مط: بلاس. [3] . بالفهلوية.Anoshakruvan: [4] . أرجان: ولاية في أقصى غربي فارس، خرائبها قريبة من بهبهان (لج: 290) . [5] . قباذ خرّة: ولاية في فارس، ومدنها: كارزين، قير، أبرز (لج: 274) . Sukhray. [6] من الأصل الأفستائى: سوخره، وهو في الفارسية «سرخ» أى: الأحمر (وب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فكان له أثر حسن عند الفرس وعند ابني فيروز، أعنى: بلاش وقباذ. فعظّموه ورفعوا منزلته إلى حيث ليس بينه وبين الملك إلّا مرتبة واحدة. فتولّى سياسة الأمر بحنكة وتجربة، واستوى على الأمر، ومال إليه الناس واستخفّوا بقباذ، وتهاونوا به. فلم يحتمل قباذ ذلك، وكتب إلى سابور الرازي [1]- الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان اصبهبذ البلاد- في القدوم عليه في من قبله من الجند، فقدم بهم سابور، فواضعه قتال خاله سوخرا، وأمره فيه بأمره، على لطف وكتمان شديد خفىّ. فغدا سابور على قباذ، فوجد عنده سوخرا جالسا. فمشى نحو قباذ مجاوزا له، وتغفّل سوخرا. فلم يأبه سوخرا لإرب سابور، حتى ألقى وهقا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه، فأخرجه، وأوثقه، واستودعه السجن. فحينئذ ضربت الفرس المثل بأن قالوا: - «نقصت ريح سوخرا، وهبّت ريح مهران» . ثم قتل قباذ سوخرا. فكان هذا رأيا تمّ على سكون، ولم يضطرب فيه أمر. [168] سوء تدبير قباذ عند ظهور مزدك وزوال ملكه وكان ممّا أساء فيه التدبير والرأى حتّى اجتمعت كلمة موبذان موبذ وجماعة الفرس على حبسه وإزالة ملكه عنه. أنّه اتّبع رجلا يقال له «مزدك» ، مع أصحاب له يقال لهم: «العدليّة» . قالوا: «إنّ الله جعل الأرزاق في الأرض مبسوطة ليقسمها عباده بينهم بالتآسى، ولكن الناس تظالموا.»   [1] . مط: بدون «الرازي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وزعموا: أنّهم يأخذون للفقراء من الأغنياء ويردّون من المكثرين على المقلّين، وأنّه من كان عنده فضل في المال والقوت، أو النساء والأمتعة، فليس هو أولى به من غيره. فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه حتى قوى أمرهم. فكانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على ماله ونسائه، فلا يستطيعون الامتناع منهم. وقوّاهم قبول الملك رأيهم، ودخوله معهم. فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى صار الرجل لا يعرف أباه، ولا الأب ولده، ولا يملك أحد شيئا ممّا يتّسع به. وصيّروا قباذ في مكان لا يصل إليه غيرهم فيه. فأجمعت الفرس- حين رأوا فساد الملك- على تمليك أخيه جاماسف بن فيروز. وقد حكى أيضا: أنّ المزدكيّة [169] هم الذين أجلسوا جاماسف ليكون الملك من قبلهم لا منّة لغيرهم عليهم، إلّا أنّ الحكاية الأولى أشبه بالحقّ. ذكر حيلة تمّت لأخت قباذ حتّى أخرجته من الحبس ثم إنّ أختا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ. فحاولت الدخول إليه، فمنعها الموكّل الذي كان ثقة عليه، وطمع أن يفضحها بذلك السبب وألقى طمعه فيها. فأخبرته أنّها غير مخالفة له في شيء مما يهواه منها. فأذن لها حتّى دخلت السجن وأقامت عند قباذ يوما. ثم أمرت فلفّ قباذ في بساط، وحمل على عاتق غلام قوىّ ضابط كان معه في الحبس. فلمّا مرّ الغلام بوالي الحبس، سأله عمّا يحمله. فأفحم، فاضطرب. فلحقته أخت قباذ فأخبرته أنّه فراش كانت افرشته في عراكها [1] ، وأنّها إنّما خرجت لتتطهر وتنصرف. فصدّقها ولم يمس البساط، ولم يدن منه استقذارا له على مذهبهم، وخلّى عن الغلام الحامل لقباذ. فمضى به،   [1] . العراك: الحيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وخرجت في أثره، وهرب قباذ، فلحق بأرض [170] الهياطلة، ليستمدّ ملكها فيحارب من يخالفه. فيقال: إنّه نزل في مسيره ب «أبرشهر [1] » على رجل من عظمائها. فتزوّج ابنة له معصرا [2] ، وإنّها أمّ كسرى أنوشروان وإنّ نكاحه لأم أنوشروان في سفره هذا. ثمّ إنّ قباذ رجع من سفره هذا بابنه أنوشروان. وغلب أخاه جاماسف بعد أن ملك اخوه ستّ سنين. ثم غزا الروم وافتتح آمد [3] وبنى مدنا منها: أرجان وغيرها، وملّك ابنه كسرى أنوشروان وأعطاه خاتمه. وهلك قباذ وكان ملكه بسنى ملك [4] أخيه ثلاثا وأربعين سنة. سبب هلاك قباذ وكان سبب هلاكه سوء رأيه، وفساد عقيدته، وضعف ملكه. وذلك أنّه لمّا التقى الحارث بن عمرو بن حجر الكندي والنعمان بن المنذر بن إمرئ القيس، قتله، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك النعمان. فبعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنّه: - «قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد وإنّى أحبّ لقاءك» . [171] وكان قباذ زنديقا يظهر الخير، ويكره سفك الدماء، ويدارى أعداءه في ما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس. فخرج إليه الحارث بن عمرو في عدد وعدّة، حتى التقيا بقنطرة الفيّوم. فأمر   [1] . مط: ايرانشهر. وأبرشهر اسم لنيسابور في أوائل الحكم الإسلامي، وكان يقال لها ايرانشهر أيضا (لج: 409) . [2] . أعصرت المرأة: أدركت وكأنّها دخلت شبابها فهي معصر. [3] . آمد: أكبر مدن ديار بكر على الدجلة العليا (لج: 93) . [4] . الأصل ومط: بملك سنى أخيه. والباء بمعنى مع. أنظر الطبري 2: 888. وابن الأثير 1: 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قباذ بطبق من تمر، فنزع نواه، وأمر بطبق آخر، فجعل فيه تمر بنواه. ثم وضعا بين أيديهما، وجعل الذي فيه النوى بين يدي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه بين يدي الملك قباذ. فكان الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، والملك يأكل التمر ولا يحتاج إلى إلقاء النوى. فقال الحارث: «ما لك لا تأكل كما آكل؟» فقال الحارث: «إنّما يأكل النوى إبلنا وغنمنا.» وعلم أنّ قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح وعلى أن لا يتجاوز الحارث وأصحابه الفرات. إلّا أنّ الحارث استضعفه وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يعبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد. فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن، فقال: - «هذا من تحت كنف ملكهم» . ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو: أنّ لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد [172] وأنه يحبّ لقاءه. فلقيه، فقال قباذ كالعاتب: - «لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك.» فطمع الحارث في لين كلامه فقال: - «ما علمت ولا شعرت، ولا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كلّ العرب تحت طاعتي، وما أتمكّن منهم إلّا بالمال والجنود.» فقال له قباذ: «فما الذي تريد؟» قال: «أريد أن تطعمني من السواد ما أتّخذ به سلاحا [1] .» فأمر له بما يلي جانب الغرب من أسفل الفرات وهي ستّة طساسيج.   [1] . مط: ملاجا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبّع وهو باليمن: - «إنّى قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستّة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل، فانّه ليس دون ملكهم شيء، لأنّ الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحلّ هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك، فبادر بعدّتك وجندك.» فجمع تبّع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشقّ له نهرا إلى النجف، ففعل وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجّه ابن أخيه [1] شمرا ذا الجناح [173] إلى قباذ. فقاتله، فهزمه شمر، حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله. ذكر ما تمّ لتبّع وابن أخيه شمر وابنه حسّان بعد احتوائهم على مملكة الفرس ثمّ إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح إلى خراسان، ووجّه ابنه حسّان إلى السغد [2] وقال: - «أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها.» وكان كلّ واحد منهما في جيش عظيم يقال: إنهما كانا ستمائة ألف وأربعين ألفا. وبعث ابن أخيه الآخر واسمه: «يعفر» إلى الروم. فأمّا يعفر فإنّه سار حتى أتى قسطنطينية. فأعطوه الطاعة والإتاوة. ثم مضى إلى روميّة فحاصرها. ثم أصابهم جوع، ووقع فيهم طاعون فرقّوا [3] . وعلم الروم بذلك، فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. وأمّا شمر ذو الجناح فانّه سار حتّى انتهى إلى سمرقند، فحصرها، فلم يظفر   [1] . مط: ابن أخته. [2] . مط: السفه. الطبري: الصغد. [3] . رقّ: نحف ولطف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 منها بشيء. فلمّا رأى ذلك، أطاف [1] بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها، فاستمال بقلبه، ثم سأله عن المدينة وملكها. فقال: «أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الشرب والأكل والجماع، ولكن له بنت [174] هي التي تقضى أمر الناس.» فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه. ثم بعث معه هديّة إليها وقال: - «أخبرها أنّى إنّما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها، لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وأنّى لم أجئ التماس المال، وأنّ معى من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لى الأرض، كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها.» فلمّا انتهت رسالته إليها قالت: - «قد أجبته، فليبعث بالمال.» فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، وفي كلّ تابوت رجلان. وكان لسمرقند أربعة أبواب، على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل. وتقدّم في ذلك إلى رسله الذين وجّه معهم. فلمّا صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل. فخرجوا، فأخذوا بالأبواب ونهد [2] شمر في الناس فدخل المدينة، وقتل أهلها وحوى ما فيها [3] . ثم سار إلى الصين. فلقى زحوف الترك [175] فهزمهم، وانتهى إلى الصين. فوجد حسّان [بن] [4] تبّع قد كان سبقه إليها ثلاث سنين. فأقاما بها- في بعض الروايات- حتى ماتا، وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة. وفي بعض الروايات- وهو المجمع عليه-: أنّ شمرا وحسّانا انصرفا في الطريق التي كانا أخذا فيه،   [1] . مط: أطاق. أطاف بالشيء: ألمّ به، وأحاط به. طرقه ليلا. [2] . نهد: نهض ومضى. نهد لعدوه: صمد، وشرع في قتاله. [3] . أنظر الطبري 2: 890. [4] . زيادة من الطبري 2: 892. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 حتّى قدما على تبّع بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطيب والسبي، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم. وذلك أنّه كانت همّة ملوك العرب الغزو والغنيمة ولم يطمعوا في الملك الثابت. وكان أحدهم إذا ملأ يده من الغنائم وأرضى جنده وظفروا بما في نفوسهم، انكفأوا إلى بلادهم. وكانت وفاة تبع باليمن ولم يخرج أحد من ملوك اليمن بعده غازيا إلى شيء من البلاد. وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة. وأمّا في الرواية الأخرى: فإنّه أقام تبّع وواطأ ابن أخيه شمرا وابنه حسّانا أن يملكا الصين، ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار. فكان إذا حدث [176] حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر في ليلة. وكان جعل آية ما بينه وبينهم [أنه] [1] : - «إن أنا أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثا فهو هلاك تبّع. وإن كانت من عندهم نار فهو هلاك حسّان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما» . فمكثوا بذلك. ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثا فكان هلاك تبّع. وقد ذكر بعض الرواة: أنّ الذي سار إلى المشرق من التبابعة، تبّع الآخر وهو: تبّع تبان أسعد أبو بكر بن مليكيكرب بن زيد بن عمرو ذى الأذعار وهو أبو حسّان. وقام بالملك بعد قباذ ابنه كسرى أنوشروان فاستقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأى، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر ثم الاستشارة. فجدّد سيرة أردشير، ونظر في عهده [2] ، وأخذ   [1] . تكملة يقتضيها السياق. وفي الطبري: أن إذا أوقدت. [2] . أنظر العهد في ص 122- 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 نفسه به، وأدّب به رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم، واستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر في تدابير [1] أسلافه المستحسنة [177] فاقتدى بها. وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرداشت الثاني الذي كان من أهل فسّا، وكان ممّن دعا إليها مزدك بن فامارد [2] ، وكان ممّا آمن به الناس- لما زيّنه لهم وحثّهم عليه- التآسى في أموالهم وأهاليهم. وذكر أنّ ذلك من البرّ الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنّه لو لم يكن الذي أمرهم به من الدين، لكان مكرمة في الفعال ورضى في التفاوض. فحضّ السفلة بذلك على الأشراف واختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهّل سبيل الظلمة إلى الظلم، والعهّار [3] إلى قضاء نهمتهم وإلى الوصول إلى الكرائم. فشمل الناس بلاء عظيم. فلما أبطل الملك أنوشروان ملّة هذين، وقتل عليه بشرا كثيرا، وسفك من الدماء ما لا يحصى كثرة ممن لا ينتهى، وقتل قوما من المانوية وثبت ملة المجوسية القديمة، كتب [4] في ذلك كتبا بليغة إلى أصحاب الولايات والاصبهبذين، وقوّى الملك بعد ضعفه بإدامة النظر، وهجر الملاذ وترك اللهو إلّا في أوقات، [178] حتى نظّم أموره وقوّى جنوده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، وحفظ الأموال، وفرّق منها ما لا يسع حفظه من الأرزاق والصلات   [1] . في الأصل ومط: تدبير. فأثبتناها «تدابير» لظهور كون «المستحسنة» صفة ل «تدابير» لا ل «الأسلاف» . [2] . كذا في مط: مزدك بن فامارد. بالفهلوية.LMazdak:في الطبري: مزدق بن بامذاد (2: 893) . في البيروني: مژدك بن همدادان من أهل نسا (الآثار: 209) . وقيل: هو من إصطخر فارس، ونسا بن Nesa من نواحي شيراز، تغير اسمها إلى بيضاء، لقلعة بيضاء كانت فيها على حد قول الاصطخرى (فم) . وعلى ما في الطبري: كان من مدريه Madhraya أى كوت العمارة حاليا. دعا إلى دين زردشت بونده (بوندس) المسمى «دريست دين» والذي كان في إصلاح الدين المانوى. وزردشت بونده (الزرادشت الثاني- مسكويه) كان من أهل فسّا (معرّب Pasa وهي ناحية في فارس شرقى شيراز مركزها مدينة بنفس الاسم- فم) . كان ظهور زردشت بونده قبل ظهور مزدك بقرنين،LC.R.K) والطبري 2: 885، 893) . [3] . أى سبيل العهّار. [4] . في الأصل ومط: «وكتب» فحذفنا الواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الموضوعة مواضعها، وسدّ الثغور، وردّ كثيرا من الأطراف التي غلب عليها الأمم بعلل وأسباب شتّى، منها: السّند، والرّخج [1] ، وزابلستان، وطخارستان [2] ، ودروستان [3] وغيرها. وقتل أمّة يقال لها: البافرز [4] واستبقى منهم من فرّقهم واستعبدهم واستعان بهم في حروبه. وأسرت له أمّة يقال لهم: صول، وقدم بهم عليه، فقتلهم واستبقى ثمانين رجلا من كماتهم، وعمل أعمالا عظيمة منها: بنيانه الحصون والآطام [5] والمعاقل لأهل بلاده، يكون حرزا لهم يلجأون إليها من عدوّ إن دهمهم. من ثمرة أعماله فكان من ثمرة هذه الأعمال: أنّ خاقان- واسمه سنحوا [6]- كان في ذلك الوقت أمنع الترك وأشجعهم. وهو الذي قاتل «ورز [7] » ملك الهياطلة، غير هائب كثرة الهياطلة ومنعتهم، وبأسهم. [179] فقتل ورز [8] وعامّة جنده، وغنم أموالهم واحتوى على بلادهم إلّا ما كان كسرى غلب عليه منها. وأقبل في جموعه من أمم استمالهم، وهم: أبجر، وبنجر، وبلنجر. وبلغت عدّة الجميع مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل أنجاد. فأرسل إلى كسرى يتوعّده ويطلب منه أموالا، وأنّه إن لم يجعل بالبعثة إليه ما سأله، وطئ بلاده وناجزه [9] . فلم يحفل كسرى به ولم يجبه إلى ما سأل، لتحصينه   [1] . مط: الزنج. والرخج ولاية في أطراف قندهار وشرقىّ بست (لج: 371) . [2] . طخارستان: ولاية واسعة في شرقى بلخ (لج: 453) . [3] . في الطبري وحواشيه: دردستان، دروستان، دورستان. مط: روستان. [4] . الطبري: البامرز، البارز. [5] . الآطام: جمع مفرده الأطم، والأطم: الحصن. [6] . مط: مسحوا! في الطبري: سنجبوا، سحنوا سحبوا (2: 895) . [7] . مط: وزر. في الطبري: ورز، ورد. [8] . مط: وزرة. [9] . مط: فاخره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 نواحيه لا سيما ناحية صول التي أقبل منها خاقان، ولمناعة السبل والفجاج، ولمعرفته بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية. فأقدم خاقان على ناحية صول من نواحي جرجان، فرأى من الحصون والرجال الذين أعدّهم كسرى ما لا حيلة له فيه، فانصرف خائبا. فأما تدبيره للمزدكية وردّه المظالم وما دبّر في أمر النساء المغلوبات على أنفسهن وتدابيره الأخرى فإنّه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسم أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم وأهاليهم ممن عرف، [180] وردّ الأموال إلى أربابها، وأمر بكل مولود اختلف فيه، أن يلحق بمن هو في سيما ذلك منهم إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيبا من مال الرجل الذي يسند إليه، إن قبله الرجل، وبكلّ امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ويرضى أهلها، ثم تخيّر المرأة بين الاقامة عليه وبين تزويج غيره، إلّا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ إليه. وأمر بكل من كان أضرّ برجل في ماله، أو ركب أحدا بمظلمة أن يؤخذ منه الحقّ ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. أمر بعيال ذوى الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف، وأغناهم وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله. وخير نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن [1] في الإجراء أمثالهن، أو تبتغى لهن أكفاؤهن من البعولة. وأمر بكرى الأنهار وحفر القنىّ [181] وإسلاف [أصحاب] [2] العمارات وتقويتهم. وأمر بإعادة كلّ جسر أو   [1] . في الطبري: ويصرن في الأجر أمثالهن (2: 897) . [2] . مزيد من الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قنطرة خرّبت أن تردّ إلى أحسن ما كانت عليه. وأمر بتسهيل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمّال وتقدّم [1] إلى من ولّى منهم أبلغ التقدّم، وتقدّم بكتب سير أردشير ووصاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها [2] . فتوح أنوشروان فلما انتظمت له هذه الأمور واستوسق ملكه ووثق بجنده وقوّته، سار نحو أنطاكية فافتتحها وأمر أن تصوّر له المدينة على ذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن يبنى على صورتها له مدينة إلى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالروميّة. ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إيّاها. فلمّا دخلوا باب المدينة مضى أهل كلّ بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية. ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الاسكندرية، وأذعن له قيصر، وحمل إليه الفدية. ثم انصرف من الروم وأخذ نحو الخزر، فأدرك فيهم تبله [3] ، وما كانوا وتروه به [182] في رعيّته، ثم نحو عدن، فسكر [4] هناك ناحية من البحر بين [5] جبلين بالصخور وعمد الحديد. ثم سار إلى الهياطلة مطالبا لهم بدم فيروز، بعد أن صاهر خاقان واستعان به. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة [6] . ثم انصرف إلى المدائن، وبعث قوما إلى الحبشة في جند من الديلم. فقتلوا مسروقا الحبشي باليمن. وأقام مظفّرا منصورا   [1] . تقدم إليه: أمره. [2] . ومن وصاياه، وعهده الذي تركه للملوك الآتين بعده. أنظر: ص 122 إلى 144. [3] . التبل: الحقد والعداوة. [4] . سكره: سدّه. [5] . في الطبري: بين جبلين مما يلي أرض الحبشة بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل (2: 898) . [6] . فرغانة: ولاية على ساحل جيحون (لج: 519) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يهابه جميع أمرائهم، ويحضر بابه وفود الترك والصين والخزر ونظرائهم. وكان مكرما للعلماء. وقد كان غزا برجان [1] . ثم رجع فبنى الباب [2] والأبواب. وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي- صلّى الله عليه وسلّم-. والنبي أيضا- عليه السلام- وملك ثماني [3] وأربعين سنة. أمّا عبد الله بن عبد المطلب فانّه ولد لأربع وعشرين سنة من ملكه. وبعث إلى المنذر بن النعمان- وأمّه ماء السماء امرأة من اليمن [4]- فملّكه الحيرة وما كان يليه آل الحارث بن عمرو، وردّ الأمر إلى نصابه. تدابير أنوشروان لاستغزار الأموال وتثميرها ومن أحسن ما دبّره أنوشروان في استغزار الأموال وتثميرها [183] أنّه بعد فراغه من الثغور وملوك الأطراف، وتوظيفه الوظائف على أقاصى الملوك من الترك والخزر والهند وغيرهم، وبيعه مدن الشام ومصر والروم على ملك الروم بأموال عظيمة، وإلزامه جزية يحملها في كلّ سنة على ألّا يغزو بلاده، نظر في الخراج وأبواب المال التي كان يستأديها الملوك قبله من بلاده. فإذا رسوم الناس كانت جارية على الثلث من الارتفاع خراجا، ومن بعض الكور الربع، ومن بعضها الخمس، ومن بعضها السدس، على حسب شربها [5] وعمارتها، ومن جزية الجماجم [6] شيئا معلوما. وكان الملك قباذ بن فيروز تقدّم- في آخر ملكه- بمسح الأرض سهلها   [1] . في مط: «عمر بن خان» بدل «غزابرجان» ! برجان، بالفهلوية:LVarjan:بلد من نواحي الجزر (مع) ، والجزر: مصحّف الجرز، والجرز: معرّب گرج. بالفارسية: گرجستان (مت) . [2] . الباب والأبواب، باب الأبواب، الدربند، دربند نوشروان: مدينة على بحر الخزر (مع) . [3] . في الطبري: سبعا (2: 899) . [4] . في الطبري: من النمر. [5] . الشرب: الماء. النصيب من الماء. وقت الشرب. [6] . الجماجم: جمع مفرده الجمجمة: البئر تحفر في السبخة، أو ضرب من المكاييل (مو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وجبلها، ليصحّ الخراج عليها، فمسحت. غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة. فلمّا ملك أنوشروان أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم. ثم أمر الكتّاب فأخرجوا جمل ذلك غير مفصّلة، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ [184] عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم. فقرأ ذلك عليهم. ثم قال لهم كسرى: - «إنّا رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان هذه المساحة ومن النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها [1] في السنة في ثلاثة أنجم. ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من الثغور، أو طرف من الأطراف، فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالا، كانت الأموال عندنا معدّة موجودة، ولم نرد استيناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون في ما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه؟» فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة ولم ينبس بكلمة. فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات. فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى: - «أتضع أيّها الملك- عمّرك الله خالدا- من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج [2] ، ونهر يغيض، وعين أو قناة ينقطع ماؤها؟» فقال له كسرى: «يا ذا الكفلة المشؤوم! من أىّ طبقات الناس أنت؟» قال: «أنا رجل من الكتّاب.» [185] فقال كسرى: «اضربوه بالدوىّ [3] حتى يموت.» فضربوه بها الكتّاب خاصّة تبرّيا منه إلى كسرى من رأيه وما جاء منه حتّى   [1] . الإنجام: تعيين مواقيت تأدية الدّين. والنجم: الوقت المضروب، أو القسط من الدّين (مو) . [2] . يهيج: ييبس ويصفر. [3] . الدوىّ جمع الدواة: المحبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قتلوه. وقال الناس: - «نحن راضون أيّها الملك بما أنت ملزمنا من خراج.» وإنّ كسرى اختار رجالا من أهل الرأى والنصيحة. فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدد النخل والزيتون ورؤوس الجزية، ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أنّ فيه صلاح الرعية ورفاغة [1] معايشهم، ورفع ذلك إليه. فتكلّم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك وفي قدر الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم وهو: الحنطة، والشعير، والأرز، والكرم، والرطاب [2] ، والنخل، والزيتون. وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهما، وعلى كل جريب كرم ثمانية دراهم، وعلى كلّ جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كلّ [186] أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كلّ ست نخلات دقل [3] مثل ذلك، وعلى كلّ ستّة أصول زيتون مثل ذلك. ولم يضعوا إلّا على كلّ نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذّ [4] ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلّات السبع.   [1] . مط: رفاهة. في الطبري: رفاغة. نقطة الغين مطموسة في الأصل. الرفاغة: لين العيش وسعتها وبهذا المعنى تلائم ما في مط (رفاهة) . [2] . الرطاب: جمع رطبة (رطب) : ما نضج من البسر قبل أن يصير تمرا. كل ما يؤكل من النبات غضّا طريّا. [3] . الدقل: أردأ التمر. [4] . الشاذّ: المنفرد الخارج عن الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فقوى الناس في معايشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات، والعظماء، والمقاتلة، والهرابذة، والكتّاب، ومن كان في خدمة الملك. وصيّروها على طبقات: اثنى عشر درهما، وثمانية، وستّة، وأربعة، على قدر إكثار الرجل وإقلاله. ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين، أو فوق الخمسين. عمر يقتدى بوضائع كسرى ورفعوا هذه الوضائع إلى كسرى. فرضيها، وأمر بإمضائها، والاجتباء عليها في ثلاثة أنجم كلّ سنة، وسمّاها «أبراسيار» [1]- وتأويله: الأمر المتراضى به- وهي الوضائع التي اقتدى عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- بها حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء الناس من أهل الذمّة عليها. إلّا أنّه وضع على كلّ جريب [2] غامر [3] على قدر احتماله مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، [187] وزاد على كلّ جريب أرض- مزارع حنطة أو شعير- قفيزا من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند. ولم يخالف بالعراق خاصّة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه في معايش الناس.   [1] . أبراسيار: مهملة في الأصل ومط، والإعجام من الطبري. في هامش الطبري: ابن ابسار، ابرسيار (2: 962) . أبراسيار تحريف للكلمة الفارسية «همداستانى» [أى: اتفاق النظر والتصميم] ، ويؤيّد ذلك أن الكلمة وردت في ترجمة البلعمي (ص 250) بمعنى التراضي والإصلاح الضرائبى من قبل أنوشروان. أنظر الدكتور محمدي: «نظرة في المرجع» ، الدراسات الأدبية، السنة الخامسة، العدد الثاني، ص 112، الحاشية 2. [2] . الجريب: معرب «گرى» عشرة آلاف ذراع (حب) . [3] . أعجمنا العين كما في الطبري: غامر. والغامر خلاف العامر. الأرض الخراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ذكر قطعة من سيرة أنوشروان وسياساته كتبتها على ما حكاه أنوشروان نفسه في كتاب [1] عمله في سيرته وما ساس به مملكته وقرأت فيما كتب أنوشروان من سيرة نفسه قال: رجل اخترط السيف وأراد الوثوب علينا «كنت يوما جالسا بالدّسكرة [2] وأنا سائر إلى همذان لنصيف هناك وقد أعدّ طعام للرسل الذين بالباب من قبل خاقان، والهياطلة، والصين، وقيصر، وبغبور، إذ دخل رجل من الأساورة مخترطا سيفه حتى وصل إلى الستر [3] . فقطع الستر في ثلاثة أماكن، وأراد الدخول حيث نحن، والوثوب علينا. فأشار علىّ بعض خدمي أن أخرج إليه بسيفي. فعلمت أنّه إن كان إنّما هو رجل واحد، فسوف يحال بيننا وبينه، وإن كانوا جماعة فانّ سيفي لا يغنى شيئا، فلم أخف ولم أتحرّك من مكاني. فأخذه بعض الحرس، فإذا هو رجل رازى من حشمنا وخاصتنا [188] فلم يشكّوا أنّ من هو على رأيه كثير، فسألونى ألّا أجلس ولا أحضر الشرب في جماعة حتى أستبين الأمر. فلم أجبهم إلى ذلك لئلّا يرى الرسل منّى جبنا،   [1] . هو نفس ما ذكره ابن النديم باسم: «كتاب التاج في سيرة أنوشروان» أو: «الكارنامج في سيرة أنوشروان» نقله ابن المقفع من الفهلوية إلى العربية (الفهرست: 118، 305، مت: 43) . [2] . الدسكرة دستگرد Dastgard دستگرد خسرويه، دسكرة الملك: على طريق طيسفون- همدان (حب) على 107 كم. من الشمالي الشرقي لطيسفون،LC.I.S) مت: 53) . [3] . الستر: ما كان يسدل بين الملك والندامى (التاج: 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فخرجت لشربى، فلمّا فرغنا هدّدت الرازي بقطع اليمين والعقوبات، وسألت أن يصدقني عن الذي حمله على ذلك، وأنّه إن صدقنى لم تنله عقوبة بعد ذلك. فذكر أنّ قوما وضعوا من قبل أنفسهم كتبا وكلاما، وذكروا أنّه من عند الله، أشاروا عليه بذلك وأخبروه أن قتله- إن قتلني- يدخله الجنّة. فلمّا فحصت عن ذلك وجدته حقّا، فأمرت بتخلية الرازي وبردّ ما أخذ منه من المال، وتقدّمت بضرب رقاب أولئك الذين انتحلوا الدين، وأشاروا به عليه حتّى لم أدع منهم أحدا.» وقال أنوشروان: استحلال قتلى «إنّى لمّا أحضرت القوم الذين اختلفوا [1] في الدين وجمعتهم للنظر فيما يقولونه، بلغ من جرأتهم وخبثهم وقوّة شياطينهم أن لم يبالوا بالقتل والموت في إظهار [دينهم] [2] الخبيث، حتّى إنّى سألت أفضلهم رجلا، على رؤوس الناس، عن استحلاله [189] قتلى فقال: - «نعم! أستحلّ قتلك وقتل من لا يطاوعنا على ديننا.» «فلم آمر بقتله حتّى إذا حضر وقت الغذاء، أمرت أن يحتبس للغداء، وأرسلت إليه بظرف من الطعام، وأمرت الرسول أن يبلّغه عنّى: أنّ بقائى أنفع له ممّا ذكر. فأجاب رسولي: - «أنّ ذلك حقّ، ولكن سألنى الملك أن أصدقه ذات نفسي ولا أكتمه   [1] . اختلفوا في الدين: سقطت من مط. [2] . دينهم من مط، والأصل غير واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 شيئا مما أدين به، وإنّما أدين بما أخذته من مؤدّبى [1] .» وقال أنوشروان: تصدّقت على مساكين الروم «لمّا غدر بى قيصر وغزوته فذلّ وطلب الصلح وأنفذ إلىّ بمال وأقرّ بالخراج والفدية، تصدّقت [2] على مساكين الروم وضعفاء مزارعيها مما بعث إلىّ قصير بعشرة آلاف دينار، وذلك في ما وطئته من أرض الروم دون غيرها.» وقال: تخفيف الخراج لعمارة الأراضى «لما هممت بتصفّح أمر الرعية بنفسي، ورفع البلاء والظلم عنهم، وما ينوبهم من ثقل الخراج- فإنّ فيه مع الأجر تزيين المملكة، وغناهم، وقدرة الوالي على ما يجب أن يستخرج منهم، إن هو احتاج إلى ذلك، وقد كان في آبائنا من يرى أنّ وضع الخراج [190] عنهم للسنة والسنتين والتخفيف أحيانا، ممّا يقوّيهم على عمارة أرضيهم- فجمعت العمال ومن يؤدّى الخراج، فرأيت من تخليطهم ما لم أر له حيلة إلّا التعديل والمقاطعة على بلدة بلدة، وكورة كورة، ورستاق رستاق، وقرية قرية، ورجل رجل، واستعملت عليهم أهل الثقة والأمانة في نفسي، وجعلت في كلّ بلد مع كلّ عامل أمناء يحفظون عليه، وولّيت قاضى كلّ كورة النظر في أهل كورته،   [1] . مؤدّبى: الباء ليست واضحة في الأصل. مط: مودى. وهو من الإيداء بمعنى المحسن والمنعم. [2] . في الأصل: «صدقت» وما أثبتناه من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وأمرت أهل الخراج أن يرفعوا ما يحتاجون إلى رفعه إلينا، إلى القاضي الذي ولّيته أمر كورهم، حتى لا يقدر العامل أن يزيد شيئا، وأن يؤدّوا الخراج بمشهد من القاضي، وأن يعطى به البراءة [1] ، وأن يرفع خراج من هلك منهم، ولا يراد الخراج ممن لم يدرك [2] من الأحداث، وأن يرفع القاضي وكاتب الكورة وأمين أهل البلد والعامل، محاسبتهم إلى ديواننا، وفرّقت الكتب بذلك.» وقال: ما رفع إلينا موبذان موبذ «رفع إلينا موبذان موبذ: أنّ قوما سمّاهم من ذوى الشرف- بعضهم بالباب كان شاهدا [3] [191] وبعضهم ببلاد أخر- دينهم مخالف لما ورثنا عن نبّينا وعلمائنا، وأنّهم يتكلّمون بدينهم سرّا ويدعون إليه الناس، وأنّ ذلك مفسدة للملك، حيث لا تقوم الرعيّة على هوى واحد: فيحرّمون جميعهم ما يحرّم الملك ويستحلّون ما يستحلّ الملك في دينه، فإنّ ذلك إذا اجتمع للملك، قوى جنده لأجل الموافقة بينهم وبين الملك، فاستظهر على قتال الأعداء. فأحضرت أولئك المختلفين في الأهواء [ثمّ أمرت] [4] أن يخاصموا [5] حتّى يقفوا على الحقّ ويقرّروا [6] به، وأمرت أن يقصوا عن مدينتي وعن بلادي ومملكتي، وبتتبّع كلّ من هو على هواهم،   [1] . الهمزة في «البراءة» من مط. وفي الأصل: البراة. [2] . أدرك الصبى: أدرك الحلم. [3] . مط: محاضرا. [4] . ما بين [] لم يكن لا في الأصل ولا في مط، فزدناه بوحي السياق. [5] . خاصمه: جادله، ونازعه. [6] . تقرير الإنسان بالشيء: جعله في قراره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فيفعل به ذلك.» وقال: ما سألته الترك ومسيرنا إلى باب صول «إنّ الترك الذين في ناحية الشمال، كتبوا إلينا بما قد أصابهم من الحاجة، وأنهم لا يجدون بدّا- إن لم نعطهم شيئا- من أن يغزونا، وسألوا خصالا، أحدها: أن نتّخذهم في جندنا ونجري عليهم ما يعيشون به، وأن نعطيهم من أرض الكنج [1] وبلنجر [2] وتلك الناحية، ما يتعيّشون منه. فرأيت أن أسير في ذلك الطريق إلى باب صول [3] ، [192] وأحببت أن تعرف الملوك من قبلنا هناك نشاطنا للأسفار وقوّتنا عليها متى هممنا، وأن يروا ما رأوا من هيبة [4] الملوك، وكثرة الجنود، وتمام العدّة، وكمال السلاح ما يقوون به على أعدائهم ويعرفون به قوّة من خلفهم إن هم احتاجوا إليه، وأحببنا- بمسيرنا- أن يجرى لهم على أيدينا الجوائز والحملان [5] والقرب من المجلس واللطف في الكلام، ليزيدهم ذلك مودّة لنا، ورغبة فينا، وحرصا على قتال أعدائنا. وأحببت أيضا التعهّد لحصونهم، وأن أسأل أهل الخراج عن أمرهم في مسيرنا، فسرت في طريق همذان وآذربيجان. فلمّا بلغت باب الصول ومدينة فيروز   [1] . الكنج: معرّب «گنجه» : مدينة عظيمة هي قصبة بلاد أرّان، وأهل الأدب يسمّونها: جنزة (مع) . [2] . بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف الباب والأبواب (مع) . [3] . صول: مدينة في بلاد الخزر في الباب والأبواب (مع) . [4] . في الأصل: هيئة. وهو تصحيف. [5] . الحملان: ما يحمل عليه من الدوابّ في الهبة خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 خسره [1] ، رمّمت تلك المدائن العتيقة والحدود، وأمرت ببناء حصون أخر. «فلمّا بلغ خاقان الخزر نزولنا هناك، تخوّف أن نغزوه. فكتب: أنّه لم يزل- منذ ملكت- يحبّ موادعتى، وأنّه يرى الدخول في طاعتي سعادة، ورأى بعض قوّاده لما شاهد حاله تركه، فأتانا في [193] ألفين من أصحابه، فقبلناه، وأنزلناه مع أساورتنا في تلك الناحية، وأجريت عليه وعلى أصحابه الرزق، وأمرت لهم بحصن هناك، وأمرت بمصلّى لأهل ديننا، وجعلت فيه موبذا وقوما نسّاكا، وأمرتهم أن يعلّموا من دخل في طاعتنا من الترك، ما في طاعة الولاة من المنفعة العاجلة في الدنيا، والثواب الآجل في الأخرى، وأن يحثّوهم على المودّة والصحّة والعدل والنصيحة ومجاهدة العدوّ، وأن يعلّموا أحداثهم رأينا ومذهبنا. وأقمت لهم في تلك التخوم [2] الأسواق وأصلحت طرقهم، وقوّمت السكك، ونظرنا فيما اجتمع لنا هناك من الخيل والرجال، فإذا بحيث لو كان في وسط فارس، لكان منزلنا بها فاضلا.» قال: تجديد النظر في أمر المملكة «ولمّا أتى لملكنا ثمان وعشرون سنة جدّدت [3] النظر في أمر   [1] . كذا في الأصل ومط. وفيروز خسرو: مدينة بالقرب من باب الأبواب باسم فيروز قباد. بنى هناك أنوشروان قصرا وسمّاه باب فيروز قباد (يا) . وبعد أن بنى هناك كسرى قصرا وعمرها سمّيت باسمه: فيروز خسرو، ثمّ غلب عليه الاسم الأوّل: فيروز قباد (مت: 64) . [2] . مط: النجوم. [3] . في الأصل: حدّدت. ونقطة الجيم من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 المملكة والعدل على الرعية، والنظر في أمرهم وإحصاء مظالمهم وإنصافهم، وأمرت موبذ كلّ [ثغر] [1] ومدينة وبلد وجند [2] بإنهاء ذلك إلىّ، وأمرت بعرض الجند من كان منهم بالباب، [194] بمشهد منّى، ومن غاب في الثغور والأطراف، بمشهد القائد وباذوسبان [3] والقاضي وأمين من قبلنا، وأمرت بجمع أهل كور الخراج في كلّ ناحية من مملكتي إلى مصرها، مع القائد وقاضى البلد والكاتب والأمين، وسرّحت من قبلي من عرفت صحّته وأمانته ونسكه وعلمه، ومن جرّبت ذلك منه إلى كلّ مصر ومدينة، حيث أولئك [الغلمان و] [4] العمال وأهل الأرض، ليجمعوا بينهم وبين أهل أرضيهم وبين وضيعهم وشريفهم، وأن يرفع الأمر كلّه على حقّه وصدقه: [فما] [5] نفذ فيه لهم أمر- لو صحّ فيه القضاء ورضى به أهله- فرغوا منه هنالك، وما أشكل عليهم رفعوه [6] إلىّ. وبلغ   [1] . الكلمة غير واضحة في الأصل فأثبتناها حسب مط. [2] . جند: معرّب «گند» سمى المسلمون كل صقع جندا، بجند عيّنوا له يقبضون أعطياتهم فيه منه. فكانوا يقولون: هؤلاء جند كذا، حتى غلب عليهم وعلى الناحية (يا) والجند معرب:Gond إحدى وحدات الجيش الساسانى، ورئيسها «گُند سالار» ، ويليها «درفش،LDrafsh «ثم «وشت LVasht «بالواو الفارسية (مت. (C.I.S.,P.205 66: [3] . باذوسبان، پادوسبان، پادگسپان:Padgospan درجة من درجات أصحاب المناصب. وقد كان هذا اللقب يختلف ارتفاعا وانخفاضا حسب العصور المختلفة. ففي بعضها، كان البادوسبان معاونا لحاكم القضاء، وكان تابعا للإصفهبذ، وفي بعضها الآخر، كانت للباذوسبان صلاحية المرزبان. وكان كل ناحية من نواحي الشمال والجنوب والشرق والغرب تسمى في بعض العصور پادگش،Padgosh (C.I.S ,.P.46) ودام هذا الترتيب إلى أوائل حكم أنوشروان، إلّا أنّ أنوشروان استبدل الباذوسبانين الأربعة، بأربعة إصفهبذين (مت: 67) . [4] . ما بين [] تكملة من مط. [5] . ما في الأصل ومط: «فيما» وهو خطأ نظرا لسياق العبارة. [6] . ما في الأصل ومط: «ورفعوه» بالواو، فرأيناها زائدة مقحمة فحذفناها بوحي من السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 اهتمامي بتفقّد ذلك ما لولا الذي أدارى من الأعداء والثغور، لباشرت أمر الخراج والرعيّة بنفسي قرية قرية، حتى أتعهّدها وأكلّم رجلا رجلا من أهل مملكتي، غير أنّى تخوّفت أن يضيع بذلك السبب أمر هو أعظم منه، والأمر الذي لا يغنى فيه غنائى [195] ولا يقدر على إحكامه غيرى، ولا يكفينيه كاف، مع الذي في الشخوص إلى قرية قرية، ومن المؤونة على الرعيّة من جندنا، ومن لا نجد بدّا من إشخاصه معنا. وكرهنا أيضا إشخاصهم إلينا، مع تخوّفنا أن يشغل أهل الخراج عن عمارة أرضيهم، أو يكون فيهم من يدخل عليه في ذلك مؤونة في تكلف السير إلى بابنا، وقد ضيّع قراه وأنهاره وما لا يجد بدّا من تعهّده في السنة كلّها في أوقات العمارة. ففعلنا ذلك بهم، ووكّلنا موبذان موبذ وكتبنا به الكتب وسرّحنا من وثقنا به ورجونا أن يجرى مجرانا، وشخّصنا وقلّدناه ذلك.» قال: جلوسنا مع أهل الكور للفحص عن الرعيّة وأمناء الخراج «ولمّا آمن الله جميع أهل مملكتنا من الأعداء. فلم يبق منهم إلّا نحو من ألفى رجل من الديلم الذين عسر افتتاح حصنهم لصعوبة الجبال عليها، لم نجد شيئا أنفع لمملكتنا من أن نفحص من الرعيّة وأولئك الأمناء الذين وصّيناهم بإنصاف أهل الخراج، وكان بلغنا أنّ أولئك الأمناء لم يبالغوا على قدر رأينا في ذلك، فأمرت بالكتب [196] إلى قاضى كورة كورة: أن يجمع أهل الكورة بغير علم عاملهم وأولى أمرهم، فيسألهم عن مظالمهم وما استخرج منهم، ويفحص عن ذلك بمجهود رأيه، ويبالغ فيه، ويكتب حال رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 رجل منهم، ويختم عليه بخاتمه وخاتم الرضا من أهل تلك الكورة، ويبعث به إليّ، ويسرّح ممن يجتمع رأى أهل الكورة عليه بالرضا نفرا، وإن أحبّوا أن يكون في من يشخص، بعض سفلتهم أيضا، فعل ذلك. «فلمّا حضروا جلست للناس وأذنت بمشهد من عظماء أرضنا وملوكهم، وقضاتهم وأحرارهم وأشرافهم، ونظرت في تلك الكتب والمظالم. فأيّة مظلمة كانت من العمّال ومن وكلائنا، أو من وكلاء وكلائنا، ونسائنا، وأهل بيتنا، حططنا عنهم بغير بيّنة، لعلمنا بضعف أهل الخراج عنهم وظلم أهل القوّة من السلطان لهم، وأية مظلمة كانت لبعضهم من بعض ووضحت لنا، أمرت بإنصافهم قبل البراح [1] ، وما أشكل، أو وجب الفحص عنه، بشهود البلد [197] وقاضيها، سرّحت معه أمينا من الكتّاب، وأمينا من فقهاء ديننا، وأمينا ممن وثقنا به من خدمنا وحاشيتنا، فأحكمت ذلك إحكاما وثيقا، ولم يجعل الله لذوي قرابتنا وخدمنا وحاشيتنا منزلة عندنا دون الحقّ والعدل، فإنّ من شأن قرابة الملك وحاشيته أن يستطيلوا بعزّة وقوّة. فإذا أهمل السلطان أمرهم هلك من حاوروه [2] إلّا أن تكون فيهم متأدّب بأدب ملكه، محافظ على دينه، شفيق على رعيّته، وأولئك قليل. فدعانا الذي اطّلعنا عليه من ظلم أولئك، إلى أن لا نطلب البيّنة عليهم في ما ادّعى قبلهم، ولم نرد ظلم أحد ممن كان عزيزا بنا، ومنيعا بمكانه ومنزلته عندنا، فانّ الحق واسع للضعفاء والأقوياء، والفقراء والأغنياء، ولكنّا لمّا أشكلت الأمور في   [1] . برح المكان براحا: زال عنه وغادره. [2] . في مط: حاوزوه. حاوروه: جادلوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ذلك علينا، كان الحمل على خواصّنا وخدمنا، أحبّ إلينا من أن نحمل على ضعفاء الناس ومساكينهم وأهل الفاقة والحاجة منهم. وعلمنا أنّ أولئك الضعفاء لا يقدرون على ظلم من حولنا [198] وعلمنا مع ذلك أنّ [الذين] [1] أعدينا [2] عليهم من خاصّتنا يرجعون من نعمتنا وكرامتنا إلى ما لا يرجع إليه أولئك الضغفاء. ولعمري، إنّ أحبّ خواصّنا إلينا، وأبرّ خدمنا في أنفسنا، الذين يحفظون سيرتنا في الرعيّة، ويرحمون أهل الفاقة والمسكنة، وينصفونهم، فإنّه قد ظلمنا من ظلمهم، وجار علينا من جار عليهم، وأراد تعطيل ذمّتنا التي هي حرزهم وملجأهم.» قال: ما كتبه إلينا أربعة أصناف من ترك الخزر «ثم كتب إلينا على رأس سبع وثلاثين سنة من ملكنا أربعة أصناف من الترك من ناحية الخزر، ولكلّ صنف منهم ملك، يذكرون ما دخل عليهم من الحاجة، وما لهم من الحظّ في عبودتنا، وسألوا أن نأذن لهم في القدوم بأصحابهم لخدمتنا والعمل بما نأمرهم به، ولا نحقد عليهم ما سلف منهم قبل ملكنا، وأن ننزلهم منزلة سائر عبيدنا، فإنّا سنرى في كلّ ما نأمرهم به من قتال وغيره، كأفضل ما نرى من أهل نصيحتنا. «فرأيت في قبولي إيّاهم عدّة منافع، منها: [199] جلدهم وبأسهم، ومنها: أنّى تخوّفت أن تحملهم الحاجة على إتيان قيصر أو   [1] . في الأصل ومط: الذي. [2] . أعدينا عليهم: ظلمناهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 بعض الملوك فيقووا بهم علينا. وقد كان في ما سلف يستأجر قيصر منهم لقتال ملوك ناحيتنا بأغلى الأجرة، فكان لهم في ذلك القتال بعض الشوكة بسبب أولئك الأتراك، ولأنّ الترك ليس عندهم لذّة الحياة، فهو الذي [1] يجرّيهم مع شقاء معيشتهم على الموت. فكتبت إليهم: أنّا نقبل من دخل في طاعتنا ولا نبخل على أحد بما عندنا. وكتبت إلى مرزبان الباب آمره أن يدخلهم أوّلا فأولا. «فكتب إلىّ أنّه: قد أتاه منهم خمسون ألفا بنسائهم وأولادهم وعيالاتهم، وأتاه من رؤسائهم ثلاثة آلاف بأهل بيتهم ونسائهم وأولادهم وعيالاتهم. «ولمّا بلغني ذلك أحببت أن أقرّبهم إلىّ، ليعرفوا إحسانى إليهم في ما أكرمهم به وأعطيهم، وليطمئنّوا إلى قوّادنا حتّى إذا أردنا تسريحهم مع بعض قوّادنا، كان كلّ واحد بصاحبه واثقا. فشخصت إلى آذربيجان. فلما نزلت آذربيجان أذنت لهم في القدوم، وأتانى عند [200] ذلك طرائف من هدايا قيصر، وأتانى رسول خاقان الأكبر ورسول صاحب خوارزم، ورسول ملك الهند، والداور [2] ، وكابل شاه، وصاحب سرنديب [3] ، وصاحب كله [4] ، وكثير من الرسل، وتسعة وعشرون ملكا في يوم واحد، وانتهيت إلى أولئك الأتراك الثلاثة والخمسين الألف، فأمرت أن يصفّفوا هناك، وركبت   [1] . فهو الذي: كذا في الأصل ومط. [2] . الداور: ولاية واسعة مجاورة لولاية رخج وبست والغور، وهي ثغر الغور من ناحية سجستان. ومدينة الداورتل وغور، وهما على نهر الهندمند (مع) . [3] . سرنديب: جزيرة عظيمة في بحر هركند بأقصى بلاد الهند. (مع) . [4] . كله: فرضة بالهند، وهي منتصف الطريق بين عمان والصين في وسط خطّ الاستواء (مع) من جزر الخليج الثاني من بحر الهند (لد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 لذلك، فكان يومئذ من أصحابى، ومن قدم عليّ، ومن دخل في طاعتي وعبودتى، من لم يسعهم مرج كان طوله نحو عشرة فراسخ. فحمدت الله كثيرا، وأمرت أن يصنّف أولئك الأتراك في أهل بيوتاتهم على سبع مراتب ورأّست عليهم منهم، وأقطعتهم، وكسوت أصحابهم، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرت لهم بالمياه والأرضين، وأسكنت بعضهم مع قائد لى ببرجان، وبعضهم مع قائد لى باللّان [1] ، وبعضهم بآذربيجان، وقسمتهم في كلّ ما احتجنا إليه من الثغور، وضممتهم إلى المرزبان. فلم أزل أرى من مناصحتهم واجتهادهم في ما نوجههم له، ما [201] يسرّنا في جميع المدائن والثغور وغيرها.» خاقان الأكبر يعتذر إلىّ ويسأل التجاوز «وكتب إلىّ خاقان الأكبر يعتذر إلىّ من بعض غدراته، ويسأل المراجعة والتجاوز، وذكر في كتابه ورسالته: إنّ الذي حمله على عداوتي وغزو أرضى من لم ينظر له، وناشدني الله أن أتجاوز عنه، ويوثّق لى بما أطمئن إليه، وذكر أنّ قيصر قد أرسل إليه، وزعم أنّه يستأذننى في قبول رسله، وأنّه لا يعمل في قبول رسل أحد إلّا بما أمرته، ولا يجاوز أمرى، ولا يرغب في الأموال ولا في المودّات لأحد إلّا برضاي. وكان دسيس لى في الترك كاتبني بندم خاقان وندم أصحابه على غدره وعداوته إيّاى. «فأجبته: إنّى لعمري لا أبالى أبطبيعة نفسك وغريزتك غدرت   [1] . اللّان (أرّان، أران) : بلاد واسعة منها كنجه، بينها وبين آذربيجان نهر الرس [أرس] (مع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بنا، أم أطعت غيرك في غدرك بنا، وما ذنبك في طاعة من أطعت في ذلك إلّا كذنبك في ما فعلته برأى نفسك، وإنّك قد استحققت أشدّ العقوبة.- وكتبت [1] :- إنّى لا أظنّ شيئا مما وجب بيني وبينكم إلّا وقد كنت صنعته، ولا أظنّ شيئا من الوثيقة بقي لكم إلّا وقد وثّقت [202] لنا [2] به قبل اليوم ثمّ غدرتم، فكيف نطمئنّ إليك ونثق بقولك، ولسنا نأمنك على مثل ما فعلت من الغدر ونقض العهد والكذب في اليمين؟ وذكرت أنّ رسل قيصر عندك، ووقفنا على استيذانك إيّانا فيهم، وإنّى لست أنهاك عن مودّة أحد. وكرهت أن يرى أنّى أتخوّف مصادقته وأهاب ذلك منه، وأحببت أن أعلمه أنّى لا أبالى بشيء ممّا يجرى بينهما، «ثمّ سرّحت لمرمّة المدائن والحصون التي بخراسان وجمع الأطعمة والأعلاف إليها ما يحتاج إليه الجند، وأمرتهم أن يكونوا على استعداد وحذر، ولا يكون من غفلتهم ما كان في المرّة الأولى وهم على حال الصلح.» قال: المقاتلة وأهل العمارة سواء «وكان شكرى لله تعالى لمّا وهب لى وأعطانى متّصلا بنعمه الأول [3] التي وهبها لى في أوّل خلقه إيّاى، فإنّما الشكر والنعم عدلان ككفّتى الميزان، أيّهما رجح بصاحبه احتاج [4] الأخفّ إلى   [1] . الكلمة مطموسة في الأصل قرأناها بقرينة ما في مط. [2] . لنا به: في الأصل غموض وما في مط: لما به. [3] . مط: الأولى. [4] . احتاج.. صاحبه: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أن يزاد فيه حتّى يعادل صاحبه. فإذا كانت النعم كثيرة والشكر [203] قليلا، انقطع الحمل وهلك ظهر الحامل، وإذا كان ذلك مستويا استمرّ [1] الحامل. فكثير النعم يحتاج [2] صاحبها إلى كثير الشكر، وكثير الشكر يجلب كثير النعم. ولمّا وجدت الشكر بعضه بالقول، وبعضه بالعمل، نظرت في أحبّ الأعمال إليه، فوجدته الشيء الذي به أقام السماوات والأرض، وأرسى به الجبال، وأجرى به الأنهار، وبرأ به البريّة، وذلك الحقّ والعدل فلزمته، ورأيت ثمرة الحقّ والعدل عمارة البلدان التي بها معاش الناس والدوابّ والطير وسكّان الأرض. «ولمّا نظرت في ذلك، وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة، ووجدت أيضا أهل العمارة أجراء للمقاتلة. وأمّا المقاتلة فإنّهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكّان البلدان لمدافعتهم عنهم، ومجاهدتهم من ورائهم. فحقّ على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم. فإنّ عمارتهم تتمّ بهم، وإن أبطأوا عليهم بذلك أوهنوهم، فقوى عدوّهم. فرأيت من الحقّ [204] على أهل الخراج ألّا يكون لهم من عمارتهم إلّا ما أقام معايشهم، وعمروا به بلدانهم. ورأيت أن لا أجتاحهم وأستفرغ ذات أيديهم للخزائن [3] والمقاتلة، فإنّى إذا فعلت ذلك ظلمت المقاتلة مع ظلم أهل الخراج، وذلك أنّه إذا فسد العامر فسد المعمور، وذاك أهل الأرض والأرض، فإنّه إذا لم يكن لأهل الخراج ما يعيشهم ويعمرون به بلادهم، هلكت المقاتلة الذين   [1] . الكلمة غير واضحة في الأصل وخاصة في الحرف الأخير منها بحيث يمكن أن نقرأها «استم» لولا قرينة ما في مط: «استمر» . [2] . يحتاج ... كثير الشكر: سقطت من مط. [3] . مط: للخزان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قوّتهم بعمارة الأرض وأهل العمارة. فلا عمارة للأرض إلّا بفضل ما في يد أهل الخراج، فمن الإحسان إلى المقاتلة، والإكرام لهم أن أرفق بأهل الخراج وأعمر بلادهم وأدع لهم فضلا في معايشهم. فأهل الأرض وذوو الخراج أيدى المقاتلة والجند، وقوّتهم، والمقاتلة أيضا أيدى أهل الخراج وقوّتهم. «ولقد فكّرت وميّزت ذلك جهدي وطاقتي، فما رأيت أن أفضّل هؤلاء على أولئك ولا أولئك على هؤلاء، إذ وجدتهما كاليدين المتعاونتين [1] ، وكالرِجلين المترافدتين. ولعمري ما أعفى أهل [205] الخراج من الظلم من أضرّ بالمقاتلة، ولا كفّ الظلم عن المقاتلة من تعدّى على أهل الخراج، ولولا سفهاء الأساورة لأبقوا على الخراج والبلاد إبقاء الرجل ضيعته التي منها معيشته وحياته وقوّته. ولولا جهّال أهل الخراج لكفّوا عن أنفسهم بعض ما يحتاجون إليه من المعايش إيثارا للمقاتلة على أنفسهم.» قال: أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن «ولمّا فرغنا [2] من إصلاح العامّة والخاصّة بهذين الركنين من أهل الخراج والمقاتلة، وكان ذلك ثمرة العدل والحقّ الذي به دبّر الله العظيم خلائقه، وشكرت الله على نعمه في أداء حقّه على مواهبه، وأحكمنا أمور المقاتلة وأهل الخراج ببسط العدل، أقبلنا بعد ذلك على السير والسنن. ثم بدأنا بالأعظم فالأعظم نفعا لنا والأكبر   [1] . في الأصل ومط: المتعاونين، المترادفين. فأنّثناهما. [2] . مط: ما عرفنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فالأكبر عائدة على جندنا ورعيّتنا. ونظرنا في سير آبائنا من لدن بشتاسف، إلى ملك قباذ أقرب آبائنا منّا، ثم لم نترك صلاحا في شيء إلّا أخذناه، ولا فسادا إلّا أعرضنا عنه، [206] ولم يدعنا إلى قبول ما لا خير فيه من السنن حبّ الآباء، ولكنّا آثرنا حبّ الله وشكره وطاعته. «ولمّا فرغنا من النظر في سير آبائنا- وبدأنا بهم وكانوا أحقّ بذلك، فلم ندع حقّا إلّا أكثرناه، ووجدنا الحقّ أقرب القرابة- نظرنا في سير أهل الروم والهند، فاصطفينا محمودها، وجعلنا عيار ذلك عقولنا، وميّزناه بأحلامنا [1] ، فأخذنا من جميع ذلك ما زيّن سلطاننا، وجعلناه سنّة وعادة، ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا، وأعلمناهم ذلك وأخبرناهم به، وكتبنا إليهم بما كرهنا لهم من السير ونهيناهم عنه، وتقدمنا إليهم فيه، غير أنّا لم نكره أحدا على غير دينه وملّته ولم نحسدهم ما قبلنا، ولا مع ذلك أنفنا من تعلّم ما عندهم، فإنّ الإقرار بمعرفة الحق والعلم، والإتّباع له، من أعظم ما تزيّنت به الملوك، ومن أعظم المضرّة على الملوك الأنفة من التعلّم، والحميّة من طلب العلم، ولا يكون عالما من لا يتعلّم. [207] «ولمّا استقصيت ما عند هاتين الأمّتين من حكمة التدبير والسياسة، وصلت [2] بين مكارم أسلافى، وما أحدثته برأيى، وأخذت به نفسي، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منّا وثبتّ على الأمر الذي نلت به الظفر والخير. ورفضت سائر الأمم، لأنّى لم   [1] . جمع مفرده الحلم: العقل. [2] . في الأصل ومط: «ووصلت» بواو العطف. فحذفنا الواو لوجود «لما» في بداية الجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 أجد عندهم رأيا ولا عقولا، ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلّة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ بها نعمة.» [1] وقرأت مع هذه السيرة في آخر هذا الكتاب، الذي كتبه أنوشروان في سيرة نفسه، أنّ أنوشروان لمّا فرغ من أمور المملكة وهذّبها، جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنسّاك والموابذة وأماثل الناس معهم، فخطبهم فقال: خطبة أنوشروان «أيّها الناس! أحضرونى فهمكم، وأرعونى [2] أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، [208] فانّى لم أزل واضعا سيفي على عنقي- منذ وليت عليكم- غرضا للسيوف والأسنّة، كل ذلك للمدافعة عنكم والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى المشرق، وتارة في آخر المغرب، وأخرى في ناحية الجنوب، ومثلها في جانب الشمال. ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع في بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطينية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه [3] بعد سهولة، وأصبر على   [1] . قال ابن الأثير، بعد ذكر كلمات من أنوشروان في الحكمة وإصلاح أمر الخراج: فانظر إلى هذا الكلام الذي يدلّ على زيادة العلم وتوفر العقل والقدرة على منع النفس، ومن كان هذا حاله استحق أن يضرب به المثل في العدل إلى أن تقوم الساعة (1: 475) . [2] . أرعونى: أرعى فلانا سمعه: أصغى إليه واستمع لكلامه. [3] . الحزون: جمع الحزن: ما غلظ من الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 المخمصة والمخافة، وأكابد البرد والحرّ، وأركب هول البحر وخطر المفازة، إرادة هذا الأمر الذي قد أتمّه الله لكم من الإثخان في الأعداء، والتمكين في البلاد، والسعة في المعاش ودرك العزّ، وبلاغ ما نلتم. فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتلهم. فهم بين مقتول هالك، وحىّ مطيع لكم سامع. «وقد بقي لكم عدوّ عددهم [1] قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم [209] عظيمة، وهؤلاء الذين بقوا، أخوف عندي عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم، من الذين غلبتموهم من أعدائكم أصحاب السيوف والرماح والخيول. فإن أنتم- أيّها الناس- غلبتم عدوّكم هذا [2] الثاني غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة وتمّ لكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والنصيحة والسلامة. وإن كنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدو بكم، فإنّ الظفر الذي كان منكم على عدوّكم بالمغرب والمشرق وفي الجنوب والشمال، لم يكن ظفرا منكم. فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقي مثل الذي قتلتم من ذلك العدوّ الماضي، وليكن جدّكم في هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصحّ وأسدّ. فإنّ أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة وأشدّهم شوكة، وليس الذي كنتم تخافون من عدوّكم الذي قاتلتم، بقريب [210] من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن. فاطلبوه، وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر،   [1] . عدو عددهم: بضمير الجمع. [2] . مط: «هذا الآتي عليكم لعدوكم الذين قاتلتم» بدل «هذا الثاني غلبتكم لعدوكم الذين قاتلتم.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وحزما وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد. فإنّ ذلك اجتماع صلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة في الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه في الآخرة. «ثم اعلموا أنّ عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم، لم يكونوا ليبلغوا منكم- إن ظهروا عليكم وغلبوكم- مثل الذي يبلغ هذا العدوّ منكم، إن غلبكم وظهر عليكم، فإنّ بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ. «يا أيّها الناس، إنّى قد نصبت [1] لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرمح والمفاوز والبحار والسهولة [2] والجبال أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرع إليكم هذا التضرع في قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة في طلب الجدّ والاجتهاد والاحتفال [211] والاحتشاد [3] ، وإنّما فعلت هذا اليوم لعظم خطره، وشدّة شوكته ومخافة صولته بكم، وإن أنا- أيّها الناس- لم أغلب هذا العدوّ وأنفه [4] عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها. فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار [5] منكم. فأنشدكم الله- أيّها الناس- لمّا أعنتمونى عليه حتى أنفيه عنكم وأخرجه من بين أظهركم، فيتمّ بلائي عندكم، وبلاء الله فيكم عندي، وتتمّ النعمة علىّ وعليكم، والكرامة من الله لى ولكم، ويتمّ هذا العزّ [6] والنصر وهذا   [1] . نصب نصبا: أعيا وتعب. [2] . السهولة: جمع السهل. [3] . الكلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه من مط. [4] . الكلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه من مط. [5] . مط: القريب الداني. [6] . كذا في مط: العز، وفي الأصل غموض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الشرف والتمكين، وهذا الثروة والمنزلة. «يا أيّها الناس! إنّى تفكّرت بعد فراغي من كتابي [1] هذا وما وصفت من نعمة الله علينا في الأمر الذي، لما غلب «دارا» الملوك والأمم، وقهرها واستولى على بلادها، ثم لما لم يحكم أمر هذا العدو، هلك [بسببه] [2] وهلكت جنوده، بعد السلامة والظفر والنصر والغلبة. وذلك أنّه لم يرض بالأمر الذي تمّ له به الملك، واشتدّ به له السلطان وقوى به على [212] الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتيل له بوجوه النميمة: البغي، فدعا البغي، والحسد، فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بعض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف. ثم أتاهم الإسكندر على ذلك من تفرق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء، وقوة العداوة فيما بينهم، والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذي شمل قلوب العامّة من الشرّ والضغينة، وثبت فيها من العداوة والفرقة، فكفى الإسكندر مؤنة نفسه. وقد اتّعظت بذلك اليوم فذكرته. «يا أيّها الناس! فلا أسمعنّ في هذه النعمة تفرّقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا ولا وشاية ولا سعاية، فإنّ الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا وأكرم عنه ولايتنا. وما نلت ما نلته- بنعمة ربنا وحمده- بشيء من هذه الأمور الخبيثة التي نفتها العلماء، وعافتها الحكماء، ولكنّى نلت هذه الرتب [213] بالصحّة والسلامة، والحبّ للرعيّة، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنّما تركنا أن نأخذ عن   [1] . أصبحت الخطبة كتابا بعد تدوينه. [2] . تكملة اقتضاها السياق، فأضفناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 هذه الأمم التي سميناها أعنى: من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم مثل ما أخذنا عن الهند والروم، لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولم تصلح أمّة قطّ ولا ملكها على ظهور هذه الأخلاق فيها. وإنّ أول ما أنا ناف وتارك من هذه الأمور، هذه الأخلاق التي هي أعدى أعداءكم. «أيّها الناس! إنّ فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح، غنى لنا عمّا نطلب بهذه الأخلاق المردية المشؤومة. فاكفوني في ذلك أنفسكم فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إلىّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فامّا أنا- يا أيّها الناس- فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم، لا حاجة لى بما فيها، ولا بالذي علىّ منها، فطيبوا أنفسا بالذي طبت [214] به نفسا منكم. «يا أيها الناس! إنّى قد أحببت أن أنفى عنكم عدوّكم الباطن والظاهر، فأمّا الظاهر منهما، فإنّا بحمد الله ونعمته، قد نفيناه وأعاننا الله عليه وخضد [1] لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم. فافعلوا في هذا العدوّ كما فعلتم في ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذي عملتم في ذلك، واحفظوا عنى ما أوصيكم به، فانّى شفيق عليكم ناصح لكم. «أيّها الناس! من أحيى هذه الأمور فينا، فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإنّ هذه أكثر مضرّة وأشدّ شوكة وأعظم بليّة وأضر تبعة. اعلموا أنّ خيركم- يا أيّها الناس! - من   [1] . خضد الشيء: كسره من غير فصل، خضد الشجر: نزع الشوك عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 جمع إلى بلاءه السالف عندنا، المعونة لنا على نفسه في هذا الغابر. واعلموا أنّ من غلبه هذا غلب عليه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك. وذلك أن بالسلامة، والألفة، والمودّة، والاجتماع، والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة [215] والسلطان، ومع التحاسد، والبغي، والنميمة، والتشتّت، يكون ذهاب العزّ وانقطاع القوّة، وهلاك الدنيا والآخرة. فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا قوّة إلّا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة وضيافة السائلة. وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل من الأمم فيكم، فإنّهم في ذمّتى. لا تجبهوهم [1] ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإنّ الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق. فإنّا لم نر سلطانا قطّ ولا أمّة هلكوا إلّا بترك هذه الأخلاق، ولا صلحوا إلّا معها. وبالله ثقتنا في الأمور كلّها.» ثم هلك أنوشروان بعد ثمان [2] وأربعين سنة من ملكه، وملك أبنه: هرمز بن أنوشروان [216] وكانت أمّه بنت خاقان الأكبر، وكان كثير الأدب، حسن النيّة في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، إلّا أنّه كان يحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، فعلم بذلك منهم، فكان في نفسه منهم مثل ما في أنفسهم منه.   [1] . لا تجبهوهم: لا تقابلوهم بما يكرهون. [2] . في الأصل ومط: ثمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 من سيرته المرتضاة وكان من سيرته المرتضاة: أنّه تحرّى الخير والعدل على الرعيّة، وتشدّد على العظماء المستطيلين على الضعفاء، وبلغ من عدله أنّه كان يسير إلى ال «ماه» ليصيف هناك، فأمر فنودي في مسيره ذلك في مواضع الحروث أن يتحامى، ولا يسير فيها الراكب لئلّا يضرّوا بأحد ووكّل بتعهّد ما يجرى في عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره، وتغريمه عوضا لصاحب الحرث. وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار [1] مركب من مراكبه، ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه، فرتع فيها، وأفسد منها. فأخذ ذلك المركب، ورفع إلى الرجل الذي وكّله هرمز بمعاقبة من أفسد [217] هو أو دابّته شيئا من المحارث وتغريمه، ولم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى ابنه، ولا أحد من حشمه. فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمره أن يجدع [2] أذنيه، ويبتّر ذنبه، ويغرّم كسرى. فخرج الرجل لإنقاذ الأمر. فدسّ له كسرى رهطا من العظماء ليسألوه التغبيب [3] في أمره، فلقوه وكلّموه في ذلك، فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخّر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلّموه. فأمر بالكفّ عنه، ففعل. فلقى أولئك الرهط هرمز، وأعلموه أنّ بذلك [4] [المركب] [5] الذي عار، زعارة، وأنّه أخذ للوقت. وسألوه أن يأمر بالكفّ عن جدعه وتبتيره لما فيه من سوء الطيرة. فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب، فجدع أذناه وبتّر ذنبه وغرّم كسرى كما يغرّم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل.   [1] . عار يعير عيرا: ذهب وجاء مترددا. [2] . جدعه: قطع أنفه أو طرفا من أطرافه. [3] . غبّب فلان في الأمر: لم يبالغ فيه. [4] . مط: أنّ بتلك الدابة التي غارت غازة وأنه أخذ للوقت! [5] . في الأصل: «الدابة» فاستبدلناها ب «المركب» مراعاة لتذكير ما يرتبط به من موصول وضمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وأيضا: ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط [1] المدائن [218] وكان ممرّه على بساتين وكروم. فاظّلع [2] بعض أساورته في كرم، فرأى فيه حصرما فأصاب منها عناقيد، ودفعها إلى غلامه وقال: - «اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحم، واتخذ منها مرقة، فانّها نافعة في هذا الإبّان.» فأتاه حافظ ذلك الكرم، فلزمه وصرخ. فبلغ اشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم، أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة [3] محلّاة بذهب كانت عليه، عوضا له من الحصرم الذي رزأه [4] من كرمه، وافتدى بها نفسه، ورأى أنّ قبض الحافظ إيّاها منه، وتخليته عنه، منّة من بها عليه [5] . فهذه كانت سيرة هرمز في العدل والضبط والهيبة، وكان مظفّرا منصورا لا يمدّ يده إلى شيء إلّا وأتاه، وكان مع ذلك أديبا، داهيا، إلّا عرقا قد نزعه [6] أخواله من الترك. فكان لذلك مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء. وقيل: إنّه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل. ولم يكن [له رأى] [7] إلّا في [تألّف] [8] السفلة واستصلاحهم. وحبس خلقا من العظماء، وحطّ [219] مراتب خلق، وقصّر [9] بالأساورة، [ففسدت] [10] عليه نيات جنده من الكبراء، [واتصل] [11] ذلك بما جناه على بهرام شوبين مما سنحكيه. فكان ذلك سبب   [1] . ساباط: قرية كانت قريبة من المدائن وهي- حسب معجم البلدان- ساباط كسرى، بناها الملك بلاش (ولاش) ، ولذلك قد يسمى: بلاش آباذ. [2] . اظّلع: مال. وفي مط والطبري: اطّلع. [3] . المنطقة والمنطق: ما يشدّ به الوسط. [4] . رزأه ماله: أصاب منه شيئا فنقصه. [5] . أنظر الطبري 2: 990. [6] . نزعه عرق: أشبه أصله. [7] . الأصل غير واضح وما أثبتناه من مط. [8] . الأصل غير واضح، وقرأناه بصعوبة. مط: ألف السلفة! تألفه: تكلّف ألفته وداراه. [9] . قصّر عن الأمر: تركه. قصّر في الأمر: تهاون فيه. قصّر في العطيّة: قلّلها. [10] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه من مط. [11] . الأصل غير واضح وما أثبتناه من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 هلاكه. ذكر سوء اختياره جنده وبهرام جوبين [1] حتى هلك خرج على هرمز خوارج منها: «شابة [2] ملك الترك الأعظم في ثلاثمائة ألف مقاتل. وصار إلى باذغيس [3] ، وذلك بعد إحدى عشر سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم في ثمانين ألف مقاتل قاصدا له، وخرج عليه ملك الخزر حتى صار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق نزلوا في شاطئ الفرات، وشنّوا الغارة على أهل السواد واجترأ عليه أعداؤه، وغزوا [4] بلاده. فأمّا شابة ملك الترك فإنّه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء الفرس يؤذنهم بإقباله ويقول: - «رمّوا لى قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كلّ نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، فإنّى مجمع على [220] المسير إليها من بلادكم. فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، فشاور فيه، فأجمع له على قصد ملك الترك وصرف العناية إليه. فوجّه إليه رجلا من أهل الرىّ يقال له: بهرام بن بهرام جشنس [5] ويعرف ب «جوبين» . فاختار بهرام من الجند اثنى عشر ألف رجل على عينيه من الكهول دون الشباب، وكانت عدّة من يشتمل عليه الديوان سبعين ألف   [1] . بالفارسية: چوبين. وقد تكرر هذا الاسم في النص، فتارة ورد «جوبين» وأخرى «شوبين» فوحدناهما في الإثبات على الصورة الأولى: جوبين. [2] . مط: شانه. [3] . باذغيس، بادغيس. بالفهلوية:LVatgis:ولاية بين هراة ومرو الرود (لج) . [4] . أنظر الطبري (2: 991) . [5] . جشنس: معرّب گشنس، وهو مخفف گشنسب، بالفهلوية) Vushnasp ,Gushnasp:حب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 مقاتل. فمضى بهرام بجدّ وإغذاذ، حتى حاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرا. فجرت بينهما حروب ورسائل، إلى أن قتل بهرام شابة برمية رماها إيّاه، فاستباح عسكره، وأقام موضعه، فوافاه برموذة [1] بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه، فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجّهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة. فيقال: إنّه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة ممّا غنمه وقر مائتين وخمسين ألف بعير في مدّة تلك الأيّام. فشكره هرمز على [221] ذلك، إلّا أنّه أراد منه أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك، وكاتبه في ذلك، فلم ير بهرام ذلك صوابا. ثم خاف بهرام سطوة هرمز، وحكى له: أنّ الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم في جنب ما وصل إليه وأنّه يقول في مجالسه: - «بهرام قد ترفّه، واستطاب الدعة» . وبلغ ذلك الجند، فخافوا مثل خوفه. فيقال: إنّ بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره، فأجلسهم على مراتبهم، ثم خرج عليهم في زىّ النساء، وبيده مغزل وقطن، حتى جلس في موضعه، وحمل لكلّ واحد من أولئك القوم مغزل وقطن، فوضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه. فقال بهرام: «إنّ كتاب الملك ورد علىّ بذلك، ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين.» فأظهروا أنفة وحميّة، وخلعوا هرمز، وأظهروا أنّ ابنه أبرويز [2] أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممّن كان بحضرة هرمز. وأنفذ هرمز جيشا كثيفا مع آذينجشنس لمحاربة بهرام، وأشفق أبرويز من   [1] . مط: رموز بن شانه. [2] . بالفهلوية:Aparvej:المنتصر (حب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الحديث وخاف سطوة [222] بهرام، فهرب إلى آذربيجان. فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة والإصفهبذين، فأعطوه بيعتهم. ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل آذينجشنس الموجّه لمحاربة بهرام جوبين، وانفضاض الجمع الذي معه، واضطراب أمر أبيه هرمز. وكتبت إليه أخت آذينجشنس- وكانت تربه- تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أنّ العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأعلمته أنّ جوبين- إن سبقه إلى المدائن- احتوى على الملك. ولمتلبث العظماء بذلك أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه [1] وبسطام خالا أبرويز. فخلعوه وسملوا عينيه وتركوه تحرّجا من قتله. فلمّا بلغ ذلك أبرويز، بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين، وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس لهم على سريره، ومنّاهم ووعدهم وقال: - «إنّ هرمز كان لهم قاضيا عادلا، ومن نيّتنا البرّ والإحسان، فعليكم بالسمع والطاعة.» فاستبشر له الناس، ودعوا له. فلمّا كان اليوم [223] الثاني، أتى أباه، فسجد له وقال: - «عمّرك الله أيّها الملك، إنّك تعلم أنّى بريء مما آتاه إليك المنافقون، وإنّما هربت خوفا منك.» فصدّقه هرمز وقال له: - «يا بنىّ! لى إليك حاجتان، فأسعفنى بهما: إحداهما أن تنتقم ممّن عاون على خلعى والسمل لعيني، ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى أن تؤنسني كلّ يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأى، وتأذن لهم في [الوصول] [2] إلىّ.»   [1] . في الطبري: بندى. [2] . الأصل غير واضح. مط والطبري: في الدخول علىّ (2: 996) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فتواضع له أبرويز وقال: - «عمّرك الله أيّها الملك، إنّ المارق بهرام قد أظلّنا [1] ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى، فإنّهم وجوه أصحابك. ولكن إن أدالنى الله من المنافق، فأنا خليفتك وطوع أمرك.» ذكر الحيلة التي تمّت لأبرويز حتّى أفلت من بهرام بعد ظفره به ورجوعه بعد ذلك وقتله إيّاه ببلاد الترك واستيلائه على الملك إنّ أبرويز خرج إلى النهروان لما وردها بهرام، وواقفه [2] وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير [3] ، كلّ ذلك يدور على استصلاح بهرام، فلا يردّ [224] عليه بهرام إلّا ما يسوءه، حتّى يئس منه وأجمع على حربه. ولهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها: أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلثة نفر من الأتراك كانوا وثّقوا بهرام من أبرويز، وضمن لهم عليه مالا عظيما، وكان هؤلاء الثلاثة من أشدّ الأتراك وأعظمهم أجساما وشجاعة. ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا وحرّض أصحابه فتبيّن منهم فشلا. فصار إلى أبيه وشاوره، فرأى له المصير إلى ملك الروم فأحرز نساءه وشخص في عدّة يسيرة فيهم: بندويه، وبسطام، وكردى [4] أخو بهرام. لأنّ كردى هذا كان ماقتا لأخيه، معاديا له، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلمّا خرجوا، من المدائن خاف القوم من بهرام وأشفقوا أن يردّ هرمز إلى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز في ردّهم فيتلفوا. فأعلموا أبرويز ذلك واستأذنوا في إتلاف هرمز فلم يحر [5] جوابا. فانصرف بندويه وبسطام   [1] . أظلنا: دنا منّا. أقبل علينا، غشينا. [2] . واقفه في حرب أو خصومة: وقف معه. [3] . أنظر الطبري 2: 996. [4] . أنظر الطبري 2: 998. [5] . أحار الجواب: ردّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وطائفة معهما إلى هرمز حتى أتلفوه خنقا، ثم رجعوا [225] إلى كسرى وقالوا: - «سر على خير طائر.» فحثّوا دوابّهم، وصاروا إلى الفرات، فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة، بدلالة رجل يقال له: خرشيذان [1] ، وصاروا إلى بعض الديارات في أطراف العمارة. فلمّا أوطنوا الراحة، لحقتهم خيل بهرام. فلمّا نذروا بهم، أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: - «احتل لنفسك، فإنّ القوم قد أظلّوك.» فقال كسرى: «ما عندي حيلة.» فقال بندويه: «فإنّى سأحتال لك بأن أبذل نفسي دونك.» قال: «وكيف ذلك؟» قال: تدفع إلىّ بزّتك [2] وزينتك لأعلوا الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإنّ القوم إذا وصلوا إلىّ ورأوا هيئتك علىّ، اشتغلوا عن غيرى وطاولتهم [3] حتى تفوتهم.» ففعلوا ذلك وبادروهم حتى تواروا بالجبل. ثمّ وافاهم خيل بهرام وعليهم قائد له يقال له: بهرام بن سياوش. فاطّلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه بزّة أبرويز، وأوهمه أنّه هو، وسأله أن ينظره [4] إلى غد ليصير في [226] يده سلما، ويصير به إلى بهرام جوبين. فأمسك عنه وحفظ الدير بالحرس ليلته. فلمّا أصبح اطّلع عليه في بزّته وحليته وقال: - «إنّ علىّ وعلى أصحابى بقيّة شغل من استعداد لصلوات وعبادات، فأمهلنا.»   [1] . مط: خرشندان. [2] . البزة: الثياب، السلاح، الهيئة. البزّ: السلاح، الثياب من الكتّان والقطن. [3] . طاولتهم: ما طلتهم. [4] . أنظره: أمهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ولم يزل يدافع حتّى مضى عامّة النهار. وأمعن أبرويز وعلم أنّه قد فاتهم. ففتح الباب حينئذ، وأعلم بهرام بأمره. فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يد بهرام بن سياوش. فأمّا بهرام جوبين فإنّه دخل المدائن، وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء، فخطبهم وذمّ أبرويز، ودار بينهم كلام. فكان كلّهم منصرفا عنه إلّا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا. ثمّ إنّ بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين وظهر [1] جوبين على ذلك فقتله، وأفلت بندويه ولحق آذريبجان. وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب ملك الروم منها [2] وراسله بجماعة ممّن كان معه، وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك [227] وانساقت الأمور بالمقادير، إلى أن زوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وبعث إليه ب «تياذوس» [3] أخيه ومعه ستّون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له: سرجس [4] يتولّى تدبير أمرهم، ورجل آخر يقال له: «الكمىّ» [5]- كان يعدل بألف رجل- معظّم في الروم، وسأله ترك الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم، إذا هو ملّك. فاغتبط بهم أبرويز، وأراحهم خمسة أيّام، ثم عرضهم [6] وعرّف [7] عليهم العرفاء، وفي القوم تياذوس، وسرجس، والكمىّ الذي وصفناه، وسار بهم حتى نزل من آذربيجان في صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من إصبهبذى الناحية- ويقال له: موسيل- في أربعين ألف مقاتل وانفضّ   [1] . ظهر على الأمر: اطّلع عليه. [2] . في الأصل ومط: عنها، والتصحيح من الطبري (2: 996) . [3] . تياذوس: كذا في الطبري. (C.I.S) Theodosius 999:2 . (C.I.S) Sergius. [4] [5] . الكمىّ: الشجاع، أو لابس السلاح لأنه يكمى نفسه أى يسترها بالدرع والبيضة. [6] . عرض الجند: أمرّهم عليه، واحدا واحدا. [7] . عرّف عليهم عريفا (أى سيدا، قيّما) : أقامه ليعرف فيهم من صالح أو طالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 إليه الناس بالخيل من إصبهان وخراسان وفارس، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكمىّ الرومي [1] بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه، فقدّ رأسه ويده، وعار [2] فرسه بنصف بدنه الباقي إلى معركة أبرويز ومعسكره، [228] فاستضحك أبرويز، وعظم ذلك على الروم حتى كثر الكلام فيه، وعوتب أبرويز، وقيل له: - «هذا جزاؤنا منك، يقتل كميّنا وواحد عصره في طاعتك، وبين يديك، فتضحك؟» فاعتذر بأن قال: - «إنى والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ علىّ أن فقدت مثله أكثر ممّا شقّ عليكم، ولكنّى رأيتكم تستصغرون شأن بهرام جوبين، وتنكرون هربي منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن، وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة وأثرها على هذا الكمىّ تعذروننى وتعلمون يقينا أنّ هربي إنّما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم في الأبطال.» ويقال: إنّ أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو بهرام، وبندويه وبسطام حربا شديدة وصل فيها بعضهم إلى بعض، والمجوس تحكى حكايات عظيمة لا فائدة في ذكرها مع امتناعها، وجملتها: أنّ أبرويز استظهر استظهارا أيس معه بهرام جوبين، [229] وعلم أنّه لا حيلة له فيه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرّق في الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم إلى ملك الروم. ولبث بهرام في الترك مكرّما عند الملك، حتى احتال عليه أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز: إلى الترك بجوهر نفيس وغيره، حتى احتال لخاتون امرأة   [1] . أنظر الطبري 2: 1000. [2] . مط: عاد فرسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الملك، ولاطفها بذلك الجوهر وغيره من الهدايا حتى دسّت لبهرام من قتله. فاغتمّ خاقان لموته، وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمها [1] بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسأل أن يتزوّجها وطلّق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا ليّنا، وضمّت من كان مع أخيها من المقاتلة إليها، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس فأتّبعها ملك الترك أخاه بطرا [2] في اثنى عشر ألف فارس. فيقال: إنّ كردية قاتلت، وقتلت بطرا بيدها، ومضت لوجهها [230] ، حتى تلقّتها خيول الفرس من الحدود. وكتبت إلى أخيها كردى، فأخذ لها أمانا من أبرويز. فلمّا قدمت عليه اغتبط بها، وتزوّج بها أبرويز. ذكر سوء سياسة اتّفق على أبرويز في جنده حتى ظهر الروم عليه لم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم. الذي كان نصره، ويهاديه [3] ، إلى أن وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه، فقتلوه وملّكوا غيره. فبلغ ذلك أبرويز، فامتعض، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن الملك المقتول اللاجئ إليه، وتوّجه، وملّكه على الروم، ووجّه معه جنودا كثيفة مع شهر براز [4] ، فدوّخ بهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس، وأخذ خشبة الصليب، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين سنة من ملكه. ثم احتوى على مصر، والإسكندرية، وبلاد نوبة، وبعث مفاتيح مدينة الإسكندرية إلى كسرى في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وقصد قسطنطينية، فأناخ على ضفّة الخليج القريب منها، وخيّم [5] هناك. فأمر كسرى فخرّب بلاد الروم، غضبا مما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ولم يخضع لابن   [1] . كذا في مط والطبري: يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه (2: 1001) . [2] . كذا في مط: بطر. نظر، بطو. [3] . يهاديه: يهادنه (مل) . [4] . مط: شهريرار.I.S) Shahrvaraz.حب) . [5] . مط: وجشم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ملكهم [231] المقتول أحد، ولا منحوا الطاعة، غير أنّهم قتلوا الملك الذي ملّكوه بعد أبيه المسمّى فوقا [1] لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملّكوا عليهم رجلا يقال له: هرقل [2] . فلمّا رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إيّاها، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريّهم، واستباحتهم أموالهم، تضرّع إلى الله، وأكثر الدعاء والإبتهال. فيقال: إنّه رأى في منامه رجلا ضخم الجثّة رفيع المجلس، عليه [بزّة، قائما في ناحية عنه] [3] ، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: - «إنى قد سلّمته في يدك.» فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثاله. فرأى بعض لياليه: كأنّ رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع عليه [4] ، ثم دفعه إليه وقال له: - «ها قد دفعت إليك كسرى برمّته.» فلمّا تتابعت هذه الأحلام، قصّها على عظماء الروم وذوى العلم منهم، فأشاروا [232] عليه أن يغزوه. فاستعدّ هرقل، واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذي فيه شهريار صاحب كسرى، وسار حتى وغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى قد استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأمّا شهربراز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به [وترك البراح منه] [5] . ثم بلغ   [1] . في الأصل والطبري: قوفا، وما أثبتناه من مط. وهو معرّب. (C.I.S) LPhocas .Heraclius. [2] [3] . العبارة سقطت من الأصل، فأضفناها من الطبري. [4] . الرفيع عليه: كذا في الأصل ومط. [5] . في الأصل ومط: «ونزل البراح» وما أثبتناه من الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 كسرى تساقط [1] هرقل في جنوده إلى نصيبين. فوجّه لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزاذ [2] ، في اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى- وهي التي تدعى الآن الموصل- على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها. وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وأنّه مغذّ، وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك. فنفذ راهزاذ لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر، إلى الناحية التي كان فيها جند فارس. فأذكى راهزاذ [233] العيون عليه، فانصرفوا إليه، فأخبروه أنّه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاذ ومن معه من الجند، أنّهم عاجزون عن مناهضته. فكتب إلى كسرى غير مرّة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدّتهم. كل ذلك يجيبه كسرى بأنّه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقتالهم [3] وبذل دمائهم في طاعته. فلمّا تتابعت على راهزاذ جوابات كسرى بذلك، عبّى جنده وناهض الروم بهم. فقتلت الروم راهزاذ وستة آلاف رجل، وانهزمت بقيّتهم وهربوا على وجوههم. وبلغ كسرى قتل الروم راهزاذ وما نال هرقل من الظفر، فهدّه ذلك، وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصّن بها لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتّى كان قريبا من المدائن. فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعدّ لقتاله انصرف إلى أرض الروم. وكتب كسرى إلى قوّاد الجند الذين انهزموا، يأمرهم أن يدلّوه [234] على كلّ رجل منهم ومن أصحابه، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فأمر بأن يعاقب بحسب ما استوجب. فأحوجهم [4] بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه. وكتب إلى شهربراز   [1] . تساقط وسقط إليه القوم: نزلوا. [2] . في الطبري: راهزار (2: 1004) . [3] . مط: استقبالهم. [4] . في الطبري: فأخرجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف له ما نال هرقل منه ومن بلاده [1] . وقد حكى: أنّ كسرى عرف امرأة في فارس لا تلد إلّا الملوك الأبطال، فدعاها وقال: - «إنى أريد أن أبعث إلى الروم جيشا، وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيرى علىّ: أيّهم أستعمل؟» فوصفت أولادها فقالت: - «هذا فرّخان أنفذ من سنان، وهذا شهربراز أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا.» فاستعمل شهربراز. فسار إلى الروم، فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم. فلمّا ظهرت فارس على الروم، جلس فرّخان يشرب، فقال لأصحابه: - «لقد رأيت كأنى جالس على سرير كسرى.» [235] فبلغت كسرى، وكتب إلى شهربراز: - «إذا أتاك كتابي هذا، فابعث إلىّ برأس فرّخان.» فكتب إليه: - «أيّها الملك، إنّك لن تجد مثل فرّخان، فانّ له نكاية في العدوّ وصوتا، فلا تفعل.» فكتب إليه: - «إنّ في رجال فارس خلفا منه، فعجّل علىّ برأسه.» فراجعه، فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس: - «إنى قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرّخان.» ثمّ دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال:   [1] . مظانّ نزول «آلم، غلبت الروم ... » أنظر الطبري 2: 1005. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 - «إذا ولى فرّخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه.» فلما قرأ شهر براز الكتاب قال: - «سمعا وطاعة.» ونزل عن السرير، وجلس فرّخان، ودفع الصحيفة إليه، فقال: - «ايتوني بشهربراز.» فقدّمه ليضرب عنقه، فقال: - «لا تعجل، حتى أكتب وصيّتى.» قال: «افعل!» فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال: - «كلّ هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد!» فردّ الملك على أخيه. فكتب شهربراز إلى قيصر [236] ملك الروم: - «إنّ لى حاجة لا تحملها البرد ولا تبلّغها الصحف. فالقنى، ولا تلقني إلّا في خمسين روميا، فإنّى [1] أيضا ألقاك في خمسين فارسيا.» فأقبل قيصر في خمسمائة رومىّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتّى أتاه عيونه أنه: ليس معه إلّا خمسون رجلا. ثمّ بسط لهما، والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا بينهما. فقال شهربراز: - «إنّ الذين خرّبوا مدينتك، وبلغوا منك ومن جندك [2] ما بلغوا أنا وأخى بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا، فأراد أن أقتل أخى فأبيت، ثمّ أمر أخى أن   [1] . فإنّى ... فارسيا: سقطت من مط. [2] . مط: جدك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 يقتلني. فقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله معك.» قال: «قد أصبتما ووفّقتما.» ثمّ أشار أحدهما [1] إلى صاحبه: أنّ السرّ إنّما يكون بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا. قال صاحبه: «أجل!» فقاما جميعا إلى الترجمان بسكّينهما، فقتلاه! واتّفقا على قتال كسرى. [237] فممّا اتفق في أيّام كسرى من الحوادث التي تستفاد منها تجربة ما كان من يوم ذى قار وحرب العرب والفرس وكان سبب ذلك قتل النعمان بن المنذر اللخمي، قتله كسرى لأسباب نذكر جملها إن شاء الله: كان عدىّ بن زيد العبادىّ وابنه زيد بن عدىّ سبب ولاية النعمان وسبب هلاكه جميعا. قتل النعمان بن المنذر وأسبابه وذلك أنّ عديّا وأخويه- وهما: عمار، وعمرو، ويعرف عمار ب «أبىّ» ، وعمرو ب «سمىّ» - كانوا في خدمة الأكاسرة [2] ، ولهم من جهتهم قطائع. وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى أبرويز بعدىّ بن زيد وأخويه، ليكونوا في كتّابه يترجمون له. فلمّا مات المنذر بن المنذر ترك من أولاده اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب،   [1] . أحدهما ... صاحبه: غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه من مط. [2] . في الطبري: ... وكان عدىّ من تراجمة أبرويز كسرى بن هرمز (2: 1016) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى: فبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ... يمشون غدوة كالسيوف [1] فجعل المنذر ابنه النعمان في حجر [2] عدىّ، وجعل ابنه الأسود في حجر رجل [238] يقال له: عدىّ بن أوس بن مرينا. وبنو مرينا قوم لهم شرف وهم من لخم، وبنو المنذر الباقون، وهم عشرة، مستقلّون بأنفسهم. وكان المنذر جعل على أمره كلّه، إياس بن قبيصة الطائي، فكان في مكانه أشهرا يدبّر أمر العرب كلّه. وطلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عدىّ بن زيد فقال له: - «من بقي من بنى المنذر، وما هم، وهل فيهم خير؟» فقال: «بقيتهم من ولد هذا الميت- يعنى المنذر بن المنذر- وهم رجال نجباء.» فكتب إليهم، فقدموا عليه، فأنزلهم على عدىّ بن زيد. فكان عدىّ يفضّل اخوة النعمان عليه في النزل [3] ، ويريهم أنّه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم: - «إن سألكم الملك: أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلّا النعمان.» وقال للنعمان: - «إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم فإنّى عن غيره أعجز.» وكان عدىّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا. فكان يوصى الأسود بن المنذر ويقول له:   [1] . في الطبري: بالسيوف (2: 1017) . [2] . في حجره: في كنفه وحمايته. [3] . مط: المنزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 - «قد عرفت [239] أنّى لك راج، وأنّ طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عدىّ بن زيد في ما يشير به عليك، فإنّه والله لا ينصح لك أبدا.» فلم يلتفت الأسود إلى قوله. فلمّا أمر كسرى عدىّ بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلا فيكلّمه. فكان الملك كسرى يرى رجالا قلّ ما رأى مثلهم. فإذا سألهم: - «هل تكفوننى ما كنتم [1] تلون؟» قالوا: «نكفيك العرب إلّا النعمان.» فلمّا دخل النعمان عليه، رأى رجلا دميما [2] قصيرا أحمر، فكلّمه، وقال: - «أتستطيع أن تكفيني العرب؟» قال: «نعم.» قال: «وكيف تصنع بإخوتك؟» قال: «أيّها الملك، إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز.» فملّكه، وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم فيه اللؤلؤ، والذهب. فلمّا خرج وهو ملك على العرب، قال عدىّ بن أوس بن مرينا للأسود: - «دونك، فإنّك خالفت الرأى.» ثم إنّ عدىّ بن زيد صنع طعاما في بيعة، وأرسل إلى ابن مرينا أن: ائتنى مع من أحببت، فإنّ لى حاجة. فأتاه في ناس، فتغدّوا في البيعة غداءهم المعدّ، وشربوا. [240] فقال عدىّ بن زيد لعدىّ بن أوس: - «يا عدىّ! إنّ أحقّ من عرف الحقّ ثمّ لم يلم عليه، من كان مثلك. إنّى عرفت أنّ صاحبك الأسود بن المنذر كان أحبّ إليك من أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد علىّ شيئا لو قدرت   [1] . مط: ما كنت تكون! [2] . مط: ذميما، والدميم: قبيح الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عليه ركبته، وأحبّ أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإنّ نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك.» فقام عدىّ بن زيد إلى البيعة، فحلف ألّا يهجوه، ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوى عنه خيرا. فلمّا فرغ عدىّ بن زيد، قام ابن مرينا فحلف على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه [1] أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة كما ذكرت. حيلة لعدىّ بن أوس على عدىّ بن زيد فقال عدىّ بن مرينا للأسود: - «وإذا لم تظفر [2] ، فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّى الذي عمل بك ما عمل. فقد كنت أخبرك أنّ معدّا لا ينام مكرها، وأمرت أن تخالفه فعصيتني.» قال: «فما تريد؟» قال: «أريد أن لا [241] تأتيك فائدة من مائك وأرضك إلّا عرضتها علىّ.» ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال واسع الضيعة. فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه إلى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثر عند النعمان هدايا ابن مرينا صار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضى في ملكه شيئا إلّا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عدىّ بن زيد عنده أحسن ابن مرينا الثناء عليه، وذكر فضله وقال: - «إنّه لا يصلح المعدىّ إلّا أن يكون فيه مكر وخديعة.» فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده، لزموه وتابعوه [3] ، فجعل   [1] . في الأصل ومط: «ألّا يزال يهجوه» ، في الطبري: ألّا يهجوه (2: 1019) . [2] . غير واضح في الأصل، وما أثبتناه يؤيده ما في مط والطبري: (2: 1019) . [3] . مط: وبايعوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يقول لمن يثق به من أصحابه: - «إذا رأيتمونى أذكر عدىّ بن زيد عند الملك بخير، فقولوا: إنّه لكما يقول، ولكنّه لا يسلم عليه أحد، وإنّه يقول: إنّ الملك- يعنى النعمان- إنّما هو عامله، وإنّه هو الذي ولّاه ما ولّاه.» ولم يزالوا بهذا وأشباهه، حتى أضغنوه عليه. ثمّ إنّهم كتبوا كتابا عن عدىّ إلى قهرمان [1] كان له، ودسّوا له حتّى أخذ الكتاب، وأتى به النعمان، فقرأه وأغضبه. [242] فأرسل إلى عدىّ بن زيد: - «عزمت عليك إلّا زرتنى، فإنّى قد اشتقت إليك.» وهو عند كسرى. فاستأذن كسرى، فأذن له. فلمّا أتاه، لم ينظر إليه، حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. فجعل عدىّ بن زيد يقول الشعر، ويبلغه النعمان، وكان أوّل ما قاله في السجن: ليت شعري عن الهمام ويأتي ... ك بخبر الأنباء عطف السّؤال [2] وقال أشعارا كثيرة [3] ، وكان كلما قال عدىّ من الشعر شيئا بلغ النعمان وسمعه، فندم على حبسه إيّاه، وعلم أنّه كيد فيه. فكان يرسل إليه، ويعده ويمنّيه، ويفرق [4] أن يرسله [5] فيبغيه الغوائل. فلمّا طال سجن عدىّ وأعياه التضرّع إلى النعمان بالأشعار التي يستعطفه فيها مرّة ويخبره فيها بما كيد به مرّة، ومرّة يذكّره   [1] . القهرمان: أمين الملك ووكيله الخاص بتدبير دخله وخرجه. [2] . تجد البيت عند الطبري 2: 1020، وفي أيّام العرب: 15. [3] . أنظر الطبري 2: 1019، وأيام العرب: 14. [4] . يفرق: يخاف، يفزع. [5] . يرسله: يطلقه من السجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بالموت، ويخبره بهلاك من هلك قبله، كتب إلى أخيه أبىّ وهو مع كسرى: أبلّغ [1] أبيّا على نأيه ... فهل ينفع المرء ما قد علم [243] بأنّ أخاك شقيق الفؤا ... د كنت به واثقا [2] ما سلم لدى ملك موثق في الحدي ... د إمّا بحقّ وإمّا ظلم فلا أعرفنك كذات الغلا ... م [3] ما [4] لم تجد عارما [5] تعترم فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم فكتب إليه أخوه: إن يكن خانك الزّمان فلا عا ... جز قوم ولا ألفّ [6] ضعيف ويمين الإله لو أنّ جأوا [7] ... ء طحونا [8] تضيء فيها السيوف ذات رزّ [9] مجتابة غمرة المو ... ت صحيح سربالها [10] مكفوف [11]   [1] . في الأصل والنصوص المختلفة وكذلك في أيّام العرب: «أبلغ» وما في مط: «أبلّغ» بتشديد اللّام من باب التفعيل. فالهمزة إذن للنداء بتقدير المنادى، أى: «أصاحبي بلّغ» من باب «يا ترى» أى: «يا رجل هل ترى» وهذا أوفق للوزن. [2] . الطبري: والها. [3] . ذات الغلام: الأمّ المرضع. [4] . مط والأصل: «إذا لم تجد» وما أثبتناه من الطبري. [5] . العارم: الراضع، يقال: اعترمت المرأة: تبغت من يعرمها أو يمصّ ثديها، والمراد: إن لم تجد من ترضعه درّت هي فحلبت ثديها. قال ابن الأعرابى: يقال هذا لمن يتكلّف ما ليس من شأنه. [6] . الألفّ: البطيء الثقيل. [7] . الجأواء: الكتيبة التي يعلو لونها السواد لكثرة الدروع. [8] . الطحون: التي تطحن ما لقيت. [9] . الرزّ: الصوت. [10] . السربال: القميص. [11] . المكفوف: الثوب الذي خطّت حاشيته، ولعلّه يريد أنّها كتيبة سالمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 كنت في حميها لجئتك أسعى ... فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف [1] إن تفتني والله ألف جزوعا ... لا يعفّيك ما يصوت الخريف فلعمرى لئن جزعت عليه ... لجزوع على الصّديق أسوف ولعمري لئن ملكت عزائى ... لقليل شرواك [2] في ما أطوف كسرى يكتب في إرسال عدىّ وعدىّ يقتل ويقال: إنّ عديّا لما كاتب أبيّا، قام أبىّ، فدخل على كسرى، فكلّمه، فكتب له وبعث معه رجلا، وأذن له في المسير لاستنقاذ أخيه. فكتب خليفة النعمان المقيم بباب الملك إليه أنّه: قد كتب إليك في أمر عدىّ. فأتاه أعداء [244] عدىّ من غسّان، فأشاروا على النعمان بقتل عدىّ. وقالوا: «افرغ منه الساعة.» فأبى عليهم، وجاء الرجل، وكان تقدّم أخو عدىّ إليه فرشاه، وأمره أن يبدأ بعدىّ. فدخل عليه وهو محبوس وكان قال له: - «ابدأ بالدخول إليه في الحبس فانظر ما يأمرك به.» فلمّا دخل الرسول على عدىّ قال له: - «إنّى قد جئتك بإرسالك [3] فما عندك؟» قال: «عندي الذي تحبّ.» ووعده، وسأله ألّا يخرج من عنده، وقال: - «أعطنى الكتاب حتى أرسل به أنا، فإنّك إن خرجت من عندي، قتلت.» فقال الرسول: «لا أستطيع إلّا أن آتى النعمان بالكتاب فأوصله بنفسي إليه.»   [1] . تستضيف: تستجير. [2] . شرواك: مثلك. شرح الأبيات من أيّام العرب: 17. [3] . بإرسالك: بإطلاقك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فانطلق مخبر [1] ، فأتى النعمان، فقال: - «إنّ رسول كسرى قد دخل على عدىّ وهو ذاهب به، وإن فعل لم يستبق [2] منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك.» فبعث إليه النعمان بأعدائه، فغمّوه حتى مات، ثم دفنوه. ودخل الرسول على النعمان بالكتاب. فقال: «نعم وكرامة وسمعا وطاعة.» وبعث إلى الرسول بأربعة آلاف مثقال [245] ذهبا، وجارية، وقال له: - «إذا أصبحت فادخل عليه وأخرجه أنت بنفسك.» فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس: - «إنّه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك النعمان فرقا منه، لعلمنا بكراهيته لذلك.» فرجع الرسول إلى النعمان فقال: - «إنّى كنت بدأت به، فدخلت إليه وهو حىّ.» فقال النعمان: «يبعثك الملك إلىّ فتدخل إليه قبلي! كذبت ولكنّك أردت الرشوة والخبث.» وتهدّده. ثمّ إنه استدعاه بعد ذلك، وزاده جائزة وكسوة، وأكرمه واستوثق منه أن لا يخبر الملك، إلّا أنّه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، فقال: - «إنه مات قبل أن أدخل عليه.»   [1] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه من الطبري. مط: بخبر. [2] . مط: لم يسبق أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 زيد بن عدىّ يخلف أباه عند كسرى وندم النعمان على قتل عدىّ ندامة شديدة، واجترأ أعداء عدىّ على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقى ابنا لعدىّ يقال له: زيد. فلمّا رآه عرف شبهه، فقال: - «من أنت؟» فقال: «أنا زيد بن عدىّ بن زيد.» فكلّمه، فإذا [246] غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا، وقرّبه، واعتذر إليه من أمر أبيه، ثمّ جهّزه وكتب إلى كسرى: «إنّ عديّا كان ممّن أعين به الملك في نصحه ولبّه، فأصابه ما لا بدّ منه وانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتي، وأمّا الملك فلم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا لما عظم الله من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه وقد سرّحته إلى الملك. فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل.» فكان هو الذي يلي ما يكتب إلى أرض العرب وخاصّة الملك، وكانت له من العرب وظيفة في كلّ سنة من الأفراس المهارة [1] ، ومن الكمأة الرطبة واليابسة، والأقط [2] ، والأدم، وسائر تجارات العرب. وكذلك كان عدىّ بن زيد له هذه الرسوم. فلمّا وقع عند الملك هذا الموقع سأل عن النعمان، فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى وكان يكثر الدخول إليه.   [1] . المهارة: جمع المهر: ولد الفرس. [2] . الأقط: الجبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فرصة انتهزها زيد فلمّا كان بعض [247] دخلاته على كسرى جرى حديث النساء [1] ، وطلب الملك امرأة لها صفات ونعوت مكتوبة عند الملوك. وكان من رسم الملوك أن يطلب لهم جارية تجمع تلك النعوت في ممالكهم، فكتبت تلك الصفة. فدخل زيد على كسرى فكلّمه في ما دخل فيه، ثم قال: - «إنّى رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وأنا خبير بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة.» قال: «فكتب فيهنّ.» فقال: «أيّها الملك، إنّ شرّ شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرّمون- زعموا في أنفسهم- عن العجم. فأنا أكره أن يغيّبهنّ، وإن قدمت أنا عليه على معرفتي، لم يقدر على تغييبهنّ، فابعثني وابعث معى رجلا يفقه العربية.» فبعث معه رجلا جلدا حصيفا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلمّا دخل عليه، أعظم الملك وقال: - «إنّه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك [248] وبعث إليك. فقال: «وما هؤلاء النسوة؟» فقال: «هذه صفتهنّ قد جئنا بها.» صفة جارية أهداها المنذر الأكبر إلى أنوشروان وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية كان أصابها لمّا   [1] . أنظر الطبري 2: 1025. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أغار على الحارث الأكبر الغسانىّ ابن أبى شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له: «هي معتدلة الخلق، نقيّة اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء [1] ، دعجاء [2] حوراء [3] ، عيناء [4] ، قنواء [5] ، شمّاء [6] ، زجّاء [7] ، برجاء [8] ، أسيلة الخدّ [9] [شهيّة المقبّل] [10] جثلة [11] الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء [12] ، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة [13] المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة [14] البنان، لطيفة طىّ البطن، خميصة [15] الخصر، غرثى [16] الوشاح، رداح [17] القبل، رابية الكفل، مفعمة الساق، لفّاء [18] الفخذين، ريّا [19] الروادف، ضخمة المأكمتين [20] ، عظيمة الركبة، مشبعة [21] الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف [22] المشي، مكسال [23]   [1] . الوطفاء: غزيرة الأهداب وشعر الحاجبين. [2] . الدعج: شدّة سواد العين، وشدّة بياض بياضها. [3] . الحور: اسوداد العين كلها مثل الظباء. [4] . العيناء: هي المرأة التي عظم سواد عينها في سعة مشهودة. [5] . القناء: ارتفاع في أعلى الأنف، واحد يدأب في وسطه، وسبوغ في أعلاه. [6] . الشمم: ارتفاع القصبة في الأنف. [7] . الزجّاء: دقيقة الحاجبين في طول. [8] . البرجاء: جميلة العين. والتي بياض عينها محدق بالسواد كله. [9] . الخد الأسيل: اللين الأملس الطويل المسترسل. [10] . زيادة من الطبري وابن الأثير. [11] . الجثل من الشعر: الكثيف الأسود. [12] . العيطاء: الطويلة العنق. [13] . المشاشة: رأس العظم الممكن المضغ. [14] . سبطة البنان: الكريمة. [15] . خميصة الخصر: من خصرها ضامر دقيق. [16] . الغرثى: الجوعى، وغرثى الوشاح: دقيقة الخصر. [17] . الرداح: العجزاء الثقيلة الأوراك التامة الخلق، والقبل: ما استقبلك من مشرف. [18] . اللفّاء: مكتنزة الفخذين. [19] . ريّا الروادف: من كثر لحم أرادفها. [20] . المأكمتان: اللحمتان اللتان على رؤوس الوركين. [وفي ابن الأثير: المنكبين] . [21] . مشبعة الخلخال: كناية عن السمن. [22] . قطوف المشي: تقارب الخطو. [23] . المكسال: المرأة التي لا تكاد تبرح مجلسها وهو مدح عندهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الضحى، بضّة [1] المتجرّد، شموع [2] للسيّد، ليست بخنساء [3] ولا سعفاء [4] ذليلة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذ في بؤس، حييّة، وزينة، حليمة، ركينة، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون [249] جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب في الأدب، فرأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة اللسان [5] ، رهوة [6] الصوت، تزين البيت وتشين العدوّ، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها وتبادرك الوثبة» . فقبلها أنوشروان، وأمر بإثبات هذه الصفة في ديوانه، فلم يزالوا يتوارثونها حتّى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز. فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشقّ عليه، فقال لزيد وللرسول: - «أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم!» فقال الرسول لزيد: «ما العين؟» فقال: «البقر.» فقال زيد للنعمان: «إنّما أراد كرامتك، ولو علم أنّه يشقّ عليك لم يكتب به إليك.» فأنزلهما يومين، ثمّ كتب إلى كسرى:   [1] . البضّة: الناعمة. [2] . الشموع: المزّاحة الضحوك اللعوب. [3] . الخنس: قريب من الفطس. [4] . السعفاء: السوداء. [5] . ليست سليطة. [6] . رهوة الصوت: رقيقة الصوت. (جلّ هذه الشروح منقولة عن أيّام العرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 - «إنّ الذي طلب الملك ليس عندي.» وقال لزيد: - «اعذرنى عنده.» فلما رجعا إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه: - أصدق الملك، الذي سمعت منه، فإنّى سأحدّثه بحديثك، ولا أخالفك فيه.» فلمّا دخلا [250] على كسرى قال زيد: «هذا كتابه.» فقرأه عليه. فقال كسرى: «فأين ما كنت خبّرتنى به؟» فقال: «قد كنت أخبرتك بضنّهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم: اختيارهم الجوع والعرى على الشبع والرياش، واختيارهم السّموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنّهم ليسمّونها السجن، فسل هذا الرسول معى عن الذي قال، فإنّى أكره أن أحكى للملك قوله أو أردّ عليه ألفاظه.» فقال للرسول: «ما قال؟» قال: «انّه قال- أيّها الملك-: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟» فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنّه قال: - «ربّ عبد قد قال هذا، فصار أمره إلى التباب.» كسرى يدعو النعمان وهو يحمل السلاح وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وجعل النعمان يستعدّ ويتوقّع حتّى أتاه كتابه أن: - «أقبل، فإنّ للملك إليك حاجة.» فانطلق حين أتاه كتابه، فحمل سلاحه وما قوى عليه، ثمّ لحق بجبلي طيّء، وكانت عنده فرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم [251] وقد ولدت له رجلا وكانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 عنده أيضا زينب بنت أوس بن حارثة. فأراد النعمان طيّئا على أن يدخلوه ويمنعوه، فأبوا ذلك وقالوا: - «لولا صهرك لقاتلناك، فإنّه لا حاجة لنا في معاداة كسرى.» فأقبل ليس أحد من الناس يقبله، حتى نزل بذي قار، في بنى شيبان سرّا، فلقى هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود، وكان سيّدا منيعا، وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلّة. فكره النعمان لذلك أن يدفع إليه أهله، وعلم أنّ هانئا مانعه ممّا يمنع منه نفسه، فأودعه سلاحه، وتوجّه بنفسه إلى كسرى، فلقى زيد بن عدىّ على قنطرة ساباط. فقال: «انج نعيم!» فقال: «أنت يا زيد فعلت هذا، أما والله لئن انفلتّ لأفعلنّ بك ولأصنعنّ.» فقال له زيد: «امض نعيم! فقد- والله- وضعت لك عنده آخيّة [1] لا يقلعها المهر [2] الأرن [3] . فلما بلغ كسرى أنه بالباب، بعث إليه، فقيّده، وأنفذه إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون، فمات فيه، والناس يظنّون أنّه [252] مات بساباط، لبيت [4] قاله الأعشى. والصحيح ما قلناه. إياس وما أدّى إلى يوم ذى قار وأمر كسرى إياس بن قبيصة الطائي أن يضمّ ما كان النعمان ينظر فيه، ويجمع ماله ويبعث به إليه. فبعث إياس إلى هانئ أن:   [1] . الآخية: عروة تثبت في الأرض أو الحائط لربط الدابة بها. الحرمة والذمة. [2] . المهر: أول ما ينتج من الخيل والحمر الأهلية وغيرها. [3] . الأرن: النشط. يقال: شددت له آخية لا يحلّها المهر الأرن. [4] . والبيت كما في الطبري (2: 1028) : فذاك وما أنجى من الموت ربّه بساباط، حتّى مات وهو محرزق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 - «أرسل ما استودعك النعمان من السلاح وغيره.» وكان ثمانمائة درع. فأبى هانئ أن يسلّم خفارته. فلمّا منعها هانئ غضب كسرى، وأظهر أنّه يستأصل بكر بن وائل وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي- وهو يحبّ هلاك بكر بن وائل- فقال لكسرى: - «يا خير الملوك، أدلّك على غرّة بكر بن وائل؟» قال: «نعم.» قال: «أمهلها حتّى تقيظ [1] ، فإنّهم يجتمعون إلى مآلهم يقال له: ذو قار، فيتساقطون عليه تساقط الفراش في النار، فتأخذهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم.» فترجم له، فأقرّهم، حتى إذا قاظوا جاءت بكر بن وائل، فنزلت حنو ذى قار، وهو على ليلة من ذى قار [2] . فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة أن: اختاروا واحدا من ثلاث خصال. فنزل النعمان على هانئ وقال: «أنا رسول الملك إليكم، أخيّركم في ثلاث [253] خصال: إمّا أن تعطوا بأيديكم فيحكم الملك فيكم بما شاء، وإمّا أن تدعوا الديار، وإمّا أن تأذنوا بحرب.» فتآمروا، فولّوا أمورهم حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى، وكانوا يتيمّنون به، فقال: - «لا أرى إلّا القتال، لأنّكم إن أعطيتم بأيديكم، قتلتم، وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقّاكم تميم فتهلككم، فآذنوا الملك بحرب.» فبعث الملك كسرى إلى إياس، وإلى الهامرز [3] التستري، وكان مسلحه [4]   [1] . قاظ اليوم: اشتدّ حره. قاظ القوم بالمكان: أقاموا به أيام الحرّ. [2] . ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة (مع) . .Hamerz. [3] [4] . المسلح، والمسلحة: كلّ موضع مخافة يقف فيه الجند بالسلاح للمراقبة والمحافظة. القوم المسلّحون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بالقطقطانية [1] وإلى جلابزين [2] وكان مسلحه ببارق. وكتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذى الجدّين- وكان كسرى استعمله على طفّ سفوان [3]- أن يوافوا إياسا، فإذا اجتمعوا، فإياس على الناس. وجاءت الفرس ومعها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي- صلّى الله عليه وسلّم-. فقال- عليه السلام-: - «اليوم انتصفت العرب من العجم [4] .» فحفظ ذلك اليوم، فإذا هو يوم الوقعة. رأى جيّد رآه قيس بن مسعود لهانئ [254] لمّا دنت جيوش الفرس بمن معهم انسلّ قيس بن مسعود ليلا، فأتى هانئا فقال: - «أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لنفوسهم وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردّوه عليك.» ففعل، وقسم الدروع والسلاح في ذوى القوى والجلد من قومه، فلمّا دنا الجمع من بكر بن وائل، قال لهم هانئ: - «يا معشر بكر، إنّه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة.» فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيّار. فقال:   [ () ] في ثغر، أو مخفر للمحافظة. ترجمة لكلمة «زينستان» الفارسية المركبة من «زين» (بالفهلوية: (Zenأى السلاح، و «ستان» أى المكان (حب) . [1] . القطقطانية: موضع قرب الكوفة (مع) . [2] . ما في الأصل ومط غير واضح وما أثبتناه يوافق الطبري (2: 1030) . [3] . طفّ سفوان: ماء على قدر مرحلة من المربد بالبصرة به ماء كثير (مع) . [4] . أنظر الطبري (2: 1031) ، والعقد (5: 262) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 - «إنّما أراد نجاتنا، فلم يزد على أن ألقانا في الهلكة.» فردّ الناس، وقطع وضن الهوادج لئلّا تستطيع بكر أن تسوق نساءها إن هربوا [1] ، فسمّى: «مقطّع الوضن [2] .» فضرب حنظلة على نفسه قبّة ببطحاء ذى قار، وآلى: لا يفرّ حتى تفرّ القبّة. فمضى من مضى من الناس ورجع أكثرهم، واستقرى [3] ماء لنصف شهر. فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، ولم تقم لمحاصرتهم فهربت إلى الجبابات [4] فتبعتهم [5] بكر وعجل أوائل بكر، [255] فتقدّمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنا، واضطمّت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل. ثمّ حملت بكر، فوجدت عجلا ثابتة تقاتل، وامرأة تقول: إن يظفروا يجوّزوا [6] فينا الغرل [7] ... إيها [8] فداء لكم بنى عجل وتقول أيضا: إن تهزموا نعانق ... ونفرش النّمارق [9]   [1] . الأصل غير واضح، وما أثبتناه يؤيده مط والطبري. [2] . في الطبري (2: 1031) : الوضن: حزم الرحال. ويقال: مقطّع البطن. والبطن: حزم الأقتاب. [3] . مط: واستقى. في الطبري: واستقوا. [4] . الجبابات: موضع قريب من ذى قار كان بها يوم العرب (مع) . [5] . مط والطبري: وتبعتهم. [6] . في الطبري: يحرّزوا. [7] . الغرل: جمع غرلة: جلدة الصبى التي تقطع في الختان. [8] . إيها: اسم فعل معناه: لا تحدّث. وقد ترد بمعنى التصديق والرضا بالشيء. إيه: اسم فعل معناه الاستزادة من حديث أو عمل. أو الإسكات والكفّ بمعنى: حسبك. [9] . النمارق: جمع النمرقة، وهي الوسادة الصغيرة، أو الطنفسة فوق الرحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أو تهربوا نفارق ... فراق غير وامق [1] فقاتلوهم بالجبابات يوما، فعطش العجم، فمالوا إلى بطحاء ذى قار. فأرسلت إياد إلى بكر سرّا- وكانوا مع إياس عونا على بكر-: - «أىّ الأمرين أعجب إليكم: أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم، ونفرّ حين تتلاقون؟» قالوا: «بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم.» فصبّحتهم بكر بن وائل والظعن [2] واقفة يذمرن [3] الرجال على القتل. فقال يزيد بن حمار السكوني وكان حليفا لبنى شيبان: - «يا بنى شيبان، أطيعونى واكمنوا [4] لهم كمينا.» ففعلوا، فكمنوا في مكان من ذى قار يسمّى إلى اليوم «الخبء [5] .» فاجتلدوا على [6] ميمنة إياس بن قبيصة وفيها [7] الهامرز، وعلى ميسرته وفيها [8] الجلابزين [256] ، وعلى ميمنة هانئ بن قبيصة رئيس بكر يزيد بن مسهر الشيبانى، وعلى ميسرته حنظلة بن ثعلبة بن سيّار العجلى وحنظلة يرتجز ويقول: قد شاع أشياعكم فجدّوا ... ما علّتى وأنا شيخ جلد [9]   [1] . الوامق: المحبّ. [2] . الظعن: جمع الظعينة: الراحلة، الهودج، الزوجة! [3] . ذمر: حضّ على الأمر. [4] . الأصل ومط والطبري: «واكمنونى لهم» فحذفنا «نى» وفقا لابن الأثير (1: 490) . [5] . في الطبري: الجبّ، الحب. مط: حب. وفي الأصول: الخبئ. [6] . في الطبري: وعلى. [7] . فيها: سقطت من الطبري. [8] . فيها: أيضا سقطت من الطبري. [9] . في الطبري: مؤد. أى: ذو أداة من السلاح تامة، أى: لا عذر لى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 والقوس فيها وتر عردّ [1] ... مثل ذراع البكر أو أشدّ ثمّ صيّروا الأمر بعد هانئ إلى حنظلة. فمال إلى مارية ابنته وهي أمّ عشرة نفر، فقطع وضينها، فوقعت على الأرض، وقطع وضن النساء، فوقعن على الأرض. ونادت بنت القرين الشيبانيّة حين وقعت النساء إلى الأرض: ويها بنى شيبان صفّا بعد صفّ ... إن تهزموا يصبّغوا [2] فينا القلف [3] فقطع سبعمائة من بنى شيبان أيدى أقبيتهم من قبل مناكبهم، لتخفّ أيديهم بالضرب، فجالدوهم، ونادى الهامرز لمّا رأى جدّ القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت: - «مرد ومرد!» فقال برد بن حارثة اليشكري: «ما يقول؟» قال: «يدعو إلى البراز ويقول: رجل ورجل.» فقال: «وأبيكم لقد أنصف.» [257] وبرز له برد، فلم يلبث برد أن تمكّن من الهامرز فقتله، ونادى حنظلة بن ثعلبة: - «يا قوم، لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشّاب.»   [1] . عردّ: صلب شديد. [2] . مط: «يصنعوا» وقد زالت نقطتا الياء. ما في الأصل: «يضيّعوا» وقد يكون له معنى!. وما أثبتناه من الطبري (2: 1033) ، وابن الأثير (1: 490) . [3] . القلف: جمع القلفة: الجلدة التي يقطعها الخاتن من ذكر الصبى. وقوله: يصبّغوا فينا القلف، أى: إن هزمتم افتضّوا أبكارنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فحملت ميسرة بكر- وعليها حنظلة- على ميمنة الجيش، وقد قتل الهامرز رئيسهم، قتله برد، وحملت ميمنة بكر- وعليها يزيد بن مسهر- على ميسرة الجيش، وعليهم الجلابزين، وخرج الكمين من خبء ذى قار من ورائهم [وعليهم] [1] يزيد بن حمار، فشدّوا على قلب الجيش، وفيهم إياس بن قبيصة وولّت إياد منهزمة كما وعدتهم. وانهزمت الفرس واتّبعوهم يسعون، لم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتّى تعارفوا «بأدم» - موضع قريب من ذى قار- فوجد ثلاثون فارسا، من عجل ومن سائر بكر ستون فارسا وقتلوا جلابزين، قتله حنظلة بن ثعلبة، وذلّت الفرس بعد ذلك، وذلّ أمرهم. ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة أصحابه في جيش جرّار إلى بلاد الروم [258] فنكا فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشامات وبلغ الدرب في آثارهم فعظم أمره وخافه أبرويز. فكاتبه بكتابين أمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه، فإنّه لما تدبّر أمره وأجال الرأى، لم يجد من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل، إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له: - «أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم، فإن خفّ لذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة، فاسكت عليه أيّاما، ثمّ أعلمه أنّ الكتاب الثاني ورد عليك، وأوصله إليه ليقيم بموضعه.» فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام، فأوصل الكتاب إليه، فلمّا قرأه قال:   [1] . في الأصل ومط: «من ورائهم الجلابزين» فحذفنا «الجلابزين» وأثبتنا مكانها «وعليهم» كما في الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 - «إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لى وكره موضعي، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في بحر العدوّ.» فدعا الأصحاب وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام، أوصل الكتاب الثاني بالمقام، وأوهمه أنّ رسولا [259] ورد به، فلمّا قرأه قال: «هذا تخليط.» ولم يقع منه موقعا، ودسّ إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما، على أن يخلّى الطريق لملك الروم، حتّى يدخل بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما تغلّب عليه من دون العراق، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس. فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحّى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطرق، فلم يعلم كسرى حتّى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسياء [1] ، وكسرى غير معدّ، وجنده متفرّقون في أعماله. فوثب من سريره مع قراءة الخبر وقال: - «هذا وقت حيلة لا وقت شدّة.» وجعل ينكت في الأرض مليّا. ثمّ دعا برقّ، وكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه: - «قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم، وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتّى إذا تولّج في بلادنا أخذته من أمامه وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه، فيكون ذلك بواره، وقد تمّ في هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك [260] في الإيقاع به يوم كذا!» ثمّ دعا راهبا كان في دير بجانب مدينته وقال له: - «أىّ جار كنت لك؟»   [1] . في الأصل: قرقيسا. وقرقيسياء: بلد على الخابور عند مصبّه، وهي على الفرات، جانب منها على الخابور، وجانب آخر فوق رحبة مالك بن طوق (مع. (C.I.S) Circesium ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 قال: «أفضل جار.» قال: «قد بدت لنا إليك حاجة.» قال الراهب: «الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك.» قال كسرى: «تحمل لى كتابا إلى فلان صاحبي؟» قال: «نعم.» قال كسرى: «فإنّك تجتاز بأصحابك النصارى، فأخفه.» قال: «نعم.» فلمّا ولّى عنه الراهب قال له كسرى: - «أعلمت ما في الكتاب؟» قال: «لا.» قال: «فلا تحمله حتّى تعلم ما فيه.» فلمّا قرأه أدخله في جيبه ثمّ مضى. فلمّا صار في عسكر الروم ونظر إلى الصلبان والقسيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلبه لهم وأشفق ممّا خاف أن يقع بهم. وقال في نفسه: - «أنا شرّ الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق.» فصاح: «أنا لم يحمّلنى كسرى رسالة ولا معى كتاب.» فأخذوه ووجدوا الكتاب معه. وقد كان كسرى وجّه رسولا قبل ذلك اختصر الطريق حتّى مرّ بعسكر الروم وكأنّه رسول إلى كسرى [261] من صاحبه الذي طابق [1] ملك الروم ومعه كتاب   [1] . طابق: وافق، عاون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فيه: «إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلّى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه، وآخذه أنا من خلفه وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامى وقت خروجه إليه.» فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال: - «قد عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن [1] على كسرى.» ووافاه أبرويز في من أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا، فاتّبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم، فأحبّ أن يجلّى نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبّر، فخرج خلف الروم الهاربين، فلم يسلم منهم إلّا القليل [2] . ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله كان سبب هلاك أبرويز وقتله تجبّره، واحتقاره العظماء، وعتوّه. وذاك أنّه استخفّ بما لا يستخفّ به الملك الحازم. [262] وكان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وإفريقية، وكانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلّا فيل واحد، وخمسون ألف دابّة، ومن الجواهر، والآلات والأوانى ما يليق بذلك. وأمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده وسائر أبواب المال سنة ثماني عشرة من ملكه. فرفع إليه: أنّ الذي اجتبى في تلك السنة من الخراج وسائر الأبواب ستمائة ألف ألف [000 بن 000 بن 600] درهم. وأمر فحوّل إلى بيت مال بنى بمدينة طيسبون، من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن   [1] . أدهن: أظهر خلاف ما أضمر، أو خدع وغشّ. أدهن عليه: أبقى. أدهن فلانا: داراه ولاينه. [2] . إنّ ما ذكره مسكويه تحت عنوان «حيلة لأبرويز» لم نعثر على ذكر له عند كلّ من الطبري، والمسعودي، والدينوري، والثعالبي، وابن الأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فيروز اثنتا عشرة ألف [000 بن 12] بدرة في أنواع من الجواهر والكسىّ وغير ذلك. فعتا واستهان بالناس والأحرار. وبلغ من جرأته أنّه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاصّة يقال له: زاذانفروخ، أن يقتل كلّ مقيّد في سجن من سجونه. فأحصوا، فبلغوا ستّة وثلاثين ألفا. فلم يقدم زاذانفروخ على قتلهم، وتقدّم بالتوقّف عمّا أمر به كسرى وأعدّ عللا له في ما أمر [263] به فيهم. فكان هذا أحد ما كسب به كسرى عداوة أهل مملكته. والثاني: احتقاره إيّاهم واستخفافه بعظمائهم. والثالث: أنّه سلّط علجا [1] يقال له «الفرّخان زاذ» عليهم، حتّى استخرج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالا عظيما، فسلّطه على الناس. والرابع: إجماعه على قتل الفلّ [2] الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل. فمضى قوم من العظماء إلى عقر بابل وفيه شيرى [3] بن أبرويز مع إخوته بها، وقد وكّل بهم مؤدّبون وأساورة يحولون بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخلوا مدينة بهرسير ليلا. فخلّى عمّن كان في سجونها وأخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفلّ الذين كانوا عملوا بأمر كسرى بقتلهم. فنادوا: - «قباذ شاهنشاه» ، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب الحرس من قصر أبرويز، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره يدعى: «باغ الهندوان» فارّا [4] . فأخذ وحبس خارجا [264] عن دار المملكة في دار رجل يقال له: مارسفند [5] .   [1] . العلج: الجافّ الشديد. [2] . الفلّ: المنهزم. (للواحد والجمع) . [3] . شيرى شيرويه، واسمه قباذ (الطبري 2: 1043، 1045) قباذ الثاني. (LC.I.S) [4] . مط: هاربا. [5] . مط: ماراسفند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 إلى ان قتل، بعد حديث طويل [1] ومراسلات بينه وبين شيرى بمواطأة العظماء، وبعد تقريع كثير وتوبيخ على ما كان منه في أشياء عدّدوها عليه. فأجاب عن الكلّ بجوابات مقنعة صحيحة لم نذكرها لخروجها عما بنينا عليه غرض هذا الكتاب. وكان هلاكه بعد ثمان وثلاثين سنة، ولمضىّ اثنين وثلاثين سنة وخمسة عشر يوما من ملكه، هاجر النبي- صلى الله عليه- من مكّة إلى المدينة. وخلّف في بيت المال يوم قتل من الورق أربعمائة ألف [000 بن 400] بدرة، سوى الكنوز والذخائر والجواهر وآلات الملك، وفي تلك الكنوز «كنزباذ آورد» [2] . ثمّ ملك شيرويه بن أبرويز. ذكر عاقبة شيرويه بن أبرويز قتل شيرويه أباه، وقتل سبعة عشر أخا له ذوى آداب وشجاعة، [265] بمشورة وزرائه، فابتلى بالأسقام، وانتقض عليه بدنه، فلم يلتذّ بشيء من لذّات الدنيا، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا، وكان يبكى إلى أن رمى بالتاج عن رأسه، وعاش ما عاش مهموما حزينا مدنفا. وكان الطاعون فشا في أيّامه، فأهلك أكثر الفرس. وكان ملكه ثمانية أشهر.   [1] . أنظر الطبري 2: 1044. [2] . گنج ى واذ آورد، گنج باد آورد. (LC.I.S) وگنج باد آورد [أى كنز أتت به الريح] اسم للحن من ألحان باربد. قيل: إنّ الموسيقار باربد (LBarbad) لحّنه بعد أن أتى أبرويز بذلك الكنز (فم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ثم ملك أردشير بن شيرويه وكان طفلا، وقيل: إنّه كان ابن سبع سنين، لأنّه لم يوجد غيره من أهل بيت المملكة، وحضنه رجل يقال له: مهاذر جشنس [1] ، فأحسن سياسة الملك فبلغ من إحكامه ذلك أنه: لم يحسّ بحداثة أردشير سوى أنّه غلط في أمر شهربراز المقيم بثغر الروم. ذكر غلطه في ذلك واستهانته بأمره حتى كان سبب هلاكه كان شهربراز في جند ضمّهم إليه كسرى، وكان كسرى وشيرويه لا يزالان يكتبان إليه في الأمر يهمّهما ويستشيرانه. فلمّا لم يشاوره عظماء [266] الفرس في تمليك أردشير، ولم يكاتبه أيضا مهاذرجشنس، تعنّت الفرس، وتبغّى عليهم، وبسط يده، وجعله سببا للطّمع في الملك، واستطال، واحتقر أردشير لحداثة سنّه، ودعا الناس إلى التشاور في الملك. ثمّ أقبل بجنده وقد عمد مهاذرجشنس، فحصّن سور مدينة طيسبون وأبوابها، وحوّل أردشير ومن بقي من نسل الملوك ونسائهم، وما كان في بيت مال أردشير من مال وخزائن وكراع، إلى مدينة طيسبون. فلما ورد شهربراز أناخ إلى جانب مدينة طيسبون، وحاصر من فيها، ونصب المجانيق عليها، فلم يصل إليها. فلمّا رأى عجزه عن افتتاحها أتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رجلا يقال له: نيوخسرو [2] ، ورجلا كان اصبهبذ نيمروزكان [3] ، حتى فتحا له باب المدينة، فدخلها، وأخذ جماعة من الرؤساء،   [1] . وجاء في الطبري: كانت مرتبته رئاسة أصحاب المائدة (2: 1062) . [2] . الأصل مهمل النقط. في الطبري: نيوخسرو. كان رئيس حرس أردشير (2: 1062) . [3] . في الأصل: نيمروذكان، بالذال المعجمة. في الطبري: نامدار جشنس بن آذرجشنس اصبهبذ نيمروز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فقتلهم، واستصفى أموالهم، وقتل أردشير بن شيرويه. وكان ملكه سنة وستة أشهر. [267] ثم ملك شهربراز ولم يكن من أهل بيت المملكة ودعا نفسه ملكا، ولمّا جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدّة ذلك عليه أنّه لم يقدر على إتيان الخلاء، فدعا بالطّست، فوضع أمام ذلك السرير، ومدّ في وجهه ما ستره، فتبّرز في الطّست! ثم امتعض رجل يقال له «بسفرّوخ [1] » وأخوين له، من قتل شهربراز أردشير بن شيرويه، وغلبته على الملك، فتحالفوا على قتله. وكان من السنّة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين عليهم الدروع، والبيض، والترسة، والسيوف، وبأيديهم الرماح، فإذا حاذاهم الملك وضع كل رجل منهم ترسه على قربوس سرجه، ثمّ وضع جبهته عليه كهيئة السجود. وإنّ شهربراز ركب بعد أن ملك بأيام، فوقف له بسفرّوخ، ثم طعنه أخواه، فسقط عن دابته، [268] فشدّوا في رجله حبلا وجرّوه إقبالا وإدبارا ساعة، وساعدهم قوم من العظماء وقتلوا عدّة عاونوا في الفتك بأردشير، وملّكوا بوران بنت كسرى. وكان جميع ما ملك شهربراز أربعين يوما. وملكت بوران بنت كسرى أبرويز فأحسنت السيرة، وبسطت العدل، وأمرت برمّ القناطر والجسور وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج، وكتبت إلى الناس عامّة كتبا تعلمهم ما هي عليه   [ () ] (نفس الصفحة) . [1] . في الطبري: فسفرّوخ بن ماه خرشيدان. (LC.I.S) PusFarrukh (1063:2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 من الإحسان، وأنّها ترجو أن يريهم الله من الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوّخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكائدهم ينال الظفر، وتطفأ النوائر، ولكنّ ذلك كلّه بالله عزّ وجلّ، وحسن النيّة، واستقامة التدبير. وأمرت بالمناصحة وحسن الطاعة، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم. وكان ملكها سنة وأربعة أشهر. [269] ثم ملك بعدها رجل يقال له: جشنسبنده [1] وكان ملكه أقلّ من شهر، ولم يظهر له أثر تستفاد منه تجربة. ثم ملكت آزرمى دخت ابنة كسرى أبرويز كانت آزرمى دخت من أجمل نساء دهرها، وكان عظيم فارس يومئذ «فرّخ هرمز» إصهبذ خراسان، وأرسل إليها: يسألها أن تزوّجه نفسها، فأرسلت إليه: - «إنّ التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أنّ إربك فيما ذهبت إليه، قضاء حاجتك منّى، فصر إلىّ ليلة كذا وكذا.» ففعل [فرّخ هرمز] [2] ، وركب إليها في تلك الليلة، وتقدّمت آزرمى دخت إلى صاحب حرسها أن يترصّده في الليلة التي تواعدا الالتقاء فيها، حتّى يقتله. فنفذ صاحب حرسها لأمرها، وأمر به فجرّ برجله، وطرح في رحبة دار المملكة. فلمّا أصبح الناس ورأوه، علموا أنّه لم يقتل إلّا لعظيمة. فأمرت بجثّته فغيّبت. وكان رستم بن فرّخ هرمز هذا عظيم البأس قويّا في نفسه وهو [270] رستم صاحب القادسية الذي تولّى قتال العرب من قبل يزدجرد في ما بعد، وسنحكى   [1] . في الطبري: جشنسده (2: 1064) ، وابن الأثير: خشنشبنده (1: 449) ، والصحيح: جشنسبنده، معرّب گشنسب بندك.GusnaspBandak وجاء في بعض الأصول: جشنسفنده. [2] . في الأصل: «خره هرمز» وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 خبره هناك. فلمّا بلغه ما صنع بأبيه، أقبل في جند عظيم، حتى نزلوا المدائن، وسمل عيني آزرمى دخت، وقتلها، وكان ملكها ستة أشهر. واختلف [1] فيمن ملك بعد آزرمى دخت، فقيل: أتى برجل من عقب أردشير بن بابك، كان ينزل الأهواز يقال له: كسرى بن مهرجشنس فلبس التاج وقتل بعد أيّام. ويقال: بل كان رجلا يسكن ميسان [2] يقال له: فيروز فلملّكوه كرها، وكان ضخم الرأس. فلما توّج قال: - «ما أضيق هذا التاج!» فتطيّر العظماء من افتتاح كلامه بالضيق، وقتلوه. [3] ثم أتى برجل من أولاد كسرى كان لجأ إلى موضع من المغرب قريب من نصيبين يقال له: «حصن الحجارة» حين قتل شيرويه بن كسرى، يقال له: فرّخ باذخسرو [4] فانقاد له الناس طوعا زمنا يسيرا، ثم استعصوا عليه وخالفوه [271] وكان   [1] . أنظر الطبري (2: 1065) . [2] . كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط قصبتها ميسان (مع) . [3] . وقتلوه بعد أن ملك أياما (الطبري 2: 1067) . [4] . يذكر هذا الإسم هنا في ثلاثة مواضع. ففي مط: فرخ باذ خسرو، فرخ زاد خسرو، خره داد خسرو، في الطبري (2: 1066) : فرخ زاد خسروا (في المواضع الثلاثة) . وأما عند البيروني وحسب الجداول الأربعة: فرخ زاد خسرو، خرّه زاد خسرو، خره داذ خسرو، فرخزاد خسرو (ص 112- 128) - وأما في الأصل فكما يراه القارئ. لأننا آثرنا إثباتها كما هي مع العلم بأنّ الصحيح هو أحد هذه الأشكال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ملكه ستة أشهر، وكان أهل إصطخر ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز بإصطخر، قد هرب إليها حين قتل شيرويه إخوته، فلمّا بلغ عظماء إصطخر أنّ من بالمدائن خالفوا فرّخ زادخسرو، أتوا بيزدجرد بيت نار يدعى: «بيت نار أردشير» ، فتوّجوه هناك وملّكوه وكان حدثا. ثم أقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا «خرّه داد خسرو» بحيل احتالوها له وساغ الملك ليزدجرد. ملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز فملك يزدجرد. غير أنّ ملكه كان عند ملك آبائه كالخيال وكالحلم، وكانت العظماء والوزراء يدبّرون ملكه لحداثة سنّه، وكان أشدّهم نباهة في وزرائه [1] وأذكاهم رئيس الخول [2] . وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليه أعداؤه من كلّ وجوه، وتطرّفوا [3] بلاده، وأخربوا منها، وغزت العرب بلاده بعد أن مضى من ملكه ثلاث أو أربع سنين، [272] وكان عمره كلّه إلى أن قتل بمرو عشرين سنة. وله أحاديث وسير، سنذكرها بعد فراغنا من الأحوال التي تمّت من جهة الرأى والتدبير في أيام النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم- والخلفاء من بعده، إلى أن يتصل بذكر يزدجرد، وما كان منه [4] .   [1] . في الأصل: «وزارته» وما أثبتناه من مط والطبري. [2] . الخول: عطية الله من النعم، والعبيد، والإماء، وغيرهم من الأتباع والحشم. [3] . في الطبري أيضا: تطرّفوا. مط: تطرّقوا. [4] . أنظر الطبري 2: 1067. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عصر النبىّ - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ممّا جرى في غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تدابيره البشرية في غزوة الخندق فممّا جرى في غزوات رسول الله- صلّى الله عليه- من التدابير البشرية والحيل الإنسانية [1] ما كان منه- عليه السلام- في غزوة الخندق. وذلك أنّ النبي- صلى الله عليه- لمّا أجلى اليهود من بنى النضير عن ديارهم، اجتمع رؤساؤهم، وفيهم سلام بن أبى الحقيق وحيىّ بن أخطب وغيرهما، فقدموا مكّة، ودعوهم إلى حرب رسول الله- صلّى الله عليه- وحزّبوا الأحزاب التي ذكرها الله تعالى وطمعوا في استيصال النبىّ- صلّى الله عليه- فنشطت قريش لذلك، وتذكّروا أحقادهم ببدر، فخرجوا وقائدهم أبو سفيان بن حرب. وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن [273] بن حذيفة بن بدر، وبنو فزارة [2] وغيرهم من الأحزاب. فأشار سلمان على رسول الله- صلّى الله عليه- لمّا رآه يهمّ بالمقام بالمدينة، ويدبّر [3] أن يتركهم [4] حتّى يردوا، ثمّ يحاربهم على المدينة وفي طرقها، أن   [1] . فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: «شيء تحبّ أن نصنعه، أم شيء أمرك الله به، أم شيء تصنعه لنا؟» قال: «بل [أصنعه] لكم، والله ما أصنع ذلك إلّا أنّى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ... » (الطبري 3: 1474، ابن الأثير 2: 181) . [2] . مط: بنو قراوة. [3] . مط: بدو! [4] . مط: بتركهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 يخندق. ففعل ذلك، ووردت قريش بعددها وعدّتها، ووردت الأحزاب، وكثر الناس والأعداء على رسول الله- صلى الله عليه- وكان قد وادع بنى قريظة وهم أصحاب حصون بالمدينة، وصاحب عقدهم وعهدهم كعب بن أسد القرظىّ. احتيال حيىّ بن أخطب لكعب بن أسد فاحتال حيىّ بن أخطب لكعب بن أسد، حتى وصل إلى حصنه، فأغلق كعب دونه باب الحصن، وقال: - «بيني وبين محمّد عقد، ولن أنقض ما بيني وبينه.» قال: «افتح الباب أكلّمك.» فقال: «ما أنا بفاعل.» فقال: «والله إن أغلقت دوني الباب إلّا على جشيشتك [1] أن آكل معك منها.» فأحفظ [2] الرجل حتى فتح له. فقال: - «ويحك يا كعب! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنختهم بالمدينة. وجئتك [274] بغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني ألّا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه.» فتأبّى كعب، ولم يزل به، يفتله [3] في الذروة والغارب، حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا أن يكون معه. ونقض كعب ما بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه- وبرئ مما كان عليه له [4] .   [1] . الجشيشة: طعام مطبوخ من الحنطة المطحونة طحنا جليلا، بلحم أو تمر. [2] . أحفظه: أغضبه. [3] . مط: يقبله! قوله: «لم يزل به يفتله في الذروة والغارب» أى ما زال يخادعه ويتلطّفه حتى أجابه. وأصله أن الرجل إذا أراد تأليف البعير الصعب يمرّ يده عليه ويمسح غاربه ويفتل وبره حتى يستأنس ويوضع فيه الزمام (أيام العرب: 60) . [4] . مط: عليه وله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فلما صحّ عند رسول الله- صلى الله عليه- ذلك، ضاق ذرعا وخشي أن يفتّ ذلك في أعضاد المسلمين. فعظم البلاء، واشتدّ الخوف، وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ونجم النفاق من المؤمنين، وكثر الخوض. [1] ما كان من نعيم بن مسعود من تخذيل وخداع وأقام رسول الله- صلى الله عليه- وأصحابه في ما وصف الله من الخوف والشدّة، لتظاهر الأعداء عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى أتاه نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف [2] بن ثعلبة الغطفاني مسلما، فقال: - «يا رسول الله، إنّى قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامى، فأمرنى بما شئت، أنته إليه.» فقال رسول الله [275]- صلى الله عليه-: - «إنّما أنت رجل واحد فينا، وإنّما غناؤك [3] أن تخذّل [4] عنّا ما استطعت، وعليك بالخداع، فإنّ الحرب خدعة.» فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بنى قريظة وكان نديما لهم، فقال: - «يا بنى قريظة، قد عرفتم ودّى إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم.» قالوا: «صدقت، لست عندنا بمتّهم.» فقال لهم: - «إنّ قريشا وغطفان ومن التفّ معهم، جاءوا لحرب محمد، فإن ظاهرتموهم   [1] . الخوض: التفاوض في الحديث. [2] . مط: أسف. [3] . غناؤك: نفعك وكفايتك. [4] . مط: تخدل. تخذّل عنّا: أى تدخل بينهم حتى يخذل بعضهم بعضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عليه، فليسوا [كهيئتكم] [1] ، وذاك أنّ البلد بلدكم، به أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحوّلوا إلى غيره. فأمّا قريش وغطفان فإنّ أموالهم وأبناءهم ونساءهم ببلاد غير بلادكم، فإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل، والرجل [2] ببلادكم لا طاقة لكم به إن [3] خلا بكم فلا تقاتلوا القوم حتّى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه [4] .» قالوا: «لقد أشرت علينا [276] برأى ونصح.» ثمّ خرج حتى أتى قريشا. فقال لأبى سفيان بن حرب ومن معه: - يا معشر قريش! قد عرفتم ودّى إيّاكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت حقّا علىّ أن أبلغكم، نصحا لكم، فاكتموا علىّ.» قالوا: «نفعل.» قال: «اعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما صنعنا [5] ، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين: من قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم وكبرائهم ونعطيكم [6] فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك [7] على من بقي منهم. فإن بعثت إليك [8] يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.» فوقع ذلك من القوم.   [1] . مط: كهيئاتهم، وفي بعض الأصول: فليسوا مثلكم. ابن الأثير (2: 183) : ليسوا كأنتم. في الأصل: «كهيئتهم» وصححناها كما في الطبري 3: 148. [2] . والرجل: غير موجود في مط. [3] . في الأصل: وإن. والواو ليست لا في مط ولا في الطبري. [4] . مط: تناجزوه. المناجزة: المنازلة والمقاتلة. [5] . وفي الأصل: «ما صنعوا» وما أثبتناه من مط. [6] . مط: ونعطيك إياهم. [7] . مط: معكم. [8] . مط: تبعث إليكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وخرج حتّى أتى غطفان. فقال: - «يا معشر غطفان! أنتم أصلى وعشيرتي، وأحبّ الناس إلىّ، ولا أراكم تتّهمونى.» قالوا: «صدقت.» قال: «فاكتموا علىّ.» قالوا: «نفعل.» ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذّرهم مثل ما حذّرهم. اتّفاق جيّد فكان من الاتّفاق الجيّد [277] أن أرسل بعد ذلك أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل في نفر من قريش وغطفان. فقال لهم: - «إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر [1] ، فاغدوا [2] للقتال حتّى نناجز محمدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه.» فأرسلوا إليه: - «إنّ اليوم السبت- وكان اتّفق ذلك- وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، ومع ذلك فلسنا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتّى نناجز محمدا، فإنّا نخشى- إن ضرستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال- أن تشمّروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد.» فلمّا رجعت الرسل بالذي قالت بنو [3] قريظة، قالت قريش وغطفان: - «والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ.» فأرسلوا إلى بن قريظة: - «إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا. فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.»   [1] . الخفّ والحافر: الإبل والخيل (لع) . [2] . في الأصل: «فأعدّوا» في مط والطبري: فاغدوا. [3] . «بنو» : سقطت من الأصل ومط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فقالت بنو قريظة [1] حين أدّت إليهم الرسل: - «إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود [278] لحقّ. ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا. فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا [2] إلى بلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل.» فأرسلوا إلى القوم: - «إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا.» وتخاذل القوم. واتّهم بعضهم بعضا، وذلك في زمن شات [3] وليال باردة كثيرة الرياح تطرح [4] أبنيتهم، وتكفأ [5] قدورهم. وضاق ذرع القوم وبلغ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- اختلاف القوم وما هم فيه من الجهد. فدعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا. فذهب حذيفة بن اليمان، حتّى دخل في القوم. قال حذيفة: فذهبت فرأيت من الرياح أمرا هائلا لا يقرّ لهم نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان ابن حرب، فقال: - «يا معشر قريش، لينظر امرؤ جليسه.» قال: فبادرت وأخذت بيد الرجل الذي إلى جانبي، فقلت: «من أنت؟» قال: «أنا فلان بن فلان.» ثم قال أبو سفيان: - «إنكم يا قوم ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع [6] والخفّ، وأخلفتنا [279] بنو قريظة، وبلغنا عنهم ما نكره، ولقينا من الجهد والشدّة وهذه الريح ما   [1] . وفي الأصل: «بنو قريظ» وما أثبتناه يوافق مط. [2] . مط: تشمّروا. [3] . شتا اليوم، أو الشتاء: اشتدّ برده. [4] . مط: طرح. [5] . تكفأ: تقلب. [6] . الكراع: الخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ترون. فارتحلوا، فإنّى مرتحل.» ثم قام إلى جمله، وقام الناس معه. وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانصرفوا إلى بلادهم، وتفرّق ذلك الجمع من غير قتال، إلّا ما كان من عدّة يسيرة اتّفقوا على الهجوم على الخندق، يحكى أن فيهم عمرو بن عبد ودّ، فقتلوا. أما عمرو فقتله علىّ بن أبى طالب مبارزة لما اقتحم [1] عليه الخندق. وانتقض ذلك الجمع والتدبير كلّه. ومن ذلك ما كان يوم حنين وفيه ذكر لدريد بن الصّمّة وبعض آرائه ومن ذلك أنّه لما افتتح رسول الله- صلى الله عليه- مكّة، وأقام خمسة عشر يوما، جاءت هوازن وثقيف لمحاربته، فنزلوا بحنين. وذاك أنّهم كانوا قبل ذلك قد جمعوا له حين سمعوا بمخرجه من المدينة، وظنّوا أنه يريدهم. فلمّا قصد مكّة أقبلوا عامدين إليه، ومعهم الأموال والنساء والصبيان، ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف. وأقبلت معهم ثقيف، ونصر [2] ، وجشم. [280] ولم يشهد معهم من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم دريد بن الصمّة [وهو] [3] شيخ كبير، لا شيء فيه إلّا أنّهم يتيمّنون برأيه ومعرفته بالحرب ودربته بها. فلما نزل بأوطاس، اجتمع الناس إلى رئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمّة يقاد به وهو في شجار له. فقال: - «بأىّ واد أنتم؟» قالوا: «بأوطاس.»   [1] . كذا في مط: «اقتحم عليه الخندق» . (أنظر: الطبري 3: 1475) . [2] . مط: مضر! [3] . ما بين [] تطلّبه السياق فزدناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 قال: «نعم، مجال الخيل، لا حزن [1] ضرس، ولا سهل دهس [2] . ما لي أسمع رغاء [3] البعير، ونهاق الحمير، ويعار [4] الشاء، وبكاء الصغير؟» فقالوا له: «ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم.» فقال: «أين مالك؟» فدعى له، فقال: - «يا مالك، إنّك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟» قال: «سقت مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم.» قال: «ولم؟» قال: «أردت أن أجعل خلف كلّ رجل أهله وولده وماله، ليقاتل عنهم.» قال: فأنقض [5] به. ثم قال: - «راعى ضأن [281] والله. ويحك! هل يردّ المنهرم شيء؟ إنّها إن كانت لك، لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟» قالوا: «لم يشهدها منهم أحد.» قال: «غاب الجدّ والحدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب. فمن شهدها منكم؟»   [1] . الحزن من الأرض ما غلظ وخشن. والضرس منها ما فيه الحجارة كأنها أضراس. [2] . الدهس والدهس: المكان اللين ليس برمل ولا تراب ولا طين (لع) . [3] . الرغاء: صوت الإبل. [4] . وفي مط والأصل: النعار، وهو تصحيف وما أثبتناه هو من سائر الأصول، اليعار: صوت الغنم أو المعزى وقيل: الشديد من أصوات الشاء (لع) ، والنعار: التصويت بالخيشوم. [5] . فأنقض به: زجره، من الانقاض، وهو أن تلصق لسانك بالحنك الأعلى، ثم تصوت في حافتيه من غير أن ترفع طرفه عن موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قالوا: «عمرو بن عامر، وعوف بن عامر.» قال: « [ذانك] [1] الجذعان من بنى عامر لا ينفعان ولا يضرّان. يا مالك إنّك لن تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم [2] ، ثمّ الق هؤلاء الصبّاء [3] على متون الخيل، فإن كانت لك، لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك قد أحرزت أهلك ومالك.» قال: [والله لا أفعل ذلك، إنّك قد كبرت وكبر علمك] [4] ، والله لتطيعنّى يا معشر هوازن، أو لأتّكئنّ على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري» . وكره أن يكون فيها لدريد ذكر ورأى. فقال دريد: «هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.» يا ليتني فيها جذع [282] ... أخبّ فيها وأضع [5] أقود وطفاء الزّمع ... كأنّها شاة صدع [6] وكان دريد رئيس قومه بنى جشم وسيّدهم وأوسطهم مع شجاعته ودربته وتجاربه، ولكن السنّ أدركته حتى فنى. ثم قال مالك للناس:   [1] . في النص وفي مط: «ذلك» وهو خطأ. وما أثبتناه من الطبري. [2] . مط: وعلياء قريهم. [3] . الصبّاء: جمع الصابئ. يريد المسلمين، كانوا يسمونهم بهذا الاسم لأنهم عندهم صبئوا عن دينهم، أى خرجوا من دين الجاهلية إلى الإسلام (العقد الفريد 1: 133- الحاشية) . [4] . تكملة من الطبري والعقد. [5] . الجذع: الشاب، أخبّ: أعدو، أضع: أسرع في سيرى. [6] . الوطفاء: الطويلة الشعر، والزمع: الشعر الذي فوق مربط قيد الدابة، يريد فرسا صفتها هكذا، والشاة (هنا) : الوعل، والصدع من الأوعال والظباء والحمر: الفتى الشاب القوى (العقد 1: 133- الحاشية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 - «إذا رأيتم القوم فاكسروا جفون [1] سيوفكم، وشدّوا شدّة رجل واحد عليهم.» فلمّا استقبل خيل رسول الله، صلّى الله عليه- وكان يومئذ اثنى عشر ألفا، منهم عشرة آلاف فتحوا مكة، وألفان ممن أسلم وانضاف إليهم بوادي حنين- انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف، إنّما ينحدرون [2] فيه انحدارا، وذلك في عماية [3] من الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي [4] ، فكمنوا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وتهيّئوا وأعدّوا. فما راع خيل رسول الله- عليه السلام- وهم منحطّون، إلّا الكتائب، قد شدّت عليهم، فانشمروا [5] لا يلوى أحد على أحد. وانحاز رسول الله- صلى الله عليه- ذات اليمين وصاح: - «أيّها الناس، أين؟ هلمّوا إلىّ، أنا رسول الله، [283] أنا محمد بن عبد الله.» وبقي مع النبىّ- صلى الله عليه- نفر من أهل بيته، فيهم علىّ بن أبى طالب، والعباس، وابنه الفضل، وجماعة من المهاجرين [6] . فقال رسول الله- صلى الله عليه- للعباس: - «اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة [7] .» فأجابوه من كل ناحية وحملوا على الناس فكانت إيّاها. [8] وقتل علىّ بن أبى طالب- عليه السلام- صاحب الراية، وقتل خيل مالك بن عوف كلّ مقتلة، وغنم المسلمون تلك الأموال، وسبوا النساء والأولاد، وقتل دريد. وكان عدّة السبي يومئذ من هوازن ستّة آلاف من النساء والأولاد. فلمّا قدمت وفود هوازن على النبىّ- عليه السلام- مسلمين، أعتق لهم   [1] . الجفون: جمع الجفن والجفن، أى: الغمد. [2] . مط: انحدورا. [3] . في عماية من الصبح: في ظلام منه. [4] . مط: واد. [5] . انشمر: مرّ جادّا ومضى: هرب. [6] . وفي بعض الأصول: والأنصار. [7] . مط: الشجرة. والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان عام الحديبية. [8] . الضمير في «كانت» يرجع إلى «الحملة» المفهومة من «حملوا» أى كانت هي هي، وانتهى كلّ شيء (أنظر اللسان، «إيّا» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أبناءهم ونساءهم كلّهم، في حديث طويل. ومن ذلك ما كان بعد ظهور العنسىّ الكذّاب ومن ذلك: أنّه لما ظهر الأسود العنسي الكذّاب متنبّئا باليمن وحضرموت وصنعاء، حاربه شهر بن باذام [1] ، وكان رسول الله- صلى الله عليه- استخلفه بعد أبيه باذام على الأبناء [2] وعلى بعض أعمال [284] أبيه. فهزمه الأسود، وفرّق الأبناء عنه، وظفر به بعد، فقتله وغلب على صنعاء، وهرب عمّال رسول الله- صلى الله عليه- وجعل أمر الأسود الكذّاب يعلو ويستطير استطارة الحريق. وكان جعل عمرو بن معديكرب خليفته في مذحج بعد أن ارتدّ عمرو، وجعل أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي ودادويه، وكان شهر قد تزوّج بنت عمّ فيروز، وكانت جميلة، فلمّا قتل شهر تزوّج بها الأسود. فأنفذ رسول الله- صلى الله عليه- إلى فيروز، وإلى جشنس، وغيره من الأبناء يأمرهم بالقيام على دينهم، وأن ينهضوا في الحرب والعمل في الأسود، إما غيلة وإمّا مصادمة. فألقى كتاب [3] رسول الله- صلى الله عليه- إلى أصحابه، تغيّر [4]   [1] . مط: بالخام! وباذام (باذان) كان عامل كسرى على اليمن وأسلم في السنة العاشرة من الهجرة. [2] . الأبناء: أبناء فارس، أو أبناء اليمن، اسم أطلق على أخلاف جنود الفرس الذين بعثهم أنوشروان إلى اليمن، ليدفعوا الأحباش من الساحل الجنوبي للجزيرة العربية، ثم أقاموا في اليمن بأمر من أنوشروان. [3] . غير واضح في الأصل وفي مط أيضا. [4] . مط: «بغير» ! وفي الطبري: قال عبيد الله عن جشيش بن الديلمي (كذا) قال: قدم علينا وبر بن يحنّس بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا فيه بالقيام على ديننا والنهوض في الحرب والعمل في الأسود إمّا غيلة وإمّا مصادمة، وأن نبلغ عنه من رأينا أن عنده نجدة ودينا. فعملنا في ذلك، فرأينا أمرا كثيفا ورأيناه قد تغيّر لقيس بن عبد يغوث وكان على جنده، فقلنا: يخاف على دمه، فهو لأوّل دعوة، وأنبأناه الشأن وأبلغناه عن النبىّ - صلى الله عليه وسلم - فكأنما وقعنا عليه من السماء وكان في غمّ وضيق، فأجابنا إلى ما أحببنا..» (الطبري 4: 1856) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الأسود لقيس بن عبد يغوث. فقال أصحاب [1] رسول الله- عليه السلام-: - «إنّ قيسا يخاف على دمه، وهو لأوّل دعوة، فهلمّ ندعوه [2] .» فاجتمعوا لذلك [285] ثم دعوه، وأبثّوه أمرهم، وأبلغوه عن النبىّ- صلّى الله عليه- وكأنّما وقعوا عليه من السماء، لأنّه كان في غمّ وضيق بأمره، فأجابهم إلى ما أحبّوا. ثمّ إنّ عامر بن شهر بن باذام [3] اعترض [4] في قوم منهم: ذو مرّان، وذو الكلاع، وذو ظليم. فكاتبوا أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- وبذلوا لهم النصر. وكان النبىّ- صلى الله عليه- قد كاتبهم، فكان أصحاب النبىّ في سرّ قد اتّفقوا عليه، فأجابوا القوم بالتوقّف. وذاك أنّ الأمر كان استتبّ للأسود واستفحل، فهابوه هيبة شديدة. ثمّ إنّه دخل جشنس الديلمي على آزاذ- وهي امرأة الأسود التي خلف عليها شهر بن باذام- فقال: - «يا ابنة عمّ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك. قتل زوجك وطأطأ [5] في قومك القتل، وسفك بالإباحة [6] دماء من بقي منهم، وفضح النساء، فهل عندك   [1] . مط: «فقال رسول الله» بدون «أصحاب» . [2] . والكلمة مهملة في كلتا النسختين وقرأناها حسب السياق. [3] . مط: «بالخام» وهو خطأ. [4] . وفي الطبري: ... إذ جاءنا اعتراض ذى زود، وذى الكلاع، وذى ظليم عليه، وكاتبونا وبذلوا لنا النصر ... (4: 1857) . [5] . طأطأ في قتلهم: بالغ فيه. [6] . مط: بالاجابة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ممالأة [1] عليه؟» فقالت: «وعلى أىّ أمره؟» قال جشنس: فقلت: «إخراجه.» فقالت: «أو قتله؟» قلت: [286] «أو قتله.» قالت: «نعم. والله، ما خلق الله شخصا أبغض إلىّ منه، ما ينتهى عن حرمة لله [2] . فإذا عزمتم فأعلمونى أخبركم بمأتى هذا الأمر.» قال جشنس: فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظرانى، وإذا قيس قد دعاه الأسود، فدخل إليه في عشرة من مذحج وهمدان. فقال له الأسود: «يا قيس! ألم أفعل بك، ألم أصنع؟» يعتدّ عليه بنعمته. فقال: «بلى.» قال: «فإنّه يقول- يعنى الشيطان الذي معه-: - «إنّ قيسا على الغدر بك، إيه، يا سوءة، يا سوءة، إلّا تقطع من قيس يده، يقطع قنّتك العليا.» حتى ظنّ أنه قاتله. فقال: - «كذبك وذى الخمار، فإمّا قتلتني، فإنّها موتة مريحة أهون علىّ من موتات أموت بها كلّ يوم، خوفا وفرقا، وإمّا صدّقتنى. فوالله لأنت أهيب وأجلّ في نفسي، من أن أحدّثها بغدر لك.» فرقّ له، وأخرجه.   [1] . الممالأة: المعاونة والمساعدة. [2] . في الطبري: ما يقوم لله على حقّ، ولا ينتهى له عن حرمة (4: 1858) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قال: فخرج قيس علينا وطوانا، غير أنّه قال: [287]- «اعملوا عملكم.» ثمّ خرج الأسود علينا، فقمنا مثولا بين يديه بالباب، فقال: - «يا فيروز، أحقّ ما بلغني عنك؟ - وهيّأ له الحربة- لقد هممت أن أنحرك.» فقال فيروز: - «اخترتنا أيّها الملك لصهرك، وفضّلتنا على الأبناء، ولو لم تكن نبيّا ما بعنا نصيبك ونصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة وأولى، لا تقبلنّ علينا أمثال ما يبلغك، فإنّا بحيث تحبّ.» ثمّ ذبح الأسود مائة من بين بقرة وبعير غير محبّسة ولا معقّلة، بحربته، وقال لفيروز: - «اقسم هذه، فأنت أعلم بمن هاهنا.» قال فيروز [1] : ففعلت هذا ولحقته قبل أن يصل إلى داره، فإذا رجل يسعى إليه بى، فأستمع له وهو يقول: - «أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد علىّ.» ثمّ التفت فإذا هو بفيروز، فقال: - «مه؟»   [1] . وفي الطبري مكان «قال فيروز» إلى «بعزيمتنا» : «فاجتمع إلىّ أهل صنعاء، وجعلت آمر للرهط بالجزور، ولأهل البيت بالبقرة، ولأهل النخلة بعدّة، حتى أخذ كلّ ناحية بقسطهم. فلحق به قبل أن يصل إلى داره وهو واقف على رجل يسعى إليه بفيروز. فاستمع له، واستمع له فيروز وهو يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه فاغد علىّ. ثم التفت فإذا به. فقال: مه! فأخبره بالذي صنع. ثم ضرب دابته داخلا. فرجع إلينا. فأخبرنا الخبر. فأرسلنا إلى قيس فجاءنا، فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأة، فأخبرها بعزيمتنا ... » (الطبري 4: 60- 1859) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قال: «قد قسمتها كما أمرتنى.» قال: «أحسنت» . وضرب دابّته ودخل. فرجع فيروز إلى أصحابه، فأخبرهم بالخبر. قال جشنس: فأرسلنا إلى قيس فجاءنا. فاجتمع [288] ملؤهم أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا لتشير علينا برأيها. فأتيت المرأة وقلت: - «ما عندك؟» قالت: «هو متحرّز محترس، وليس من القصر شيء إلّا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإنّ ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه، فإنّكم من دون الحرس، وليس دون قتله شيء.» وقالت: «إنّكم ستجدون فيه سلاحا وسراجا وهو علامة لكم.» فخرجت من عندها وتلقّانى الأسود خارجا من بعض منازله، فقال: - «ما أدخلك علىّ؟» ووجأ رأسى حتى سقطت، وكان شديدا، وصاحت المرأة- فأدهشته عنّى، ولولا ذلك لقتلني- وقالت: - «ابن عمّى جاءني زائرا، فقصّرت بى.» فقال: «اسكتي لا أبا لك! فقد وهبته لك.» فتحاملت وأتيت أصحابى فقلت: - «النجاء، الهرب.» وأخبرتهم الخبر. فإنّا على ذلك حيارى إذا جاءني رسولها يقول: - «لا تدعنّ ما فارقتك عليه، فإنّى لم أزل به حتى اطمأن [289] واعتذر.» فقلنا لفيروز: «ايتها وتثبّت، فأمّا أنا فلا سبيل لى إلى الدخول بعد النهى.» ففعل. وكان فيروز أفطن منّا، فلما أخبرته الخبر قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 - «وكيف ننقب [1] على بيوت مبطّنة الأبواب؟ ينبغي لنا أن نقلع بطانة الباب.» فدخلا، فاقتلعا البطانة، ثمّ أغلقاه وجلسا عندها كالزائر. فدخل عليها فاستخفّته غيرة، وأخبرته برضاع وقرابة مثلها [2] محرّم. فصاح به وأخرجه وجاء بالخبر. فلمّا أمسينا عملنا في أمرنا وقد كنّا واطأنا أشياعنا، ولكن عجّلنا عن مراسلتهم. فنقبنا البيت من خارج، ثمّ دخلناه، وفيه سراج تحت جفنة [3] ، واتّقينا بفيروز لأنّه كان أنجدنا وأشدّنا، فقلنا: - «انظر ماذا ترى وأين موضعه؟» فدخل ونحن بينه وبين الحرس الذين معه في مقصورته. فلمّا دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا، فإذا المرأة جالسة. فلمّا قام على الباب فتح عينيه فقال أيضا: - «ما لي ومالك يا فيروز!» فخشي أن يرجع لأخذ السلاح وإعلامنا فنهلك وتهلك المرأة. فعاجله- وكان مثل الجمل- فأخذ برأسه فدقّ [عنقه] [4] [290] ووضع ركبته في ظهره فدقّه، ثم قام ليخرج. فأخذت بثوبه وهي ترى أنّه لم يقتله، وقالت: - «أين تدعني؟» قال: «لا بأس، أخبر أصحابى وأعود معهم.» فأتانا وقمنا معه فأردنا حزّ رأسه. فتحرّك واضطرب فلم نضبطه، فقلت: - «اجلسوا على صدره.» فجلس الإثنان على صدره وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة، فألجمته   [1] . مط: «ينقب» . [2] . في الطبري: منها. [3] . نقطة الجيم غير واضحة. فتقرأ «جفنة» و «حفنة» مط: «حفته» ! وما أثبتناه يؤيده الطبري. [4] . في الأصل: فدقّ، في مط: فدقة. و «عنقه» من ابن الأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 بميلاة [1] ، وأمرّ الشفرة على حلقه، فخار كأشدّ خوار من ثور سمعته قطّ. فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة: - «ما هذا، ما هذا؟» فقالت المرأة: «النّبى يوحى إليه، اهدأوا!» [فخمد [2]] . ثم سهرنا [3] ليلتنا ونحن نأتمر: كيف نخبر أشياعنا ليس [4] غيرنا ثلاثتنا: أنا وفيروز وقيس. فأجمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا، ثم ننادي الأذان. فلما طلع الفجر فعلنا ذلك، فتجمّع الحرس فناديتهم: - «أشهد أنّ محمدا رسول الله وأنّ عبهلة كذّاب.» وألقينا إليهم برأسه، وخلصت صنعاء والجند [5] ، وأعزّ الله الإسلام، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- إلى أعمالهم [291] فاصطلحوا على معاذ، فكان يصلّى بنا. وكتبنا إلى رسول الله- صلى الله عليه- بالخبر، وذلك في حياته فقدمت رسلنا وقد مات النبىّ- صلى الله عليه- صبيحة الليلة التي فتكنا فيها بالأسود فأجابنا أبو بكر رضى الله عنه. أسماء كتّاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان علىّ بن أبى طالب وعثمان بن عفّان يكتبان الوحى، فإن غابا كتبه أبىّ بن   [1] . مط: ميلاه. المئلاة: خرقة الحائض: الخرقة تمسكها النائحة وتشير بها. [2] . في الأصل ومط: «فحمد» بالهاء المهملة. في الطبري: «فخمد» بالخاء المعجمة. وما لا يناسب السياق: «فخمدوا» كما في ابن الأثير 2: 340. [3] . «سهرنا» من مط. وفي الأصل «شمّرنا» . شمّر للشيء: تهيّأ، وفي الطبري: «سمرنا» أى: لم ننم وتحدثنا ليلا. [4] . مط: «ليس ثلاثتنا» وما أثبتناه يوافق الطبري (4: 1862) . [5] . أعمال اليمن في الإسلام مقسومة على ثلاثة ولاة: فوال على الجند ومخاليفها، ووال على صنعاء ومخاليفها، ووال على حضرموت ومخاليفها (يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يشهد هؤلاء كتبه سائر الكتّاب، وهم: عمر بن الخطّاب، وطلحة، وخالد بن سعيد، ويزيد بن أبى سفيان، والعلاء الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن أبى سرح، وحويطب بن عبد العزّى، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية، وعثمان، وأبان: ابنا سعيد، وحاطب بن عمرو، وجهيم بن الصلت. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان بين الناس وينوبان عن خالد ومعاوية، إذا غابا. وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب [292] إلى الملوك عن النبي- عليه السلام. وكان زيد بن ثابت مع ما يكتبه من الوحى، يكتب إلى الملوك، وكان يحسن بالفارسية وبالرومية وبالحبشية. وكان حنظلة بن الربيع خليفة كلّ كاتب من كتّاب النبىّ- عليه السلام- غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب من بينهم. وكان النبىّ- عليه السلام- يضع عنده خاتمه، وقال له: - «الزمنى وأذكرنى بكلّ شيء لثالثة.» فكان لا يأتى على مال ولا حاجة ثلاثة أيام إلّا ذكّره به، فلا يبيت- عليه السلام- وعنده منه شيء. فأمّا عبد الله بن سعد بن أبى سرح، فإنّه ارتدّ بعد كتابته للنبيّ- عليه السلام. وكان يتكلّم، فسمعه رجل من الأنصار، فحلف بالله: لئن أمكنه الله منه ليضربنّه بالسيف. فلمّا كان يوم فتح مكة، جاء به عثمان- وكان بينهما رضاع- فقال: - «يا رسول الله، هذا عبد الله، أقبل تائبا.» فأعرض عنه، والأنصارى حاضر بيده السيف. فأعاد عليه عثمان القول، فأعرض عنه. فلمّا أعاد الثالثة مدّ- صلى الله عليه- يده، فبايعه وقال للأنصارى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 - «لقد تلوّمت [1] أن توفّى بنذرك.» فقال: «فهلّا [293] أو مضت [2] إلىّ؟» فقال: «إنّه لا ينبغي للنبيّ أن يومض.»   [1] . تلوّم على الأمر وفيه: تلبّث عليه وانتظر وتمكّث (مو) . [2] . أومض: أومأ. أشار إشارة خفيّة رمزا أو غمزا. أو مضت المرأة: سارقت النظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 مما حدث في خلافة أبى بكر ومن صرامة الرأى وحصافته ما كان من أبى بكر رضى الله عنه وذلك أنّه لمّا مات النبي- صلى الله عليه- ارتدّت العرب واضطرمت الأرض واشتغل الناس بالمرتدّين وتروخى [1] عن مسيلمة وطليحة. فاستغلظ أمرهما وارتدّت من كل قبيلة عامّة وخاصّة إلّا قريشا وثقيفا. فتشدّد أبو بكر وكان فيه لين، إلّا أنّه حزم وحصف وخالف الناس، وكانوا أشاروا عليه بالمقاومة. وذلك أنّ أسامة بن زيد كان غائبا بالجيش الذي جهّزه رسول الله- عليه السلام- معه إلى حيث قتل فيه أبوه زيد، وكان أهل المدينة في قلّة، وكان طليحة قد قوى بأسد وغطفان وطيّء. فبعثوا وفودا إلى أبى بكر- رضى الله عنه- من كلّ قبيلة، ونزلوا على وجوه الناس على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فجرّد أبو بكر العزيمة وقال: - «لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه.» [2] فرجعوا فأخبروا عشائرهم [294] بقلّة من [3] أهل المدينة وأطمعوهم فيها. فكان من حصافة أبى بكر أن جعل على أنقاب المدينة بعد خروج الوفد عليّا   [1] . في الطبري: وتوحّى مسيلمة وطليحة (4: 1871) . وتوحّى: أسرع. [2] . ويضيف الطبري هنا: وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة (4: 1872) . [3] . مط: بدون «من» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 والزبير وطلحة ونفرا معهم. وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد، وقال لهم: - «إنّ الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلّة، وإنّكم لا تدرون أليلا تؤتون، أم نهارا؟ وأدناهم منكم على بريد [1] وقد كان القوم يأملون أن نوادعهم، ونقبل منهم وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم [2] فاستعدّوا وأعدّوا.» فما لبثوا إلّا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارّة [3] مع الليل وخلّفوا ردءا [4] لهم بذي حسى، فوافوا الأنقاب [5] وعليها المقاتلة ودونهم أقوام [6] يدرجون. فنهنهوهم [7] وأرسلوا إلى أبى بكر بالخبر. فخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانهزموا واتّبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسى. فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها [8] بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحى في طوله [9] فنفرت الإبل إبل المسلمين وهم عليها، ولا تنفر [295] من شيء نفارها من الأنحاء. فعاجت بهم ما يملكونها [10] حتى دخلت بهم المدينة، إلّا أنّه لم يصرع مسلم ولم يصب، وظنّ القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى الناس بالخبر فقدموا عليهم أعمارا [11] . وبات أبو بكر ليلته يتهيّأ، فعبّى الناس، ثم خرج في تعبئته من أعجاز [12] ليلته يمشى، فما طلع الفجر إلّا وهم مع العدوّ في صعيد واحد. فما سمعوا لأحد من   [1] . البريد: الرسول، ثم استعمل في المسافة التي يقطعها بين كل منزلين وهي اثنا عشر ميلا (الأقرب) أنظر تعاليقنا على ص 53. [2] . نبذ إلى العدو: رمى إليه بالعهد. [3] . في مط والطبري (4: 1874) غارة. ويمكن أن نقرأ ما في الأصل «غارّه» أو «عارّه» . [4] . مط: أزدا. والردء: العون والناصر. [5] . الأنقاب: جمع مفرده النقب: الطريق في الجبل. [6] . مط: بدون «أقوام» . [7] . نهنهه: كفّه وزجره. نهنه الدابة: صاح به لتكفّ. [8] . دهدهه: دحرجه. تدهده: تدحرج. [9] . الطول: الحبل يربط في وتد ونحوه للدابة، فترعى مقيدة (مو) . [10] . في الأصل ومط: «ما يملكوها» . [11] . جاء عمرا: جاء بطيئا. في الطبري: اعتمادا في الذين. في حاشيته: اعتمارا في الدين. [12] . وفي الطبري: ثم خرج على تعبئة من أعجاز ليلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 المسلمين همسا ولا حسّا حتّى وضعوا فيهم السيوف. فما ذرّ [1] قرن الشمس حتّى ولّوهم الأدبار وغلبوهم على عامّة ظهرهم، وقتل رئيسهم حبال وكان صاحب طليحة، واتبعهم أبو بكر- فكان أول فتح- فلما بلغ ذا القصة وضع بها النعمان بن مقرّن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذلّ المشركون وعزّ المسلمون بوقعة أبى بكر- رضى الله عنه- فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كلّ قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم. فحلف أبو بكر ليقتلنّ في كل قبيلة قتلة من قتلوا وليزيدنّ وليفعلنّ وليصنعنّ [2] . فوفى بذلك، فازداد المسلمون ثباتا على دينهم وتفرّق [296] أمر المشركين، وطرقت المدينة صدقات صفوان والزبرقان وعدىّ. فاستبشر لذلك أبو بكر والمسلمون، وذلك لستّين يوما من خروج أسامة. ثم قدم أسامة واستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: «أريحوا واستريحوا.» ثم خرج بنفسه مع الذين كانوا على الأنقاب، فقال له المسلمون: - «ننشدك الله أن تعرّض نفسك، فإنّك إن تصب لم يكن للناس نظام. ومقامك أشدّ على العدوّ. فابعث رجلا إن أصيب أمّرت آخر.» فقال: «لا والله حتّى أواسيكم بنفسي.» فخرج في تعبئته إلى ذى القصة والنعمان وأصحابه على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق. فاقتتلوا، فهزم القوم وأخذ الحطيئة أسيرا، وطارت عبس وبنو بكر. فأقام أبو بكر على الأبرق أيّاما وقد غلب بنى ذبيان على البلاد، وقال: - «حرام على بنى ذبيان البلاد أن يطأوها بعد أن غنّمناها الله.»   [1] . فما ذرّ قرن الشمس: فما طلعت. [2] . مط: ولينصحنّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فلمّا غلب أهل الردّة ودخلوا فيما خرجوا منه، جاءت بنو ثعلبة ومن كان ينازلهم. فمنعوا منها فأتوه في المدينة [297] فقالوا: - «علام نمنع من لزوم بلادنا؟» فقال: «كذبتم، ليست لكم ببلاد.» عقد أحد عشر لواء لمحاربة أهل الردة ثمّ حمى بلاد الربذة كلّها لصدقات المسلمين وجاءت الصدقات الكثيرة. فلمّا أراح أسامة وجنوده ظهورهم وجمّوا، عقد أبو بكر أحد عشر لواء وقطع عليها البعوث: عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن قام له، وعقد لعكرمة بن أبى جهل وأمره بمسيلمة، وعقد للمهاجر بن أبى أمية وأمره بجنود الأسود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من اليمن عليهم، ثم يمضى إلى كندة بحضرموت، وعقد لخالد بن سعيد بن العاص وكان قدم من اليمن، وترك عمله، ولعمرو بن العاص إلى جمّاع قضاعة ووديعة والحارث، ولحذيفة بن محصن، وأمره بأهل دبا، ولعرفجة بن هرثمة، وأمره بمهرة، ولشرحبيل بن حسنة على قضاعة، ولطريفة بن حاجز، وأمره ببني سليم وهوازن، ولسويد بن مقرّن وأمره بتهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرمي، وأمره بالبحرين. ففصل الأمر من ذى القصّة وقد كتب لهم عهدهم، فلحق بكلّ أمير جنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 [298] وكتب إلى جميع المرتدّة كتبا بليغة بالإعذار والإنذار والترغيب والترهيب، ونفذت الرسل أمام الجنود بالكتب ونفذ خالد إلى طليحة، فهزمه وفضّ خيله. وكان طليحة ارتدّ في حياة رسول الله- صلى الله عليه- وادعى النبوّة. فوجه النبىّ- صلى الله عليه- ضرار بن الأزور عاملا على بنى أسد وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ فأشجوا طليحة وأخافوا ونقص أمره، حتى لم يبق إلّا أخذه سلما. سوى أنّه كان ضرب ضربة بالجراز، فنبا عنه. فشاعت في الناس وأتى المسلمين- وهم على ذلك- موت نبيّهم. وقال ناس: - «إنّ السلاح لا يعمل في طليحة.» فقوى أمره ونقص أمر المسلمين لذلك، حتى إنّهم قالوا عرفنا [1] ذلك في أنفسنا يوم ورد علينا الخبر بوفاة رسول الله- صلى الله عليه. وقام عيينة بن حصين بنصره، وقام في غطفان فقال: - «ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بنى أسد، وإنّى مجدّد الحلف الذي كان بيننا في الجاهلية، ومتابع [299] طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتبع نبيّا من قريش.» وقد مات رسول الله- صلى الله عليه- وبقي طليحة، فطابقوه على رأيه. فلمّا قوى أمر طليحة واستفحل، هرب ضرار وأصحاب النبي- صلى الله عليه- وطاروا كلّ مطار. قال ضرار بن الأزور: «فما رأيت أحدا- ليس رسول الله- أملأ لحرب شعواء من أبى بكر، لجعلنا نخبره ولكأنّما نخبره بما له، لا عليه.»   [1] . كذا في مط. وما في الأصل: عرقنا. وفي الطبري (4: 1892) : حتى عرفوا النقصان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 صرامة عمر وحصافته في هذا الوقت ومما ظهر من عمر- رضى الله عنه- في هذا الوقت صرامة وحصافة: أنّ عمرو بن العاص كان بعمان. فلمّا مات رسول الله- صلى الله عليه- أقبل حتى انتهى إلى البحرين، وسار في بنى تميم، وفي بنى عامر، حتّى قدم المدينة، فأطافت به قريش وسألوه. فأخبرهم أنّ العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم. وأخبرهم من اضطراب الإسلام وقوّة الأعداء ما كسرهم. فتفرّقوا وتحلّقوا حلقا. وأقبل عمر بن الخطاب يريد [300] التسليم على عمرو. فمرّ بحلقة وهم في شيء مما سمعوا من عمرو، وفي تلك الحلقة عثمان وعلىّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد. فلمّا دنا عمر منهم سكتوا. فقال عمر: «فيم أنتم؟» فلم يخبروه، فقال: «ما أعلمنى بالذي خلوتم له.» فغضب طلحة وقال: «يا ابن الخطاب أتخبرنا بالغيب؟» فقال: «لا يعلم الغيب إلّا الله، ولكن أظنّ أنكم قلتم: ما أخوفنا على قريش، من العرب وأخلقهم ألّا يقرّوا بهذا الأمر.» قالوا: «صدقت.» قال: «فلا تخافوا هذه المنزلة. أنا والله منكم على العرب أخوف منّى عليكم من العرب، والله لو تدخلون معاشر قريش جحرا [1] لدخلته العرب في آثاركم. فاتقوا الله فيهم.» ثمّ مضى عمر إلى أبى بكر واجتمع مع عمرو.   [1] . في مط: حجرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 إسلام طليحة بعد ارتداده وادّعائه النبوّة فأمّا طليحة، فإنّه لما هزم أصحابه، هرب حتى نزل على كعب على النقع [1] . فأسلم، ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر. وإنّما أسلم هنالك حتى بلغه أنّ أسدا وغطفان وعامرا قد أسلموا. فلمّا مات أبو بكر، [301] أتى [2] عمر للبيعة، فقال له عمر: - «أنت قاتل عكاشة وثابت، والله لا أحبّك أبدا.» فقال يا أمير المؤمنين، ما تنقم علىّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهنّى بأيديهما.» فبايعه عمر. ثم قال له خريم [3] : - «ما بقي من كهانتك؟» قال: «نفخة أو نفختان بالكير [4] .» ثم رجع إلى دار قومه، وأقام بها حتى خرج إلى العراق. ولما أعطى أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيئ بأيديهم على الإسلام، لم يقبل خالد من أحد منهم ولا من هوازن وسليم، إلّا على أن يأتوا بالذين حرقوا ومثّلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردّتهم. فأتوه بهم، فقتل منهم إلّا قرّة بن هبيرة ونفرا معه أو ثقتهم، ومثّل بالذين مثّلوا بالمسلمين، وأحرقهم بالنيران، ورضخهم [5] بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكّسهم في الآبار، وخرق بعضهم   [1] . مط: المنع. [2] . ما في الأصل غير واضح، فأثبتنا الكلمة كما في مط. [3] . مط: حريم. [4] . الكير: جهاز من جلد أو نحوه يستخدمه الحداد وغيره للنفخ في النار لإشعالها. [5] . رضخ النوى: كسره بالحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بالنبال، وكتب بخبرهم وما صنع، إلى أبى بكر. فكتب إليه أبو بكر: «ليزدك الله ما أنعم به عليك خيرا، فاتق الله، ولا تظفرنّ بأحد قتل المسلمين إلّا قتلته ونكلت به غيره، وإن كنت [302] أحييت ممّن حادّ الله وضادّه فاقتله.» فأقام خالد شهرا على بزاخة يصعّد ويصوّب ويرجع في طلب القوم، فمنهم من يحرق، ومنهم من يرضخه، ومنهم من يرمى به من الجبل. مكيدة للفجاءة تمّت عليه وقدم الفجاءة [1] بن إياس بن عبد ياليل على أبى بكر، فقال: - «أعنّى بسلاح، ومرني بما شئت، ومن شئت من أهل البادية.» فأعطاه سلاحا، وأمَره أمْره، فخالفه، وخرج، ونزل الجواء [2] ، وبعث نجبة بن أبى الميثاء [3] ، وأمره بالمسلمين، فشنّها [4] غارة على كلّ مسلم في سليم وهوازن، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إليه من حاربه بالجواء حربا شديدا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه من أسره وبعث به إلى أبى بكر، فأوقد له في مصلّى المدينة حطب كثير، ثم رمى به في النار مقموطا. قتل مسيلمة في حديقة الموت ومكيدة لمجّاعة على خالد ومن وجوه المكائد في الحرب أنّ خالدا لما مضى نحو اليمامة قاصدا مسيلمة، فضرب [بها] [5] عسكره، خرج أهل اليمامة مع المسيلمة. ثمّ التقى   [1] . وفي الأصل ومط: الفجأة. وما في الطبري «الفجاءة» (4: 1903) . [2] . مط: «وترك الحوى» . [3] . مط: «محة» في الطبري أيضا: نجبة وفي ابن الأثير (2: 350) : نجبة. [4] . كذا في النسختين والطبري. [5] . في الأصل ومط: به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الناس، ولم تلقهم حرب قطّ مثلها [303] من حرب العرب. فاقتتل الناس قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون، وخاضوا إلى فسطاط خالد، فزال خالد عنه، وأسلم امرأته أمّ تميم، فرعبلوا [1] الفسطاط بالسيوف. ثم إنّ المسلمين تداعوا وتبرّأوا إلى الله ممن انهزم، وجالدوا حتى قتل زيد بن الخطّاب وعدّة من خيار الناس، وخلصوا [2] إلى محكّم اليمامة [3] ، وكان سيّدا فيهم، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل، وزحف المسلمون، واشتدّ القتال. فكانت يومئذ سجالا إنّما يكون مرّة على المسلمين، ومرّة على الكافرين. واستحرّ القتال في المهاجرين والأنصار، وثبت مسيلمة، ودارت رحاهم عليه. فعرف خالد بن الوليد أنّها لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم. فبرز خالد حتّى إذا كان أمام الصفّ دعا إلى البراز، وانتمى وقال: - «أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد.» فجعل لا يبرز له أحد إلّا حطّمه وقتله. ودارت عليه رحى المسلمين فطحنت. ثم دنا خالد من مسيلمة، فدعاه مناديا بأعلى صوته [304] ليطلب غرّته [4] ، وذلك لما علم أنّ الحرب لا تزول إلّا بزواله، فأجابه مسيلمة. فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة، ثم قال له: - «إن قبلنا النصف، فأىّ الأنصاف تعطينا؟» فكان إذا همّ بجوابه، أعرض عنه مستشيرا شيطانه، فكان شيطانه ينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرّة من ذلك، فركبه خالد فأرهقه، فأدبر، وزالوا، فذمر خالد الناس، وقال: - «دونكم لا تقيلوهم.»   [1] . رعبل: قطع، مزّق. [2] . خلص إلى الشيء: وصل. [3] . وفي الطبري: خلّصوا إلى محكّم اليمامة وهو محكّم بن الطفيل (4: 1943) . [4] . فدعا مسيلمة طلبا لعورته (الطبري 4: 1948) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فاقتحموا حديقة الموت [1] ، فاقتحم الناس عليهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف، وقتل مسيلمة. قتله وحشىّ بحربته، وأعانه رجل من الأنصار. وكان خالد ظفر قبل هذه الوقعة بمجّاعة مع نفر معه كانوا خرجوا في سريّة لهم، وكان ظنّ أنّهم استقبلوه. فلمّا سألهم صدقوه. ولو عرفوا خبره لقالوا: إنّما استقبلناك، فسلموا. فعرضهم على السيف، فقتلهم عن آخرهم إلّا مجّاعة، فإنّه استحياه طمعا في الانتفاع به. فلمّا فرغ من قتل مسيلمة وأخبر به أخرج مجّاعة يرسف في الحديد ليدلّه على مسيلمة، [305] فجعل يكشف له القتلى حتّى مرّ بمحكّم اليمامة، وكان وسيما حسنا. فلما رآه خالد قال: - «هذا صاحبكم؟» قال: «لا، هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكّم اليمامة.» ثم مضى خالد يكشف له القتلى. فإذا رويجل أصفر [2] أخينس، فقال مجّاعة: - «هذا صاحبكم، قد فرغتم منه.» فقال خالد لمجّاعة: «هذا فعل بكم ما فعل.» قال: «قد كان ذلك يا خالد، وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان الخيل، وإن الحصون لمملوءة رجالا، فهلّم أصالحك على قومي.» يقول ذلك لرجل قد نهكته الحرب، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب، فقد رقّ، وأحبّ الدعة والصلح. فقال: «هلمّ أصالحك.» فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة [3] ونصف السبي. ثم قال: «فآتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت.»   [1] . والحديقة: بستان كان لمسيلمة الكذاب، كانوا يسمّونه: «حديقة الرحمان» ، وعنده قتل مسيلمة، فسمّوه: «حديقة الموت» (يا) . [2] . الطبري: أصيفر (4: 1949) . [3] . الحلقة: السلاح عامّة والدرع خاصّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قال: «انطلق إليهم.» فذهب وقال للنساء- وليس في الحصون إلّا النساء والصبيان ومن ليس به طرق [1] من الشيوخ: - «البسن الحديد، ثمّ أشرفن على الحصون، وانشرن شعوركنّ.» ثم كرّ نحو خالد وقال: - «أبوا [2] ما صالحتك عليه، ولكن صالحني على ربع السبي لأعزم [3] على [306] القوم.» قال خالد: «قد فعلت.» فسرّحه وقال: - «أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا ولم تقبلوا، لأنهدنّ إليكم، ثم لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل.» فكان خالد إذا نظر إلى الحصون رآها مملوءة الحيطان بالسلاح والسواد، فيراها رجالا وإنّما هي النساء. فلمّا رجع مجّاعة إليهم قال: «فأمّا الآن فاقبلوا.» ورجع إلى خالد، وقال: «بعد شرّ ما، قبلوا [4] ، اكتب كتابك.» فكتب: «هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة من مرارة وفلانا وفلانا، قاضاهم على الصفراء، والبيضاء، وربع السبي، والحلقة، والكراع، وحائط من كل قرية ومزرعة، على أن تسلموا، ثم أنتم آمنون بأمان الله ولكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمّة أبى بكر خليفة رسول الله- صلى الله عليه- وذمم المسلمين على الوفاء.»   [1] . الطرق: الشحم. القوّة (مو) . [2] . في الطبري وابن الأثير (2: 365) أيضا: أبوا. مط: ايو. وفي الأصل: آيوا. وهو تصحيف. [3] . عزم على فلان: أمره وشدد عليه (مو) . [4] . الطبري. بعد شرّ ما رضوا (4: 1954) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فلمّا فرغ خالد بن الوليد من هذه الوقعة والصلح، فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصبيان! فقال خالد لمجّاعة: - «ويحك، خدعتني!» قال: «قومي، ولم أستطع إلّا ما صنعت. [1] » ولمّا فرغ خالد من هذه الوقعة أمره [307] أبو بكر بالمسير إلى العراق، وكان ما كان من أمره مع الفرس، ولم أجد في تلك الحروب والوقعات مع عظمها وشدتها موضع حيلة، ولا موقع تدبير تستفاد منه تجربة إلّا اليسير مما سنذكره، وباقيه كلّه جهاد من القوم ونصر من الله واجتهاد من المسلمين، وخذلان للفرس، وانصرام لمدّتهم، وانقضاء لملكهم. وكان شرطنا في أول الكتاب ألّا نثبت من الأخبار إلّا ما فيه تدبير نافع للمستقبل، أو حيلة تمّت في حرب، أو غيرها، ليكون معتبرا وأدبا لمن يستأنف من الأمر مثله، فلذلك تركنا إثبات هذه الوقائع، وعلى أنّا سنذكر الجمل التي فيها أدنى تنبيه على موضع فائدة، ولأجل ذلك، تركنا ذكر أكثر مغازي رسول الله- صلى الله عليه- ووقعاته، لأنّها كلّها توفيق الله ونصره وخذلان أعدائه، ولا تجربة في هذا، ولا تستفاد منه حيلة، ولا تدبير بشرىّ [2] . ومن الآراء السديدة ما كان من خالد بالشام يوم اليرموك [3] [308] وذلك أنّ خالدا افتتح السواد الذي بينه وبين دجلة، وحاز غربىّ دجلة كلّها بوقائع كثيرة وحروب عظيمة، وشغل الفرس عن أمر الملك. فإنّ أردشير بن   [1] . كذا في الطبري: (4: 1953) . [2] . انتبه إلى الإصرار الذي يبديه مسكويه على منهجه في كتابة التاريخ. [3] . أنظر الطبري 4: 2090. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 شيرى مات وقد كان هلك العظماء وأهل بيت كسرى بما أفناهم شيرى، وبغزوات خالد للعظماء، وتفرّغ أبو بكر للشام، وكان أمر خالدا ألّا يقتحم على الفرس، لأنّ مسالح لهم كانت من وراء المسلمين. فخشي أن يؤتوا من ورائهم، وقد كان المسلمون أشرفوا على الهلاك بالشام لكثرة جنود الروم. فكتب أبو بكر إلى خالد يأمره أن يستخلف على جنده، ويسير في عدد وافر إلى إخوانه المسلمين بالشام. ولما اهتمّ بأمر الشام كتب إلى عمرو بن العاص، وإلى الوليد بن عقبة، وكانا على عمل من الصدقات. أمّا عمرو فكان على صدقات هذيم وعذرة ومن لفّ لفّها. وأمّا الوليد فكان على النصف من صدقات قضاعة. فكتب أبو بكر إليهما يرغّبهما في الجهاد ويخيّرهما بين أعمالهما وما ندبهما إليه، فكتبا بإيثار الجهاد، فكتب [309] أبو بكر بأن يندبا من يليهما، ويستخلفا على أعمالهما. ثم ندب أبو بكر من كان اجتمع إليه، وقوّى بهم عمرا، وأمّره على فلسطين وأمره بطريق سمّاها له. وولّى الوليد الأردن، وأمدّه ببعض من كان اجتمع إليه. ودعا يزيد بن أبى سفيان فأمّره على جند عظيم هم جمهور من انتدب له، وفي جنده سهيل بن عمرو، وأشباهه. واستعمل أبا عبيدة وأمّره على حمص مع جند [1] . وكان قد قدّم خالد سعيد بن العاص، وأمره أن يأتى تيماء، ويقيم بها، فلا تتجاوزها، وينتدب إليه من حوله ويتقوّى به، حتّى تأتيه الجنود. وسمى ليزيد بن أبى سفيان دمشق، ولشرحبيل بن حسنة الأردن. فتوافى الجند أطراف الشام مع الأمراء الأربعة، وهم سبعة وعشرون ألفا. وأمّر أبو بكر معاوية وشرحبيل على ثلاثة آلاف، وكان عكرمة بن أبى جهل ردءا [2]   [1] . مط: جنده. [2] . الردء: الذي يتبع غيره معينا له. قال تعالى: فأرسله معى ردءا يصدّقنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 لهم في ستة آلاف. وكان في ثغر الروم أبو عبيدة، فشجى [1] بالروم وكثروا عليه، فكتب إلى [310] أبى بكر يستمدّ، وأمدّهم بخالد بن الوليد من العراق في عشرة آلاف، فكانوا ستة وأربعين ألفا، وكان قتالهم على تساند: كلّ جند وأميرهم، ولا يجمعهم أمير واحد حتّى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق. تدبير حصيف من خالد فلمّا قدم خالد، وجد الروم في جمع عظيم وقد استمدوا المستعربة ونصارى العرب ومسالح [2] الفرس، فكانوا في مائتي ألف مقاتل على حنق شديد، وهم يقاتلون بنشاط واجتماع. ورأى المسلمين متساندين يقاتل كل قوم مع أميرهم. فقال لهم: «هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعزّ الله به الدين، ولا يدخلكم منه نقيصة ولا مكروه؟» قالوا: «وما ذلك؟» قال: - «إنّ هذا يوم من أيّام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإنّ هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة على تساند وانتشار فإنّ ذلك لا ينبغي ولا يحلّ، وإنّ من وراءكم لو يعلم علمكم، حال [311] بينكم وبين هذا. فاعلموا في ما لم تؤمروا به، بالذي ترون أنه الرأى من واليكم ومحبّته.»   [1] . شجى بقرنه: قهره قرنه. اهتمّ وحزن. [2] . المسالح: جمع مفرده المسلح والمسلحة: كلّ موضع مخافة يقف فيه الجند بالسلاح للمراقبة والمحافظة. القوم المسلّحون في ثغر أو مخفر للمحافظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 قالوا: «هات ما الرأى؟» قال: - «إنّ [1] أبا بكر لم يبعثنا إلّا وهو يرى أنّا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد جمعكم. إنّ الذي أنتم فيه أشدّ على المسلمين ممّا غشيهم، وأنفع [2] للمشركين من أمدادهم. ولقد علمت أنّ الدنيا فرّقت بينكم، فالله الله في دينكم، فقد أفرد كلّ رجل ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده أن دانوا له. إنّ تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، هلمّوا، فإنّ هؤلاء قد تهيّئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددنا القوم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردّهم. وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلمّوا، فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد حتى يتأمّر كلّنا. دعوني ألكم [3] اليوم.» فأمّروه وهم يرون أنّها كخرجاتهم قبل قدوم خالد [312] وأنّ الأمر طويل والإمارة تصل إلى كلّ واحد منهم. فخرجت الروم في تعبئة لا يكون أحسن منها، ولم ير المسلمون مثلها قطّ. وخرج خالد في تعبئة لم تعبّ مثلها العرب. وذلك أنّه لمّا رأى كثرة عدد الروم، قال:   [1] . سقط من مط: «إنّ أبا بكر ... أشدّ على» . [2] . في الأصل: أنقع. وما أثبتناه مطابق لما في مط والطبري 4: 2092. [3] . مط والطبري: «أليكم» والصحيح ما في الأصل، لأنّ الفعل [ألى] مجزوم هنا جوابا لشرط متصيّد مما قبل كما يقول النحاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 - «إنّه ليس في التعبئة تعبئة أكثر في رأى العين من الكراديس [1] . فجعل القلب كراديس كثيرة، وأقام فيها أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبى سفيان، وجميعها ستّة وثلاثون كردوسا. وفي الجماعة ألف رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- فيهم نحو من مائة من أهل بدر. وكان أبو سفيان يدور ويحرّض الناس. فقال رجل لخالد: «ما أقلّ المسلمين وأكثر الروم!» فقال خالد: «ما أكثر المسلمين وأقلّ الروم، إنّما تكثر الجنود بالنصر، وتقلّ بالخذلان، لا بعدد الرجال. والله، لوددت أنّ الأشقر براء من توجّيه [2] ، وأنّهم أضعفوا [3] في العدد.» وكان فرسه قد حفى [4] في مسيره. ثمّ أنشب القتال والتحم [313] الناس وتطارد الفرسان. فإنّهم على ذلك، إذ قدم البريد من المدينة. فأخذته الجنود، وسألوه الخبر. فلم يخبرهم إلّا بسلامة، وأخبرهم عن أمداد، وإنّما جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوه خالدا، فأخبره الخبر، وأسرّه إليه، وأخبره بما قال للجند، فقال: - «أحسنت، فقف.» وأخذ الكتاب، فجعله في كنانته وخاف- إن أظهر ذلك- أن ينتشر أمر الجند. وجدّ خالد في القتال، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب، حتى كان بين خيلهم ورجلهم. وكان موضعهم الذي اختاروه للقتال واسع المطّرد، وضيّق المهرب. فلمّا وجدت خيلهم مهربا ذهبوا وتركوا رجلهم في مصافّهم، وخرجت خيلهم تشتدّ   [1] . الكراديس: جمع مفرده الكردوس والكردوسة: طائفة عظيمة من الخيل والجيش. [2] . التوجّى: رقة القدم أو الحافر أو الخفّ من كثرة المشي (مو) . [3] . أضعفوا: جعلوا ضعفين. [4] . حفى: مشى بلا نعل ولا خفّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 بهم في الصحراء. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجّهت للهرب، أفرجوا لها ولم يحرجوها. فذهبت متفرّقة في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل، ففضّوهم. فكأنّما هدم بهم حائط، فاقتحموا في خندقهم [314] فاقتحم عليهم فعمدوا إلى الواقوصة [1] حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، فمن صبر من المقترنين للقتال هوى به من جشعت نفسه، فيهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه، كلّما هوى اثنان كانت البقية أضعف. فتهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف [000 بن 120] إنسان منهم ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل، وتجلّل أخو ملك الروم وأشراف من أشرافهم برانسهم وقالوا: - «لا نحبّ أن نرى يوم السوء، إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية.» فأصيبوا في تزمّلهم. وقد كان عكرمة بن أبى جهل في بعض جولات الروم نزل عن فرسه وقال: - «قاتلت عن رسول الله صلى الله عليه في كلّ موطن وأفرّ اليوم!» ثمّ نادى: - «من يبايع على الموت؟» فبايعه ضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه الناس والفرسان، فقاتلوا قدّام فسطاط خالد، حتّى أثبتوا جميعا جراحا، وقتلوا إلّا من [315] برأ ومنهم ضرار.   [1] . الواقوصة: واد بالشام في أرض حوران نزله المسلمون أيام أبى بكر الصدّيق على اليرموك لغزو الروم ... وفي كتاب أبى حذيفة: أنّ المسلمين أوقعوا بالمشركين يوما باليرموك، فشدّ خالد في سرعان الناس وشدّ المسلمون معه يقتلون كل قتلة، فركب بعضهم بعضا، حتى انتهوا إلى أعلى مكان مشرف على أهوية، فأخذوا يتساقطون فيها وهم لا يبصرون وهو يوم ذو ضباب، وقيل كان ذلك بالليل وكان آخرهم لا يعلم بما صار إليه الذي قبله حتى سقط فيها ثمانون ألفا ... وسميت هذه الأهوية بالواقوصة من يومئذ حتى اليوم، لأنهم واقصوا فيها. (يا، والطبري 4: 2099) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وقاتل النساء يومئذ وجرحت جويرية بنت أبى سفيان، وكانت مع زوجها، بعد قتال شديد، وكان الأشتر ممن شهد هذا اليوم- وهو اليرموك- فأبلى بلاءا حسنا. ولمّا فرغ خالد من حرب القوم نعى إلى الناس أبا بكر وقال: - «الحمد لله الذي قضى على أبى بكر الموت، وكان أحبّ إلىّ من عمر، والحمد لله الذي ولّى عمرو كان أبغض إلىّ من أبى بكر، ثم ألزمنى طاعته.» وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون حمص، وبلغه قتل أخيه مع الصناديد وعامّة الخيل والرجل، فارتحل وصار الأمر لأبى عبيدة. من عجيب ما ركبه خالد ومن عجيب ما ركبه خالد بن الوليد في سفرته هذه التي خرج فيها من العراق لمعاونة أبى عبيدة على الروم، أنّه: لمّا هزمت الروم خالد بن سعيد بن العاص، وقتلوا ابنه وقتلوا الجيش الذي معه، واجتمعت الروم باليرموك، قالوا: - «والله لنشغلنّ أبا بكر والعرب في أنفسهم عن تورّد بلادنا.» ثم نزلوا الواقوصة [316] مستعلين. فبلغ ذلك أبا بكر، فقال: - «والله لأنسينّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.» فكتب إليه أن: - «سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فانّهم قد شجوا بالروم، وإنّه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك [1] ، ولم ينزع الشجا من الناس نزعك، فلتهنئك [2]- أبا سليمان- النية   [1] . في الأصل ومط: شجيك. [2] . في الأصل ومط: فلتهنك وما أثبتناه يؤيده الطبري 4: 2110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 والحظوة، فأتمم- تمّم الله لك- ولا يدخلنّك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدلّ بعمل، فإنّ الله له المنّ وهو ولىّ الجزاء، فاستخلف المثنّى بن الحارثة بالعراق، فإذا فتح الله على المسلمين الشام فارجع إلى عملك بالعراق.» فقال خالد: «كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الناس.» فجمع الأدلّاء وأهل الخيرة، فكلّهم قالوا: - «لا نعرف إلّا طريقا لا يحمل جيشا، يأخذه الفذّ والراكب [1] .» ونهوه أن يغرّر بالمسلمين. فعزم عليه، ولم يجبه [317] أحد إلّا رافع بن عميرة على تهيّب شديد. فقام فيهم وقال: - «يا قوم لا يخلفنّ [2] هديكم، ولا يضعفنّ يقينكم، واعلموا أنّ المؤونة تأتى على قدر النيّة، والأجر على قدر الحسبة.» فأجابه نفر، وقالوا لخالد: - «أنت رجل مصنوع لك، فشأنك [3] .» فطابقوه ونووا، واحتسبوا. فقال لهم رافع: - «تروّوا للشفة لخمس.» فظمّأ كلّ قائد من الإبل الشرف الجلال ما يكتفى به، ثم سقوها العلّ بعد النهل، ثمّ صرّوا آذان الإبل وكعّموها وخلّوا أدبارها.   [1] . كذا في مط. وفي الطبري: الفذّ الراكب (4: 2112) . [2] . كذا في مط، وفي الطبري: لا يختلفنّ. [3] . وفي الطبري: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ثمّ ركبوا من قراقر مفوّزين إلى سوى [1] وهي إلى جانبها الآخر ممّا يلي الشام. فلما ساروا يوما افتظّوا لكل من الخيل كروش عشر من تلك الإبل فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان. ثمّ سقوا الخيل وشربوا للشفة جرعا، فعلوا ذلك أربعة أيّام. فلمّا نزلوا بسوى وخشي أن يفضحهم حرّ الشمس نادى خالد رافعا: - «ما عندك يا رافع؟» [318] قال: «خير، أدركتم الرىّ وأنتم على الماء.» وكان يشجعهم وهو متحيّر به رمد. ثمّ قال: «أيها الناس، انظروا عليمين [2] كأنّهما ثديان.» فأتوا عليهما وقالوا: «علمان.» فقام عليهما فقال: «اضربوا يمنة ويسرة لعوسجة كقعدة الرجل.» فقالوا: «لا نرى شيئا.» فقال: «إنّا لله، هلكتم وهلكت معكم، انظروا.» فنظروا فوجدوا جذمها، فقالوا: - «جذم [3] ، ولا نرى شجرة.» فقال: «احتفروا حيث شئتم.» فاستثاروا أوشالا [4] وأحساء [5] رواء [6] . فقال رافع:   [1] . سوى: ماء لبهراء من ناحية السماوة. [2] . مط والطبري: علمين (4: 2113) . وانظر ابن الأثير (2: 408) . [3] . الجذم والجذم: الأصل والمنبت. [4] . الوشل: الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخر ولا يتصل قطره. والوشل أيضا: الماء الكثير- ضدّ. [5] . والأحساء: جمع مفرده حسى، وحسى وحسى: سهل من الأرض يستنقع فيه الماء، وقيل: غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر وكلّما نزحت دلوا اجتمعت أخرى. [6] . الرواء: الماء العذب. الكثير المروي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 - «أيها الأمير، ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلّا مرّة وأنا غلام مع أبى.» فانحاز خالد من سوى على مضيّح [1] بهراء، وإنّهم لغارّون وناس منهم يشربون خمرا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها ومغنّيهم يقول: ألا علّلانى قبل جيش أبى بكر ... لعلّ منايانا قريب وما ندري أظنّ خيول المسلمين وخالدا ... سيطرقكم قبل الصّباح من البشر [2] فهل لكم في السّير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر فيزعمون أنّ مغنيهم قتل، وسال دمه في الجفنة عند الغارة. وقال شاعر المسلمين: [319] لله عينا رافع أنّى اهتدى ... فوّز [3] من قراقر [4] إلى سوى خمسا [5] إذا ما سارها [6] الجيش بكى ... ما سارها قبلك إنسىّ أرى فلما انتهى خالد إلى سوى أغار على أهله وقد خلّف ثغور الروم وجنودها ممّا يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، ثمّ صمد لهم الطريق حتّى صار إلى   [1] . مضيّح بهراء: ماء بالشام. [2] . وما في مط: من النشر. والبشر من منازل تغلب بن وائل (الأيام: 208) . [3] . فوّز الرجل: دخل المفازة. [4] . قراقر: واد لكلب بالسماوة من ناحية العراق، نزله خالد بن الوليد عند قصده الشام. قراقر، حنو قراقر، وحنوذى قار، وذات العجرم، والبطحاء، كلها حول ذى قار (يا) . [5] . الخمس: من الفلوات ما بعد ماؤها حتى يكون ورد الإبل في اليوم الخامس، والخمس أن ترد الإبل الماء في اليوم الخامس من وردها السابق. [6] . في الأصل: ما ساره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 دمشق، ثمّ مرج الصفر. فلقى غسّان وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم وبعث بالأخماس إلى أبى بكر، ثمّ خرج حتى نزل مياه بصرى، فكانت أوّل مدينة فتحها خالد من الشام بمن معه من جنود العراق، فخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة في عشرة آلاف. ولما تراءى العسكران بعث القيقلار [1] أخو ملك الروم- وهو صاحب الجيش- رجلا عربيّا من قضاعة وقال له: - «ادخل في هؤلاء القوم، فأقم فيهم يوما وليلة، ثمّ ائتني بخبرهم.» فدخل في الناس رجل عربىّ لا ينكر، فأقام فيهم، ثمّ أتاه. فقال: «مه، ما وراءك؟» قال: «هم رهبان بالليل فرسان [320] بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحدّ.» فقال القيقلار: «لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.» المثنى بن الحارثة وشهربراز قائد الفرس فأمّا المثنى بن حارثة، فكان من حديثه بعد خالد بن الوليد: أنّ الفرس اجتمعوا على شهربراز بن أردشير بن شهريار بن أبرويز، ووجدوه بميسان، فوجّه إلى المثنّى جندا عظيما عليهم هرمز المعروف بجاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، فكتبت المسالح بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة، وضمّ إليه المسالح. وكتب شهربراز إلى المثنّى: - «إنّى قد بعثت إليك جندا من وحش أهل القرى، إنّما هم رعاة الدجاج   [1] . في الطبري: القبقلار، وفي حواشيه: القنقلال، القنقلار، القيقلان، القلنقار (4: 2125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 والخنازير، ولست أقابلك إلّا بهم.» فأجابه المثنّى: «من المثنّى إلى شهربراز، إنّما أنت أحد الرجلين: إما باغ، فذلك شرّ لك وخير لنا، وإمّا كاذب، فأعظم الكاذبين فضيحة وعقوبة عند الله والناس الملوك، وأمّا الذي يدلّنا عليه الرأى، فانّكم إنّما اضطررتم إليه، فالحمد لله الذي ردّ كيدكم إلى رعاة الدجاج [321] والخنازير.» فلمّا وقف الفرس على كتابه جزعوا وقالوا: - «إنّما أتى شهربراز من لؤم منشأته [1] .» وقالوا له: «جرّأت علينا عدوّنا بما كتبت إليه، فإذا كاتبت أحدا فاستشر.» ثمّ التقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة [2] الدنيا قتالا شديدا. ثمّ إنّ المثنى وناسا من المسلمين اعتوروا الفيل، وكان يفرّق بين الصفوف والكراديس، فأصابوا مقتله، فقتلوه، وهزموا أهل فارس واتّبعهم المسلمون يقتلونهم حتّى جازوا بهم مسالحهم، وطلبوا الفلّ [3] حتّى بلغوا المدائن. ومات شهربراز منهزم [4] هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس بعده، وأبطأ خبر أبى بكر على المسلمين لمرضه. فخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبته من أهل الردّة- وكان أمر أبو بكر ألّا يستعان بهم- وليخبره أنّه لم يخلّف أحدا أنشط لقتال فارس ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة واستخلف على عسكره بشير بن الخصاصيّة [5] [322] فوجد أبا بكر- رضى الله عنه-   [1] . مط: «متشابه» . [2] . انظر الطبري (4: 2117) . [3] . الفلّ: المنهزم، للواحد والجمع. انظر الطبري (4: 18- 2117) . [4] . أى وقت انهزام هرمز. انظر أيضا الطبري (4: 2119) . [5] . الأصل: غير واضح. مط: الحصافة. وما أثبتناه يؤيده الطبري (4: 2120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 مريضا مرضه الذي مات فيه، فأخبره الخبر. فدعا أبو بكر عمر- وكان قد عقد له- فقال: - «يا عمر، اسمع ما أقول لك، ثم اعمل عليه. إنّى أظنّ أن أموت من يومى هذا- وذلك يوم الإثنين- فإن أنا متّ، فلا تمسينّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنّكم مصيبة- وإن عظمت- عن أمر دينكم، ووصية ربّكم، وقد رأيتنى متوفّى [1] رسول الله- صلى الله عليه- وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله. وبالله لو أنّى أنى عن أمر الله لخذلنا ولاضطرمت المدينة نارا. وإن فتح الله على أمرائنا فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنّهم أهله وولاة حدّه، وأهل الضراوة بهم، والجرأة عليهم.» ومات أبو بكر رضى الله عنه مع الليل، وندب عمر الناس مع المثنى. وقال عمر: - «كأنّ أبا بكر علم أنّه يسوءنى أن أؤمّر خالدا على العراق حين أمرنى بصرف أصحابه، وترك ذكره.» وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد فيما بين خلافة أبى بكر إلى قيام عمر، ورجوع [323] المثنى مع أبى عبيد [2] إلى العراق، وكان جمهور جند العراق بالحيرة بالسيب [3] والغارات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.   [1] . أى: حين توفى رسول الله. [2] . وقد وردت هذه الكنية بكلا الوجهين: ( «أبو عبيد» ، أبو عبيدة» ) في مواضع من النصّ. [3] . كورة من سواد الكوفة، وهما سيبان: الأعلى والأسفل من طسّوج سورا عند قصر ابن هبيرة (يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 أسماء كتّاب أبى بكر رضى الله عنه كتب لأبى بكر رضى الله عنه: عثمان بن عفّان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وحنظلة بن الربيع . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 مما حدث في خلافة عمر عمر يقاسم خالدا ماله فلمّا استخلف عمر كان أوّل ما تكلّم به عزل خالد بن الوليد. وكتب إلى أبى عبيدة بتأميره عليه، وقال له: - «أدع خالدا، فإن أكذب نفسه في حديث تكلّم به خالد فهو أمير على ما هو عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير. ثمّ انزع عمامته عن رأسه، وقاسمه ماله نصفين.» [1] فلما ذكر ذلك أبو عبيدة لخالد قال: - «أنظرنى أستشر في أمرى.» [2] ففعل أبو عبيدة. فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد، وكانت عند الحارث بن هشام، فذكر لها الحديث، فقالت: - «والله لا يحبّك عمر أبدا، وما يريد إلّا أن تكذب نفسك ثم ينزعك.» فقبّل رأسها وقال: - «صدقت.» وتمّ على أمره وأبى [324] أن يكذب نفسه.   [1] . تجد الرواية عند الطبري (4: 2148) . [2] . في الطبري: أنظرنى أستشر أختى في أمرى (4: 2148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فقام بلال مولى أبى بكر، فقال: - «ما أمرت به في خالد؟» قال: «أمرت أن أنزع عمامته وأقاسمه ماله.» ففعل، وقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه. فقال أبو عبيدة: - «إنّ هذا لا يصلح إلّا بهذا.» فقال خالد: «أجل، وما أنا بالذي أعصى أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك.» فأخذ نعلا وأحذاه نعلا. ثم قدم خالد المدينة على عمر. فكان كلّما مرّ بخالد، قال: - «يا خالد أخرج مال المسلمين من تحت استك.» فيقول: «والله ما عندي مال لهم.» فلمّا أكثر عليه عمر قال له خالد: - «يا أمير المؤمنين، قيمة ما أصبت في سلطانكم أربعون ألف درهم.» قال عمر: «قد أخذت ذلك منك.» قال: «هو لك» . قال: «وأخذته.» ولم يكن لخالد مال إلّا عدّة ورقيق. فحسب ذلك، فبلغت ثمانين ألف درهم، فناصفه عمر على ذلك وأعطاه أربعين ألف درهم وأخذ ماله. فقيل: «يا أمير المؤمنين، لو رددت على خالد ماله.» فقال: «إنّما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أردّه عليه أبدا.» فكان عمر يرى أنّه [325] قد اشتفى من خالد حين صنع به ذلك. من حديث خالد وفتح دمشق وكان خالد قبل أن ينقضي حرب الروم، على مقدمة خيل أبى عبيدة، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الذي فتح دمشق بيت المملكة. وكان من حديثه أن عمر كاتب المسلمين عند ما هزموا الروم باليرموك: أن يقصدوا لدمشق، فانّها مقرّ عزّ الروم، وأن يشغلوا أهل فحل [1] وفلسطين، وأهل حمص بخيل تكون بإزائهم. فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك، وإن تأخّر فتحها حتى تفتح دمشق، فلينصرف أبو عبيدة وخالد الى حمص، وعمرو إلى فلسطين. وكان أبو عبيدة بعث ذا الكلاع ليكون بين دمشق وحمص ردءا. ففعل أبو عبيدة كما أمره، وقدّم خالدا- وهرقل يومئذ بحمص- فحاصر أهل دمشق حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة، وقاتلوهم بالمجانيق وهم معتصمون بالمدينة، يرجون الغياث من هرقل. وجاءت خيول هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها خيول ذى الكلاع وشغلتها عن الناس. فلمّا أيقن أهل [326] دمشق أنّ الأمداد لا تصل إليهم فشلوا، وطمع فيهم المسلمون، وكانوا يرون أنّها كالغارات قبل ذلك إذا هجم البرد قفل [2] الناس، فسقط النّحم [3] والقوم مقيمون. فعند ذلك انقطع رجاؤهم وندموا على دخول دمشق. اتّفاق جيّد للمسلمين وكان من الاتّفاق الجيّد للمسلمين: أن ولد للبطريق الذي على أهل دمشق مولود. فصنع طعاما، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلّا ما كان من خالد، فإنّه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفى عليه   [1] . فحل: موضع بالشام، كانت للمسلمين مع الروم به وقعة، قتل فيها ثمانون ألفا من الروم، وهي مشهورة. وتسمى «يوم فحل» ، كما تسمّى «يوم الردغة» و «يوم بيسان» (مع) . [2] . مط: فقتل في الناس. وفي الطبري أيضا: قفل (4: 2152) . [3] . النحم: السعال. سقط النحم: أقبل. وهذا من قولهم: «سقط الحرّ أو البرد» : أقبل (مو) . وفي الطبري: النجم (نفس الصفحة) . في مط: فقتل فسقط العجم (!) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 شيء من أمورهم، عيونه ذاكية، وجواسيسه مفرّقة، وهو معنىّ بما يليه. وكان كل جانب من المدينة إلى قوم. وكان قد اتّخذ خالد حبالا كهيئة السلاليم وأوهاقا. فلمّا أمسى ذلك اليوم وعرف خبر القوم نهد هو ومن معه من جنده الذين قدم بهم، وتقدّمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدىّ [327] وأمثاله من أصحابه في أوّل نومه وقالوا: - «إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب.» فلما انتهى إلى الباب الذي يليه هو وأصحابه المتقدمون، رموا بالحبال الشّرف وعلى ظهورهم القرب التي قطعوا بها خندقهم. فلما ثبت لهم وهقان تسلّق فيهما القعقاع ومذعور. ثم لم يدعا أحبولة إلّا أثبتاها والأوهاق بالشّرف، وكان المكان الذي اقتحموا منه أحصن مكان بدمشق، أكثره ماء وأشدّه مدخلا. ولم يبق ممن خرج مع خالد تلك الليلة أحد إلّا رقى أو دنا من الباب، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه وانحدر معهم، وخلّف من يحمى ذلك المكان لمن يرتقى، وأمرهم بالتكبير. فكبّر الذين على السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير فوثبوا فيها. وانتهى خالد إلى أوّل من يليه، فأنامهم، وانحدر إلى الباب، فقتل البوّابين، وثار أهل المدينة، وفزع سائر الناس، فأخذوا مواقفهم ولا يدرون [328] ما الشأن، وتشاغل كل ناحية بما يليهم، وقطع خالد بن الوليد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل، حتى ما بقي مما يلي باب خالد مقاتل إلّا أنيم. ولما شدّ خالد على من يليه، وبلغ منهم ما أراد عنوة، وأرز [1] من أفلت إلى أهل الأبواب التي تلى غيره، دعوا المسلمين إلى الصلح. فأجابوهم وقبلوا منهم ولا يدرون بما كان من خالد. ففتحوا لهم الأبواب وقالوا:   [1] . أرز إلى المكان: لجأ إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 - «ادخلوا، وامنعونا من أهل ذلك الباب.» فدخل أهل كلّ باب، بصلح [1] من يليهم، ودخل خالد بما يليه عنوة. فالتقى خالد والقوّاد في وسطها، هذا استعراضا وانتهابا، وهذا صلحا وتسكينا. فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح. ولما فرغ المسلمون من فتح دمشق، ساروا إلى فحل وبيسان، ولاقوا حربا شديدا، وافتتحوها بعد شدائد وبأس كثير. عمر وانتداب أبى عبيد للخروج إلى فارس فأمّا خبر فارس، فإن عمر ندب الناس مع المثنى بن حارثة، وقد ذكرنا فيما تقدّم قدوم المثنى على أبى بكر [329] ووصاة [2] أبى بكر عمر به. فلم ينتدب أحد مع المثنى. وذاك أنّ هذا الوجه أعنى فارس كانت أكره الوجوه إلى الناس، لشدّة بأس الفرس وعظم شوكتهم، وقهرهم الأمم. فكان المثنى يحرّض الناس ويقول: «أيها الناس، إنّا قد غلبناهم على نصف السواد، وقد ضرى من قبلنا، واجترأنا عليهم، ولنا من بعد ما ينتظره المسلم من الكافر.» وقام عمر في الناس، وخطبهم، وحضّهم وأذكرهم وعد الله في كتابه أن يورثهم الأرض، وقوله عزّ وجلّ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. 9: 33 [3] أين «عباد الله الصالحون؟» [4]   [1] . والعبارة في الطبري: «فدخل أهل كلّ باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة ... » وفي حاشية الطبري: «بصلح ما يليهم.» و «بصلح من يليهم» (4: 2153) . [2] . مط: وصى. الوصاة: الوصية، جمعها: وصى. [3] . س 9 التوبة: 33. [4] . إشارة إلى قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ من بَعْدِ الذِّكْرِ، أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. 21: 105 (س 21 الأنبياء: 105) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فكان أوّل من انتدب أبو عبيد ابن مسعود الثقفي، وقال: «أنا لها.» ثم سليط بن قيس. فلما اجتمع ذلك البعث قيل لعمر: - «أمّر عليهم رجلا من المهاجرين والأنصار.» قال: «لا والله لا أفعل. إنّما رفعكم الله بسبقكم إلى الجهاد، وسرعتكم إلى العدو. فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، واثّاقلتم إلى الأرض، فأولى بالرئاسة منكم من سبق إلى الدفع، وأجاب إلى الدعاء. [330] لا والله، لا أؤمّر عليهم إلّا أوّلهم انتدابا.» ثم دعا أبا عبيد وقال له: - «اسمع من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه-، وأشركهم في الأمر. ولا تسرعنّ حتى يتبيّن. فإنّها الحرب، والحرب لا يصلح لها إلّا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة.» وقال لأبى عبيد: - «إنّه لم يمنعني أن أؤمّر سليطا إلّا سرعته إلى الحرب، وفي التسرّع إلى الحرب ضياع إلّا عن بيان.» قدوم أبى عبيد مع المثنّى بعد استخراج الفرس يزدجرد وتتويج بوران رستم فقدم أبو عبيد ومعه المثنى بن حارثة، وقد استخرج الفرس يزدجرد. وكانت بوران عدلا [1] في ما بينهم، لما افتتنت الفرس وقتل الفرّخزاذ بن البندوان. وكان سياوخش قدم، فقتل آزرمى دخت. وذلك في غيبة المثنى. وكان شغل الفرس   [1] . وفي الطبري (4: 2163) :.. وقد كانت بوران أهدت للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقبل [هديتها] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 طول غيبته في ما بينهم. وكانت بوران دعت رستم، وشكت إليه تضعضع فارس، ودعته إلى القيام بأمرهم، وتوّجته. فقال رستم: «أنا عبد سامع مطيع.» فولّته أمر فارس وحربها، وأمرت فارس أن يسمعوا له ويطيعوا. فقتل رستم سياوخش، ودانت له الفرس، وذلك بعد قدوم أبى عبيد. ثمّ إنّ عمر [331] لما فصل المثنى وأبا عبيد [1] ، استعجلهما، وقال لهما: - «النجا، النجا، بمن معكم، فإنّى ممدّكم بالناس.» ثمّ ندب أهل الردّة، وأذن لهم في الغزو، ورمى بهم العراق والشام. فقدم المثنى قبل أبى عبيد بنصف شهر، ونزل خفّان [2] لئلّا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه. وكتب رستم إلى دهاقين السواد: أن يثوروا بالمسلمين. ودسّ في كل رستاق رجلا ليثور بأهله. وبلغ ذلك المثنى، وعجل جابان، وكان اجتمع إليه بشر كثير، بالنمارق [3] ، ولحق أبو عبيد، فأجمّ الناس، ثم تعبّى: فجعل المثنى على الخيل، وعبّى الميمنة والميسرة. فنزلوا على جابان بالنمارق، فقاتلهم قتالا شديدا، ثمّ انهزم جابان، فأسر. فكان آمنه من أسره، فخلّى عند أبو عبيد. فأخبروه أنه ملك. فأشاروا بقتله. فأبى أبو عبيد، وقال: - «إنّ المسلمين في التوادّ والتناصر كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلّهم.» قالوا: «إنّه ملك.» قال: «وإن كان، لا أغدر.» فتركه، وقسم الغنائم، وكان فيها مال وعطر [332] كثير، وبعث بالأخماس إلى   [1] . في الأصل: «أبو عبيد» وما أثبتناه يوافق مط. [2] . خفّان (بالفتح والتشديد) : موضع قرب الكوفة، فوق القادسية (مع) . [3] . النمارق: موضع قرب الكوفة (مع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 عمر. السّقاطيّة بكسكر وثار نرسى بكسكر، وكان رستم أمره بذلك. ونرسى هذا ابن خالة كسرى، وكانت كسكر قطيعة له، وكان النّرسيان له يحميه لا يأكله ولا يشربه ولا يغرسه غير آل كسرى إلّا من أكرموه بشيء منه. فلما انهزمت الفرس يوم النمارق اجتمعت الفالّة إلى نرسى، وهو في عسكره، ونادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجرّدة: - «اتّبعوا الفالّة حتى تدخلوهم عسكر نرسى أو تبيدوهم.» ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر- ونرسى يومئذ بأسفل كسكر، والمثنى معه في تعبئته التي قاتل فيها جابان، ونرسى على مجنّبتيه ابنا [1] خاله وهما: ابنا خال كسرى بندويه وتيرويه ابنا بسطام، وأهل باروسما ونهر جوبر والزوابي معه إلى جنده. وكان قد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان. فبعثوا الجالنوس [2] ، وبلغ ذلك نرسى ومن معه، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة، وعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر في مكان يدعى السّقاطية، فاقتتلوا في صحارى [3] ملس قتالا [333] شديدا. ثم انهزم نرسى، وقتل أصحابه، وغلب على عسكره وأرضه، وجمع أبو عبيد   [1] . كذا في مط: ابنا خاله. وانظر أيضا الطبري (4: 2169) . [2] . في الأصل ومط: فبعثوا الجالنوس. وفي الطبري: فبعثوا إلى الجالنوس. [3] . في الأصل ومط: «في صحار» فأثبتناها «في صحارى» - كما في الطبري (4: 2169) - بإثبات الياء. لأن الكلمة ممنوعة من الصرف، فهي مفتوحة في حالة الجر، وغير منوّنة، فلا التقاء لساكنين ولا حذف، ولا يقاس بقولك: «في واد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الغنائم. وهناك رأى المسلمون من الأطعمة ما لم يروا مثله، وأخذت خزائن نرسى. فلم يكونوا بشيء أفرح منهم بالنّرسيان. لأنّه كان حمى، فاقتسموه، وجعلوا يطعمونه الفلاحين، وبعثوا بخمسه إلى عمر، وكتبوا إليه: «إنّ الله أطعمنا مطاعم كان الأكاسرة يحمونها، وأحببنا أن تروها، وتشكروا إنعام الله وإفضاله.» وأقام أبو عبيد، وسرّح المثنى إلى باروسما، وعاصما إلى نهر جوبر. فأخربوا، وسبوا، وهرب ذلك الجند إلى الجالنوس. وسار أبو عبيد واستقبله الجالنوس، فنهد إليه أبو عبيد في المسلمين على تعبئته. فهزمهم المسلمون، وهرب الجالنوس، وأقام أبو عبيد [1] قد غلب على تلاك البلاد. ولما رجع الجالنوس إلى رستم ومن أفلت معه قال رستم: - «أىّ العجم أشدّ على العرب؟» قال: «بهمن جاذويه.» وهو ذو الحاجب. فوجّهه ومعه فيلة، وردّ معه الجالنوس، وقال له: - «قدّم الجالنوس، فإن عاد لمثلها [334] فاضرب عنقه.» فأقبل بهمن جاذويه ومعه «درفش كابيان» . وكانت من جلود النمر، عرض ثماني أذرع، وطول اثنى عشر ذراعا. وأقبل أبو عبيد، ونزل المروحة موضع البرج والعاقول. فبعث إليه بهمن جاذويه: «إمّا أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تدعونا نعبر إليكم.» فقال الناس: «لا تعبر يا با عبيد [2] ! ينهاك عن العبور، قل لهم: فليعبروا!» وكان من أشدّ الناس عليه في ذلك سليط.   [1] . كذا: قد غلب بدون «و» كما في الطبري أيضا (4: 2172) . [2] . كذا في الأصل ومط، وفي الطبري: يا أبا عبيد (4: 2175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فلجّ أبو عبيد، وقال: «لا يكونون أجرأ على الموت منّا، بل نعبر إليهم.» فعبروا إليهم في منزل ضيّق المطّرد. فاقتتلوا يوما، حتى إذا كان آخر النهار، واستبطأ رجل من ثقيف الفتح، ألّف بين الناس، فتصافحوا بالسيوف في أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف في المعركة ولم يبق إلّا الهزيمة. فحمل أبو عبيد على الفيل، وضربه، فخبط الفيل أبا عبيد، وقام عليه، وجال المسلمون جولة، ثم تمّوا [1] عليها وركبهم أهل فارس. [335] خطأ في الرأى فكان من خطأ الرأى والعجلة فيه [2] أن بادر رجل من ثقيف الجسر فقطعه. فانتهى الناس إليه، والسيوف تأخذهم من خلفهم، فتهافتوا في الفرات. فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف بين غريق أو قتيل، وحمى الناس المثنى وعاصم ومذعور، وقد كان سليط- كما قدمنا الخبر عنه- يناشد أبا عبيد مع وجوه الناس، ويقولون [3] : - «إنّ العرب لم تلق مذ كانوا، مثل جنود فارس، وقد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدّة، بما لم يلقنا به [أحد] قبل، وقد نزلت [4] منزلا لنا فيه مجال ومرجع من فرّة إلى كرّة.» فقال: لا أفعل، جبنت يا سليط. فقال سليط: «أنا والله أجرأ منك، نفسا، وقد أشرنا عليك بالرأى، فستعلم.»   [1] . كذا في مط والطبري (4: 2175) . وفي الأصل: «نموا» . تمّ على الأمر: استمرّ عليه. [2] . «فكان ... فيه» سقطت من مط. [3] . في الطبري (4: 2177) : «.. فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس، وقالوا: إن العرب ... » . [4] . كذا في الأصل ومط والطبري: وقد نزلت. وربما يكون الصحيح: لو نزلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 رؤيا رأتها امرأة أبى عبيد وكانت امرأة أبى عبيد رأت رؤيا وهو [1] في المروحة: أنّ رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد وابنه وجماعة من أهل بيته. فأخبرت أبا عبيد، فقال: - «هذه الشهادة.» وعهد أبو عبيد إلى [336] الناس، فقال: - «إن قتلت فعلى الناس فلان، فإن قتل فعليكم فلان.» إلى أن أمّر الذين شربوا من الإناء على الولاء. - ثم قال: «إن قتل أبو القاسم فعليكم المثنى.» ثمّ نهد بالناس وعبر، وعضّلت [2] الأرض بأهلها، والتحمت الحرب. فلمّا نظرت الخيول إلى الفيلة عليها النخل، والخيل عليها التجافيف، والفرسان [3] عليهم الشّعر [4] ، رأت شيئا منكرا لم تر مثله. فجعل المسلمون إذا حملوا لم تقدم خيلهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرّقت بين كراديسهم لا تقوم لها الخيل إلّا على نفار. وخرقهم الفرس بالنشّاب، وعض المسلمين الألم، وترجّل أبو عبيد، وترجّل معه الناس، فصافحوهم بالسيوف، فصارت الفيلة إذا حملت دفعتهم. فنادى أبو عبيد:   [1] . كذا في الأصل ومط: وهو. وفي الطبري: وهي (4: 2178) . [2] . في مط: غصّت. عضّلت: غصّت. [3] . الكلمة غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه من مط ويؤيده الطبري. [4] . «الشعر» غير مشكولة في الأصل وضبطناها حسب الطبري. وجاء ضبطها في بعض الأصول «الشّعر» أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 - «احتوشوا الفيلة وقطّعوا بطنها [1] ، واقلبوا عنها أهلها.» وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلّق ببطانه فقطّعه، ووقع الذين عليه. وفعل القوم مثل ذلك: فما تركوا فيلا إلّا حطّوا رحله وقتلوا [337] أصحابه. وأهوى الفيل لأبى عبيد، فنفح مشفره بالسيف، فاتقاه الفيل بيده ووقع، فخبطه الفيل. وأخذ اللواء، الذي كان أمّره بعده. فقاتل الفيل حتى تنحّى عنه، فاجترّه إلى المسلمين، وأحرزوا شلوه. ثمّ تجرثم الفيل فاتّقاه بيده، دأب أبى عبيد، وخبطه وقام عليه. وتتابع سبعة من ثقيف كلّهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت. ثمّ أخذ اللواء المثنى وهرب عنه الناس. فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفىّ ما يصنع الناس، بادرهم الجسر، فقطعه. فلما توافاه الناس تهافتوا في الفرات، فغرق من لم يصبر، وقتل من صبر. وهذا الخبر تصديق لدريد حيث قال: «إنّ المنهزم لا يردّه شيء.» ونادى: - «أيّها الناس! أنا دونكم، فاعبروا.» وعقد لهم الجسر وقال: - «لا تدهشوا اعبروا على هينتكم، فإنّا لن ندع الموضع ولن نزايل حتى نراكم من ذاك الجانب.» وأتى بعبد الله بن مرثد، وكان يمنع الناس من العبور. فضربه المثنى وقال: - «ما حملك على ما فعلت؟» قال: «ليقاتلوا.» فلمّا ضمّت السفن، وعبر الناس كان آخر [338] من قتل عند الجسر سليط بن قيس. وعبر المثنى، وحمى جانبه، واضطرب عسكره، وارفضّ عنه أهل المدينة، حتى لحقوا بالمدينة، وتركها بعضهم فنزلوا البوادي، وبقي المثنى في قلّة.   [1] . وفي بعض الأصول: وضنها. والبطن جمع مفرده: البطان: حزام يشدّ على البطن. وأما الوضن فمفرده: الوضين: البطان العريض المنسوج من سيور أو شعر، وقيل: إنّ الوضين للهودج بمنزلة الحزام للسرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ورامهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم لاعتراض الفرات، وقطع الجسر. وهلك يومئذ من المسلمين أربعة آلاف من بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقي مع المثنى ثلاثة آلاف، فكأنّ الجميع كانوا تسعة آلاف. وجرح المثنى جراحة شديدة، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهنّ الرمح [1] . ولما بلغ عمر ما صنعه أهل المدينة، وأخبر عمّن سار في البلاد استحياء من الهزيمة اشتدّ عليه، ورحمهم، وقال: «اللهم إنّ كلّ مسلم في حلّ منّى، أنا فئة لكل مسلم، يرحم الله أبا عبيد، لو انحاز إلىّ لكنت فئة له.» فبينا ذو الحاجب يروم أن يعبر إلى المسلمين أتاه الخبر باضطراب الفرس. فرجع بعد أن ارفضّ عنه جنده، وأتاه الخبر أنّ الناس في المدائن ثاروا برستم، ونقضوا ما بينهم وبينه، وصاروا فرقتين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان. [339] ثمّ إنّ جابان ومردانشاه خرجا حتى أخذا بالطريق وهم يرون أنّهم سيرفضّون ولا يشعرون بما جاء ذا الحاجب من فرقة أهل فارس. وبلغ المثنى فعلة جابان ومردانشاه. فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج في جريدة خيل يريدهما وظنّا أنه هارب، فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس [2] على أصحابهما، فأتوه بهم أسرى، وعقد المثنى لهم بها ذمّة وقدّمهما وضرب أعناقهما وأعناق الأسرى، ثم رجع إلى عسكره. وكان جرير بن عبد الله البجلي يسأل قديما في بجيلة أن تلتقط من القبائل، وكان النبىّ- صلى الله عليه- وعده ذلك، فلمّا ولى عمر دعاه بالبيّنة، فأقامها. فكتب له إلى عمّاله في العرب   [1] . انظر الطبري 4: 2180. [2] . أليس، مصغّر على وزن فليس: موضع في أول أرض العراق من ناحية البادية وقيل: قرية من قرى الأنبار وهي بتشديد اللام (مع) ، وانظر الطبري (4: 2182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 كلّها ممن كان فيه أحد ينسب إلى بجيلة في الجاهلية، وثبت عليه في الإسلام بغير ذلك فأخرجوه إلى جرير. فلما أعطى جرير حاجته في استخراج بجيلة من الناس وجمعهم، أخرجوا إلى المثنى مددا له. وكتب عمر يستنفر الناس من أهل الردّة وغيرهم، فلم يرد عليه أحد إلّا رمى به المثنى. [340] يوم البويب ويسمّى يوم الأعشار وبعث المثنى بعد الجسر في من يليه من الممدّين، فتوافوا إليه في جمع عظيم. وبلغ رستم والفيرزان ذلك، وأتتهم العيون به، وبما ينتظرون من الأمداد، فاجتمعا على أن يبعثا بمهران الهمذاني حتى يريا من رأيهما ويجتمع أمرهما. فخرج مهران في الخيول، وأمره [1] بالحيرة. وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بين القادسية وخفّان في الذين أمدّوه من العرب. فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير وعصمة، وإلى كلّ قائد أظلّه أنّه: - «جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجّلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب.» [2] وسلك المثنى وسط السواد، وسلك جرير على الجوف ومن كان معه، حتى انتهوا إلى المثنى وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، وكان عمر عهد إليهم ألّا يعبروا بحرا ولا جسرا إلّا بعد ظفر. فاجتمعوا بالبويب، واجتمع العسكر على شاطئ البويب الشرقىّ. وكان البويب مغيضا للفرات أيام المدود أزمان فارس يصبّ [3] في الجوف [341] .   [1] . في الطبري (4: 2184) : فأمراه. وفي حواشيه: وأمره، وأمراؤه. [2] . والبويب نهر بالعراق يأخذ من الفرات، وقد يسمى يوم مهران، ويوم الأعشار. كان على المسلمين المثنى بن حارثة، وعلى الفرس مهران الهمداني وذلك سنة 13 هـ. [3] . مط والطبري أيضا (4: 2187) : يصبّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وقدم على عمر غزاة بنى كنانة، والأزد، فأمّر على بنى كنانة غالب بن عبد الله، وعلى الأزد عرفجة بن هرثمة، وأمرهم بالعراق. فقدموا على المثنى، وقدم عليه هلال بن علّفة فيما اجتمع إليه من الرياب [1] . فأمره عمر وسرّحه، فقدم على المثنّى، وكذلك فعل بغزاة كلّ قبيلة من جشم وخثعم وبنى حنظلة وبنى ضبّة وغيرهم. فاجتمعوا عند المثنى. واجتمع رستم والفيرزان معا، واستأذنا بوران- وكذلك كانا يعملان إذا أرادا شيئا استأذنا من حجّابها فكلّماها به- فأخبراها بعدد الجيش وكثرة الذين ينفذون مع مهران، وكانت فارس لا تكثر البعوث. فقالت بوران: «ما بال فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟» قالا: «إنّ الهيبة كانت قبل اليوم مع عدوّنا وإنّها اليوم فينا.» فعرفت رأيهم واستصوبته. ولما نزل مهران في جنده وراء الفرات- والفرات بينهما- قال: - «إمّا أن تعبروا إلينا، وإمّا أن نعبر إليكم.» فقال المسلمون: «اعبروا إلينا.» فعبروا، وأقبلوا إلى المسلمين [342] في صفوف ثلاثة مع كلّ صفّ فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا لهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: - «إنّ هذا الزجل وجل!» قالوا: «أجل.»   [1] . مط: الرياب. وفي الطبري أيضا الرباب. وكان مجراه إلى موضع دار صالح بن على بالكوفة، ومصبه في الجوف العتيق، وكان مغيضا للفرات أيام المدود ليزيدوا به الجوف تحصينا، وقد كانوا فعلوا ذلك الجوف حتى كانت السفن ترفأ إلى الجوف (يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قال: «فالزموا الصمت وائتمروا [1] همسا.» فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بنى سليم اليوم. فلما دنوا زحفوا، وركب المثنى فرسه الشموس، وكان لا يركبه إلّا إذا قاتل. ودعى الشموس [2] للين عريكته وطهارته. فوقف على الرايات يحضّهم ويذكر أحسن ما فيهم ويقول: - «إنى أرجو ألّا يؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله ما يسرّنى اليوم لنفسي شيء إلّا وهو يسرّنى لعامّتكم.» فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم المثنى بالقول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا. ثم قال: - «إنى مكبّر ثلاثا، فتهيّأوا، ثم احملوا مع الرابعة.» فلما كبّروا أوّل تكبيرة أعجلهم فارس، فعاجلوهم وخالطوهم مع أوّل تكبيرة. وركدت الحرب مليّا. فرأى المثنى خللا في بعض صفوفه، فأرسل إليهم: - «الأمير يقرأ [343] السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم.» فقالوا: «نعم.» واعتدلوا. وكانوا يرونه قبل ذلك وهو يمدّ بلحيته لما يرى منهم! فلمّا أعتبوه رأوه يضحك فرحا. فلمّا طال القتال، نظر المثنى إلى نفر من الثعلبيّين نصارى وفيهم جلّاب خيل قدموا مع أنس بن هليل. فقال:   [1] . مط: واهتمروا. في الأصل: واتمروا. وفي الطبري (4: 2190) : ائتمروا، كما أثبتناه. [2] . والمعروف أنّ «الشموس» معرّب أصله الفارسي: «چموش» ومعناه في اللغتين: الفرس الذي لا يمكّن أحدا من ظهره، ولا من الإسراج والإلجام، ولا يكاد يستقرّ (حب، قب) . فكيف يمكن القول: دعى الشموس «للين عريكته» ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 - «يا أنس، إنّك امرؤ عربىّ وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران، فاحمل معى.» وقال لابن [مردى] [1] الفهر مثل ذلك. فأجابوه إليه. فحمل المثنى على مهران حتى أزاله، فدخل في ميمنته. ثمّ خالطوهم واجتمع القلبان، وثار الغبار والمجنّبات تقتتل، لا يفرغون لنصر أمرائهم، ولا يستطيعون ذلك، لا المشركون ولا المسلمون. وقتل غلام تغلبىّ نصراني مهران. ووقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر وقد فنى قلب [2] المشركين. فأما المجنّبات فهي بحالها، فجعل المثنى يدعو لهم، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول: - «المثنى [يقول] [3] : عادتكم في أمثالهم!» حتى هزموهم. فسابقهم المثنّى إلى الجسر، فسبقهم وأخذ الأعاجم [344] يفترقون بشاطئ الفرات مصعدين ومصوّبين، واعتورتهم خيول المسلمين فجعلهم جثاء. فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمّة منها، كانوا يحرزونها [4] مائة ألف، وما عفى عليها إلّا ادّفان البيوت [5] . فيحكى أهل تلك الناحية: أنهم كانوا يأتون البويب، فيرون في ما بين موضع السكون اليوم وبنى سليم عظاما بيضا تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم، يعتبر بها. وسمّى يوم البويب يوم الأعشار: أحصى مائة رجل قتل كل واحد منهم عشرة يومئذ.   [1] . مط: «مودن» والأصل غير واضح (مودى؟ نودى؟ نوبن؟) وما أثبتناه من الطبري (4: 2192) . [2] . مط: غالب المشركين. [3] . ما بين [] تكملة زيدت عن الطبري (4: 2194) . [4] . حرزه: قدّره بالحدس، وخمّنه. ليس في مط: «كانوا يحرزونها مائة ألف» . [5] . كذا في الأصل. في مط: ادفان البويب. وفي الطبري: وما عفى عليها حتى دفنها ادفان البيوت (4: 2193) وفي موطن آخر: وكانت وقعة البويب رمضان سنة ثلاث عشر، قتل الله عليه مهران وجيشه، وأفعموا جنبتي البويب عظاما حتى استوى وما عفّى عليها إلّا التراب أزمان الفتنة. (4: 2199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وندم المثنى على أخذه الجسر، وقال: - «قد عجزت عجزة وقى الله شرّها بمسابقتى القوم إلى الجسر حتى أحرجتهم وإنّى غير عائد. فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس، فإنّها كانت زلّة، ولا ينبغي إحراج أحد إلّا من لا يقوى على امتناع.» وكان المثنى أصاب نزل مهران غنما، وبقرا، ودقيقا، فبعثوا إلى عيالات الناس، وكانوا خلّفوهنّ بالقوادس مع عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة. فلما رفعوا للنساء [345] فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة. فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد. فقال عمرو: - «هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش أن يكنّ.» وبشّرهنّ بالفلح [1] . وعقد المثنى الجسر، وسرّح في طلب المنهزمين أصحاب الجسر، فأصابوا غنائم كثيرة وتبعوهم. وكتب القوّاد والرؤساء منهم إلى المثنى: - «إنّ الله سلّم ووجّه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شيء، أفتأذن لنا في الإقدام.» فأذن لهم. فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصّن منهم أهل ساباط، واستمكنوا من الغارة على من بينهم وبين دجلة، ومخروها لا يخافون كيدا، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم، واعتصموا بساباط. المثنّى يغير على قرية بغداد غارة ثمّ إنّ المثنى بلغه خبر قرية [2] يأتيها تجّار مدائن كسرى والسواد، ويجتمعون بها في كل سنة مرّة ومعهم فيها من الأموال كبيت المال، وتلك أيّام سوقهم. فاستدعى المثنى من وثق به من أهل الحيرة فاستشاره.   [1] . مط: الفلاح. والطبري: الفتح (4: 2197) . [2] . أنظر الطبري 4: 2203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فقال له: - «إن أنت قدرت أن تغير عليهم وهم لا يشعرون، أصبت فيها مالا فيه غنى المسلمين دهرهم وقووا على أعدائهم أبدا.» قال: «وكم بينها وبين مدائن كسرى؟» [346] قال: «بعض يوم أو عامّة يوم.» قال: «فكيف لى بها؟» قالوا: نشير عليك أن تأخذ طريق البرّ حتى تنتهي إلى الخنافس، فإنّ أهل الأنبار يضربون إليها ويخبرونك فيأمنون، وتأخذ دهاقين الأنبار بالأدلّاء، وتسير سواد ليلتك حتى تأتيهم صبحا، فتصبّحهم غارة.» ففعل المثنى ذلك، فلما انتهى إلى الأنبار، تحصّن منه صاحبها وهو لا يدرى من هو، وذلك ليلا. فلمّا عرفه نزل إليه، فأطعمه المثنى واستكتمه وسأله الأدلّاء إلى بغداد حتى يعبر منها إلى المدائن. قال: «أنا أجيء معك.» قال: لا أريدك معى، ابعث معى من هو أدلّ منك.» فزوّدهم الأطعمة والأعلاف، وبعث معهم الأدلّاء، فساروا. فلما كانوا بالنصف، قال المثنى: - «كم بيني وبين هذه القرية بغداد؟» قال: «خمسة فراسخ.» فندب من أصحابه جماعة للحرس، وبعث طلائع فحسبوا الناس لئلّا يسبق الخبر وقال: - «أيّها الناس، أطعموا وتوضّئوا وتهيّئوا.» ثم سرى آخر الليل فصبّحهم في أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فأخذوا ما شاءوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وقال المثنى: - «لا تأخذوا إلّا الذهب [347] والفضة والحرّ من كل شيء.» ثمّ انكفأ راجعا حتى نزل بنهر السّيلحين [1] بالأنبار، فسمع همسا في ما بين الناس: - «ما أسرع القوم في طلبنا.» فخطبهم وقال: «أيها الناس، احمدوا الله وتناجوا بالبرّ والتقوى، ولا تناجوا بالإثم والعدوان، [2] انظروا في الأمور وقدّروها، ثم تكلّموا. ما بلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم إنّ للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل. ولو طلبكم المحامير من رأى العين ما أدركوكم وأنتم على العراب، حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم، ولو أدركوكم لقاتلتهم ورجوت النصر والأجر. فثقوا بالله، وأحسنوا به الظنّ، فقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة وهم أعدّ منكم، وسأخبركم عنّى أنّ أبا بكر أوصانا أن نقلّل العرجة ونسرع الكرّة في الغارات» . ثمّ أقبل بهم ومعهم الأدلّاء حتى انتهى بهم إلى الأنبار. ثمّ إنّ المثنى أغار على حىّ من تغلب على دجلة، وعلى قوم كانوا بتكريت، وأصابوا ما شاءوا [348] من النعم.   [1] . السيلحين: طسوج قرب بغداد بينه وبينها ثلاثة فراسخ. وقرية وراء عقرقوف تسميها العامة «الصالحين» وهي التي بات بها المثنى بن حارثة، وصبح فأغار على سوق بغداد (مع) . [2] . انظر: س 58 المجادلة: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 القادسية وأيّامها [1] فقال أهل فارس لرستم والفيرزان: - «إنّه لم يبرح منكما الاختلاف حتى أوهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم، ولم يبلغ من خطركما أن نقرّكما على هذا الرأى وأن تعرّضا فارس للهلكة. ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلّا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأنّ بكما قبل أن يشمت شامت، ونشفينّ نفوسنا منكما.» تمليك يزدجرد فاجتمع رستم والفيرزان عند بوران وقالا [2] لها: - «اكتبى لنا نساء كسرى وسراريّه.» - ففعلت. فأرسلوا في طلبهنّ، فلم تبق امرأة إلّا أتوا بها، فأخذوهنّ بالرجال، ووضعوا عليهنّ العذاب يستدلّون على ذكر من أبناء كسرى. فلم يوجد عندهنّ أحد. فقالت إحداهنّ: - «لم يبق إلّا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن أبرويز، وأمّه من أهل بادوريا [3] .»   [1] . انظر: الطبري (4: 2208) . أيام القادسية أربعة: الأول يوم أرماث، والثاني يوم أغواث، والثالث يوم عماس، والرابع: يوم القادسية (يا) والليلة التي تلت يوم أرماث تسمى ليلة الهدأة، والليلة التي تلت يوم أغواث تسمى ليلة السواد عند المؤرخين كما سيأتي ذكره. [2] . وفي الأصل ومط: قالوا. [3] . بادريا (بادريا، بادورياء) : طسّوج من كورة الاستان بالجانب الغربي من بغداد (يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فأرسلوا إليها، فأخذوها به، وكانت قد أنزلته [في أيام شيرى] [1] حين جمعهنّ في القصر الأبيض، وقتل الذكور إلى أخواله وكانت واعدتهم، ثم دلّته إليهم في زبيل [2] . فلما أخذت أمّه به، دلّتهم عليه، فأرسلوا، فجاؤوا به، فملّكوه وهو ابن إحدى [349] وعشرين سنة، واجتمعوا عليه واطمأنّت فارس، واستوسقوا، وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته. فسمّى الجنود لكلّ مسلحة كانت لكسرى أو موضع ثغر. فسمّى جند الحيرة وجند الأنبار والأبلّة والمسالح، وأظهروا الجدّ والنصيحة. وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بما ينتظرون منهم. فلم يصل الكتاب إلى عمر، حتى كفر أهل السواد كلهم: من كان له عهد ومن لم يكن له عهد. فكتب عمر إليهم: - «فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم، وتفرّقوا في المياه التي تليهم على حدود أرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحدا ولا مضر ولا حلفاءهم من أهل النجدات، ولا فارسا، إلّا اجتلبتموه، فإن جاء طائعا، وإلّا حشرتموه. احملوا العرب على الجدّ إذا جدّ العجم.» فنزل المثنى بذي قار، ونزل الناس بالحلّ، وبشراف إلى غضىّ- وغضىّ جبل [3] البصرة- فكان في أمواه   [1] . تكملة زيدت عن الطبري (4: 2211) . [2] . في الطبري ومط: «زبيل. وفي بعض الأصول: «زنبيل» . والزبيل بمعنى الزنبيل. [3] . مط: حدّ البصرة. الطبري: حيال البصرة. وفي حواشي الطبري: جبل البصرة، جبال البصرة (4: 2211) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 العرب [1] من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويعين بعضهم بعضا إن كان كون. وذلك في ذى العقدة من سنة ثلاث عشرة [350] للهجرة. وكتب عمر إلى عمّال العرب على الكور والقبائل أن: - «لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة إلّا انتخبتموه، ثم وجّهتموهم إلىّ، والعجل العجل [2] .» فمضت الرسل، ووافاه هذا الضرب من القبائل، وأخبروه عمّن وراءهم بالحثّ والجدّ. وخرج عمر في أول يوم من المحرّم سنة أربع عشرة حتى نزل ما يدعى صرارا، فعسكر به ولا يدرى الناس ما يريد. وكان عثمان أجرأ عليه، فقال له: - «ما بلغك؟ ما الذي تريد؟» فنادى: «الصلوة جامعة.» فاجتمع إليه الناس، فأخبرهم الخبر، ثمّ نظر ما يقول الناس. فقام العامّة: سر وسر بنا معك!» فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعه حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: - «استعدّوا، فانّى سائر، إلّا أن يجيء رأى هو أمثل من ذلك.» ثم جمع أهل الرأى ووجوه أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- فقال: - «أحضرونى الرأى.» فأجمع ملأهم أن يقيم، ويبعث رجلا من أصحاب رسول الله، ويرميه بالجنود. فنادى عمر: «الصلوة جامعة.»   [1] . مط: أقواه العرب! الطبري: أمواه العراق، وفي حواشيه: أمواه العرب (4: 2211) . [2] . هذا الكتاب «أول ما عمل به عمر حين بلغه أنّ فارس قد ملّكوا يزدجرد» (الطبري 4: 2211) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فاجتمع إليه الناس. فأرسل إلى علىّ، وكان استخلفه [351] على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة، وكان على مقدمته، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمان بن عوف، وكانا في المجنّبتين. ثم قام فيهم، فقال: - «إنّ الله جمع على الإسلام أهله، فألّف بين القلوب وجعلهم فيه إخوانا، فالمسلمون فيما بينهم كالجسد، لا يخلو منه شيء مما أصاب غيره، وكذلك يحقّ عليهم أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم. فالناس تبع لمن قام لهذا الأمر ما اجتمعوا عليه، ورضوا به، وما رءاه أولوا الرأى لزم الناس، وكانوا له تبعا، فمن قام بهذا الأمر فهو تبع لأولى الرأى. أيّها الناس! إنّى كنت كرجل منكم، حتى صرفني ذوو الرأى عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلا وقد أحضرت هذا الأمر من قدّمت ومن خلّفت.» فكان طلحة ممن تابع وعبد الرحمان ممن نهاه وقال: - «بأبى أنت وأمّى ... » قال عبد الرحمان: فما فديت أحدا بأبى وأمّى بعد النبي صلّى الله عليه غيره [1] ، وقلت: - «.. اجعل عجزها بى [2] ، وأقم، وابعث جندا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك فإن يهزم جيشك [352] فليس كهزيمتك، وإنّك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت على المسلمين.»   [1] . انظر الطبري (4: 2214) . [2] . كذا في مط والطبري. وفي حواشيه: «لى» (نفس الصفحة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 قال عمر: - «فأشيروا علىّ برجل!» قال عبد الرحمان: «وجدته.» وكان ورد كتاب سعد بن أبى وقاص وهم في تلك الحال، جوابا عن كتاب عمر: - «إنّى قد انتخبت لك ألف فارس [1] كامل كلّهم له نجدة ورأى وصاحب حيطة يحوط حريم قومه ويمنع ذمارهم، إليه [2] انتهت أحسابهم ورأيهم فشأنك بهم.» ووافق كتابه مشورتهم. وقال عبد الرحمان: «وجدته لك [3] .» قال: «من؟» قال: «الأسد عاديا، سعد بن مالك.» فأرسل إليه، فقدم، فأمّره على حرب العراق، وأوصاه، وقال: - «يا سعد سعد بنى وهيب! لا يغرّنّك من الله أن قيل: خال رسول الله! ليس بينه وبين أحد نسب إلّا طاعته. فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء: الله ربّهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله- صلى الله عليه- منذ بعث إلى أن فارقنا- عليه، فالزمه، فإنّه الأمر.   [1] . الطبري: ألف فارس مؤد (4: 2216) . [2] . كذا في الأصل ومط: إليه. وفي الطبري (4: 2216) : إليهم. [3] . الطبري: فقالوا: قد وجدت بدون «لك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 [353] [1] هذه [2] عظتى إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.» فسار سعد، ومات المثنى من انتقاض جراحته قبل أن يصل إليه سعد. وذاك أنّ جرحه كان ينتقض ويبرأ حتى مات. وقدم سعد، فأغار في ما يليه، ولم يزل كذلك، إلى أن ألحّ يزدجرد على رستم، وقال: - «لا بدّ أن تلى حرب العرب بنفسك.» فخرج رستم في العدّة والعديد والخيول والفيول، وراسله سعد بالمغيرة بن شعبة وغيره من دهاة العرب وأصحابه من ذوى الهيئات والآراء، فجرت بينهم مخاطبات، لا تجربة فيها ولا فائدة في المستأنف، فتركنا ذكرها. إلى أن صافّهم رستم وعبر إليهم. وكان في القلب الذي فيه رستم ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال، وفي المجنّبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين. تدبيره دبّره يزدجرد للإسراع في تسلّم أنباء الحرب وكان يزدجرد وضع بينه وبين رستم رجالا: فأوّلهم على باب إيوانه والآخر [354] [3] على دعوة منه، بحيث يسمعه، والآخر كذلك إلى أن انتظم بينه وبين   [1] . حصل تقديم وتأخير في الأصل بين الصحفتين 353 و 354 فصححناه. أنظر الطبري 4: 2217، السطر الثاني. [2] . كذا في الأصل ومط: «بعده» . وفي الطبري: «هذه» كما هو الصحيح. [3] . أنظر: الحاشية الخاصة بالصفحة 353 من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 رستم بالرجال. فلما نزل رستم بساباط قال الرجل الذي بساباط: «نزل!» وقال الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يقوله من يلي الإيوان ويسمعه يزدجرد. فكان كلّما ارتحل، أو نزل، أو حدث أمر، جرى الأمر فيه على ما شرحته، وترك البرد. وكان ذلك شأنه إلى أن انقضى الحرب. وكان بسعد حبون [1] وخراجات يومئذ لا يستطيع أن يركب. فإنّما هو على وجهه، في صدره وسادة وهو مكبّ عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمى بالرّقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة، وكان الصف إلى جانب القصر. فشغّب قوم من وجوه الناس على سعد، ولم يرضوا بما صنع خالد. فهمّ بهم سعد وشتمهم. ثم خطبهم، واعتذر إليهم، فرضوا، وأمر الرؤساء حتى خطبوا في من يلونهم، ففعلوا، وتحاضّوا وتواصوا. فأما الفرس فإنّهم تعاهدوا، وتواصوا، واقترنوا بالسلاسل. فكان المقترنون ثلاثين ألفا، وجملتهم مائة وعشرون ألفا، وثلاثون فيلا عليها المقاتلة، [355] وفيلة عليها الملوك وقوف لا تقاتل. يوم أرماث وأمر سعد فقرئ سورة الجهاد. وقال سعد: - «إنى مكبّر، فإذا سمعتم التكبيرة الأولى فشدّوا شسوع نعالكم، فإذا كبّرت الثانية فتهيّأوا، فإذا كبّرت الثالثة فشدّوا النواجذ على الأضراس واحملوا.» فلمّا فرغ القرّاء، كبّر سعد وكبّر الناس، ثم ثنّى فتهيّأ الناس، ثمّ ثلّث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال.   [1] . مط: «جنون» - وهو خطأ- و «جراحات» . وفي حواشي الطبري: حبوب، جنون! (4: 2287) . والحبون جمع مفرده الحبن: الدمّلة المقيّحة. والخراجات ومفردها الخراجة: كل ما يخرج بالبدن كالدّمّل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وخرج أمثالهم من أهل فارس، فاعتوروا الضرب والطعن. وخرج هرمز إلى غالب بن عبد الله- وكان هرمز من ملوك الباب متوّجا- فأسره غالب أسرا، وجاء به إلى سعد، فأدخل، وانصرف إلى المطاردة. فبينا الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة، قام صاحب رجّالة بنى نهد، فقال: - «يا بنى نهد، إنّما سمّيتم نهدا لتفعلوا.» فبعث إليه سعد خالد بن عرفطة: - «والله لتكفّنّ، أو لأوّلينّ عملك غيرك.» ولما تطاردت الفرسان خرج رجل ينادى: - «مرد ومرد» . [1] فانتدب له عمرو بن معدى كرب، فرماه الفارسي بنشّابة، فما أخطأت سئة [2] قوسه- وكان متنكّبها- فحمل عليه [356] عمرو، فاعتنقه، ثم أخذ منطقته فاحتمله فوضعه بين يديه. ثم جاء به حتى إذا دنا منّا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه. ثم قال: «أنا هكذا، فاصنعوا بهم، إنّما الفارسي إذا فقد قوسه تيس!» فقلنا: «يا با ثور [3] من يستطيع أن يصنع كما تصنع؟» وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فبارزه، فما لبّثه طليحة أن قتله. وقام الأشعث بن قيس، فقال: - «يا معشر كندة! لله درّ بنى أسد، أىّ فرى يفرون [4] ، وأىّ هذّ يهذّون!» وكذلك كانوا، لأنّهم حبسوا الفيلة بالضرب والطعن.   [1] . كذا في مط والطبري. مرد: رجل. أى: رجل ورجل [يتبارزان] . [2] . الأصل غير واضح. وفي مط: سئة. والعبارة في الطبري (5: 2297) : فما أخطأت «سية» قوسه «وهو» متنكبها. سئة القوس وسؤتها: طرفها المعطوف المعرقب (لع: «سأى» .) [3] . أى: يا أبا ثور. [4] . مط: أىّ فرّ يفرّون، وأىّ هدّ يهدّون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 - «.. يا معشر كندة! أراكم تنتظرون من يكفيكم الناس. العرب منذ اليوم يقاتلون وأنتم جثاة على الرّكب تنتظرون.» فوثب إليه عدّة، وقالوا: - «عثر جدّك إنّك لتؤبّخنا [1] ونحن أحسن الناس موقفا، ها نحن معك.» فنهد ونهدوا فأزالوا من بإزائهم. ولما رأى فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد، رموهم بحدّهم كلّه، وبدروا الشدّة على المسلمين عليهم ذو الحاجب والجالنوس والمسلمون ينتظرون [357] التكبيرة الرابعة من سعد. فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم الفيلة قد ثبتوا لهم. وكبّر سعد الرابعة، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة على الخيول، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد. فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر، فقال: - «يا معشر بنى تميم. ألستم أصحاب الإبل والخيل، أما لكم لهذه الفيلة من حيلة؟» قالوا: «بلى والله.» ثم نادى في رجال من قومه رماة، وآخرين أهل ثقافة، فقال لهم: - «يا معشر الرماة، ذبّوا ركبان الفيلة بالنّبل.» وقال: «يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة، فقطعوا وضنها.» وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد. وأقدم أصحاب عاصم بن عمرو على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وأذناب توابيتها، فقطّعوا وضنها وارتفعت عن ظهورها. فما بقي لهم يومئذ فيل إلّا عرّى وقتل أصحابها، ونفّس عن أسد، فردّوا عنهم فارس إلى مواقفهم، ولم يزالوا [358]   [1] . في الطبري (5: 2300) ، عثّر الله جدّك، إنّك لتؤيسنا. وفي حواشي الطبري: لتويسنا، لتوبسنا، لبؤسنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 يقتتلون حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهب هدأة من الليل. ثم رجع هؤلاء ورجع هؤلاء، وأصيب في أسد تلك العشيّة خمسمائة، وكانوا ردءا للناس. وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم. فهذا يومها الأوّل وهو يوم أرماث. يوم أغواث [1] ولما أصبح القوم على تعبئة من غد وقفوا. ووكّل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب، وإسلام الرثيث إلى النساء، يقمن عليهم، والناس ينتظرون بالجملة نقل الرثيث. فلمّا استقلّت بهم الإبل، وتوجّهت بهم نحو العذيب، طلعت بوادي الخيل من الشام، الذين صرفهم عمر بعد دمشق إلى العراق. وكان أبو عبيدة، لما قدم عليه كتاب عمر: أن يصرف أهل العراق أصحاب خالد بن الوليد ولم يذكر خالدا، ضنّ بخالد، واحتبسه عنده، وسرّح الجيش- وهم ستّة آلاف-[359] وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو. فعجّله أمامه، فانجذب القعقاع وطوى وتعجّل، فتقدّم على الناس يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه وهم ألف، أن يتقطّعوا أعشارا: فكلما بلغ عشرة مدى البصر، سرّحوا في آثارهم عشرة. فتقدّم القعقاع أصحابه في عشرة، فأتى الناس، فسلّم عليهم، وبشّرهم بالجنود، وقال: - «أيها الناس! إنّى قد جئتكم في قوم والله لو كانوا بمكانكم ثمّ أحسّوكم، لحسدوكم بحظوتها، وحالوا أن يظفروا [2] بها دونكم. فاصنعوا كما أصنع.» فنادى: «من يبارز؟» فسكن الناس، وتذاكروا قول أبى بكر فيه: «لا يهزم جيش فيه مثل هذا.» فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع:   [1] . أنظر الطبري 5: 2303. [2] . في الطبري: أن يطيروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 - «من أنت؟» قال: «أنا بهمن جاذويه.» فنادى: «يا لثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب الجسر.» ثم اجتلدا، فقتله القعقاع. وجعلت خيل القعقاع ترد قطعا إلى الليل وينشط الناس، فكأن لم يكن بالأمس [360] مصيبة، وكأنّها استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وللحاق القطع، وانكسرت الفرس لذلك. ونادى القعقاع أيضا: «من ينازل؟» فخرج إليه رجلان أحدهما الفيرزان والآخر البندوان. فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، فبادر القعقاع الفيرزان فضربه، فإذا رأسه مطروح، وبادر ابن ظبيان البندوان فضربه، فإذا رأسه كذلك، وتورّدهم فرسان المسلمين، وجعل القعقاع يقول: - «يا معشر المسلمين باشروهم بالسيوف فإنّما يحصد الناس بها.» فتواصى الناس واجتلدوا بها حتى المساء. فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئا مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، لأنّ توابيتها تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا علاجها حين أصبحوا، فلم ترتفع حتى كان من الغد. وفي هذا اليوم حمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة من الرجّالة على إبل قد ألبسوها، فهي مجلّلة مبرقعة، [361] وأطافت بهم خيولهم فحموهم، وأمرهم أن يحملوها على خيلهم بين الصفّين يتشبّهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث. فجعلت الإبل لا تصمد لقليل ولا كثير إلّا نفرت خيلهم، وركبتهم سيوف [1] المسلمين. فلمّا رأوا ذلك استنّوا بهم، فلقى أهل   [1] . مط: خيول المسلمين. الطبري: إلّا نفرت «بهم» خيلهم وركبتهم «خيول» المسلمين (5: 2309) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث. وجعل رجل من بنى تميم يتعرّض للشهادة، فأبطأت عليه حتى تعرّض لرستم يريده، فأصيب دونه. وخرج رجل من فارس ينادى: «من يبارز؟» فبرز له علباء [1] ، فأسجده ونفحه الفارسي فأمعاه، فلم يستطع القيام، فعالجها، فلم يتأتّ له حتى مرّ به رجل من المسلمين، فقال: - «يا هذا أعنّى على بطني.» فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف نحو صفّ فارس ما يلتفت على المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صفّ فارس، وقال: أرجو بها من ربّنا ثوابا ... قد كنت [ممّن] [2] أحسن الضّرابا [362] وخرج رجل من أهل فارس ينادى [3] : «من يبارز؟» فبرز له الأعرف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر من فارس فقتله، ثم برز آخر فقتله، فأحاطت به فوارس منهم، فصرعوه، وندر سلاحه عنه، فأخذوه، فجعل يغبّر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه وقال: [و] [4] إن تأخذوا بزّى، فإنّى مجرّب [5] ... خروج من الغمّاء، محتضر النّصر   [1] . الطبري: علباء بن جحش العجلى فأسحره فنفحه الفارسي.. (5: 2310) . [2] . الأصل «كنت مما» ، مط: «كنت ما» وما أثبتناه من الطبري (نفس الصفحة) . [3] . الأصل: فينادى. فحذفنا الفاء كما في مط. [4] . الأصل ومط بدون «و» فزدناها كما في الطبري (5: 2310) . [5] . وفي بعض الأصول: محرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وإنّى لحام من وراء عشيرتي ... ركوب لآثار الهوى محفل الأمر وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة من الخيل حمل حملة فيصيب فيها. فقتل في يوم أغواث ثلاثين فارسا، وكان آخرهم بزرجمهر الهمداني، وقال القعقاع فيه: حبوته جيّاشة بالنّفس ... هدّارة مثل شعاع الشّمس في يوم أغواث قليل [1] الفرس ... أنخس بالقوم أشدّ النّخس حتى تفيظ [2] معشرى ونفسي [363] واقتتل الناس صتيتا حتى انتصف الليل. فكانت ليلة أرماث تدعى «الهداة» ، وليلة أغواث تدعى «السواد» . ولم يزل المسلمون يرون الظفر يوم أغواث في القادسية، وقتلوا عامّة أعلامهم، وجالت فيهم خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أنّ خيلهم كرّت، لأخذ رستم أخذا. وانتمى المسلمون لدن [3] أمسوا. فلمّا أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: - «إن تمّ الناس على الانتماء فلا توقظنى، فإنّهم أقوياء على عدوّهم، فإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظنى، فإنّهم على السواء، وإن سمعتهم ينتمون، فأيقظنى، فإنّ انتماءهم لشرّ.»   [1] . في الأصل ومط: «قليل» ، وفي الطبري (5: 2311) : «فليل» مجرورا. الفليل: الجماعة. [2] . في الطبري ومط: تفيض. تفيظ: تموت. [3] . في الأصل: لدى. في الطبري: لدن أمسوا. مط: الذين أمسوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قصّة أبى محجن مع سلمى وسعد فلمّا اشتدّ القتال بالسواد، سأل أبو محجن سلمى بنت خصفة، وكان محبوسا مقيّدا في القصر. فقال: - «يا ابنة خصفة، هل لك إلى خير؟» قالت: «وما ذاك؟» قال: «تخلّين عنّى وتعيريننى البلقاء. فلله علىّ، إن سلّمنى الله أرجع إليك حتى أضع رجلىّ في قيدي.» ! فقالت: «وما أنا وذاك؟» فجعل يرسف في قيده وقال: [364] كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علىّ وثاقيا إذا قمت عنّانى [1] الحديد وغلّقت ... مصاريع من دوني تصمّ المناديا قالت سلمى: «إنّى استخرت الله، ورضيت بعهدك.» فأطلقته وقالت: - «أمّا الفرس فلا أعيرها.» فرجعت. «فاقتادها رويدا، وأخرجها من باب القصر، فركبها. ثم دبّ عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة. ثم حمل على الميسرة ميسرة الفرس، يلعب برمحه وسلاحه بين الصفّين- وقد حكى أنّ الفرس كانت عريا، وحكى أنّها كانت بسرجها- ثم رجع من خلف صفّ المسلمين إلى الميسرة، فكبّر، وحمل على ميمنة القوم، يلعب بين   [1] . الأصل «غنّانى» وما أثبتناه يؤيده مط والطبري (5: 2313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الصّفين برمحه وسلاحه. ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب، فبدر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفّين برمحه وسلاحه. فكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا، وتعجّب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالنهار. فقال بعض الناس: «هذا من أوائل أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه.» [365] وانتبه سعد وهو منكبّ مشرف من فوق القصر، فقال: - «والله لولا محبس أبى محجن لقلت: إنّه هو وهذه البلقاء.» وقال بعض الناس: «إن كان الخضر يشهد الحروب فهذا الخضر.» وقال بعضهم: «لولا أنّ الملائكة لا تباشر [القتال] [1] لقلنا: ملك بيننا!» فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر من حيث خرج منه، ووضع عن نفسه وعن دابّته، وأعاد رجليه في قيده، وقال في أبيات: لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنّا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأنّا وفدهم في كلّ يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا [2] وليلة قادس لم يشعروا بى ... ولم أشعر بمخرجى الزّحوفا فإن أحبس فذلكم بلائي ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا وإنّما حبس في أبيات قالها وهي:   [1] . كلمة «القتال» مأخوذة من الطبري 5: 2314. [2] . البيت تكملة من الطبري 5: 2315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 إذا متّ، فادفنّى إلى أصل كرمة ............... [1] فلمّا أصبحت سلمى أتت سعدا، وكانت مغاضبة له، وصالحته وأخبرته [366] خبرها مع أبى محجن. فدعا به، وأطلقه، وقال: - «اذهب، فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله، حتى تفعله.» قال: «لا جرم والله، لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا.» يوم عماس أصبح الناس اليوم الثالث على مواقفهم وبينهم كالرّجلة الحمراء ميل في عرض الصفّين، وقد قتل من المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف، وكان أهل الدين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر ويبلّغون الرثيث إلى النساء والصبيان، و [النساء و] [2] الصبيان يحرفون القبور في اليومين: يوم أغواث ويوم أرماث. وبات القعقاع ليلته كلها يسرّب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم بالأمس. ثم قال لهم: - «إذا طلعت الشمس فأقبلوا مائة مائة، كلّما توارت مائة فليتّبعها مائة. فإن جاء هاشم فذاك، وإلّا جدّدتم للناس رجاء وجدّا.» ففعلوا ولا يشعر بذلك أحد.   [1] . والأبيات كما في الطبري (5: 2316) هي: إذا متّ فادفنّى إلى أصل كرمة تروّى عظامي بعد موتى عروقها ولا تدفنّنى بالفلاة فإنّنى أخاف إذا ما متّ ألّا أذوقها وتروى بخمر الحصّ لحدي فإنّنى أسير لها من بعد ما قد أسوقها [2] . تكملة من الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 فأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم: فأمّا [367] قتلى المشركين فقد أضيعوا، لأنّهم لا يعرضون لأمواتهم، وكان ذلك مما صنع الله للمسلمين مكيدة ليشدّ بها أعضادهم. فلمّا ذرّ قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل طلعت نواصيها. فكبّر، وكبّر الناس وقالوا: «جاء المدد» وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها. فجاؤوا من قبل خفّان. فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى لهم هاشم في سبعمائة، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع في يوميه، فعبّى أصحابه سبعين سبعين. فلما نجز [1] أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بن هبيرة، حتى إذا خالط القلب كبّروا، وقد أخذ المسلمين الفرح [2] ، فكبّروا جميعا وقد أصلح المشركون توابيت الفيلة معها الرجّالة يحمونها أن تقطع وضنها ومع الرجّالة فرسان يحمونهم، إذا رأوا كتيبة دلفوا إليها بفيل واتباعه لينفروا به الخيل. فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأنّ الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد، كان أوحش [368] وأهول، وإذا طاف به الناس كان آنس. فكان القتال كذلك. وكان يوم عماس من أوّله إلى آخره شديدا، العجم والعرب فيه سواء، ولا يكون بينهم لفظة [3] إلّا تعاورها الرجال حتى تبلغ يزدجرد، فكان يبعث إليهم بأهل النجدات ممن بقي عنده فيقوون بهم، وتجيئهم الأمداد على البرد. فلولا الذي صنع القعقاع في اليومين، ومجيء هاشم بعقبه كسر ذلك المسلمين، وما كان عامّة جنن المسلمين إلّا براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، ومن لم تكن له وقاية   [1] . كذا في الأصل. مط: نحر. وفي حواشي الطبري: نجر، نجز، وفي الطبري: «فلما جاء آخر أصحاب القعقاع» (5: 2319) . [2] . مط: وتداخل المسلمون الفرح! وفي الأصل: وقد أخلى المسلمون الفرخ (الفرج؟) وفي عبارة الأصل غموض، وما أثبتناه كان مكتوبا على هامش الأصل فرجّحناه. [3] . مط: لقطة. في الطبري: نقطة، وفي هامشه: بقطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 لرأسه، عصّب رأسه بالأنساع. وأبلى يومئذ قيس بن هبيرة بن مكشوح. وقال عمرو بن معدى كرب: - «إنى حامل على الفيل بازائهم، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخّرتم فقدتم أبا ثور، وأين لكم مثل أبى ثور، وإن أدركتمونى وجدتمونى وفي يدي السيف.» ! فحمل، فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار. فقال أصحابه: - «ما تنتظرون؟ ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم.» فحلموا، فأفرج [369] المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه وإنّ سيفه لفي يده يضاربهم به، وقد طعن فرسه. فلمّا انفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس عليه فارسي، فحرّكه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت إلى عمرو، فهمّ به، فغشيه المسلمون. فنزل عنه، وحاضر إلى الفرس [1] ، وقال عمرو لأصحابه: - «أمكنونى من لجامه.» فأمكنوه منه فركبه. اتّفاق جرى يوم عماس ويحذر أن يقع مثله ومن الاتفاق الذي جرى في يوم عماس ويحذر أن يقع مثله: أنّ رجلا من الفرس خرج بين الصفّين فهدر وشقشق ودعا إلى البراز. قال: فبرز رجل منّا يقال له: شبر بن علقمة، وكان قصيرا دميما، وقال: - «يا معشر المسلمين! قد أنصفكم الرجل.» فلم يجبه ولم يخرج إليه أحد.   [1] . الطبري: وحاضر إلى أصحابه (5: 2323) . وضبط الأصل: الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فقال: «أما والله، لولا أن يزدرونى لخرجت إليه.» فلمّا رأى أنّ المسلمين لا يمنعونه أخذ سيفه وحجفته، وتقدّم. فلمّا رآه الفارسي نزل إليه، فاحتمله، وجلس على صدره وأخذ سيفه ليذبحه وقد كان شدّ مقود فرسه بمنطقته. فلمّا سلّ السيف [370] حاص الفرس حيصة، فجذبه المقود، فقلبه عنه. فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه. وجعل أصحابه يصيحون به، فقال: - «صيحوا ما بدا لكم، فوالله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه.» فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدا، فقال: - «إذا كان حين الظهر فائتني.» فوافاه، فحمد سعد الله، وأثنى عليه، ثم قال: - «إنى قد رأيت أن أنفّله إيّاه، وكلّ من سلب سلبا فهو له.» فباعه باثنى عشر ألفا. ما جرى في يوم عماس أيضا ولما عادت الفيلة لفعلها يوم أرماث تفرّق بين الكتائب، راسل قوما ممن أسلموا من الفرس، فدخلوا عليه، فسألهم عن الفيلة: «هل لها مقاتل؟» قالوا: «نعم! المشافر والعيون. لا ينتفع بها بعدها.» فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابني مذعور: «اكفياني الأبيض.» وذاك أنّ الفيلة كانت تألفه، وكان بإزائهما، وأرسل إلى حمّال والربّيل: «اكفيانى الأجرب» - وكان بازائهما. فأما القعقاع وعاصم فانّهما أخذا رمحين أصمّين ليّنين، ثم دبّا في خيل ورجل، وقالا: - «اكتنفوه لتحيّروه.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فنظر الفيل يمنة ويسرة وهما يريدان أن يخبط [1] . فحمل القعقاع وعاصم- والفيل متشاغل بمن حوله- فوضعا رمحيهما [371] في عيني الفيل الأبيض، فقبع، ونفض رأسه، فطرح ساسته، ودلّى مشفره، فبادره القعقاع، فنفحه بالسيف، فرمى به، وأقعى الفيل، فقتلوا من كان عليه. وأما حمّال والربّيل فانّهما قالا: - «يا معشر المسلمين، أىّ الموت أشدّ؟» قالوا: «أن تشدّا على هذا الفيل.» قال: «فنزّقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بازائهم. فطعن أحدهما عينه فوطئ الفيل من خلفه، ويضرب الآخر مشفره، فيضربه سائس الفيل ضربة شانئة في وجهه بالطبرزين، فأفلت بها هو والربّيل [2] ، فبقى الفيل متلدّدا بين الصفّين كلّما أتى صفّ المسلمين وخزوه، وإذا أتى صفّ المشركين نخسوه، وصاح الفيلان صياحا عظيما. ثم ولّى الأجرب الذي عوّر، فوثب في العتيق فاتّبعته الفيلة فخرقت صفّ الأعاجم، وعبرت العتيق في إثره، فبيّتت [3] المدائن في توابيتها، وهلك من فيها، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظلّ، فتزاحفوا، واجتلدوا بالسيوف حتى أمسوا. فلمّا طعنوا في الليل اشتدّ القتال [372] وصبر الفريقان، ولم يسمع إلّا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسمّيت «ليلة الهرير» لم يكن بعدها قتال بليل بالقادسيّة. ثمّ إنّ سعدا وجّه طليحة وعمرو بن معدى كرب إلى مخاضة كانت أسفل منهم، وخشي أن يؤتى المسلمون منها بعبور الفرس، ووصّاهما أن يقفا هناك، فإن أحسّا بكيد أنذرا المسلمين. فانتهيا إلى هناك، فلم يجدا أحدا. فأمّا طليحة فرأى   [1] . في الأصل: يخبط. في الطبري (5: 2325) : يتخبّطا. [2] . الأصل ومط: بها وهو الربّيل بتقديم «و» على «هو» وما أثبتناه يؤيده الطبري (5: 2325) . [3] . وفي الطبري: فأتت المدائن، وفي حواشيه: فبيّتت (5: 2326) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أن يعبر، وأمّا عمرو فقال: «ما أمرنا بذلك.» فعبر طليحة حتى إذا صار وراء صفّ المشركين كبّر ثلاث تكبيرات، فدهش القوم، وكفّوا عن الحرب لينظروا ما هو، وطلبوه فلم يدروا أين سلك! وسفل حتى غاص، وأقبل إلى العسكر فأتى سعدا خبره، فاشتدّ ذلك على الفرس، وفرح المسلمون. وقال طليحة للفرس: - «لا تعدموا أمرا ضعضعكم.» ثم إنّهم عادوا، وجدّدوا تعبئة، وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة والمسلمون على تعبيتهم، فطاردهم فرسان العرب، فإذا القوم لا يشدّون، ولا يريدون إلّا الزحف [373] فقدّموا صفا له أذنان، وأتبعوا آخر وآخر حتى تمّ صفوفهم ثلاثة عشر صفّا في القلب والمجنّبتين. فرماهم فرسان العسكر فلم يعطفهم ذلك. ثم لحقت بالفرسان الكتائب، فحمل القعقاع على ناحيته التي رمى بها مزدلفا. فقاموا على ساق والناس على راياتهم، بغير إذن سعد. فقال سعد: «اللهمّ اغفرها له وانصره، وا تميماه سائر الليلة.» ثم قال: «إنّ الرأى ما رءاه القعقاع. فإذا كبّرت ثلاثا فاحملوا.» فلمّا كبّروا [1] واحدة حملت أسد، فقال: اللهمّ اغفرها لهم وانصرهم. وا أسداه سائر الليلة.» ثم حمل الناس وعصوا سعدا. فقام قيس بن المكشوح في من يليه- ولم يشهد شيئا من لياليها إلّا تلك الليلة، لأنّه كان آخر من ورد مع هاشم- فقال: - «إنّ عدوّكم قد أبى إلّا المزاحفة، والرأى رأى أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجل.» قال القوم: «إذا زحفوا وطاردهم عدوّهم على الخيل لا رجال معهم عفّروا [2]   [1] . في الأصل: كبّروا، وما أثبتناه من مط. [2] . في الأصل: عفروا. وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط (5: 2331) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم. تيسّروا للحملة، وانتظروا التكبير.» - وإنّ نشّاب الأعاجم لتجوز [374] صفّ المسلمين.» فتكلّم الرؤساء. فقال دريد بن كعب النخعي- وكان معه لواء النخع-: - «إنّ المسلمين قد تهيّئوا للمزاحفة، فاستبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد، نافسوهم الشهادة، وطيبوا نفسا بالموت، فإنّه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلّا فالآخرة ما أردتم.» وتكلّم الأشعث بن قيس، فقال: - «لا ينبغي أن يكون هؤلاء أجرأ على الموت منّا، ولا أسخى نفسا عن الدنيا، لا تجزعوا من القتل، فإنّه أمانىّ الكرام، ومنايا الشهداء.» وترجّل وتكلّم طليحة فقال مثل ذلك، وتكلّم غالب وحمّال وأهل النجدات، فقالوا قريبا من ذلك، وفعلوا فعلهم. وقامت حربهم على ساق، حتى الصباح. فتلك ليلة الهرير. وحكى أنس بن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قطّ، وانقطعت الأصوات عن رستم وسعد. فبعث سعد نجّارا [1]- وهو [375] غلام- إلى الصفّ لم يجد رسولا، فقال: - «أنظر ما ترى من حالهم.» فرجع، فقال: «ما رأيت يا بنىّ؟» قال: «رأيت قوما يلعبون ويجدّون.» فأوّل شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الأخير،   [1] . الأصل: مهمل النقط مع تشديد الثاني. في مط: زالت نقطة النون. وفي الطبري: بجاد، وفي حاشيته: نجار (5: 2334) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 صوت القعقاع بن عمرو، وهو يقول: نحن قتلنا معشرا وزائدا ... أربعة وخمسة وواحدا تحسب [1] فوق اللّبد [2] الأساودا ... حتى إذا ماتوا دعوت شاهدا [3] الله ربّى واحتردت [4] جاهدا وأصبحوا ليلة القادسية- وهي ليلة الهرير. سمّيت بليلة القادسية من بين تلك الليالي والأيّام- والناس حسرى لم يغمّضوا ليلتهم كلّها. فسار القعقاع في الناس، فقال: - «إنّ الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم، فاصبروا فإنّ النصر مع الصبر.» فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، فصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه. ولمّا رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث المكشوح، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدى كرب، وأشباههم، فحضّوا الناس وحرّضوا. [376] فكان أوّل من زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والبندوان [5] ، فتأخّرا وثبتا حيث انتهيا. وانفرج القلب، وركد عليهم النقع، وهبّت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق وهي دبور، ومال الغبار عليهم. وانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير، فعبروا به، وقد قام رستم حين طارت الريح بالطيارة إلى   [1] . كذا في الأصل وحواشي الطبري: تحسب، وفي الطبري ومط: «نحسب» . [2] . اللّبد: بساط من صوف، أو ما يجعل على الفرس تحت السرج. [3] . الطبري: جاهدا، وفي حواشيه: شاهدا. [4] . الأصل: «اجتردت» بقرينة مط، لأن نقطة الجيم فيه زائلة تقريبا. في الطبري: «احترزت عامدا» وفي حواشيه: «احتردت جاهدا» . [5] . وفي الطبري: «البيرزان» (5: 2336) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بغال قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة. فاستظلّ في ظلّ بغل وحمله. فقصده هلال بن علّفة، وولّى عنه رستم، فاتبعه هلال، فرماه رستم، فشكّ قدمه في الركاب، وقال بالفارسية: - «بباى [1] .» - يقول: «كما أنت ارفق.» فحمل عليه هلال، فضربه ضربة نفحت مسكا. ومضى رستم نحو العتيق، فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه، فتناوله وقدم عام وهلال قائم. فأخذ رجله، ثم خرج به، وضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين يدي رحله وأرجل البغال، وأخذ سلبه، ثم صعد السرير، ونادى: - «قتلت رستم وربّ الكعبة، إلىّ إلىّ!» فأطافوا به، وكبّروا وما يحسون السرير، ولا يرونه، وانهزم المشركون. [377] وقام الجالنوس على الردم ونادى أهل فارس إلى العبور، وأسفر الغبار. فأما المقترنون فإنّهم جشعوا. فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أفلت منهم مخبر وهم ثلاثون ألفا. درفش الكابيان وغيره من الأسلاب وأخذ ضرار بن الخطّاب درفش الكابيان، فعوّض منها ثلاثين ألفا، [000، 30] وكانت قيمتها ألفى ألف ومائتي ألف [000، 200، 2] . وجمعت الأسلاب والأموال، فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده. وأرسل سعد إلى هلال، فدعى، فقال:   [1] . بباى بپاى: فعل أمر من المصدر الفارسي: «پاييدن» والباء زائدة في صيغة الأمر. ومعناه: انتبه! (وفي هذا المعنى تشدّد الباء الفارسية، أى حرفه الثاني) أو: ابق، دم، أو: قاوم، أو: أرصد، وفي الطبري: فشكّها في الركاب وقال بپايه. وفي الهامش: «بيايه، بيابه، ببايه» ، أى: اصبر. (5: 2343) . وفيه أيضا: «فشكها» ورستم يقول بالفارسية: «بپايه» أى: كما أنت، وفي الحاشية: «كما أتت» (5: 2356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 - «أين صاحبك؟» قال: «رميت به تحت أبغل كانت هنالك.» قال: «اذهب، وجئ به.» فأمضى له سلبه. وبعث زهرة بن الحويّة [1] يتبع الجالنوس ومن لحق به، وأمر القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا. وأمر بدفن الشهداء. فخرج زهرة بن الحويّة في آثارهم. فلمّا انتهى إلى الردم وجده مبثوقا، ليمنعوهم من الطلب. فقال زهرة: - «يا بكير- وكان معه- أقدم فرسك!» وكان بكير يقاتل على الإناث، وقال: - «ثبى أطلال!» فتجمّعت ووثبت. وأوثب زهرة فرسه [378]- وكان على حصان- فاتبعه وتتابع على ذلك ثلاثمائة فارس. ونادى زهرة حين كاعت [2] الخيل: - «خذوا أيها الناس على القنطرة فعارضونا!» ففعل الناس ذلك ومضى زهرة، فلحق الفرس، وقد نزلوا الخرّارة وطمعوا، وهم يتعجّبون من رميهم وأنّه لم يعمل في العرب. وكان الجالنوس قد رفع له كرة [3] ، فهو يرميها ويشكّها بالنشّاب. فشدّ زهرة على الجالنوس، فقتله، وانهزمت الفرس. وقد قيل: إنّ الجالنوس كان راكبا يحمى الفرس حين لحقهم زهرة، فشاوله، واختلفا ضربتين سبقه زهرة، فقتله. وأمّا القعقاع وشرحبيل فإنّهما خرجا في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كلّ قرية وأجمة وشاطئ نهر، وراجعوا. فتوافوا عند صلاة الظهر، وهنّأ الناس   [1] . في الطبري: الحويّه (5: 2338) . مط: الجويّه. [2] . كاعت الخيل: مشت وتمايلت على أكواعها. من شدّة الحرّ، أو لأنها عقرت. الكاع: طرف الزند الذي يلي الإبهام. [3] . وفي الطبري: الكرة وفي حواشيه: الكرّة (5: 2342، 2357) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 بعضهم بعضا، وأثنى سعد على كلّ حىّ، وذكر خيرا. وتدرّع زهرة ما كان على الجالنوس، فبلغ بضعة وسبعين ألفا. فلمّا رجع إلى سعد نزع سلبه وقال: - «ألا انتظرت إذنى؟» فكتب عمر إلى سعد: - «تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به [379] وقد بقي من حربك ما بقي، تكسر قوّته [1] ، وتفسد قلبه! أمض له سلبه، وفضّله عند العطاء بخمسمائة.» وقد حكى أنّ عامة من شهد القادسية فضّلوا عند العطاء بخمسمائة. وأمّا أهل الأيّام، فإنّهم فضّلوا على أهل القادسية، فإنّهم فرض لهم على ثلاثة آلاف. فقيل لعمر: - «لو ألحقت بهم أهل القادسية، أو فضّلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه.» فقال: «كيف أفضّلهم وهم شجى [2] العدوّ، فهلّا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوهم بفنائهم مثل هذا.» فحكى عن رجل من عبس قال: أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما لم يصب الناس قبلهم. لقد كان الرجل من المسلمين يدعو الفارس منهم وعليه السلاح التامّ، فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه ويأخذ سلاحه، وربما قتله بسلاحه، وربما أمر الرجلين أحدهما بصاحبه، وكذلك في العدّة. وكان ممن هرب: الهرمزان، وقارن، وأهود. وكان ممن استقتل: شهريار بن كنارا، وابن الهربذ، والفرّخان، وخسروشنوم [3] . [380] وباع هلال بن علّفة سلب رستم- وكان تخفّف لما وقع في الماء- بسبعين   [1] . الطبري: تكسر قرنه (5: 2342) . [2] . الطبري: شجن العدو (5: 2343) . [3] . مهمل النقط وبدون الواو الأولى في الأصل ومط، وما أثبتناه هو من الطبري (5: 2356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ألفا، وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف [000، 100] لو ظفر بها. وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فقالوا: - «أيها الأمير، رأينا جسد رستم على باب قصرك، وعليه رأس غيره.» وكان الضرب قد شوّهه، فضحك. ومن أنباء الشام وأما جند الشام فإنّ حمص افتتحت، وتوجّه علقمة إلى غزّة، وتوجّه معاوية إلى قيساريّة، وصمد عمرو بن العاص إلى الأرطبون [1] بأجنادين، وكان الأرطبون أدهى الروم، أبعدها غورا، وأذكاها فعلا، وكان على الروم، وقد وضع بالرملة جندا عظيما [2] ، وكتب عمرو إلى عمر [بالخبر] [3] . فقال عمر: - «قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عمّا تنفرج.» ذكر خديعة عمرو لأرطبون وجعل عمرو ينفذ إلى الأرطبون رسلا فلا يشفونه [4] . ولا يقدرون من أرطبون على سقطة. فعزم على أن يتولّاه بنفسه، فدخل عليه كأنّه رسول. فأبلغه ما [381] يريد، وسمع كلامه، وتأمّل حصونه حتى عرف ما أراد. وقال أرطبون في نفسه: - «والله إنّ هذا لعمرو، أو الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأعظم عليهم من قتله.»   [1] . أرطيون، بالياء المثنّاة (لد) . وفي الطبري أيضا بالباء الموحدة (5: 2398) . [2] . وزاد في الطبري: وبايلياء جندا عظيما. [3] . تكملة من الطبري. [4] . وفي الطبري: فلا تشفيه الرسل (5: 2399) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ثمّ دعا حرسيّا، فسارّه بقتله، وقال: - «اخرج بمكان كذا وكذا، فإذا مرّ بك هذا فاقتله.» وفطن له عمرو فقال: - «قد سمعت منّى وسمعت منك. فأمّا ما قلت فقد وقع منّى موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطّاب مع هذا الوالي لنكاتفه ويشهدنا أموره. فأرجع، فآتيك بهم الآن. فإذا رأوا في الذي عرضت مثل رأيى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك.» فقال: «نعم.» ودعا رجلا، فسارّه وقال: - «اذهب إلى فلان فردّه إلىّ.» فرجع الرجل. وقال لعمرو: - «انطلق، فجئ بأصحابك.» فخرج عمرو ورأى ألّا يعود لمثلها، وعلم الرومي أنّه قد خدعه. فقال: - «خدعني الرجل. هذا أدهى الخلق.» فبلغت عمر فقال: - «خدعه عمرو وغلبه. لله عمرو. [1] » سعد بن أبى وقّاص يقدّم زهرة إلى بهرسير ثم إنّ سعد بن أبى وقاص [382] قدّم زهرة بهرسير [2] . فمضى زهرة من كوثى في المقدّمات حتى نزل بهرسير، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزى.   [1] . تجد التفاصيل عند الطبري (5: 2400) . [2] . في الأصل ومط: نهرسير. وبهرسير من نواحي بغداد قرب المدائن ويقال: «بهرسير الرومقان» ، وقال حمزة: هي إحدى المدائن السبعة التي سميت بالمدائن وهي غربي دجلة (مع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 فأمضاه إلى سعد، فأقبل معه وتبعته المجنّبات. وخرج هاشم وخرج سعد في إثره وقد فلّ زهرة كتيبة كسرى بوران [حول] [1] المظلم [2] ، وانتهى هاشم إلى مظلم ساباط، ووقف لسعد حتى لحق به، وكانت به كتائب كسرى تدعى: «الأسود» ، يحلفون بالله كلّ يوم: - «لا يزول ملك فارس ما عشنا.» فتنادوا ورئيسهم المقرّط. وقال المقرّط: - «إلىّ إلىّ.» وذلك لما انتهى إليه. فنزل إليه هاشم فقتله. فقبّل سعد رأس هاشم، وقبّل هاشم قدم سعد. وقدم سعد إلى بهرسير، فنزل إلى المظلم وقرأ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ من قَبْلُ ما لَكُمْ من زَوالٍ. 14: 44 [3] ثم ارتحل فنزل بهرسير. وجعل المسلمون كلّما قامت طائفة على بهرسير، وقفوا، ثمّ كبّروا كذلك، حتى انجرّ [4] آخر من مع سعد، فكان مقامه على بهرسير شهرين. وعبروا في الثالث، وذلك أنّهم أقاموا شهرين يرمونهم بالمجانيق، ويدبّون إليهم بالدبابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة. وكان [383] سعد استصنع شيرزاد عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها. وكانت العرب مطيفة ببهرسير والعجم متحصّنة فيها. وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في العدّة والعديد لقتال المسلمين، فلا يقومون لهم. فكان آخر ما خرجوا في رجّالة، وناشبة تجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون ولم يلبّثوهم [5] ، فكذبوا وتولّوا.   [1] . تكملة من الطبري. [2] . المظلم: مظلم ساباط: موضع مضاف إلى ساباط التي بقرب المدائن (مع) . [3] . س 14 إبراهيم: 46. [4] . الطبري: «نجز» وفي حواشيه: «أنجز» . (1، 2425) . [5] . الطبري: «ولم يثبتوا لهم» (5: 2428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ذكر استهانة في الحرب عادت بهلكة هكذا وجدت في التاريخ وهو سهو، لأنّ زهرة بن الحويّة عاش بعد هذا، وشهد مواقف كثيرة، وسيرد جميعه على الأثر. ولعلّ هذا زهرة بن خالد، فلينظر في ذلك. كان في ذلك اليوم على زهرة بن الحويّة درع مفصومة، فقيل له: - «لو أمرت بهذا الفصم فسرد.» فقال: «ولم؟» قال: «نخاف عليك منه.» قال: «إنّى لكريم على الله، إن ترك سهم فارس [1] الجند كلّهم، ثمّ أتانى من هذا الفصم حتى يثبت في.» فكان أول رجل من المسلمين يومئذ أصيب هو [384] بنشّابة ثبتت فيه من ذلك الفصم. فقال بعضهم: «انزعوها عنه.» فقال: «دعوني، فإن نفسي معى ما دامت في، لعلّى أصيب منهم بطعنة، أو ضربة، أو خطوة.» فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل، وانكشفوا. وتنادى أهل بهرسير، فعبروا. فلمّا رآهم سعد والمسلمون يعبرون، زحفوا إلى السور والمجانيق تأخذه. فناداهم رجل: - «الأمان» . فآمنوه، فقال:   [1] . كذا ضبط في الأصل «فارس» ، والضبط عند الطبري: «فارس» (5: 2428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 - «أىّ شيء ترمون؟ ما بقي في المدينة أحد.» فتسوّروا، ودخلوا بهرسير، وفتحوا أبوابها، وتحوّل العسكر إليها، وحاولوا العبور، فوجدوهم قد ضمّوا السفن إليهم في ما بين البطائح وتكريت. بهرسير [1] وأبيض كسرى ولما دخل المسلمون بهرسير لاح لهم الأبيض. فقال ضرار بن الخطّاب: - «الله أكبر، هذا ما وعد الله ورسوله: أبيض كسرى.» والله لتتابعوا بالتكبير حتى أصبحوا. وخبّرهم ذلك الرجل الذي نادى بالأمان: أنّكم حصرتم القوم حتى أكلوا الكلاب والسنانير. ولمّا نزل سعد بهرسير- وهي المدينة التي كان فيها منزل كسرى- طلب السفن [385] ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شيء، وأقام أيّاما يصعّد ويصوّب. فأتاه أعلاج يدلّونه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وأبقى على المسلمين وفجئهم المدّ، فرأوا أمرا هائلا في سنة جود صيفها [2] متتابع. فجمع سعد الناس وخطبهم وقال بعد حمد الله: - «إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم. وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدوّ   [1] . وهي المدينة الدنيا (الطبري 5: 2432) . [2] . في الأصل: «في سنة جود صيفيها متتابع» ولكنّا أثبتناه كما في الطبري (5: 2432) الجود: المطر الغزير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 بنيّاتكم قبل أن تحصدكم [1] الدنيا، ألا إنّى قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.» فقالوا جميعا: - «عزم الله لنا ولك على الرشد.» فندب سعد الناس إلى العبور، فقال: - «من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى لا يتلاحقوا [2] ويلحق الناس، فلا يمنعوا من الخروج من الماء؟» . فانتدب له عاصم بن عمرو وجماعة من ذوى البأس. ثمّ انتدب بعدهم ستمائة من أهل [386] النجدات. فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة، وقال: - «من ينتدب معى لمنع الفراض من عدوّكم لنحميكم حتى تعبروا؟» فانتدب له ستون، فجعل نصفهم على خيول إناث، ونصفهم على ذكورة. ثمّ اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم. فكان أول من فصل من الستمائة، رجل يعرف بأصمّ التيم وشرحبيل وعدّة من معه. فلمّا رآهم الفرس وما صنعوا، أعدّوا للخيل التي عبرت مثلها، فاقتحموا دجلة فأعاموها إليهم. فقال عاصم وقد لقوه في السرعان وقد دنا من الفرضة: - «الرماح، الرماح أشرعوها، وتوخّوا بها العيون» . فالتقوا، وتوخّى المسلمون عيونهم. فولّوا بأجمعهم والمسلمون يشمّصون [3] بهم خيلهم ما يملك رجالها منع شيء منها، فلحقوهم في الجدّ فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم الخيل، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين   [1] . في الطبري: تحصركم، تحصدكم، تخضدكم. [2] . في الأصل ومط: لا يتلاحقون. [3] . الطبري: يشمسون (5: 2433) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 غير متعتعين، وأذن سعد للناس في الاقتحام وأمرهم بالاقتران، فتلاحق عظم الجند، فركبوا من دجلة اللجّة وإنّها لترمى بالزبد [387] وهي مسودّة، وإنّ الناس ليتحدّثون في عومهم، وقد اقترنوا ما يكترثون، كما يتحدّثون في مسيرهم على الأرض. ففجئوا [1] أهل فارس بما لم يكن في حسابهم، فأعجلوهم عن جمهور أموالهم. وكان يزدجرد قد قدّم عياله وما خفّ من ذخائره معهم حين نزل المسلمون بهر سير إلى حلوان. وبلغ ذلك سعدا. جاءه بالخبر بعض الأعلاج [2] وقال: - «ما تنتظر إذا كان بعد ثلاث لم يبق بالمدائن مال لكسرى، ولا لأهله» . فكان ذلك مما هيّج سعدا وحمله على ما فعل. فكان قرين سعد الذي يسايره في الماء سلمان الفارسىّ، وكان سفيرهم، والمترجم لهم وعنهم. وحكى: أنّ ذلك الخيل عبر بأجمعه، وقد اسودّت منه دجلة حتى ما يرى الماء، فسلموا بأجمعهم، ما فقدوا رجلا واحدا، ولا أداة. غير أنّ رجلا كانت له علاقة في قدح رثّة، فانقطعت، وذهب القدح في الماء، والتقطه رجل من الماء كان أسفل، تناوله برمحه، وجاء به إلى العسكر يعرّفه، فأخذه صاحبه. وزال رجل من بارق يومئذ [388] يدعى غرقدة عن ظهر فرس له شقراء، فنظر إليها المسلمون عريا [3] تنفض أعرافها والغريق طاف، فثنّى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده، وجرّه حتى عبر، وكان البارقىّ من أشدّ الناس، فقال: أعجزت الأخوات [4] أن يلدن مثلك يا قعقاع؟» - وكان للقعقاع فيهم   [1] . وفي مط: فعجبوا. في الطبري أيضا: ففجئوا: (5: 2434) . [2] . جمع العلج: العير، الحمار، حمار الوحش السمين القوى، الرجل الضخم القوى من كفار العجم، وبعضهم يطلقه على الكافر عموما. [3] . مهملة في مط والأصل. فرس عرى: غير مسرج، ويقال: خيل أعراء. قيل: ولا يقال: فرس عريان، كما لا يقال: رجل عرى (قب) . [4] . والضبط في الأصل: أعجزت الأخوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 خؤولة. وما زالت حماة فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال: - «علام تقاتلون، ولم تقتلون أنفسكم؟ فوالله ما في المدائن أحد.» مبادرة يزدجرد إلى حلوان وبادر يزدجرد إلى حلوان، وخلّف مهران الرازي والنخيرجان [1]- وكان على بيت المال بالنهروان- وخرجت الفرس بما قدرت عليه من حرّ المتاع وخفيفه وبالنساء والذرارىّ، وتركوا في الخزائن من الثياب، والأمتعة والآنية، والفضول، والألطاف، والعطر، ما لا يدرى: ما قيمته. وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من الأطعمة، والأشربة، وأصناف المأكول والحيوان من البقر، والغنم. دخول المدائن فدخل المسلمون المدائن، وأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه، إلّا من كان في القصر الأبيض. فأحيط بهم [389] ودعوهم. وكانوا قد اتعظوا بأهل بهرسير. وذلك أنّ المسلمين لما نزلوا عليهم أجّلوهم ثلاثا، ودعوهم إلى ثلاث خصال: إمّا الإسلام، وإمّا الجزية، وإمّا الحرب. فلما لم يجيبوا في [اليوم] الثالث أبادوهم. ولما دعوا أهل القصر الأبيض إلى مثل ذلك اختاروا الجزية. وكان المخاطب لهم سلمان الفارسي. وملك المسلمون الغنائم، واحتوى سعد على بيوت المال، فوجد فيها ثلاثة آلاف ألف ألف [000، 000، 3000] . فنزل سعد القصر الأبيض، واتّخذ الإيوان مصلّى. وقدّم جيشا إلى النهروان، عليهم زهرة، وتراجع إلى المدائن أهلها على   [1] . الأصل ومط: الكلمة مهملة إلّا في النون الأخيرة. في الطبري: النخيرجان (5: 2439) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الأمان والرضا بالجزية. ووجدوا بالمدائن قبابا تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، قالوا: فما حسبناها إلّا طعاما من حلواء، فإذا هي آنية الذهب والفضّة! وقسمت بعد في الناس. قال حبيب: لقد رأيت رجلا يطوف ويقول: - «من معه بيضاء بصفراء.» ولقد أتينا على كافور كثير. فما حسبناه إلّا ملحا، فجعلنا نعجّن به الدقيق حتى وجدنا مرارته في الخبز! ولما انتهى زهرة في المقدمة إلى النهروان [390] وجدهم قد ازدحموا، فوقع بغل في الماء كلبوا عليه. فقال زهرة: - «إنى أقسم بالله انّ لهذا البغل لشأنا ما كلب عليه القوم، ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لأمر.» وإذا الذي عليه خرزات كسرى ووشائحه، وعليها من الجواهر ما لا تعرف قيمته، وكان يجلس فيها يوم المباهاة. فترجّل زهرة يومئذ حتى أزاحهم عن البغل، فاحتمله هو وأصحابه، وجاءوا بما عليه إلى صاحب الأقباض، لا يدرون ما عليه حتى فتح هناك. تاج كسرى وأدراعه وحكى هبيرة بن الأشعث عن جدّه قال: كنت ممن خرج في الطلب، فإذا ببغلين فذاد راكباهما عنهما بالنشّاب [1] ، ونظرت، وإذا لم يبق معهما غير نشّابين. فألححت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما   [1] . مط: مكان «فذاد» إلى «بالنشّاب» : «قد أدركناهما عنهما بالنشاب» وفي الطبري: قد ردّا (ذبّا) الخيل عنهما بالنشاب (5: 2446) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 لصاحبه: - «على ما أرى، ارمه وأحميك، أو أرميه واحمنى!» فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثمّ إنّى حملت عليهما، فقتلتهما، وجئت بالبغلين ما أدرى ما عليهما، حتى أتيت بهما صاحب الأقباض وإذا هو يكتب ما يأتى به الناس وما يجمع من الخزائن والدور، فقال: - «على [391] رسلك حتى ننظر ما معك!» فأطلت الوقوف بعد ما حصلت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا [1] ، وكان لا يحمله إلّا أسطوانتان، وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى منسوجة بالذهب المنظوم بالجوهر. وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسىّ يحمى الناس، فاقتتلا، فقتله، وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان، وفي أحد الغلافين خمسة أسياف [2] ، وفي الآخر ستة أسياف [3] ، وإذا في إحدى العيبتين أدراع: درع كسرى، ومغافره، وساقاه، وساعده، ودرع هرقل، وفي الآخر درع سياوخش، ودرع خاقان، ودرع داهر [4] ، ودرع بهرام شوبين، ودرع النعمان، وكان الفرس استلبوها من أربابها أيام خالفوا كسرى. وحكى عاصم بن الحارث قال: خرجت في الطلب. فأخذت طريقا مسلوكا، وإذا حمار. فلمّا رآني صاحبه حثّه، فلحق بآخر أمامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر [392] جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثمّ تفرّقا ورمانى أحدهما، فألظظت [5] حتى   [1] . كذا في الطبري (5: 2446) ، وفي مط: منسّجا. [2] . مط: أشياف! [3] . مط: أيضا: أشياف! [4] . كذا في مط والطبري، وفي الأصل: كلمة مطموسة لا تقرأ. [5] . ألظّ في الحرب: ألحّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 قتلته، وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض. فنظرنا، فإذا على أحدهما سفطان، في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضّة، على ثفره ولببه الياقوت والزمرّد منظوما على الفضّة، ولجامه كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب، ولهما [1] شناق أو زمام من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالجوهر، وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالياقوت كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج. وحكى غيره: أنّ رجلا أقبل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه: - «ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه.» ثمّ سألوه عن نفسه، فأبى أن يخبرهم، وقال: - «لا والله، لا أخبركم لتحمدونى، ولا لتقرّظونى، ولكنّى أحمد الله وأرضى بثوابه.» وقال سعد: - «لولا ما سبق به أهل بدر [2] ، لقلت: إنكم أفضل منهم وأكرم [393] وأيم الله، لقد تتبّعت من أهل بدر هنات وهنات فيما أحرزوا، وما أحسّها [3] ولا أسمعها من هؤلاء القوم. وقال جابر بن عبد الله: - «والله الذي لا إله إلّا هو، ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسية أنّه يريد الدنيا مع الآخرة. ولقد اتّهمنا ثلاثة أنفس فما رأينا كأمانتهم وزهدهم وورعهم: طليحة   [1] . كذا في مط: لهما. وفي الطبري، لها (5: 2448) . [2] . كلمة مطموسة في الأصل، وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط. [3] . كذا في مط: أحسها، وفي الطبري: أحسبها، وفي حواشيه، أحسّها (5: 2449) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 بن خويلد، وعمرو بن معدى كرب، وقيس بن المكشوح.» عمر وتاج كسرى ولما قدم على عمر بن الخطّاب بتاج كسرى وبزّته، وزبرجه، ومنطقته، وسلاحه، قال: - «إنّ قوما أدّوا هذا لذو أمانة.» فقال علىّ صلوات الله عليه: - «إنّك عففت فعفّت الرعيّة.» ولما قسم سعد الفيء أصاب الفارس اثنا عشر ألف درهم، وكلّهم كان فارسا يوم المدائن، وليس فيهم راجل، وكانت الجنائب كثيرة. ولما نزل سعد المدائن بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء، وحلوان، وتكريت، والموصل. ثم تحوّلوا إلى الكوفة. بساط يساوى جريبا ولما قسم سعد الفيء أخذ يسأل بعد القسم وإخراج الخمس [394] [عن] [1] القطف، فلم تعدل قيمته، فقال للمسلمين: - «هل لكم في أن نطيب نفسا عن أربعة أخماسه ونبعث به إلى عمر، فيضعه حيث يرى، فانّا لا نراه ينفق بيننا؟» فقالوا: «نعم، هاء [2] الله إذا.» فبعث. وكان ستّين ذراعا في ستّين ذراعا، بساطا واحدا مقدار جريب، فيه: طرق كالصور، وفصوص كالأنهار، وخلال ذلك كالدير، وفي حافاته كالأرض   [1] . تكملة منّا. والعبارة في الطبري: «وفضل بعد القسم ... القطف فلم يعتدل قسمته» (5: 2452) . [2] . هاء بالكسر: هات: أى أعط الله. هاء بالفتح: خذ. وضبط في الطبري: هاء الله ولم أنته إلى وجه له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 المزروعة المبقلة بالنبات، وعليه ما كانوا يعدّونه في الشتاء، إذا ذهبت الرياحين، وكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه، وكأنّهم في رياض، لأنّ الأرض- أرض البساط- مذهّب، ووشيه فصوص، وعليه قضبان الذهب، عليها أنوار من الذهب والفضة، وأوراق كذلك من حرير قد أجرى فيه ماء الذهب، وكانت العرب تسميه القطف [1] . فلما قدم به على عمر جمع الناس، وخطبهم، واستشارهم في البساط، وأخبرهم خبره. فاختلف عليه الناس، فمن مشير بقبضه وآخر مفوّض إليه، وآخر مرقّق. فقام علىّ عليه السلام فقال:- «لم تجعل [395] علمك جهلا، ويقينك شكّا؟ إنّك إن تقبله على هذا، اليوم، لم تعدم في غد من يستحلّ به ما ليس له.» فقال: «صدقتني ونصحتني.» فقطعه وقسمه. وأصاب عليّا قطعة منه باعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع [2] .   [1] . وفي الطبري: القطف، القطيفة (5: 2453) . [2] . وعند الطبري روايتان: الاولى: ثمّ قسم [عمر] الخمس في مواضعه، ثم قال: أشيروا علىّ في هذا القطف! فأجمع ملأهم على أن قالوا: «قد جعلوا ذلك لك، فر رأيك» ، إلّا ما كان من علىّ، فإنّه قال: «الأمر كما قالوا، ولم يبق إلّا التروية، إنّك إن تقبله على هذا، اليوم، لم تعدم في غد من يستحقّ به ما ليس له» ، قال: «صدقتني ونصحتني» ، فقطعه بينهم. والثانية: فقام علىّ- حين رأى عمر يأبى- حتى انتهى إليه، فقال: «لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا؟ إنه ليس من الدنيا إلّا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت» ، قال: «صدقتني ونصحتني» ، فقطعه، فقسمه بين الناس، فأصاب عليّا قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع. (الطبري 5: 2452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 زىّ كسرى على محلّم ولما عرض على عمر- رضى الله عنه- حلىّ كسرى وزيّه في المباهاة- وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زىّ- قال: - «علىّ بمحلّم.» وكان أجسم عربىّ يومئذ بالمدينة، فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس. فنظر إليه عمر والناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها. ثم أقيم عن ذلك، وألبس زيّه الآخر، فنظروا إليه، ثم كذلك في غير نوع حتى أتى عليها كلّها، ثم ألبسه سلاحه، وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك. فقال عمر: - «إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة.» قال: «أحمق بامرئ من المسلمين غرّته الدنيا، هل يبلغنّ مغرور منها إلّا دون هذا؟ وما خير امرئ مسلم سبقه كسرى فيما يضرّه ولا ينفعه. إنّ [396] كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتى عن آخرته، فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته، أو امرأة ابنه، ولم يقدّم لنفسه، فقدّم امرؤ لنفسه، ووضع الفضول مواضعها تحصل له، وإلّا حصلت للثلاثة بعده، وأحمق من جمع لهم أو لعدوّ جارف.» وقعة جلولاء ثمّ إنّ سعدا أتاه الخبر بأنّ مهران قد عسكر بجلولاء [1] وخندق عليه، وأنّ أهل   [1] . في الأصل وفي مط وفي بعض أبيات الشعر بالقصر أى بدون الهمزة فصححنا الأصل استنادا إلى ياقوت والطبري (5: 3456) . جلولاء بالمدّ: طسوج من طساسيج السواد بينها وبين خانقين سبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الموصل قد عسكروا بتكريت. وكتب إلى عمر بذلك. فكتب إليه عمر: - «قدّم هاشما إلى جلولاء في اثنى عشر ألفا من وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ، ومن لم يرتدّ، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو.» وكان الفرس لما انتهوا بعد الحرب من المدائن إلى جلولاء، رأوا الطريق يفترق بأهل آذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس. فتذامروا، وقال بعضهم لبعض: - «يا معشر الفرس، إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، هذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا، فلنجتمع للعرب به، ولنقاتلهم بجميع عزائمنا. فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى، [397] كنّا قد أبلينا العذر.» فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه، على مهران، ونفذ يزدجرد إلى حلوان، ورماهم بالرجال، وخلّف فيهم الأموال. فأقاموا في خندقهم وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلّا طرقهم. فلمّا قدم هاشم أحاط بهم، وطاولهم أهل فارس، وكانوا لا يخرجون إلّا إذا أرادوا. وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا كلّ ينصر المسلمون، ويغلب المشركون، حتى غلبوهم على حسك الخشب، فاتخذوا حسك الحديد، وتركوا للمجال وجها. فخرجوا على المسلمين منه، واقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير، إلّا أنّه كان أكمش وأعجل، ولم ير المسلمون ولا المشركون مثله في موطن قطّ حتى أنفذوا النبل، وقصفوا الرماح، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات، فكانوا بذلك إلى بين الصلاتين، وصلّى الناس إيماء. ثمّ خنست كتيبة للمشركين وجاءت أخرى، فوقفت مكانها، ثمّ كذلك، فكسر المسلمين ما رأوا. فقال القعقاع بن عمرو:   [ () ] فراسخ (يا) . كان فتح جلولاء في ذى القعدة سنة 16 في أوله، بينها وبين المدائن تسعة أشهر (الطبري 5: 2470) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 - «أيها الناس، أهالتكم [398] هذه؟» فقالوا: «وكيف لا يهولنا ونحن مكلّون وهم مريحون.» فقال القعقاع: «اصبروا إلى الساعة، فإنّى حامل عليهم، فاحتملوا معى ولا يكذّبنّ [1] أحد حتى يحكم الله بيننا.» ثمّ حمل، وحمل معه الناس، وانتهى بالقعقاع وجهه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذه. وأمر مناديا فنادى: - «يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل الخندق وأخذ به، فأقبلوا إليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله.» وإنّما أمر بذلك ليقوّى المسلمين به، ولئلّا يتحاجزوا. فحمل المسلمون ولا يشكّون إلّا أنّ هاشما في الخندق. فلم يقم لحملتهم شيء، حتى انتهوا إلى باب الخندق فإذا هم بالقعقاع قد أخذ به، والمشركون يمنة ويسرة على المجال الذي بحيال خندقهم. فهلكوا فيما أعدّوا للمسلمين من الحسك، وعقرت دوابّهم وعادوا رجّالة، ويتّبعهم المسلمون. فلم يفلت إلّا من لا يعدّ، وقتل منهم يومئذ مائة ألف أو يزيدون، فجلّلت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسمّيت: «جلولاء الوقيعة» . [399] واقتسم الناس في جلولاء مثل ما اقتسموا في المدائن. ويقال: إنّهم اقتسموا على ثلاثين ألف ألف، [000، 000، 30] وكان الخمس منه ستة ألف ألف [000، 000، 6] . واقتسم السبايا، فاتخذن، وولدن في المسلمين. استيذان عمر في الإنسياح ولما بلغت الهزيمة يزدجرد، سار من حلوان نحو الجبل، وقدم القعقاع حلوان.   [1] . لا يكذّبنّ أحد: لا يحجمنّ عن الحملة هيبة. كذّب عن أمر: أحجم عنه هيبة. وفي مط: لا يكدّين. وأيّد قراءتنا للأصل ما في الطبري (5: 2462) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وكوتب عمر بفتح جلولاء ونزول القعقاع حلوان، واستأذنوه في اتّباعهم، فقال: - «وددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا من نار لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم. حسبنا من الريف السواد. إنى قد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.» وبعث بالأخماس مع جماعة فيهم زياد بن أبى سفيان، وكان هو الذي يكتب للناس ويدوّنهم. فلمّا قدموا على عمر، كلّم زياد عمر فيما جاء له من الاستيذان في التقدّم، ووصف له الحال. فقال عمر: «هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلّمتنى به؟» فقال: «والله، ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى [400] على هذا من غيرك!» فقام في الناس بما أصابوا، وبما صنعوا، وبجميع ما يستأذنون فيه من الإنسياح في البلاد. فقال عمر: «هذا الخطيب المصقع.» وقال: «إنّ جندنا بالفعال أطلقوا ألسنتنا بالمقال.» [1] ثمّ إنّ عمر لما نظر إلى الأخماس المحمولة من جلولاء قال: - «والله، لا يحمّنّه سقف بيت حتّى أقسمه.» فبات عبد الرحمان بن عوف، وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في سقف المسجد. فلمّا أصبح جاء في الناس، فكشف عنه الأنطاع. فلمّا نظر إلى ياقوته، وزبرجده، وجوهره، بكى. فقال له عبد الرحمان: - «ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله، إنّ هذا لموطن شكر وسرور.»   [1] . وفي الطبري: إنّ جندنا أطلقوا بالفعال لساننا (5: 2466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فقال عمر: «ماذا يبكيني؟ والله، ما أعطى الله هذا قوما إلّا تحاسدوا، وتباغضوا. ولا تحاسدوا إلّا وقع بأسهم بينهم.» ولما فرض عمر العطاء، قال قائل: - «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال عدّة لكون إن كان.» فقال: «كلمة ألقاها الشيطان على فيك، وقاني الله [401] شرّها، وهي فتنة لمن بعدي. بل أعدّ لهم ما أعدّ الله ورسوله. طاعة الله ورسوله، فهما عدّتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون.» ما عامل به عمر خالد بن الوليد وفي سنة سبع عشرة، أدرب [1] خالد بن الوليد وعياض، وكان خالد على قنّسرين من تحت يد أبى عبيدة، فأصابوا أموالا عظيمة. فانتجع خالدا رجال. وكان الأشعث بن قيس فيمن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب إليه بخروج من خرج من تلك الغزاة من الشام، وبجائزة من أجيز. فدعا البريد وكتب معه إلى أبى عبيدة: أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث: أمن ماله، أم من إصابة، فإن زعم أنّها من إصابة أصابها، فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنّها من ماله، فقد أسرف، فاعزله على كلّ حال، واضمم إليك عمله.   [1] . أدرب القوم: دخلوا أرض العدوّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه. ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام [402] البريد، فقال: - «يا خالد! أمن مالك أجزت بعشرة آلاف، أم من إصابة؟» فلم يجبه حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا. فقال بلال بعد أن قام إليه: - «إنّ أمير المؤمنين أمر بكذا وكذا.» وتناول عمامته فنقضها [1] ، لا يمنعه سمعا وطاعة. ووضع قلنسوته، ثم أقامه، فعقله بعمامته وقال: - «ما تقول، أمن مالك، أم من أصابة؟» قال: «لا. بل من مالي.» فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثمّ عممه بيده وقال: - «نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا.» وأقام خالد متحيّرا لا يدرى: أمعزول أم غير معزول. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويزيده تفخيما ولا يخبره. فلمّا طال على عمر أن يقدم خالد، ظنّ الذي كان. فكتب إليه بالإقبال. فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: - «رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت؟ كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعرفه قبل اليوم.» فقال أبو عبيدة: - «إنّى والله ما كنت لأروعك: ما وجدت بدّا، وقد علمت أنّ ذلك يروعك.» فرجع [403] خالد إلى قنّسرين فخطب أهل عمله، وودّعهم، وتحمّل، ثم   [1] . في الأصل: فنفضها. وصححناه بما في مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه، وقال: - «لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله، إنّك في أمرى غير مجمل يا عمر.» فقال له عمر: - «من أين هذا الثراء؟» قال: «من الأنفال والسّهمان.» ثمّ أخذ منه عشرين ألف درهم، فأدخلها بيت المال. ثمّ قال: - «يا خالد، والله إنّك علىّ لكريم، وإنّك إلىّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.» وكتب عمر في الأمصار: - «إنّى لم أعزل خالدا عن سخط ولا خيانة ولكنّ المسلمين فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا [به] [1] وأحببت أن تعلموا أنّ الله هو الصانع، وألّا نكون بعرض فتنة.» [2] وحجّ عمر في هذه السنة، وبنى المسجد الحرام، ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها. علاء بن الحضرمي وعاقبة عصيانه وكان علاء بن الحضرمي بالبحرين واليا من قبل أبى بكر ثمّ من قبل عمر [404] وكان يبارى [3] سعدا، فطال [4] العلاء على سعد في الردّة بالفضل. فلمّا   [1] . تكملة من الطبري. [2] . راجع الطبري (5: 28- 2526) . [3] . الكلمة مطموسة في الأصل وأثبتناها كما في مط والطبري (5: 2546) . [4] . كذا في الأصل ومط: فطال، وفي الطبري: فطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة، وأخذ حدود ما يلي السواد وغيرها، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، أحبّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، ورجا أن يدال كما قد أديل. ولم ينظر العلاء في ما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ. وكان عمر لما ولّاه نهاه عن البحر، فلم يفكّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، وطمع في فارس من جهته. فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا: على أحدها الجاورد بن المعلّى، وعلى الآخر السوار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جماعة الناس. فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر وبازائهم أهل فارس وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم. فقام خليد في الناس فقال: - «أمّا بعد، فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير [405] حتى يصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنّما جئتم لمحاربتهم والأرض والسفن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة.» فأجابوه إلى ذلك وصلّوا الظهر، ثم ناهدوهم في موضع يقال له: طاؤوس. فقتل جماعة من المسلمين فيهم السوار والمنذر بن الجارود. وتزجّل خليد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 المنذر وارتجز: يال تميم [1] جمّعوا النزول ... قد كاد [2] جيش عمر يزول وكلّكم يعلم ما أقول - «وانزلوا!» فنزلوا، فقاتلوا القوم، فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها، وهزم الباقون. ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت سفنهم ولم يجدوا إلى الرجوع سبيلا. فوجدوا سهرك [3] قد أخذ على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم ذلك. وبلغ عمر ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر، فألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إليه بعزله، وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وقال له: - «الحق بسعد بن أبى وقّاص في من قبلك، فهو [406] أمير عليك.» فخرج بمن معه نحو سعد. وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: - «انّ العلاء بن الحضرمي حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنّه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم ألّا ينصروا، وأن يغلبوا، وينشبوا. فاندب إليهم الناس واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا.»   [1] . الطبري: «يال تميم أجمعوا» . (يال يا آل) . وفي الأصل: يالتميم. [2] . الطبري: «وكاد» (5: 2548) . [3] . كذا في مط: سهرك. وفي الطبري: شهرك، سهرك (5: 2548) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 فندب عتبة الناس إليهم وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة وجماعة يجرون مجراهم كالأحنف بن قيس، وسعد بن أبى العرجاء، وصعصعة بن معاوية، فخرجوا في اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم. فسار أبو سبرة بالناس وساحل لا يلقاه أحد ولا تعرّض له حتى التقى مع خليد، بحيث أخذ عليهم الطريق غبّ وقعة القوم بطاؤوس، وإنّما كان ولى قتالهم أهل إصطخر والشذّاذ من غيرهم، وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا بالطرق على المسلمين وأنشبوهم، استصرخوا أهل فارس كلهم، فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة. فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاؤوس وقد توافت إلى [407] المسلمين أمدادهم، وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين سهرك. فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا، وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا. وكتب إليهم عتبة بالحثّ وقلّة العرجة، فانضمّوا إليه بالبصرة، وقبل ذلك فتح عتبة الأهواز، وقاتل فيها الهرمزان حتى ظفر به بتستر بعد وقعات أسر في آخرها الهرمزان وأعطى بيده على الرضا بحكم عمر. وقتل الهرمزان بيده البراء بن مالك [1] ومجزأة بن ثور. إرسال الهرمزان إلى المدينة ووفد أبو سبرة وفدا فيهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس. فأرسل الهرمزان معهم فقدموا [2] مع أبى موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة.   [1] . في الأصل: ثور، وهو خطأ، وما أثبتناه يؤيده مط والطبري (5: 2556) . [2] . كذا في مط: فقدموا. والأصل غير واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 فلما دخلوها هيّأوا الهرمزان في هيأته [1] ، وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى ال «آذين» مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته كي ما يراه عمر والمسلمون. ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله، فلم يجدوه. فسألوا عنه، [408] فقيل لهم: «جلس [2] في المسجد.» ولم يروه. فلمّا انصرفوا، مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون. فقالوا لهم: - «ما تلدّدكم [3] ، تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسّد برنسه. [4] » وكان عمر جلس لوفد الكوفة في برنس. فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه وأخلوه، نزع برنسه، ثمّ توسّده فنام. فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدرّة في يده معلّقها [5] . فقال الهرمزان: «أين عمر؟» قالوا: «ها هو ذا!» وجعل الوفد يشيرون إلى الناس: أن اسكتوا عنه. وأصغى الهرمزان إلى الوفد. فقال: «أين حرسه وحجّابه عنه؟» قالوا: «ليس له حاجب ولا حارس ولا كاتب ولا ديوان.»   [1] . وفي الأصل: هيآته. وما أثبتناه يؤيده مط الطبري. [2] . كذا في مط والطبري (5: 2557) ، والأصل مطموس. [3] . مط: ما تلدّدهم، والطبري: ما تلدّدكم. والأصل غير واضح، وما أثبتناه عن الطبري: تلدّد: تلفّت يمينا وشمالا. [4] . قلنسوة طويلة كانت تلبس في صدر الإسلام. كلّ ثوب يكون غطاء الرأس جزءا منه متّصلا به. [5] . كذا في الأصل ومط. وفي الطبري: والدّرة في يده معلّقة. والدرّة: السوط يضرب به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 قال: «فينبغي أن يكون نبيّا.» فقالوا: «لا، ولكنّه يعمل عمل الأنبياء.» وكثر الناس وكلامهم، فاستيقظ عمر بالجلبة [1] ، فاستوى جالسا. ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: «الهرمزان؟» فقالوا: «نعم!» فتأمله، وتأمّل ما عليه، ثم قال: - «أعوذ بالله من النار، الحمد لله الذي أذلّ بالإسلام هذا وأشياعه. يا معشر المسلمين! تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا [409] بهدى نبيّكم، ولا تبطرنّكم الدنيا، فإنّها غرّارة.» فقال الوفد: «هذا ملك الأهواز، فكلّمه!» قال: «لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.» فرمى عنه بكلّ شيء إلّا ما يستره، فألبسوه ثوبا صفيقا. فقال عمر: «هي يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟» فقال: «يا عمر! إنّا وإيّاكم في الجاهلية كان الله خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا صار معكم غلبتمونا.» فقال عمر: «إنّما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرّقنا.» ذكر خديعة للهرمزان وحيلة له حتى آمنه عمر ثم قال عمر: «ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟» فقال: «أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.»   [1] . كذا في الطبري. وفي الأصل ومط غموض. الجلبة: اختلاط الأصوات والصياح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 قال: «لا تخف ذلك.» واستسقى ماء، فأتى به في قدح. فقال: - «لو متّ عطشا لم أستطع الشرب في مثل هذا.» فأتى به في إناء يرضاه. فجعلت يده ترعد، وقال: - «إنّى أخاف أن أقتل وأنا أشرب.» فقال له عمر: «لا تخف، فلا بأس عليك حتى تشربه.» فألقاه. فقال عمر: - «أعيدوا عليه، ولا [410] تجمعوا عليه القتل والعطش.» فقال: «لا حاجة لى في الماء، إنّما أردت أن أستأمن به.» ! فقال له عمر: «إنّى قاتلك.» قال: «قد آمنتنى.» فقال: «كذبت.» فقال أنس: «صدق يا أمير المؤمنين» ! فقال: «ويحك! أنا أومن قاتل مجزأة والبراء؟ لتأتينّى [1] بمخرج ما قتلت!» قال: «قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني. وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه.» وقال جلّة الصحابة ممن حوله مثل ذلك. فأقبل على الهرمزان وقال: «تكلّم بحجّتك.» قال: «كلام حىّ أم كلام ميّت؟» قال: «بل كلام حىّ.» قال: «قد آمنتنى ثالثة.»   [1] . وفي الطبري: «والله لتأتينّ بمخرج، أو لأعاقبنّك، قال: قلت له..» (5: 2559) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قال عمر: «خدعتني! لا والله، لا أومنك إلّا أن تسلم.» فقيل له: «أسلم! وإلّا قتلت.» فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة. عمر واللغة الفارسية وكان المغيرة بن شعبة يترجم بينهما إلى أن حضر الترجمان. فقال عمر للمغيرة: «سله: من أيّة أرض أنت؟» فقال المغيرة: «أز كذام أرضيه؟» فقال: «مهرجانىّ.» وكان المغيرة يفقه شيئا [من الفارسيّة] [1] . فقال له عمر: «ما أراك حاذقا بها. ما أحسنها منكم أحد إلّا خبّ [2] ، وما خبّ إلّا دقّ. إيّاكم وإيّاها [3] ، فإنّها تنقص [4] الإعراب.» وأقبل زيد بعد ذلك، فجعل يترجم بينهما. [411] ذكر رأى صحيح للأحنف بن قيس وقال عمر للوفد: «لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى، أو بأمور لها ما ينتقضون بكم.» فقالوا: «ما نعلم إلّا حسن ملكة.» قال: «فكيف هذا؟»   [1] . ما في [] تكملة من الطبري (5: 2560) . [2] . وفي الطبري: خبّ، وفي حواشيه: حبّ. [3] . مط: أباكم وأباهم! [4] . كذا في مط. وفي الطبري: فإنّها تنقض الإعراب. وفي حواشيه: فإنّها تنقص الأعراف (5: 2560) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فلم يجد عند أحد ما يشفيه ويبصر به مما [1] يقولون، إلّا ما كان من الأحنف فإنّه قال: - «يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الإنسياح [2] في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وأنّ ملك فارس حىّ بين أظهرهم، وأنّهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان حتى يفنى أحدهما صاحبه. وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلّا بانبعاثهم مرّة بعد مرّة، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم. ولا يزالون هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح [3] في بلادهم، حتى نزيله عن بلادهم، ونخرجه من مملكته وعزّ أمّته [4] ، فهناك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربوا [5] جأشا.» فقال عمر: «صدقتني والله، وشرحت لى الأمر عن حقّه.» فكان هذا سبب إذنه لهم في الإنسياح. يزدجرد يمضى إلى إصطخر وسياه يشترط للإسلام ومضى يزدجرد بمشورة الموبذ إلى إصطخر فينزلها، لأنّها دار المملكة [412] ويوجّه الجنود. فلمّا بلغ إصبهان أقام أياما وقدم سياه لينتخب من كلّ بلدة مرّ بها   [1] . مط: «ينصر ما يقولون» . في الأصل: «وينصر به ما يقولون» وكلاهما تحريف، فأثبتنا العبارة حسب الطبري: «ويبصر به مما يقولون» (5: 2560) . [2] . مط: الانسباح. [3] . وفي الطبري: فلنسح (5: 2561) . مط: فنسبح. ونقطتا الياء مطموستان في الأصل. [4] . كذا في الطبري أيضا. وفي حواشيه: «وعرامته» ، «وعن أمته» (5: 2561) . [5] . في الأصل: «يضربوا» وهو خطأ. وأضرب جأشا لأمر كذا: وطّن نفسه عليه (مد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 من أحبّ. فمضى سياه واتبعه يزدجرد حتى نزلوا بإصطخر، ووجّه سياه [1] إلى السوس. ولم يزل كذلك حتى قدم عمار بن ياسر وأبو موسى يومئذ بتستر. سياه يرى الدخول في الإسلام فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من إصبهان، وقال: - «قد علمتم أنّا كنّا نتحدّث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس، سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في أبواب إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيلهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلّا فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلّا فتحوه. فانظروا لأنفسكم.» قالوا: «رأينا رأيك.» قال: «فليكفنى كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإنّى أرى أن ندخل في دينهم.» ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبى موسى يأخذ لهم شروطا على أن يدخلوا في الإسلام. فقدم شيرويه على أبى موسى فقال: - «إنّا قد رغبنا في دينكم على أن نقاتل معكم العجم ولا نقاتل معكم [413] العرب، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منهم،   [1] . وصرف الاسم في بعض الأصول فقيل: «سياها» ، و «سياه» ، أنظر الطبري 5: 2562. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وننزل حيث شئنا، ونكون في من شئنا منكم، وتلحقوننا بأشرف [1] العطاء، يعقد لنا بذلك الأمر، الذي هو فوقك.» فقال أبو موسى: «لكم ما لنا، وعليكم ما علينا.» قالوا: «لا نرضى.» وكتب أبو موسى إلى عمر بذلك. فقال: «أعطهم ما سألوك.» فكتب لهم أبو موسى فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر. فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية. فقال لسياه: «يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى قبل اليوم!» قال: «لسنا مثلكم في هذا الدين، ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهنّ، ولم تلحقونا بأشرف العطاء، ولنا سلاح وكراع وأنتم حسّر.» فكتب أبو موسى في ذلك إلى عمر. فكتب إليه عمر أن: - «ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء، وأكثر شيء أخذه أحد من العرب.» ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين وخمسمائة: لسياه وخسرو- ولقبه مقلاص- وشهريار، وشيرويه، وسارويه، وأفريذون [2] . [414] ذكر مكيدة في فتح حصن فأمّا سياه فمشى إلى حصن. ويقال: إنّه تستر في زىّ العجم، حتى رمى بنفسه   [1] . وفي الطبري: بأشراف العطاء. [2] . في الطبري: «شهرويه وأفروذين» بدل «سارويه وأفريذون» . وفيه أيضا: [و] لما رأى الفاروق حسن بلائهم وكان بما يأتى من الأمر أبصرا فمنّ لهم ألفين فرضا، وقد رأى ثلاث مئين فرض عكّ وحميرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 إلى جنب الحصن ونضح [1] ثيابه بالدم. فأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوه منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا. ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون. وأمّا خسرو فمشى إلى حصن آخر حاصروه، فأشرف عليه رجل رئيس منهم، فكلّمه، ثمّ رماه خسرو بنشّابة فقتله. ذكر حيلة قوم في الحصار خرجوا بها من حصارهم وسياسة لعمر وأما جنديسابور فإنّ أبا سبرة لمّا فرغ من السوس خرج في جنده حتى نزل عليها، وحاصرهم أيّاما يغادونه ويراوحونه القتال. فرمى إليهم بأمان من عسكر المسلمين وفتح بابها. فلم يفجأ المسلمين إلّا أبوابها [2] تفتح. ثم خرج السرح [3] وخرجت الأسواق وانبثّ أهلها. فأرسل المسلمون [415] أن: «مالكم؟» قالوا: «رميتم إلينا بالأمان فقبلناه وأقررنا لكم بالجزى على أن تمنعونا.» فقالوا: «ما فعلنا.» فقالوا: «ما كذبنا.» فتساءل المسلمون بينهم، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها هو الذي كتب لهم. فقالوا: «إنّما هو عبد.» فقالوا: «نحن لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاءنا أمان، فنحن عليه، قد   [1] . وفي الطبري: «نضخ» ، «نضح» (5: 2564) . وكلاهما صحيح، فهما مشتركان في المعنى الملائم هنا: نضح البيت بالماء: رشّه، نضح الجلد: بلّه كي لا يتكسّر، ونضخ الشيء: رشّه. بلّه. [2] . وفي الطبري: إلّا وأبوابها، إلّا بأبوابها. [3] . السرح: الماشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 قبلناه ولم نبدّل. فإن شئتم فاغدروا.» فأمسكوا عنهم وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب إليهم: - «لم تكونوا أوفياء، حتى تفوا على الشكّ، أجيزوهم وفوا لهم.» [1] ثم عمل عمر برأى الأحنف، وعقد الأولوية للأمراء والجنود من أهل الكوفة وأهل البصرة. فكان لواء الأحنف على خراسان. يوم نهاوند: فتح الفتوح ولما خرج يزدجرد من الجبل، وصار إلى مرو، وكاتب الجيوش بالأطراف، فكتب إلى أهل الجبال، ممّن بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحرّكوا وتكاتبوا وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ثمّ يبرموا فيها أمورهم. فتوافى إليها من بين حلوان [416] وخراسان ومن بين الباب وحلوان، ومن بين سجستان إلى حلوان، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج وأهل الجبال وهم مائة وخمسون ألفا. ثم تآمر الرؤساء عند الفيرزان وكان عليهم، فقالوا: - «إنّ محمدا الذي جاء العرب بالدين [2] لم يعرض عرضنا [3] . ثم ملكهم أبو بكر من بعده، فلم يعرض عرض [4] فارس إلّا في غارة تعرض [5] لهم فيها، وإلّا في ما يلي ديارهم. ثمّ ملك عمر فطال ملكه وعرض [6] حتى تناولكم، وأخذ السواد كلّه، والأهواز. ثم لم   [1] . انظر الطبري (5: 2568) . [2] . مط: الكلمة ساقطة من مط. [3] . مط: «عرضا» وفي الطبري: «لم يغرض غرضنا» . [4] . وفي الطبري: «فلم يغرض غرض فارس» . [5] . كذا في الطبري: تعرض. [6] . كذا في الطبري: وعرض (5: 2608) . والأصل غير مشكول في كلّ ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 يرض حتى أتى أهل فارس والمملكة في عقر دارهم وهو آتيكم إن لم تأتوه. وقد أخرب بيت مملكتكم، واقتحم بلاد ملككم، وليس بمنته حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتقطعوا [1] هذين المصرين وتشغلوه في بلاده وقراره.» فتعاهدوا وتواثقوا. وكتبوا بينهم على ذلك كتابا، وتمالئوا [2] عليه. وبلغ الخبر سعدا، وخرج إلى عمر ليشافهه بذلك، ولأنّ قوما من جنده شغبوا عليه، وسعوا به إلى عمر، فاستخلف عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فكتب [417] عبد الله بن عبد الله إلى عمر أنّه: «قد تجمّعت الفرس مائة وخمسين ألفا مقاتلة مستميتين، فإن جاءونا قبل أن تبدرهم الشدّة ازدادوا جرأة وقوّة، وإن نحن عاجلناهم كان ذلك لنا عليهم.» وكان الرسول بذلك قريب بن ظفر. ولما قدم الرسول بالكتاب على عمر وبالخبر قرأه، وسمع منه، وقال: - «ما اسمك؟» قال: «قريب.» قال: «ابن من؟» قال: «ابن ظفر.» فتفأّل بذلك وقال: - «ظفر قريب، إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله.»   [1] . كذا في مط: تقطعوا، وفي الطبري: تقلعوا. (5: 2609) . [2] . في الأصل ومط: «تمالوا» ، وفي الطبري: «تمالئوا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ذكر آراء صحّ منها واحد ونودى في الناس: «الصلاة جامعة.» فاجتمع الناس ووافاه سعد فقال: - «إلىّ سعد بن مالك!» وقام عمر على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر، واستشارهم، وقال: - «هذا يوم له ما بعده، فاسمعوا لى، ثمّ أجيبونى، وأوجزوا، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا، وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ 8: 46 [1] ، ولا تكثروا ولا تطيلوا فتفشغ لكم الأمور، ويلتوي عليكم الرأى، إنّى قد رأيت أن أسير [418] في من قبلي [2] ومن قدرت عليه حتى أنزل منزلا من هذين المصرين وسطا، ثم أستنفرهم، ثم أكون لهم ردءا، حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب.» فقام طلحة بن عبيد الله فقال: - «يا أمير المؤمنين، قد أحكمتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك.» في كلام طويل يشبه هذا، ثم جلس. فعاد عمر فقال: - «هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلّموا.» فقام عثمان بن عفّان، فتشهّد، وقال:   [1] . س 8 الأنفال: 46. [2] . تكرّرت: «قبلي» فحذفنا إحداهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 - «أرى- يا أمير المؤمنين- أن تكتب إلى أهل اليمن، فيسيروا من يمنهم، وإلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وتسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة، فتلقى جميع المشركين بجميع المسلمين، فإنّك إذا سرت بمن معك وعندك، قلّ في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعزّ عزّا. يا أمير المؤمنين، إنّك لا تستبقى من نفسك بعد العرب باقية، ولا تمتنع [1] من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إنّ هذا يوم له ما بعده من الأيام [فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه] [2] ، فتكلّموا.» فقام علىّ عليه السلام فقال: - «أما بعد، فإنّك [419] إن أشخصت أهل الشام من شامهم، سارت الروم إلى ذراريّهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم، سارت الحبشة إلى ذراريّهم، وإنّك إن أشخصت أهل الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى تكون ما تدع وراءك، أهمّ إليك مما بين يديك من العورات والعيالات. أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة، فليفترقوا ثلاث فرق: فلتقم فرقة في أهل عهدهم لئلّا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم، لأنّ الأعاجم إن ينظروا إليك ويقولوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، كان أشدّ لكلبهم، وألّبتهم عليك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم، فإنّ الله هو أكره لمسيرهم منك، ولهو أقدر على تغيير ما   [1] . كذا في مط: تمتنع. وفي الطبري: لا تمنع، لا تمتنع (5: 2612) . [2] . ما بين [] تكملة عن الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 يكره، وأمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنّا كنّا نقاتلهم بالنصر.» فقال عمر: - «أجل، هذا الرأى. والله أين سرت لينتقضنّ علىّ الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت [420] إلىّ الأعاجم لا يفارقوا العرصة وليمدّنّهم من لم يمدّهم، وليقولنّ: هذا أصل العرب، فإن اقتطعتموه فقد اقتطعتم أصل العرب. فأشيروا علىّ برجل أولّه ذلك الثغر، واجعلوه عراقيّا.» فقالوا: «أنت أعلم يا- أمير المؤمنين- بجندك وأهل عراقك، فقد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلّمتهم.» ابتداء وقعة نهاوند وكان النعمان بن مقرّن على كسكر، ولّاه سعد الخراج بها. فكتب إلى عمر: - «إنّ مثلي ومثل كسكر مثل رجل شابّ إلى جنبه مؤمسة تلوّن له وتعطّر، فأنشدك الله لمّا عزلتني وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين.» فلمّا كان هذا اليوم الذي خطب فيه عمر، وجرى ما جرى مما كتبته، قال عمر: - «أما والله لأولّينّ أمرهم رجلا ليكوننّ أول الأسنّة إذا لقيها غدا.» فقيل: «من، يا أمير المؤمنين؟» فقال: «النعمان بن مقرّن» . قالوا: «هو لها.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فكتب إليه عمر أن: «ائت نهاوند، فأنت على الناس بها.» فلمّا التقوا كان أول قتيل. وسنحكى خبره في موضعه. وردّ عمر [421] قريب بن ظفر، وردّ معه السائب الأقرع وكان السائب يومئذ مندوبا للأمانة وقسمة الفيء، لأنّه كان كاتبا حاسبا، كما كان محمد بن مسلمة مندوبا لتتبع العمال والطواف عليهم. وقال عمر للأقرع: - «إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم، ولا تخدعني، ولا ترفع إلىّ باطلا، وإن نكب القوم، فلا تراني ولا أراك، فبطن الأرض خير لك من ظهرها.» فقدما الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث. وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظّا [1] . ذكر خديعة للهرمزان لم تتمّ له وما جرى بعد ذلك كان عمر بن الخطّاب استدعى الهرمزان حين آمنه، فقال: - «انصح لى فقد آمنتك.» قال: «نعم. إنّ الفرس اليوم رأس وجناحان.» قال: «فأين الرأس.» قال: «بنهاوند مع بندار، ومعه أساورة كسرى وأهل إصبهان.» قال: «فأين الجناحان؟» فذكر مكانا. قال الهرمزان: - «فاقطع الجناحين يهن [422] الرأس.»   [1] . أنظر الطبري 5: 2616. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 فقال عمر: «كذبت يا عدوّ الله بل أعمد إلى الرأس، فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يقبض عليه الجناحان.» فكتب إلى أبى موسى أن: سر بأهل البصرة، وإلى حذيفة أن: سر بأهل الكوفة. وبعث بعثا من المدينة فيهم ابنه عبد الله بن عمر، وفيهم المهاجرون والأنصار، وقال: - «إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرّن.» فخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم بن مقرّن حتى قدموا على النعمان بالطزر [1] وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النّسير، وقد كتب عمر إلى سلمى بن القين وحرملة وزرّ بن كليب وقوّاد المسلمين الذين كانوا بين فارس والأهواز أن: - «اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمّتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين الأهواز وفارس حتى يأتيكم أمرى.» وبعث مجاشع بن مسعود السلمىّ إلى الأهواز، وقال له: انصل منها على ماه. فلما صار بغضي شجر ناحية مرج القلعة، أمره النعمان أن يقيم بمكانه [423] ونصل سلمىّ وحرملة وزرّ، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن نهاوند الأمداد من فارس. وورد على النعمان، وهو بطزر، كتاب عمر: - «إنّ معك حدّ العرب ورجالهم فاستعن بهم وبرأيهم، وسل طليحة وعمرا، ولا تولّهم شيئا» . فبعث من بطزر طليحة وعمرا، وعمرو بن أبى سلمى ليؤاتوه بالخبر. فأما عمرو وعمرو فإنّهما رجعا من الطريق آخر الليل. فقال طليحة: «ما الذي يرجعكما؟»   [1] . كذا بالأصل والطبري (5: 2616) ، وفي مط وحواشي الطبري: الطرز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 قالا: «سرنا يوما وليلة ولم نر شيئا، وخفنا أن يؤخذ علينا بالطريق.» ولم يحفل بهما [1] . ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبينها وبين الطزر بضعة وعشرون فرسخا. فقال الناس: «ارتدّ الثانية.» فلما علم طليحة علم القوم، رجع، حتّى إذا انتهى إلى الجمهور كبّر الناس. وقال: «ما شأن القوم؟» فأخبروه بالذي خافوا عليه. فقال: «والله لو لم يكن [دين] [2] [424] إلّا العربية فقط، ما كنت لأجزر هذه العرب العاربة لهذه العجم الطماطمة.» فأتى النعمان، فدخل إليه، وأخبره أن ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه. فنادى النعمان بالرحيل وعبّأهم، وجعل على المجرّدة القعقاع بن عمرو، وكذلك جعل على ميمنته وميسرته ومقدمته أهل النجدات. إرسال المغيرة بن شعبة إلى الفرس فلما اجتمعوا بنهاوند أرسل إليهم الفرس أن: أرسلوا رجلا نكلّمه. فأرسلوا المغيرة بن شعبة. فلما رجع سألوه عما جرى. فقال: وجدت العلج قد استشار أصحابه: [3]- «بأى شيء تأذنون لهذا العربىّ، بالشارة والبهجة أو بتقشّف له؟» فاجتمع رأيهم على أفضل ما يكون من الشارة والعدّة. فتهيّأوا بها. فلمّا أتيناهم كادت تلك الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، وإذا هم على رأسه مثل الشياطين،   [1] . كذا في مط والطبري (5: 2617) ، وما في الأصل: لهما. [2] . تكملة عن الطبري. [3] . أنظر الطبري 5: 2642. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وإذا هو على سرير من ذهب، على رأسه التاج. قال: فمضيت كما أنا، ونكّست رأسى. فدفعت، ونهيت. فقلت: «الرسل لا يفعل بهم هذا!» [425] فقالوا: «إنّما أنت كلب.» فقلت: «معاذ الله، لأنا في قومي أشرف من في قومه» . فانتهرونى وقالوا: - «اجلس!» . فأجلسونى، ثم قال- وترجم لى قوله-: - «إنّكم معشر العرب أبعد الناس من كلّ خير، أطول الناس جوعا، وأشقاهم شقاء، وأقذرهم قذرا، وأبعدهم دارا، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم من النشاب بمثل شوك القنفذ، إلّا تنجّسا لجيفكم، فإنّكم أرجاس. فإن تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأبوا، نركم مصارعكم.» قال: فحمدت الله وأثنيت عليه، ثمّ قلت: - «والله، ما أخطأت من صفتنا شيئا. إن كنّا لكذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا، فوعدنا النصر في الدنيا، والجنّة في الآخرة. فوالله ما زلنا نتعرّف من ربّنا، منذ جاء رسوله، الفتح والنصر حتى أتيناكم. وإنّا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا، حتى نغلبكم على ما في أيديكم، أو نقتل بأرضكم.» فقال: «والله لقد صدقكم الأعور ما في نفسه.» فقمت [426] وقد أرعبت العلج. فأرسل إلينا العلج: - «إمّا أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فقال النعمان: «اعبروا» . وكانوا قد انتهوا إلى الإسبيذهان وهم وقوف دون وادي خرد على تعبيتهم، وأمرهم إلى الفيرزان، وقد جعل بهمن جاذويه مكان ذى الحاجب، فهو على مجنبته، وقد توافى إليه كلّ من غاب عن القادسية والأيّام من أهل الثغور، وأمرائها، وأعلامهم. وأنشب النعمان بعد ما حطّ الأثقال وضرب الفسطاط القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس وهم كأنّهم جبال الحديد، وقد تواثقوا ألّا يفرّوا من العرب وألقوا حسك الحديد خلفهم وقالوا: من فرّ منّا عقره حسك [1] الحديد. فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: - «لم أر كاليوم فشلا، إن عدوّنا يتركون يتأهّبون لا يعجلون، أم والله لو أنّ الأمر إلىّ لأعجلتهم» . وكان النعمان رجلا ليّنا، فقال: - «قد كان الله يشهدك أمثالها، فلا يخزيك. إنّه والله ما منعني من المناجزة إلّا شيء شهدته [427] من رسول الله- صلى الله عليه- إذا غزا فلم يقاتل أول النهار، ولم يعجل حتى تحضر الصلاة وتهبّ الأرواح ويطيب القتال، فما منعني إلّا ذلك. اللهمّ إنّى أسألك أن تقرّ عيني بفتح يكون فيه عزّ الإسلام وذلّ الكفار، ثمّ اقبضنى إليك على الشهادة. ائمنوا [2] يرحمكم الله.» فأمنّا وبكينا. ثمّ أقدم بعد الصلاة للقتال. قال: ولمّا كان يوم الجمعة انجحروا [3] في خنادقهم، وذلك لما رأوا صبرنا أنّا لا نبرح العرصة فصبروا معنا. ثمّ إنّهم لم يصبروا، فحصرهم المسلمون، فأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار لا يخرجون إلّا إذا أرادوا. فاشتدّ ذلك على   [1] . الحسك: الشوك. [2] . في الأصل: أمنوا. وفي مط: وأمنوا. [3] . من قولهم: انجحر الضبّ أو السبع: دخل جحره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 المسلمين حدّا، وخافوا أن يطول أمرهم. ذكر آراء صحّ أحدها على طريق المكيدة حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع، تجمّع أهل الرأى من المسلمين، فتكلّموا، وأتوا النعمان، وقالوا: «نراهم بالخيار والقوّة» [1] . وهو يروّى فيما روّوا فيه. فقال: - «على رسلكم، لا تبرحوا» . وبعث إلى من بقي من أهل النجدات [428] والرأى في الحرب، فتوافوا إليه. فتكلّم النعمان فقال: - «قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنّهم لا يخرجون إلّا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وابتعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق الذي هم فيه وعليه من الخروج. فما الرأى الذي به نحمشهم [2] ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل؟» فتكلّم عمرو بن أبى سلمى وكان أسنّ القوم، فقال: - «التحصّن أشدّ عليهم من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم.» فردّوا جميعا رأيه، وقالوا: - «إنّا على يقين من إنجاز ربّنا وعده لنا.» وتكلّم عمرو بن معدى كرب، فقال:   [1] . كذا في مط، وفي الأصل: «ألقوه» وهو تصحيف. [2] . أى: نغضبهم ونهيجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 - «ناهدهم ولا تخف وكاثرهم.» فردّوا جميعا عليه رأيه، وقالوا: [1]- «إنما نناطح الجدران.» وتكلّم طليحة فقال: - «قد قالا ولم يصيبا تفسير ما أرادا. فأمّا أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية [2] فيحدقوا بهم، ثمّ يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم، فإذا استحمشوهم واختلطوا بهم [429] وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنّا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم إلى اليوم، فإنّهم إذا أرادوا ذلك طمعوا في هزيمتنا ولم يشكّوا فيها، وخرجوا، فجادّونا، وجاددناهم حتى يقضى الله بيننا.» فأمر النعمان بن عمرو، وكان على المجرّدة بذلك، ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، وأنغضهم. فلمّا خرجوا نكص، ثم نكص، واغتنمها العجم. ففعلوا كما ظنّ طليحة، وقالوا: «هي، هي» [3] . فخرجوا، فلم يبق أحد إلّا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع والنعمان بن مقرّن والمسلمون على تعبئتهم. وفي يوم جمعة وفي صدر النهار، وقد عهد النعمان عهده وقال: إن أصبت ففلان، فإن أصيب ففلان. وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم. ففعلوا واستتروا [4] بالحجف [5] من الرمى، وجعل المشركون يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك [430] إلى بعض ثم قالوا للنعمان:   [1] . في الأصل: «قال» فصححناه كما في مط. [2] . في الأصل ومط: موذنة. آذن فلانا: أعلمه. وآذن الولد: عرك أذنه. وما أثبتناه عن الطبري (5: 2621) وهو الصحيح. آدى إيداءا: قوى وتهيأ، أو: تسلح بشكّة السلاح (متن اللغة) أى بالسلاح التامّ. [3] . كذا في الأصل. وما في الطبري غير مشكول، وفي حواشيه: «هي هيه» (5: 2- 2621) . [4] . مط: واستقرّوا. [5] . والحجفة: المجنّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 - «ألا ترى ما نحن فيه؟ ائذن لنا في الحملة.» فقال لهم النعمان: «رويدا رويدا.» قالوا ذلك مرارا، فأجابهم بمثل ذلك. فقال المغيرة: «لو إلىّ هذا الأمر، علمت ما أصنع.» فقال: رويدا، ترى [1] أمرك وقد كنت تلى الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إيّاك، ونحن نرجو في المكث مثل ما ترجو في الحثّ.» وانتظر النعمان أحبّ الأوقات كان إلى رسول الله- صلى الله عليه. فلمّا كان قريبا من تلك الساعة وهي الزوال، سار فوقف على الرايات، ومدحهم، وحضّهم. ثمّ عاد إلى موقفه [2] ، وكبّر الأولى والثانية والثالثة والناس على غاية السمع والطاعة. وحمل النعمان والناس معه، فالتقوا بالسيوف، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة قطّ كانت أشدّ منها، لا يوم القادسية لا غيرها مما تقدّم، قتلوا فيها من الفرس فيما بين الزوال والإعتام ما طبّق أرض المعركة وما يزلق فيه الناس والدواب، وزلق بالنعمان فرسه وصرع، فأصيب. وتناول [431] الراية أخوه نعيم بن مقرّن، وسجّى النعمان بثوب، وأتى [3] حذيفة بالراية، وكان عهد إليه بعده، فأقام اللواء. وقال المغيرة: - «اكتموا مصاب أميركم حتى تنظروا ما يصنع الله فينا لكيلا يهن الناس، واقتتلوا.» فلما أظلم الليل انكشف المشركون، وتركوا قصدهم، وأخذوا نحو اللهب [4] الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان. فوقعوا فيه، وجعل لا يهوى فيه أحد إلّا قال:   [1] . مط: نرى. وفي الطبري أيضا: ترى (5: 2622) . [2] . كذا في مط: موقفه، والميم في الأصل مطموسة. [3] . ما في الأصل ومط غير واضح، فأثبتناه حسب الطبري (5: 2625) . [4] . اللهب: الفرجة والمهواة بين الجبلين أو الصدع في الجبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 «واى خرد» [1] ، فسمّى بذلك «وايه خرد» إلى اليوم. فمات فيه منهم نحو مائة ألف، وقتل في المعركة أعدادهم، ولم يفلت إلّا الشريد. ونجا الفيرزان من الصرعى في المعركة، فهرب نحو همذان في ذلك الشريد، فاتّبعه نعيم بن مقرّن، وقدّم القعقاع قدّامه، فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان، وكانت الثنية مشحونة من بغال وحمير موقّرة عسلا، فحبسته الدوابّ على أجله. فلما غشيه القعقاع وهو لا يجد طريقا فتوقّل [2] في الجبل، وتوقّل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلّال حتى انتهوا إلى مدينه همذان والخيل [432] في آثارهم، فدخلوها. وسمّيت الثنية: ثنية العسل، وقال المسلمون: - «إنّ لله جنودا من عسل.» واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال. دخول نهاوند ودخل المسلمون بعد هزيمة الفرس نهاوند، [3] واحتووا على ما فيها، وجمعوا الأسلاب إلى صاحب الأقباض السائب الأقرع. فبيناهم كذلك، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على إتان، فأبلغ حذيفة؟ فقال: «أتؤمننى على أن أخبرك بما أعلم؟» قال: «نعم!» فقال: «إنّ النخيرجان وضع عندي ذخيرة كسرى، وأنا مخرجها لك على أمانى وأمان [4] من شئت.»   [1] . وفي الطبري: «وايه خرد» (نفس الصفحة) . [2] . مط: «فتوغل» وهو خطأ. توقل في الجبل: صعّد فيه. [3] . والعبارة في الطبري: «ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند، مدينة نهاوند (5: 2626) . [4] . وفي الطبري: أمان، أتان (5: 2627) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 سفطان ملؤهما اليواقيت واللؤلؤ فأعطاه ذلك، وأخرج له الذخيرة سفطين عظيمين ليس فيهما إلّا اليواقيت واللؤلؤ. فلمّا فرغ السائب من قسمة الأموال اجتمع رأى المسلمين على دفعهما [1] إلى عمر. قال السائب: فأصاب سهم الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان. فلمّا فرغت قدمت على عمر ومعى السفطان، فقال: - «ما وراءك يا سائب!» فقلت: «خير، يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك- فأعظم الفتح- واستشهد النعمان بن مقرّن.» [433] فقال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156 [2] . ثم بكى فنشج [3] حتى إنّى لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده [4] » . قال: فلمّا رأيت ما لقى قلت: - «يا أمير المؤمنين، ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه.» فقال: «المستضعفون من المؤمنين، لكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم، وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة ابن أمّ عمر.» ثم قام ليدخل، فقلت: - «إنّ معى مالا عظيما جئت به.» ثمّ أخبرته الخبر عن السفطين، فقال: - «أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك.» قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعا إلى الكوفة، وبات تلك الليلة التي   [1] . وفي الأصل: دفعها. [2] . س 2 البقرة: 156. [3] . نشج الباكي: غصّ من غير انتحاب. [4] . الكتد والكتد: مجتمع الكتفين من الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 خرجت فيها. فلما أصبح بعث أثرى رسولا، فوالله ما أدركنى حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبى بعيري، وقال: - «الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك ولم أقدر عليك إلّا الآن.» قال: قلت: «ويلك! ولماذا؟» قال: «لا أدرى والله.» فركبت معه حتى قدمت عليه. فلما رآني قال: - «ما لي ولابن أمّ السائب، بل ما لابن السائب وما لى!» قال: قلت: [434]- «وما ذاك يا أمير المؤمنين؟» قال: «ويحك! والله، إن هو إلّا نمت في تلك الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة الله تسحبنى إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إنّى سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عنّى لا أبا لك، فالحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم.» قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة وغشيني [التجار [1]] فابتاعهما منّى عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف [000، 000، 2] درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعها بأربعة آلاف ألف [000، 000، 4] درهم. فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد. وقسم حذيفة لأهل المسالح جميعا في نهاوند، مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنّهم كانوا ردءا للمسلمين لئلّا يؤتوا من وجه من الوجوه، وكان خلّف قوما على قلاع يحاصرون من فيها لئلّا ينزلوا فيؤتى المسلمون من قبلهم، فقسم لهم أيضا. وسمّى يوم نهاوند فتح الفتوح [2] ولم تكن للفرس بعد قائمة.   [1] . في الأصل: النجار وما أثبتناه عن مط. [2] . افتتحت مدينة نهاوند أول سنة 19 لسبع سنين من إمارة عمر (الطبري 5: 2632) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ومن عجيب ما مرّ في حصار نهاوند أنّ رجلا [435] يقال له: جعفر بن راشد، قال لطليحة: - «لقد أخذتنا خلّة [1] ، فهل بقي من أعاجيبك شيء تنفعنا به؟» فقال: «كما أنتم، حتى أنظر.» فأخذ كساء، فتقنّع به غير كثير، ثم قال: - «البيان، البيان، غنم الدقّان [2] في البستان، مكان أرونان [3] .» فدخلوا البستان، فوجدوا الغنم مسمنة. ثم جاء دينار إلى حذيفة، فصالحه عن ماه، فنسب إليه ماه [4] . فكان يوافى الكوفة كل سنة. فقدم الكوفة في إمارة معاوية، فقام في الناس جميعا، فقال: - «يا معشر أهل الكوفة، إنّكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فغبرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيّرتم وفشت فيكم خلال أربع: بخل، وخبّ [5] ، وغدر، وضيق، لم تكن فيكم واحدة منهنّ. فنظرت في ذلك، فإذا ذلك في مولّديكم، فعلمت من أين أتى، فإذا الخبّ من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز.» فتح الرى ّ ثم إنّ نعيم بن مقرّن فتح همذان، وسار إلى الرىّ، وكان بالرىّ يومئذ سياوخش ملكا عليها وهو سياوخش [436] بن مهران بن بهرام شوبين. [فاستمدّ] [6] أهل دنباوند، وطبرستان، وقومس، وجرجان، وقال:   [1] . الخلّة: الجوع والفقر. [2] . في مط: «الدفّان» بالفاء. وفي الطبري (5: 2630) : «الدهقان» ، وفي حواشيه: «الدوان» ، «الربان» . [3] . لا إعجام في الأصل إلّا في النون الأخيرة. في مط: أروبان بالباء الموحدة. في الطبري: «أرونان» وفي حواشيه: «اونان» . والأرونان: الصعب الشديد من كلّ شيء. [4] . فقيل: «ماه دينار» (الطبري 5: 2628) . [5] . الخبّ: الخدعة والغشّ. [6] . فاستمدّ: مطموسة في الأصل، فأخذناه عن مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 - «قد علمتم أنّ هؤلاء إن حلّوا بالرىّ إنّه لا مقام لكم.» فاحتشدوا له. فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الرىّ إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به. وكان الزينبىّ متوحّشا من سياوخش، فكاتب نعيم بن مقرّن، وصالحه وعاونه، وكان الزينبىّ قال لنعيم: - «إنّ القوم كثير وأنت في قلّة، فابعث معى رجلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنّهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لذلك.» فبعث معه خيلا من الليل عليها ابن أخيه المنذر بن عمرو. فأدخلهم الزينبىّ المدينة ولا يشعر القوم، وبيّتهم نعيم بياتا، فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا، وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم. ثم إنّهم انهزموا فقتلوا مقتلة عظيمة، فأفاء الله على المسلمين بالرىّ نحوا من فيء المدائن، وصالحه الزينبىّ على أهل الرىّ ومرزبه [1] عليهم. [437] وكتب نعيم بالفتح وبعث بالأخماس إلى عمر. توجّه بكير إلى آذربيجان وكان بكير بن عبد الله قد توجه إلى آذربيجان، فأمدّه نعيم بعد فتح الرىّ بسماك بن خرشة الأنصارى. مردانشاه يراسل نعيما في الصلح فأما المصمغان- وهو مردانشاه صاحب دنباوند والخزر والأرز والسرو [2]- فإنّه راسل نعيما في الصلح على شيء يفتدى منه به، من غير أن يسأله النصر والمنعة. فقبل منه، وكتب على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم.   [1] . مرزبه: جعله عليهم مرزبانا. [2] . مط: السرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فتح قومس وقدّم سويد بن مقرّن أخاه بأمر عمر إلى قومس، فلم يقم له أحد، وأخذها سلما، وكتب لهم أمانا، وقبل جزيتهم. فتح جرجان وطبرستان وآذربيجان ثم كاتب ملك جرجان رزبان [1] صول. ثم صار إليها، فبادره بالصلح، وتلقّاه، فدخل معه جرجان، وعسكر بها، وجبى إليه الخراج، وسمّى له فروجها، فسدّها بترك دهستان. فرفع الجزى عمن أقام بمنعتها، وأخذ الخراج من باقى أهلها، وكتب بينهم كتابا [2] بالأمان وقبول الجزية ما نصحوا وقروا المسلمين، وعلى أنّ من سبّ مسلما [438] بلغ جهده، ومن ضربه حلّ دمه. وراسله الإصبهبذ في الصلح أن يتوادعا ويجعل له شيئا على غير نصر ولا معونة على أحد. فكتب له بذلك كتابا على ألّا يؤووا للمسلمين بغية [3] ، ولا يسلّوا لهم [4] إلى عدوّ، ولا يدخل   [1] . في الأصل ومط: ررمان، من دون نقط. وما أثبتناه عن الطبري (5: 2658) . [2] . والكتاب كما جاء في الطبري (5: 3658) : «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان [روزيان، رزبار، رربان؟] وأهل دهستان، وسائر أهل جرجان، أنّ لكم الذمّة، وعلينا المنعة، على أنّ عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم، فله جزاءه في معونته عوضا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم، وأموالهم، ومللهم، وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك، هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل، ونصحوا، وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل، ولا غل، ومن أقام فيهم، فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، وعلى أنّ من سبّ مسلما بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه. شهد سواد بن قطبة وهند بن عمرو وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهّاس. وكتب في سنة 18.» وأضاف الطبري: «وأما المدائني فإنّه قال في ما أنبأنا أبو زيد عنه: فتحت جرجان في زمن عثمان سنة 30» . [3] . مط: تبعة. [4] . مط: بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 عليه إلّا بإذنه، وكذلك سبيلهم. وكان بكير سار حين بعث إلى آذربيجان حتى إذا طلع بجبال خرشدان [1] طلع عليهم اسفندياذ بن الفرّخزاذ مهزوما من واج رود. فكان أول قتاله لقيه بآذربيجان، فاقتتلوا، فهزمه، وأخذ بكير اسفندياذ أسيرا. فقال له اسفندياذ: - «الصلح على آذربيجان أحبّ إليك أم الحرب؟» قال: «بل الصلح.» قال: «فأمسكنى عندك. فإنّ أهل آذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجئ لم يقيموا، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم. ومن كان على التحصن تحصّن إلى يوم ما.» فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلّا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة، وقد صار اسفندياذ في إساره. [439] وفتح عتبة بن فرقد من جهته ما يليه. فقال بكير لسماك بن خرشة كالممازح: - «ما الذي أصنع بك وبعتبة؟ أريد أن أمضى قدما فأخلّفكما، فإن شئت فاذهب معى، وإن شئت أتيت عتبة، فقد أذنت لك.» وكاتب عمر في ذلك. فكتب إليه في الإذن على أن يتقدم نحو الباب، وأمره أن يستخلف على عمله. فاستخلف عتبة على ما افتتح. ومضى قدما، وقدّم إسفندياذ إلى عتبة، وأقرّ عتبة سماك بن خرشة، وليس بأبى دجانة، على عمل بكير الذي كان افتتح.   [1] . مط: «خر شدن» ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وجمع عمر آذربيجان كلّها لعتبة، وقد كان بهرام بن الفرّخان أخذ بطريق عتبة بن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فهزمه عتبة وهرب بهرام. فلما بلغ خبر هزيمته إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: - «الآن تمّ الصلح وطفئت الحرب وعادت آذربيجان سلما.» فبعث بالأخماس. وكان بكير سبق عتبة بفتح ما ولى، وتمّ الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام. فكتب عتبة بينه وبين أهل آذربيجان كتابا- حيث جمع له عمر بكير إلى عمله -[440] بالأمان وشروط الجزية وقرى المسلمين وغير ذلك. فتح الباب والفتوح التي كانت بعده وأنفذ عمر سراقة بن عمرو- وكان يكنّى ذا النون [1]- إلى الباب وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة، وسمى لإحدى مجنّبتيه حذيفة بن أسد، وسمى للأخرى بكير بن عبيد الله الليثي، وهو الذي كان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه. فلمّا قدم سراقة قدّم بكيرا في أدانى الباب، فدخل بكير بلاد الباب والملك يومئذ شهربراز [2] الذي أفسد بنى إسرائيل وأعرى [3] الشام منهم. فكاتب عبد الرحمن شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه. ففعل، فأتاه، فقال له: - «إنى بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوى الأحساب [4] والأصول، وذو الحسب قريب ذى الحسب حيث كان، ولست من الأرمن في   [1] . في الطبري (5: 2663) : ذا النور. [2] . وزاد في الطبري: رجل من أهل فارس، وكان على ذلك الفرج، وكان أصله من أهل شهربراز [كذا] (5: 2663) . [3] . في مط: أغز. في الطبري أيضا: أعرى. وفي حواشيه أغرى، أغزى. [4] . في الأصل: ذوو الحسب. فصححناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 شيء ولا من القبق [1] ، وإنّكم قد غلبتم على بلادي وأمّتى، وأنا اليوم منكم، ويدي مع أيديكم، وصفوي معكم، وجزيتنا إليكم، والنصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية [441] فتوهنونا لعدوكم.» فقال عبد الرحمن: «فوقى أمير قد أظلّك، فسر إليه.» فجوّزه فسار إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك. فقال سراقة: «قد قبلت ذلك ممن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزى ممن يقيم ولا ينهض.» فقبل ذلك، وكتب سراقة إلى عمر بن الخطّاب بذلك، فأجازه، وحسّنه، وصارت سنّة فيمن يحارب العدو من المشركين وفيمن لم يكن عنده الجزى أن يستنفروا، ثمّ يوضع عنهم جزى تلك السنة. ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسد، وسلمان بن ربيعة إلى الجبال المطيفة بأرمينية، ووجه بكيرا إلى موقان، وحبيبا إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللّان، وسلمان إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبمن وجّه من هؤلاء النفر. فأتى عمر بن الخطّاب أمر لم يكن يرى انّه يستمر بتلك السرعة بغير مؤونة. فلما استوسق الأمر بتلك الناحية واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة. فأقرّ عمر عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك. فخرج [442] عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب. فقال له شهربراز: «ما تريد أن [تصنع] [2] ؟» قال: «أريد بلنجر.» قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب.»   [1] . في الطبري: القبج. [2] . بياض في الأصل، وما أثبتناه عن مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قال: «لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم. والله إنّ معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم.» قال: «وما هم؟» قال: «قوم صحبوا رسول الله- صلى الله عليه- ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم أمر، أو يلفتوا عن حالهم بمن يغيّرهم.» فغزا بلنجر- غزاه في زمن عمر- لم تئم فيها امرأة، ولا يتم فيها صبىّ. وبلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم أيضا، وغزا [غزوات] [1] في زمن عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان، لما استعمل من كان ارتدّ واستعان بهم، فساد من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى كان يتمثل: وكنت وعمرا [2] كالمسمّن كلبه ... فخدّشه أنيابه وأظافره [443] وكان عبد الرحمن بن ربيعة لما غزا الترك، قالوا: - «ما اجترأ علينا هذا الرجل إلّا ومعهم الملائكة يمنعهم من الموت» . فتحصّنوا منه، وهربوا. فرجع بالغنم. فلمّا كان بعد ذلك غزا تلك الغزوات الأخر على تلك العادة، حتى إذا كان في زمن عثمان بعد السنين الستّ منه، غزا غزوة. وكان من الترك طائفة في الغياض مختفين، فرمى رجل منهم مسلما على غرّة، فقتله وهرب عنه أصحابه، فتجاسروا   [1] . تكملة من الطبري. [2] . في الأصل: وكنت وعمرو. في مط: وكتب عمرو! فصححناه كما في الطبري (5: 2668) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 بعد ذلك وتنادوا. فأمّا عبد الرحمن فقتل، واشتدّ القتال، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة، وخرج بالناس على جيلان إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها، ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن. ما جرى بين يزدجرد وآبان جاذويه في الرى ّ ولما انتهى يزدجرد في مسيره بعد جلولاء إلى الرىّ كان عليها آبان جاذويه، فوثب عليه، فأخذه فقال: - «يا آبان جاذويه، تغدر بى؟» قال: «ولكنّك تركت ملكك وصار في يد غيرك وأريد أن أكتتب على ما كان لى من شيء، وما أردت من غير ذلك [1] .» وأخذ خاتم يزدجرد [444] وكتب الصكاك على الأدم، وسجّل السجلّات بكل ما أعجبه، ثم ختم عليها، وردّ الخاتم. ثمّ أتى بعد سعدا فردّ عليه كلّ شيء في كتابه. واستوحش يزدجرد من آبان وكرهه. فخرج هاربا إلى أصبهان ومعه النار [2] ، وأراد كرمان. ثم عزم على خراسان ليستمدّ الترك والصين وهو قريب منهم. فأتى مرو، فنزلها، وبنى للنار بيتا، واطمأنّ في نفسه. غزو خراسان وهزيمة يزدجرد في بلخ وخرج عبد الله بن عامر من البصرة في هذه السنة، وهي سنة إحدى وثلاثين، غازيا إلى خراسان. ففتح نيسابور وطوس ونسّا، حتى بلغ سرخس، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس. فلقيه الهياطلة، وهم أهل هراة، فهزمهم الأحنف، فبعثه   [1] . وفي مط: من غيرك. [2] . وفي الطبري (5: 2682) : فأراد أن يضعها في كرمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ابن عامر إلى طخارستان. فلمّا دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ، فنزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد إلى خاقان من مرو الروذ يستمدّه، وكتب إلى ملك الصغد يستمدّه. فخرج رسوله إليهما، وكتب إلى ملك الصين يستعينه. وخرج الأحنف [445] من مرو الشاهجان، واستخلف عليه بعد ما لحقته الأمداد من أهل الكوفة قاصدا مرو الروذ. فلمّا بلغ مسيره يزدجرد خرج إلى بلخ. ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة، فساروا إلى بلخ، واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فهزم يزدجرد، وتوجّه في أهل فارس إلى النهر، فعبر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتحوا بلخ، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ. وكتب عمر إلى الأحنف: «أمّا بعد، فلا تجوزوا النهر، واقتصروا على ما دونه.» وبلغ رسولا يزدجرد خاقان وعارك [1] ، فلم يستتبّ لهم [2] إنجاده، حتّى عبر إليهم النهر مهزوما. فأنجده خاقان، فأقبل في الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد، حتّى خرج بهم راجعا إلى خراسان. فعبر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل الكوفة إلى مرو الروذ، إلى الأحنف. ذكر رأى صحيح في وقت شدّة فاستشار الأحنف المسلمين. فاختلفوا، فبين قائل يقول: «نرجع إلى أبرشهر» [3] [446] ، وقائل يقول: «نقيم ونستمدّ.» وقائل يقول: «نناجزهم.»   [1] . مط: عادل. في الطبري (5: 2685) : «غوزك» وفي حواشيه: عورك، على زل. [2] . في الطبري: لهما. [3] . قرأنا ما في الأصل «أبر شهر» مع غموض فيه. وما في مط: «ايرانشهر» . وهما أى: أبر شهر Abarshahr الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وخرج المشركون من بلخ حتّى نزلوا على الأحنف مرو الرّوذ. وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان نهر بلخ غازيا له، خرج في عسكره ليلا يتسمّع: هل يسمع برأى ينتفع به؟ فلمّا خرج مرّ برجلين ينقّيان علفا، إمّا تبنا، وإمّا شعيرا، وأحدهما يقول لصاحبه: - «الرأى للأمير أن يلقى العدوّ حيث لقيهم أوّلا، فإنّه أرعب لهم.» فقال له صاحبه: - «أخطأت الرأى، إن لقى العدوّ مصحرا في بلادهم لقى جمعا كثيرا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا. ولكنّ الرأى للأمير أن يسندنا إلى هذا الجبل، ليكون النهر بيننا وبين عدونا خندقا، وكان الجبل في ظهورنا، نأمن أن نؤتى من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد، [و] [1] رجونا أن ينصرنا الله.» فرجع، واجتزأ بها. وذلك في ليلة مظلمة. فلما أصبح جمع الناس، ثم قال: - «إنكم قليل، وعدوّكم كثير، فلا يهولنّكم: ف كَمْ من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ 2: 249 [2] . ارتحلوا من مكانكم، فاستندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه [447] في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوه من وجه واحد.» ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم في عشرة آلاف من أهل البصرة، وأهل الكوفة نحو منهم. وأقبلت الترك ومن اجتلبت من الصغد وغيرهم حتى نزلوا بهم. فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ويتنحّون عنهم بالليل ما شاء الله. وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل. فخرج ليلة بعد ما علم علمهم طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان، فوقف. فلما كان في وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه، وضرب بطبله، ووقف من العسكر موقفا يقفه مثله.   [ () ] وايرانشهر اسمان كانا يطلقان على نيسابور في أوائل الإسلام (لسترنج: 409) . [1] . تكملة اقتضاها السياق. [2] . س 2 البقرة: 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين سبقه الأحنف، فقتله. قال الأحنف: فارتجزت: إنّ على الرئيس حقّا حقّا ... أن يخضب الصعدة أو تندقّا ثم وقف موقف التركي، وأخذ طوقه، وخرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف، فقتله. ثم وقف موقف التركىّ الثاني. [448] قال الأحنف: فارتجزت: إنّ الرئيس يرتبى ويطلع ... ويمنع الحلاء [1] إمّا أربعوا وأخذ طوق التركىّ، ثم خرج ثالث، ففعل فعل الرجلين، ووقف دون الثاني منهما، فحمل عليه الأحنف، فقتله، قال: وارتجزت: جرى الشموس ناجزا بناجز ... محتفل في جريه [2] مشارز ثم انصرف إلى عسكره ولا يعلم بذلك أحد. وكان من شيمة الترك أنّهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من كبرائهم وفرسانهم يضربون بالطبول، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث على فرسانهم مقتّلين. فتشاءموا، وتشاءم خاقان وتطيّر وقال: - «قد طال مقامنا وأصيب هؤلاء القوم بمكان لم يصب بمثله أحد منّا، مالنا   [1] . كذا في الأصل: الحلاء. في مط: الحلا. وفي الطبري: الحلّاء، وفي حواشيه: الجلّاء. [2] . في الطبري (5: 2687) : محتفلا في جريه، وفي حواشيه: محتفل بحربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 في قتال هؤلاء القوم من خير، انصرفوا بنا.» فكان وجوههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا. وأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ، وقد كان يزدجرد [449] ترك خاقان بمرو الروذ، وخرج إلى مرو الشاهجان فتحصّن منه حارثة بن النعمان خليفة الأحنف، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان ببلخ ينتظره مقيم له. فقال المسلمون: «نحن نتبع خاقان.» فقال: «بل أقيموا مكانكم.» ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو وأعجل عنه، وأراد أن يستقلّ منها، حاول أمرا عظيما من خزائن أهل فارس، وكان أراد اللحاق بخاقان. فقال أهل فارس: «ما تريد أن تصنع؟» قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين.» فقالوا له: «مهلا، فإنّ هذا رأى سوء. إنّك إنّما تأتى قوما في مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم، فإنّهم أوفياء وأهل دين، وهم يلون بلادنا، وإنّ عدوّا يلينا في بلادنا أحبّ إلينا من عدوّ يلينا في بلاده، ولا دين لهم، فلا ندري ما وفاءهم.» فأبى عليهم، فأبوا عليه. قالوا: - «فدع خزائننا نردّها إلى بلادنا ومن يليها، [450] لا تخرجها من بلادنا إلى غيرها.» فأبى. فقالوا: «فإنّا لا ندعك.» فاعتزلوا وتركوه في حاشيته. ثم اقتتلوا، فهزموه، وأخذوا الخزائن واستولوا عليها، ونكبوه، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر. فاعترضهم المسلمون والمشركون بمرو، فقاتلوه، وأصابوه في آخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال ومضى حتى قطع النهر إلى فرغانة والترك، فلم يزل مقيما زمان عمر كلّه يكاتبهم ويكاتبونه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 زمان عثمان. فأقبل أهل فارس إلى الأحنف، فصالحوه، وعاقدوه، ودفعوا الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة. فكانوا كأنّهم في ملكهم. إلّا أنّ المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم. وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية. ولما سمع خاقان ما لقى يزدجرد وخروج المسلمين مع الأحنف من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر، وأقبل الأحنف حتى نزل [451] بلخ، وأنزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ، فنزل بها، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس. ووفد الوفود إليه. حوار بين خاقان ورسول يزدجرد ولما عبر خاقان النهر، وعبر معه حاشية آل كسرى مع يزدجرد لقوا رسول يزدجرد الذي كان نفذ إلى ملك الصين، فسألوه عما وراءه. فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون.- وأراهم هديته وجوابه عن كتاب يزدجرد إليه- قال لى: - «قد علمت أنّ حقّا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لى صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإنّى أراك، تذكر قلّة منهم وكثرة منكم، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف [منكم [1]] معما أسمع من كثرتكم إلّا بخير عندهم وشرّ فيكم.» فقلت: «سلني عما أحببت أخبرك.» قال: «أيوفون بالعهد؟» [452]   [1] . في الأصل: معكم، فصححناه بما في الطبري (5: 2691) ، وفي مط: بدون «منكم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قلت: «نعم.» قال: «وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟» قلت: «يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.» قال: «فكيف طاعتهم أمراءهم؟» قلت: «أطوع قوم لمرشدهم.» قال: «فما يحرّمون وما يحلّون؟» فأخبرته. قال: «أفيحلّون [1] ما حرّم عليهم، أو يحرّمون [2] ما حلّل لهم؟» قلت: «لا.» قال: «فإنّ هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يبدّلوا.» ثم قال: «أخبرنى عن لباسهم» . فأخبرته، «وعن مطاياهم» فقلت: - «الخيل العراب.» ووصفتها. فقال: «نعمت الحصون هذه.» ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها. فقال: «هذه صفة دوابّ طوال الأعناق.» وكتب معه إلى يزدجرد: «إنّه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوّله بمرو، وآخره بالصين، الجهالة بما يحق علىّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لى رسولك صفتهم، لو يحاولون الجبال لهدّوها، ولو خلّى سربهم أزالونى   [1] . في مط: أفتحلّون. [2] . في مط: أفتحرّمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة، ولا تهجهم ما لم يهيجوك.» [453] وأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة معهم عهد بخاقان. ثم جرى ما جرى من قبل عمر، رضى الله عنه. ذكر كتّاب عمر وجمل من سياسته كان يكتب لعمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة، وأبو حبيرة بن الضحّاك الأنصارى على ديوان الكوفة. فأمّا زيد بن ثابت فإنّه كان كاتب النبىّ- صلى الله عليه- فكان يخلو به عمر. فقال له يوما: - «إنّى استصحبتك لكتب أسرارى الذي رأيت رسول الله- صلى الله عليه- يفعله بك. فأخبرنى عن كتبه كيف كانت إلى الملوك وغيرهم.» فقال زيد: «اعفني يا أمير المؤمنين.» فقال له: «ممّ ذاك؟» قال زيد: «إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لى: يا زيد! إنّى انتخبتك، فاحفظ أسرارى، واكتم ما استحفظتك. فضمنت له ذلك.» فأمسك عمر عن معاودته، لكن كان يملى عليه ويستعين برأيه. وكان زيد ذا رأى [454] ونفاذ. وكان عمر يقول لكتّابه ويكتب إلى عمّاله: - «إنّ القوة على العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنّكم إذا فعلتم ذلك تداكّت الأعمال عليكم، فلا تدرون بأيّها تبدأون، وأيّها تؤخّرون.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 تدوينه الدواوين وكان عمر أول من دوّن الدواوين من العرب. وكان سبب ذلك أنّ أبا هريرة قدم عليه من البحرين ومعه مال، فلقى عمر. فقال له عمر: - «ماذا جبيت؟» قال: «خمسمائة ألف درهم.» فقال عمر: «أتدرى ما تقول؟» قال: «نعم، مائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف.» فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: - «أيّها الناس، قد جاء مال عظيم، فإن شئتم كلنا كيلا، وإن شئتم أن يعدّ عددنا.» فقام رجل فقال: «يا أمير المؤمنين، هؤلاء الأعاجم يضبطون هذا بالديوان.» قال: «فدوّنوا الدواوين.» وكان عمر بعث بعثا بعد أن آمن الفيرزان [1] وحضره فقال: - «يا أمير المؤمنين، هذا البعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف منهم رجل وأخلّ [455] بمكانه ما يدرى صاحبك به؟» وأشار عليه بالديوان وفسّره له، فوضع عمر الديوان. وكان أبو موسى الأشعرى كتب إلى عمر رضى الله عنه: - «انّ المال كثر وكثر من يأخذه، فلسنا نحصيه إلّا بالأعاجم، فاكتب إلينا برأيك.» فكتب إليه عمر: «لا تعدهم في شيء سلبهم الله إياه، أنزلوهم حيث أنزلهم الله   [1] . كذا في الأصل: الفيرزان. في مط: الهرمزان. لم نجده عند الطبري. أنظر (5: 2749) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وتعلّموا.» فاستكتب أبو موسى زيادا، وكتب عمر إلى أبى موسى يستقدمه. فاستخلف زياد عمران بن حصين وقدم عليه. فقال عمر: - «لئن كان أبو موسى استخلف حدثا لقد استخلف الحدث كهلا.» ثمّ دعا بزياد وقال: «أكتب إلى خليفتك بما يجب أن يعمل به.» فكتب إليه كتابا ودفعه إلى عمر، فنظر فيه، ثم قال: «أعد» ، فكتب غيره، ثم قال: «أعد» ، فكتب الثالث. فقال عمر بعد ذلك: - «لقد بلغ ما أردت في الكتاب الأول، ولكنّى ظننت أنّه قد روّى فيه، ثم بلغ في الثاني ما أردت، فكرهت أن أعلمه ذلك لئلّا يدخله العجب، فوضعت منه [456] لئلّا يهلك» . وكان عمر يملى على كاتب بين يديه وزياد حاضر. فكتب الكاتب غير ما قال عمر. فقال له زياد: «يا أمير المؤمنين، إنه يكتب غير ما قلت له.» فقال عمر: «أنّى علمت هذا.» فقال: «رأيت رجع فيك وخطّه، فرأيت ما أجارت كفه غير ما رجعت به شفتيك.» فاستحسنه عمر. ثم قال له يوما: «يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبى موسى في عزلك عن كتابته؟» قال: «نعم، يا أمير المؤمنين. ولكن أعن عجز أم خيانة؟» قال: «لا عن واحد منهما، ولكنّى أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعيّة.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وضعه التأريخ وكان عمر أول من كتب التاريخ من الهجرة، لأنّ أبا موسى كتب إليه أنه: «تأتينا منك كتب ليس فيها تاريخ.» - وكانت العرب تؤرّخ بعام الفيل. فجمع عمر الناس للمشهورة. فأشار بعضهم: أن يؤرّخ بمبعث النبي- صلى الله عليه. وقال بعضهم: «بمهاجرته.» .. فأرّخ به. وكان ذلك في سنة سبع عشرة، أو ثماني عشر من الهجرة. ثم قالوا: «بأىّ الشهور نبدأ؟» [457] فقال بعضهم: «بشهر رمضان.» فقال عمر: - «بل بالمحرّم، فهو منصرف الناس من حجّهم، وهو شهر حرام.» فأجمعوا على المحرّم. ودخل كاتب لعمرو بن العاص على عمر، فحاوره فأحسن الكلام، فقال عمر: - «ألست ابن القين بمكة؟» فقال: بلى. فقال عمر: «لا يلبث القلم، أو يبلغ بصاحبه.» [1] وكان عمر إذا استعمل عاملا كتب له عهدا، وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار واشترط عليه ألّا يركب برذونا، ولا يأكل ما لا يقدر عليه أوساط رعيّته، ولا يلبس رقيقا، ولا يتّخذ بابا دون حاجات الناس.   [1] . كذا في مط. وفي الأصل غموض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أنتم المؤمنون وأنا أميركم وهو أول من خوطب ب «أمير المؤمنين» وذاك أنّ أبا بكر خوطب ب «خليفة رسول الله» - صلى الله عليه- فلما خلف عمر خوطب ب «خليفة خليفة رسول الله» . قال عمر: «أمر يطول. إذا جاء خليفة آخر قلتم: «خليفة خليفة خليفة رسول الله» ، بل أنتم «المؤمنون» وأنا «أميركم» . وهو أول من جمع الناس على إمام [يصلّى بهم التراويح] [1] [458] في شهر رمضان، وكتب به إلى البلدان وأمرهم بذلك، وزاد في مصابيح المساجد. وهو أول من حمل الدرّة وضرب بها. فمن ذلك ما رويناه أنّ عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- أتى بمال، فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه. فأقبل سعد بن أبى وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرّة، وقال: - «إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض. فأحببت أن أعلمك أنّ سلطان الله لا يهابك.» ورأت الشفاء بنت عبد الله قوما يقصدون في المشي، ويتكلّمون رويدا. فقالت: «ما هذا؟» قالوا: «نسّاك.» فقالت: «كان والله عمر إذا تكلّم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. هو والله الناسك حقّا.» وذكر قوم رجلا بين يدي عمر، ووصفوه وقالوا:   [1] . كذا في مط، والأصل مطموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 - «هو فاضل لا يعرف الشرّ.» قال: «أجدر له أن يقع فيه.» واستعمل عمر عتبة بن أبى سفيان على كنانة، فقدم عليه بمال. فقال عمر: - «ما هذا يا عتبة؟» قال: «هذا مال خرجت به معى فتجرت فيه.» قال: «ومالك تخرج المال معك في هذا الوجه، فصيّره في بيت المال.» فلمّا ولى عثمان [459] قال لأبى سفيان: - «إن طلبت ما أخذ عمر من عتبة رددته عليك.» فقال أبو سفيان: إنّك إن خالفت صاحبك الذي تقدّمك ساء رأى الناس فيك، إياك أن تردّ على من قبلك فيردّ عليك من يجيء بعدك. كان معجبا بسياسات ملوك العجم وكان عمر يكثر الخلوة بقوم من الفرس يقرأون عليه سياسات الملوك وسيّما ملوك العجم الفضلاء، وسيّما أنوشروان، فإنّه كان معجبا بها، كثير الاقتداء بها. وكان أنوشروان مقتديا بسيرة أردشير آخذا نفسه بها، وبعهده الذي كتبناه فيما مضى، مطالبا به غيره. وكان أردشير متبعا لبهمن وكورس، مقتديا [1] بهما. فهؤلاء جلّة ملوك الفرس وفضلاؤهم الذين ينبغي أن يقتدى بأفعالهم وسيرهم وتتعلّم سياساتهم ويتشبّه بهم. وروينا عن عمران بن سوادة أنه قال: دخلت على عمر، فذكرت أشياء مما عابه [2] بها الناس فأصغى إلىّ: وضع رأس درّته في ذقنه، ووضع أسفلها على فخذه يستمع إلى ما أقول، إلى أن قلت:   [1] . في مط: مقيدا. [2] . عابت أمتك فيك أربعا ... (الطبري 5: 3- 2772) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 - «وإنّ الرعيّة يشكون منك عنف السياق.» فشرع الدرّة، ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: - «أم والله، إنّى لأرتع فأشبع، وأسقى فأروى، وأنهز [1] [460] العروض وأؤدّب [2] (أؤرب؟) قدري، وأزجر اللقوف [3] ، وأسوق خطري [4] ، وأضمّ الهيوب [5] ، وألحق العطوف [6] ، وأكثر الزجر، وأقلّ الضرب، وأشهر العصا، وأدفع باليد [7] .» فبلغ ذلك معاوية بعد، فقال: «كان والله عالما برعيّته.»   [1] . مط: أنهر. في الطبري: أنهز اللفوت. [2] . مط: أؤرب قدري. في الطبري: أذبّ قدري. [3] . مط: أزجر اللفوت. [4] . مط كذا في مط: أسوق خطري. في الطبري: أسوق خطوي. [5] . في الطبري: أضمّ العنود. [6] . في الطبري: وألحق القطوف. [7] . وزاد في الطبري: «لولا ذلك لأعذرت.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 خلافة عثمان بن عفّان ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب لما قتل عمر بن الخطّاب- رضى الله عنه- قيل له حين طعن: - «استخلف.» فأبى أن يسمّى رجلا بعينه وقال: - «عليكم هؤلاء الرهط الذين توفّى رسول الله، صلى الله عليه، وهو عنهم راض: علىّ، وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمان، وسعد خالا رسول الله- صلى الله عليه- والزبير بن العوام حوارىّ رسول الله- صلى الله عليه- وابن عمّته، وطلحة الخير. فليختاروا رجلا منهم، ويشاوروا ثلاثة أيام، وليصلّ بالناس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الثالث إلّا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيرا، ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم.» [461] وقال لأبى طلحة الأنصارى: «إنّ الله تعالى طال ما أعزّ الإسلام بكم، فاختر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا.» وقال لصهيب: - «صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليّا، وعثمان، والزبير، وسعدا، وعبد الرحمان بن عوف، وطلحة- إن قدم- وأحضر عبد الله بن عمر، ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة ورضوا واحدا منهم وأبى واحد فاشدخ رأسه واضرب رأسه بالسيف، وإن اتّفق أربعة فرضوا واحدا وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضى ثلاثة منهم رجلا واحدا وثلاثة رجلا منهم فحكّموا عبد الله بن عمر، فأىّ الفريقين حكم فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.» فخرجوا من عنده، فقال لعلىّ قوم كانوا معه من قريش [1] : «ما ترى؟» فقال علىّ: «إن أطيع فيكم قومكم، لم تؤمّروا أبدا.» [2] وتلقّاه العباس، فقال له علىّ: «عدلت عنّا» . قال: «وما علمك؟» [3] قال: - «قرن بى عثمان وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان   [1] . في الطبري (5: 2780) : «من بنى هاشم.» [2] . كذا في الطبري أيضا: «إن أطيع فيكم قومكم، لم تؤمّروا أبدا.» [3] . كذا في الأصل: «وما علمك» والضبط في الطبري: «وما علّمك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 رجلا [1] [462] ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف. فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمان، وعبد الرحمان صهر عثمان لا يختلفون: فيولّيها عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمان، فلو كان الآخران معى لم ينفعانى، بله أنّى لا أرجو إلّا أحدهما.» فقال العباس: - «لم أدفعك في شيء إلّا رجعت إلىّ مستأخرا بما [2] أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله- صلى الله عليه- أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، ثمّ أشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر، فأبيت، ثمّ أشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى ألّا تدخل معهم، فأبيت. احفظ عنّى واحدة: كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلّا أن يولّوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به غيرنا، وأيم الله، لا نناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير.» فأجابه علىّ بما سمع بعضه ولم يسمع بعضه، وتمثّل بأبيات [3] . والتفت، فرأى أبا طلحة، فكره مكانه. فقال أبو طلحة:   [1] . «فقال له علىّ ... فإن رضى رجلان رجلا» : سقطت من مط. [2] . في الأصل: لما. والتصحيح من الطبري. [3] . في الطبري (5: 2781) : حلفت بربّ الراقصات عشيّة ... غدون خفافا فابتدرن المحصّبا ليختلين رهط ابن يعمر مارئا ... نجيعا بنو الشدّاخ وردا مصلّبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 - «لم ترع [1] أبالحسن» . وكان خلع عبد الرحمان نفسه، ورضوا أن يكون هو الذي يختار للمسلمين، [463] وقد كان جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والقوم في البيت يتشاورون، فجلسا بالباب فحصبهما [2] سعد وأقامهما. ولما كان اليوم الرابع صعد عبد الرحمان المنبر في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله- صلى الله عليه- ثم قال: «أيّها الناس، إنّى قد سألتكم سرّا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد الرجلين: إما علىّ وإما عثمان. فقم إلىّ يا علىّ!» فوقف تحت المنبر، وأخذ عبد الرحمان بيده، فقال: - «هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر؟» قال: «اللهم لا، ولكن على جهدي وطاقتي.» قال: فأرسل يده، ثم نادى: «قم يا عثمان!» فأخذ بيده وهو في موقف علىّ الذي كان فيه، فقال: - «هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبى بكر؟» قال: «اللهم نعم.» فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، ثم قال: - «اللهم اسمع واشهد، اللهمّ اسمع واشهد: إنّى جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.» فازدحم الناس يبايعون عثمان، وكان عبد الرحمان [464] قعد مقعد النبىّ- صلى الله عليه- من المنبر، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية.   [1] . الأصل والطبري: لم ترع. في الأصول الأخرى: لن ترع، لن تراع. [2] . حصبهما: رماهما بالحصباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 قال: وجعل الناس يبايعونه، وتلكّأ علىّ، فقال عبد الرحمان: فَمَنْ [1] نَكَثَ، فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمن أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. 48: 10 فرجع علىّ يشقّ الناس حتّى بايع عثمان وهو يقول: - «خدعة وأيّما خدعة» . ذكر هذه الخدعة كان سبب قول علىّ: «خدعة.» أن عمرو بن العاص كان لقى عليّا في ليالي الشورى فقال: - «إنّى أحبّك وأريد نصحك: إنّ عبد الرحمان رجل مجتهد، ومتى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك، فلا تظهر كلّ الرغبة، ولا تبذل له من نفسك إلّا الجهد والطاقة، ولا تضمن له كلّ ما يسألك وأوم إلى التواضع.» [2] ثمّ أتى عثمان، فقال له: - «إنّ عبد الرحمان ليس والله يبايعك إلّا بالعزيمة، فاقبل ما يعطيك، وأعطه ما يسألك.» فلذلك قال علىّ: «خدعة.» وقد قيل: إنّ عليّا قال ذلك لأجل ما ذكرناه من اقتران عثمان وعبد الرحمان. قال: ثمّ انصرف عثمان [465] إلى بيت فاطمة بنت قيس، والناس معه، فقام المغيرة بن شعبة خطيبا، فقال: - «يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفّقك. ما كان لنا غير عثمان- وعلىّ جالس. فقال عبد الرحمان:   [1] . في الأصل، مط، والطبري: ومن نكث. وفي التنزيل، فمن نكث ... (س 48 الفتح: 10) . [2] . لم نجد الرواية في الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 - «يا ابن الدبّاغ، ما أنت وذاك، والله ما كنت أبايع أحدا من هؤلاء إلّا قلت فيه هذه المقالة. وكان أول ما كتبه عثمان إلى أمراء الأجناد في الفروج: «أما بعد، فانّكم حماة المسلمين، وذادتهم، وقد وضع عنكم عمر ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملأ منّا، فلا يبلغنّى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغيّر الله ما بكم، ويستبدل بكم غيركم.» وكتب إلى عمّال الخراج كتابا يحضّهم فيه على العدل، وكتابا إلى العامّة يأمرهم فيه بالطاعة والاقتداء وترك الإبتداع. مقتل يزدجرد وما تمّ عليه من الاتفاقات الطريفة إنّ يزدجرد لما وقع إلى أرض فارس بقي سنين. ثم أتى كرمان، فأقام بها مثل ذلك. فطلب إليه دهقان كرمان شيئا، فلم يجبه إليه، فطرده عن [466] بلاده. ثم أجمع أن ينزل خراسان، فأتى سجستان، فأقام بها، ثم سار إلى مرو، ومعه الرهن من أولاد الدهاقين، ومعه من رؤسائهم فرّخزاد. فلمّا قدم مرو، واستغاث منها الملوك، وكتب إليهم يستمدّهم مثل صاحب الصين، وملك فرغانة، وملك كابل، وملك الخزر، كان الدهقان بمرو ماهويه، وكان له ابن يسمّى نزار، فوكّل ماهويه ابنه نزار [1] بمدينة مرو، وتقدّم إليه وإلى أهل المدينة ألّا يفتحوا الباب ليزدجرد، وقال لهم: - «ليس هذا لكم بملك لأنّه قد سلّم بلاده وجاءكم مفلولا مجروحا، ومرو لا تحتمل ما تحتمل غيرها من الكور. فإذا جئتكم غدا فلا تفتحوا الباب.» فلمّا أتاهم فعلوا ذلك.   [1] . الأصل هنا: من دون نقط وفي المواضع الأخرى: نزار. مط: بزاز، وفي الطبري (1: 2876) وابن الأثير (3- 121- 123) : براز- ولعلّه هو الصحيح- وفي حواشيهما: نزار، بران، بزاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وانصرف [فرّخزاذ] [1] ، فجثا بين يدي يزدجرد وقال: - «استصعبت عليك مرو، وهذه العرب قد أتتك.» قال: «فما الرأى؟» قال: «أن تلحق ببلاد الترك، فتقيم بها، حتى يتبيّن لنا أمر العرب. فإنّهم لا يدعون بلدة إلّا دخلوها.» قال: «لست أفعل، ولكن أرجع عودي على بدئي.» فعصاه ولم يقبل رأيه. فسار يزدجرد، [وأتى نزار دهقان مرو] [2] ، وأجمع على صرف الدهقنة عن [467] ابنه نزار إلى سنجان [3] ابن أخيه. فبلغ ذلك ماهويه وهو أبو نزار وعمل في هلاك يزدجرد، وكتب إلى نيزك طرخان يخبره أن يزدجرد وقع إليه مفلولا، ودعاه إلى القدوم عليه، ليكون أيديهما معا في أخذه والاستيثاق منه، فيقتلوه، ويصالحوا عليه العرب، وجعل له في كلّ يوم ألف درهم، وسأله أن يكتب إلى يزدجرد مما كرا له لينحّى عامّة جنده، ويحصل في طائفة من خواصّه، فيكون أضعف لركنه وأهون لشوكته، وقال: - «تعلمه في كتابك إليه الذي عزمت عليه في مناصحته ومعونته على العرب: أن يشتقّ لك اسما من أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادما عليه حتى تنحّى عنه فرّخزاد.» فكتب نيزك بذلك إلى يزدجرد، فلمّا ورد عليه كتابه بعث إلى عظماء مرو، فاستشارهم. فقال له سنجان: «لست أرى أن تنحّى عنك أصحابك ولا فرّخزاد لشيء.»   [1] . في الأصل ومط: خرّزاذ، حرزاذ، وما أثبتناه يؤيده السياق والطبري (1: 2877) . [2] . التكملة من الطبري. [3] . الطبري: سنجان، سنحان (5: 2877) . وهو قريب الى الصحة. وفي موضعين من الأصل: صنجان، وفي سائر المواضع: سنجان فوحّدنا الضبط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وقال نزار: «بل أرى أن تبايعه [1] يعنى نيزك- وتجيبه إلى ما سأل.» فقبل رأيه، وفرّق عنه جنوده، وأمر [468] فرّخزاد [أن يأتى] [2] لأجمة سرخس، فصاح فرّخزاد، وشق جيبه وتناول عمودا بين يديه يريد ضرب نزار به، وقال: - «يا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنّكم قاتلي.» هذا، ولم يبرح فرّخزاذ. حتى كتب له يزدجرد كتابا بخطّ يده، نسخته: «هذا كتاب لفرخزاذ: إنك قد أسلمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما معه، إلى ماهويه دهقان مرو.» وأشهد عليه بذلك. فأقبل نيزك إلى موضع من مرو يقال له حلبندان [3] . فلما أجمع يزدجرد على لقائه والمسير إليه، أشار عليه أبو نزار ألّا يلقاه في السلاح فيرتاب به وينفر عنه، ولكن يلقاه بالملاهي والمزامير. ففعل، وسار إليه كذلك، وتقاعس عنه أبو نزار، وكردس نيزك أصحابه كراديس. فلما تدانيا استقبله نيزك ماشيا ويزدجرد على فرس له. فأمر لنيزك بجنيبة من جنائبه، فركبها، فتوسط عسكره، فتواقفا. فقال له نيزك في ما يقول: «زوّجنى إحدى بناتك لأناصحك وأقاتل معك عدوّك.» فقال له يزدجرد: «علىّ تجترئ يا كلب!» فعلاه نيزك بمخفقته. وصاح يزدجرد: [469]- «غدر الغادر.»   [1] . كذا في مط: «أن تبايعه» ، وفي الأصل طموس. [2] . كذا في مط: «أن تأتى» ، وفي الأصل طموس. [3] . مط: خلسدان. والأصل مهمل إلّا في النون، وكذلك الطبري (5: 2897) وفي حواشيه، حلبندار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وركض منهزما، ووضع أصحاب نيزك سيوفهم فيهم، فأكثروا القتلى. يزدجرد والطحّان وانتهى يزدجرد في هزيمته إلى مكان من أرض مرو، فنزل عن فرسه، ودخل بيت طحّان، مكث فيه ثلاثة أيام. فقال له الطحان: «أيها الشقىّ، اخرج فاطعم شيئا فإنّك جائع منذ ثلاث.» قال: «لست أصل إلى ذلك إلّا بزمزمة.» وكان رجل من زمامة مرو قريبا منه، فأتاه الطحّان، وسأله أن يزمزم [1] عليه ليأكل. ففعل ذلك. فلما انصرف إلى مرو سمع أبا نزار يذكر يزدجرد ويطلبه، فأتاه، فسأله وأصحابه عن حليته. فوصفوه. فأخبرهم أنّه رءاه في بيت طحان وهو رجل جعد مقرون حسن الثنايا مقرّط مسوّر. فوجه إليه رجلا من الأساورة، وأمره أن يخنقه بوتر ويطرحه في نهر مرو. فلقوا الطحان، فضربوه ليدلّ عليه، فلم يفعل وجحدهم أن يعرف أين يتوجّه. فلما أرادوا الانصراف عنه، قال رجل منهم: - «إنى أجد ريح المسك فلو تتبّعته.» فنظر إلى طرف ثوب من ديباج في الماء، فاجتذبه إليه، فإذا هو يزدجرد، فسأله ألّا يقتله ولا يدلّ عليه: [470] ويجعل له خاتمه وسواره ومنطقته. فقال: «أعطنى أربعة دراهم [2] وأخلّى عنك.» قال: «ويحك! خاتمي لك وثمنه لا يحصى!» فأبى عليه.   [1] . زمزم المغني: ترنّم. زمزم العلوج: تراطنوا عند الأكل وهم لا يستعملون اللسان ولا الشفة في كلامهم لكنه صوت يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض. [2] . وفي الأصل أربعة درهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 قال يزدجرد: «قد كنت أخبرت أنّى سأحتاج إلى أربعة دراهم، وأضطرّ إلى أن يكون أكلى أكل الهرّ، فقد عانيته.» ثمّ انتزع أحد قرطيه، وأعطاه الطحّان مكافأة لكتمانه عليه، ودنا منه كأنّه يكلّمه بشيء، فأنذر الرجل أصحابه، وأتوه، فطلب إليهم يزدجرد ألّا يقتلوه، وخوّفهم ما عليهم من دينهم من ذاك [1] . وقال: - «آتوني الدهقان أو سرّحونى إلى العرب، فإنّهم يستحيون مثلي من الملوك.» فأخذوا ما كان عليه من الحلىّ، فجعلوه في جراب، وختموا عليه، ثمّ خنقوه بوتر، وطرحوه في نهر مرو، فجرى به الماء حتّى انتهى إلى فوهة الدريق [2] ، فتعلّق بعود، فأخذ من هناك. ثم تفقّد أبو نزار أحد قرطيه، فأخذ الذي دلّ عليه، فضربه حتّى أتى على نفسه، وبعث بما أصيب له إلى الخليفة يومئذ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة القرط المفقود. رواية أخرى في ذلك وقد حكى في رواية أخرى: أنّ نزار وسنجان كانا متباغضين [471] متحاسدين، وخصّ به نزار فحسده سنجان، فظهر ذلك لنزار، فجعل يوغر صدر يزدجرد ويسعى في قتله، ولم يزل يغرى يزدجرد بسنجان حتّى عزم على قتله، وأفشى ما كان عليه عزم من ذلك إلى امرأة من نسائه كان نزار واطأها. فأرسلت إلى نزار [3] تبشّر بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا الحديث وبلغ سنجان. فجمع جموعا وتوجّه نحو القصر الذي فيه يزدجرد، وبلغ ذلك نزار، فنكص عن سنجان لكثرة جمعه، وأرعب ذلك يزدجرد. فخرج ذاهبا على وجهه راجلا ينجو   [1] . أنظر الطبري (5: 2881) . [2] . مط: الدريو. وفي الطبري: الرزيق، وفي حواشيه: الزريق (5: 2881) . [3] . الأصل: نزارا، فمنعناه من الصرف. كما في سائر المواطن من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 بنفسه، فمشى نحوا من فرسخين حتى وقع إلى رحى من ماء، فدخل بيت الرحى، فجلس فيه كالّا لغبا، فرآه صاحب الرحى ذا هيئة، وطرّة، وبزّة كريمة. ففرش له وأتاه بطعام. فطعم ومكث عنده يوما وليلة. فسأله صاحب الرحى أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقته، وكانت مكلّلة بجوهر. فأبى صاحب الرحى أن يقبلها وقال: - «إنما يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم آكل بها وأشرب» . فأخبره ألّا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحى حتى إذا [472] أغفى، قام إليه بفأس، فضرب بها هامته، فقتله، وأخذ ما كان عليه من ثياب وحلىّ، وألقى جيفته في النهر وبقر بطنه، فأدخل فيه من أصول طرفاء كانت نابتة على النهر ليحبس [1] جثته في الموضع الذي ألقاها فيه، فلا ينتقل [2] فيعرف ويطلب وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه. وبلغ قتل يزدجرد رجلا من الأهواز كان مطرانا على مرو يقال له: إيليا، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال: - «إنّ ملك الفرس قتل وهو ابن شهريار بن كسرى وإنّما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها وكانت بنت قيصر. ثم لهذا الملك عنصر في النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جدّه من الشرف، حتى بنى لهم البيع، وشدّ [3] ملّتهم، فينبغي أن نجزى هذا الملك بقدر طاقتنا من الكرامة، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا وأحمل جثّته في كرامة، حتى أجعلها فيه.» فقال النصارى: «أمرنا لأمرك تبع.» فأمر المطران، فبنى له في جوف بستانه بمرو ناووس، ومضى بنفسه ومعه نصارى [473] مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد، وكفّنها في تابوت، وحمله ومن   [1] . مط: فحبس. [2] . الطبري: فلا يسفل (5: 2883) . [3] . الطبري: سدّد (5: 2883) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس، وواروه فيه، وردموا بابه. وقيل: بل حمله إلى إصطخر فوضع في الناووس هناك. وذلك في سنة إحدى وثلاثين للهجرة. وكان ملك يزدجرد عشرين سنة منها أربع سنين في دعة وستّ عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه، ومحنته بهم، وغلظتهم عليه. وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب. ما جرى في خلافة عثمان مما تستفاد منه تجربة وقد كنّا ذكرنا ما يجب ذكره من خلافة عثمان- رضى الله عنه- وما تمّ منه على الوجه الذي اقتصصناه. ثم جرى بعد ذلك مما تستفاد منه تجربة أنّ قوما من المسلمين أنكروا منه أشياء، فكانوا يتذاكرونها بينهم، وذلك بالعراق خاصّة وبالمدينة دون غيرهما. ثم انتشر منهم طائفة في سائر الأعمال ينعون [1] على عثمان أمورا ويشنّعون عليه. فسيّر عثمان منهم نفرا إلى الشام ليذلّهم بمعاوية، وجرى لهم معه خطب طويل. ثم تكاتبوا [474] بعد ذلك، وجميع ذلك شبيه بالسرّ [2] . إلى أن شرب الوليد بن عقبة، وهو وال على الكوفة خمرا وشهد عليه به من لم يمكن ردّ شهادته، فاستقدمه عثمان المدينة وجلده الحدّ، وردّ مكانه سعيد بن العاص، فورد سعيد، وأمر بغسل المنبر من مقامه، فكلّمه في ذلك قوم من قريش، فأبى عليهم، وغسل الموضع ودارى الناس، فلم يتمّ له ما أراد، وشغّب عليه الناس.   [1] . النعي على الرجل: إظهار عيبه وتشهيره. [2] . مط: بالستر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ثم أجمع رأى الناس على أن يبعثوا إلى عثمان رجلا يكلّمه ويخبره بأحداثه. فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس التيمي، وكان يعدّ من النسّاك. فأتاه فدخل عليه فقال: - «إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله، وتب إليه، وانزع عنها.» فقال عثمان: «انظروا إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارئ، ثم يجئ فيكلّمنى في المحقّرات [1] ويزعم أنها عظائم، فوالله ما يدرى أين الله.» قال عامر: «أنا لا أدرى أين الله؟» قال: «نعم، والله لا تدرى أين الله.» قال عامر: «بلى والله، إنى لأدرى أنّ الله لك لبالمرصاد.» فأرسل عثمان إلى معاوية [475] بن أبى سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص وأمثالهم، فجمعهم يشاورهم ويخبرهم بما بلغ منه. فلما اجتمعوا عنده قال: - «إنّ لكل امرئ وزراء نصحاء، وإنّكم وزرائى ونصحائى وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما رأيتم، وطلبوا إلىّ أن أعزل عمّالى وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون. فاجتهدوا لى رأيكم ثم أشيروا علىّ.» فقال عبد الله بن عامر: - «رأيى لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلّوا لك، فلا تكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبر دابّته وقمل فروته.» ثم أقبل على سعيد بن العاص فقال: «ما رأيك؟»   [1] . أنظر ابن الأثير 3: 148، والطبري 6: 2931. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 قال: «يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد رأينا فاحسم عنّا الداء، واقطع ما تخاف من الأصل، واعمل برأيى.» قال: «وما هو؟» قال: «إنّ لكلّ قوم قادة متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر.» فقال عثمان: «إنّ هذا الرأى لولا ما فيه.» ثم أقبل على معاوية، فقال: «ما رأيك؟» قال: «رأيى يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على [476] الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لما قبلي.» ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: «ما رأيك؟» قال: «يا أمير المؤمنين، الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم أقبل على عمرو بن العاص، فقال: «ما رأيك؟» قال: «أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتزل، فإنّك قد ولّيت الناس بنى أميّة وحملتهم على أرقابهم، فاعتزل، فإن أبيت فامض قدما.» فقال له عثمان: «مالك، قمل فروك مذ عزلتك، أهذا الجدّ منك؟» فسكت عنه عمرو حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: - «لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزّ علىّ من ذلك، ولكن قد علمت أنّ الناس قد علموا أنّك جمعتنا لتستشيرنا، وسيبلغهم قول كلّ رجل منّا. فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا [1] بى لأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا.» فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير [2] الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.   [1] . مط: فيتقونى. [2] . كذا في الطبري: بتجمير الناس (6: 2934) مط: بتجهيز الناس وكذلك ابن الأثير: بتجهيز الناس (3: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وردّ سعيد بن العاص أميرا على الكوفة. أهل الكوفة يردّون سعيد بن العاص فخرج أهل الكوفة [477] عليهم السلاح يقدمهم مالك بن الحارث الأشتر، فتلقّوه وردّوه وقالوا: - «لا، والله، لا تلى [1] علينا حكما، ولا تدخلها علينا ما حملنا سيوفنا.» فرجع سعيد وقال للناس: - «أما اختلفتم إلّا لى؟ إنّما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلا وتضعوا لى رجلا، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل؟» ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره الخبر. فقال عثمان: «ما يريدون، أخلعوا يدا [2] عن الطاعة؟» قال: «أظهروا أنّهم يريدون البدل.» قال: «فمن يريدون؟» قال: «أبا موسى.» قال: «أثبتنا أبا موسى عليهم. والله لا نجعل لأحد منهم عذرا، ولا نترك لهم حجّة، ولنصيرنّ كما أمرنا حتى يبلغ الله ما يريد.» وكان يزيد بن قيس لما استغوى [3] الناس على سعيد بن العاص، خرج منه ذكر قبيح [4] لعثمان. فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه.   [ () ] 150) . والأصل غير واضح. [1] . مط: إن تلى. وفي الطبري: لا يلي ... ولا يدخلها (6: 2934) . [2] . مط: ما تريدون اخلعوا أبدا! [3] . كذا في الأصل ومط. استغوى: أضلّ، وفي الطبري: استعوى: استغاث. نعق بهم إلى الفتنة. [4] . في مط: ذكر فتح لعثمان. وقد جعل عنوانا وبحرف أحمر. الطبري: ذكر لعثمان، بدون «قبيح» (6: 2935) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فقال: «ما تريد يا قعقاع، ألك علينا في أن نستعفى سبيل؟» قال: «وهل إلّا ذاك؟» قال: «لا.» وإنما قال ذلك لما لم يتمّ له جميع ما يريد- فقال له [478] القعقاع: - «فأمسك عن الكلام واستعف كيف شئت.» كثر الناس على عثمان وكلّموا عليّا فيه فلما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- بعضهم إلى بعض أن: «اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد.» وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون، ليس منهم أحد يذبّ ولا ينهى. فاجتمع الناس فكلّموا علىّ بن أبى طالب، عليه السلام. فدخل علىّ على عثمان فقال: - «إنّ الناس ورائي، وقد كلّمونى فيك، وو الله ما أدرى ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه وما خصصنا بأمر دونك. قد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله- صلى الله عليه- ونلت صهره، وما ابن أبى قحافة بأولى بعمل الحقّ منك، ولا ابن الخطّاب بأولى بشيء من الخير منك وأنت أقرب إلى رسول الله، صلى الله عليه، رحما. فالله الله في نفسك. فإنّك والله ما تبصّر من عمى ولا تعلّم من جهل، [479] وإنّ الطريق لواضح بيّن، وإنّ أعلام الدين لقائمة. تعلم يا عثمان، أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى وهدى، واستقام وأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 معلومة. فوالله إنّ كلّا لبيّن، وإنّ السنن لقائمة لها أعلام، وإنّ البدعة لقائمة لها أعلام. وإنّى أحذّرك الله وسطوته ونقماته، وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمّة الذي سمعنا به، فإنّه كان يقال: [1] يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح [2] به عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس عليهم أمورهم، ويتركهم شيعا لا يبصرون الحق لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجا.» قال عثمان: «قد والله علمت أنّك تقول [الذي قالوه] [3] أما والله لو كنت بمكاني ما عنّفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، وإنّى ما جئت منكرا [4] إن وصلت رحما، وسددت خلّة، وأويت ضائعا، وولّيت شبيها بمن كان يولّى عمر. أنشدك الله يا على، هل تعلم أنّ مغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: «نعم.» قال: «فتعلم أنّ عمر ولّاه.» قال: «نعم.» قال: «فلم تلومني أن [480] ولّيت عبد الله بن عامر في رحمه وقرابته؟» قال علىّ: «سأخبرك. إنّ عمر كان كلّ من ولّى فانّما يطأ على صماخه، إن بلغه حرف خلعه [5] ، ثم بلغ أقصى الغاية، وأنت لا تفعل. ضعفت ورققت على أقربائك.»   [1] . مط: «بدون «يقال» . [2] . مط: يفتح الله به. انظر الطبري 6: 2938. والكامل 3: 151. [3] . الذي قالوه: غير واضحة في الأصل فصححناها بمقتضى السياق وما في الطبري. في مط: الذي قلت. [4] . إنى ما جئت منكرا: العبارة غير واضحة في الأصل، فقرأناها في ضوء ما في مط والطبري. [5] . الطبري: جلبه، (5: 2939) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قال عثمان: «هم أقرباؤك أيضا.» قال علىّ: «أجل. لعمري إنّ رحمهم منّى لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.» قال: هل تعلم أنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها، فقد ولّيته.» قال على: «أنشدك الله، هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر، من يرفأ غلام عمر، منه؟» قال: «نعم.» قال علىّ: «فإنّ معاوية يقطع الأمر [1] دونك، وأنت تعلم، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك، فلا تغيّر على معاوية.» ثمّ خرج علىّ من عنده وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر، فقال: أما بعد، فإنّ لكلّ شيء آفة ولكل أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون يرونكم ما تحبون ويسرّون ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون [481] إلّا تبرّضا [2] ولا يردون إلّا عكرا، لا يقوم لهم رائد، قد أعيتهم الأمور، وتعذّرت عليهم المكاسب، ألا! والله عبتم علىّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، ووطّأت لكم كنفى، وكففت يدي ولساني، فاجترأتم علىّ. أما والله، لأنا أعزّ نفرا، وأقرب ناصرا، وأكثر عددا وأقمن. إن قلت: هلمّ، أتى إلىّ، [3] ولقد أعددت لكم   [1] . الطبري: يقتطع الأمور. [2] . وفي الطبري: نغصا، بعضا. تبرّض الماء: ترشّفه. نغصه: حرّكه. [3] . الأصل: هلمّ إلىّ، إلىّ. مط: هل إلىّ إلىّ! وما أثبتناه يؤيده الطبري (6: 2940) ، وكذلك ابن الأثير (3: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم [منّى] [1] خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به. فكفّوا عليكم [2] ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فقد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا، فما تفقدون من حقّكم. والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل من مال. فما لى لا أصنع في الفضل ما أريد، فلم كنت إماما؟» فقام مروان بن الحكم فتكلّم، فقال عثمان: - «اسكت لا سكتّ [3] ، [482] دعني وأصحابى، ما منطقك في هذا، ألم أتقدّم إليك ألّا تنطق بحرف؟» فسكت مروان ونزل عثمان. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين فيها كان ظهور السبائيّة [4] وخروج أهل مصر إلى المدينة لقتل عثمان وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبا كان يهوديّا من أهل صنعاء، وأمّه سوداء. فأسلم أيام عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول بدعة. فبدأ بالحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام. فلم يجتمع له أمر على ما يريد، فمضى نحو مصر.   [ () ] 152) . [1] . التكملة من الطبري (6: 2940) . [2] . في الأصل والطبري (6: 2940) : عليكم. وفي حواشي الطبري: عنّى. [3] . في الطبري: لا سكّتّ، لا أسكتّ (6: 2941) . [4] . أنظر الطبري (6: 2941) . وابن الأثير (3: 154) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فلمّا أتاها، قال لأهلها في ما يقول: - «أنا أعجب ممن يصدّق بأنّ عيسى يرجع، ويكذّب بأنّ محمدا لا يرجع، وقد قال الله: «إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد.» [1] فمحمد أحقّ بالرجوع.» فوضع لهم الرجعة. ثم قال: «ما من نبىّ إلّا وله وصىّ، وعلىّ وصىّ محمّد. ثم قال: «من أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول الله- صلى الله عليه- ووثب على حقّ ليس له، وتناول [أمر] [2] الأمة؟» ثم قال: «هذا عثمان قد غصب عليّا، وغيّر وبدّل، وكان وكان، فانهضوا [483] في الأمر، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واطعنوا على أمرائكم تجدوا مقالا، وادعوا إلى هذا الأمر.» وبثّ دعاة في الأمصار، وكاتب من استفسده في الأمصار وكاتبوه. ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف، وتكاتب أهل الأمصار، حتى أوسعوا الأرض إذاعة، وتناولوا المدينة. فدخل قوم على عثمان، فقالوا: - «يا أمير المؤمنين، أيأتيك ما يأتينا؟» قال: «لا، ما جاءني إلّا السلامة.» قالوا: «فإنّا قد أتانا كيت وكيت.» قال: «فأشيروا علىّ.» قالوا: «نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم.» فدعا جماعة من وجوه الصحابة فيهم عمار بن ياسر، فأرسل أحدهم إلى   [1] . س 28 القصص: 85. [2] . تكملة من الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الكوفة، وأرسل آخر إلى البصرة، وأرسل عمارا إلى مصر، وأرسل ابن عمر إلى الشام، وفرّق الباقين في البلاد. فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا: - «أيها الناس، ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين، ولا عوامّهم، والناس ساكتون [484] قارّون.» فاستبطأ الناس عمّارا، فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله بن أبى سرح يخبرهم: أنّ عمارا قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وسودان بن حمران، وفلان وفلان. فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: «أما بعد، فإنّى آخذ العمّال بموافاتي في كلّ موسم، فاقدموا علىّ.» فقدم عليه عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله بن سعد، وأدخل في المشورة سعدا وعمرا. فقال: - «ويحكم! ما هذه الشكاة، وما هذه الإذاعة؟ إنّى والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بى.» فقالوا: «لا والله، ما صدقوا ولا برّوا، ولا يجلّ الأخذ بها، والانتهاء إليها.» قال: «فأشيروا علىّ.» قالوا: «هذا أمر يصنع في السرّ، ثم يلقى إلى غير ذى المعرفة، فيخبر به، فيتحدّث به الناس في مجالسهم.» قال: «فما دواء ذلك؟» قالوا: «طلب هؤلاء القوم، ثم قتل الذين يخرج هذا من عندهم.» وقال معاوية: «ولّيتنى، فولّيت قوما لا يأتيك عنهم إلّا الخير.» قال: «فما الرأى؟» قال: «حسن الأدب.» قال: «فما ترى [485] يا عمرو؟» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 قال: «أرى أنك قد لنت لهم، وأرخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تصنع كما كان يصنع عمر.» فتكلّم عثمان بكلام ليّن ونفّر، فشخص معاوية وعبد الله بن سعد، ورجع ابن عامر وسعيد معه، وردّ سائر الأمراء إلى أعمالهم. وكان معاوية قد قال لعثمان غداة ودّعه: - «يا أمير المؤمنين، انطلق معى إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإنّ أهل الشام على الأمر، لم يزولوا.» فقال: «أنا أبيع جوار رسول الله- صلى الله عليه- وإن كان فيه قطع خيط عنقي؟» قال: «فأبعث إليك جندا منهم يقيم بين ظهرانىّ أهل المدينة لنائبة إن نابت.» قال: «أنا أقتّر على جيران رسول الله- صلى الله عليه- الأرزاق بجند يساكنهم وأضيّق على دار الهجرة والنصرة!» قال: «والله يا أمير المؤمنين لتقاتلنّ [1] ، ولتغزينّ.» قال: «حسبي الله ونعم الوكيل.» فقال معاوية: «يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور!» ثم خرج. ثمّ إنّ السبائية كاتبوا أهل الأمصار أن يتوافوا المدينة لينظروا في ما يريدون، وأظهروا [486] أنهم يأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء لتطير [2] في الناس، ولتحقّق عليه. فتوافوا المدينة، وأرسل عثمان رجلين فقال: - «انظرا [3] ما يريدون، واعلما علمهم.» فأتياهم وداخلاهم حتى أمنوهما، فأخبروهما بما يريدون، فقالا:   [1] . الطبري: لتغتالنّ ولتغزينّ (6: 2949) . [2] . مط: لتظهر. [3] . وفي الأصل: انظروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 - «من معكم من أهل المدينة؟» قالوا: «ثلاثة نفر.» قالا: « [فهل إلّا؟] » [1] قالوا: «لا.» قالا: «فكيف تريدون أن تصنعوا؟» قالوا: «نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنقول: إنّا قرّرناه بها. فلم يخرج منها ولم يتب [2] ، ثم نخرج بعد ذلك كأنّا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنختلعه، فإن أبى قتلناه فكانت إيّاها.» فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وقال: - «اللهم سلّم هؤلاء النفر [3] ، أما عمّار فحمل علىّ ذنب غيرى وعركه [4] بى، وأمّا محمد بن أبى بكر، فإنه رجل معجب يرى أنّ الحقوق لا تلزمه، وأما ابن [سهله] [5] فإنّه يتعرض للبلاء.» ثم خطب عثمان، فجمع أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، وخبّرهم بما جاء به الرجلان، واعتذر مما تجنى الناس عليه، واستشارهم. فأشار قوم بقتلهم، ولان عثمان، فأبى أولئك إلّا قتلهم، وأبى إلّا تركهم. [487] فرجعوا إلى بلادهم وفي نيّاتهم أن يغزوه مع الحجّاج كالحجّاج. فتكاتبوا وقالوا: موعدهم في ضواحي المدينة في شوال. فلمّا كان ذلك الوقت اجتمعوا، فنزلوا قرب المدينة- وذلك سنة خمس وثلاثين- وعدّتهم ألفا رجل، ينقصون   [1] . الأصل غير واضح وما أثبتناه هو من الطبري (6: 2950) . مط: فهل قالوا لا، قال فكيف تريدون. [2] . كذا، وما أثبتناه يؤيده الطبري. مط: ولم يثبت. [3] . وزاد في الطبري: فإنّك إن لم تسلّمهم شقوا (6: 2951) . [4] . مط: وغدر بى. وفي الطبري: وأما عمار فحمل على عباس بن عتبة بن أبى لهب وعركه (6: 2951) . [5] . غير واضحة في الأصل. مط: سار. وفي بعض الأصول: ساره، وما أثبتناه من الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 قليلا أو يزيدون، من أهل البصرة والكوفة. وخرج أهل مصر ومعهم ابن السوداء، وكنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وفي أهل الكوفة زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وفي أهل البصرة حكيم بن جبلة وبشر بن شريح وأميرهم حرقوص بن زهير، ثم تلاحق بهم الناس. فأمّا أهل مصر فإنّهم كانوا يشتهون عليّا، وأمّا أهل البصرة فإنّهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنّهم كانوا يشتهون الزبير [1] . وكان خروجهم جميعا، وقلوبهم شتى في من يختارون، ولا تشكّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث، تقدّم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة، فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر وتركوا عامّتهم [488] بذي المروة، وقالوا: - «لا تعجلوا ولا تعجلونا! حتى ندخل المدينة ونرتاد، فإنّه بلغنا أنّهم قد عسكروا لنا. فوالله إن كان أهل المدينة استحلّوا قتالنا، وهم لم يعلموا علمنا [2] لهم إذا علموا علمنا أشدّ، وإنّ أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلّوا قتالنا، ووجدنا الذي بلغنا باطلا لنرجعنّ إليكم بالخبر.» قالوا: «فاذهبوا!» فدخل رجلان، فلقيا أزواج النبىّ- صلى الله عليه- وطلحة، والزبير، وعليّا، وقالوا: - «إنّما نؤمّ هذا البيت، ونستعفى هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك.» [واستأذناهم] [3] للناس بالدخول، فكلّهم أبى ونهى [4] .   [1] . أنظر الطبري (6: 2955) . [2] . مط: علمنا لهم. والطبري: علمنا فهم ... [3] . في الأصل ومط: فاستأذنوهم. وما أثبتناه عن الطبري. [4] . وزاد في الطبري: وقال بيض ما يفرخنّ (6: 2956) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 فاجتمع قوم من أهل مصر، فأتوا عليّا، ونفر من أهل البصرة، فأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة، فأتوا الزبير. فأما المصريّون فانّهم لما أتوا عليّا وجدوه في عسكر عند أحجار الزيت [1] ، فسلّم المصريّون على علىّ وعرّضوا، فصاح بهم، وطردهم، وقال: - «ارجعوا لا صحبكم الله.» فانصرفوا من عنده على ذلك. وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى حيث [489] هو، وقد أرسل ابنيه إلى عثمان. فسلّم البصريّون عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وطردهم، وقال قريبا مما قال علىّ. وأتى الكوفيّون الزبير وهو في جماعة وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلّموا عليه، وعرّضوا له، فصاح بهم وقال مثل ما قال صاحباه. فانصرف القوم إلى عساكرهم وهي على ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرّوا راجعين. فافترق أهل المدينة وكرّوا راجعين. فلم يفجأ أهل المدينة إلّا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم. وأحاطوا بعثمان وقالوا: - «من كفّ يده فهو آمن.» وصلّى عثمان بالناس أياما، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدا من الكلام. فأتاهم الناس فكلّموهم وفيهم علىّ. فقال: - «ما ردّكم بعد ذهابكم؟» قالوا: «أخذنا مع بريد كتابا بقتلنا.»   [1] . وزاد في الطبري: عليه حلّة أفواف معتم بشقيقة حمراء يمانية متقلّد السيف، ليس عليه قميص وقد سرّح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فالحسن جالس عند عثمان وعلىّ عند أحجار الزيت. فسلّم عليه المصريّون ... (6: 2957) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وأتاهم طلحه، فقالوا له مثل ذلك. وأتاهم الزبير فقالوا له مثل ذلك. وأجمعوا على أن يعتزل عثمان، وهو في ذلك يصلّى بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى [490] عثمان من شاء وهم في عينه أدقّ من التراب. وكتب إلى أهل الأمصار يستمدّهم، ويشكو ما يلقى، بكتاب [1] بليغ. فأتاهم الكتاب، وخرجوا على الصعب والذلول. فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج السكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو. وكان بالكوفة جماعة يحضّضون على إغاثة أهل المدينة مثل حنظلة بن الربيع وأشباهه من أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- فكانوا يطوفون على مجالسها ويقولون: - «يا أيها الناس، إنّ الكلام اليوم وليس به غدا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدا، انهضوا إلى نصرة خليفتكم.» وقام بالبصرة عمران بن الحصين وأنس بن مالك في أمثالهما من أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- يقولون مثل ذلك، وقام بالشام عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء في أمثالهما من أصحاب النبىّ- صلى الله عليه- يقولون مثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له. ولما جاءت الجمعة التي [على] [2] أثر [نزول] [3] المصريّين مسجد الرسول [491] خرج عثمان، فصلّى بالناس، ثم قام على المنبر، فقال: - «الله الله يا معشر الغزّى [4] ! فامحوا الخطأ بالصواب.»   [1] . أنظر الطبري (6: 2958) . [2، 3] . الكلمتان من الطبري (6: 2960) ، والعبارة في الأصل ومط: التي أثر فيها نزول المصريين. [4] . كذا في الأصل. وفي مط: العزى. الطبري: العدى، العذي، الغزا، الغزّاء (6: 2960) . وفي الكامل: يا هؤلاء (3: 161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فقام محمد بن مسلمة فقال: «أنا أشهد بذلك.» فأخذه حكيم بن جبلة، فأقعده. فقام زيد بن ثابت، فقال: «أبغنى [1] الكتاب.» فثار إليه محمد بن أبى بكر فنتره [2] وأقعده وقال: «اقطع!» وقام الناس بأجمعهم ثائرين بأهل المدينة، فحصبوهم، حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيّا عليه، فاحتمل وأدخل داره. وكان المصريّون لا يطمعون في مساعدة أحد من أهل المدينة إلّا في ثلاثة فإنّهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبى بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر. وسار ناس مستقتلين منهم: سعد بن مالك، والحسن [3] بن علىّ، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا، فانصرفوا. وأقبل علىّ وطلحة والزبير حتى دخلوا على عثمان يعودونه [492] من صرعته، ثم رجعوا إلى منازلهم. وكان الناس قبل ذلك وافقوه على أشياء وجد فيها اعتذارا، وعلى أشياء لم يجد فيها مقالا [4] ، فقال: - «أستغفر الله وأتوب إليه.» وأخذوا ميثاقه وكتبوا عليه شرطا، وأخذ عليهم ألّا يشقّوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم. ثم قالوا: «نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنّما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد.»   [1] . الطبري: ابغنى الكتاب. [2] . في الطبري: محمد بن أبى قتيرة فأقعده وقال فأفظع وثار القوم. (نفس الصفحتين) . نتره: جذبه بشدّة. [3] . وفي بعض الأصول: الحسين بن على (حواشي الطبري 1: 2961) . [4] . لم تكن العبارة واضحة تماما في الأصل. انظر الطبري 6: 2964. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فرضوا، وأقبلوا معه حتى خطب عثمان، وقال: «ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحلب، ألا! إنّه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد، صلّى الله عليه.» فغضب الناس وقالوا: - «هذا مكر بنى أميّة.» راكب له شأن ورجع وفد المصريين راضين، فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض، فمرّة يرونه، ومرّة يغيب عنهم، فقالوا: «إنّ لهذا الرجل لشأنا.» فأخذوه، وقرّروه، فقال: «أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر.» ففتشوه فإذا هم بكتاب [493] على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامله بمصر، قد جعل في إداوة [يابسة] [1] يأمر بأن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يصلبهم. فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا عليّا، فقالوا: - «ألم تر إلى عدوّ الله! إنّه كتب فينا بكذا وكذا، بعد الميثاق الذي بيننا وبينه، وإنّ الله قد أحلّ لنا دمه، قم معنا إليه.» قال: «والله لا أقوم معكم!» قالوا: «فلم كتبت إلينا؟» قال: «والله ما كتبت إليكم كتابا قطّ.» فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض:   [1] . الكلمة غير واضحة في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 - «ألهذا تقاتلون؟ أم لهذا تغضبون؟» فخرج علىّ من المدينة إلى قرية، وانطلق القوم حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: - «كتبت فينا بكذا وكذا.» فقال عثمان: «إنّما هما ثنتان: إمّا أن تقيموا علىّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله، الذي لا إله إلّا هو، ما كتبت، ولا أمللت، ولا علمت. وقد علمتم أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على الخاتم.» فقالوا: «لئن كنت كاذبا في يمينك فقد أحلّ الله دمك، ولئن كنت صادقا لقد ضعفت عن الأمر، حين لا تضبط [494] من أمرك هذا المقدار.» وقد حاصروه، وقد ذكر الناس في هذه الروايات أشياء شنعة لم نذكرها. وقد كان عثمان لما أحسّ بانصراف المصريين إليه من الطريق، أتى عليّا في منزله، فقال: - «يا ابن عمّ! إنّه ليس منزل، وإنّ قرابتي قريبة، ولى حقّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبّحىّ، وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرا، وأنّهم يستمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم، فتردّهم عنّى. فإنّى لا أحبّ أن يدخلوا علىّ، فإنّ تلك جرأة منهم علىّ، ويسمع بذلك غيرهم.» فقال علىّ: «على م أردّهم؟» قال: «على أن أصير إلى ما أشرت به علىّ، ورأيته لى، ولست أخرج من يديك.» فقال علىّ: «إنّى قد كنت كلّمتك مرّة بعد مرّة، وكل ذلك تخرج فتتكلّم وتقول وتقول، وذلك كلّه فعل مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، ومعاوية، تطيعهم وتعصينى.» قال: وأمر الناس المهاجرين والأنصار، فركبوا معه. وأرسل عثمان إلى عمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 بن ياسر، فكلّمه أن يركب مع علىّ، فأبى. ومضى علىّ في [495] المهاجرين والأنصار، وهم ثلاثون رجلا. فكلّمهم علىّ ومحمد بن مسلمة حتى رجعوا. فلما رجع علىّ إلى عثمان وأعلمه أنهم رجعوا، وكلّمه علىّ كلاما كان في نفسه، وخرج إلى بيته، مكث عثمان ذلك اليوم حتى إذا كان الغد جاءه مروان بن الحكم، فقال له: - «تكلّم، وأعلم الناس أن أهل مصر علموا أنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلا، وقد رجعوا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد قبل أن يتحلّب [1] الناس عليك من أمصارهم، فيأتيك أمر لا تستطيع دفعه.» [فأبى] [2] عثمان، ولم يزل به مروان حتى خرج، فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: - «أما بعد، فإنّ هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلما تيقّنوا أنه باطل رجعوا إلى بلادهم.» فقال له عمرو بن العاص: - «اتق الله يا عثمان! فإنّك قد ركبت نهابير [3] وركبناها معك، فتب إلى الله نتب معك.» فناداه عثمان: «وإنّك هناك يا ابن النابغة قملت جبّتك منذ عزلتك عن العمل.» فنودي من ناحية أخرى: «أظهر [496] التوبة يا عثمان يكفّ الناس عنك.» ونودى من ناحية اخرى بمثل ذلك. فرفع عثمان يده واستقبل القبلة، فقال: - «اللهمّ إنّى أول تائب إليك.»   [1] . كذا في الطبري (6: 2972) . وفي مط: يجتلب. [2] . الأصل مطموس في هذه الكلمة، فأخذناها من مط. [3] . جمع مفرده نهبور ونهبورة: المهلكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ورجع إلى منزله. ثمّ إنّ عليّا جاءه، فقال له: - «تكلّم كلاما يسمعه الناس عامّة ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإنّ البلاد قد تمخّضت عليك، فلا آمن ركبا آخر يقدمون من الكوفة أو البصرة، فتقول لى: اركب إليهم، فلا أركب، ولا أسمع لك عذرا، وتراني قد قطعت رحمك واستخففت بحقّك.» فخرج عثمان، فخطب الخطبة المشهورة التي يقول فيها: - «إنى نزعت وتبت مما فعلت، إذ التوبة خير من التمادي في الهلكة، والله أيها الناس، لئن ردّنى الحق عبدا، لأذلّنّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق الذي إن ملك صبر، وإن عتق شكر. فليأتنى وجوهكم. فوالله لأنزلنّ عند رأيكم، ولأنتهينّ إلى حكمكم.» فرقّ له الناس وبكى من بكى منهم، وعلت الأصوات بالنشيج. فقال له سعيد بن زيد: «اتقّ الله [497] يا أمير المؤمنين في نفسك، وأتمم على ما قلت.» فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان، وسعدا، ونفرا من بنى أميّة لم يشهدوا الخطبة. قال مروان: «يا أمير المؤمنين، أتكلّم، أم أصمت؟» فقال بعض أهله: «لا، بل اصمت، فأنتم والله قاتلوه، إنّه قال مقالة مشهورة لا ينبغي أن ينزع عنها.» فأقبل عليها [1] مروان بكلام قبيح إلى أن سكّتها عثمان. ثم قال مروان: «أتكلّم، أم أصمت؟»   [1] . في الأصل ومط: عليه. فصححناها بالطبرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 قال: «بل تكلّم.» فقال مروان: «بأبى وأمّى، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع، وكنت أول من رضى بها، وأعان عليها، ولكنّك قلت حين بلغ الحزام الطبيين، وحين أعطى الخطّة الغليظة [1] الذليل، والله لإقامة على خطيئة تستغفر منها، أجمل من توبة تجبر عليها، وقد اجتمع بالباب مثل الجبل من الناس.» فقال عثمان: «فاخرج إليهم، فكلّمهم، فإنّى أستحى أن أكلّمهم.» فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا، فقال: - «ما شأنكم؟ [498] قد اجتمعتم كأنّكم جئتم لنهب، كلّ إنسان آخذ [2] بأذن صاحبه، شاهت الوجوه، ألا، من أريد؟ جئتم أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنّا، أما والله لئن رمتمونا لتلقون ما لا يسرّكم ارجعوا، فوالله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا.» فرجع الناس إلى علىّ يشكون إليه. فجاء علىّ مغضبا حتى دخل على عثمان، فقال: - «أما رضيت من مروان ولا رضى منك، إلّا بإخراجك عن دينك وعقلك، مثل جمل الظعينة، يقاد حيث شاء ربّته [3] ؟. والله ما مروان بذي رأى في دينه، ولا في نفسه، وإنّى لأراه سيوردك ولا يصدرك، وما أنا بعائد بعد هذا لمعاتبتك، فقد أكثرت وأكثرت. أذهب [4] شرفك وغلبت على أمرك.» فلما خرج علىّ دخل إليه بعض أهله فقال: - «إنى سمعت قول علىّ لك، وإنه ليس يعاودك، فقد خالفته مرارا وأطعت مروان.»   [1] . وفي الطبري: الخطة الذليلة الذليل. [2] . كذا في الطبري (6: 2975) . [3] . في الطبري حيث يسار به (6: 2976) . مط: «حيث ساريته» . والظعينة: الهودج، أو المرأة التي فيه. [4] . في الطبري: أذهبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 قال: «فما أصنع؟» قال: «تتقى الله وحده وتطيعه يرشدك، فإنّ مروان ليس له [499] عند الناس قدر، ولا هيبة، ولا محبّة، وأراه سيقتلك، فأرسل إلى علىّ واستصلحه، فإنّه يعطف عليك ولا يعصى، وقوله مقبول.» فأرسل عثمان إلى علىّ، فأبى أن يأتيه وقال: - «قد أعلمته أنّى غير عائد إليه.» ومكث عثمان لا يخرج ثلاثة أيام حياءا من الناس. ثم ذهب عثمان بنفسه حتى أتى عليّا في منزله ليلا، وجعل يقول: - «إنى غير عائد، وإنّى فاعل، وإنّى فاعل [1] .» فقال له علىّ: «أبعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله- صلى الله عليه- وأعطيت من نفسك، وبكيت حتى اخضلّت لحيتك بالدمع، وأبكيت الناس، ودخلت منزلك. وخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك، ويتلقّاهم بما يكرهونه؟» وانصرف من عند علىّ، ولم يزل علىّ متنكّبا عنه، لا يفعل ما كان يفعل، إلّا أنّه لما منع الماء وحصر امتعض له وغضب غضبا شديدا، وكلّم طلحة وغيره حتى دخلت الروايا إلى عثمان. ولما رأى عثمان ما نزل به وما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية، وهو بالشام. يسأله أن يبعث له مقاتلة الشام على كلّ صعب وذلول. [500] فلما جاء معاوية كتابه تربّص، وكره إظهار مخالفة أصحاب النبي- صلى الله عليه- فلمّا أبطأ نصره على عثمان كتب إلى أهل الشام يستنفرهم، ويعظّم حقّه، ويذكر   [1] . التكرار من النص في «وإنّى فاعل» . ويضيف الطبري هنا: وهو يقول: قطعت رحمي، وخذلتني، وجرّأت الناس، فقلت: [والقائل علىّ] والله إنّى لأذبّ الناس عنك، ولكنى كلما جئتك بهنة أظنها لك رضى جاء بأخرى، فسمعت قول مروان علىّ واستدخلت مروان (6: 2979) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أمر الخلفاء، وما أمر الله به من طاعتهم ويقول: - «والعجل، العجل، فإنّ القوم معاجلىّ.» فقام قوم يحضّضون على نصره، وانتدب خلق كثير. وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بالبصرة: أن اندب إلىّ أهل البصرة، وكتب إلى أهل البصرة نسخة كتابه إلى الشام. فقامت الخطباء من أهل البصرة بحضرة عبد الله بن عامر يحضّون على نصر [1] عثمان، وعلى المسير إليه، فيهم مجاشع بن مسعود، وهو يومئذ سيّد قيس في البصرة. فتسارع الناس، وكان أشار مروان على عثمان بمقاربة من حوله من أهل مصر وغيرهم حتى يقوى، وقال له: - «أعطهم ما سألوك، وطاولهم ما طاولوك، وأرسل إلى علىّ يكلّمهم.» فراسل عليّا وقال: - «إنّ الأمر بلغ القتل، فاردد الناس عنّى، فإنّ الله لهم أن أعتبهم من كلّ ما يكرهون، وأعطيهم الحقّ من نفسي وغيرى، وإن كان في ذلك سفك دمى.» فراسله علىّ بأنّ: - «الناس إلى عدلك! أحوج منهم [501] إلى قتلك، وإنّى لأرى قوما لا يرضون إلّا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في المرة الأولى من العهود ما نقضته، ولم تف به لهم.» فقال عثمان: «أعطهم اليوم ما يحبّون، فوالله لأفينّ.» فخرج علىّ إلى الناس، فقال: - «أيها الناس! إنّكم إنّما طلبتم الحقّ وقد أعطيتموه. إنّ عثمان يزعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره، وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه.» قال الناس:   [1] . نصر: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 - «قد قبلنا، فاستوثق لنا، فإنّا لا نرضى بقول دون فعل.» فقال علىّ: «ذلك لكم.» وأخبر عثمان الخبر، فقال عثمان: «اضرب بيني وبينهم أجلا تكون لى فيه مهلة، فإنّى لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد.» فقال علىّ: «ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب، فأجله وصول أمرك.» قال: «نعم، ولكن أجّلنى في ما في المدينة ثلاثة أيام.» فقال علىّ: «نعم.» فخرج علىّ، وكتب بينهم وبين عثمان كتابا على الأجل، شرط فيه أن يردّ كل مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهه المسلمون، ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد أو ميثاق، وأشهد ناسا من وجوه المهاجرين والأنصار. [502] فكفّ المسلمون عنه، ورجوا أن يفي لهم بما أعطاهم. يوم الدار فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسلاح، وكان اتّخذ جندا عظيما من رقيق الخمس. فلمّا انقضت الأيام الثلاثة، وهو على حاله، لم يغيّر شيئا مما كرهوه، ولا عزل عاملا ثار به الناس وهجموا. فدخلوا يومئذ وما سلّموا عليه بالخلافة، وقالوا: - «سلام عليكم.» فقال من حضره: «عليكم السلام.» فتكلّم الناس، وذكروا ما صنع عبد الله بن سعد بمصر من استيثاره بغنائم المسلمين، وتحامله عليهم وعلى أهل الذمّة، فإذا قيل له في ذلك، قال: - «هذا كتاب أمير المؤمنين.» ثم ذكروا ما أحدثه بالمدينة وأطالوا، وقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 - «إنّا رحلنا من مصر، لا نريد إلّا دمك أو تنزع الخلافة، فردّنا علىّ ومحمد بن مسلمة، وضمنّا له [1] النزوع عن كل ما تكلّمنا فيه.. (ثم أقبلوا على محمد وقالوا: «هل قلت [2] لنا ذلك؟» قال محمد: «نعم» ) .. فرجعنا إلى بلادنا حتى إذا كنّا بالبويب، أخذنا غلامك على راحلة من صدقات المسلمين ومعه كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد تأمره فينا بجلد ظهورنا والمثلة بنا بالقطع والحبس الطويل، [503] وهذا كتابك، ثم فعلت وفعلت.» فحمد الله عثمان وأثنى عليه وقال: «والله ما كتبت ولا أمرت ولا شوورت [3] .» قالوا: «فمن كتبه؟» قال: «لا أدرى.» قالوا: «فيجترأ عليك، ويبعث بغلامك، وجمل من صدقات المسلمين، وينقش [4] خاتمك، ويكتب إلى عاملك في إعلام المسلمين بهذه العظائم وأنت لا تعلم! ليس مثلك [5] من يلي الخلافة، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه.» فأبى وقال: «لا أنزع قميصا ألبسنيه الله، ولكنّى أتوب من كلّ ما تكرهون.» قالوا: «قد فعلت ذلك وكذبت، وقد وقعت عليك التهمة مع ما بلونا منك في مرات كثيرة، من الجور في الحكم والأثرة في القسم، والعقوبة لمن أمر بالمعروف، وإظهارك التوبة مرة بعد مرة، ثم رجوعك إلى كلّ منكر. ولقد كنّا رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من نرضاه، ومن لم نجرّب عليه ما جرّبناه عليك، فاردد خلافتنا.»   [1] . كذا في الأصل: ضمنّا له. وما في مط: ضمنا لنا. ولكلا الضبطين وجه من الصحة. [2] . في مط: هل أنت قلت. [3] . في مط: ولا شاورت. [4] . في مط: فيفتق. [5] . في مط: منك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فأجابهم عثمان بجوابه الأول، فآذنوه [1] بالحرب، وشدّدوا عليه الحصار. فصعد بعض عبيد [504] عثمان إلى سطح داره، فدلّى منه حجرا، فقتل رجلا يقال له: دينار. فأرسلوا إلى عثمان أن: - «أمكنّا من قاتله.» فقال عثمان: «والله ما أعرف قاتله [2] .» فباتوا تلك الليلة. فلمّا أصبحوا، وهو يوم الجمعة، أحضروا نارا ونفطا، ودخلوا من ناحية الحرم [3] ، فأضرموا جوانب الدار، فاحترقت. فقال عثمان لأصحابه: - «ما بعد الحريق شيء، فمن كانت لى عليه طاعة فليمسك يده، فإنّما يريدني القوم، ولو كنت في أقصاكم لتخطّوكم إلىّ، ولو وجدوني في أدناكم ما تخطّونى إليكم.» فأبى مروان وقال: «والله لا وصلوا إليك وفي روح.» وخرج إلى الناس بسيفه وعليه درع. فناوشوه القتال. ثمّ خرج إليه غلام شابّ طوال، فضربه مروان على ساقه، وضرب الغلام مروان على رقبته، فسقط لا ينبض منه عرق، وقتل المغيرة بن الأخنس، وجرح عبد الله بن الزبير، وانهزم من في الدار، وخرجوا هرّابا في طرق المدينة، وخلص إلى عثمان، فقتل قبل أن يلحقه الغوث من الأمصار. أسماء كتّاب عثمان [505] كتب له مروان بن الحكم، وكتب له عبد الملك بن مروان على ديوان المدينة،   [1] . في مط: فأذنوه بالحرب. [2] . في مط: ما أعرف قاتل (!) [3] . مط: من ناحية إلى الحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وأبو جبيرة على ديوان الكوفة، وعبد الله بن الأرقم على بيت المال، وكتب أهيب مولاه [1] ، وكتب له حمران مولاه، فأنكر عليه شيئا، فنفاه إلى البصرة، فلم يزل بها حتى قتل عثمان. سبب سقوط هذا الكاتب من عين عثمان وكان سبب نفيه إيّاه أنّ عثمان اشتكى شكاة، فقال له: - «اكتب العهد بعدي لعبد الرحمان بن عوف.» فانطلق حمران إلى عبد الرحمان بن عوف فقال له: - «البشرى!» فقال: «لك البشرى، فماذا؟» فأخبره الخبر. فصار عبد الرحمان إلى عثمان، فأخبره بما قال حمران، فقلق عثمان، وخاف أن يشيع، فنفاه لذلك. ذكر تدبير تمّ لعثمان بمعاونة علىّ رضى الله عنه [2] ورأيه لما حصر عثمان الحصار الأول كان علىّ بخيبر، فلمّا قدم أرسل إليه عثمان. فذهب إليه، فكلّمه عثمان، وأذكره بحقّه من الإسلام والقرابة والصهر، وماله في عنقه من العهد. ثم قال له: - «ولو لم يكن من هذا شيء، ثمّ كنّا نحن [506] في جاهليّة، لكان عيبا على عبد مناف أن يبتزّهم أخو بنى تيم ملكهم [3] » . يعنى طلحة، وقد كان اجتمع إلى طلحة قوم وطمع فيها. فتكلّم علىّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:   [1] . وكتب أهيب مولاه: سقطت من مط. [2] . في الأصل: رضى الله عنه، وفي مط بدونها. [3] . في الأصل: مالهم. ولعلّه تصحيف. في مط: ملكهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 - «أما بعد، فكلّ ما ذكرت من حقّك علىّ كما ذكرت، وأما قولك: لو كنّا في جاهلية لكان عيبا على عبد مناف أن يبتزّهم أخو بنى تيم، فصدقت وسيأتيك الخبر.» ثم خرج فدخل المسجد، فرأى أسامة جالسا، فدعاه، واعتمد عليه، وخرج يمشى إلى طلحة، فلمّا دخل عليه، وجد داره ممتلئة بالرجال، فقام عليه وقال: - «يا طلحة! ما هذا الأمر الذي وقفت فيه؟» فقال: «يا أبا الحسن، أبعد ما مسّ الحزام الطبيين؟» فسكت علىّ وانصرف حتى أتى بيت المال، فقال: - «افتحوا هذا الباب.» فلم يقدر على المفاتيح، وتأخّر عنه صاحب المفاتيح، فقال: «اكسروه.» فكسر باب بيت المال، وقال: - «أخرجوا المال.» وجعل يعطى الناس. فبلغ الذين في دار طلحة ما صنع علىّ، فجعلوا يتسلّلون إليه، حتى ترك طلحة وحده، وبلغ الخبر عثمان، فسرّ به، ثم أقبل طلحة [507] عامدا إلى دار عثمان. فقال بعض الصحابة: - «والله لأنظرنّ ما يقول هذا.» قال: فتبعته، فاستأذن على عثمان. فلمّا دخل عليه، قال: - «يا أمير المؤمنين، أستغفر الله وأتوب إليه. أردت أمرا، فحال الله بيني وبينه.» فقال عثمان: - «إنّك والله، ما جئت تائبا، ولكنّك جئت مغلوبا. الله حسيبك يا طلحة.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 خلافة الإمام على ذكر بيعة علىّ بن أبى طالب عليه السلام لمّا قتل عثمان اجتمع عامة المهاجرين والأنصار على علىّ [1] ، فأتوه، فتأبّى عليهم، وقال: - «أنا وزيرا خير لكم منّى أميرا [2] .» فارتدّ الناس عنه وأتوا طلحة والزبير فتكلّما في قتل عثمان بما ظنّوه توعّدا، فقالوا لطلحة والزبير: - «إنّ كلامكما لوعيد.» ثم انصرفوا عنهما وقال بعضهم لبعض: - «إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعد قائم بهذا الأمر، لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة.» فعادوا إلى علىّ وخاطبوه. فأخذ الأشتر بيد علىّ، فقبضها علىّ. فقال الأشتر: «ما لك تتعسّر، [508] وأنت ترى ما فيه الناس؟» فقال علىّ: «أبعد ثلاثة؟»   [1] . في الأصل: رضى الله عنه، وفي مط: عليه السلام. [2] . في الأصل ومط: «أنا وزير خير لكم من أمير.» وفي الطبري (6: 3066) : «إنّى أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 فقال له الأشتر: «أما والله لئن تركتها لتعصرنّ عينيك عليها حينا.» فبايعوه. وفي ما رواه صاحب التاريخ، قال: اجتمع أهل الأمصار وقالوا: - «دونكم يا أهل المدينة، فقد أجّلناكم ثلاثا [1] ، فو الله لئن لم تفرغوا لنفعلنّ ولنفعلنّ.» فغشى الناس عليّا وقالوا: - «ترى ما نزل بالناس وما ابتلينا به من بين تلك القرى؟» فقال علىّ: «دعوني والتمسوا غيرى، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه. لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول.» فقالوا: «ننشدك بالله. ألا ترى ما نرى؟، ألا ترى الفتنة؟ أما تخاف الله؟» قال: «اعلموا أنّى- إن أجبتكم- ركبت بكم [2] ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم، ألا، إنّى أسمعكم، وأطوعكم لمن ولّيتموه.» فافترقوا على ذلك، واتّعدوا لغد، وتشاور الناس في ما بينهم، وقالوا: - «إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت.» فبعث المصريّون بصريّا إلى الزبير وقالوا: «احذر لا تحابه. [3] » - وكان رسولهم حكيم بن جبلة في نفر- فجاؤوا يحدونه بالسيف. وبعثوا إلى طلحة [509] كوفيّا وقالوا: «احذر لا تحابه.» وبعثوا بنفر، فجاؤوا يحدونه بالسيف. وبعثوا الأشتر إلى علىّ، وأهل الكوفة وأهل البصرة شامتون بصاحبيهم، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد صار أهل الكوفة والبصرة كالأتباع، وهم جشعون. فلما أصبحوا يوم الجمعة حضر الناس المسجد. وجاء علىّ حتى صعد المنبر،   [1] . كذا في مط، وفي الأصل شطب واضطراب في الرسم. [2] . مط: رأيت ما بكم! [3] . مط: لا تخافه (وكذلك في الموضع الآتي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فقال: - «يا أيها الناس، عن ملأ وإذن، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلّا من رضيتم وأمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أحد على أحد.» قالوا: «نحن على ما افترقنا عليه بالأمس.» وقام الأشتر، فقدّم طلحة، وقال له: - «بايع.» فقال: «أمهلنى أنظر.» فجرّد سيفه وقال: «لتبايعنّ، أو لأضعنّه بين عينيك.» فقال طلحة: «وأين المذهب [1] عن أبى حسن.» فصعد المنبر، فبايعه. فنظر رجل من بعيد يقتاف، فقال: - «إنّا لله، أول يد [2] بايعت أمير المؤمنين يد شلّاء، لا يتمّ هذا الأمر أبدا.» وكان طلحة وقى رسول الله بيده حين رأى سهما أقبل نحو وجهه، فأصاب السهم يده، وشلّت يده. ثمّ قدّم الزبير، [510] فبايع، وفي الزبير خلاف، ثم تتابع الناس بالبيعة لا يكرهها أحد، وذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين. وخطب على- رضى الله عنه- خطبته المشهورة [3] ، واجتمع إلى علىّ عدة من الصحابة فيهم طلحة والزبير، فقالوا: - «يا علىّ، إنّا اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل، وأحلّوا [4] بأنفسهم.»   [1] . وفي الطبري (6: 3069) : «أين المهرب منه.» وفي مط: «فقال طلحة واذهب (!) عن أبى حسن.» [2] . يد: سقطت من مط. [3] . أنظر الطبري 6: 3078. [4] . كذا في الأصل والطبري: «وأحلّوا» بالهاء المهملة وفي مط: «وأخلّوا» بالخاء المعجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 فقال لهم: «يا إخوتاه، إنّى لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم. ها هم هؤلاء، وقد ثارت معهم عبيدكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم، يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟» قالوا: «لا.» قال: «فإنّى والله لا أرى إلّا رأيا ترونه، إلّا أن يشاء الله. إنّ الناس من هذا الأمر- إن حرّك- على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة لا ترى ما ترون، وفرقة لا ترى لا هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق. فاهدأوا [1] عنّى، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا.» [511] ثمّ إنّ بنى أمية تهاربت وخرجت عن المدينة. فاشتدّ علىّ- عليه السلام- على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها تلك. ثم خرج علىّ في اليوم الثاني فقال: - «يا أيها الناس، أخرجوا عنكم الأعراب.» وقال: - «يا أيها الأعراب، الحقوا بمياهكم.» فأبت السبائية، وأطاعهم الأعراب. ودخل علىّ بيته، ودخل عليه عدة من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه- فيهم طلحة والزبير. فقال لهم علىّ: «دونكم ثأركم، فاقتلوه.» فقالوا: «قد عسوا [2] عن ذلك.» فقال لهم: «هم والله بعد اليوم أعسى [3] .» وتمثّل: ولو أنّ قومي طاوعتنى سراتهم ... أمرتهم أمرا يديخ الأعاديا   [1] . مط: فاهدوا. [2، 3] . كذا في الأصل، وفي مط: عصوا، أعصى. وفي الطبري: عتوا، أعتى (6: 3081) . عسى: جفّ وغلظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وقال طلحة: «تدعني، فآتى البصرة، فلا يفجأوك إلّا وأنا في خيل.» وقال الزبير: «آتى الكوفة، فلا يفجأوك إلّا وأنا في خيل.» فقال: «حتى أنظر.» وسمع المغيرة بذلك المجلس. ذكر رأى جيّد للمغيرة فجاء المغيرة حتى دخل على علىّ- عليه السلام- فقال: - «إنّ حولك من يشير ويرى، ولك علىّ حقّ الطاعة، وأنّ النصح رخيص، وأنت بقية الناس، [512] وأنا لك ناصح. واعلم أنّ الرأى اليوم تحوز [1] به ما في غد، وأن الضياع اليوم يضيع به ما في غد. أقرر معاوية على عمله، وأقرر ابن عامر على عمله، واردد عمّال عثمان عامك هذا، واكتب بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأنّ الأمر عزلت من أحببت، وأقررت من أحببت.» فقال علىّ: «والله، لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيى [2] ، ولا ولّيت أمثال هؤلاء [ولا مثلهم يولّى [3]] ، وما كنت متخذ المضلّين عضدا [4] .» فقال المغيرة: «فإذ قد أبيت فاترك معاوية، فإنّ له جرأة، وأهل الشام يطيعونه، ولك حجّة في إثباته، كان عمر بن الخطّاب قد ولّاه الشام كلّها.» فقال علىّ: «لا والله لا أستعمله يومين.» فقام المغيرة وانصرف، ثم عاد إليه بعد ذلك، فقال:   [1] . وفي الأصل ومط: تحور. وفي الطبري: تحرز (6: 3082) فأعجمنا الحرف الأخير بأمارة ما في الطبري. [2] . مط: رأيا. [3] . تكملة تطلّبها السياق وهي من الطبري 6: 3083. [4] . س 11 الكهف: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 - «إنّى أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت، وخالفتني. ثم رأيت بعد ذلك رأيا، وأنا الآن أرى أن تصنع الذي رأيت، فتنزعهم، وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله أمرهم، وهم أهون شوكة من ذاك.» رأى لابن عباس وما أشار به على على ّ وخرج المغيرة، وتلقّاه ابن عباس خارجا. فدخل إلى علىّ، فقال: - «يا أمير المؤمنين، أخبرنى [513] عن شأن المغيرة، ولم خلا بك؟» قال: «إنّه جاءني بعد مقتل عثمان بثلاثة أيام وقال: أخلنى. ففعلت. فقال: كيت وكيت. فأجبته بكيت وكيت. فانصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنّه يرى أنّى مخطئ. ثم عاد إلىّ الآن، فقال: كيت وكيت. فقال ابن عباس: «أمّا في المرة الاولى فقد نصحك، وأمّا في المرة الأخرى فقد غشّك.» قال له: «وكيف نصحنى؟» قال ابن عباس: «لأنّك تعلم أنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم، لا يبالون من ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم، يقولوا: أخذ الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا، وحمّلك ما قدر عليه من الذنب، فتنتقض عليك الشام. ولا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك.» فقال علىّ: «أما ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشكّ أنّ ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحق، والمعرفة بعمّال عثمان، فوالله لا أولّى منهم أحدا أبدا، فإن أقبلوا فذلك خير، وإن أدبروا بذلت لهم السيف.» قال ابن عباس: «فأطعنى، وادخل دارك، والحق بما لك بينبع، وأغلق بابك، فإنّ العرب تجول [514] جولة وتضطرب، ولا تجد غيرك. فإنّك والله لو نهضت مع هؤلاء القوم ليحمّلنّك الناس غدا دم عثمان.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فأبى علىّ وقال لابن عباس: - «سر إلى الشام، فقد ولّيتكها.» فقال ابن عباس: «ما هذا والله برأى. معاوية رجل من بنى أمية، وهو ابن عمّ عثمان، وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم علىّ.» قال علىّ: «ولم تظنّ ذلك؟» قال: لقرابة ما بيني وبينك، ولأنّ كلّ ما عليك فهو علىّ، ولكن اكتب إلى معاوية، فمنّه، وعده.» فقال علىّ: «إنّ هذا ما لا يكون أبدا.» وتمثّل: فما ميتة، إن متّها غير عاجز ... بعار، إذا ما غالت النفس غولها فقال ابن عباس: «أنت- يا أمير المؤمنين- رجل شجاع، ولست بأرب في الحرب. أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه- يقول: الحرب خدعة؟» قال: «بلى.» قال ابن عباس: «أنا والله، لئن أطعتنى لأصدرنّ بهم بعد ورد، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الأمور، ولا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم [515] لك.» فقال علىّ: «يا ابن عباس، لست من هنيّاتك وهنيّات [1] معاوية في شيء، تشير علىّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعنى.» فقال ابن عباس: «أفعل، إنّ أيسر ما لك عندي السمع والطاعة.»   [1] . والضبط في الطبري (6: 3086) : «هنيآتك وهنيآت معاوية» والأصل واحد. وفي مط: «هيئاتك وهيئات معاوية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 علىّ يفرّق عمّاله على الأمصار وفرّق علىّ- عليه السلام- عمّاله في سنة ست وثلاثين. فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام. فأما سهل، فإنّه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل. فقالوا: «من أنت؟» قال: «أمير [1] على الشام.» فردّوه، ولم يدعوه يتجاوزها. وأما قيس بن سعد، فإنّه لما انتهى إلى أيلة، لقيته خيل.» فقالوا: «من أنت؟» فقال: «من فالّة عثمان، أطلب من آوى إليه، وأنتصر به.» قالوا: «فمن أنت؟» قال: «قيس بن سعد.» قالوا: «امض.» فدخل مصر فافترق الناس: فبعضهم دخل في الجماعة وكانوا معه، وفرقة اعتزلت وقالت: - «إن قتل قتلة عثمان [فنحن معكم] [2] ، وإلّا فنحن على جديلتنا.» وأمّا عثمان بن حنيف، فإنّه سار، ولم يردّه أحد عن دخول البصرة، ولم يوجد لابن عامر في ذلك رأى ولا تدبير، [516] وافترق الناس بالبصرة كما افترقوا بمصر.   [1] . ويضيف الطبري هنا: قالوا: على أىّ شيء؟ قال: ... (6: 3087) . [2] . تكملة أوردناها عن الطبري 6: 3088. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وأما عمارة، فلمّا صار بزبالة، لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بدم عثمان. وقال له: - «ارجع، فإنّ الناس لا يريدون بأميرهم بدلا، وإن أبيت ضربت عنقك.» فرجع وهو يقول: «أحرز الخطر ما تماسّك الشرّ خير من شرّ منه» [1]- فصار مثلا. وعلقه عمار بن ياسر إلى أن قتل. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن. فجمع يعلى بن أميّة كلّ ما كان جباه، وخرج وسار على حاميته إلى مكة، فقدمها بالمال. فدعا علىّ طلحة والزبير فقال: - «إنّ الذي كنت أحدّثكم به قد وقع، وإنّما هي فتنة كالنار، كلما سعّرت ازدادت واستثارت.» فقالا له: «ائذن لنا نخرج من المدينة.» فقال: «سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بدّا فآخر الداء الكىّ.» وكتب إلى أبى موسى، وهو بالكوفة، وإلى معاوية، وهو بالشام. فأمّا أبو موسى فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة، وبيّن الكاره منهم لما كان، والراضي بما كان، حتى كان علىّ على الواضحة [2] من أمر أهل الكوفة. [517] وأمّا معاوية فلم يكتب بشيء، ولم يجب الرسول، وجعل يردّده. وكان كلّما تنجّزه تمثّل بشعر [3] لا يحصل منه على بيّنة، حتى أحكم أمر نفسه، وواطأ من أراد. وأتى على الرسول ثلاثة أشهر. ثم دعا بأحد ثقاته، ووصاه، ودفع طومارا مختوما إليه، عنوانه: «من معاوية إلى علىّ.»   [1] . وفي الطبري: احذر الخطر ما يماسّك الشرّ خير من شرّ منه (6: 3088) . [2] . كذا في مط: الواضحة، وفي الطبري (6: 3089) : «المواجهة» . [3] . تجد الشعر عند الطبري (6: 3090) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وقال: «إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار ليقرأ الناس العنوان.» ثم أوصاه بأشياء يفعلها، ويقولها، وسرّح رسول علىّ معه. فلما دخلا المدينة رفع رسول معاوية الطومار، فتفرّق الناس إلى منازلهم وقد علموا أنّ معاوية ممتنع، ومضى الرسول حتى دخل على علىّ، فدفع إليه الطومار، ففضّ خاتمه، فلم تجد في جوفه كتابا. فقال للرسول: «ما وراءك؟» قال: «آمن أنا؟» قال: «نعم، لعمري إنّ الرسل لآمنة.» قال: «ورائي أنى تركت قوما لا يرضون إلّا بالقود.» قال: «ممن؟» قال: «من خيط رقبتك، ولقد تركت ستين شيخا يبكى تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق.» فقال: «منى يطلبون دم عثمان، ألست موتورا [518] كترة عثمان؟ اللهمّ إنّى أبرأ إليك من دم عثمان، نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله، فإنّه إذا أراد أمرا أمضاه، اخرج.» قال: «وأنا آمن؟» قال: «وأنت آمن.» فخرج وصاحب السبائية واقف، فقالوا: - «هذا الكلب وافد الكلاب، اقتلوه.» فنادى: «يا آل مضر، يا آل قيس [1] ، الخيل والنبل! أحلف بالله ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصىّ، فانظروا كم الفحولة والركّاب.»   [1] . وضبط في الطبري: يال مضر، يال قيس (يا آل مضر، يا آل قيس) وفي الأصل: يا لمضر، يا لقيس، فأرجعنا الرسم إلى أصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 فتغاووا [1] عليه، ومنعته مضر، وجعلوا يقولون له: - «اسكت لا أبا لك.» فيقول: «والله، لا أسكت، فلقد أتاهم ما يوعدون.» فيقولون له: «اسكت.» فيقول: «لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمارهم، ذهبت والله ريحهم.» ولم يزل بذلك حتى تبيّن الذلّ فيهم، وتمّ لمعاوية تدبيره هذا. علىّ يدبّر لقتال أهل الفرقة بالشام واستأذن طلحة والزبير في العمرة، فأذن علىّ لهما، فلحقا بمكة، وأحبّ أهل المدينة [أن يعلموا] [2] ما رأى علىّ في معاوية وانتقاضه، ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة، أيقدم عليه، أم يجزع منه. وكان بلغهم أنّ الحسن ابنه دخل عليه، وحذّره، ودعاه إلى القعود وترك الناس. فدسّوا [519] زياد بن حنظلة التميمي، وكان منقطعا إلى علىّ، فدخل عليه وجلس إليه ساعة. ثم قال له علىّ: - «يا زياد، تيسّر.» قال: «لأىّ شيء؟» قال: «لغزو الشام.» قال زياد: «الأناة والرفق أمثل» ، وقال: ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم فتمثّل علىّ وكأنّه لا يريده:   [1] . في مط وفي الطبري: تعادوا. وفي الكامل (3: 203) : تعاونوا. [2] . الأصل ومط بدون «أن يعلموا» والتكملة من الطبري (6: 3091) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 متى تجمع القلب الذكىّ وصارما ... وأنفا حميّا تجتنبك المظالم فخرج زياد على الناس وهم ينتظرونه، فقالوا: - «ما وراءك؟» قال: «السيف يا قوم.» فعرفوا رأى علىّ. ودعا علىّ محمد بن الحنفية، فدفع إليه اللواء، وولّى عبيد الله بن عباس، ميمنته، وعمر بن أبى سلمة ميسرته، وجعل على مقدمته عمر بن الجرّاح ابن أخى أبى عبيدة بن الجراح، ولم يولّ أحدا ممن خرج على عثمان. واستخلف على المدينة قثمّ بن العباس، وكتب إلى أبى موسى، وإلى قيس بن سعد، وإلى عثمان بن حنيف أن يندبوا الناس إلى الشام، وأقبل يتجهّز، وخطب الناس، فدعاهم [520] إلى النهوض، وحضّهم على قتال أهل الفرقة. ابتداء وقعة الجمل طلحة والزبير يريدان البصرة للإصلاح فبينا هو على ذلك، إذ أتاه من مكة عن عائشة أمّ المؤمنين وطلحة والزبير شيء آخر بخلاف ما هو فيه. ثم أتاه عنهم أنّهم يريدون البصرة للإصلاح. فقال: - «إن فعلوا فقد انقطع نظام المسلمين، وما كان عليهم في المقام [فينا مؤونة] [1] ولا إكراه.» فتعبّأ [2] للخروج نحوهم، وخطب وندب الناس، فتثاقلوا. ولما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس على علىّ انتدب وقال:   [1] . التكملة من الطبري (1: 3093) . [2] . مط: فتبعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 - «من تثاقل عنك يا أمير المؤمنين، فإنّا نقاتل معك ونخفّ بين يديك ما حملت أيدينا سيوفنا.» وأجابه رجلان من أعلام الأنصار. عائشة تريد طلحة ولمّا هرب بنو أمية لحقوا بمكّة، فاجتمعوا إلى عائشة، وكانوا ينتظرون أن يلي الأمر طلحة، لأن هوى عائشة كان معه، وكانت من قبل تشنّع على عثمان، وتحضّ عليه، وتخرج راكبة بغلة رسول الله- صلى الله عليه- ومعها قميصه وتقول: - «هذا قميص رسول الله، صلى الله عليه، ما بلى وقد بلى دينه، اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا.» فلما صار [521] الأمر إلى علىّ كرهته وعادت إلى مكة بعد أن كانت متوجّهة إلى المدينة، ونادت: - «ألا، إنّ الخليفة قتل مظلوما، فاطلبوا بدم عثمان.» من استجاب لعائشة ومن اعتزل فأوّل من استجاب لها عبد الله بن عامر، ثم قام سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بنى أمية. وكان قدم عبد الله بن عامر قريبا، ويعلى بن أمية من اليمن، واجتمع رأيهم بعد نظر طويل، وخطاب كثير، على البصرة، وقالوا: - «معاوية قد كفاكم الشام.» وكان مع يعلى ستمائة بعير، وستمائة ألف درهم، فأنفقهما في ذلك الوجه، وشتموا عبد الله بن عامر، وقالوا: - «لا أنت مسالم ولا أنت محارب، هلّا أقمت بالبصرة فمنعت حوزتك كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 منع معاوية، أو هلّا أرفدتنا اليوم بمالك كما فعل يعلى بن أمية.» فتكلّم بما لم يرضوه في جوابهم. وسأل الناس غير عائشة من أزواج النبىّ- صلى الله عليه- فأرادت حفصة الخروج، فأتاه عبد الله بن عمر بن الخطّاب، فطلب إليها أن تقعد، فقعدت. وبعثت أمّ الفضل بنت الحارث بن عبد المطّلب رجلا من جهينة، واستأجرته على أن يطوى ويأتى عليّا بكتابها، فقدم من جهتها بالخبر على علىّ. [522] فأما المغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص، فإنّهما خرجا من مكة مرحلة مع القوم، ثم تشاوروا. فقال المغيرة: - «عندي أنّ الرأى لنا أن نعتزل الجميع، فأيّهم أظفره الله أتيناه وقلنا: كان هوانا معك وصغونا إليك.» فاعتزلا وعادا إلى مكة ومعهما غيرهما. موقف آخر لسعيد بن العاص ويقال: إنّ سعيد بن العاص أتى طلحة والزبير فقال: - «إن ظفرتما، لمن يكون الأمر؟» قالا: «لأحدنا، أيّنا رضيه المسلمون.» قال: «لا، بل اجعلوه لولد عثمان، فإنكم خرجتم تطلبون بدمه.» قالا: لا والله، ما ندع مشايخ المهاجرين والأنصار ونجعل الخلافة في أبنائهم.» فقال: «ما أرانى أسعى إلّا في إخراجها من ولد عبد مناف.» سؤال وتنازع حول الإمرة فرجع مع من رجع، واستمرّ بالقوم المسير. فلما نزلوا ذات عرق أذّن مروان، ثم جاء حتى وقف عليهما، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 - «على أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذّن بالصلاة؟» فقال ابن الزبير: «على أبى.» وقال ابن طلحة: «على أبى.» وتنازعا. فأرسلت عائشة إلى مروان: - «ما لك يا مروان! تريد أن تفرّق جماعتنا، ليصلّ ابن أختى بالناس.» فكان يصلّى بهم عبد الله بن الزبير حتى قدموا [523] البصرة. فكانوا يقولون: - «لو ظفرنا لافتتنّا [1] ، وما كان ليخلّى الزبيريّون الأمر لطلحة، ولا الطلحيون الأمر للزبير.» وإنّ عليّا تجهّز في من خفّ معه، يبادرهم ليعترض عليهم دون البصرة، وخرج معه تسعمائة رجل في التعبئة التي كان تعبّأ بها إلى الشام، حتى انتهى إلى الربذة، وبلغه ممرّهم وقد فاتوه. فأقام هناك يأتمر. اتّفاق في ذلك الوجه فمما اتفق في ذلك الوجه، أنّ صاحب الجمل- الذي يقال له: «عسكر» وخبره مشهور- حكى أنه: لما اشترى منه الجمل بحكمه وركبته عائشة سألوه عن الطريق، وهل هو خبر؟ قال، فقلت: «أنا أهدى من القطا [2] .» فأعطونى دنانير، وتقدّمتهم، وكانوا يسألوننى عن كلّ ماء، حتى نزلوا الحوءب [3] ، فكان الحديث المشهور، فبينا نحن كذلك، إذا بابن الزبير يركض وينادى:   [1] . مط: لا بتلينا. ابن الأثير: لاقتتلنا (3: 209) . [2] . «أهدى من القطا» مثل يضرب لمن يجيد معرفة الطرق والمسالك في المجاهل والمفازات. وتجد حكاية صاحب الجمل هذا عند الطبري 6: 3109. [3] . الحوءب، موضع في طريق البصرة وماء من مياههم (يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 - «أدرككم علىّ بن أبى طالب، النجا النجا.» وشتموني ورحلوا، وانصرفت. فما سرت إلّا قليلا حتى لقيت علىّ بن أبى طالب ومعه ركب، فقال: «علىّ بالراكب.» فأتيته. فقال: «أين لقيت الظعينة؟» فقلت: [524] «مكان كذا، وقد بعتهم جملي وأعطونى ناقتها وهي هذه تحتي، وأعطونى كيت وكيت.» قال: «وقد ركبته؟» قلت: «نعم. وسرت معهم إلى الحوءب وكان من أمرهم كذا وكذا، وارتحلوا وأقبلت.» قال علىّ: «فهل لك دلالة بذي قار؟» قلت: «نعم.» قال: «سر معنا.» علىّ يستشير الناس والحسن يذكر له ما كان قد أشار به عليه قبل فسرنا حتى نزلنا بذي قار. فأمر علىّ بجوالقين، فضمّ أحدهما إلى صاحبه، ثم جيء برحل، فوضع عليه، ثم صعد عليه، وخطب الناس وأعلمهم الخبر. ثم استشارهم، فقام الحسن، فبكى، وقال: - «أشرت عليك فعصيتني، فتقتل غدا بمضيعة [1] لا ناصر لك.»   [1] . كذا في الأصل. وفي الطبري: بمصبعة (6: 3110) . وفي الكامل: بمضبعة، بمعصية (3: 222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 فقال له علىّ: «إنّك لا تزال تحنّ [1] حنين الجارية، وما الذي أشرت به علىّ فعصيتك؟ تكلّم به ليسمعه الناس.» قال: «كنت قلت لك يوم أحيط بعثمان: أن تخرج من المدينة فلا تشهد قتله فأبيت. وقلت لك يوم قتل: لا تبايع حتى يأتيك وفود العرب وبيعة أهل الأمصار، فأبيت. ثم قلت لك حين فعل الرجلان ما فعلا أن: تجلس في بيتك حتى يصطلح الناس، فإن كان فساد كان على يدي غيرك [525] فعصيتني في ذلك كلّه.» فقال: «أى بنىّ! أمّا قولك: لو خرجت من المدينة، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به. - «وأمّا قولك: انتظره حتى يأتيك الوفود وأهل الأمصار، فإنّ الأمر أمر أهل المدينة، وعقدهم جائز على المسلمين، وكرهنا أن نضيع هذا الأمر فتكون فتنة.» - «وأمّا قولك حين خرج طلحة والزبير أن اجلس في بيتك، فإنّ ذلك كان وهنا على أهل الإسلام لو فعلته. وو الله ما زلت مقهورا منذ ولدت، منقوصا لا أصل إلى حقّى، ولا إلى شيء مما ينبغي لى.» - «وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لى بما لزمني؟ أتريد أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال [2] : داب داب، أمّ عامر ليست هاهنا، حتى يحلّ عرقوباها. إذا لم أنظر في ما لزمني ويعنيني فمن ينظر فيه.» فكفّ عليك يا بنىّ. إنّ النبىّ- صلى الله عليه- قبض وما أرى أحقّ بهذا الأمر منّى، فبايع الناس أبا بكر، فبايعت كما بايعوا. ثم هلك أبو بكر وما أرى أحقّ بهذا الأمر منّى، فبايع الناس عمر، فبايعت [526] كما بايعوا. ثم هلك عمر وما أرى أحقّ بهذا الأمر منّى، فجعلني سهما من ستة أسهم. ثم عدل عنّى إلى عثمان، فبايعت كما بايع الناس. ثم سار الناس إلى عثمان، فقتلوه، وأتونى طائعين غير   [1] . ابن الأثير: «تخنّ خنين (3: 222) والأصل يطابق الطبري (6: 3110) . [2] . ابن الأثير: ويقال ليست هاهنا حتى يحلّ عرقوباها حتى تخرج (3: 223) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 مكرهين، فبايعوني. فأنا مقاتل بمن اتبعنى من خالفني حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.» ولما قربت عائشة ومن معها من البصرة قدّمت عبد الله بن عامر وقالت: - «أنت لك صنائع فاذهب إلى صنائعك، فليلقوا [1] الناس.» وكتبت إلى رجال البصرة كالأحنف بن قيس وضبرة [2] بن شيمان ووجوه الناس، وأقامت بالحفير تنتظر الجواب. عثمان بن حنيف يبعث رسولين إلى عائشة وطلحة والزبير ولما بلغ الخبر البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين، وكان رجل عامة، وأبا الأسود الدئلي وكان رجل خاصّة وقال: - «انطلقا إلى هذه المرأة واعلما علمها وعلم من معها.» فانتهيا إليها والناس بالحفير، واستأذنا فأذن لهما، فسلّما وقالا: - «إنّ أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟» فقالت: «والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يمئى [3] لبنيه الخبر، [إنّ الغوغاء] ، [527] ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله، ونالوا من قتل الامام، ما استحقّوا به لعنة الله، وفعلوا وفعلوا. فخرجت في المسلمين إلى هذا المصر، لأعلمهم ما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم بأن يأتوه من الإصلاح، وقرأت: لا   [1] . كذا في الأصل والطبري، وفي مط: فليقوا. [2] . كذا في الأصل. وفي الطبري (6: 3115) صبرة. [3] . كذا في الأصل: «لا يمئى» ، وما في القواميس: «مأى، مأيا» بفتح العين. والمأى: النميمة، الاغتياب، الفساد بين الناس، ضرب بعضهم ببعض، المبالغة في الشيء. وفي مط: ولا يمشى لبنيه الخمر، وفي بعض الأصول: «الحمر» . وفي الطبري: «ولا يغطى لبنيه الخبر» (6: 3116) . وفي الكامل: «لا يعطى ... » (3: 211) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة، أو إصلاح بين النّاس [1] ، فهذا شأننا، نأمركم بالمعروف ونحضّكم عليه، وننهاكم عن منكر، ونحثّكم على تغييره.» فخرجا من عندها، وأتيا طلحة، فقالا ما قالا لعائشة وسألاه: ما الذي أقدمه؟ قال: «الطلب بدم عثمان.» قالا [2] : «ألم تبايع عليّا؟» قال: «بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا، إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان.» ثم أتيا الزبير، فقالا: «ما أقدمك؟» قال: «الطلب بدم عثمان.» قالا: «ألم تبايع عليّا؟» قال: «بلى، واللّجّ في عنقي، وما أستقيل عليّا إن لم يحام على قتلة عثمان.» ومضى الرجلان، حتى دخلا على عثمان بن حنيف. فبدر أبو الأسود عمران وأنشد: يا بن حنيف قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر [528] وابرز لهم مستلئما وشمّر فقال عثمان بن حنيف: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [3] 2: 156. دارت رحى الإسلام وربّ الكعبة. فانظر أىّ زيفان تزيف.» فقال عمران: «إى والله، لتعركنّكم عركا طويلا.» قال: «فأشر علىّ يا عمران.»   [1] . س 4 النساء: 114. [2] . في الأصل ومط: «قال» فصححناها. [3] . س 2 البقرة: 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 قال: «إنّى قاعد، فاقعد.» قال: «بل أمنعهم حتى يأتى أمير المؤمنين.» فانصرف عمران، وقام عثمان في أمره، ونادى في الناس، وأمرهم بالتهيؤ. فلبسوا السلاح، واجتمعوا في المسجد الجامع، وأقبل عثمان بن حنيف على الكيد. كيد كاد به عثمان بن حنيف فمما كاد به لينظر ما رأى الناس: أن دسّ رجلا إلى الناس كوفيّا قيسيّا يقال له: قيس به العقدية، فقام وقال: - «أيها الناس، إنّ هؤلاء القوم الذين جاءوكم إن كانوا جاءوا خائفين، فقد جاءوا من مكان بعيد يأمن فيه الطير، وإن جاءوا يطلبون بدم عثمان، فما نحن بقتلة عثمان. أطيعونى في هؤلاء القوم، فردّوهم من حيث جاءوا.» فقال الأسود بن سريع: - «أو زعموا أنّا قتلة عثمان. إنما فزعوا إلينا [529] يستعينون [1] بنا على قتلة عثمان منّا ومن غيرنا.» فتكلّم القيسىّ فحصبه الناس. فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرا ممن معه، فكسره ذلك. انتهاء عائشة ومن معها إلى المربد وأقبلت عائشة في من معها، حتى انتهوا إلى المربد [2] ، فدخلوا من أعلاه،   [1] . كذا في مط. وفي الطبري: يستعينوا (6: 3118) . [2] . المربد: مربد البصرة. كانت محلّة من محال البصرة، وهي اليوم كالبلدة المنفردة عن البصرة، بينهما ثلاثة أميال. كانت متصلة بها، فخرب ما بينهما، فصارت منفردة، وبها كانت مجالس الخطباء والشعراء (مع، يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ووقفوا حتى خرج عثمان في من معه، وخرج إليها من أراد أن يكون معها. واجتمع الناس بالمربد، وجعلوا يتوثّبون، واغتصّ المكان بالناس. فتكلّم طلحة وهو في ميمنة المربد، وعثمان في زهو [1] ميسرته، فأنصتوا، فذكر فضل عثمان، والبلد، وما استحلّوا منه، وعظّم ما أتى إليه، ودعا إلى الطلب بدمه، وقال في آخر كلامه: - «إنّه حدّ من حدود الله، فإن فعلتم أصبتم، وعاد أمركم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان، ولم يكن لكم نظام.» فقال من في ميمنة المربد: «صدقا وبرّا» . وقال من في الميسرة: «فجرا وغدرا. قد بايعا، ثم جاءا يقولان ما يقولان.» وتحاصب الناس، وتكلّموا. فتكلّمت عائشة. وكانت جهيرة الصوت، فحضّت [530] على الطلب بدم عثمان والأخذ بالكتاب الذي يدعون إليه. وأقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال: - «يا أمّ المؤمنين، لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك عرضة للسلاح. فقد كان لك ستر من الله وحرمة: فهتكت سترك، وأبحت حرمتك، إنّ من رأى قتالك فهو يرى قتلك. فإن كنت خرجت طائعة فارجعى إلى بيتك، وإن خرجت كارهة فاستعيني بالناس.» وخرج رئيس كل طائفة، فتكلّم فقال بعضهم: - «أمّا أنت يا زبير، فحوارىّ رسول الله- صلى الله عليه-، وأمّا أنت يا طلحة فوقيت رسول الله بيدك، وأرى أمّكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟» قالا: «لا.» قال: «فما أنا منكما.»   [1] . في مط والطبري (6: 3118) والكامل (3: 206) : «في ميسرته» ، (بدون «زهو» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 واعتزل. قتال وتوادع وأقبل حكيم بن جبلة فأنشب القتال، فاقتتلوا إلى الليل، وقتل خلق. ثم إنهم توادعوا على أن يكتبوا إلى المدينة، ويستعلموا [1] الناس: هل بايعا مكرهين؟ فإن بايعا مكرهين خرج عثمان بن حنيف، وإن كانا بايعا طائعين خرج طلحة [531] والزبير. فجرى خطب طويل بالمدينة لما ورد الرسول من البصرة، ليس لذكره وجه في ما نحن بسبيله. وكان الناس كتبوا بينهم كتابا شرط فيه ألّا يضارّ أحد بأحد في سوق ولا طريق إلى أن تعود الرسل. إلّا أن محمد بن طلحة قام يوما في المسجد مقام عثمان بن حنيف، فتعرض له عثمان، وجاء بعض الحرس، فنحّاه، وظنّ أنه جاء في شرّ. ووصل كتاب عثمان بن حنيف إلى علىّ بما كان من الناس. فكتب علىّ- رضى الله عنه- يعجّزه ويقول: - «ما أكرها على فرقة، وإنّما أكرها على جماعة، فإن كانا يريدان الخلع، فلا عذر لهما. [2] » ما جرى على عثمان بن حنيف فقدم الكتاب على عثمان، واتّفق أن تأخّر ابن حنيف عن الصلاة، فقدّما   [1] . مط: ويستعظمون! [2] . وزاد في الطبري: وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا (6: 3125) . وانظر أيضا الكامل (3: 215) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 عبد الرحمان بن عتّاب، فشهر الزطّ [1] السلاح ومنعوه. ثمّ اقتتلوا في المسجد، وصبر الرجّالة لهم، فقتلوهم عن آخرهم وهم أربعون رجلا. وأدخلوا الرجال على عثمان، فما وصل إليه إلّا بعد أن لحقه مكروه عظيم. [532] وأرسلوا إلى عائشة يستشيرونها في أمره. فأمرت بقتله، فناشدها قوم فيه، وأذكروها بصحبته رسول الله- صلى الله عليه- فأشار مجاشع بن مسعود بضربه فضربوه أسواطا، ونتفوا شعر لحيته ورأسه حتى حاجبيه وعينيه، وأشفار عينيه. ثم حبسوه. فغضب له قوم، وثار حكيم بن جبلة، وأصبح بيت المال والحرس في يدي طلحة والزبير. وقال حكيم بن جبلة: «لست أخاف الله إن لم أنصر عثمان بن حنيف.» فجاء في جماعة من عبد القيس وبكر بن وائل، فأتى ابن الزبير في مدينة الرزق. فقال: - «ما لك يا حكيم، ما تريد؟» قال: «أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تحلّوا عثمان، فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علىّ. وأيم الله لو أجد أعوانا لألحقنّكم بمن قتلتم. فقد أحلّ الله لنا دماءكم بمن قتلتم من إخواننا. أما تخافون الله، بم تستحلّون سفك الدماء؟» قال: «بدم عثمان.» قال: «فالذين قتلتموهم قتلة عثمان! أما تخافون [533] الله ومقته وعقوبته؟» فقال ابن الزبير: «لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلّى سبيل عثمان بن حنيف حتى نخلع عليّا.» قال حكيم: «اللهمّ إنّك حكم عدل.» ثم قال لأصحابه: «إنّى لست في شكّ من قتال هؤلاء القوم.»   [1] . وفي الطبري وابن الأثير الزطّ والسيابجة (نفس الصفحتين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 قتال شديد ضرب فيه رجل ساق حكيم فاقتتلوا قتالا شديدا. وضرب رجل ساق حكيم، فقطعها. فأخذ حكيم ساقه ورماه بها، فأصاب عنقه، فصرعه. ثم حبا إليه فقتله واتكى عليه، فانتهى إليه رجل وقال له: «من قتلك؟» قال: «وسادتى.» وقتل سبعون رجلا من عبد القيس. وقال حكيم حين قطعت رجله: يا فخذ لن تراعى ... إنّ معى ذراعي [أحمى بها كراعى] [1] فاحتمل الرجل حكيما وضمّه في ستين من أصحابه. فتكلّم يومئذ وإنّه لقائم على رجل- وإنّ السيوف لتأخذهم- لا يتعتع: - «إنّا خلّفنا هذين، وقد بايعا عليّا، وأعطياه الطاعة، ثم أقبلا مخالفين يطلبان بدم عثمان، وهما كاذبان، وإنّما أراغا [2] المال والإمرة.» وأخذته السيوف، فأنيم، وأنيم أصحابه، وأفلت حرقوص بن زهير وحده. ونادى منادى عائشة: - «ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا [534] المدينة، فليأتنا بهم.» فجيء بهم كما يجاء بالكلاب، فقتلوا. فما أفلت منهم غير حرقوص. فخشّنوا صدور بنى سعد، وإنهم لعثمانية، حتى انفردوا. وغضب عبد القيس لمن قتل منهم بعد الوقعة، ثم أمرا للناس بأعطياتهم، وفضّلا أهل السمع. فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل. فبادروا إلى بيت المال، وركبهم   [1] . تكلمة من الطبري (6: 3130) . وله رواية أخرى أيضا. أنظر (6: 3136) . [2] . مط: أرادا المال. أراغا: أرادا بالمكر والحيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الناس، وخرجوا حتى نزلوا على طريق علىّ، وأقام طلحة والزبير بالبصرة ليس معهما مخالف. وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا، وقصّوا القصة وأطالوا، وذكروا أنّهم أقاموا حدّ الله، وأنهم قد أعذروا، وقضوا ما عليهم، فنناشدكم الله في أنفسكم إلّا نهضتم بمثل ما نهضنا به. وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثل ذلك، وإلى أهل اليمامة بمثله. وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة كتابا بليغا طويلا تحضّهم على إقامة كتاب الله، وتذكر لهم ما صنعوا بالبصرة. وكتبت إلى رجال بأسمائهم وقالت: - «ثبّطوا الناس عن نصرة هؤلاء القوم، والزموا بيوتكم» . ولما قتلوا حكيما وأصحابه همّوا بقتل عثمان بن حنيف [535] فقال لهم عثمان: - «ما شئتم، إن أخى سهلا بالمدينة مع علىّ، وهو وال بها، فإن قتلتموني انتصر.» فخلّوا عنه، وصلّى بالناس عبد الله بن الزبير. وكتبت عائشة بنت أبى بكر إلى زيد بن صوحان: «من عائشة أم المؤمنين وحبيبة الرسول إلى ابنه الخالص زيد بن صوحان. أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم وانصرنا على أمرنا، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن علىّ بن أبى طالب.» فكتب إليها زيد بن صوحان: «إلى عائشة بنت أبى بكر. أمّا بعد، فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت من هذا الأمر، ورجعت إلى بيتك، وإلّا فأنا أوّل من نابذك.» وقال: «رحم الله عائشة. أمرت أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به، وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.» وكان علىّ- عليه السلام- حين انتهى إلى الربذة، أقام، وأرسل إلى أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الكوفة، وكاتبهم، واستدعى من المدينة ما أحبّ من سلاح وغيره. وقدم عثمان بن حنيف الربذة على علىّ منتوف شعر الوجه كلّه، وقال: - «يا أمير المؤمنين [536] بعثتني ذا لحية، وجئتك أمرد.» قال: «أصبت خيرا وأجرا. اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما، وأرهما المساءة في ما عملا. [1] » ماذا جرى في الكوفة؟ فأمّا أهل الكوفة، فلمّا انتهى إليهم رسول علىّ استشاروا أبا موسى. فقال لهم: - «إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا.» وجعل يثبّط الناس. إلى أن أنفذ علىّ- عليه السلام- ابن عباس والأشتر، فلم يغنيا، وكان بعث بهاشم بن عتبة إلى أبى موسى يستنفر الناس. فكتب إليه هاشم: - «إنى قدمت على رجل مشاقّ ظاهر الغلّ.» فبعث علىّ الحسن وعمارا، وكتب إلى أبى موسى: - «أما بعد، فكنت أرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعل الله لك فيه نصيبا سيمنعك من ردّ أمرى. وقد بعثت الحسن بن علىّ، وعمار بن ياسر، وبعثت قرطة بن كعب واليا. فاعتزل عملنا مذموما مدحورا.» فقدم الحسن بن علىّ وعمار بن ياسر. فلطف الحسن وقال: - «أيها الناس! أجيبوا أميركم، وسيروا إلى إخوانكم. فإنّه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه. فوالله أن يليه أهل [537] النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم.» فقام زيد بن صوحان فقال:   [1] . أنظر الطبري 6: 3144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 - «يا قوم! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين.» فقام القعقاع بن عمرو، فقال: - «أيها الناس! إنّى لكم ناصح وعليكم شفيق، ولأقولنّ لكم قولا هو الحقّ، إنّه لا بدّ لنا من إمارة تنظم الناس، وتردع الظالم، وتعزّ المظلوم، وهذا علىّ ولى ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا، وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع.» ثم تكلّم سيحان، وقال مثل قول القعقاع، وتكلّم عدىّ بن حاتم في قومه لمّا بلغه كلام الحسن وجواب الناس وقال: - «قد بايعنا هذا الرجل، ودعانا إلى أمر جميل، ونحن سائرون.» وتكلّم هند بن عمرو، وحجر بن عدىّ، والأشتر، وقالوا مثل ذلك. وقال الحسن: - «أيها الناس! إنّى غاد، فمن شاء منكم أن يخرج معى على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء.» فنفر معه تسعة آلاف رجل، وروى أيضا أنهم كانوا اثنى عشر ألفا، [538] وأخرج أبو موسى من القصر، وشدّد عليه الأشتر. علىّ يرسل القعقاع إلى أهل البصرة فلمّا وردوا على علىّ ذا قار، تلقّاهم علىّ، فرحّب بهم، وأثنى عليهم. ثم دعا القعقاع بن عمرو، فأرسله إلى أهل البصرة، وقال: - «الق هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة.» ووصاه بما أراد. ثم قال له: «كيف أنت صانع في ما جاءك منهم مما ليس عندك وصاة منّى؟» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 قال: «نلقاهم بالذي أمرت به. فإذا جاءنا أمر ليس عندنا منك فيه وصاة اجتهدنا الرأى، وكلّمناهم على قدر ما نسمع منهم ونرى أنّه ينبغي.» قال: «أنت لها.» فخرج القعقاع حتى قدم البصرة. فبدأ بعائشة، فسلّم عليها، ثم قال: - «أى أمّه! ما أشخصك. وما أقدمك؟» قالت: «أى بنىّ! الإصلاح [1] بين الناس.» قال: «فابعثى إلى طلحة والزبير، حتى تسمعي كلامي وكلامهما.» فبعثت إليهما، فجاءا. فقال: سألت أم المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: - «الإصلاح [2] بين الناس.» [فقلت] : «فما تقولان أنتما: متابعان، أم مخالفان؟» قالا: «متابعان.» قال: [539] فأخبرانى ما وجه هذا الصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحنّ [3] ، وإن أنكرناه لا نصلح.» [4] قالا: «قتلة عثمان. فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، وإن عمل به كان إحياءا للقرآن.» قال: «قد قتلتم بالبصرة من زعمتم أنهم قتلة عثمان، وأنتم كنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلّا رجلا فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الواحد الذي أفلت- يعنى   [1] . في الأصل: صلاح. [2] . في الأصل: لصلاح. [3] . في الأصل: ليصلحنّ. [4] . في الأصل لا يصلح. وما أثبتناه يوافق الطبري (6: 3156) والكامل (3: 233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 حرقوص بن زهير- فمنعه ستة آلاف وهم على رجل [1] . فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوا فأديلوا عليكم، فالذي حذرتم وقوّيتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم أحميتم مضر وربيعة من أهل هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير.» قال: أقول: «إنّ هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن احتلجوا. فإن أنتم تابعتمونا فعلامة [540] خير، وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية لهذه الأمة. وإن أبيتم إلّا مكاثرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وفناء هذه الأمة. فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم تكونون، ولا تتعرّضوا للبلاء ولا نتعرض له فيصرعكم ويصرعنا. إنّ هذا الأمر الذي أنتم فيه، أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل.» فقالوا: «إذا أحسنت وأصبت المقالة. فارجع، فإن قدم علىّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.» فرجع إلى علىّ، فأخبره الخبر، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود البصرة نحو علىّ حين نزل بذي قار. فجاء وفد تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أىّ حال نهضوا [إليهم] [2] وليعلمو [3] هم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر قتالهم على بالهم. فلما لقوا عشائرهم [541] من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل   [1] . مط: دخل. وضبطه الطبري «رجل» (6: 3157) . وضبط في الأصل «رجل» . [2] . تكملة من الطبري (6: 3158) . [3] . في الأصل ومط: وليعلمهم. فصححنا حسب الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 البصرة، وقالوا لهم مثل مقالتهم، فأدخلوهم إلى علىّ، فأخبروه بخبرهم. فسأل علىّ جرير بن شرس عن طلحة والزبير، وعن نياتهما، فأخبره بدقيق أمرهما وجليله، وحتى تمثّل له [طلحة] [1] : ألا أبلغ بنى بكر رسولا ... فليس إلى بنى كعب رسول سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل الساعدين له فضول فتمثّل علىّ عندها: ألم تعلم أبا سمعان أنّا ... نردّ الشيخ مثلك ذا الصداع ونذهل عقله بالحرب حتى ... يقوم، فيستجيب بغير [2] داع فدافع عن خزاعة جمع بكر [3] ... وما بك يا سراقة من دفاع وتحدّث الناس بهذه الأبيات، وتداولوها، لأنّ طلحة كان يديم إنشاد البيتين الأوّلين. ورجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم. فجمع علىّ الناس، ثم قام على الغرائر، فخطب، وذكر الجاهلية وشقاءها [542] والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمة بالجماعة، وحضّ الناس على الألفة. ثم قال: - «إنّ قوما حسدوا هذه الأمة التي أفاء الله عليها ما أفاءه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأمور على أدبارها، والله مصيب أمره، وبالغ ما أراد. ألا وإنّى راحل   [1] . تكملة من ابن الأثير 3: 234. [2] . وفي الطبري: لغير. [3] . وضبط المصراع في الطبري أيضا: فدافع عن خزاعة جمع بكر (6: 3158) وما في الأصل: «فدافع.. جمع..» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 غدا، فارتحلوا. ولا يرحلنّ أحد أعان على عثمان بشيء، في شيء من أمور الناس، وليغن سفهاؤهم عنّى أنفسهم.» ذكر السبب في نقض ما أشرف عليه القوم من الإصلاح فاجتمع نفر منهم: علباء بن الهيثم، وعدىّ بن حاتم، وشريح بن أوفى، والأشتر، وغيرهم من طبقتهم ممن سار إلى عثمان، أو رضى بسير من سار. وجاءهم ابن السوداء، وخالد بن ملجم، ومعهم المصريّون، فتشاوروا. ذكر آراء هؤلاء، وما تقرّر عليه الرأى في ما اجتمعوا عليه، ودبّوا [1] له من الحيلة في نقض الصلح فقال القوم: «هذا والله علىّ، وهو أعلم وأبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم، والقليل من غيرهم. [543] فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، ورأوا قلّتنا في كثرتهم. أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى [2] من شيء.» فقال الأشتر: - «أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما. وأما علىّ فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأى الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا مع علىّ فعلى دمائنا. فهلمّوا نتوثب على علىّ [3] فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكوت.» فقال عبد الله بن السوداء:   [1] . في مط: «ذبّوا» بالذال المعجمة. [2] . في مط: وما أنتم فتعود ما بحى! وفي الطبري أيضا بأنجى (6: 3163) . وفي الكامل: بالحىّ (3: 235) . [3] . وفي الطبري (6: 3164) وفي الكامل أيضا: «على علىّ فنلحقه بعثمان» وفي بعض الأصول: «على علىّ وطلحة ونلحقهما بعثمان» (3: 235) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 - «بئس الرأى رأيت. أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة. وهذا ابن الحنظليّة في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فارق [1] على ظلعك.» وقال علباء بن الهيثم: - «انصرفوا بنا ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدوّهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، ارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان، وامتنعوا من الناس.» فقال ابن السوداء: - «بئس ما رأيت، ودّ- والله- الناس أنكم على جديلة، ولم تكونوا مع قوم برءاء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطّفكم كلّ شيء.» فقال عدىّ بن حاتم: - «والله ما رضيت، ولا كرهت. ولقد عجبت [544] من تردّد من تردّد عن قتله في خوض الحديث. فأما إذا وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عناقا من خيول، وسلاحا محمولا. فإن أقدمتم أقدمنا، وإن أمسكتم أمسكنا.» فقال ابن السوداء: «أحسنت.» وقال سالم بن ثعلبة: - «من كان أراد بما أتى الدنيا، فإنّى لم أرد ذلك. والله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شيء [2] ، ولئن طال بقائى إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور [3] . وأحلف بالله، إنكم لتفرقون السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف.» فقال ابن السوداء: «قد قال قولا.»   [1] . ارق (أو إرقأ، أو: اربع) على ظلعك: انته عما لا تطيقه. أو: لا تجاوز حدّك في وعيدك وأبصر نقصك وعجزك، واسكت على ما فيك من العيب. [2] . في الطبري: إلى بيتي. وفي حواشيه: إلى شيء (6: 3165) . [3] . في الطبري: لا يزد على جزر جزور (نفس الصفحة) . وفي الأصل: لا يردّ علىّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وقال شريح بن أوفى: - «أبرموا أموركم، ولا تؤخّروا أمرا ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجّلوا أمرا ينبغي لكم تأخيره، فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدرى ما الناس صانعون غدا إذا هم التقوا.» وتكلّم عبد الله بن السوداء فقال: - «يا قوم، إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانعوهم. وإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر الطويل. فإنّ من أنتم معه لا يجد بدّا من أن يمتنع ويشغل الله عليّا وطلحة والزبير، ومن رأى رأيهم، عما تكرهون، [545] فأبصروا الرأى وتفرّقوا عليه والناس لا يشعرون.» وأصبح علىّ على ظهر. فمضى ومضى الناس حتى انتهى إلى عبد القيس فنزل بهم والناس يتلاحقون به وقد قطعهم. ولما بلغ أهل البصرة نزول علىّ حيث نزل اجتمعوا إلى طلحة والزبير، وأشاروا عليهما أن يبعثا خيلا فتبيّت [1] عليّا قبل أن يجتمع الناس إليه. فنهى الزبير وقال: - «نرجو الصلح، وقد رددنا وافدهم- يعنى القعقاع- على أمر، وأرجو أن يتمّ.» فقام ضبرة بن شيمان إلى طلحة فقال: - «يا طلحة! أيتهزّأ بنا هذا الرجل؟ إنّ الرأى في الحرب خير من الشدّة.» فقال: - «يا ضبرة! إنّا وهم مسلمون، وهذا أمر حدث، ولم يكن قبل اليوم، ولسنا ننتظر نزول قرآن فيه، ولا فيه من رسول الله- صلى الله عليه- سنّة، وهو علىّ   [1] . في الطبري: فيمسّوا هذا الرجل ويصبّحوه قبل أن يوافى أصحابه (6: 3165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 ومن معه.» فأما أصحاب علىّ فتحركوا. وقام [1] علىّ فقال: - «إنّ الذي ندعو إليه من إقرار هؤلاء هو شرّ، وهو خير من شرّ منه وهو كامن، وقد كاد يبين لنا، وجاءت الأحكام من المسلمين بإيثار أعمّهما منفعة وأحوطهما.» وأقبل [546] كعب بن سور، فقال: - «ما تنتظرون يا قوم بعد تورّدكم أوائلهم؟ اقطعوا هذا من العنق. فقالوا: - «يا كعب! إنّ هذا أمر بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس، وإنّ الشيء يحسن عندنا اليوم، ويقبح عند إخواننا. فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم، وإنّا لنحتجّ عليهم بالحجة، فلا يرونها حجة، ثم يحتجون بها على أمثالنا. ونحن نرجو الصلح إن أجابونا إليه، وإلّا فإنّ آخر الداء الكىّ.» ذكر فتوى لعلىّ بن أبى طالب عليه السلام في تلك الحال وقام إلى علىّ- عليه السلام- جماعة من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على القوم، وسألوه: ما الذي يرى. فقال علىّ: «الإصلاح وإطفاء النائرة، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأمة بنا، ويضع حربهم. فقد أجابونى.» قالوا: «فإن لم يجيبوا؟» قال: «تركناهم ما تركونا.»   [1] . في الأصل: قاموا علىّ! فصححناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 قالوا: «فإن لم يتركونا؟» قال: «دفعناهم عن أنفسنا.» وقام إليه أبو سلامة الدلاني [1] فقال: - «أترى لهؤلاء القوم حجّة [547] في ما اجتمعوا له وطلبوه من هذا الدم؟» قال: «نعم.» قال: «فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟» قال: «نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك، فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعا.» فقال: «ما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟» قال: «إنّى لأرجو ألّا يقتل أحد منّا ومنهم تقىّ [2] قلبه لله بما يصنع، إلّا دخل الجنة. [3] » علىّ يخطب سائلا كفّ الألسن والأيدى وقام علىّ فخطب وقال: - «أيها الناس! كفّوا ألسنتكم عن هؤلاء وأيديكم، فإنهم إخوانكم، وإياكم أن تسبقونا. فإنّ المخصوم من خصم اليوم.» ثم ارتحل على تعبئة، حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم: - «إن كنتم على ما فارقتم القعقاع بن عمرو، فكفّوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر.»   [1] . وفي مط: الدلاى (الدلامى؟) ، وفي الطبري: الدالاني (6: 3167) ، كما في الكامل (3: 237) . وفي الأصل إهمال وقد أعجمنا النون بإمارة ما في الطبري. [2] . في الطبري: نقى قلبه (6: 3167) . [3] . وأضاف الطبري هنا: وقام إليه مالك بن حبيب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أنّ الإصلاح الكفّ عن هذا الأمر. فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلّا القتال، فصدع لا يلتئم. قال: فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عزّ وجلّ نفعه ذلك وكان نجاءه (6: 3167) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال. قال: فكنّا نرسل إليهم وندعوهم. وبعث علىّ تلك العشيّة عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير. وبعثا هما من العشىّ محمد بن طلحة إلى علىّ وأن [1] يكلّم كل واحد صاحبه. فأرسل علىّ إلى رؤساء أصحابه ما خلا أولئك الذين ساروا إلى عثمان، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما [548] وباتوا على الصلح بليلة لم يبيتوا بمثلها سرورا بالعافية مما أشرفوا عليه، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قطّ، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى اجتمعوا على إمضاء ما كانوا همّوا به من إنشاب [2] الحرب في السرّ، واستسرّوا به خوفا من أن يفطن لهم. فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم. فانسلّوا انسلالا وعليهم ظلمة. فخرج مضريّهم إلى مضريّهم، وربعيّهم إلى ربعيّهم، ويمانيّهم إلى يمانيّهم، فوضعوا فيهم السلاح، فتنادى أهل البصرة، وثار كلّ قوم في وجوه أصحابهم الذين نهنهوهم. وخرج طلحة والزبير، ووجوه الناس من مضر، وبعثا إلى الميمنة والميسرة فعبّوهما، وقالا: - «ما هذا؟» قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا. فقالا: «قد علمنا أنّ عليّا غير منته حتى يسفك الدماء ويستحلّ الحرمة، وأنه لن يطاوعنا.»   [1] . كذا في الطبري: وان يكلم.. (6: 3167) . [2] . في الأصل: إنشاء. والتصحيح من الطبري (6: 3182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ورجعا بأهل البصرة [وقصف أهل البصرة أولئك] [1] حتى ردّوهم إلى عسكرهم. فسمع علىّ وأهل الكوفة الصوت. وقد كان ابن السوداء، والأشتر، وأصحابهما قد وضعوا رجلا قريبا [549] من علىّ، ووصّوه بما يريدون. وقالوا: - «إذا سمعت عليّا يسأل عن الخبر، فتقدّم وقل كيت وكيت.» فلما قال على: «ما هذا؟» قال ذلك الرجل: - «ما فجئنا إلّا وقوم منهم قد بيّتونا، فرددناهم من حيث جاءوا، فوجدنا القوم على رجل فركبوا وثار الناس.» وقال علىّ لصاحب ميمنته: «ايت الميمنة.» وقال لصاحب ميسرته: «ايت الميسرة.» وقال: «فلقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهيين حتى يسفكا الدم ويستحلّا الحرمة، وأنهما لن يطاوعانا.» والسبائية لا تفتر [إنشابا [2]] . فنادى علىّ: «يا أيها الناس كفّوا، فلا شيء!» وكان يحبّ أن يبدأ لتكون الحجّة على القوم. وخرج الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين قد بعثوا حرقوص بن زهير إلى علىّ، فقال: - «يا علىّ، إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غدا، إنّك تقتل رجالهم وتسبى نساءهم.» فقال: «ما مثلي يخاف هذا منه. فهل أنت مغن عنى قومك؟» قال: «نعم. واختر منى واحدا من اثنين: إما أن آتيك، فأكون معك بنفسي، وإما أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف.»   [1] . تكملة من الطبري (6: 3182) . [2] . تكملة من الطبري (6: 3183) وهي ساقطة من الأصل ومط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قال: «بل اكفف عنّى عشرة آلاف سيف.» فرجع، [550] ودعا قومه إلى القعود والكفّ، ففعلوا. ما جرى بين علىّ وطلحة والزبير من حديث ثم إن الزبير خرج على فرس له، على سلاح، فقيل لعلىّ: - «هذا الزبير.» قال: «أما إنه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكر.» وخرج طلحة، فخرج إليهما علىّ، ودنا منهما حتى اختلف أعناق دوابّهما فقال علىّ: - «لعمري لقد أعددتما سلاحا، وخيلا، ورجالا إن كنتما أعددتما عذرا عند الله فاتقيا الله، ولا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها من بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً 16: 92 [1] ألم أكن أخا لكما في دينكما تحرّمان دمى وأحرّم دمكما؟ فهل من حدث أحلّ لكما دمى؟» قال طلحة: «ألّبت على عثمان.» قال علىّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ 24: 25 [2] . يا طلحة، تطلب بدم عثمان، فلعن الله أشدّنا كان عليه. يا زبير! أتذكر يوم مررت مع رسول الله- صلى الله عليه- في بنى غنم، فنظر إلىّ وضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبى طالب زهوه، فقال لك رسول الله: مه! إنّه ليس كذلك، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم؟» فقال: «اللهم نعم. ولو ذكرت، ما سرت مسيري هذا. والله لا أقاتلك أبدا.» [551] فانصرف علىّ، وحكى ذلك لأصحابه. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها:   [1] . س 16 النحل: 92. [2] . س 24 النور: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 - «ما كنت في موطن مذ عقلت وأنا أعرف فيه أمرى غير موطني هذا.» قالت: «ما تريد أن تصنع؟» قال: «أريد أن أدعهم وأذهب.» قال له ابنه عبد الله: «جمعت هذين الغارّين حتى إذا جرّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب. أحسست رايات بن أبى طالب وعلمت أنها فتية أنجاد.» فغضب الزبير حتى أرعد، ثم قال: - «ويحك! إنّى قد حلفت ألّا أقاتله.» قال: كفّر عن يمينك. فدعا غلاما له يقال له: مكحول، فأعتقه. فقال عبد الله بن سليمان التيمىّ: لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفّر الأيمان بالعتق في معصية الرحمان وإنّما حكينا هذه الحكاية، لأنّ فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب ذلك على قوم، فإنّا ننبّه عليه، وذلك أنّ المحنق ربما سكّن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتّى من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه. [552] ما يحفظ من كلام الأحنف في الاعتزال وحضّ الناس عليه إنّه لما رجع من عند علىّ لقيه هلال بن وكيع، وهو سيّد رهطه، فقال: - «ما رأيك؟» قال: «مكاتفة أمّ المؤمنين. أفتدعنا؟ وتعزل عنّا؟ وأنت سيّدنا؟» قال: «إنّما أكون سيدكم غدا إذا قتلت وبقيت.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 فقال هلال: «سبحان الله، تقول هذا وأنت شيخنا؟» فقال: «أنا الشيخ المعصىّ وأنت الشابّ المطاع.» ولما ابتدأ القتال قال علىّ لأصحابه: ابتداء القتال- «أيكم يعرض عليهم هذا المصحف ويدعوهم إلى ما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، فإن قطعت أخذه بأسنانه؟» فقال فتى شابّ: «أنا.» فطاف على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذاك الفتى. فقال له علىّ: - «اعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، فالله الله في دمائنا ودمائكم.» فحمل القوم على الفتى وبيده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل. فقال علىّ لأصحابه: - «قد طاب لكم الضراب.» فقاتلوهم، فالتحمت الحرب، واشتدّ القتال إلى العصر. ثم انهزم أصحاب الجمل وعائشة يومئذ في هودجها على الجمل الذي يقال له: [553] «عسكر» . وانهزم الزبير نحو وادي السباع، وتشاغل الناس عنه، واتبعه قوم. فلما رأى الفرسان تتبعه، كرّ عليهم. فلما عرفوه رجعوا عنه، وتركوه. وكان علىّ وصّاهم ألّا يتبعوا مدبرا، ولا يجهزوا على جريح. وأصاب طلحة سهم، فشكّ ركبته بصفحة الفرس، فامتلأ موزجه دما وضعف. فانتهى إلى القعقاع في نفر وهو يقول: - «إلىّ عباد الله! الصبر الصبر.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فقال له: - «يا با محمد! إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل، فادخل الأبيات.» فقال: «يا غلام! أدخلنى، وأبغنى مكانا.» فأدخل ومعه غلام ورجلان. واقتتل الناس بعده، وأقبل الناس في هزيمتهم. فلما انتهوا إلى الجمل، عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا، وعادوا في أمر جديد، ووقفت الميمنة والميسرة. وقالت عائشة لكعب بن سور وهو آخذ خطام الجمل: - «يا كعب: خلّ عن البعير، وتقدّم بكتاب الله، فادعهم إليه.» ودفعت إليهم مصحفا. فاستقبلهم بالمصحف. وكانت السبائية أمام الناس يخافون أن يجرى الصلح. فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلىّ يزعهم، ويأبون إلّا إقداما، فرشقوا كعبا رشقا [554] واحدا، فقتلوه، ورموا الهودج. فجعلت عائشة تنادى: - «البقية، البقية يا نبىّ الله!» فيأبون إلّا إقداما. أول ما أحدثته عائشة فكان أول ما أحدثته عائشة حين رأت الناس يأبون إلّا قتالها أن قالت: «أيها الناس! العنوا قتلة عثمان وأشياعهم.» وأقبلت تدعو، وضجّ أهل البصرة بالدعاء. وسمع علىّ الدعاء، فقال: - «ما هذه الضجّة؟» قالوا: «عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان.» فأقبل علىّ يدعو ويقول: - «اللهمّ العن قتلة عثمان وأشياعهم.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وذمرت [1] عائشة الناس لما رأت أنّ الناس لا يريدون غيرها ولا يكفّون. فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم علىّ. فكانت الحرب صبيحة هذا اليوم مع طلحة والزبير، فلما انهزم الزبير، وأصيب طلحة، وذلك بعد الظهر، صارت الحرب مع عائشة. قال محمد بن الحنفية: دفع أبى إلىّ اللواء، وقال: - «احمل!» فحملت حتى لم أر موضعا لحملة- وقد كان زوحم علىّ. فنخس علىّ قفا محمد، وقال: «تقدّم!» وقال: فلم أجد متقدما إلّا على سنان فقلت: - «لا أجد متقدّما.» [555] فتناول الرمح من يدي متناول لا أدرى من هو. فنظرت، فإذا أبى بين يدىّ. و [اقتتلت] [2] المجنّبتان حين تزاحفتا قتالا يشبه ما فيه القلبان، وارتجز الفرسان، وكثر القتلى وتنادى الكماة في عسكر علىّ وعسكر عائشة، لما رأوا الصبر الشديد: - «يا أيها الناس! طرّفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر.» فجعلوا يتوخّون [3] الأطراف: الأيدى والأرجل، فما رأيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا سمع بها، أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها، لا يدرى صاحبها. فكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب بشيء من أطرافه استقتل [إلى أن يقتل] [4] .   [1] . مط: وبرت. [2] . مط والأصل: وأقبلت. وما أثبتناه يؤيده الطبري (6: 3193) . [3] . في الطبري: يتوجّون (6: 3194) . [4] . في الأصل: إلّا أن لا يقتل. وفي مط: إلى أن لا يقتل. وصححناه حسب الطبري (6: 3195) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ونادت عائشة من هودجها بصوت عال فيه كسرة [1] : - «إيه، لله أنتم. جالدوا جلادا يتفادى منه، بخّ بخّ، سيوف أبطحية، وسيوف قرشية.» ونادت بنو ضبّة: «ويها جمرة الجمرات.» وأحدقوا بجملها حتى أسرع فيهم القتل ورقّوا. وكانت عائشة تقول: - «ما زال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي.» وضربوا ضربا ليس بالتقدير، حتى إذا كثر القتلى وظهر في العسكر التطريف كره بعضهم بعضا، وارتدّت [556] المجنّبتان، فصارتا في القلب. ثم تلاقوا جميعا بقلبيهم. فأخذ ابن يثربى برأس الجمل، وارتجز وادّعى قتل علباء بن الهيثم، وزيد بن صوحان، وهند بن عمرو، فقال: أنا لمن ينكرنى ابن يثربى ... قاتل علباء وهند الجمل وزيد صوحان على دين علىّ فناداه عمار: «لقد لذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقا فاخرج من هذه الكتيبة إلىّ.» فترك الزمام، وبرز حتى كان بين صفّ عائشة وصفّ علىّ، وأقبل إليه عمار، وهو يومئذ ابن تسعين سنة وقد شدّ وسطه بحبل، وعليه فرو. فضربه ابن يثربى فنحا [2] له درقته، فنشب السيف فيها، وأسفّ عمار لرجليه، فضربه فقطعما، فوقع على استه، وحماه [3] أصحابه فارتثّ [4] بعد، فأتى به علىّ بن أبى طالب. فقال:   [1] . مط: كدرة. [2] . في الطبري: فنحنى له درقته (6: 3199) . والدرقة: الترس إذا كان من جلد. في رواية أخرى من الطبري: فاتقاه عمار بدرقته (6: 3196) . [3] . في الطبري: وحمله أصحابه (6: 3197) . [4] . حمل من المعركة رثيثا أى جريحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 - «استبقني يا أمير المؤمنين.» فقال: «بعد ثلاثة تضرب وجوههم بسيفك؟» وأمر به، فضربت عنقه. وتتابع الناس على زمام الجمل حتى قتل أربعون رجلا يرتجزون ويأخذون [557] الخطام فيقتلون. فحدّث عبد الله بن الزبير قال: أمسيت يوم الجمل وبى سبع وثلاثون جراحة من طعنة وضربة، وما رأيت مثل يوم الجمل قطّ، ما ينهزم منّا أحد وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل. فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: - «من أنت؟» قلت: «ابن الزبير.» قالت: «وثكل أسماء.» ومرّ بى الأشتر، فعرفته، وعانقته، وسقطنا جميعا، وناديت: - «اقتلوني ومالكا.» فجاء ناس منّا، فقاتلوا عنّا حتى تحاجزنا، وضاع منّى الخطام. فسمعت عليّا وهو ينادى: - «اعقروا الجمل، فإنّه إن عقر تفرّقوا.» فضربه رجل، فسقط، فما سمعت قطّ أشدّ من عجيج الجمل. وفي رواية أبى بكر بن عيّاش عن علقمة أنه قال: قلت للأشتر: «قد كنت كارها لقتل عثمان، فما أخرجك بالبصرة؟» قال: «إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا، وكان ابن الزبير هو الذي هزّ عائشة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الخروج، فكنت أدعو الله أن يلقّينيه، فلقيني كفّة لكفّة [1] . فما رضيت لشدّة ساعدي أن قمت في الركاب، فضربته ضربة على رأسه فصرعته.» قلت: «فهو القائل: اقتلوني ومالكا؟» قال: «لا. ما تركته وفي نفسي منه شيء. [558] ذاك عبد الرحمان بن عتّاب بن أسيد، لقيني، فاختلفنا ضربتين، فصرعنى وصرعته، فجعل يقول: نحن مصطرعون، اقتلوني ومالكا، والناس لا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني.» ثم قال أبو بكر بن عيّاش: «هذا كأنك شاهده.» [2] وتحدّث عوف بن أبى رجاء قال: رأيت رجلا قد اصطلمت أذنه فقلت: - «أخلقة، أم شيء أصابك؟» قال: «أحدّثك: بينا أنا امشى بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول: لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ... ولم ننصرف إلّا ونحن رواء [3] قال: قلت: «يا عبد الله قل: لا إله إلّا الله.» قال: «أدن منّى، ولقّنّى، فإنّ في أذنى وقرا.» قال: فدنوت منه، فقال لى: - «ممن أنت؟» قلت: «رجل من أهل الكوفة.» قال:   [1] . مط كفة كفة. وفي الطبري أيضا: كفة لكفة (6: 3200) . [2] . في الطبري: «هذا كتابك شاهده!» (6: 3200) . وفي مط: مشاهده. [3] . كذا في مط والطبري. ولكن الأصل يشبه أن يكون «رداء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فوثب علىّ، واصطلم أذنى كما ترى وقال: - «إذا رجعت إلى أمّك، فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبّى فعل بك هذا.» وتمام أبيات عمير بن الأهلب: أطعنا بنى تيم بن مرّة شقوة ... وهل تيم إلّا أعبد وإماء لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ... وشيعتها مندوحة وغناء [559] وروى عن الصعب بن عطيّة قال: كان منّا رجل يدعى الحارث، قال يومئذ: - «يا آل مضر، علام نقتل بعضنا بعضا؟» فنادوا: «لا ندري، إلّا أنّا إلى قضاء.» وما يكفّون. وقال القعقاع بعد ذلك: ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين. لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا، ونتكئ على أزجّتنا [1] ، وهم مثل ذلك، حتى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم. وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى [فنيت] [2] وتطاعنّا بالرماح حتى تشبّكت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت عليها الخيل لسارت. ثم قال علىّ: - «السيوف يا أبناء المهاجرين.» قال الشيخ: فما دخلت دار الوليد بالبصرة وسمعت صوت القصّارين يضربون إلّا ذكرت ذلك اليوم، وما شبّهت هودج عائشة إلّا بالقنفذ.   [1] . جمع مفرده الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح، ويقابله السنان، أو: نصل السهم. أو: الرمح من باب تسمية الكل باسم الجزء. [2] . كذا في مط، والأصل غير واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 حمل الهودج من بين القتلى ثم أمر علىّ عليه السلام، بحمل الهودج من بين القتلى. وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير. فأقبل محمد بن أبى بكر ومعه عمّار حتى احتملاه، وأدخل محمد يده. فقالت: [560] «من أنت، ويلك؟» قال: «أنا أخوك محمد.» قالت: «بل مذمّم!» قال: «يا أخيّة! هل أصابك شيء؟» قالت: «ما أنت من ذاك؟» قال: «فمن إذا الضّلّال؟» قالت: «بل الهداة.» وانتهى إليها علىّ فقال: «كيف أنت أمّه؟» قالت: «بخير.» قال: «يغفر الله لك.» قالت: «ولك.» وأما الزبير فإنه تبعه ابن جرموز فقتله. وأما الأحنف فقصد عليّا ومعه ابن جرموز. فقال علىّ للأحنف: «تربّصت.» فقال: «ما كنت أرانى إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان أمير المؤمنين، فارفق، فإنّ طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحسانى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 واستصف مودّتى، ولا تقولنّ مثل هذا. فإنّى لم أزل لك ناصحا. [1] » وحملت عائشة إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي. وكان عبد الله هذا قتل يوم الجمعة مع عائشة، وقتل عثمان أخوه مع علىّ. وأما الجرحى فإنهم انسلّوا في جوف الليل، ودخلوا البصرة من كان يطيق الانبعاث. وسألت عائشة عن عدة ممن كانوا معها وممن كانوا عليها. فكلّما نعى واحد منهم قالت: «رحمه الله.» فأما علىّ فصلّى على قتلى هؤلاء، وجمع الأسلاب إلى [561] المسجد بالبصرة، ونادى: «من عرف شيئا فليأخذه، إلّا سلاحا كان في الخزائن عليها سمة السلطان.» وصلّى علىّ في المسجد، ثم دخل البصرة، فأتاه الناس. ثم راح إلى عائشة على بغلته، وهي في دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة. فوجدوا النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، وصفيّة بنت الحارث مختمرة تبكى، فلمّا رأته قالت: - «يا علىّ، يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجمع، أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله.» فلم يردّ عليها شيئا، ولم يزل على حاله، حتى دخل على عائشة. فسلّم عليها، وقعد عندها. ثم قال: - «جبهتنا صفيّة. أما إنى لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم.» فلما خرج علىّ أقبلت عليه، فأعادت عليه الكلام. فكفّ بغلته ثم قال: «لهممت- وأشار إلى باب من أبواب الدار- أن أفتح هذا الباب وأقتل من فيه، ثم هذا، وأقتل من فيه.» وكان ناس من الجرحى لجأوا إلى عائشة. فأخبر علىّ بمكانهم فتغافل عنهم.   [1] . أنظر الطبري 6: 3218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 فسكتت صفيّة، وخرج علىّ. فقال له رجل من الأزد: «ما تفلتنا هذه المرأة.» فغضب وقال: «مه! لا تهتكنّ سترا، [562] ولا تدخلنّ دارا، ولا تهيجنّ امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعاف. ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، وإنّ الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضرب، فيعيّر به عقبه من بعده. فلا يبلغنّى عن أحد عرض لامرأة، فأنكّل به شرار الناس.» [1] ومضى علىّ، فلحق به رجل فقال: «يا أمير المؤمنين، قام رجلان ممن لقيت على الباب فتناولا من هو أمضّ لك شتيمة من صفيّة.» قال: «ويحك، لعلّها عائشة!» قال: «نعم.» فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب. فأقبل بمن كان عليه. فأحالوا على رجلين. فقال: «أضرب أعناقهما..» ثم قال: «بل أنهكهما عقوبة..» ثم قال: «لا، بل أضربهما مائة أخرجهما من ثيابهما.» ثم بايع أهل البصرة حتى الجرحى والمستأمنة. فلما فرغ من بيعتهم نظر في بيت المال، فإذا فيه ستمائة ألف. فقسمها على من شهد معه. فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة. فقال لهم: «لكم إن أظفركم الله بالشام، مثلها إلى أعطياتكم.» فخاض في ذلك السبائية وطعنوا على علىّ من وراء وراء.   [1] . أنظر الطبري 6: 3225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 سيرة علىّ في من قاتل يوم الجمل وكان من سيرة علىّ ألّا يقتل مدبرا، ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف سترا، [563] ولا يأخذ مالا. فقال قوم يومئذ: - «ما يحلّ لنا دماءهم، ويحرّم علينا أموالهم؟» فقال علىّ: «القوم أمثالكم. من صفح عنّا فهو منّا ونحن منه، ومن لجّ حتّى يصاب فقتاله منّى على الصدر والنحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى.» فيومئذ تكلّمت الخوارج. وكتب كتاب البشارة إلى عامله بالمدينة. وكان زياد بن أبى سفيان ممّن اعتزل. فلمّا انجلت الحرب، ذكره علىّ، واستبطأه. فقال ابن أخيه عبد الرحمان بن أبى بكرة، وكان ورد مستأمنا: - «هو مستأمن يا أمير المؤمنين.» فقال: «امش أمامى، فاهدني إليه.» ففعل. فلمّا دخل عليه قال: «تقاعدت وتربّصت.» فاعتذر زياد. فقبل عذره، واستشاره في من يولّيه البصرة، وأراده عليها. فقال: «يا أمير المؤمنين، رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس، فإنّه أجدر أن يطمئنّوا إليه، وسأكفيه وأشير عليه.» فافترقا على ابن عبّاس، وولّى زيادا الخراج وبيت المال. السبائيّة ترتحل بغير إذن علىّ وأعجلت السبائية عليّا عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه. فارتحل على آثارهم ليقطع عنهم أمرا إن كانوا أرادوه. وقد كان له مقام لولاهم. [564] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 وكان عدّة القتلى يوم الجمل عشرة آلاف من الفريقين. وتحدّث الناس: إنّ أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس، وفيه كان القتال، وذلك من نسر مرّ بماء حول المدينة معه شيء متعلّق، فتأمّله الناس، فوقع، فإذا كفّ فيها خاتم نقشه: «عبد الرحمان بن عتّاب» . ثم جعل من بين مكة والمدينة ممن قرب من البصرة أو بعد، قد علموا بالوقعة مما تنقل إليهم النسور من الأيدى والأقدام. تجهيز علىّ عائشة وجهّز علىّ عائشة لغرّة رجب سنة ستّ وثلاثين بكلّ شيء ينبغي لها، وأخرج معها كلّ من نجا ممن خرج معها إلّا من أحبّ المقام. واختار من نساء البصرة المعروفات أربعين امرأة، وأمر أخاها محمدا بالخروج معها، وخرج في تشييعها أميالا، وسرّح بنيه معها يوما. ما جرى بين معاوية وقيس وكان علىّ بن أبى طالب ولّى قيس بن سعد بن عبادة مصر لما قتل عثمان، فسار إليها، وبايع أهلها لعلىّ بن أبى طالب، ودارى الناس. فاستجاب له أهل مصر إلّا أهل قرية يقال لها: «خرنبا [1] » ، فإنّ أهلها أعظموا قتل عثمان، وكانوا نحو عشرة آلاف رجل من الوجوه الفرسان [565] فكره قيس أن يهيّجهم، فراسلهم قيس وراسلوه يقولون: - «إنّا لا نقاتلك، فابعث عمّالك، فالأرض أرضك، ولكن دعنا على حالنا حتى   [1] . مط: حرننا. وفي الطبري: خربتا (6: 3238) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ننظر إلى ما يصير أمر الناس.» فأمسك عنهم، وأرسل إليهم عمّاله، فجباهم، ثم توثّب عليه قوم بمصر، فداراهم. وكان قيس ذا حزم ورأى. فجبى الخراج لا ينازعه أحد. وخرج أمير المؤمنين إلى أهل الجمل وهو على مصر، ورجع إلى أرض الكوفة من البصرة وهو بمكانه. فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام مخافة أن يقبل إليه علىّ في أهل العراق ويقبل إليه قيس في أهل مصر فيقع معاوية بينهما. فكتب إليه معاوية وعلىّ بن أبى طالب بالكوفة يومئذ، يعظّم عليه قتل عثمان، ويذكر له أنّ صاحبه أغرى به الناس، وحملهم على قتله، ويحمل قيسا على متابعته، ويضمن له سلطان العراقين إذا ظهر، ما بقي [1] ، ويشترط له سلطان الحجاز يولّيه من شاء من أهله، ويقول له بعد ذلك: - «وسلني غير هذا مما تحبّ، فإنّك لا تسألنى شيئا إلّا أجبتك إليه.» فأجابه قيس بالاعتذار من قتل عثمان، وأنّه لم يشهده [566] ولا صاحبه أمير المؤمنين، ولا رضيه، واستمهله مما عرض عليه من متابعته، وقال: - «لى فيه نظر ورأى.» فلما نظر في كتابه معاوية وقرأه لم يره إلّا مباعدا [2] ، ولم يأمن أن يكون مكايدا، فكتب كتابا آخر يقول له: - «لم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولم أرك تباعد فأعدّك حربا، وليس مثلي من يصانع بالخداع [3] ومعى أعنّة الخيل، وعدد الرجال.» فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة [4] ، أظهر له ذات نفسه   [1] . في كتاب معاوية: « ... ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ... » (الطبري 6: 3238- 3239) . [2] . في الطبري: مقاربا مباعدا (6: 3240) . [3] . في الطبري: من يصانع المخادع (نفس الصفحة) . [4] . في الطبري: المدافعة والمماطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وكتب إليه: - «العجب من اغترارك بى وطمعك في واستسقاطك رأيى، تسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحقّ، وأقربهم إلى الرسول، وأهداهم سبيلا، وتأمرنى بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلّهم سبيلا، وأبعدهم من الله ورسوله وسبيله، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس، فأما قولك: إنّى مالئ عليك [1] خيلا ورجلا، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك، إنّك لذو جدّ والسلام.» [567] فلما أتى معاوية كتاب قيس بن سعد هذا. يئس منه، وثقل عليه مكانه، وأخذ في طريق الحيلة عليه، والمكيدة له. ذكر مكيدة معاوية لقيس وما تمّ له عليه فأخذ معاوية يكيد قيسا من قبل علىّ، فيظهر مرة كتابا يفتعله من قيس إليه بأنه: منكر لقتل عثمان، تائب إلى الله منه، وأنّ هواه وميله معه، في أشياء تشبه هذا الكلام، ومرة يظهر رسولا يزعم: أنّه من قبله ويلقّنه وما يقوّى به قلوب شيعته من أهل الشام، ومرة يقول لثقاته: لا تسبّوا قيس بن سعد، فإنّه لنا شيعة [2] تأتينا نصيحته سرّا، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم من أهل حزبنا يجرى عليهم أرزاقهم. ويؤمن سربهم ويحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم؟ فسمع جواسيس أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب وعيونه ذلك، فكتبوا إليه به. ولم يزل معاوية بأمثال هذا المكائد حتى اتهم علىّ قيسا، وجمع ثقاته، وقال لهم ما كتب إليه من أمر قيس، فقالوا: - «يا أمير المؤمنين [568] ما يريبك إلى ما لا يريبك [3] . اعزل قيسا، وابعث   [1] . عليك مصر ... (الطبري 6: 3241) . [2] . كذا في مط. [3] . سقط من مط: «إلى ما لا يريبك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 بثقتك مكانه.» فقال علىّ: «إنّى والله ما أصدّق هذا على قيس.» فقال عبد الله بن جعفر: «اعزله يا أمير المؤمنين، فوالله، لئن كان هذا حقّا لا يعتزل لك.» فبينا هم كذلك إذ جاء كتاب من قيس بن سعد يخبره: - «إنّ رجالا قد سألونى أن أكفّ عنهم وأدعهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويروا، فرأيت أن أكفّ [1] عنهم، وألّا أتعجّل حربهم، فلعلّ الله يعطف بقلوبهم [2] » فقال عبد الله بن جعفر: «يا أمير المؤمنين، ما أخوفنى أن يكون هذا ممالأة منه لهم. فمره بقتالهم.» فكتب إليه علىّ: - «أما بعد، فسر إلى القوم الذين ذكرت، فإن دخلوا في ما دخل فيه المسلمون، وإلّا فناجزهم، والسلام.» فلما أتى قيس بن سعد الكتاب، لم يتمالك أن كتب: - «أما بعد، يا أمير المؤمنين، فقد عجبت لأمرك بقتال قوم كافّين عنك مفرّغيك لقتال عدوّك، وإنك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوّك. فأطعنى يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإنّ الرأى تركهم.» فلما أتى عليّا كتاب قيس قرأه على أصحابه. فقال عبد الله بن جعفر: - «ابعث محمد بن أبى بكر [569] على مصر يكفك، فقد بلغني عن قيس هنات وأقوال.» [3] يعنى ما كان يشيعه معاوية عنه. فكتب علىّ عهد محمد بن أبى بكر على مصر. فلما قدم محمد مصر، خرج   [1] . وفي الأصل: «أن أكفف» ! وفي مط: «أن أكفّهم» . [2] . تجد نص الكتاب عند الطبري (6: 3244) . [3] . أنظر نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 قيس، فلحق بالمدينة. فأخافه مروان والأسود بن البختري حتى إذا خاف أن يقتل، ركب راحلته وطمر [1] إلى علىّ. وبلغ ذلك معاوية، فكتب إلى مروان والأسود يتغيّظ عليهما ويقول: - «أمددتما عليّا بقيس بن سعد ورأيه ومكانته، والله لو أنكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لى من إخراجكما قيس بن سعد إلى علىّ.» ولما قدم قيس على علىّ وباثّه، ثم جاءهم قتل محمد بن أبى بكر، عرف أنّ قيس بن سعد كان يدارى أمورا عظاما من المكاره، وأنّ من كان يحمله على عزل قيس لم يكن ينصح له. فأطاع علىّ قيس بن سعد بعد ذلك في الأمر [2] كلّه. ابتداء وقعة صفّين قميص عثمان وأصابع نائلة وكان أهل الشام قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضّبا بدمه، وبأصابع زوجته «نائلة» ، مقطوعة البراجم [3] : إصبعان منها مع شيء من الكفّ، وإصبعان مقطوعتان من أصولهما، ونصف [570] الإبهام. فكان معاوية يضع القميص على المنبر، ويعلّق منه الأصابع، ويشنّع به، ويكاتب الأجناد. فثاب إليه الناس وبكوا سنة والقميص بتلك الحال. وآلى رجال من أهل الشام ألّا يأتوا النساء، ولا يمسّهم الماء للغسل إلّا من الاحتلام، ولا يناموا على الفرش، حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض [4] دونهم بشيء، أو تفنى أرواحهم.   [1] . في مط: ظهر. وفي الطبري: ظهر، طمر، وتصحيفات شتى (6: 3246) . طمر: وثب. ظهر: سار في الظهيرة. [2] . كذا في مط. وفي الطبري: «في الأمر» (نفس الصفحة) . [3] . البراجم: جمع مفرده البرجمة: مفاصل الأصابع أو العظام الصغار في اليد والرجل. [4] . مط: يعرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 خروج علىّ بن أبى طالب إلى صفّين وبلغ عليّا خبر معاوية وما يصنعه، فبعث إليه برسل، وخرج من الكوفة، فعسكر بالنخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عباس، بمن نهض معه من البصرة، وتهيّأ منها إلى صفّين، واستشار الناس. فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم، وأشار آخرون بالمسير، فأبى إلّا المباشرة. فجهّز الناس. وبلغ الخبر معاوية، فدعا عمرو بن العاص واستشاره. فقال: «إذا بلغك أنه يسير فسر بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك.» قال معاوية: «فجهّز الناس.» فخرج عمرو إلى الناس، وحضّضهم وضعّف عليّا وأصحابه وقال: - «إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم [571] وقطعوا حدّهم. ثمّ إنّ أهل البصرة مخالفون لعلىّ وقد قتلهم، ووترهم، وتفانت صناديدهم يوم الجمل، وإنما سار علىّ في شرذمة قليلة، منهم من قتل خليفتكم، فالله في حقّكم أن تضيّعوه، وفي دمكم أن تبطلوه.» وبعث علىّ بن أبى طالب زياد بن النضر طليعة في ثمانية آلاف و [بعث معه] [1] شريح بن هانئ، ووجّه من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه، وسار بنفسه حتى انتهى إلى الرقّة، وقال لأهلها: - «اجسروا لى جسرا حتى أعبر من هذا المكان إلى الشام.» فأبوا. وكانوا ضمّوا إليهم السفن. فنهض علىّ من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، ورحل ليمضى بالناس ويعبر بهم.   [1] . تكملة من الطبري (6: 3259) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 فنادى الأشتر: «يا أهل هذا الحصن، إلىّ، إنّى أقسم بالله، لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم جسرا حتى يعبر، لأجرّدنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال، وأخر بنّ الديار، ولأنهبنّ الأموال.» فلقى بعضهم بعضا، فقالوا: «هو الأشتر، ويفي بما حلف عليه، ويأتى بما هو شرّ منه.» فنادوه: «نعم، إنّا ناصبون لكم جسرا، فأقبلوا.» فجاء علىّ، فنصبوا له الجسر، فعبر علىّ بالأثقال [572] والرجال. ثمّ أمر علىّ الأشتر، فوقف في ثلاثة آلاف فارس حتى لم يبق من الناس أحد إلّا عبر، ثم عبر آخر الناس رجلا. فأما زياد بن النضر وشريح بن هانئ، فسارا أمام علىّ- كما ذكرنا- من الكوفة، آخذين على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة، حتى بلغا عانات، فبلغهما [أخذ علىّ] على طريق الجزيرة [1] ، وإنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشام، فقالا: - «والله ما هذا لنا برأى: أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر، ومالنا خير في أن نلقى جنود الشام بقلّة من معنا منقطعين من المدد. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السفن. فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت [2] ، ثمّ لحقوا عليّا، فقال عليه السلام: - مقدّمتى تأتينى من ورائي!» فتقدّم إليه زياد وشريح، وأخبراه بما رأيا. فقال: «سدّدتما.»   [1] . في الأصل ومط: «فبلغهما علىّ آخذا على طريق الجزيرة» وهي مضطربة، فأثبتناها كما في الطبري (6: 3259) . [2] . هناك ثلاثة مواضع مسماة ب «هيت» : الأول: بلدة على الفرات من نواحي بغداد. والثاني: دحل تحت عارض جبل باليمامة. والثالث: من قرى حوران من ناحية اللوى من أعمال دمشق (يا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 ثم مضى. فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه. وأرسل معاوية أبا الأعور السّلمى في جند عظيم من أهل الشام، فأرسلا إلى علىّ: - «إنّا قد لقينا أبا الأعور السّلمى في جمع من أهل الشام ودعوناهم، فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك.» وكان علىّ أمرهما ألّا يبدءا بقتال حتى يدعوا إلى الحقّ، ويكون مبدأ القتال من غيرهما. [573] فأرسل علىّ عليه السلام الأشتر، فقال: - «يا مال، إنّ زيادا وشريحا أرسلا إلىّ أنهما لقيا أبا الأعور السلمى في جمع من أهل الشام، وأخبرنى الرسول أنهم متواقفون، فالنجا إلى أصحابك النجا، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم، وإياك أن تبدأهم، ولا يجر منّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم مرة بعد مرة، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب الناس، حتى أقدم عليك، فإنّى حثيث [1] السير في أثرك إن شاء الله.» وكتب إلى زياد وشريح بالسمع له والطاعة. فخرج الأشتر، والتقى مع القوم، وكفّ عن القتال إلى أن حمل أبو الأعور، فثبتوا له. ثم انصرف أهل الشام في تلك الليلة لما أدركهم المساء [2] ، وأقبل من الغد، وجاء الأشتر من المكان الذي كان فيه، ولم يزل يزحف حتى وقف في المكان الذي كان فيه بالأمس أبو الأعور. فقال الأشتر لسنان بن مالك: - «انطلق إلى أبى الأعور، فادعه إلى المبارزة.» فقال: «إلى مبارزتي، أو إلى مبارزتك؟» فقال الأشتر: «لو أمرتك بمبارزته فعلت؟» قال: «نعم، والله لو أمرتنى أن أعترض صفّهم بسيفي، ما رجعت حتى أضرب   [1] . مط: خشيت! [2] . مط: الماء! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 فيهم بسيفي.» فقال له الأشتر: «يا ابن أخى، أطال الله بقاءك، [574] قد- والله- ازددت فيك رغبة. لا، ما أمرتك بمبارزته، وإنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي. إنّه لا يبرز إلّا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت- ولربّك الحمد- من أهل الشرف والكفاءة، غير أنك في حدث السنّ. وليس [هو] بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي.» فأتاه ونادى: «آمنونى، فإنّى رسول.» فأومن حتى جاء إلى أبى الأعور. قال: فدنوت منه وقلت «إنّ الأشتر يدعوك إلى المبارزة.» قال: فسكت عنّى طويلا ثم قال: «إنّ خفّة الأشتر، وسوء رأيه حمله على إجلاء عمّال عثمان بن عفّان من العراق، ومن خفّة الأشتر أن سار إلى بن عفّان في داره حتى قتله في من قتله، فأصبح متبعا [1] بدمه. ألا، لا حاجة لى في مبارزته.» قال: قلت له: «إنّك قد تكلّمت، فاسمع منّى أجبك.» قال: «لا حاجة لى في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عنّى.» وصاح بن أصحابه، فانصرفت عنه، ولو سمع إلىّ لأجبته بحجّة صاحبي. فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة. فقال: - «لنفسه نظر.» القتال على الماء وأقمنا متحاجزين يوما ونتحارس ليلتنا. فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد   [1] . أهملت الثانية والثالثة من الكلمة في الأصل، وهي في مط: «متبعا» والضبط في الطبري: «متّبعا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا علىّ غدوة. فقدّم الأشتر في من كان معه في [575] تلك المقدمة. وجاء علىّ في أثره حتى لحق بالأشتر وانتهى إلى معاوية. قال: فلمّا انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح، قد اختاره قبل قدومنا، إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصقع كلّه شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها بأبى الأعور يمنعها ويحميها. قال: فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم، فلم نجدها. قال: فأتينا عليّا، فأخبرناه بعطش الناس، وقال له الأشتر: - «إنّ القوم قد سبقوك إلى الشريعة وإلى سهولة المنزل [1] ، فإن رأيت سرنا حتّى نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فننزل في منزلهم، فإنهم يشخصون في إثرنا، فإذا لحقونا نزلنا فكنّا [نحن] [2] وهم على السواء.» فكره ذلك علىّ وقال: «ليس كل الناس يقوى على المسير.» ونزل بهم، فقال علىّ: «قاتلوهم على الماء.» وبعث إلى معاوية برسول يقول: - «إنّا سرنا إليك، ومن رأينا الكفّ، إلى أن تنظر لنفسك، وننظر، وامتنعنا من قتالك، فبدأتنا، وهذا الماء تمنعنا منه، فخلّ بين الناس وبين الشريعة حتى ننظر [3] ، وإن كان الأعجب إليك أن نترك ما جئنا له، ونترك الناس يقتتلون على الماء، حتى [576] يكون الغالب هو الشارب.» فقال معاوية لأصحابه: «ما ترون؟» فأما أكثر الناس قال: «ولا نعمى عين، نمنعهم الماء كما منعوه عثمان، فإن رجعوا كان ذلك فلّا لهم.»   [1] . في الطبري: إلى سهولة الأرض وسعة المنزل (6: 3264) . [2] . تكملة من الطبري (6: 3264) . [3] . مط: حتى تنظروا فان كان.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 فقال عمرو: «خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا [وأنت ريّان] [1] ولكن بغير الماء، فانظر في ما بينك وبينهم.» فارتفع الصياح من كل جانب: - «امنعوهم الماء، منعهم الله يوم القيامة.» وكان الرسول صعصعة بن صوحان، فقال صعصعة: - «إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة، والفسقة شربة الخمر: ضربكم من الناس.» فتوثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه. فقال معاوية: «كفّوا عن الرجل فإنه رسول.» قال صعصعة: «فخرجت من عنده ومن رأيه منع الماء. فما انتهيت إلى علىّ حتى رأيت الخيل تسرّب إلى أبى الأعور ليكفّنا عن الماء. فأبرز [نا] [2] علىّ إليهم وقال: - «قاتلوهم على الماء.» فارتمينا، ثم اطّعنّا، ثم تجالدنا بالسيوف، إلى أن انهزموا، وصار الماء في أيدينا. قال: فقلنا: «لا والله، لا نسقيهموه بعد أن غلبنا عليه بالسيف.» فأرسل إلينا علىّ أن: «خذوا من الماء حاجتكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلّوا عنهم، فإنّ الله قد نصركم عليهم ببغيهم وظلمهم.» ثم أقبل علىّ يأمر [577] ذا الشرف من الناس، فيخرج ومعه جماعة، ويخرج معاوية إليه مثله، فيقتتلان في خيلهما، ثم ينصرفان، وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجميع [أهل] [3] العراق أهل الشام لما يتخوّفون أن يكون في ذلك من   [1] . تكملة من الطبري. [2] . تكملة من الطبري (6: 3264) . [3] . تكملة عن مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الاستيصال والهلاك، إلى أن [تقضّى شهر ذى] [1] الحجة. فلما دخل المحرّم توادع علىّ ومعاوية إلى انقضائه طمعا في الصلح، وتردّدت الرسل، وطال الكلام بينهما، فما استقام بينهما الصلح. وانقضى المحرّم فأمر علىّ مرثد بن الحارث الجشميّ، فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: - «ألا، إنّ أمير المؤمنين يقول لكم: إنّى استدمتكم [2] لتراجعوا الحقّ وتنيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله، ودعوتكم إليه، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حقّ، وإنى قد نبذت [3] إليكم على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين.» ففزع [4] أهل الشام إلى أمرائهم، وخرج معاوية وعمرو في الناس يكتّبان الكتائب، ويعبّئان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علىّ ليلته كلّها يعبّئ الناس، ويكتّب الكتائب، ويدور في الناس، ويحرّضهم. من وصايا علىّ لأصحابه يوم صفّين وكان في ما يوصّيهم: - «إذا قاتلتموهم وهزمتموهم، فلا تقتلوا [578] مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلّا بإذن، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلّا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعيفات القوى» . كان هذا كلامه في يوم الجمل، وصفّين، ويوم النهروان، وكان يحرّض فيقول: - «عباد الله، غضّوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلّوا الكلام، ووطّنوا   [1] . مكان «تقضّى شهر ذى» بياض في الأصل وما أثبتناه عن مط. [2] . مط: أستبدّ منكم! [3] . مط: نذرت. وفي الطبري أيضا: نبذت. [4] . فزع إليه. لجأ إليه واستغاثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 أنفسكم على المنازلة والمبارزة، والمبالطة [1] ، والمعانقة، واثبتوا، واذكروا الله كثيرا، لعلّكم تفلحون، ولا تنازعوا فتفشلوا، وتذهب ريحكم، واصبروا إنّ الله مع الصابرين [2] ، اللهمّ ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر.» اقتتلوا ولكلّ فئة أحد عشر صفا ولما أصبح علىّ في ميمنته وميسرته، ومعاوية في مثل ذلك، وبايع رجال من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم. فكان المعقّلون [3] خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون أحد عشر صفا، ويخرج أهل العراق أحد عشر صفا. [579] فخرجوا أول يوم من صفر، واقتتلوا، وعلى من خرج يومئذ من الكوفة الأشتر، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الأربعاء، فاقتتلوا عامة نهارهم. ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. فلما كان اليوم الثاني، خرج هاشم بن المرقال. وخرج إليه أبو الأعور السلمى في خيلهما ورجالهما، فاقتتلوا عامة نهارهم، وصبر بعضهم لبعض. وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر. وخرج إليه عمرو بن العاص في خيلهما ورجلهما فاقتتلوا كأشدّ ما يكون القتال، وكان مع عمار زياد بن النضر [4] على الخيل، فأمره عمار أن يحمل، فحمل في خيله وصبر له الناس، وشدّ عمار في الرجال، فأزال ابن العاص عن موقفه، ثم انصرف كلّ واحد عن صاحبه وتراجع الناس. وخرج اليوم الرابع محمد بن علىّ، وهو ابن الحنفية، فخرج إليه عبيد الله بن عمر في جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشدّ القتال:   [1] . المبالطة: التحارب بالسيوف. [2] . س 8 الأنفال: 45، 46. [3] . مط: معقولون. [4] . ما في الأصل غير واضح، فأثبتناه كما في مط والطبري (6: 3284) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية، أن: «اخرج إلىّ!» فقال: «نعم!» وخرج يمشى. وبصر به علىّ، فقال: «من هذان المتبارزان؟» فقيل له: «ابنك وعبيد الله بن عمر.» فحرّك دابّته، [580] ثم نادى محمدا، فوقف له. فقال: «أمسك دابتي!» فأمسكها. ثم مشى إليه علىّ وقال: «أبرز [لك] [1] ، فهلمّ إلىّ!» فقال: «ليست لى في مبارزتك حاجة.» قال: «بلى، هلمّ!» قال: «لا.» فرجع ابن عمر، وأخذ محمد بن الحنفية يعاتب أباه في منعه، ثم خروجه بنفسه، إلى من ليس [كفؤا له] [2] هو ولا أبوه. فجرى بينهما كلام مذكور [3] . ثم تحاجز الناس. فلما كان اليوم الخامس خرج عبد الله بن العباس، وخرج إليه الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودنا ابن العباس من الوليد بن عقبة والوليد يشتم بنى عبد المطلب. فأرسل إليه ابن عباس أن: ابرز لى! فأبى. وقاتل ابن عباس قتالا   [1] . تكملة عن الطبري. [2] . في الأصل وفي مط: «هناك» فوجدته تحريفا من: «كفؤا له» وهذا مستنبط من المفاضلة الواردة في رواية الطبري التي أوردناها في الحاشية التالية. [3] . قال الطبري: « ... فرجع ابن عمر، فأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه: يا أبت لم منعتني من مبارزته؟ فوالله لو تركتني لرجوت أن أقتله. فقال: لو بارزته لرجوت أن تقتله وما كنت آمن أن يقتلك. فقال: يا أبت، أو تبرز لهذا الفاسق؟ والله، لو أبوه سألك المبارزة لرغبت بك عنه. [أى: لفضّلتك عليه] فقال علىّ: يا بنى، لا تقل في أبيه إلّا خيرا. (الطبري 6: 3285) . أنظر أيضا ابن الأثير 3: 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 شديدا، وغشى الناس بنفسه. وخرج اليوم السادس قيس بن سعد الأنصارى، فخرج إليه ابن ذى الكلاع الحميري، فاقتتلا قتالا شديدا، ثم انصرفا، ذلك بعد قتل كثير في الفريقين. وخرج الأشتر في اليوم السابع، وعاد إليه حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الثلاثاء، فاقتتلا كأشدّ ما يكون من قتال، ثم انصرفا عند الظهر وكلّ غير غالب. ثم إنّ عليّا قال: «حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم [581] بأجمعنا؟» فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العصر، فخطبهم فقال: - «الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، ولا ينقض ما أبرم، ولو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفّت [1] بيننا في هذا المكان، فلو شاء عجّل النعمة، وكان منه التغيير حتى يكذّب الظالم ويعلم الحقّ أين مصيره، ولكنّه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة هي دار القرار، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. [2] ألا، إنّكم لاقوا [3] القوم غدا، فاطلبوا وجه الله بأعمالكم، وأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالجدّ والحزم، وكونوا صادقين.» فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها. ومرّ بهم كعب بن جعيل التغلبي وهو يقول: أصبحت الأمّة في أمر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب فقلت قولا صادقا غير كذب ... إنّ غدا يهلك أعلام العرب   [1] . في الأصل ومط: فلف. والصحيح ما أثبتناه كما في الطبري (6: 3286) . [2] . س 53 النجم: 32. [3] . في الأصل: لا قوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ولما كان من الليل، خرج علىّ يعبّئ الناس ليلته كلّها حتى إذا أصبح زحف الناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشام. فجعل علىّ يقول: «من هذه القبيلة» ، و «من هذه الكتيبة؟» [582] فتنسب له، حتى إذا عرفهم ورأى مراكزهم، قال للأزد: «أكفونى الأزد.» وقال لخثعم: «أكفونى خثعم.» وأمر كلّ قبيلة أن تكفيه أختها، وإذا لم يجد لقبيلة منهم أختها سمّى لها قبيلة أخرى. ثم تناهض الناس يوم الأربعاء، فاقتتلوا نهارهم كلّه، وانصرفوا عند المساء وكلّ غير غالب. حتى إذا كان يوم الخميس، وهو التاسع، صلّى علىّ بغلس [1] ، فيقال: إنه لم يغلّس أشدّ من تغليسه يومئذ. ثم خرج بالناس. وكان علىّ- عليه السلام- يبدأ القوم بالمسير إليهم. فإذا رأوه وقد زحف استقبلوه بوجوههم. فلما صلّى علىّ، دعا دعاء كثيرا، وقال في آخر دعائه: «اللهمّ إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي، وسدّدنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقيّة أصحابى من الفتنة.» ثم خرج وعلى ميمنته عبد الله بن بديل، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس وقرّاء أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار بن ياسر، ومع قيس بن سعد، ومع عبد الله بن بديل، والناس على راياتهم وعلىّ في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة وأكثر من معه من أهل المدينة، الأنصار. ثم زحف إليهم بالجمع. ورفع معاوية قبّة [583] عظيمة وقد ألقى عليها الكرابيس، وبايعه عظم أهل الشام على الموت، وبعث إلى خيل أهل دمشق، فأحاطت بقبّته، وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله من الميسرة حتى اضطرّهم إلى قبّة معاوية عند الظهر، وحضّ عبد الله بن بديل   [1] . الغلس: ظلام أول الصبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 أصحابه، وحرّضهم، وذكّرهم بالله، وأثنى عليه، وعضّ من معاوية وسبّه، وقاتل قتالا شديدا، وحضّ علىّ أصحابه. خطبة في حضّ على حرب ووصايا فيها فقال: - «إنّ الله قد دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم [1] ، وأخبركم أنه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص [2] فسوّوا صفوفكم، وقدّموا الدارع، وأخّروا الحاسر، وعضّوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنّه أمور للأسنّة، وغضّوا الأبصار، فإنّه أربط للجأش، وأميتوا الأصوات، فإنّه أطرد للفشل، وأولى بالوقار. راياتكم، فلا تميلوها، ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم. أجزأ امرؤ [وقذ] [3] قرنة وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيكسب [584] به لائمة ودناءة، وكيف لا، وهذا يقاتل اثنين وهذا ممسك يده قائما ينظر إليه؟ من يفعل ذلك، يمقته الله. قال الله لقوم: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا [4] ، استعينوا بالصدق والصبر، فإنّ الله ينزل بعد الصبر النصر» . خطبة يزيد بن قيس الأرحبى وخطب يزيد بن قيس الأرحبى، فقال بعد حمد الله:   [1] . س 61 الصف: 11. [2] . س 61 الصف: 4. [3] . ما بين [] تكملة من الطبري 6: 3290. [4] . س 33 الأحزاب: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 - «إنّ هؤلاء القوم، والله، لا يقاتلوننا [1] على إقامة دين رأونا ضيّعناه، وإحياء حقّ رأونا أمتناه، ولن يقاتلونا [2] إلّا على هذه الدنيا ليكونوا جبابرة فيها ملوكا. فلو ظهروا عليكم- ولا أراهم الله ذلك- لزموكم بمثل سعيد، والوليد، وعبد الله بن عامر السفيه الضالّ، يجيز أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجدّه، ثم يقول: «هذا لى، ولا إثم علىّ» ! كأنّما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه! وإنما هو مال الله أفاءه الله علينا. فقاتلوا- عباد الله- القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم، فإنّهم من عرفتم وخبرتم. والله ما ازدادوا إلى يومهم هذا إلّا شرّا.» ابن بديل ينتهى إلى قبة معاوية وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة حتى انتهى إلى قبّة معاوية. ثم إنّ الذين تبايعوا [585] على الموت، أقبلوا إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل. وبعث حبيب بن مسلمة في ميسرته، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس، فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلّا ابن بديل في مائتين إلى الثلاثمائة من القرّاء قد أسند بعضهم على بعض ظهره، وانجفل الناس. فأمر علىّ سهل بن حنيف، فاستقدم في من كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة إلى موقف علىّ في القلب، فمرّ علىّ ومعه بنوه نحو الميسرة. قال [3] : فوالله، إنّى لأرى النبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه واحد إلّا يقيه بنفسه، فيتقدّم فيحول بين اهل الشام وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين   [1] . في الأصل: لا يقاتلونا. [2] . في الأصل: لن يقاتلوننا. [3] . والقول لزيد بن وهب الجهني نقله أبو مخنف. أنظر الطبري (6: 3293) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 يديه أو من ورائه. فبصر به أحمر مولى أبى سفيان أو عثمان، فعرفه. فقال علىّ: «وربّ الكعبة، قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني.» كلام بين علىّ والحسن أثناء القتال فأقبل نحوه، وخرج إليه كيسان مولى علىّ، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى بنى أمية، وينتهزه علىّ، فتقع يده في جيب درعه، فجبذه، ثم حمله على عاتقه. فكأنى أنظر إلى رجليه تختلفان على عنق علىّ، ثم ضرب [586] به الأرض، فكسر منكبه وعضده، وشدّ ابنا علىّ: الحسين ومحمد عليه، فضرباه بأسيافهما، حتى إذا قتلاه، أقبلا إلى أبيهما والحسن قائم معه. قال له: «يا بنىّ، ما منعك أن تفعل كما يفعل أخواك؟» فقال: «كفيانى يا أمير المؤمنين!» ثم إن أهل الشام دنوا منه، فوالله ما يزيده قربهم منه سرعة في مشيه. فقال له الحسن: «ما ضرّك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوّك من أصحابك؟» فقال: «يا بنىّ، إنّ لأبيك يوما لا يعدوه، ولا يبطئ به السعى، ولا يعجل به اليه المشي، وإنّ أباك لا يبالى: وقع على الموت، أو وقع عليه الموت [1] .» مالك يحضّ المنهزمين على الصمود ولما أقبل علىّ نحو الميسرة، مرّ به الأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة. فقال له علىّ: «يا مال!» قال: «لبيك يا أمير المؤمنين!» قال: «ائت هؤلاء، فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لا تعجزونه، إلى   [1] . في الطبري (6: 3284) : «أو وقع الموت عليه» . والعبارة ساقطة من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الحياة التي لا تبقى لكم؟» فمضى، واستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات التي أمره علىّ بها. ثم قال: «إلىّ، أيها الناس إلىّ! أنا مالك بن الحارث..» ثم ظنّ أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: «أنا الأشتر، إلىّ، إلىّ!» فأقبلت طائفة إليه [587] وذهبت عنه طائفة، فقال: - «عضضتم بهَنِ آبائكم [1] ، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! يا أيها الناس، أخلصوا إلى مذحجا.» فأقبلت مذحج، فقال: - «عضضتم بصمّ الجندل، ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب، وأصحاب الغارات وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون [2] بثأرهم، ولا تطلّ دماؤهم، ولم تعرفوا في موطن بخسف، فأنتم حدّ أهل مصركم، وما تفعلوا في هذا اليوم فإنّه مأثور بعد اليوم، فاتقوا مأثور الحديث، واصدقوا عدوكم اللقاء، فإنّ الله مع الصادقين. فو الذي نفس مالك بيده، ما من هؤلاء- وأشار بيده إلى أهل الشام-[رجل] [3] على مثل جناح بعوضة من محمد- صلى الله عليه- إنكم ما أحسنتم القراع، فاجلوا سواد وجهى يرجع في وجهى دمى. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإنّ الله لو قد فضّه تبعه من بجانبيه كما تبع مؤخّر السيل مقدّمه.» قالوا: «خذ بنا حيث أحببت.» فصمد نحو عظمهم مما يلي الميمنة، وأخذ يزحف إليهم ويردّهم، ويستقبله   [1] . في بعض الأصول: بهن أمّكم. (الطبري 6: 3294) . وفي الحديث: «من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعضّوه بهن أبيه ولا تكنوا» . أى، قولوا له: «اعضض بأير أبيك» ، ولا تكنوا عن الأير بالهن تنكيلا وتأديبا له. (لع 7: 188 «عضض» ) . [2] . في الأصل: يسبقوا. [3] . تكملة عن الطبري (6: 3295) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 شباب من [588] همدان، وكانت همدان يومئذ ثمانمائة مقاتل. فانهزموا آخر الناس، وكانوا صبروا في الميمنة، حتى أصيب منهم مائة وثمانون رجلا، وقتل منهم أحد عشر رئيسا يتتابعون على الراية. فمرّوا بالأشتر وهم يقولون: - «ليت لنا عدّتنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم، فلا ننصرف حتى نقتل أو نظهر.» فقال لهم الأشتر: «إلىّ، أنا أخالفكم وأعاقدكم على أن لا نرجع أبدا حتى نظفر أو نهلك.» فأتوه، فوقفوا معه، وزحف الأشتر، وثاب [1] إليه الناس، وأخذ لا يصمد لكتيبة إلّا كشفها، وبيده صفيحة يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبّا، وإذا رفعها كاد يغشى البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول: - «الغمرات [2] ثم ينجلينا.» فبصر به الحارث بن جهمان والأشتر مقنّع في الحديد، فلم يعرفه. فدنا منه وقال: - «جزاك الله خيرا منذ اليوم عن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين.» فعرفه الأشتر فقال: «يا ابن جهمان، إنّ مثلك لا يتخلّف عن مثل مواطنى هذا [الذي أنا فيه] [3] .» فعرفه ابن جهمان لما تكلّم، وكان من أعظم الرجال وأطولهم، فقال له: - «جعلت فداك، لا والله، ما علمت بمكانك إلّا الساعة [589] ولا أفارقك حتى الموت.» ورآه منقذ وحمير ابنا قيس الناعطيّان.   [1] . مط: وباءت. [2] . «الغمرات» مرفوعة في الطبري (6: 3297) ومنصوبة في الأصل. [3] . تكملة من الطبري (6: 3297) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 فقال منقذ لحمير: «ما في العرب مثل هذا إن كان قتاله عن نيّة.» فقال له حمير: «وهل النيّة إلّا ما تراه يصنع.» قال: «إنّى أخاف أن يكون يحاول ملكا.» وحمل الأشتر في بعض حملاته، فكشف أهل الشام حتى ألحقهم بصفوف معاوية، وذلك بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل، وهو في عصبة من القرّاء بين المائتين إلى الثلاثمائة، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جثى، فكشف عنهم أهل الشام، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم. فقالوا: «ما فعل أمير المؤمنين؟» قالوا: «حىّ صالح يقاتل في الميسرة، ويقاتل الناس أمامه.» فقالوا: «والحمد لله، قد كنّا ظننّا أن قد هلك وهلكتم.» إبن بديل يعصى مالكا ويقتل وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: «استقدموا بنا، رحمكم الله!» فأرسل إليه الأشتر أن: «لا تفعل، أثبت للناس، وقاتل، فإنّه خير لهم، وأبقى لك ولأصحابك.» فعصاه ومضى كما هو نحو معاوية، وحوله كأمثال جبال الحديد، وفي يده سيفان، وقد خرج. فهو أمام أصحابه. فأخذ كلما دنا منه رجل قتله، حتى قتل تسعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس [590] من كلّ جانب، وأحيط به حتى قتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة قد خرجوا منهزمين. فبعث الأشتر ابن جهمان، فحمل على أهل الشام الذين يتّبعون من كان نجا من أصحاب ابن بديل، حتى نفّسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر. فقال لهم: - «ألم يكن رأيى خيرا لكم من رأيكم لأنفسكم؟ ألم آمركم أن تثبتوا مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 الناس؟» وكان معاوية لما رأى عبد الله بن بديل يضرب قدما، قال: - «أترونه كبش القوم!» فلما قتل أرسل إليه لينظر: من هو؟ فلم يعرفه أحد. فأقبل إليه حتى وقف عليه، فقال: - «بلى، هذا عبد الله بن بديل، هذا والله كما قال» : أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت يوما له الحرب شمّرا ثم إنّ الأشتر حمل حملة أزال أهل الشام عن موقفهم، حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقّلة بالعمائم حول معاوية، ثم شدّ عليهم شدّة أخرى، فصرع الصفوف الأربعة المعقّلين، حتى انتهوا إلى الخامس حول معاوية. فدعا معاوية بفرسه، فركبه. وكان يقول: - «أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة: [591] أبت لى عفّتى، وأبى بلائي [1] ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح [2] وإجشامى [3] على المكروه نفسي ... وإقدامى على البطل المشيح [4]   [1] . في الطبري: أبت لى عفّتى وحياء نفسي (6: 3300) . [2] . المصراع للبيت الثاني عند الطبري. [3] . في الطبري: وإعطائى على المكروه مالي. وعند الأصمعى: وإقدامى على المكروه نفسي! [4] . عند الأصمعى: وضربي هامة البطل المشيح. والمشيح: المجدّ. والمصراع للبيت الأول عند الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وقولي كلّما جشأت وجاشت [1] ... مكانك، تحمدي، أو تستريحي [2] فمنعني من الفرار.» [3] [1 بن 2] وإنّ عليّا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقفها ومصافّها، وكشفت من   [1] . عند الأصمعى: جاشت وجاشت. ولعلّه من أخطاء المطبعة أو الكاتب. [2] . وزاد الأصمعى بيتا آخر هو: لأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمى، بعد، عن عرض صحيح [3] . وزاد في الكامل (3: 303) : «ونظر إلىّ عمرو وقال: اليوم صبر، وغدا فخر. فقلت: صدقت.» وهذه الزيادة ليست لا في الأصل ولا في الطبري. نهاية الجزء الأوّل حسب تجزئة مخطوطة أيا صوفيا إلى هنا (أى إلى نهاية قوله: «فمعنى من الفرار.» ينتهى الجزء الأول من أجزاء تجارب الأمم الستّة، حسب تجزئة مخطوطة أيا صوفيا (الأصل) . ولما لم تكن التجزئة منطقيّة، أضفنا إلى الجزء الأول 43 صفحة من صفحات الجزء الثاني، ليكتمل بذلك، هذا الفصل الذي أصبح مبتورا بتلك التجزئة. وأما عبارات الإتمام والفراغ التي سجّلت في نهاية الجزء الأول من المخطوطة، فنثبتها في ما يلي، ليكون ما هو بين يدي القارئ مطابقا تماما للأصل الذي اعتمدنا عليه: «تمت المجلدة الأولى من كتاب تعاقب الهمم وتجارب الأمم، والحمد لله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلواته على محمد وآله أجمعين. ويتلوه في المجلدة الثانية: وإنّ عليّا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقفها ومصافّها، وكشفت من بإزائها أقبل حتى انتهى إليهم. الحمد لله ربّ العالمين، حمد الشاكرين، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم.» «فرغ من انتساخه محمد بن علىّ بن محمد أبو طاهر البلخي في الربيع الأول سنة خمس وخمسمائة [505 هـ] والحمد لله كثيرا.» «فرغ من انتساخه محمد بن الحسن بخطّه في ذى الحجة سنة ... » [هنا كلمة لا تقرأ] . ونتيجة لهذا، ننقل البسملة وعبارات الحمد والتصلية التي جاءت في أول الجزء الثاني للمخطوطة، إلى الحاشية لئلّا تخلّ بالسياق، وهي: «بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين، حمد الشاكرين، وصلواته على محمد النبىّ، وآله الطاهرين.» (أنظر تصديرنا لهذه النشرة.) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 بإزائها، أقبل حتى انتهى إليهم، فقال: - «إنّى قد رأيت جولتكم، وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام [1] ، وأعراب الشام، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمّار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضلّ الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكرّكم بعد انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولّى يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين، ولكن هوّن وجدي، وشفى بعض أحاح [2] نفسي أنّى رأيتكم بأخرة حزتموهم [3] ، كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافّهم كما أزالوكم، تحسّونهم [4] بالسيوف، يركب أولاهم أخراهم، كالإبل المطرودة إليهم. فالآن، فاصبروا، نزلت عليكم السكينة وثبّتكم الله باليقين وإنّ الفارّ لا يزيد في عمره ولا يرضى ربّه، [3] فموت المرء محقّا قبل موجدة [5] الله، والذلّ اللازم، والعار الباقي، واغتصاب الفيء من يده، وفساد العيش، خير من الرضا بالتأنيس [6] لهذه الخصال، والإقرار عليها.» فصبر القوم، وقتل الفرسان من الجانبين. فقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر، وتنادت ربيعة- حيث انتهى إليها علىّ- بينها: - «إن أصيب علىّ فيكم، وقد لجأ إليكم، افتضحتم آخر الدهر، وتشاءم بكم المسلمون.» وقال لهم شقيق بن ثور: - «يا معشر ربيعة، لا عذر لكم في العرب إن وصل إلى علىّ فيكم ومنكم   [1] . في مط: يحوزكم الجفاء الطعام! وفي الطبري (6: 3301) : الطغاة الجفاة. والطغام (للواحد والجمع) : أوغاد الناس. [2] . الأحاح: العطش، الغيظ. [3] . حزتموهم: سقتموهم. [4] . تحسّونهم: تقتلونهم باستئصال رؤوسهم، تبيدونهم. وفي مط: تحثونهم! [5] . الموجدة: الغضب. [6] . التأنيس: مهملة في الأصل ومط، فأعجمناها حسب الطبري (6: 3301) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 رجل حىّ.» فقاتل القوم قتالا شديدا حين جاءهم علىّ، لم يكونوا قاتلوا مثلها. ففي ذلك قال علىّ عليه السلام: لمن راية سوداء يخفق ظلّها ... إذا قيل: قدّمها حضين، تقدّما يقدّمها في الموت حتى يردّها [1] ... حياض المنايا تقطر الموت والدّما أذقنا ابن هند ضربنا وطعاننا ... بأرماحنا حتّى تولّى وأحجما جز الله قوما قاتلوا [2] في لقائهم ... لدى الموت، قوما ما أعفّ وأكرما [3] [4] مّتل عمّار بن ياسر قال: وسمعت عمارا يقول: - «والله، إنّى لأرى قوما يضربونكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وأيم الله، لو ضربونا حتى يبلّغونا سعفات هجر [4] ، لعلمنا أنّا على الحقّ، وأنّهم على الباطل.» ثم حمل حتى وصل إلى عمرو بن العاص، فقال له:   [1] . كذا في الأصل ومط: يردّها، وفي الطبري (6: 3316) : يزيرها. [2] . في هامش الأصل: «صابروا» . [3] . ويضيف الطبري بيتين، هما: وأطيب أعبارا، وأكرم شيمة إذا كان أصوات الرّجال تغمغما ربيعة أعنى، إنهم أهل نجدة وبأس، إذا لاقوا جسيما عرمرما تجد الأبيات في الديوان المنسوب إلى الإمام على (ع) ثلاثة عشر بيتا ( «ديوان الإمام على (ع) » تحقيق وترجمة الدكتور أبو القاسم إمامى، ص 566) . [4] . هجر: مدينة، وهي قاعدة البحرين، وربما قيل: «الهجر» بالألف واللام، وقيل ناحية البحرين كلها، وهو الصواب (ياقوت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 - «لقد قاتلت هذه الراية ثلاثا مع رسول الله- صلى الله عليه- وهذه الرابعة، ما هي بأبّر ولا أتقى.» قال: ورأيت عمارا جاء إلى هاشم بن عتبة، وهو صاحب راية علىّ، فقال: - «يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، اليوم، ألقى الأحبة، محمدا وحزبه.» فحملا، ولم يرجعا. ولما قتل عمار، قال علىّ لربيعة وهمدان: - «أنتم درعي ورمحي.» فانتدب له نحو من اثنى عشر ألفا، وتقدّمهم علىّ على بغلته، فحمل وحملوا معه، حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلّا انتقض، وقتلوا كلّ من انتهى إليه، حتى بلغوا معاوية. علىّ يبارز معاوية ثم نادى علىّ معاوية: - «يا معاوية، لم تقتل الناس بيننا؟ هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور.» فقال له عمرو: - «أنصفك الرجل.» فقال معاوية: - «ما أنصفت، وإنّك [5] لتعلم أنه لم يبارزه أحد قطّ إلّا قتله.» فقال عمرو: - «ما يجمل بك إلّا مبارزته.» قال معاوية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 - «طمعت فيها بعدي.» ما دبّره علىّ لإزالة كتيبة ومرّ علىّ بكتيبة فرءاهم لا يزولون. فحرّض عليهم وقال: - «إنّ هؤلاء لا يزولون [1] إلّا بضرب دراك [2] يفلق الهام، ويطيح العظام، وتسقط منه المعاصم والأكفّ، وحتى تصدع جباههم بعمد الحديد، وتنتثر حواجبهم على الصدور. أين أهل الصبر وطلّاب الأجر؟» فثابت [3] إليه عصابة. فدعا ابنه محمدا، فقال: - «امش نحو أهل هذه الراية مشيا رويدا على هينتك [4] ، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح، فأمسك حتى يأتيك أمرى.» ففعل، وأعدّ علىّ مثلهم. فلما دنا منهم محمد، فأشرع الرماح في صدورهم، أمر علىّ الذين أعدّهم، فشدّوا عليهم، فنهض محمد بمن معهم في وجوههم، فزالوا عن مواقفهم، وأصابوا منهم. ثم اقتتلوا بعد المغرب قتالا شديدا. فما صلّى أكثر الناس إلّا إيماء. العالي من جعل المعركة خلف ظهره وقتل عبد الله بن كعب المرادىّ. فمرّ به الأسود بن قيس المرادىّ، فقال: - «يا أسود!» فقال: «لبيك.» وعرفه، وكان بآخر رمق. فقال:   [1] . في مط: لا يزلون. [2] . والضبط في الطبري (6: 3327) : بضرب دراك. والدراك: المتلاحق والمتصل. [3] . ثابت: ربما يكون ما في الأصل: تابت، وما في مط: ثابت، وكلاهما بمعنى واحد: رجعت. [4] . كذا في الأصل والطبري: على هينتك، وما في مط: هيبتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 - «عزّ [6] علىّ بمصرعك [1] . أما والله، لو شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك.» ثم نزل إليه وقال: - «أما والله، إن كان جارك، ليأمن بوائقك. ولقد [2] كنت من الذاكرين الله كثيرا، أوصنى- رحمك الله.» فقال: - «أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المحلّين حتى يظهر أو تلحق بالله. وأبلغه عنى السلام، وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنّه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره، كان العالي.» ثم لم يلبث أن مات. فأقبل الأسود إلى علىّ، فأخبره، فقال: - «رحمه الله، جاهد فينا عدوّنا في الحياة، ونصح لنا في الوفاة.» واقتتل الناس تلك الليلة كلها حتى الصباح- وهي ليلة الهرير- حتى تقصّفت الرماح، ونفد [3] النبل، وصار الناس إلى السيوف، وأخذ علىّ يسير في ما بين الميمنة والميسرة، ويأمر كلّ كتيبة من القرّاء [4] أن تقدم على التي تليها، ولم يزل يفعل ذلك ويقوم بهم، حتى إذا أصبح كانت المعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في ميمنة الناس، وابن عباس في الميسرة، وعلىّ في القلب، والناس يقتتلون من كلّ جانب، وذلك يوم الجمعة.   [1] . كذا في الطبري (6: 3326) : بمصرعك، وفي هامش الطبري: لمصرعك، وفي مط: مصرعك. [2] . في الطبري: وإن كنت. في مط: لقد كنت، كما في الأصل. [3] . في الأصل: نفذ، وما ضبطناه من مط والطبري 6: 3327. [4] . مط: القرى. وما في الأصل يؤيده الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 الظفر يلوح للأشتر ومعاوية يلتمس حيلة وكان علىّ يراسل الأشتر ويرفده، وكان الأشتر [7] تولّى القتال عشيّة الخميس وليلة الجمعة كلّها ويوم الجمعة إلى ارتفاع النهار، وقد كلّ الناس، وأخذ يقول لأصحابه: - «ازحفوا قيد هذا الرمح.» وزحف بهم نحو أهل الشام. فإذا فعلوا، قال: - «ازحفوا قاب [1] هذا القوس.» فإذا فعلوا، سألهم مثل ذلك، حتى ملّ الناس الإقدام. فلما رأى الأشتر ذلك، قال: - «أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم.» ثم دعا بفرسه، وترك رايته مع حيّان بن هوذة [2] ، وخرج يسير في الكتائب ويقول: - «من يشرى نفسه لله ويقاتل مع الأشتر، حتى يظهر، أو يلحق بالله؟» فلا يزال [3] رجل من [4] الناس قد خرج إليه وحيّان بن هوذة واقف بالراية، فلما اجتمع إليه ناس كثير، أقبل حتى رجع إلى المكان الذي كان فيه من الميمنة. ثم قال لأصحابه: - «شدّة- فدى لكم عمّى وخالي- ترضون بها الربّ، وتعزّون بها الدين، إذا شددت، فشدّوا.»   [1] . القاب: المقدار. أو ما بين المقبض والسئة من القوس. [2] . في مط: حبان، وما في الأصل يطابق الطبري (6: 3328) . [3] . فلا يزال: الضبط في الأصل «يزال» بفتح الياء، وما في الطبري مضبوط بضم الياء: يزال. [4] . «من» سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 ثم نزل فضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته: - «أقدم بها.» ثم شدّ على القوم شدّة، وشدّ معه أصحابه. فضرب أهل الشام حتى انتهى إلى عسكرهم. ثم قاتلوه عند العسكر قتالا شديدا، فقتل صاحب رايته، ولاح له الظفر بما اضطرب من صفوف [8] معاوية. ونظر علىّ، فرأى الظفر من قبله، فأخذ يمدّه بالرجال. فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص، فقال: - «أما ترى أهل العراق قد استعلوا؟» فقال عمرو: «هذا الهلاك. فهلمّ حيلة.» قال: «قل، ما عندك.» ذكر مكيدة عمرو بن العاص قال: «قد رأيت أمرا إن قبلته لا يزيدنا إلّا اجتماعا، ولا يزيدهم إلّا فرقة.» قال: «نعم.» قال: «نرفع المصاحف على الرماح، ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم. فإن أبى بعضهم إلّا القتال، وجدت فيهم من يقول: لا نقاتل حتى ننظر ما يحكم القرآن. فتقع بينهم الفرقة، فإن قالوا بأجمعهم: نقبل حكم القرآن، رفعنا هذه الحرب، ودافعناها [1] إلى أجل وحين.» فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: - «عباد الله! هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهل الشام، من لثغور العراق بعد أهل العراق؟»   [1] . ما في الأصل ومط: «دافعناه» بتذكير ضمير المفعول، فأنثنا الضمير لأنه يرجع إلى «الحرب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 فلما رأى الناس المصاحف، وسمعوا هذا الكلام، رقّت قلوبهم، وقد كان مسّهم النصب والملال. فقالوا: - «نجيب إلى كتاب الله.» فلما رأى علىّ الفتور في أصحابه بعد الجدّ، صاح بهم: - «عباد الله، امضوا على حقّكم، وصدقكم، وقتال عدوّكم. فإنّه معاوية، [9] وعمرو بن العاص، وابن أبى سرح، والضحّاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين وقرآن. أنا أعرف بهم منكم، وصحبتهم أطفالا ورجالا. ويحكم! والله [1] ، إنهم ما رفعوا المصاحف. إنهم لا يعرفونها، ولا يعلمون ما فيها، وما رفعوها إلّا خديعة ومكيدة حين علوتموهم.» فقالوا: - «ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله، فنأبى أن نقبله.» فقال لهم علىّ: - «ويحكم! فإنّى إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الله، ويعملوا بالقرآن، فإنّهم قد عصوا الله في ما أمرهم، ونبذوا كتابه، ونسوا عهده.» القرّاء يهدّدون عليّا ويطالبون ترك القتال فقال له مسعر بن فدكي [2] ، وزيد بن حصن الطائي، ثم السّنبسىّ [3] في عصابة معهما من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: - «يا علىّ، أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلّا دفعناك برمّتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفّان. والله، لتفعلنّها، أو لنفعلنّها بك.»   [1] . والله: الواو في «والله» سقطت من مط. [2] . في مط: معر بن فدلى، والضبط في الطبري (6: 3330) فدكي. [3] . في مط: البنسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 قال: «فاحفظوا عنّى مقالي، فإنّى آمركم بالقتال، وإن تعصوني، فافعلوا ما بدا لكم.» قالوا له: «فابعث إلى الأشتر! إمّا لا [1] ، فليأتك.» فأمسك علىّ. فنزل قوم فأحدقوا به. فبعث إلى الأشتر يزيد بن هانئ السبيعي: أن ائتني. [10] فذهب، فأبلغه. فقال: «ائته، فقل له: ليس هذه، الساعة، التي ينبغي أن تزيلني فيها عن موقفي. إنّى قد رجوت أن يفتح الله لى، فلا تعجلني.» قال: فرجع يزيد بن هانئ إلى علىّ، فأخبره. فما هو إلّا أن انتهى إلينا، فارتفع الرهج [2] ، وعلت الأصوات من قبل الأشتر. فقال له القوم: «والله ما نراك إلّا أمرته أن يقاتل.» فقال علىّ: «من أين ينبغي أن تروا ذلك؟ رأيتمونى ساررته؟ أليس إنّما كلّمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟» قالوا: «فابعث إليه بعزيمتك فليأتك، وإلّا- والله- اعتزلناك.» قال: «ويحك يا يزيد! عد إليه فقل له: أقبل [3] إلينا، فإنّ الفتنة قد وقعت.» فأتاه، فقال له ذلك. فقال الأشتر: - «ألرفع المصاحف؟» قال: «نعم، أما الله، لقد ظننت حين رفعت، أنها ستوقع اختلافا وفرقة. إنّها مشورة ابن العاهرة. ألا ترى أنّ الفتح قد وقع؟ ألا ترى إلى ما صنع الله لنا؟ أينبغى أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم؟»   [1] . كذا في الأصل والطبري، وما في مط: أمثالا! [2] . الرهج: الشغب، الفتنة، الجلبة، الشرّ. [3] . أقبل: الكلمة مطموسة في الأصل، فأثبتناها كما في مط والطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 قال يزيد بن هانئ: «أتحبّ أنك قد ظهرت هاهنا وأمير المؤمنين يقتل بمكانه، أو يسلّم إلى عدوّه؟» فقال: «لا والله، سبحان الله!» [11] قال: «فإنّهم قد قالوا: لترسلنّ إلى الأشتر، فليأتك، أو لنقتلنّك كما قتلنا ابن عفّان.» مالك يضع القتال ويقبل، بعد أن رأى النصر فأقبل معى الأشتر حتى انتهى إليهم، فقال: - «يا أهل العراق، يا أهل الذلّ والوهن! أحين علوتم القوم ظفرا، وظنّوا أنّكم [1] لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وقد- والله- تركوا ما أمر الله به فيها، وسنّه من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، يا قوم، أمهلونى عدو الفرس، فإنّى قد رأيت النصر.» قالوا: «إذا ندخل معك في خطيئتك.» قال: «فحدّثونى عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقّين؟: أحين كنتم تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون، أم الآن أنتم محقّون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم، في النار إذا!» قالوا: «دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في الله، وندع قتالهم لله. إنّا لسنا مطيعيك ولا صاحبك [2] ، فاجتنبنا.» فقال: «خدعتم والله، وانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب بعد أن غلبتم، فأجبتم. يا أصحاب الجباه السود، كنّا نظنّ صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقا إلى   [1] . في الأصل: بكم، وما أثبتناه من الطبري (6: 3331) . [2] . كذا في الأصل، ولعلّه: ولا مطيعي صاحبك. في مط: لسنا بطاعتك ولا صاحبك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 لقاء الله! فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت. ألا [12] قبحا [1] لكم. يا أشباه النيب [2] الجلّالة! ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا. فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.» فسبّوه، وسبّهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وأقبل يضرب وجوه دوابهم بسوطه، وصاح بهم علىّ، فكفّوا [3] . قبول الناس التحكيم، واستعلام معاوية وتنادى الناس: - «قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبين هؤلاء القوم حكما.» فجاء الأشعث بن قيس إلى علىّ وقال: - «ما أرى الناس إلّا قد رضوا، وسرّهم أن تجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن. فإن شئت أتيت معاوية فاستعلمته ما يريد، فنظرت فيه.» قال: «ائته إن شئت، فسله.» فأتاه وقال: «يا معاوية، لأىّ شيء رفعتم المصاحف؟» قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله فيها، تبعثون منكم رجلا ترضون به، ونبعث منّا رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع جميعا ما اتفقا عليه.» فقال له الأشعث: «هذا الحقّ.» ثم انصرف إلى علىّ بما قال معاوية. فقال الناس: «قد رضينا وقبلنا.»   [1] . قبحا: كذا في الأصل والطبري (6: 3332) ، في مط: فتحا وهو خطأ. [2] . النيب: جمع مفرده: الناب: الناقة المسنّة. والجلّالة: من الماشية: التي تأكل العذرة والجلّة، (أى: البعر والروث) . [3] . فكفّوا: ما في الأصل غير واضح، وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 قال أهل الشام: - «فإنّا قد اخترنا عمرو بن العاص.» وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج [13] بعد: - «فإنّا قد رضينا بأبى موسى الأشعرى.» علىّ لا يرضى بأبى موسى والناس يأبون إلّا إيّاه قال علىّ: «فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر، فلا تعصوني الآن. إنّى لا أرى أن أولّى أبا موسى.» قال الأشعث وزيد بن حصن الطائي ومسعر بن فدكي [1] : - «لا نرضى إلّا به، فإنّه قد كان يحذّرنا ما وقعنا فيه.» قال علىّ: «فإنه ليس لى بثقة، قد فارقنى، وخذّل الناس عنّى، ثم هرب منّى حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس، أولّيه ذلك.» قالوا: «والله ما نبالى: أنت كنت، أم ابن عباس. ما نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء.» قال علىّ: «فإنّى أجعله الأشتر.» فقال الأشعث: «وهل سعّر الأرض غير الأشتر، وهل نحن إلّا في حكم الأشتر؟» قال علىّ: «وما حكمه؟» قال: «أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت.» قال: «فقد أبيتم إلّا أبا موسى.» قالوا: «نعم.»   [1] . في مط: فدلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 قال: «فاصنعوا ما بدا لكم.» فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو يعرّض [1] . وأقبل الأشتر حتى جاء إلى علىّ فقال له: - «ألزّنى [2] بعمرو بن العاص، فوالله الذي لا إله إلّا هو، لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه.» وجاء الأحنف بن قيس، فقال: - «يا أمير المؤمنين، إنّك رميت بحجر الأرض، [14] وبمن حارب الله ورسوله أنف الإسلام، وهذا الرجل- يعنى أبا موسى- قد عجمته وحلبت [3] أشطره، فوجدته كليل [4] الشفرة [5] ، قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلّا رجل يدنو منهم، حتى يصير في أكفّهم، ويبعد، حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكما، فاجعلني ثانيا، أو ثالثا، فإنّه لن يعتقد عقدة إلّا حللتها، ولن يحلّ عقدة إلّا عقدت لك أخرى أحكم منها.» فأبى الناس إلّا أبا موسى. فقال الأحنف: «فإن أبيتم إلّا أبا موسى فادفئوا ظهره بالرجال.» ثم كتبوا: «هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين.» فقال عمرو: «اكتبوا اسمه واسم أبيه. هو أميركم، فأما أميرنا، فلا.»   [1] . في الأصل: يعرّض، وفي مط، يعرض، وما في الطبري (6: 3334) : بعرض. وعرض، بضم أوله، وسكون ثانيه: بلد في بريّة الشام، من أعمال حلب، بين تدمر والرصافة (مع) . [2] . ألزّ الشيء بالشيء: ألصقه، شدّه، قرنه به. [3] . حلب أشطره: جرّب أموره: خيرها وشرّها. [4] . كليل: ما في الأصل غير واضح، وما أثبتناه يؤيده الطبري ومط. [5] . في مط: الشفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 ذكر رأى للأحنف فقال الأحنف: «لا تمح اسم أمارة أمير المؤمنين، فإنّى أتخوّف إن محوتها، لا ترجع إليك، وإن قتل الناس بعضهم بعضا.» فأبى علىّ مليّا من النهار. ثم إنّ أشعث بن قيس قال: «امح هذا الإسم، نزحه الله [1] .» فمحى، فقال علىّ: - «الله أكبر، سنّة بسنّة، ومثل بمثل، والله، إنّى لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة، إذ قالوا: لا نشهد لك [15] أنك رسول الله، فامح هذا، واكتب اسمك واسم أبيك. فكتبه.» فقال عمرو بن العاص: «نشبّه بالكفار ونحن مؤمنون.» فقال له علىّ: «يا ابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليّا، وللمسلمين عدوّا، وهل تشبه إلّا أمّا دفعت بك؟» فقام وقال: «لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا بعد هذا اليوم.» فقال علىّ: «وإنّى لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك ومن أشباهك.» فقال الأحنف: - «أيها الرجل، إنّه ما لك ما كان لرسول الله، وإنّا- والله- ما حابيناك ببيعتنا، ولو علمنا أحدا من الناس أحقّ بهذا الأمر منك لبايعناه، ثم قاتلناك، وإنّى أقسم بالله، لئن محوت هذا الإسم عنك، والذي بايعك الناس عليه وقاتلتهم، لا يعود إليك أبدا.» قال الحسن البصرىّ:   [1] . نزحه الله: كذا في الأصل ومط، وفي الطبري (6: 3335) : برّحه الله. وفي حواشيه: ترحه الله! نزحه الله، أى: أبعده، وبرّحه الله: أزاله الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وكان والله كما قال، وقلّ ما وزن رأيه برأى رجل إلّا رجح به. مالك يأبى أن يخطّ اسمه في صحيفة التحكيم وكتب الكتاب [1] ، وشهد فيه نفر من أصحاب علىّ ونفر من أصحاب معاوية. ودعى له الأشتر، فقال: - «لا صحبتني يميني، ولا نفعتني شمالي إن خطّ لى في هذه الصحيفة اسم على صلح، ولا موادعة. [16] أو لست على بيّنة من أمرى، ومن ضلال عدوّى؟ أولستم قد رأيتم الظفر، لو لم تجمعوا على الجور؟» فقال له الأشعث بن قيس: - «إنك والله ما رأيت ظفرا، ولا جورا. هلمّ بك إلينا، فإنّه لا رغبة لك عنّا.» فقال: «بلى والله، الرغبة لى [2] عنك في الدنيا للدنيا، وفي الآخرة للآخرة. ولقد سفك الله بيدي دماء رجال ما أنت عندي خير منهم، ولا أحرم دما.» قال عمارة: فنظرت إلى ذلك الرجل، وكأنما قصع على أنفه الحمم- يعنى الأشعث. ثم خرج الأشعث بالكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم، حتى مرّ به عروة بن أذيّه [3]- وهو أخو بلال [4]- فقرأه عليهم. فقال عروة: «تحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم إلّا لله.» وشدّ بسيفه، فضرب عجز دابته ضربة خفيفة، واندفعت الدابة. فصاح به أصحابه: أن املك يديك. فرجع، وغضب للأشعث أصحابه وقومه. فمشى إليه   [1] . نصّ الكتاب تجده في الطبري (6: 3336) تحت عنوان: «رجع الحديث إلى حديث أبى مخنف.» [2] . في الأصل: غير واضح، ويشبه أن يكون: الرغبة بى، وفي مط: الرغبة لى: وفي الطبري: لرغبة بى. [3] . عروة بن أذيّه: كذا في الأصل ومط. وفي الطبري (6: 3339) : عروة بن أديّة، بالدال المهملة. [4] . وهو أخو بلال: كذا في الأصل ومط، وما في الأصل: أخو أبى بلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 الأحنف بن قيس، ومسعود بن فدكي [1] ، وخلق من بنى تميم، فتنصّلوا إليه واعتذروا. فقبل، وصفح. ذكر خديعة أجازها معاوية على نفسه وتمّت له [17] وكان أسر معاوية في أسارى كثيرين، رجلا من أود، يقال له: عمرو بن أوس، قاتل مع علىّ، فهمّ بقتل الجميع. فقال له عمرو بن أوس: «إنّك خالي، فلا تقتلني.» وقامت بنو أود، فقالوا: «هب لنا أخانا.» فقال: «دعوه. لعمري، لئن كان صادقا، ليستغنينّ عن شفاعتكم، ولئن كان كاذبا لتأتينّ شفاعتكم من ورائه.» فقال له: «من أين صرت خالك، وما كان بيننا وبين أود مصاهرة؟» قال: «فإن أخبرتك [2] ، فهو أمانى عندك؟» قال: «نعم.» قال: «ألست تعلم أنّ أمّ حبيبة بنت أبى سفيان زوج النبىّ- صلى الله عليه- أمّ المؤمنين؟» قال: «بلى.» قال: «فإنّى ابنها، وأنت أخوها، فأنت خالي.» قال معاوية: «ماله لله أبوه، أما كان في هؤلاء، من يفطن لها غيره؟» ثم قال للأوديّين: - «استغنى عن شفاعتكم، فخلّوا سبيله» .   [1] . مسعود بن مذكى: كذا في الأصل ومط، وما في الطبري مسعر بن فدكىّ (نفس الصفحة) . [2] . فإن أخبرتك فهو أمانى عندك. كذا في الأصل ومط، وما في الطبري: فإن أخبرتك، فعرفته، فهو أمانى عندك. (نفس الصفحة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وتمّت لمعاوية، وخوطب: «خال المؤمنين.» وكان عمرو بن العاص أسر أيضا أسارى كثيرة، فراسله معاوية: - «خلّ سبيل أسرائك، فلولا الأودىّ لوقعنا في قبيح من الأمور.» فما شعر الناس إلّا بأسرائهم قد خلّى سبيلهم. ما قاله علىّ لأصحابه فأما علىّ بن أبى طالب فإنّه قال لأصحابه: - «لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة، وأسقطت [18] منّة [1] ، وأورثت وهنا وذلّة. ولما كنتم الأعلين، وخاب عدوكم، ورأى الاجتياح، واستحرّ بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفتؤوكم عنها، ويقطعوا الحرب في ما بينكم وبينهم، ويتربّصوا ريب المنون، خديعة، ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألوكموه، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتجوروا [2] . وأيم الله، ما أظنّكم بعدها توافقون رشدا، ولا تصيبون باب حزم.» [3] ذكر حيلة للمغيرة بن شعبة ليعلم: أيجتمع الحكمان، أم يفترقان كان الحكمان- وهما أبو موسى وعمرو بن العاص، اتفقا على أن يجتمعا   [1] . المنّة: القوّة. [2] . تجوروا: كذا في الأصل ومط، وما في الطبري (6: 3340) : تجوّزوا. وفي حواشيه عن الأصول الأخرى: «تدهنوا وتجيروا» ، «تذهبوا وتحيروا» (مهملة) . [3] . ولابن الأثير زيادة في أول هذه الرواية. ومن زيادته بيت أنشده علىّ ضمن كلامه قائلا: وكنت كما قال أخو هوازن: وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت غويت، وإن ترشد غزيّة أرشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 بأذرح [1] ويحضر وجوه أصحاب علىّ، ووجوه أصحاب معاوية، ويحضر علىّ ومعاوية في أربعمائة، ومدّة الأجل إلى أن يفصلا الحكم، ويرفعا ما رفع القرآن، وأن يختارا لأمّة محمد- صلى الله عليه- في ثمانية أشهر، أوّلها النصف من صفر، وآخرها انقضاء شهر رمضان. فلما اجتمع الحكمان، وافاهم المغيرة بن شعبة في من حضر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، في رجال كثير [19] ووافى معاوية في العدّة المذكورة، وأبى علىّ أن يوافى. فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوى الرأى من قريش: - «هل ترون أحدا من الناس برأى يبتدعه، يستطيع أن يعلم: أيجتمع الحكمان، أم يفترقان؟» قالوا: «لا نرى أحدا يعلم ذلك.» قال: «فوالله، إنّى لأظنّ، [أنّى] [2] سأعلمه منهما، [حين] [3] أخلو بهما، وأراجعهما.» فدخل على عمرو بن العاص، وبدأ فقال: - «يا أبا عبد الله، أخبرنى عما أسألك عنه: كيف ترانا معشر المعتزلة؟ فإنّا قد شككنا في الأمر الذي تبيّن لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأنى ونثبّت، حتى تجتمع الأمة.» قال: «أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار في سخط الله.» فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. حتى دخل على أبى موسى، فقال له مثل ما قال لعمرو.   [1] . أذرح: بالذال المعجمة والحاء المهملة، اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة (ياقوت) . [2] . في الأصل: بل. وما أثبتناه بين المعقوفتين من مط. [3] . في الأصل: حتى. وما أثبتناه بين المعقوفتين من الطبري 6: 3342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فقال أبو موسى: «أراكم أثبت الناس رأيا، فيكم بقية [1] المسلمين.» فانصرف المغيرة، ولم يسأله عن غير ذلك. فلقى الذين قال لهم ما قال، من ذوى الرأى من قريش، فقال: - «لا يجتمع هذان أبدا على أمر واحد.» فلما اجتمع الحكمان وتكلّما [20] قال عمرو بن العاص: - «يا با موسى [2] ، أرأيت أول ما تقضى به من الحقّ أن تقضى لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم.» قال أبو موسى: «وما ذاك؟» قال عمرو: «ألست تعلم أنّ معاوية وفي، وقدم للموعد الذي واعدناه؟» قال: «نعم.» قال: «أكتبها.» فكتبها أبو موسى. ذكر الخديعة التي خدع بها عمرو أبا موسى قال عمرو: - «يا با موسى، أنت على أن تسمّى رجلا يلي أمر هذه الأمة، فسمّ لى، فإنّى أقدر أن أتابعك، منك، على أن تتابعني. [3] » قال أبو موسى: - «أسمّى لك عبد الله بن عمر.» وكان ابن عمر في من اعتزله.   [1] . كذا في الأصل ومط والطبري (نفس الصفحة) : بقيّة المسلمين، وفي حواشي الطبري عن بعض الأصول: بغية المسلمين. [2] . كذا: «يا با موسى» . [3] . فإنّى أقدر ... أن تتابعني: كذا في الأصل، وفي مط: فإنّى أقدر أن نبايعك، منك على أن تبايعنى. والعبارة في الطبري (6: 3342) : فإن أقدر على أن أتابعك، فلك علىّ أن أتابعك، وإلّا، فلي عليك أن تتابعني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فقال عمرو: - «فأنا أسمّى لك معاوية بن أبى سفيان.» [1] رواية أخرى في ذلك وفي رواية أخرى: أنّ عمرا قال لأبى موسى: - «ألست تعلم أنّ عثمان قتل مظلوما؟» قال: «أشهد.» قال: «ألست تعلم أنّ معاوية ولىّ دم عثمان؟» فقال: «بلى.» قال: «فإنّ الله قال: ومن قتل مظلوما، فقد جعلنا لوليّه سلطانا.» [2] فما يمنعك من معاوية ولىّ دم عثمان، وهو من عرفت بيته في قريش، وهو الحسن السياسة، الصحيح التدبير، وهو أخو أمّ حبيبة، أمّ المؤمنين، وهو أحد الصحابة وكاتب الوحى.» فقال له أبو موسى: «أما ذكرت من شرفه وبيته، فإنّ [21] هذا الأمر ليس بالشرف يولّاه أهله، ولو كان بالشرف، كان لآل أبرهة بن الصباح، إنما هو لأجل الدين والفضل.»   [1] . هنا، زاد في الطبري: فلم يبرحا مجلسهما حتى استبّا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: - «إنّى وجدت مثل عمرو، مثل الذين قال الله عزّ وجلّ: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها.» [س 7 الأعراف، 174] فلما سكت أبو موسى، تكلّم عمرو، فقال: - «أيها الناس، إنى وجدت مثل أبى موسى، كمثل الذين قال الله عزّ وجلّ: «مثل الّذين حمّلوا التّوراة، ثمّ لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفارا.» [س 62 الجمعة: 5] وكتب كلّ واحد منهما، مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار. (أنظر الطبري 6: 3343) . [2] . س 17 الإسراء: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 قال: «فاخلع صاحبك، حتى أخلع صاحبي، ثم نتّفق.» فاجتمعا على ذلك، وخرجا إلى الناس، وقالا: - قد اتّفقنا. فقال أبو موسى لعمرو: «تقدّم، فاخلع صاحبك بحضرة الناس.» فقال عمرو: «سبحان الله! أتقدّم عليك وأنت في موضعك وسنّك وفضلك؟ تقدّم أنت.» فقدّمه، فقال أبو موسى: - «إنّا- والله، أيها الناس- قد اجتهدنا رأينا، ولم نأل [1] الإسلام وأهله خيرا، ولم نر أصلح لهذه الأمة من خلع هذين الرجلين، وقد خلعت عليّا ومعاوية كخلع خاتمي هذا.» فقام عمرو، فقال: - «لكنّى خلعت صاحبه عليّا كما خلع، وأثبتّ معاوية.» فلم يبرحا حتى استبّا. ذكر من خالف علىّ بن أبى طالب في رأيه، وأشار بالحرب عليه، وما كان من جوابه واعتذاره لما انصرف علىّ بن أبى طالب من صفّين، كثر خوض الناس، وخالفه القوم الذين صاروا خوارج، وكانوا طول طريقهم يتدافعون، ويتضاربون بالسياط. فلما صاروا إلى النّخيلة [2] ورأوا سور الكوفة لقيه عبد الله بن وديعة الأنصارى، ودنا منه، وسلّم عليه، وسايره، [22] فقال له: - «ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟»   [1] . لم نأل: لم نعط. وذلك من قولهم: «ألا (يألو، ألوا وأليّا) فلانا الشيء: أعطاه إيّاه» . [2] . النخيلة (تصغير نخلة) : موضع قرب الكوفة على سمت الشام (مع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 قال: - «منهم المعجب به، ومنهم الكاره له، كما قال الله عزّ وجلّ: ولا يزالون مختلفين، إلّا من رحم ربّك. [1] » فقال له: «فما قول ذى الرأى فيه.» فقال: «أما قول ذى الرأى فيه، فيقولون: إنّ عليّا كان له جمع عظيم ففرّقه، وكان له حصن حصين فهدمه. فحتى متى يبنى ما هدم، وحتى متى يجمع ما فرّق. فلو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك، كان ذلك الحزم.» فقال علىّ: - «أنا هدمت أم هدموا، أنا فرّقت أم فرّقوا؟ أما قولهم: إنّه لو كان مضى بمن أطاعه إذا عصاه من عصاه، فقاتل حتى يظهر، أو يهلك كان ذلك الحزم، فوالله ما غبي [2] ذلك علىّ، وإنّى كنت سخيّا بنفسي عن الدنيا طيّب النفس بالموت. ولقد هممت بالإقدام على القوم، فنظرت إلى هذين قد ابتدرانى- يعنى الحسن والحسين- ونظرت إلى هذين قد استقدماني- يعنى محمد بن علىّ وعبد الله بن جعفر- فعلمت أنه إن هلكا انقطع نسل محمد، فكرهت ذلك، وأشفقت على هذين أن يهلكا. وأيم الله، لئن لقيتهم بعد يومى هذا [23] لألقينّهم [3] وليس معى أحد منهم.»   [1] . س 11 هود: 118. [2] . غبي: مطموسة النقط في الأصل ومط، والإعجام من الطبري 6: 3346، والعبارة في الطبري: «فوالله ما غبي عن رأيى ذلك وإن كنت لسخيّا بنفسي عن الدنيا ... » ، وفي بعض الأصول: «.. ما خفى هذا عنّى» . [3] . في مط: ألاقينهم، والعبارة في الطبري: «لألقينّهم، وليسوا معى في عسكر، ولا دار.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 بكاء النساء على القتلى وما قاله علىّ لابن شرحبيل ثم مضى غير بعيد، فمرّ بالشباميّين [1] ، فسمع رجّة شديدة وبكاءا كثيرا، فوقف، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال له علىّ: - «أيغلبكم [2] نساؤكم؟ ألا تنهنهونهنّ عن هذا الرنين؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، لو كانت دارا أو دارين، قدرنا على ذلك، ولكنّه قتل من هذا الحىّ مائة وثمانون قتيلا، ليس دار إلّا فيها بكاء. فأما نحن معاشر الرجال، فإنّا لا نبكي، ولكننا نفرح، أمّا نفرح بالشهادة.» فقال: «رحم الله قتلاكم وموتاكم» . فأقبل يمشى معه وعلىّ راكب. فوقف وقال له: - «إرجع، فإنّ مشى مثلك معى فتنة للوالي، ومذلّة للمؤمن.» مروره بالناعطيّين، وما قاله فيهم ثم مضى، حتى مرّ بالناعطيّين، فسمع رجلا منهم يقال له: عبد الرحمان بن مزيد، يقول لآخر: - «والله ما صنع علىّ شيئا: ذهب، ثم انصرف في غير شيء.» فلما نظروا إلى علىّ أبلسوا [3] ، فقال: «وجوه ما رأوا الشام.» ثم أقبل على أصحابه، فقال: - «قوم فارقناهم آنفا، خير من هؤلاء.»   [1] . في مط: الشامتين، بدل: الشباميّين. [2] . أيغلبكم نساؤكم: كذا في الأصل والطبري (6: 3348) ، وفي مط: أتغلبكم نساؤكم. [3] . أبلس: سكت الحيرة، أو انقطاع حجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ثم أنشد: أخوك الذي إن أجرضتك [1] ملمّة ... من الدهر، لم يبرح لبثّك واجما [2] وليس أخوك بالذي إن تشعّبت ... عليك أمور ظلّ يلحاك دائما [3] [24] ثم مضى، فلم يزل يذكر الله، حتى دخل القصر. تشاتم القوم واضطرابهم بالسياط ثم إنّ القوم الذين كانوا معه يتشاتمون طول طريقهم، ويضطربون بالسياط، ويقول بعضهم لبعض: - «أدهنتم في أمر الله، وحكّمتم.» ويقول قوم: - «فرّقتم جماعتنا، وفارقتم إمامنا.» مفارقة الخوارج عليّا نزولهم بحرورى وعدم دخولهم الكوفة مع علىّ لم يدخلوا معه الكوفة حتى أتوا حروري [4] ، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا.   [1] . كذا في الأصل والطبري: أجرضتك، وفي مط: أجرصتك. أجرضتك ملمّة: جعلتك تجرض بريقك أى تبتلع ريقك بالجهد على همّ وحزن. [2] . في مط: لثبات واحما. وهو خطأ، وما في الأصل غير واضح، فأثبتناه في ضوء ما في الطبري (6: 3349) ، والبثّ: الحزن الشديد. [3] . في الطبري: ويلحاك: يلومك ويعذلك. تجد البيتين في ديوانه المنسوب (ص 532) . [4] . حروري: كذا في الأصل ومط. وما في الطبري (6: 3349) : حروراء (بالمد) : قرية بظاهر الكوفة، وقيل موضع على ميلين منها (مع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 فنادى مناديهم: - «إنّ أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.» ما دار بين شيعة علىّ والخوارج عند دخوله الكوفة ولما دخل علىّ الكوفة، وفارقته الخوارج، وثبت إليه شيعته وقالوا: - «في أعناقنا لك بيعة ثانية. نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت.» فقال بقيّة الخوارج: - «استبقتم أنتم وأهل الشام في الكفر، كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبّوا وكرهوا، وبايعتم عليّا [على] [1] أنكم أولياء من والى، وأعداء من عادى.» فقال لهم زياد بن النضر [2] : - «والله يا قوم، ما بسط علىّ يده فبايعناه قطّ، إلّا على كتاب الله وسنّة نبيّه، ولكنّكم لما خالفتموه جاءته شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، [25] وأعداء من عاديت. ونحن كذلك، وهو هاد، ومن خالفه ضالّ.» ذكر احتجاج الخوارج مع علىّ عليه السلام أتى علىّ بن أبى طالب رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي [3] وحرقوص بن زهير السعدي، فدخلا عليه، فقالا له:   [1] . على: سقطت من الأصل، وموجودة في مط والطبري 6: 3350. [2] . في مط: زياد بن النصر (بالصاد المهملة) ، والأصل يوافق الطبري. [3] . في مط: زرعة بن مرج الطارئى؟ وهو خطأ. وما في الطبري (6: 61- 3360) يوافق الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 - «لا حكم إلّا لله.» فقال علىّ: «لا حكم إلّا لله.» فقال حرقوص: «فتب من خطيئتك، وارجع عن قضيّتك، واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، حتى نلقى ربنا.» فقال علىّ: «قد أردتكم على ذلك فعصيتموني. وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال الله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إنّ الله يعلم ما تفعلون» [1] فقال له حرقوص: «ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.» فقال علىّ: «ما هو ذنب، ولكنّه عجز من الرأى، وضعف في العقل، وقد تقدّمت فنهيتكم عنه.» فقال له زرعة: «أما والله، يا علىّ، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنّك.» فقال علىّ: «يوسى [2] لك، ما أشقاك [25] كأنّى بك قتيلا تسفى عليك الريح.» قال: «وددت أن قد كان ذاك.» فخرجا من عنده يحكّمان. صياح أثناء خطبته ثم إنّ عليّا خطب ذات يوم. فإنّه لفي خطبته، إذ صاح صائح من جانب المسجد: - «يا علىّ، لا حكم إلّا لله.»   [1] . س 16 النخل: 91. [2] . في مط: بوس لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 فقال علىّ: «الله أكبر، كلمة حقّ يراد بها باطل. إن سكتوا غممناهم [1] ، وإن تكلّموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم.» فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: - «الحمد لله، اللهمّ إنّا نعوذ بك من إعطاء الدنيّة في ديننا. يا علىّ، أبالقتل تخوّفنا؟ أما والله، إنّى لأرجو أن نضربكم بها عما قليل، غير مصفّحات، ثم لنعلم أيّنا أولى بها صليّا. [2] » فقال علىّ: - «أما إنّ لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم:» «لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه.» «ولا نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم فيه مع أيدينا.» «ولا نقاتلكم حتى تبدأونا.» ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته. وخرج الرجلان يحكّمان، واجتمع معهم قوم. فبعث علىّ عبد الله بن العباس، وقال له: - «لا تعجل إلى جوابهم حتى آتيك.» ذكر ما جرى بينهم من الجدال ورجوعهم مع علىّ وهذه الدفعة الأولى من خروجهم [27] فخرج ابن عباس إليهم، فأقبلوا يكلّمونه. فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: - «ما الذي نقمتم من الحكمين؟ وقد قال الله عزّ وجلّ: فابعثوا حكما من أهله   [1] . نقطة الحرف الأوّل غير واضحة في الأصل. ابن الأثير (3: 334) : غممناهم. في الطبري (6: 3361) : عمناهم. [2] . وفي التنزيل: «ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّا» . س 19 مريم: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفّق الله بينهما [1] ، فكيف بأمّه محمد، صلّى الله عليه؟» فقالت الخوارج: «أمّا ما جعل حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه والإصلاح له، فهو إليكم كما أمر به، وأمّا ما حكم فأمضاه، فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، وليس لأمثال هذا أن ينظر فيه مخلوق.» قال ابن عباس: «فإنّ الله يقول: يحكم به ذوا عدل منكم. [2] » فقالوا له: «أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟» وقالت الخوارج: «قلنا له، فهذه الآية بيننا وبينك. أعدل عندك ابن العاص، وهو يقاتلنا، ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا عدلا، وقد حكّمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا. ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابا جعلتم نيّتكم الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله تعالى الاستفاضة [28] والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، إلّا من أقرّ بالجزية.» ثم خرج علىّ حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال: - «انته عن كلامهم! ألم أنهك- رحمك الله؟» ثم تكلّم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: - «اللهمّ، إنّ هذا مقام، من فلج [3] فيه، كان أولى بالفلج [4] يوم القيامة، ومن   [1] . س 4 النساء: 35. [2] . س 5 المائدة: 95. [3] . فلج: نقطة الجيم زائلة في الأصل، فأثبتناها كما في الطبري 6: 3352، والكامل 3: 328. فلج بحجته: أحسن الإدلاء بها وغلب خصمه. ويقال: فلجت حجته. [4] . أيضا في الأصل: الفلح، بالحاء المهملة، فاعجمناها كما في مط والطبري والكامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 نطف [1] فيه، أو وعث [2] ، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا [3] .» ثم قال: «من زعيمكم؟» قالوا: «ابن الكوّاء.» قال علىّ: «فمن أخرجكم علينا.» قالوا: «حكومتكم يوم صفّين.» قال: «أنشدكم الله، هل تعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبكم [4] إلى كتاب الله، قلت لكم: إنى أعلم بالقوم منكم، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا. امضوا على حقكم وصدقكم. فلما رفع القوم لكم المصاحف خديعة ودهنا [5] ومكيدة، فرددتم علىّ رأيى وقلتم: لا بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي ومعصيتكم إيّاى. فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن. فإن حكما حكم القرآن [29] فليس لنا أن نخالف حكمه، وإن أبينا، فنحن [6] منه برءاء» . فقالوا له: «فخبّرنا: أتراه [7] عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟» فقال: «إنّا لسنا الرجال حكّمنا، إنّما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق، إنما يتكلّم به الرجال.» قالوا: «فخبّرنا عن الأجل: لم جعلته في ما بينك وبينهم؟»   [1] . نطف: كذا في الأصل ومط. نطف: أتّهم بريبة. وفي الطبري: نطق. وهو تصحيف. [2] . كذا في الأصل: وعث. وفي مط: أرعث. وعث المتكلّم: عجز عن الكلام، خلّط. [3] . «فهو ... سبيلا» : اقتباس من س 17 الاسراء: 72. [4] . كذا في الأصل: فقلتم نجيبكم. وفي مط والطبري: فقلت نجيبهم. [5] . كذا في الأصل والطبري: دهنا. وما في مط، وابن الأثير: وهنا. [6] . كذا في الأصل: منه. وفي مط: بدون «منه» . وما في الطبري (6: 3353) : فنحن من حكمهما برءاء. [7] . في مط: فخيرنا اقراه. وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 قال: «ليعلم الجاهل، ويثبت العالم. ولعلّ الله يصلح في هذه المدة هذه الأمة، ادخلوا مصركم، رحمكم الله.» فدخل القوم من عند آخرهم. ابتداء يوم النهر ثم اجتمعوا بالكوفة، وتذكروا أمرهم، وكاتبوا إخوانهم بالبصرة، وتواعدوا ليوم يخرجون فيه إلى المدائن، ومنها إلى النهر. ففعلوا ذلك، واستعرضوا الناس، وقتلوا عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ [1] ، وبلغ ذلك عليّا، فسار إليهم. ثم لما اجتمعوا كلّمهم واستعطفهم. فأبوا إلّا قتاله، وجرت بينهم مخاطبات تركت ذكرها. ثم تنادوا أن: - «دعوا مخاطبة علىّ وأصحابه، وبادروا إلى الجنة.» فصاحوا: - «الرواح الرواح إلى الجنة!» علىّ يعبّئ ويرفع راية أمان فعبّى علىّ- عليه السلام- أصحابه، ورفع راية أمان مع أبى أيوب [30] الأنصارى، فناداهم أبو أيوب فقال: - «من جاء هذه الراية منكم، ممن لا يقتل ولا يستعرض، فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة، أو المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن. إنه لا   [1] . في مط: حباب بن الأدت (بالدال المهملة) . في الأصل: حباب بن الأرت. وفي الأصول: خبّاب بن الأرتّ (بتشديد الباء والتاء) . ذبحته عصابة من الخوارج على ضفة النهر قرب النهروان، وبقروا بطن امرأته، وهي حبلى، كما قتلوا ثلاث نسوة من طيّء، وقتلوا أمّ سنان. (أنظر الطبري 6: 3374، وابن الأثير 3: 340) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 حاجة لنا- بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم- في سفك دمائكم.» فقال فروة بن نوفل الأشجعى: - «والله ما أدرى: على أىّ شيء، أقاتل علىّ بن أبى طالب.» فانصرف في خمسمائة فارس. وخرج إلى علىّ منهم نحو ذلك. وكانوا أربعة آلاف، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي. وكان علىّ قدّم الخيل دون الرجال، وصفّ الناس وراء الخيل صفّين، وصفّ المرامية أمام الصفّ الأول، وقال لأصحابه: - «كفّوا عنهم حتى يبدءوكم، فإنّهم لو قد شدّوا عليكم وخلفهم رجال [1] ، لم ينتهوا إليكم إلّا لاغبين [2] ، وأنتم له قارّون حامّون [3] .» فأقبل الخوارج وهم يتنادون: - «الرواح الرواح إلى الجنّة.» وشدّوا، فلم تثبت خيل علىّ لشدّتهم، وافترقت الخيل فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة. وأقبلوا نحو الرجال، فاستقبلت المرامية [31] وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبّثوهم أن أناموهم عن آخرهم. قال حكيم بن سعد: ما هو إلّا أن لقينا أهل النهر، فما لبّثناهم، كأنّما قيل لهم: موتوا! فماتوا. ولم يقتل من أصحاب علىّ إلّا سبعة، واستخرج ذو الثديّة، على الحكاية المعروفة، وخبره مشهور. وانصرف علىّ إلى معكسره بالنخيلة من ظاهر الكوفة، وأمر الناس أن يسيروا على تعبئتهم إلى الشام.   [1] . كذا في الأصل ومط: وخلفهم رجال. وفي الطبري (6: 3381) : وجلّهم رجال. [2] . كذا في الأصل والطبري: لاغبين. وفي مط: لاعتين. [3] . كذا في الأصل ومط: وأنتم له قارّون حامّون. وما في الطبري: رادّون حامون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 استبدال الشام بالنهر وقد كان علىّ همّ بالخروج إلى الشام قبل. فلما عظمت الشوكة من الخوارج، وأخذوا في الاستعراض، وقتلوا الصالحين، قال الناس: - «يا أمير المؤمنين، علام تخلّف هؤلاء المارقة وراءنا، يخلفوننا في أبنائنا ونساءنا بالقتل، فنبدأ بهم. ولما انصرف إلى معسكره بالنخيلة، أمرهم أن يوطّنوا أنفسهم على الجهاد، وأن يسيروا إلى عدوهم. فتسلّلوا من معسكرهم، فدخلوا إلّا رجالا قليلا من وجوه الناس، وترك المعسكر. فلما رأى ذلك علىّ، دخل الكوفة، وانكسر عليه [32] رأيه في المسير، وذلك في سنة ثمان وثلاثين. ثم جرت بين علىّ وأصحابه خطوب ومخاطبات يستنهضهم ويأبون [1] ، ويخطب فيهم ويستمدّهم، ويستدعى نصرهم، ويستبطئهم، فيتثاقلون، وخطبه مشهورة معروفة. إلى أن طمع معاوية في العراق، وبثّ دعاته سرّا وجهرا إلى البصرة يطلب دم عثمان، وسرّب خيله في أطراف علىّ- عليه السلام- فأنفذ النعمان بن بشير في ألفى رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب في ألف رجل من قبل علىّ. فلما سمع القوم به، تسلّلوا إلى الكوفة حتى بقي مالك في مائة رجل، وكتب إلى علىّ يخبره، واستمدّه. فخطب علىّ، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا. فواقعهم مالك في من تبعه، وأمر أصحابه أن يجعلوا حيطان المدينة في ظهورهم ويقاتلوا. وكتب إلى محنف بن   [1] . ويأبون ...... ويستبطئهم: سقطت من مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 سليم أن يمدّه وهو قريب منه وقاتلهم ابن كعب في العصابة التي معه أشدّ قتال يكون. اتفاق جيّد وقع لمالك حتى هزم النعمان ومن معه [33] ووجّه محنف ابنه إليه، عبد الرحمان [1] ، في خمسين رجلا. فانتهوا إلى مالك وأصحابه وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا. فلما رءاهم أهل الشام، وذلك عند المساء، ظنّوا أنّ لهم مددا، فانهزموا، واتبعهم مالك، فقتل منهم ثلاثة نفر، ومضوا على وجوههم. فأما غيره من سرايا معاوية، فإنّهم كانوا يظفرون ويقتلون ويغنمون وينصرفون. وأما من حصل من قبل بالبصرة لأجل التضريب بين الناس، فإنّه بلغ ما أراد، ووقعت الفتنة والعصبية، فطمع أهل فارس، وكرمان في عمّال علىّ، فغلب أهل كلّ ناحية على ما يليهم، فأخرجوا عمّالهم. فاستشار علىّ أصحابه في من يضبط به فارس وكرمان. فقال ابن عباس: - «أدلّك على رجل صليب الرأى عالم بالسياسة، كاف، ولىّ.» قال: «من هو؟» قال: «زياد.» قال: «هو لها.» فتوجّه ابن عباس إلى عمله بالبصرة. وكان زياد يخلفه بها. فضمّ إليه أربعة آلاف رجل، وولّى فارس، فدوّخها حتى استقاموا. [34]   [1] . كذا في الأصل ومط: ابنه إليه عبد الرحمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 ذكر سياسة زياد لهذا الوجه حدّث قوم من أهل فارس قالوا: ورد زياد نواحي فارس، وهي تضطرم. فلم يزل يبعث إلى رؤسائها، يعد من نصره ويمنّيه، ويخوّف من خالفه ويوعده، ويضرّب بعضهم ببعض، ويدارى من يرى مداراته، حتى دلّ بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، يقتل بعضها بعضا، حتى صفت له فارس، فلم يلق فيها جمعا، ولا حربا، ولم يقف موقفا واحدا للقتال. وفعل مثل ذلك بكرمان حتى صفت أيضا له. فقال الناس: - «ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان، من سيرة هذا العربىّ، في اللين، والمداراة، والعلم بما يأتى.» دخول بسر بن أرطاة المدينة ومكة وهروب عمّال علىّ ثم كثرت غارات معاوية على أطراف علىّ، ووجّه بسر بن أرطاة إلى الحجاز. فدخل المدينة ومكة، وهرب عمال علىّ، وقتل شيعة علىّ. ومضى نحو اليمن، وكان على [35] اليمن عبيد الله بن العباس، فهرب إلى الكوفة، واستخلف عبد الله بن عبد المدان، فأتاه بسر [1] ، فقتله، ولحق ثقل [2] عبد الله وفيه ابنان له صغيران، فقتلهما، وبلغ ذلك عليّا، فوجّه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين.   [1] . في مط: بشر. [2] . كذا في الأصل: ثقل عبد الله. وفي الطبري (6: 3452) : ثقل عبيد الله. والثقل: المتاع، والشيء النفيس الخطير. وفي مط: قفل عبيد الله. والقفل: القافلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 فسار جارية حتى أتى نجران، وقتل خلقا من شيعة عثمان، وهرب بسر منه، وتبعه حتى دخل مكة والمدينة، وأرجف الناس بموت علىّ. فأخذ الناس ببيعة الحسن بن علىّ، فأبوا، ثم خافوه، فبايعوه، فأقام [1] مدة، ثم انصرف إلى الكوفة. العراق لعلىّ، والشام لمعاوية ثم جرت مكاتبات كثيرة بين علىّ- عليه السلام- وبين معاوية، استقرّ آخرها على وضع الحرب بينهما، ويكون لعلىّ العراق، ولمعاوية الشام، لا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش، [ولا غارة] [2] ولا غزوة، وأن يضعا السيف، ولا يريقا دماء المسلمين، فتراضيا على ذلك. تحالف الخوارج لقتل علىّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص واجتمع بعد ذلك نفر ممن يرى رأى الخوارج، فتذاكروا أصحاب النهر، وترحّموا عليهم، وعابوا ولاتهم، وقالوا: - «ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو قتلنا أئمة الضلال، لرجونا الأجر والثواب.» فتحالف عبد الرحمان بن ملجم، والبرك بن عبد الله، [36] وعمرو بن بكر التميمي أن يأتى كلّ واحد منهم واحدا من الأئمة الثلاثة يعنون: عليّا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، فيغتالونهم. فأمّا ابن ملجم فقال: «أنا أكفيكم علىّ بن أبى طالب.» وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله: «أنا أكفيكم معاوية.» وقال عمرو بن بكر: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.»   [1] . في الأصل ومط: فأقاموا. والعبارة في الطبري (6: 3452) : فبايعوه، و «أقام» يومه، ثم خرج منصرفا إلى الكوفة.. [2] . ما في [] تكملة من الطبري 6: 3453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 فتعاهدوا، وتواثقوا، وأخذوا أسيافهم وسمّوها، واتّعدوا لسبع عشرة من شهر رمضان، أن يثب كلّ واحد منهم على صاحبه الذي توجّه له. ما جرى بين ابن ملجم وقطام في الكوفة وتعاونهما على قتل على ّ فأما ابن ملجم، فإنّه دخل الكوفة، ورأى امرأة يقال لها: قطام، وكان علىّ قتل أباها وأخاها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال، فالتبست بعقله، ونسى حاجته التي جاء لها، فخطبها، فقالت [1] : - «لا أتزوّجك حتى تشترط إلىّ.» فقال: «ما شرطك؟» قالت: «ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة [2] ، وقتل علىّ!» قال: «هو لك، وو الله ما وردت إلّا لقتل علىّ.» قالت: «فأنا ألتمس لك من يساعدك على أمرك.» فطلبت له رجلا من قومها، والتمس عبد الرحمان آخر، فصاروا ثلاثة، وأخذوا أسيافهم في الليلة [37] التي واعد عبد الرحمان بن ملجم أصحابه، وجلسوا مقابلي السدّة التي يخرج منها علىّ للصلاة. فلما خرج، ضربه ابن ملجم، وأقرنه [3] ، وهرب، وتصايح الناس، فأخذ ابن ملجم، وحمل إلى علىّ. فلما رءاه، قال: «أى عدوّ الله! ألم أحسن إليك؟»   [1] . في الأصل: فقال (بالتذكير) وهو سهو من الكاتب. وفي مط: فقالت. [2] . القينة: الأمة، صانعة أو غير صانعة، وغلب على المغنّية. والقينة والمقيّنة: الماشطة التي تزيّن النساء. [3] . أقرنه: أقرنه، وقرنه أى: ضربه على قرني رأسه، وقرن الرجل: حدّ رأسه وجانبه. والعبارة في الطبري (6: 3459) : وضربه ابن ملجم في قرنه بالسيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 قال: «بلى.» قال: «فما حملك على هذا؟» قال: «شحذته أربعين صباحا، فسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه.» فقال علىّ: - «لا أراك إلّا مقتولا به [1] ، ولا أراك إلّا شرّ خلق الله.» ثم مات علىّ بن أبى طالب- عليه السلام- وذلك في شهر [2] رمضان سنة أربعين. قتل ابن ملجم وحرقه وأحضر الحسن بن علىّ بن أبى طالب- عليهما السلام- ابن ملجم. فلما دخل عليه، قال: - «هل لك في خصلة [3] ؟ إنّى والله ما أعطيت الله عهدا إلّا وفيت به، وكنت أعطيت الله عهدا عند الحطيم [4] أن أقتل معاوية وعليّا، أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيت بيني وبينه، ولك الله علىّ إن لم أقتله، أو قتلته ثم بقيت، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك.» فقال له الحسن: - «أما والله، حتى تعاين النار فلا!» ثم قدّمه، فضرب عنقه. ثم أخذه الناس، فأدرجوه في بوارىّ [5] ، ثم أحرقوه   [1] . به: ليست في مط. [2] . في مط: شهر الله رمضان. [3] . الخصلة: خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رذيلة. [4] . الحطيم: قال ابن عباس: الحطيم الجدار، بمعنى جدار الكعبة. ابن سيدة: الحطيم حجر مكة مما يلي الميزاب، سمّى بذلك لانحطام الناس عليه، وقيل: إنهم كانوا يحلفون عنده في الجاهلية فيحطم الكاذب وهو ضعيف. الأزهرى: الحطيم: الذي فيه المرزاب، وإنما سمّى حطيما، لأنّ البيت رفع، وترك ذلك محطوما (لع) . [5] . البوارىّ: جمع مفرده الباري. والبارىّ والباريّة والبارياء والبوريا: الحصير. (فارسي معرّب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 بالنار. ما كان من أمر برك ومعاوية وأمّا البرك، فإنّه قعد لمعاوية، فلما [38] خرج للصلاة، ضربه بالسيف، فوقع في أليته [1] ، فأخذ فقال: - «إنّ عندي خبرا أسرّك به، فإن أخبرتك، أينفعنى ذلك؟» قال: «نعم.» قال: «إنّ عليّا قتله أخ لى في هذه الليلة.» وحدّثه الحديث. قال: «فلعلّه لم يقدر على ذلك.» قال: «بلى، إنّ عليّا يخرج وحده، وليس معه من يحرسه.» فأمر به معاوية، فضربت عنقه. ما كان من أمر عمرو بن بكر، وعمرو بن العاص وأمّا عمرو بن بكر، فجلس لعمرو بن العاص، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن أبى حبيبة، وكان على شرطه، ليصلّى بالناس. فخرج، وشدّ عليه ابن بكر، وهو يرى أنه عمرو، فضربه فقتله. فأخذه الناس، فانطلقوا به إلى عمرو، وسلّموا عليه بالإمرة، فقال: - «من هذا؟» قالوا [2] : «عمرو.» قال: «فمن قتلت؟»   [1] . الألية: العجيزة، أو ما ركبها من شحم ولحم. [2] . في الأصل: قال. في مط: قالوا. فأثبتنا ما في مط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 قالوا: «خارجة.» قال: «والله يا فاسق، ما ظننته غيرك.» قال عمرو: «أردتنى، وأراد الله خارجة.» وقدّمه عمرو، وقتله. ما قالته عائشة في قتل على ّ ولما انتهى إلى عائشة قتل علىّ، قالت: فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وقالت: «من قتله؟» قيل: «رجل من مراد.» قالت: [39] فإن يك نائيا، فلقد نعاه ... نعاة ليس في فيها التّراب أسماء كتّاب علىّ بن أبى طالب صلوات الله عليه كتب له سعيد بن نمران الهمداني، وكان يكتب له عبد الله بن جعفر أيضا، وعبيد الله بن أبى رافع. وحكى عن عبيد الله أنه قال: كتبت بين يدي علىّ عليه السلام- فقال: - «ألق [1] دواتك، وأطل سنّى قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط [2] بين   [1] . ألق: من قولهم: ألاق الدواة: جعل لها ليقة، وأصلح مدادها. والليقة: صوفة الدواة. [2] . قرمط بين الحروف: جعلها متقاربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 الحروف.» وكنّا ذكرنا أنه استكتب زيادا على خراج البصرة وديوانها لمّا استخلف ابن عباس عليها. ولزياد سياسات يصلح أن تذكر في هذا الكتاب، فإنّا إنما نذكر كتّاب الخلفاء لأجل ما عزمنا على ذكر سياستهم، ولم يمض إلى هذا الوقت أحد منهم عرفت له سياسة غير زياد، ونحن نذكر ذلك في آخر أيّام معاوية، إن شاء الله . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 بيعة الحسن بن على ّ وبويع الحسن بالخلافة في سنة أربعين [1] ، وأوّل من بايعه قيس بن سعد [2] ، وكان قيس على مقدّمة أهل العراق، ويقال: إنّهم كانوا أربعين ألفا، بايعوا عليّا على الموت.» نزع قيس وتأمير عبيد الله بن عبّاس ولمّا قتل علىّ، واستخلف [40] أهل العراق الحسن، كان الحسن لا يريد القتال، ولكنّه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثمّ يدخل في   [1] . أنظر الطبري (7: 1) ، والمسعودي (2: 426) ، وابن الأثير (3: 402) . [2] . في الطبري (7: 1) : وقيل: إنّ أوّل من بايعه قيس بن سعد، قال له: - «ابسط يدك أبايعك على كتاب الله، وسنّة نبيّه، وقتال المحلّين.» فقال له الحسن- رضى الله عنه: - «على كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ ذلك يأتى من وراء كلّ شرط.» فبايعه، وسكت، وبايعه الناس. وفي الطبري أيضا: فطفق يشترط عليهم الحسن: - «إنّكم سامعون، مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت.» فارتاب أهل العراق في أمرهم، حين اشترط عليهم هذا الشرط، وقالوا: - «ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال ... » (7: 5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 الجماعة. [1] وعرف الحسن أن قيس بن سعد لا يوافقه على رأيه، فنزعه، وأمر عبيد الله بن عبّاس، وعلم عبيد الله بالذي يريد الحسن أن يأخذ لنفسه. فكتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصاب، فشرط له ذلك معاوية. ذكر مكيدة لمعاوية يقال: إنّ معاوية دسّ إلى عسكر الحسن بن علىّ، حين نزل المدائن، وعلى مقدمته قيس بن سعد في اثنى عشر ألفا، وذلك قبل أن ينزعه، وكان معاوية أقبل من الشام، فنزل مسكن [2] ، فدسّ معاوية من نادى في عسكر الحسن: - «ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل، فانفروا!» فنفروا بسرادق الحسن، حتّى نازعوه بساطا كان تحته، وجرحوه، فخرج الحسن حتّى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن. كتاب كتبه الحسن إلى معاوية في الصلح وكتب حينئذ الحسن بن علىّ إلى معاوية يطلب الأمان، فقال الحسن للحسين وعبد الله بن جعفر: - «إنّى كتبت إلى معاوية في الصلح.» فقال له الحسين:   [1] . عن الطبري (7: 1) . [2] . مسكن (على وزن: مسجد) : أصله: موضع السكنى، وذلك يقال له أيضا: مسكن، (بفتح الكاف) ، قال: وهو موضع من أوانا على نهر دجيل عند دير جاثليق، به كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان، ومصعب بن الزبير، وقتل به مصعب، وقبره هناك. قلت [والقائل صاحب المراصد] : مسكن اسم للطسوج الذي منه أوانا من أعمال دجيل، والموضع الذي به قبر مصعب على جانب به الآن، وجبل به الآن قرية، ودير الجاثليق قريب منه (مع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 - «أنشدك الله أن تصدّق [41] أحدوثة معاوية، وتكذّب أحدوثة علىّ.» فقال الحسن: - «اسكت، فإنّى أعلم بالأمر منك.» واشترط الحسن على معاوية: على أن يجعل له ما في بيت ماله. وخراج دارابجرد. وعلى أن لا يشتم علىّ وهو يسمع. وكان الذي في بيت المال بالكوفة خمسة آلاف ألف. [000، 000، 5] ذكر حيلة واتّفاق طريف في هذا الشرط كان معاوية أرسل قبل أن ترد عليه صحيفة الحسن بالشرط، بصحيفة بيضاء مختوم [1] على أسفلها، وكتب إليه أن: - «اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك.» ولمّا أتت الحسن هذه الصحيفة، اشترط فيها أضعاف الشروط التي كان سألها قبل ذلك، وأمسكها عنده، وأمسك معاوية صحيفة الحسن التي كان كتبها. فلمّا التقى معاوية والحسن، سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي في السجل الذي ختمه معاوية في أسفله، فأبى معاوية أن يعطيه، وقال: - «ما لك إلّا ما سألتنيه بخطّك.» فاختلفا، وتنازعا، ولم ينفّذ للحسن من تلك الشروط شيئا. معاوية يكايد قيس بن سعد ثمّ إنّ الناس اجتمعوا إلى قيس بن سعد، وتعاقدوا [42] على قتال معاوية.   [1] . كذا في الأصل ومط والطبري (7: 5) : مختوم. وفي حاشية الطبري: مختومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 فلمّا فرغ معاوية من عبيد الله والحسن، خلص إلى مكايدة رجل هو أهمّ إليه، وأبلغ مكيدة، ومعه أربعون ألفا. فراسله يذكّره بالله، ويقول له: - «على طاعة من تقاتل؟ قد بايعنى الذي أعطيته طاعتك.» وأبى قيس أن يلين له حتّى بعث إليه معاوية بسجلّ ختم في أسفله، وقال: - «أكتب ما شئت في هذا السجل، فهو لك.» واشترط قيس له ولشيعة علىّ الأمان، على ما أصابوا من الدماء، والأموال، ولم يسأل معاوية في سجلّه ذلك مالا، فأعطاه معاوية ذلك. الدّهاة الخمسة وكان قيس يعدّ في الدهاة، وكانوا خمسة يومئذ، وهم: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة ابن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل. وكان قيس [و] [1] عبد الله بن بديل مع علىّ، والمغيرة بن شعبة معتزلا بالطائف، حتّى حكّم الحكمان. ما قاله الحسن بن علىّ في خطبته بعد الصلح وقبل أن يغادر الكوفة إلى المدينة ولمّا تمّ الصلح بين الحسن ومعاوية، قام الحسن في الناس خطيبا بالكوفة [2] ، فقال: - «يا أهل العراق! إنّه سخّى [3] بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبى، وطعنكم إيّاى،   [1] . في الأصل: قيس بن عبد الله بن بديل، وهو سهو من الكاتب، وصححناه كما في مط والطبري (7: 8) . [2] . وأمّا حسب الطبري (7: 9) فإنّ الخطبة هذه، خطبها الحسن بمسكن، حيث تمّ الصلح، ثمّ دخل الكوفة بمن معه، وبرأ هناك ثمّ تحوّل إلى المدينة. [3] . في مط: نحّى بنفسه! وما في الطبري كما في الأصل: سخّى بنفسي. سخّى نفسه، وبنفسه عن كذا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وانتهابكم متاعي.» وبرأ الحسن من جراحته، فتحوّل إلى المدينة. وحال أهل البصرة بينه وبين خراج [43] دارابجرد، وقالوا: - «فيئنا. [1] » ولمّا دخل المدينة [2] ، تلقّاه الناس، فصاحوا: - «يا مذلّ العرب!»   [ () ] حملها على تركه، وعدم النزوع إليه. [1] . في الأصل ومط: فينا. والتصحيح من الطبري (7: 9) . [2] . في الطبري (7: 9) : فلمّا خرج إلى المدينة، تلقّاه ناس بالقادسية، فقالوا: - «يا مذلّ لعرب!» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 [ المجلد الثاني ] [ تجارب العصر الأموي ] أيّام معاوية بن أبى سفيان ذكر مماحكة [1] جرت بين المغيرة بن شعبة وبين عمرو بن العاص استعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة بن شعبة، فقال: - «استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة، وأباه عمرا على مصر، تكون أنت بين لحيي [2] الأسد.» فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة، وبلغ عمرا ما قاله المغيرة لمعاوية، فدخل عمرو على معاوية، فقال: - «أتستعمل المغيرة على خراج الكوفة، فيغتال المال، ويذهب به، فلا تستطيع أن تأخذه منه؟ استعمل على الخراج رجلا يهابك، ويتّقيك.» فعزل المغيرة عن الخراج، واستعمله على الصلاة. فلقى المغيرة عمرا، فبدأ عمرو وقال: - «أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت، فى عبد الله؟» قال: - «نعم.» قال:   [1] . المماحكة: اللجاج والمنازعة. [2] . فى مط: يحى الأسد!. واللحيان: العظمان اللذان فيهما الأسنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 - «فهذه بتلك!» المغيرة بن شعبة يختار الدعة ولمّا ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، أتاها، وترك التشدّد، وإثارة الناس عن أهوائهم، وأحبّ السلامة، واختار الدعة، فكان يرى، فيقال له: فلان بن فلان يرى رأى الشيعة، وفلان يرى رأى الخوارج، فكان يقول: [44]- «قضى الله أن لا تزالوا مختلفين، وسيحكم بين عباده.» فأمنه الناس. فكان عاقبة هذا الفعل منه أن لقيت الخوارج بعضها بعضا، ورأوا أنّ فى جهاد الناس الفضل والأجر. ففزعوا [1] إلى رؤسائهم، وتجمّعوا، وتمّت آراؤهم، واجتمع أمرهم، وبايعوا المستورد بن علّفة [2] ، وكان زياد متحصّنا بفارس، قد عمر قلعة إصطخر. فكان معاوية يكاتبه، ويطالبه بالمال، ويستقدمه، فيأبى. فأرق معاوية ذات ليلة، فلمّا أصبح، دعا بالمغيرة بن شعبة، فقال له: - «كيف أنت بسرّ أستودعك؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، إن تستودعنى، تستودع ناصحا، شفيقا، ورعا، وثيقا.» رأى لمعاوية وتدبير صحيح قال: «ذكرت زيادا واعتصامه بأرض فارس، وامتناعه بالقلعة، فلم أنم ليلتي.»   [1] . فى مط: ففرعوا. وما فى الطبري يوافق الأصل: ففزعوا. أى: لجأوا، واستغاثوا. [2] . فى مط: مستور بن علفة. وضبط اللام فى «علّفة» (الكسر والتشديد) من الطبري (7: 20) ، وابن الأثير (3: 421) . وضبط فى بعض المراجع: «علّفة» بفتح اللام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فأراد المغيرة أن يطأطئ من زياد، فقال: - «ما زياد هناك، يا أمير المؤمنين.» قال: «بئس الوطاء [1] العجز، داهية العرب معه الأموال، متحصّن بقلاع [45] فارس، يدبّر، ويربّض الخيل [2] . ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت، فإذا هو قد أعاد الحرب جذعة [3] .» فقال المغيرة: «أتأذن لى، يا أمير المؤمنين، فى إتيانه؟» قال: «نعم، وتلطّف!» كان المغيرة يحفظ يدا لزياد عنده، فأتى المغيرة زيادا. فقال زياد لمّا رءاه: - «أفلح الزائر.» فقال المغيرة: - «إليك ينتهى الخبر، أنا المغيرة، إنّ معاوية استخفّه الوجل، حتّى بعثني إليك، ولم يكن يعلم أحدا يمدّ يده إلى هذا الأمر، غير [4] الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغنى معاوية عنك.» قال: «أشر علىّ، وارم الغرض الأقصى، ودع عنك الفضول، فإنّ المستشار مؤتمن.» فقال المغيرة: - «فى محض الرأى بشاعة [5] ، ولا خير فى التمذيق [6] ، أرى أن يصل حبلك   [1] . فى مط والطبري: الوطأ. [2] . كذا فى مط: ويريض الخيل. وفى الطبري: يربص الحيل. [3] . فى مط والطبري (7: 23) : قد أعاد: «الحرب خدعة» . وقوله: «قد أعاد الحرب جذعة» أى: جديدة. وذلك من قولهم: «أعدت الأمر جذعا» ، أى: جديدا كما بدأ. [4] . فى مط: «إلّا عين الحسن» ، وفى هامش مط: «عن الحسن» بدل «الأمر غير الحسن» . [5] . فى مط: شناعة. [6] . كذا فى الأصل ومط: فى التمذيق. وفى الطبري (7: 24) : المذيق. وفى حاشيته: المتديق. التمذيق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 بحبله، وتشخص إليه.» قال: «أرى، ويقضى الله.» وأقام زياد فى القلعة، وجعل يرتأى ويمكر. ذكر حيلة لزياد على معاوية فسنح لزياد من الرأى أن دعا بعض ثقاته، وبذل له، ومنّاه ووعده، وقال: - «امض، حتّى تأتى معاوية، فإنّه سيدعوك، ويسألك عنّى، فقل له: إنّك قد أمهلته، [46] وأضربت عنه، مع ما قد احتجبه [1] من الأموال، وارتكبه من الأمور، حتّى قد شاع فى الناس: أنّك إنما ترخى له الحبل، وتساهله، للنسب بينكما. فإذا قال: وما ذاك؟ فقل: يقول الناس: إنّه أخوك، وإنّك قد عرفت ذاك له.» فذهب الرجل، حتّى أتى معاوية، فجرى بينهما ما لقّنه زياد. فقال معاوية: - «أو قد تحدّث الناس بذلك؟» قال: - «نعم.» فسكت معاوية، وخرج الرجل من عنده، وشاع المجلس، وقال الناس: - «زياد بن أبى سفيان.» ثمّ كاتب زياد معاوية، وأجابه، واستقرّت المكاتبة بينهما، إلى أن ورد على معاوية، على أن يرفع إليه حسابا بما صار إليه من الأموال، ويصدقه فى ما خرج منه إلى أمير المؤمنين، وما بقي عنده. فخرج إليه زياد، فأخبره بما حمله إلى علىّ بن أبى طالب- عليه السلام- وما   [ () ] الخلط والمزج. والمذيق: الممزوج، المخلوط. [1] . فى مط: قد اجتلبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فرّقه فى الأرزاق، والحمالات [1] ، وبقّى بقيّة، وقال: - «قد أودعتها عند قوم.» فصدّقه معاوية، ومكث يردّده بذلك. ثمّ كتب زياد كتبا إلى قوم: - «قد علمتم ما لى عندكم من الودائع، وهي الأمانة الّتى يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، 33: 72 [47] الآية [2] ، فاحتفظوا بما قبلكم.» وسمّى فى الكتب بالذي أقرّ لمعاوية، ودسّ الكتب مع رسوله، وأمره أن يتعرّض لبعض من يبلغ معاوية، فتعرّض الرسول حتّى أخذ، فأتى به معاوية. فقال معاوية لزياد: - «لئن لم تكن مكرت بى، إنّ هذه الكتب لمن حاجتي.» فقرأها، فإذا هي بمثل ما أقرّ به لمعاوية. [3] فقال معاوية: - «أخاف أن تكون مكرت بى، فصالحنى عليها.» فصالحه على شيء، ممّا ذكر أنّه عنده، فحمله. ذكر حيلة لعبد الله بن خازم كان عبد الله بن عامر، واليا على البصرة، من قبل معاوية، فأنفذ إلى خراسان قيس بن الهيثم [4] ، واستبطأه فى بعض الأحوال، وكتب إليه، يستحثّه حمل المال.   [1] . الحمالات: الحاء غير مشكولة فى الأصل، وهي مفتوحة فى الطبري (7: 26) . والحمالة (بالفتح) ، والحمال أيضا بالفتح. حمل الدية، أو الغرامة: ما يحملها قوم عن قوم. والحمالة (بالضمّ) : أجر الحمّال. [2] . س 33 الأحزاب: 72. [3] . انظر الطبري (7: 26) . [4] . فى مط والطبري (7: 66) أيضا: قيس بن الهيثم، ولكن فى الأصل: كلمة مقحمة تقرأ: «سعد بن» ، «سعدى» ؟، وسيأتي الإسم: «قيس بن الهيثم» من دون أىّ إضافة، فى الأسطر الآتية من الأصل ومط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وكان عبد الله بن خازم حاضرا، فقال لابن عامر: - «إنّك قد وجّهت إلى خراسان رجلا ضعيفا، وإنّى أخاف:- إن لقى حربا- أن ينهزم بالناس، فتهلك خراسان، وتفتضح أخوالك.» قال ابن عامر: - «فما الرأى؟» قال: «تكتب لى عهدا- إن هو انصرف عن عدوّ- قمت مقامه.» فكتب له، وسار عبد الله بن خازم إلى خراسان فجاشت جماعة من طخارستان فشاور [48] قيس بن الهيثم الناس، فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتّى يجتمع إليه أطرافه، فانصرف. فلمّا سار مرحلة أو مرحلتين، أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقى العدوّ، فهزمهم. وبلغ الخبر المصرين [1] ، والشام، فغضبت القيسيّة وقالوا: - «خدع قيسا وابن عامر» . وأكثروا فى ذلك على معاوية، حتّى بعث إلى عبد الله بن خازم، فقدم به واعتذر ممّا قيل فيه. فقال معاوية: - «فإذا كان غدا، فقم فى الناس، واعتذر!» فرجع ابن خازم إلى أصحابه، فقال: - «قد أمرت بالخطبة، ولست صاحب كلام، فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلّمت، فصدّقونى.» فقام من الغد، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال:   [1] . المصران: الكوفة والبصرة. قال ابن الأعرابى: قيل لهما «المصران» ، لأنّ عمر- رضى الله عنه- قال: لا تجعلوا البحر فى ما بيني وبينكم، مصّروها، أى: صيّروها مصرا بين البحر وبيني، أى: حدّا (لع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 - «إنّما يتكلّف الخطبة، إمّا [1] من لا يجد بدّا منها، وإمّا أحمق يهمر [2] رأسه، لا يبالى ما خرج منه، ولست بواحد منهما، وقد علم من عرفني أنّى بصير بالفرص، وثّاب عليها، وقّاف عند المهالك، أنفذ بالسريّة، وأقسم بالسويّة. أنشدكم بالله، من كان يعرف ذلك منّى، لمّا صدّقنى.» فقال أصحابه حول المنبر: - «صدقت.» فقال: «يا أمير المؤمنين، [إنّك ممّن] [3] نشدتك، قل ما تعلم!» فقال: «صدقت.» [49] ذكر تدبير نفذ للمغيرة بن شعبة على زياد قدم زياد الكوفة من عند معاوية، ونزل فى دار سلمى بن ربيعة الباهلىّ ينتظر أمر معاوية، أن يجيبه إمرته على الكوفة. فبلغ المغيرة بن شعبة- وهو أمير على الكوفة- أنّ زيادا ينتظر الإمرة. فدعا قطن بن عبد الله الحارثىّ، فقال: - «هل فيك من خير: تكفيني المؤونة حتّى آتيك من عند أمير المؤمنين؟» قال: «ما أنا بصاحب ذا.» فدعا عتيبة بن نهّاس [4] ، فعرض عليه ذلك، فقبل. فخرج المغيرة، فلمّا قدم على معاوية، سأله أن يعزله، وأن يقطع له منازل بقرقيسا بين ظهري قيس. فلمّا سمع معاوية ذلك، خاف بائقته، وقال: - «والله، لترجعنّ إلى عملك يا با عبد الله.»   [1] . إما من لا يجد: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (7: 66) : إمام لا يجد. [2] . يهمر رأسه: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: يهمر من رأسه. همر الماء ونحوه (ويهمره، ويهمره) صبّه. همر الكلام، وفى الكلام: أكثر فيه. [3] . تكملة عن الطبري. [4] . نهّاس: الكلمة مهملة فى الأصل. فى مط: نهاس. وضبطناها حسب مط والطبري (7: 72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 فأبى عليه، فلم يزده ذلك إلّا تهمة له، فردّه إلى عمله، فطرق المغيرة الكوفة ليلا. قال معيد بن خالد البجلىّ: - «فو الله إنّى لفوق القصر أحرسه، إذا قرع الباب [1] ، فأنكرناه، فلمّا خاف أن ندلّى عليه حجرا، تسمّى لنا. فنزلت إليه، وسلّمت، فتمثّل بقول القائل: بمثلي فاقرعى [2] يا أمّ عمرو ... إذا ما هاجني السفر النّفور [3] [40] - «اذهب إلى ابن سميّة، فرحّله، حتّى لا يصبح إلّا من وراء الجيش [4] .» فخرجت، فأتيناه، فأخرجناه، حتّى طرحناه، قبل أن يصبح من وراء الجيش. ذكر سياسة زياد العراق حتّى صلح بعد الفساد إنّه بلغ معاوية فساد أهل البصرة، وكثرة العيث، وضعف السلطان بها عن ضبط الناس، وكان والى البصرة عبد الله بن عامر، وكان فيه لين وكرم. فكان إذا أشير عليه بقطع السارق، عفا عنه، وإذا أشير بقتل من يستحقّ القتل، قال: - «أنا أتألّف الناس، وأتحبّب إليهم، فكيف أنظر فى وجه من قتلت أباه، أو أخاه، أو قطعته.» فكثر الفساد بالبصرة، فعزله معاوية، وكتب إليه يستزيره، وولّى حارث بن عبد الله الأزدىّ، فتركه أربعة أشهر، ثمّ عزله بزياد.   [1] . إذا قرع الباب: كذا فى الأصل. وفى مط: اد قرع الباب. وما فى الطبري: فلما قرع الباب. [2] . كذا فى مط: فاقرعى. فى الطبري: فافزعى. وفى حاشيته: فاقرعى. [3] . فى الطبري: السفر النعور. فى مط: النفر النفور. [4] . كذا فى مط: الجيش. وفى الطبري (7: 73) : الجسر (فى كلا الموضعين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وإنما أراد معاوية أن يولّى زيادا، فولّى الحارث كالفرس المجلّل، فقدم زياد البصرة، فخطب خطبته البتراء [1] ، ثمّ قال: الخطبة البتراء - «أمّا بعد، فإنّ الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والعجز [2] الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتى سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، [51] ينبت [3] فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير، [كأن لم تسمعوا بآى الله، ولم تقرأوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعدّ [4] الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، فى الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون [أنّكم] [5] أحدثتم [6] فى الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه [7] [من ترككم] [8] هذه المواخر [9] المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، فى النهار المبصر، والعدد غير قليل.   [1] . سمّيت بتراء، لأنّه لم يحمد الله فيها، وقيل بل حمد الله، فقال: «الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم، كما رزقتنا نعما، فألهمنا شكرا على نعمتك علينا، أما بعد، ... » أنظر الطبري (7: 73) ، وابن الأثير (3: 447) . [2] . كذا فى مط، وفى حاشية الطبري: العجز. فى الطبري وابن الأثير: الفجر. [3] . ينبت: كذا فى الطبري. وفى مط: ببيت. فى حاشية الطبري: يثيب. [4] . فى الطبري: عدّ الله. وما أثبتناه من ابن الأثير. [5] . ما بين [] تكملة من الطبري. [6] . فى الأصل: «فأحدثتم» بدون «إنكم» . [7] . فى الطبري: به. [8] . ما بين [] تكملة من الطبري. [9] . المواخر، والمواخير: كلاهما جمع مفرده: الماخور: مجلس الفسّاق، بيت الريبة والدعارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 - «ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج [1] الليل، وغارة النهار؟ قرّبتم القرابة وباعدتم [الدين، تعتذرون] [2] بغير العذر، [وتغطّون على المختلس] [3] كلّ امرئ منكم يذبّ عن سفيهه، صنع من لا يخاف عاقبة، ولا يرجو معادا، فلم يزل بهم ما يرون من قيامكم دونهم، حتّى انتهكوا حرمة الإسلام، ثمّ أطرقوا [4] وراءكم كنوسا فى مكانس الريب. حرام علىّ الطعام والشراب حتّى أسوّيها بالأرض، هدما وإحراقا، فإنّى رأيت آخر هذا الأمر، لا يصلح إلّا بما يصلح أوّله: لين فى غير ضعف وشدّة فى غير جبريّة [وعنف] [5] . - «وإنّى أقسم بالله، لآخذنّ الولىّ بالولىّ، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد، فقد هلك سعيد، أو تستقيم لى قناتكم. إنّ كذبة المنبر بلقاء [6] مشهورة، فمن تعلّق لى بكذبة، فقد حلّت [7] له معصيتي، من بيّت منكم فأنا ضامن لما [52] ذهب له. إيّاى ودلج الليل! فإنّى لا أوتى بمدلج إلّا سفكت دمه، وقد أجّلتكم فى ذلك بقدر ما يأتى الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإيّاى ودعوى الجاهليّة! فإنّى لا أجد أحدا دعا بها إلّا قطعت لسانه.   [1] . الدلج: اسم من قولهم: أدلج يدلج إدلاجا: إذا سار أوّل الليل، ومنهم من يجعل الإدلاج لليل كلّه. [2] . فى الأصل ومط: «الذين يعتذرون» وهو تصحيف. وما أثبتناه يؤيده الطبري وابن الأثير. [3] . ما بين [] تكملة من الطبري. وما فى ابن الأثير: وتعطفون على المختلس. [4] . أطرقوا: كذا فى الطبري وابن الأثير. وما فى مط وحواشي الطبري: أطرفوا. [5] . ما بين [] تكملة من الطبري وابن الأثير. [6] . بلقاء: كذا فى مط. وفى الطبري: تبقى. [7] . كذا فى الطبري (7: 74) أيضا: حلّت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 - «لقد أحدثتم أحداثا، وقد أحدثنا لها عقوبات [1] فمن غرّق قوما غرّقناه، ومن حرّق على قوم حرّقناه، ومن نقب على قوم نقبت قلبه، ومن نبش قبرا دفنته حيّا. فكفّوا أيديكم وألسنتكم، أكفف يدي وأذاى. لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامّتكم إلّا ضربت عنقه. - «وقد كانت بيني وبين قوم أحن، فجعلت ذلك دبر أذنى، وتحت قدمي. فمن كان منكم محسنا، فليزد إحسانا، ومن كان مسيئا، فلينزع عن إساءته. إنّى لو علمت أنّ أحدكم قد قتله السلّ من بغضي، لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتّى يبدى لى صحيفته. فإذا فعل، لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فربّ مبتئس بقدومنا سيسرّ، ومسرور بقدومنا سيبتئس. - «أيها الناس، إنّا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، [53] نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فى ما أحببنا، ولكم علينا العدل فى ما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم. - «واعلموا أنّى مهما قصّرت عنه، فإنّى لا أقصّر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم، ولو أتانى طارقا، ولا حابسا عطاء عن إبّانه ولا مجمّرا لكم بعثا، فادعوا الله بالصلاح لأئمّتكم، فإنّهم ساستكم المؤدّبون، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا، يصلحوا [2] ، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتدّ لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم. ولا تدركوا حاجتكم، مع أنّه لو استجيب لكم،   [1] . كذا فى مط: لها عقوبات. وفى الطبري وابن الأثير: لكلّ ذنب عقوبة. [2] . فى الأصل: ومتى يصلحوا، تصلحوا. وما أثبتناه يؤيده مط والطبري وابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 كان شرّا لكم.» - «أسأل الله أن يعين كلّا على كلّ، وإذا رأيتمونى أنفذ فيكم أمرا، فأنفذوه على إذلاله، وأيم الله إنّ لى فيكم لصرعى كثيرا، فليحذر كلّ امرئ منكم أن يكون من صرعاى.» وأمهل الناس حتّى بلغ الخبر الكوفة، وعاد إليه وصول الخبر منها. فكان يؤخّر العشاء الآخرة حتّى يكون آخر من يصلّى. ثمّ يمهل بقدر ما يرى أنّ الإنسان يبلغ أقصى البصرة من أدناها، [54] ثمّ يأمر صاحب شرطته بالخروج، فلا يرى إنسانا إلّا قتله. ذكر قتله البريء فأخذ ذات ليلة أعرابيا، فأتى به زيادا، فقال: - «هل سمعت النداء؟» قال: «لا، والله، إنّما قدمت بحلوبة لى، وغشيني الليل، فاضطررتها إلى موضع، وأقمت لأصبح، ولا علم لى بما كان من الأمير.» قال: «أظنّك صادقا والله، ولكن فى قتلك صلاح الأمّة» ! ثمّ أمر به فضربت عنقه. ضبطه البصرة بشدّة وتأكيده الملك لمعاوية وكان زياد أوّل من سدّد [1] أمر السلطان، وأكّد الملك لمعاوية، بعد أن كادت البصرة خاصّة تخرج عن حدّ الضبط، وتخرج بخروجها الملك كلّه. فتقدّم زياد   [1] . سدّد: كذا فى الأصل ومط وابن الأثير (3: 450) ، وفى الطبري (7: 77) شدّ أمر السلطان، وفى حواشيه: شدّد أمره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 فى العقوبة، وجرّد السيف، وأخذ بالظنّة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس خوفا شديدا، حتّى أمن الناس بعضهم بعضا، وحتّى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة، فلا يعرض له أحد، حتّى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة لا تغلق عليها بابها. وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها [1] أحدا قبله، وأدرّ العطاء. وقيل لزياد: - «إنّ السبل مخوفة.» فقال: [55]- «لا أعانى شيئا وراء المصر، حتّى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر، فغيره أشدّ غلبة.» فلمّا ضبط المصر، تكلّف ما وراء ذلك، فأحكمه. وكان يقول: - «لو ضاع حبل بيني وبين خراسان، علمت من أخذه.» وكتّب خمسمائة رجل من مشيخة أهل البصرة فى صحابته، فرزقهم ما بين الثلاثمائة إلى الخمسمائة، واستعان بعدّة من أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه. وزياد أوّل من سير بين يديه بالحربة، ومشى بين يديه بالعمد الحديد، واتّخذ الحرس رابطة خمسمائة [2] ، فكانوا لا يبرحون المسجد، وجعل خراسان أرباعا، فولّى كلّ ربع رجلا كافيا. قطع أيدى الحاصبين فى الكوفة ولمّا مات المغيرة بن شعبة، كتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة، فكان   [1] . فى الأصل ومط: لم يهابوه. وما أثبتناه يؤيّده الطبري. [2] . واتخذ الحرس رابطة خمسمائة: كذا فى مط والطبري 7: 79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 أوّل من جمعت له البصرة والكوفة، واستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، وكان زياد يقيم ستّة أشهر بالبصرة، وستّة أشهر بالكوفة. فلمّا دخل الكوفة صعد المنبر، وقال فى خطبته: - «إنى أردت أن أشخص [56] إليكم فى ألفين من شرط البصرة، ثمّ ذكرت أنكم أهل حقّ، وأنّ حقّكم طال ما دمغ الباطل، فأتيتكم فى أهل بيتي.» فلمّا فرغ من خطبته، حصب على المنبر، فجلس، حتّى أمسكوا. ثمّ دعا قوما من خاصّته، فأمرهم أن يأخذوا أبواب المسجد، ثمّ قال: - «ليأخذ كلّ امرئ منكم جليسه، ولا يقولنّ: لا أدرى من جليسي.» ثمّ أمر بكرسىّ، فوضع له بباب المسجد، فدعا أربعة أربعة، يحلفون باللَّه: - «ما منّا من حصبك.» فمن حلف خلّاه، ومن لم يحلف، حبسه وعزله، حتّى صار إلى ثمانين [1] ، فقطع أيديهم على المكان. قال الشعبي: فو الله ما تعلّقنا عليه بكذبة، وما وعدنا خيرا أو شرّا إلّا أنفذه. ولمّا قدم الكوفة، أتاه عمارة بن عقبة بن أبى معيط، فقال: - «إنّ عمرو بن الحمق يجمع من شيعة أبى تراب.» فقام إليه عمرو بن الحارث [2] فقال: - «ما يدعوك إلى رفع ما لا تتيقّنه، ولا تدرى ما عاقبته.» فقال زياد:   [1] . كذا فى مط: ثمانين. وفى الطبري (7: 88) : ثلاثين، ويقال: بل كانوا ثمانين. [2] . كذا فى الأصل ومط: الحارث (الحرث) . وما فى الطبري: حريث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 - «كلاكما لم يصب: أنت حيث تكلّمنى فى هذا علانية، وعمرو حين يردّك عن كلامك. قوما إلى عمرو بن الحمق، فقولا له: ما هذه الزرافات [57] الّتى تجتمع إليك؟ من أرادك، وأردت كلامه، ففي المسجد.» استخلاف زياد سمرة على الكوفة وتشدّده فى أمر الحروريّة ثمّ استخلف زياد على الكوفة سمرة بن الجندب، وهو من أصحاب رسول الله- صلّى الله عليه- وخرج زياد إلى البصرة، وعاد إلى الكوفة، وقد قتل سمرة ثمانية آلاف من الناس، فقال له زياد: - «هل تخاف أن تكون قتلت أحدا بريئا؟» قال: - «لو قتلت إليهم مثلهم، ما خشيت ذلك.» ! وكان زياد قد تشدّد فى أمر الحروريّة، وأوصى سمرة بذلك، وكان سمرة يخلفه على البصرة، إذا خرج إلى الكوفة، وعلى الكوفة، إذا خرج إلى البصرة، فقتل سمرة منهم خلقا كثيرا. ذكر حيلة للمهلّب بخراسان كان زياد ولّى الحكم بن عمرو ناحية من خراسان، وكتب إليه: - «إنّ أهل ختّل [1] سلاحهم اللّبود، وآنيتهم الذهب.»   [1] . كذا فى الأصل ومط: ختّل. وفى الطبري (7: 109) : أهل جبل الأشلّ، وفى حاشيته: الأسل. والختّل: كورة واسعة كثيرة المدن، خلف جيحون، أجلّ من صغانيان، وأوسع خطّة، وأكثر مدنا، وأكثر خيرا، وهي على تخوم السند يقال لقصبتها: هلبك، ولها مدن كثيرة. قال المرادي: أيّها السائلى عن الحارث النذ ... ل، وعن أهل ودّه الأرجاس عدّ من ختّل، فختّل أرض ... عرفت بالدوابّ، لا بالناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 فغزاهم، حتّى إذا توسّطهم، أخذوا عليه بالشعاب والطرق، وأحدقوا به فعىّ [1] بالأمر، فتولّى المهلّب الحرب، وولى المغيرة بن أبى صفرة أمر العسكر، ولم يزل المهلّب يحتال، حتّى أخذ عظيما من عظماء الأعاجم [58] فقال له: - «اختر بين أن أقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق.» فقال له: - «أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، ومر بالأثقال فلتوجّه نحوه، حتّى إذا ظنّ القوم أنّكم قد دخلتم الطريق لتسلكوه، فإنّهم [2] سيجتمعون لكم، ويعرون [3] ما سواه من الطرق، إلّا من لا يبالى به، فبادروهم إلى غيره، فإنّهم لا يدركونكم حتّى تخرجوا منه.» ففعلوا ذلك، ونجوا، وغنموا غنيمة عظيمة، والقوم كانوا أتراكا. أسماء كتّاب معاوية ومطالبته الهدايا فى النوروز والمهرجان كتب له على الرسائل عبيد الله بن أوس الغسّانى، ثمّ تولّى له ديوان ما بالعراق من صوافي كسرى وآل كسرى، وكتب له على الخراج سرجون بن منصور الرومىّ. وكان لمعاوية كاتب يقال له: عبد الرحمان بن الدرّاج، كان من مواليه، فقلّده خراج العراق لمّا قلّد المغيرة الحرب بها، وطالب أهل السواد بأن يهدوا إليه فى النوروز، والمهرجان. ففعلوا ذلك، فبلغ عشرة آلاف ألف [000، 000، 10] درهم   [1] . كذا فى الأصل والطبري: عىّ. وفى مط وحواشي الطبري: عنى. فسعى. [2] . فى الأصل ومط: فإنّه. وما أثبتناه يؤيّده الطبري. [3] . كذا فى الأصل ومط: يعرون. وفى الطبري: يعرّون. وفى حواشيه: يعزون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 فى سنة. ثمّ دعا بالدهاقين، فسألهم عمّا كان من صوافي كسرى، فعرّف [59] أنّ الديوان بحلوان، فبعث، فأحضر، ثمّ استخرج ما كان فيه، فكان أوّل ذلك كلواذى للأساورة، والكتّاب، والحاشية. وكان كسرى لا يقطع الكتّاب أكثر من ثلاثين جريبا. فكتب ابن الدرّاج إلى معاوية بذلك، فكتب إليه معاوية: أن استصفها، واستخرج ما فيها. ففعل، فبلغت صوافي معاوية على يده خمسين ألف ألف [000، 000، 50] . وكان عمرو بن سعيد بن العاص يكتب له على ديوان الجند. معاوية واتخاذ ديوان الخاتم وكان معاوية أوّل من اتّخذ ديوان الخاتم. وكان سبب ذلك أنّه كتب لعمرو بن الزبير بمائة ألف [000، 100] درهم إلى زياد، وهو عامله على العراق، ففضّ عمرو الكتاب، وجعلها مائتي ألف [000، 200] درهم. فلما رفع زياد حسابه قال له معاوية: - «ما كتبت له إلّا مائة ألف.» وقال معاوية: - «المائة الألف ينبغي أن تؤخذ منه.» فحبسه مروان، فصار عبد الله بن الزبير إلى مروان، وهو على المدينة، فأخبره بقصّته، فقال مروان: - «فإنّ الخبر كيت وكيت.» فقال عبد الله: - «أرأيت- إن أعطيناكها- ألك عليه سبيل؟» قال: - «لا.» قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 - «فابعث، فخذها.» ففعل. [60] واتّخذ [1] معاوية ديوان الخاتم، وقلّده عبد الله بن مجمّر، وكان قاضيا [2] . من سيرة زياد وكان زياد يجلس فى كلّ يوم، إلّا يوما فى الجمعة، فيبدأ برسل عمّاله، فينظر فى ما قدموا له، ويسألهم عن بلادهم، ويجيبهم عن كتبهم، ثمّ ينظر فى نفقاته، وفى أعطيات رجاله، ثمّ فى ما دخل من البياعات، وفى الأسعار، ويسأل عن الأخبار، وينظر فى ما يحتاج إليه من حفر نهر، وإصلاح قنطرة، أو تسهيل عقبة، أو نقل طريق إلى غيره، ثمّ يأخذ فى كتب العمّال، فيمليها بنفسه، فكان معاوية يفعل مثل ذلك سواء، ولا يخالفه حتّى كبر [3] . وكان الضحّاك بن قيس يملى وهو يسمع. وخلا زياد يوما على كاتبه أسرارا له، وبحضرته عبيد الله ابنه. فنعس زياد، فقام لينام، وقال لعبيد الله: - «تعهّد هذا، لا يغيّر شيئا ممّا رسمته له.» فعرض لعبيد الله حاجة إلى البول، واشتدّ به ذلك، وكره أن ينبّه أباه، وكره أن يقوم عن الكاتب ويخلّيه، فشدّ إبهاميه بخيط، وختمهما، وقام لحاجته، فاستيقظ زياد قبل عوده. فلمّا نظر إلى الكاتب سأله عن خبره، فأخبره، فأحمد ذلك من فعل عبيد الله. وأهدى زياد إلى معاوية [61] هدايا كثيرة، وكان فيها عقد جوهر نفيس، فأعجب به معاوية. فلما رأى ذلك زياد، قال له:   [1] . فى مط: أخذ. [2] . فى مط: قاميا. [3] . كذا فى الأصل ومط: ولا يخالفه حتّى كبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 - «يا أمير المؤمنين، دوّخت لك العراق، وجبيت لك برّها وبحرها، وغثّها وسمينها، وحملت لك لبّها وقشرها.» فقال له يزيد: - «أين فعلت ذلك؟ لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عزّ قريش، ومن عبيد إلى أبى سفيان، ومن القلم إلى المنابر، وبعد، فما أمكنك شيء ممّا اعتددت به، إلّا بنا.» فقال معاوية: - «حسبك! وريت بك زنادي.» كلّ شيء هالك! وقلّد معاوية عبد الرحمان بن زياد خراسان بعد موت أبيه، وكان سخيّا، فلم يزل عليها إلى أن ولى يزيد، وقتل الحسين بن علىّ- عليهما السلام- واستخلف على عمله قيس بن الهيثم، وأقبل إلى يزيد، فأنكر قدومه، ثمّ رضى عنه، وسأله عمّا حصل له، فاعترف له بعشرين ألف ألف [000، 000، 20] درهم، فسوّغه إيّاها [1] ، وكان معه من العروض أكثر منها. فقال يوما لكاتبه إصطفانوس: - «ويحك! كيف يجيئني النوم وهذا المال عندي؟» فقال له: - «وكم مبلغه؟» ، فقال: - «قدّرت منه لمائة سنة، فى كلّ يوم ألف درهم، لا أحتاج منه إلى شراء رقيق، ولا كراع، ولا عرض من الأعراض [2] .» [62]   [1] . كذا فى الأصل ومط: فسوّغه إيّاها. [2] . كذا بالأصل: عرض من الأعراض (بالعين المهملة) ، وفى مط: غرض من الأغراض (بالغين المعجمة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فقال له إصطفانوس: - «أنام الله عينك أيّها الأمير، لا تعجب من نومك وعندك هذا المال، ولكن اعجب من نومك إن ذهب، ثمّ نمت.» قال: والله، لقد ذهب ذلك المال كلّه، أودع بعضه فجحد، وأنفق بعضه، وسرق أسبابه بعضه، فآل أمره إلى أن باع فضّة كانت حلية مصحفه، وكان يركب حمارا صغيرا تنال رجله الأرض عليه. فلقيه مالك بن زياد [1] ، فقال له: - «ما فعل المال الذي كنت تقول فيه ما تقول؟» فقال: - «كلّ شيء هالك، إلّا وجهه [2] ، يا با يحيى!» تحريض معاوية بين سعيد بن العاص ومروان وكتب معاوية إلى سعيد بن العاص: أن: - «اقبض أموال مروان، واهدم داره.» فأمسك سعيد عن ذلك. ثمّ كاتبه فى ذلك ثانيا، فراجعه سعيد، فقال: - «يا أمير المؤمنين، قرابته قريبة.» فكتب إليه ثالثا، بقبض أمواله، وهدم داره، فلم يفعل. فعزل سعيدا [3] ، وولّى مروان، وكتب إليه أن: - «اهدم دار سعيد.» فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها، فقال له سعيد: - «يا با عبد الملك، أتهدم دارى؟» قال: - «نعم! كتب إلىّ أمير المؤمنين، ولو كتب إليك، لفعلت.» قال:   [1] . زياد: كذا فى الأصل، وما فى مط: دينار! [2] . س 28، القصص: 88. [3] . أنظر الطبري (7: 164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 - «ما كنت لأفعل.» قال: - «بلى والله، لو كتب إليك لفعلت.» قال: - «كلّا، يا با عبد الملك.» [63] وقال لغلامه: - «انطلق، وجئني بكتب معاوية.» فجاء بها، فقرأها عليه فى ما كتب فى هدم داره. فقال مروان: - «يا با عثمان! وردت عليك هذه الكتب فى هدم دارى، فلم تفعل، ولم تعلمني!» قال: - «ما كنت لأهدم دارك، ولا أمنّ عليك، وإنّما أراد معاوية أن يحرّض بيننا.» فقال مروان: - «بأبى أنت، والله أكثر منّا ريشا وعقبا.» ورجع ولم يهدم دار سعيد. بين سعيد ومعاوية وقدم سعيد على معاوية، فقال: - «يا با عثمان، كيف تركت أبا عبد الملك؟» قال: - «تركته ضابطا لأعمالك، منفّذا لأمرك.» قال: - «إنّه لصاحب الخبزة كفى نضجها، فأكلها.» قال: - «كلّا، والله يا أمير المؤمنين، إنّه مع قوم لا يجمل [1] بهم السوط، ولا يحلّ [2] لهم السيف، يتهادون كوقع النبل، سهم لك، وسهم عليك.» قال:   [1] . لا يجمل: فيها غموض بالأصل، وفى مط: تحمل. [2] . كذا فى الأصل. وفى مط: تحمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 - «ما الذي باعد بينك وبينه؟» قال: - «خافني على شرفه، وخفته على شرفى.» قال: - «فماذا له عندك؟» قال: - «أسرّه غائبا، وأسوؤه شاهدا.» قال: - «تركتني يا با عثمان، فى هذه الهنات؟» قال: - «إنّك تحمّلت الثقل، وكفيت الحرم [1] ، وكنت قريبا، فلو دعوت لأجبت، ولو وهيت لرقعت [2] .» [64] كلام واقع ارتفع به صاحبه ومن الكلام الواقع الذي ارتفع به صاحبه، كلام عبيد الله بن زياد لمعاوية. وذلك أنّه وفد على معاوية، بعد موت أبيه، فقال له معاوية: - «من استخلف أخى على عمله؟» قال عبيد الله: - «استخلف خالد بن أسيد على الكوفة، وسمرة بن الجندب على البصرة.» فقال له معاوية: - «لو استعملك أبوك، لاستعملتك.» فقال عبيد الله: - «أنشدك الله، أن يقولها لى أحد بعدك لو ولّاك أبوك، أو عمّك، ولّيتك.» وكان معاوية لا يولّى أحدا حتّى يمتحنه بولاية الطائف، فإن أحسن الولاية، ولّاه مكّة، فإن وفى، ولّاه معها المدينة، ثمّ يرتّبه كذلك، فلما قال عبيد الله بن زياد ما قال، استرجحه، وعهد إليه، ووصّاه، وولّاه مكان أبيه. فغزا خراسان، وفتح   [1] . الحرم: كذا بالأصل. وفى مط: الجزم. [2] . لرقعت: كذا فى الأصل. وفى مط: لوقعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 رامين [1] ، ونسف [2] ، وبيكند [3] ، وهي من بخارى. فقدم بألفين من سبى بخارى، وكلّهم جيّد الرمى بالنشّاب. وكان معاوية ولّى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان، فاحتال له أهل البصرة، حتّى عزله عنهم. ذكر حيلتهم هذه [65] خطب عبد الله بن عمرو بن غيلان [4] ، على منبر البصرة، فحصبه رجل من بنى ضبّة، فأمر به، فقطعت يده، فأتته بنو ضبّة، فقالوا: - «إنّ صاحبنا جنى ما جنى، وقد بلغ الأمير [5] في عقوبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين أنه قطع على فاحشة، ونسألك أن تكتب إلى أمير المؤمنين أنه قطع على تبرئة [6] ، وأمر لم يضح [7] .» فكتب لهم إلى معاوية بما سألوه، فأمسكوا الكتاب عندهم، حتّى بلغ رأس السنة. ثمّ وافوه، فقالوا: - «يا أمير المؤمنين، إنّه قطع صاحبنا، وهذا كتابه بإقراره على غير ذنب.» فقرأ الكتاب، وقال: - «أمّا القود من عمّالى، فلا سبيل إليه، ولكن، إن شئتم، ودينا صاحبكم.» قالوا:   [1] . رامين: كذا فى الأصل ومط. وما في ابن الأثير: رامنى. وفي الطبري: راميثن. [2] . في الأصل ومط: نصف. وما في ابن الأثير: نسف. [3] . بيكند: مهملة في الأصل ومط. والإعجام من ابن الأثير (3: 499) . [4] . من «غيلان» إلى «غيلان» ساقطة من مط. [5] . كذا فى الطبري (7: 171) : بلغ الأمير. [6] . كذا في الأصل: تبرئة. في مط: تنزية. وفي ابن الأثير: شبهة. [7] . لم يضح: كذا فى الأصل ومط. وما في ابن الأثير: لم يتضح (3: 503) . وفي الطبري (7: 172) : على شبهة وأمر لم يضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 - «فده.» فوداه من بيت المال، وعزل عبد الله، وولّى عبيد الله بن زياد. ذكر بعض سيرة معاوية، وآرائه، ودهائه ما قاله عمر فيه كان عمر بن الخطّاب كثيرا ما يقول: - «تذكرون كسرى وقيصر ودهيهما، وسياستهما وعندكم معاوية.» بين معاوية وعمرو بن العاص فممّا يحضرنا من ذلك: أنّ عمرو بن العاص، كان وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو: - «انظروا، إذا دخلتم على ابن هند، فلا تسلّموا عليه [66] بالخلافة، فإنّه أعظم لكم في عينه، وصغّروه ما استطعتم.» فلمّا قدموا عليه، قال معاوية لحاجبه: - «كأنّى بابن النابغة، قد صغّر شأنى عند القوم، فإذا دخل الرجل، أو الوفد، فتعتعوهم [1] أشدّ ما يكون، فلا يبلغنّى رجل منهم، إلّا وقد أهمّته نفسه. [2] » فكان أوّل من دخل عليه رجل من مصر، يقال له: ابن خيّاط، فدخل وقد تعتع، فقال: - «السلام عليك، يا رسول الله!» فتتابع القوم على ذلك، فلمّا خرجوا من عنده، قال لهم عمرو:   [1] . تعتعه: تلتله وقلقله فأقبل به وأدبر: حرّكه بعنف: أكرهه في الأمر حتّى قلق. تعتع في الكلام: تردّد من عىّ أو حصر (مد. مل) . [2] . في الطبري (7: 207- 206) : همّته نفسه بالتلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 - «لعنكم الله، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة، فسلّمتم عليه بالنبوّة!» وكان معاوية قد لبس ذلك اليوم أبهى لباسه، واكتحل، وكان من أجمل الناس، إذا فعل ذلك. بينه وبين عمر بن الخطّاب ومن ذلك أنّ عمر بن الخطّاب، كان خرج إلى الشام، فرأى معاوية في موكب يتلقّاه، ثمّ راح إليه في موكب. فقال له عمر: - «يا معاوية! تغدو في موكب، وتروح في مثله. ويبلغني أنّك تتصبّح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك.» فقال: - «يا أمير المؤمنين، العدوّ بها قريب، ولهم عيون وجواسيس فأردت أن يروا للإسلام عزّا.» فقال عمر: - «إنّ هذا [67] لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب.» فقال معاوية: - «يا أمير المؤمنين مرني بما شئت أصر إليه.» قال: - «ويحك! ما ناظرتك [1] في أمر أعتب عليك فيه، إلّا تركتني لا أدرى: آمرك، أم أنهاك [2] !» ما كان بينه وبين المغيرة ومن ذلك أنّ المغيرة كتب إلى معاوية:   [1] . في مط: «ما ناظرتك! في ما أعتب» بدل: «ما ناظرتك في أمر أعتب.» [2] . في مط: أم نهاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 - «أمّا بعد، فإنّى كبرت، ودقّ عظمى، وشنفت [1] لى قريش، فإن رأيت أن تعزلني، فاعزلنى.» فكتب إليه معاوية: - «جاءني كتابك تذكر أنّه كبرت سنّك، فلعمرى، ما أكل عمرك غيرك، وتذكر أنّ قريشا شنفت لك، ولعمري، ما أصبت خيرا إلّا منهم، وتسألنى أن أعزلك، فقد فعلت، فإن تك صادقا فقد شفعتك [2] ، وإن تك مخادعا، فقد خادعتك.» فلما ورد المغيرة باب معاوية، ذهب كاتبه إلى سعيد بن العاص، وأشار عليه أن يخطب ولاية الكوفة، ودلّه على وجوه من الرغائب. فلما بلغ ذلك المغيرة، شقّ عليه، ودخل على يزيد بن معاوية، وعرّض له بالبيعة، فدخل يزيد على أبيه. فأعلمه ذلك، فدعا معاوية المغيرة، ورفق به، وردّه إلى الكوفة، وسأله أن يأخذ بيعة يزيد على الناس. [68] وقال عمرو بن العاص: - «ما رأيت معاوية متّكئا قطّ، واضعا إحدى رجليه على الأخرى، كاسرا [3] عينه، يقول لرجل: تكلّم، إلّا رحمته.» بين معاوية وهانئ حكى الشعبىّ: أنّ وفد الكوفة قدموا على معاوية لمّا أراد البيعة ليزيد، وفيهم هانئ بن عروة المرادي. فبينا أنا جالس إذ قال هانئ بن عروة: - «العجب من معاوية، يريد أن يقسرنا على بيعة ابنه يزيد، وحاله حاله [4] ، وما ذاك بكائن.»   [1] . شنف فلانا، وله: أبغضه، وتنكّره. [2] . شفع فلانا في كذا: قبل شفاعته فيه. [3] . كسر فلان من طرفه، وعلى طرفه كسرا: غضّ منه شيئا. [4] . وحاله حاله: كذا في الأصل، وما في مط: حاله (مرة واحدة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وغلام من قريش قاعد في حلقته، فقام، فدخل على معاوية، فأخبره بقول هانئ، فقال له: - «أنت سمعت هانئا يقوله؟» قال: - «نعم.» قال: - «فاخرج من هذا الباب وائت حلقته من باب من أبواب المسجد، غير بابك الذي خرجت منه، فقل له إذا خفّ من عنده: - «أيّها الشيخ! قد سمعت مقالتك، ولست في زمن أبى بكر ولا عمر، ولا أحبّ لك أن تتكلّم بهذا الكلام، فإنّهم بنو أميّة، وجرأتهم جرأتهم، وإقدامهم ما قد علمت.» ثمّ قال له معاوية: - «.. إذا فرغت من كلامك، فقل له: - إنه لم يدعني إلى هذا، إلّا النصيحة لك. ثمّ احفظ عليه ما يقول.» فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ، فلما خفّ من عنده، دنا منه، فكلّمه بهذا [69] الكلام. فقال له: - «يا بن أخى، والله ما بلغت نصيحتك لى كلّ هذا، وإنّ هذا الكلام لكلام معاوية، وأعرفه، وأشهد به.» فقال الفتى: «ما أنا ومعاوية! والله ما يعرفني، ولا يدرى من أنا.» قال: - «يا بن أخى، فلا عليك، ولكن إذا لقيته فقل له: يقول لك هانئ: لا والله، لا إلى ما أردت من سبيل، انهض يا بن أخى!» فذهب الفتى، فأعلم معاوية ما قال، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 - «بالله نستعين عليه.» ثمّ أذن للوفد، وقال لهم: - «ارفعوا حوائجكم.» ففعلوا، فلما عرض كتاب هانئ على معاوية، قال: - «يا هانئ ما صنعت شيئا، فزد [1] .» فزاد هانئ ومعاوية يقول: - «ما صنعت شيئا، هات حوائجك!» حتّى لم يدع حاجة لمن [2] يهتمّ به إلّا رفعها وقضاها. ثمّ قال: - «يا هانئ لم تصنع شيئا.» فقال: - «يا أمير المؤمنين، قد بقيت حاجة.» قال- «وما هي؟» قال: - «بيعة يزيد، أتولّاها له بالعراق.» قال: - «هي إليك.» فقدم هانئ، فقام بأمر يزيد، وتولّى المغيرة بن شعبة البيعة. من تشبّه بمعاوية في ذلك وتشبّه بمعاوية عبد الملك، وذلك أنه لمّا أراد البيعة للوليد، وجّه الوليد إلى القين، وعاملة [3] ، فأصلح بينهم، وكانت بينهما دماء، فاحتملها. فكانت القين وعاملة أوّل من دعا إلى الوليد. ثمّ أراد [70] الوليد ذلك عبد العزيز ابنه، فوجّهه إلى قيس بن غسّان، وكانت بينهما دماء، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانت قيس وغسّان أوّل من دعا   [1] . فزد: سقطت من مط. [2] . لمن: سقطت من مط. [3] . القين وعاملة: كذا فى الأصل. وما في مط: الفين وعامله. (في كلا الموضعين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 إلى عبد العزيز. ثمّ صنع ذلك سليمان لمّا وقع بين قيس وحمير بدمشق من الدماء ما وقع. وجّه ابنه أيّوب، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، ومات أيّوب قبل أن تظهر له بيعة. ثمّ صنع ذلك يزيد بن عبد الملك. كتب إليه ابن هبيرة من الجزيرة، يشير عليه: أن يوجّه الوليد بن يزيد، ليصلح ما بين قيس وتغلب. فوجّهه، فأصلح بينهم، واحتمل دماءهم، فكانوا أوّل من تكلّم في أمر الوليد، وذلك في حياة أبيه، حتّى بايع [1] بعد هشام له. كلام لمعاوية وقال معاوية: - «إنّى لأرفع نفسي، أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحسانى.»   [1] . بايع: كذا في الأصل. وما في مط: بويع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أيّام يزيد بن معاوية وما جرى فيها من الأحداث الّتى يليق ذكرها بهذا الكتاب وصايا معاوية ليزيد كان معاوية وطّأ لابنه يزيد الأمور، وأخذ على الوفود له البيعة، فلما مرض [71] المرضة التي توفّى فيها، دعا به وقال: - «إنى لا أتخوّف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك، إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علىّ بن أبى طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمان بن أبى بكر. - «فأمّا عبد الله بن عمر، فرجل قد وقذته [1] العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره، بايعك.. - «وأما حسين بن علىّ، فإنّ أهل العراق لن يدعوه، حتّى يخرجوه، فإن خرج عليك، فظفرت عليه، فاصفح عنه، فإنّ له رحما ماسّة، وحقّا عظيما.. - «وأمّا ابن أبى بكر، فرجل ليست له همّة إلّا في النساء، واللهو. - «وأمّا الذي يجثم عليك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فإذا أمكنته   [1] . في مط: وفدته. وقذ فلانا يقذه وقذا: ضربه حتّى استرخى، وأشرف على الموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك، فقدرت عليه، فقطّعه آرابا.» فلما مات معاوية امتنع هؤلاء من البيعة، وخرج عبد الله بن الزبير، والحسين، إلى مكّة لمّا أخذهما عامل يزيد بالبيعة، وكانا يومئذ بالمدينة. وأما عبد الله بن عمر، فلم يتشدّد عليه، وكذلك عبد الرحمان بن أبى بكر. فلما قدم عبد الله بن الزبير والحسين مكّة، اجتمع الناس على الحسين، وابن الزبير قد [72] لزم جانب الكعبة، فهو قائم يصلّى عندها عامة نهاره ويطوف، ثمّ يأتى الحسين في من يأتى، ولا يزال يشير عليه بالرأى، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يطيعونه، ولا يبايعونه أبدا، ما دام الحسين بالبلد، وأنّ الحسين أعظم في نفوسهم، وأعينهم منه، وأطوع في الناس منه. وبلغ أهل العراق امتناع الحسين من البيعة ليزيد، وأنه لحق بمكّة، فأرجفوا [1] بيزيد. ذكر رأى أشير به على الحسين بن علىّ عليهما السلام كان عبد الله بن مطيع لقى الحسين، وهو يريد مكّة، فقال: - «جعلني الله فداءك، أين تريد؟» قال: - «أما الآن، فإنّى أريد مكّة، وأما بعد، فإنى أستخير الله عزّ وجلّ.» قال: - «خار الله لك، وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكّة، فإيّاك أن تقرب الكوفة، فإنّها بلدة مشؤومة قتل بها أبوك، وخذل فيها أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتى على   [1] . أرجفوا: خاضوا في الأخبار السيئة، وذكر الفتن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 نفسه. الزم الحرم، فإنك سيّد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا، ويتداعى الناس إليك من كلّ جانب.» ذكر رأى آخر أشير به عليه [73] فأمّا محمد بن الحنفيّة، فإنه أتاه، فقال: - «يا أخى، أنت أعزّ خلق الله علىّ، ولست أدّخرك نصيحتي [1] ، تنحّ عن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى الشام، فادعهم إلى نفسك فإن بايعوك، حمدت الله عليه، وإن اجتمع على غيرك، لم ينقص الله بذلك دينك، ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك. إنى أخاف أن تأتى مصرا من الأمصار، فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، والأخرى عليك، فيقتتلوا، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأمّة نفسا، وأبا، وأمّا، أضيعها دما، وأذلّها أهلا.» فقال له الحسين: - «فأين أذهب يا أخى؟» قال: «انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت لك، لحقت بالرمال، وشعف [2] الجبال، وتنقّلت [3] من بلد إلى بلد حتّى يفرق [4] لك الرأى، فتستقبل الأمور استقبالا، وتستدبرها استدبارا.» فقال: - «يا أخى، قد نصحت وأشفقت.»   [1] . في مط: أذخرك نصيحتي. لست أدّخرك: لست أدّخر منك. [2] . في مط: سعف. والشعفة من كل شيء: أعلاه. يقال: شعفة الجبل، شعفة الرأس، وأيضا: شعفة القلب: الحبّ الزائد. [3] . في مط: ينقلب. [4] . يفرق لك الرأى: يستبين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 ما كتبه إليه أهل الكوفة ثمّ إنّ أهل الكوفة، من شيعة أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب عليه السلام اجتمعوا، فكاتبوا الحسين بن علىّ: - «إنّا قد [74] اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّى بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلت إلينا رجونا أن يجمعنا الله لك على الإيمان.» ثمّ اجتمع رؤساء الشيعة مثل سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة [1] وأشباههم، وكتبوا إليه: [ «بسم الله الرحمن الرحيم» ] [2]- «لحسين بن علىّ من شيعته المؤمنين. أما بعد، فحىّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأى لهم في غيرك، فالعجل، ثمّ العجل، والسلام.» ثمّ اجتمعوا ثالثة، فكتبوا إليه: - «من شبث بن ربعىّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رويم، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن عمير. أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، [وطمّت الجمام،] [3] فإذا شئت فاقدم على جنود مجنّدة لك [4] ، والسلام.» فاجتمعت الرسل كلّهم عند الحسين، وقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثمّ كتب أجوبة كتبهم، وأنفذ مسلم بن عقيل بن أبى طالب إليهم، وقال له: - «اذهب، فاعرف أحوال الناس، وانظر ما كتبوا به، فإن كان صحيحا قد اجتمع عليه رؤساؤهم، وتابعهم من يوثق به، خرجنا إليهم.» فسار مسلم إلى الكوفة، وبها النعمان بن بشير الأنصارى أميرا [75] من قبل   [1] . نجبة: مهملة في الأصل ومط. والضبط من الطبري 7: 233. [2] . البسملة غير موجودة في الأصل ومط. فأضفناها من الطبري (7: 234) . [3] . ما بين [] تكملة من الطبري (7: 235) . [4] . في الطبري: على جند لك مجنّد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 يزيد. فلما تحدّث الناس بمقدمه دبّوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا. فقام عبد الله بن مسلم الحضرمي إلى النعمان بن بشير، فقال له: - «إنك ضعيف، أو متضعّف، قد فسد البلاد، وليس يصلح ما ترى إلّا الغشم.» فقال النعمان: - «لأن أكون ضعيفا وأنا فى طاعة الله، أحبّ إلىّ من أن أكون قويّا، وأنا فى معصية الله، وما كنت لأهتك سترا ستره الله.» فكتب بقول النعمان إلى يزيد وقيل له [1] : - «إن كانت لك حاجة فى الكوفة، فابعث إليها رجلا قويّا ينفّذ أمرك، ويعمل مثل عملك، فإنّ النعمان بن بشير إمّا ضعيف، أو متضعّف.» فدعا يزيد كاتبه سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر. ذكر رأى أشار به الكاتب على يزيد قال له: - «أكنت قابلا من معاوية لو كان حيّا.» قال: - «نعم.» قال: - «فاقبل منّى، فإنّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد، فولّه.» وكان يزيد ساخطا عليه، وهمّ بعزله عن البصرة. فكتب إليه برضاه عنه، وأنه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه [76] أن يطلب مسلم بن عقيل، فيقتله. فأقبل عبيد الله فى وجوه أهل البصرة، حتّى قدم الكوفة متلثّما، فلا يمرّ على مجلس من مجالسهم فيسلّم، إلّا قالوا: - «وعليك السلام يا بن بنت رسول الله.» !   [1] . له: سقطت من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وهم يظنّون أنه الحسين بن علىّ، حتّى نزل القصر، واجما كئيبا لما رأى. ثمّ جمع الناس فخطبهم، وأعلمهم نيّة يزيد [1] فى الإحسان إلى سامعهم ومطيعهم، والشدّة على مريبهم وعاصيهم، ووعد، وأوعد، وختم الخطبة بأن قال: - «ليبق امرؤ على نفسه، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد [2] » ثمّ أخذ العرفاء أخذا شديدا، ودعا الناس، فقال: - «اكتبوا لى العرفاء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، وأهل الريب، الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا، فهو بريء، ومن لم يكتب لنا أحدا، فليضمن لنا ما فى عرافته: أن لا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغى علينا فيهم باغ، فمن لم يفعل ذلك، فبرئت منه الذمّة وحلال علينا دمه وماله. وأيّما عريف وجد فى عرافته من بغية [3] أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا، صلب على باب داره، وألقيت تلك العرافة من العطاء.» [77] ذكر تلافى عبيد الله ملك يزيد بعد أن أشرف على الذهاب، وما كان من حيله ومكايده ثمّ إنّ عبيد الله دعا مولى له، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وقال له: - «اذهب، حتّى تسأل عن الرجل الذي يبايع أهل الكوفة [4] ، فأعلمه: أنّك رجل من أهل حمص جئت [5] لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه، ليتقوّى [6] به.» فلم يزل يتلطّف، ويرفق، ويسترشد، حتّى دلّ على شيخ من أهل الكوفة   [1] . مط: «وأعلمهم أنه يريد الإحسان» بدل: «وأعلمهم نيّة يزيد فى الإحسان.» [2] . والعبارة فى مط: ليتق امر على نفسه، لا الصدق ينبى عنك، ولا الوعيد. [3] . فى مط: «أمن بقية أمير المؤمنين» ! بدل «من بغية أمير المؤمنين» . [4] . فى مط: يبايع على الكوفة. [5] . كذا فى الأصل والطبري (7: 228) : جئت. وفى مط: حيث، وهو خطأ. [6] . فى مط: لتقوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 يأخذ [1] البيعة، فلقيه، فأخبره. فقال الشيخ: «لقد سرّنى لقاؤك، وساءني. أما ما سرّنى من ذاك، فما هداك الله له، وأمّا ما ساءني، فإنّ أمرنا لم يستحكم بعد.» قال: فأدخله عليه، وقبض منه المال، وبايعه، ورجع الرجل إلى عبيد الله، فأخبره. مسلم ينتقل إلى بيت هانئ وانتقل مسلم، حين وافى عبيد الله، إلى منزل هانئ بن عروة المرادىّ، وكتب إلى الحسين يخبره ببيعة بضعة عشر ألفا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم عليه. وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة: - «إنى أعلم أنه قد سار معى، وأظهر الطاعة لى من هو عدوّ للحسين، حين ظنّ أنّ الحسين قد دخل البلد، وغلب عليه، وو الله، ما عرفت منكم أحدا.» وقدم شريك بن الأعور [78] من البصرة، وكان من شيعة علىّ، عليه السلام. ذكر مكيدة بليغة لشريك ما تمّت له فقال لهانىء: - «مر مسلما يكون عندي، فإنّ عبيد الله يعودني.» وقال شريك لمسلم: - «أرأيتك، إن أمكنتك من عبيد الله، تضربه بالسيف؟» قال: - «نعم والله.» وأظهر شريك زيادة على ما به من الشكاة، وهو نازل فى دار هانئ. وجاء   [1] . فى الطبري: يلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 عبيد الله يعود شريكا فى منزل هانئ. فقال شريك لمسلم: - «إذا تمكّن عبيد الله، فإنّى مطاوله الحديث، فاخرج إليه بسيفك، واقتله، فليس بينك وبين القصر من تحول دونه، وإن شفاني الله كفيتك البصرة.» فقال هانئ: - «إنى لأكره قتل رجل فى منزلي.» وشجّعه شريك، وقال: - «هي فرصة لك، وإيّاك أن تضيّعها، فانتهزها فيه، فإنّه عدوّ الله، وعلامتك أن أقول [1] : اسقونى ماء.» وجاء عبيد الله بن زياد، فدخل، وجلس، وسأل شريكا عن وجعه، وقال: - «ما الذي تجد، ومتى اشتكيت؟» فلما طال سؤاله إيّاه، ورأى أنّ أحدا لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول: - «اسقونى ويحكم [ماء] ، [2] ما تنتظرون بنفسي [3] [79] لن [4] تحيوها، اسقونيه [5] وإن كانت نفسي فيه [6] .» فقال ذلك مرّتين، أو ثلاثا. فقال عبيد الله: - «ما شأنه؟ أو ترونه يهجر؟» فقال هانئ:   [1] . أقول: سقطت من مط. [2] . ماء: سقطت من الأصل، فأثبتناها كما فى مط. [3] . فى مط: «بليلى» بدل «بنفسي» . [4] . فى مط: أن يحتوها. وفى الطبري (7: 248) : «ما تنظرون بسلمى أن تحيوها، اسقنيها.» ، فى ابن الأثير: «اسقونيها.» ، وفى حواشي الطبري: «ما الانتظار لسلمى لا تحيّوها.» ، «ما انتظار سليما لا يخيبها» . أيضا فى الطبري (7: 224) : «ويلكم، تحمونى الماء، ولو كانت فيه نفسي» . [5] . اسقونيه: ما فى الأصل ومط: اسقنيها. [6] . فيه: ما فى الأصل ومط: فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 - «نعم، أصلحك الله، هذا ديدنه منذ الصبح.» ففطن مولى لعبيد الله قائم على رأسه، فغمزه، فقام عبيد الله. فقال شريك: - «انتظر، أصلحك الله، فإنى أريد أن أوصّى إليك.» فقال: - «أعود.» فلما خرج، قال شريك لمسلم: - «ما منعك من قتله؟» قال: - «خصلتان: أما إحداهما، فكراهة هانئ أن يقتل فى داره رجل. والأخرى، فحديث سمعته من علىّ عن النبىّ- صلّى الله عليه- أنّ الإيمان قيّد الفتك، فلا يفتك مؤمن.» فلبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثا ومات. هانئ يطلب إلى القصر ودعا عبيد الله هانئ بن عروة، فأبى أن يجيبه إلّا بأمان، فقال: - «ماله وللأمان، هل أحدث حدثا؟» فجاءه بنو عمّه، ورؤساء العشائر، فقالوا: - «لا تجعل على نفسك سبيلا، وأنت بريء.» وأتى به، فقال عبيد الله: - «إيه [1] يا هانئ، ما هذه الأمور التي تربّص [2] فى دورك لأمير المؤمنين، وعامّة المسلمين؟» قال:   [1] . والضبط فى الطبري: «إيه» بالتنوين. [2] . ما فى الأصل غير واضح. وفى مط: تربض، وما أثبتناه من الطبري (7: 251) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 - «وما ذاك، يا أمير المؤمنين!» قال: - «جئت بمسلم بن عقيل، وأدخلته دارك [80] وجمعت السلاح، والرجال فى دور حولك [1] ، وظننت أنّ ذلك يخفى.» فقال: - «ما فعلت، وما مسلم عندي.» قال: - «بلى، قد فعلت» قال: - «لا، ما فعلت.» قال: - «بلى.» فلما كثر ذلك، وأبى هانئ إلّا مجاحدته، دعا عبيد الله ذلك الدسيس الذي دسّه، وحمل على يده المال، وكان قد أنس بهم، وداخلهم، وجعل ينقل كلّ ما يكون منهم، إليه. فلما رءاه هانئ، قال له عبيد الله: - «هل تعرف هذا؟» فعلم هانئ أنه كان عينا عليهم، فسقط فى خلده [2] ساعة، ثمّ إنّ نفسه راجعته، فقال له: - «اسمع منّى، فإنّى، والله الذي لا إله إلّا هو أصدقك: ما دعوته، ولكن نزل علىّ، فاستحييت من ردّه، ولزمني ذمامه، فأدخلته، وأضفته، وآويته. فإن شئت، أعطيتك موثقا، وما تطمئن إليه، لا أبغيك سوءا ولا غائلة، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون فى يدك حتّى آتيك، وأنطلق إليه، فآمره أن يخرج من دارى إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره.» فقال:   [1] . كذا فى الأصل ومط: فى دور حولك. وفى الطبري (7: 251) : فى الدور حولك. [2] . فى الأصل ومط، وبعض الأصول: فى جلده! وما ضبطناه من الطبري. وفى ابن الأثير: فى يده. وهو أصحّ. سقط فى يده: زلّ، وأخطأ فى الكلام، ندم، تحيّر. ولعلّ «فى خلده» تعبير آخر عمّا أثبته ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 - «والله، لا تفارقني أبدا، حتّى تأتينى به.» قال: - «والله، لا أجيئك به أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله؟» قال: [81]- «والله، لتأتينّى به.» وقام الناس إليه، يناشدونه فى نفسه، ويقولون: - «إنّه سلطان، وليس عليك فى دفعه إليه عار، ولا نقيصة.» فقال: - «بلى والله، علىّ فى ذلك، الخزي والعار: أدفع جارى وضيفي إلى قاتله، وأنا صحيح، أسمع، وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان!» فقال عبيد الله بن زياد: - «أدنوه منّى!» فأدنى منه، وله ضفيرتان قد رجّلهما [1] . فأمر بضفيرتيه، فأمسك بهما، واستعرض وجهه بقضيب فى يده، فلم يزل يضرب أنفه، وجبهته، وجبينه، حتّى نثر لحم خدّيه، وهشم أنفه. وتلوّى هانئ، وضرب بيده إلى قائم سيف شرطىّ ممّن حضر، فمانعه الرجل، ومنع. فقال عبيد الله: - «أحرورىّ سائر اليوم؟ حلّ لنا قتلك.» فقام أسماء بن خارجة، فقال: - «أرسل غدر [2] نحن منذ اليوم؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتّى إذا جئناك به، فعلت به ما ترى، وزعمت أنّك تقتله.» فقال عبيد الله: - «إنّك هاهنا.»   [1] . رجّل الشعر: سوّاه، زيّنه، سرّحه. [2] . ضبط فى الأصل: أرسل غدر. وفى الطبري (7: 253) : رسل غدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وأمر، فلهز، وتعتع ساعة، ثمّ ترك، فجلس، وسكت الناس. وأمر بهانىء، فجعل فى بيت، ووكّل به من يحرسه. وبلغ ذلك مذحجا، فأقبلت إلى القصر، فقيل لعبيد الله: - «هذه مذحج، قد اجتمعت [82] بالباب.» فقال لشريح القاضي: - «ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثمّ اخرج، فأعلمهم أنّه حىّ.» فخرج إليهم شريح، فأعلمهم أنه رءاه وهو حىّ سالم، وإنّما عاتبه كما يعاتب الأمير رعيّته. فانصرفوا. مسلم يقبل نحو القصر بالمبايعين وبعث مسلم بن عقيل من يأتيه بالخبر. فأتوه بالخبر على وجهه، وأمر أن ينادى بشعاره: - «يا منصور أمت.» وكان قد بايعه ثمانية عشر ألف [000، 18] رجل. فاجتمعوا إليه، فعقد لجماعة على الأرباع، وقدّم أمامه صاحب ربع كندة، وأقبل نحو القصر، فتحرّز عبيد الله، وغلّق الأبواب. وسار مسلم حتّى أحاط بالقصر، وتداعى الناس، واجتمعوا، حتّى امتلأ المسجد والسوق، وما زالوا يتوثّبون [1] حتّى المساء. فضاق بعبيد الله أمره، وكان أكبر همّه أن يتمسّك بباب القصر، وليس معه فى القصر إلّا ثلاثون رجلا من الشرط، وعشرون رجلا من أشراف الناس، وأهل بيته، وجعل من فى القصر يشرفون فيشتمهم الناس، ويفترون على ابن زياد وأبيه، ويتّقون أن يرموهم بالحجارة. ففتح عبيد الله الباب الذي يلي دار الروميّين [2]   [1] . كذا فى الأصل وحاشية الطبري: يتوثبون. وفى الطبري (7: 255) : يثوبون. [2] . دار الروميين: ما فى الأصل ومط غير واضح، وما أثبتناه يؤيده الطبري (7: 256) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 ليدخل [83] إليه من يأتيه، ودعا كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج فى من أطاعه من مذحج، فيخذّل الناس عن مسلم بن عقيل، ويخوّفهم عقوبة السلطان، وغائلة أمرهم، وأمر محمد بن الأشعث بمثل ذلك، فى من أطاعه من كندة، أن يرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال لمثل هؤلاء من أهل الشرف مثل ذلك. فخرجوا، وجاءوا بعدّة، فحبسوا، ورجع إليه الرؤساء من ناحية دار الروميّين، فدخلوا القصر، فقال لهم عبيد الله: - «أشرفوا على القصر فمنّوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية.» فتكلّم القوم، وقالوا: - «أيّها الناس! الحقوا بأهاليكم، ولا تعجّلوا الشرّ، ولا تتعرّضوا للقتل، فإنّ أمير المؤمنين، قد بعث جنوده من الشام، وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن تمّمتم على حربكم، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم فى مغازي الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية، إلّا أذاقها وبال أمرها.» فأخذ الناس- كما [84] سمعوا هذا وأشباهه من رؤسائهم- يتفرّقون. فكانت المرأة تأتى إلى ابنها، وأخيها، فتقول: - «انصرف، فإنّ الناس يكفونك.» ويجيء الرجل إلى ابنه، وأخيه، فيقول: - «غدا يأتيك جنود الشام، فما تصنع بالحرب؟» فينصرف به. فما زال الناس يتفرّقون، حتّى أمسى مسلم بن عقيل، وما معه إلّا ثلاثون رجلا حين صلّيت المغرب، فصلّى بهم مسلم. فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلّا أولئك، خرج متوجّها نحو كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة. ثمّ خرج من الباب، فإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 على منزل، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ. فبقى متلدّدا فى أزقّة الكوفة، لا يدرى أين يذهب. فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأة [يقال لها: طوعة] [1] كانت أمّ ولد للأشعث، فزوّجها أسيدا [2] الحضرمي، فولدت له بلالا. وكان بلال خرج مع الناس، وأمّه قائمة تنتظر، فسلّم مسلم عليها، فردّت عليه، فقال لها: - «يا أمة الله، اسقيني ماء.» فدخلت، فسقته، فجلس، فقالت: - «يا عبد الله، اذهب إلى أهلك.» فسكت، ثمّ عادت، فسكت، فقالت: - «سبحان [85] الله! قم إلى أهلك، فما يصلح الجلوس على بابى، ولا أحلّه لك.» فقال: - «يا أمة الله، ما لي فى هذا المصر منزل، ولا عشيرة، فهل لك فى أجر ومعروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم.» قالت: - «وما ذاك؟» قال: - «أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم، وغرّونى.» قالت: - «أدخل!» ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها. فقالت: - «يا بنىّ، مكرمة وافتك.» وأخذت عليه الإيمان، أن لا يخبر أحدا، فحلف، فأخبرته الخبر، فاضطجع وسكت. وأخذ ابن زياد لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا، فقال لأصحابه:   [1] . ما بين [] تكملة من الطبري 7: 258. [2] . أسيدا: كذا ضبط فى الأصل، وما فى الطبري: أسيدا. من دون ضبط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 - «أشرفوا، فانظروا ما بالهم؟» فأشرفوا، فلم يروا أحدا. قال: - «فانظروا، فلعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم.» فجعلوا يخفضون شعل النار فى أيديهم، وينظرون: هل فى الظلال أحد؟ فكانت أحيانا تضيء لهم، وأحيانا لا تضيء، كما يريدون. فدلّوا أنصاف الطّنان تشدّ بالحبال، ثمّ تجعل فيها النيران، ثمّ تدلّى إلى الأرض. ففعلوا ذلك من أقصى الظلال وأدناها، فلم يروا شيئا. فعلموا أنّ القوم انصرفوا نادمين. فأعلموا ابن زياد، فأمر بفتح باب السدّة التي فى المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه، فجلسوا حوله [86] قبل [1] العتمة، ونادى: - «برئت الذمّة من رجل من الشرطة، أو العرفاء، أو المناكب [2] والمقاتلة، صلّى العتمة إلّا فى المسجد!» فلم تكن إلّا ساعة حتّى امتلأ المسجد. فقال الحصين بن تميم: - «إن شئت، صلّى غيرك، ودخلت القصر، فإنّى لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك.» فقال: - «مر حرسى أن يقوموا ورائي، وزد فيهم، فإنّى لست بداخل بعد أن آثرت الخروج.» فصلّى بالناس، ثمّ قال: - «أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل، السفيه الجاهل، قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه فى داره، ومن جاء به فله ديته.» ثمّ توعّد الناس، وحضّهم على الطاعة، وخوّفهم الفرقة والفتنة. نادى حصين   [1] . فى مط: قبيل. [2] . فى مط: المناكث. والباء مهملة فى الأصل. والمنكب من القوم: عريفهم أو عونهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 بن تميم، فأجابه، وكان على شرطه، فقال: - «ثكلتك أمّك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل، ولم تأتنى به. فابعث مراصد على أفواه السكك، وأصبح غدا واستبرأ [1] الدور، وجس [2] خلالها حتّى تأتينى بهذا الرجل.» ثمّ نزل ابن زياد، ودخل القصر، وأصبح ابن تلك العجوز، وهو بلال بن أسيد، فغدا إلى عبد الرحمان بن محمد بن [87] الأشعث، فأخبره بمكان ابن عقيل عنده، وكان محمد بن الأشعث قد باكر ابن زياد، وهو عنده. فأقبل عبد الرحمان حتّى أتى أباه، فدنا منه، وسارّه. فقال ابن زياد: - «ما يقول ابنك؟» فقال: - يقول: إنّ ابن عقيل فى دار من دورنا.» فنخس بالقضيب فى جنبه، وقال: - «قم، وائتني به الساعة.» وبعث إلى خليفته، وهو فى المسجد أن: - «ابعث مع ابن الأشعث سبعين رجلا من قيس.» وإنّما كره قومه لأنّه علم أنّ قومه يكرهون أن يصاب فيهم مثل ابن عقيل. ففعل ذلك، وسار محمد بن الأشعث، حتّى أطاف بالدار. فلمّا سمع مسلم وقع الحوافر، بادر إلى سيفه، وخرج إليهم، فاقتحموا عليه، فردّهم، ثمّ عادوا، فردّهم، حتّى ضربه رجل منهم بسيفه، فقطع شفته، وثناياه، وضربه مسلم بأعلى رأسه، كادت تأتى عليه، ولكن سلم. فلما رأى الناس ذلك، أخذوا يرمونه من فوق البيت.   [1] . كذا فى الأصل، وحاشية الطبري (7: 260) : واستبرأ. فى مط: وابترى. وفى الطبري: واستبر! [2] . جاسوا بين الدور: داروا فيها بالعيث والفساد وطلبوا ما فيها. الجوس: الطلب بالحرص والاستقصاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 محمد بن الأشعث يعطى الأمان لمسلم فأقبل عليه محمد بن الأشعث، فقال: - «إنك أثخنت، وعجزت عن القتال، فلم تقتل نفسك، أقبل إلىّ، ولك الأمان.» فقال: «آمن أنا؟» قال: «نعم.» وقال القوم: «أنت آمن.» فأمكن من نفسه، [88] فدنوا منه، وحملوه. فقال: - «يا محمد بن الأشعث، أراك ستعجز عن أمانى..» وذلك أنه نزع سيفه من عاتقه، فاستوحش. - «.. فهل لك فى خير؟ تستطيع أن تبعث رجلا من عندك على لساني يبلغ حسينا- فإنّى أراه قد خرج، أو هو خارج غدا- فيقول له: إنّ ابن عقيل بعثني، وهو أسير، لا يرى أنه يمسي وهو يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أبيك، الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت، أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذبوك، وكذبوني، وليس لكذوب [1] رأى.» فقال ابن الأشعث: - «والله، لأفعلنّ، ولأعلمنّ الأمير عبيد الله، أنّى آمنتك.» مسلم فى قصر ابن زياد وذهب به إلى ابن زياد، وأنفذ رجلا على راحلة إلى الحسين بما قال مسلم. فلما دخل به على ابن زياد، قال:   [1] . وما فى الأصل والطبري (7: 263) : لمكذوب. وفى مط: لكذوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 - «إنّى آمنته.» قال: - «وما أنت والأمان، كأنما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا [1] به.» فسكت، وانتهى بمسلم إليه. فقال: - «إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس، وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّت بينهم، وتحمل بعضهم على بعض.» قال: - «كلّا! [89] لست لذلك أتيت، لكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالمعروف والعدل، وندعو إلى حكم الكتاب.» وتراجعا الكلام إلى أن قال له ابن زياد: - «قتلني الله، إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فى الإسلام.» قال: - «أما إنّك [2] أحقّ من أحدث فى الإسلام، ما لم يكن فيه، وإنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة. لا أحد [3] من الناس أحقّ بها منك.» وأخذ ابن زياد يشتمه، ويشتم حسينا وعليّا، وأمسك مسلم لا يكلّمه. ثمّ قال: - «اصعدوا به فوق القصر، فاضربوا عنقه، ثمّ أتبعوا جسده رأسه.» فصعد وهو يقول: - «اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا، وخذلونا.» وأشرف به على موضع الحذّائين [4] اليوم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.   [1] . فى الأصل: تأتينا (بدون اللام) . واللام أضفناها كما فى مط. [2] . فى مط: أما أنا إنك! [3] . فى الأصل ومط: لأحد. وهو خطأ. والتصحيح من الطبري 7: 267: وابن الأثير 4: 35. [4] . كذا فى الأصل ومط وابن الأثير: الحذّائين. وفى الطبري: الجزّارين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 ثمّ أمر بهانىء بعد قتل مسلم، أن يخرج إلى السوق، فتضرب عنقه. فأخرج إلى حيث تباع فيه الغنم، وهو مكتوف [1] ، فجعل يقول: - «وا مذحجاه، ولا مذحج لى اليوم.» ولا ينصره أحد، حتّى قتل. [90] وأمر بكلّ من عرفه ممّن خرج مع مسلم، فأتى به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم، وبعث برؤوس من قتل منهم إلى يزيد وكتب بالقصّة. ولحق رسول مسلم الذي أشخصه محمد بن الأشعث، الحسين، وهو بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلّغه الرسالة. فقال له الحسين: - «كلّ ما حمّ [2] نازل، وعند الله نحتسب أنفسنا، وفساد أمّتنا.» الحسين وآراء المشيرين عليه ذكر رأى أشير به على الحسين عليه السلام لقيه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له، وقد قدمت عليه كتب العراق: - «يا بن عمّ، إنّى أتيت لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك مستنصحى، قلتها، وأدّيت ما علىّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى، كففت عمّا أريد أن أقول.» قال: فقال: - «قل، فو الله ما أستغشّك، وما أظنّك بشيء من الهوى لقبيح من القول والفعل.»   [1] . مكتوف: كذا فى الأصل والطبري 7: 268. فى مط: مكتوب. وهو خطأ. [2] . حمّ الأمر حمّا: قضى، قدّر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 قال: قلت: - «بلغني أنّك تريد السير إلى العراق، وإنّى أشفق أن تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراءه، ومعهم بيوت الأموال. وإنما الناس عبيد لهذه الدراهم والدنانير، [91] فلا آمن أن يقاتلك من وعدك بنصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه.» فقال الحسين: - «جزاك الله خيرا يا بن عمّ، مهما يقض، يكن، وأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح.» رأى أشار به عبد الله بن عباس على الحسين وأتاه عبد الله ابن عبّاس [1] ، فقال: - «يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لى ما أنت صانع.» فقال له: - «إنى قد أجمعت السير إلى العراق فى أحد يومىّ هذين إن شاء الله.» فقال له ابن عبّاس: - «فإنّى أعيذك بالله من ذلك، أخبرنى- رحمك الله- أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا [2] قد فعلوا ذلك، فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يغرّوك، ويكذبوك، ويخذلوك، ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك.»   [1] . لقد ورد هذا الاسم: «العباس» ، «عباس» ، وفى مط والطبري، وابن الأثير: عباس. فآثرنا توحيد ضبطه بدون «ال» . [2] . فى الأصل ومط: كان ففضلنا ضبط الطبري وابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 فقال له الحسين: - «فإنّى أستخير الله، وأنظر. [1] »   [1] . وهنا ترك مسكويه ذكر ما دار بين ابن الزبير والحسين بن علىّ من حديث، عند إتيان ابن الزبير إيّاه، بعد إجماع الحسين على المسير إلى العراق. ولما للحديث من أهميّة تاريخيّة، فإنّنا نثبته فى ما يلي كما أورده الطبري (7: 274) وابن الأثير (4: 38) : قال: فخرج ابن عبّاس من عنده، وأتاه ابن الزبير، فحدّثه ساعة، ثمّ قال: - «ما أدرى ما تركناه [كذا] هؤلاء القوم، وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم، خبرني ما تريد أن تصنع؟» فقال الحسين: - «والله لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتي بها، وأشراف أهلها، وأستخير الله.» فقال ابن الزبير: - «أما لو كان لى بها مثل شيعتك، ما عدلت بها.» قال: ثمّ إنه خشي أن يتّهمه، فقال: - «أما إنك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر ههنا، ما خولف عليك، إن شاء الله.» ثمّ قام، فخرج من عنده، فقال الحسين: - «ها إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معى شيء، وأنّ الناس لم يعدلوه بى، فودّ أنّى خرجت منها لتخلو له.» - انتهى ما عند الطبري. وأما ابن الأثير، فيختلف ما ذكره بعد قول الراوي: «ثمّ إنه خشي أن يتّهمه فقال:» فقال فى الكامل: - «أما إنّك لو أقمت بالحجاز، ثمّ أردت هذا الأمر ههنا، لما خالفنا عليك، وساعدناك، وبايعناك، ونصحنا لك.» فقال له الحسين: - «إنّ أبى حدّثنى أنّ لها كبشا به تستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش.» قال: «فأقم إن شئت وتولّينى أنا الأمر، ولا تعصى.» قال: «ولا أريد هذا أيضا.» ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما [دوننا] ، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: - «أتدرون ما يقول؟» قالوا: ما ندري، جعلنا الله فداك.» قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فجاءه من الغد ابن عبّاس، وقال له: - «إبن عمّ، إنّى أتصبّر، ولا أصبر، وإنّى أتخوّف عليك فى هذا الوجه الهلاك. إنّ أهل العراق قوم [92] غدر، فأقم بهذا البلد، فإنّك سيّد أهل الحجاز. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم، فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم، فإن أبيت إلّا الخروج، فسر إلى اليمن، فإنّ بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت فى عزلة عن الناس، فتكتب وتبثّ دعاءك، فإنّى أرجو أن يأتيك ما تحبّ فى عافية.» فقال له الحسين: - «يا ابن عمّ، إنّى أعلم أنّك ناصح شفيق، ولكنّى قد أجمعت على المسير.» فقال له ابن عبّاس: - «فإن كنت سائرا، فلا تسر بنسائك، وصبيتك، فو الله إنّى أخاف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساءه وولده ينظرون إليه، وو الله الذي لا إله إلّا هو: لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك، حتّى تجتمع علىّ وعليك الناس، أطعتنى وأقمت، لفعلت.» فلما أبى عليه، قال له:   [ (-) ] «إنه يقول: أقم فى هذا المسجد أجمع لك الناس!» ثمّ قال له الحسين: - «والله لئن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إلىّ من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين، أحبّ إلىّ من أن أقتل خارجا منها بشبر. وأيم الله، لو كنت فى جحر هامّة من هذه الهوامّ، لاستخرجوني، حتّى يقضوا بى حاجتهم! والله، ليعتدنّ علىّ كما اعتدت اليهود فى السبت.» فقام ابن الزبير، فخرج من عنده. فقال الحسين: - «إنّ هذا ليس شيء أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أنّ الناس لا يعدلونه بى، فودّ أنّى خرجت حتّى يخلو له.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 - «قد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه معك.» وخرج من عند الحسين، ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: - «قرّت عينيك يا بن الزبير!» ثمّ قال: [93] يا لك من حمّرة [1] بمعمر ... خلا لك الجوّ، فبيضى واصفرى ونقّرى ما شئت أن تنقّرى قال: «وما ذاك؟» قال: - «هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز.» خروج الحسين إلى العراق لقاء بين الحسين والفرزدق وخرج الحسين فى أهل بيته، ونسائه، وصبيته. فلقى الفرزدق الشاعر بالصفاح، فتواقفا، فقال له الحسين: - «بيّن لنا نبأ الناس خلفك.» فقال له الفرزدق: - «الخبير سألت. قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بنى أميّة، والله يفعل ما يشاء.» فقال له الحسين:   [1] . كذا فى الأصل: حمّرة. وفى هامش الأصل، ومط والطبري (7: 275) وابن الأثير (4: 39) : قبّرة. الحمّرة: القبّرة. نوع من العصافير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 - «صدقت، الأمر لله، يفعل ما يشاء.» ثمّ حرّك راحلته، وقال: - «السلام عليك.» وافترقا. ما كان من أمر رسوله قيس بن مسهر وقد كان وصل إلى الحسين كتاب مسلم بن عقيل، قبل أن يقتل بأيام، يقول فيه: - «أما بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله. إنّ جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام.» فأقبل الحسين بصبيانه ونسائه لا يلوى على شيء، ولا يسمع قول أحد، حتّى بلغ الحاجر من بطن الدومة [1] ، وبعث قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب يعرّفهم [94] فيه أنه شخص إليهم، لما عرفه من اجتماع ملأهم على نصره، والطلب بحقّه. فلما انتهى قيس إلى القادسيّة، وجد خيل ابن زياد منظومة ما بينها وبين الكوفة، فأخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد. فقال له ابن زياد: - «اصعد القصر، فسبّ الكذّاب بن الكذّاب.» فصعد قيس بن مسهر القصر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أيّها الناس، هذا حسين بن علىّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وفارقته بالحاجر [2] ، فأجيبوه!» ثمّ لعن زيادا وابنه، واستغفر لعلىّ بن أبى طالب. فأمر به عبيد الله فرمى به من   [1] . من بطن الدومة: سقطت من مط. وفى الطبري (7: 288) الحاجز من بطن الرمّة. [2] . فى الأصل: بالراء المهملة. (فى كلا الموضعين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 فوق القصر، فمات. الحرّ بن يزيد يقبل بخيله وأقبل الحسين، حتّى نزل شراف، وأمر فتيانه فاستقوا من الماء، ثمّ ساروا صدر يومهم. فقال رجل: - «الله أكبر.» فقال الحسين: - «الله أكبر، ممّ كبّرت؟» قال: - «رأيت النخل.» فقال رجلان أسديّان كانا معه: - «إنّ هذا مكان ما رأينا به نخلا قطّ.» قال الحسين: - «فما تريانه رأى.» فقالا: - «نراه والله رأى هوادي [1] الخيل.» فقال: - «وأنا، والله، أرى ذلك.» فقال الحسين: - «أما لنا ملجأ نعدل إليه، [95] نجعله فى ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟» قال: فقلنا له: - «نعم، هذا ذو حسم [2] إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك.» فأخذ إليه، ومال أصحابه معه. فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي   [1] . الهادية: المتقدّمة من كل شيء. هاديات الخيل وهواديها: متقدّماتها. [2] . ذو حسم: والضبط من الطبري 7: 296. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الخيل، فتبيّنّاها، وعدلنا. فلما رأونا قد عدلنا عن الطريق، عدلوا، كأنّ [1] أسنّتهم اليعاسيب، وكأنّ [2] راياتهم أجنحة الطير، فسبقناهم، فنزل الحسين، وضربت أبنيته، وجاءنا القوم وهم ألف رجل، مع الحرّ بن يزيد التميمي. فأقبل حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين وأصحابه فى حرّ الظهيرة، فأمر الحسين أن يسقى القوم، فقام فتيانه يسقون الخيل بالأتوار والطساس حتّى أرووها. فكان سبب تقدّم الحرّ فى ألف رجل أنّ عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن تميم، وكان على شرطه، على أن ينزل القادسيّة، وينظّم ما بين القطقطانية وخفّان بالمسالح. فقدّم الحرّ هذا بين يديه فى ألف رجل يستقبل الحسين، ويكون معه يسايره، ويحفظه إلى أن يرد [3] عليه الخبر. فحضرت الصلاة، فأذّن مؤذّن الحسين، [96] ثمّ أقام. فخرج الحسين فى إزار ونعلين، وقال: - «أيّها الناس، معذرة إلى الله، وإليكم. إنّى لم آتكم حتّى أتتنى كتبكم، وقدمت علىّ رسائلكم أن اقدم علينا، فإنّه ليس لنا إمام. فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن كنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم.» فسكتوا عنه. فقال الحسين للحرّ: - «أتريد أن تصلّى بأصحابك؟» قال: - «لا، بل تصلّى أنت ونصلّى بصلاتك.» فصلّى بهم الحسين، وانصرف الحرّ إلى مكانه، وأخذ كلّ رجل منهم بعنان   [1] . فى الأصل: كان. والضبط من الطبري. [2] . فى الأصل: كان. والضبط من الطبري. [3] . فى الأصل: يردّ. ولا توجد العبارة فى رواية الطبري (7: 297) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 دابّته، وجلس فى ظلّها. فلما كان وقت العصر، أمر الحسين أن يتهيّأوا للرحيل، ففعلوا. ثمّ إنّه خرج، فأمر مناديه، فنادى بالعصر، واستقدم الحسين، فصلّى بالقوم، ثمّ سلّم، وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، وأعاد على القوم قريبا من مقالته الأولى. فقال الحرّ: - «إنّا، والله، لا ندري هذه الكتب، والرسل التي تذكر.» فدعا الحسين بخرجين مملوّين كتبا فنشرها بين أيديهم. فقال له الحرّ: - «لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، إنما أمرنا، إذا نحن لقيناك، ألّا نفارقك [97] حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد.» فقال له الحسين: - «الموت أدنى إليك من ذلك.» ثمّ قال لأصحابه: - «انصرفوا بنا.» فلما ذهبوا لينصرفوا، حال القوم بينه وبين الانصراف. فقال الحسين للحرّ: - «ثكلتك أمّك، ما تريد؟» قال: - «أما والله، لو غيرك من العرب يقولها ما تركت ذكر أمّه، كائنا من كان، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمّك، إلّا بأحسن ما نقدر عليه.» فقال له الحسين: - «فما تريد؟» قال: - «أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد.» فقال له الحسين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 - «إذا [1] لا أتبعك.» فقال له الحرّ: - «إذا [2] لا أدعك.» فترادّا القول: فلمّا طال الكلام، قال الحرّ: - «إنّى لم أومر بقتالك، إنّما أمرت ألّا أفارقك حتّى تقدم الكوفة. فإذا أتيت حيطانها، فخذ طريقا لا يدخلك المدينة، ولا يؤدّيك إليها، ولا يردّك عنها يكون بيني وبينك نصفا، وتكون بالخيار، بين أن تكتب إلى يزيد إن أردت، أو إلى ابن زياد، إن أردت، فلعلّ الله يأتى بأمر يرزقني فيه العافية أن أبتلى بشيء من أمرك.» فتراضيا، وتياسر الحرّ عن طريق القادسيّة، وسايره الحسين. وأخذ الحسين يخطب [98] القوم ويذكّرهم الله، ويدلّهم على نفسه ومكانه عن النبوّة والحكمة، واستحقاقه للإمامة دون الفجرة الفسقة. فقال له الحرّ، وهو يسايره: - «يا حسين! أذكّرك الله فى نفسك، فو الله، لئن قاتلت لتقتلنّ.» فقال له الحسين: - «أبا الموت تخوّفنى؟» وأنشده أبياتا، وهي أبيات تمثّل بها: سأمضى، فما بالموت عار على الفتى ... إذا ما نوى حقّا، وجاهد مسلما وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق شرّا أن يعيش ويرغما [3]   [1، 2] . كذا فى الأصل ومط فى كلا الموضعين: إذا. والضبط فى الطبري (7: 299) وابن الأثير (4: 47) : إذن. [3] . فى الطبري (7: 302) : وفارق مثبورا يغشّ ويرغما. وبيت ثالث فى حواشيه بثلاث روايات. وأنظر أيضا ابن الأثير (4: 49) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 فكان يسير الحرّ ناحية، والحسين ناحية. فبينا هم كذلك، فطلع عليهم أربعة من الفرسان، فعدلوا إلى الحسين، فسلّموا عليه، فمنعهم الحرّ أن يسيروا معه. فقال الحسين: - «مالك تمنعهم؟» فقال الحرّ: - «هؤلاء لم يأتوا معك، وإنّما هم أهل الكوفة.» قال الحسين: - «هم بمنزلة من جاء معى، فإنّهم أنصارى وأعوانى، وقد أعطيتنى ألّا تعرض لى بشيء، حتّى آتى الكوفة. فإن تمّمت على ما كان بيني وبينك، وإلّا ناجزتك.» قال: وكفّ عنهم الحرّ. فقال الحسين للقوم: - «أخبرونى [99] خبر الناس وراءكم.» فقالوا: - «أمّا أشراف الناس، فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، واستميل ودّهم، واستخلصت نصيحتهم، وهم ألّب عليك، وأمّا سائر القوم، فأفئدتهم معك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك.» قال: - «فخبّرونى عن رسولي إليكم.» فقالوا: - «من هو؟» قال: - «قيس بن مسهر الصيداوي.» فقالوا: - «نعم، أخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد بلعنك ولعن أبيك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا الناس إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 نصرتك، وأخبرهم بمقدمك، فأمر به ابن زياد، فألقى من طمار القصر، فمات.» فتغرغرت [1] عينا الحسين بالدموع، ولم يملك دمعه، ثمّ قال: - فَمِنْهُمْ من قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ من يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. 33: 23 [2] ما قاله الطرمّاح بن عدىّ للحسين فقالوا [3] له بعد ما دنوا منه: - «والله، إنّا لننتظر، فما نرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين نراهم ملازميك، لكفى بهم، فكيف وقد رأينا قبل خروجنا من الكوفة ما لم نر قطّ مثلهم ناسا فى صعيد واحد عرضوا ليسرّحوا إليك، فننشدك الله إن قدرت [100] ألّا تقدّم شبرا إلّا فعلت. فهاهنا بلد منعك الله به، حتّى ترى رأيك، فسر بنا حتّى ننزلك جبلنا الذي يدعى أجأ، امتنعنا به والله من ملوك غسّان، وحمير، ومن النعمان، ومن الأسود والأحمر [4] ، والله ما دخل علينا ذلّ قطّ، ثمّ تبعث الرجال إلى من ينزل أجأ، وسلمى من طيّء، فيأتيك الرجال [5] ، وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائىّ يضربون بين يديك بالسيوف. [6] » فقال الحسين: - «جزاك الله وقومك خيرا. إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم من أهل الكوفة قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور فى   [1] . كذا فى الأصل ومط: فتغرغرت. وما فى الطبري (7: 303) وابن الأثير (4: 50) فترقرقت. تغرغرت عيناه. تردّد فيهما الدمع. ترقرقت عيناه: دمعتا. ترقرق الماء وغيره: تحرّك واضطرب. [2] . س 33 الأحزاب: 23. [3] . والقائل هو الطرمّاح بن عدىّ. أنظر الطبري (7: 304) وابن الأثير (4: 50) . [4] . فى الطبري أيضا: الأسود والأحمر. وفى ابن الأثير: الأحمر والأبيض. [5] . زاد فى الطبري وابن الأثير هنا: ثمّ أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم ... [6] . زاد فى الطبري وابن الأثير: والله ما يوصل إليك ومنهم عين تطرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 العاقبة.» فودّعوه وقالوا: - «قد حملنا ميرة من الكوفة لأهلينا، فنحن نحملها إليهم، ونعود إليك.» [1] نزول الحسين بنينوى وقدوم راكب بكتاب من ابن زياد وسار الحسين، فجعل يتياسر، فيأتيه الحرّ بن يزيد، فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّا شديدا امتنعوا عليه. فلم يزالوا كذلك، حتّى انتهوا إلى المكان الذي نزل به الحسين [2]- عليه السلام- فإذا راكب على نجيب له، وعليه السلاح متنكّبا قوسه، مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه. فلما انتهى إليهم، سلّم [101] على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه: - «أما بعد، فجعجع [3] بالحسين وأصحابه حيث يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك حتّى تردّه بإنفاذ أمرى، والسلام.» فلما قرأه الحرّ، قال: - «هذا كتاب الأمير عبيد الله، يأمرنى أن أجعجع بكم فى المكان الذي يأتينى كتابه، وهذا رسوله وقد أمرنى ألّا يفارقني حتّى أنفذ أمره.» وأخذ الحرّ يريدهم على النّزل هناك على غير ماء، ولا فى قرية، فقالوا:   [1] . واستعجله الحسين عند التوديع، ووفى الطرمّاح بوعده، وعاد بعد أن وضع الميرة عند أهله وأوصاهم، ولكنّه لمّا بلغ عذيب الهجانات، لقيه ساعة بن بدر، وأخبره بقتله، فرجع إلى أهله. أنظر الطبري (7: 305) وابن الأثير (4: 51) . [2] . والمكان هو نينوى. أنظر ابن الأثير: نفس الصفحة. [3] . جعجع به: أزعجه. شرّده. حبسه. ألزمه الجعجاع. والجعجاع والجعجع: المكان الضيّق الخشن الغليظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 - «دعنا ننزل فى هذه القرية.- يعنون الغاضريّة- أو تلك- يعنون نينوى- أو تلك، أو تلك.» فقال: - «لا والله، ما أستطيع هذا. أما ترون الرجل قد بعثه عينا علىّ.» فقال زهير بن القين وكان مع الحسين: - «يا ابن بنت رسول الله، إنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمرى ليأتينا من بعد من ترى، من لا قبل لنا به.» فقال الحسين: - «لا أبدأهم بالقتال.» فقال زهير: - «فسر بنا إلى هذه القرية القريبة حتّى ننزلها، فإنّها حصينة، وهي على [102] شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم اليوم أهون من قتال من يجيء بعدهم» . فقال الحسين: - «وأيّة قرية هي؟» قال: - «العقر.» فقال الحسين، عليه السلام: - «اللهمّ أعوذ بك من العقر!» [1] ثمّ نزل، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.   [1] . عقرت المرأة والرجل عقرا وعقرا: لم يلدا. عقر البعير: قطع إحدى قوائمه. عقر الحيوان: ذبحه. عقر الكلب الولد: عضّه. عقره عن حاجته: قطعه عنها. عقر عقرا: بقي مكانه لم يتقدّم أو يتأخّر لفرع أصابه، كأنه مقطوع الرجل. عقرت المرأة: عقمت. وعقر الرجل والأمر: لم تكن لهما عاقبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 عمر بن سعد والخيار الصعب وكان عبيد الله بن زياد قد ولّى عمر بن سعد بن أبى وقّاص الرىّ، وكتب عهده عليها، وجهّز معه أربعة آلاف، لأنّ الديلم كانوا غلبوا على دستبى [1] ، فخرج عمر بن سعد، وكان قد عسكر بحمّام أعين. فلما كان من أمر الحسين ما كان، كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد أن: - «سر إلى الحسين، فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه، سرت إلى عملك.» فكتب إليه عمر بن سعد: - «إن رأيت أن تعفيني، فعلت.» فقال عبيد الله: - «نعم، على أن تردّ إلينا عهدنا.» فاستعظم عمر بن سعد أمر الحسين، وكان يستشير نصحاءه، فلا يشير عليه أحد به، ثمّ حلا فى قلبه الإمارة، فاستجاب وأقبل فى أربعة آلاف حتّى نزل بالحسين فى غد يوم نزل فيه الحسين بالمكان الذي ذكرناه. فبعث عمر بن سعد من يسأله: ما الذي جاء به. فجاء [103] الرسول حتّى سلّم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر. فقال الحسين: - «كتب إلىّ أهل مصركم أن اقدم، فأمّا إذا كرهتموني، فأنا أنصرف عنهم.» فانصرف إلى عمر بجوابه. فقال عمر بن سعد! - «إنى لأرجو أن يعافيني الله من حربه.» وكتب إلى عبيد الله بذلك.   [1] . دستبى، دستبى [بفتح الباء وكسرها] : كورة كبيرة كانت مشتركة بين الرىّ وهمذان، فقسّمت كورتين.. وتسمّى قرية منها دستبى همذان (مع، يا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 اشتداد العطش على الحسين وأصحابه واشتدّ على الحسين وأصحابه العطش، فدعا العبّاس بن علىّ [1] ، فبعثه فى ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة. فدنوا من الماء ليلا. فقال عمرو بن الحجاج الزبيدىّ، وكان قد أرسله عمر بن سعد فى خمسمائة على الشريعة يمنعون الحسين وأصحابه من الماء بكتاب ورد عليه من عبيد الله: - «من الرجل، وما جاء بك؟» قال: - «جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلّأتمونا [2] عنه.» فقال: - «اشرب هنّأك الله.» قال: - «لا والله، ما أشرب والحسين ومن ترى من أصحابه عطاش.» فقال: - «لا سبيل إلى سقى هؤلاء، إنّما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء.» فلما دنا أصحابه قال لرجّالته: - «إملأوا قربكم.» وشدّ على القوم مع أصحابه فملأوا قربهم، وثار بهم عمرو بن الحجاج، فقاتلهم العبّاس وأصحابه، حتّى انصرف أصحاب القرب [104] بالقرب، فأدخلوها على الحسين وأصحابه. التقاء بين الحسين وعمر بن سعد وبعث الحسين إلى عمر أن: - «القنى الليلة، بين عسكري وعسكرك.» فخرج إليه عمر بن سعد فى نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين فى مثل   [1] . وزاد فى مط: رضى الله عنه. [2] . حلّأه الشيء تحليئا: منعه منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ذلك. فلما التقيا، أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك، فانكشفتا عنهما حيث لا تسمع أصواتهما، فتكلّما، فأطالا، حتّى ذهب هزيع من الليل. ثمّ انصرف كلّ واحد إلى أصحابه، وتحدّث الناس بينهم بالظنون ولا يدرون حقيقة شيء. ثمّ التقيا بعد ذلك مرارا ثلاثا وأربعا. كتاب ابن سعد إلى ابن زياد فى ما دار بينه وبين الحسين فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: - «أما بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة. هذا الحسين قد أعطانى: أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه. أو أن نسيّره إلى أىّ ثغر من الثغور شئنا، فيكون رجلا من المسلمين: له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتى أمير المؤمنين يزيد، فيضع يده فى يده، فيرى فيه رأيه، وفى هذا لكم رضى، وللأمّة صلاح.» [1] فلما قرأ عبيد الله الكتاب، قال: - «هذا كتاب ناصح لأميره، وشفيق على قومه، قد قبلت.» ما أشار به شمر على ابن زياد فقام إليه شمر بن ذى الجوشن، فقال: - «تقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك [105] وإلى جنبك؟ فإنّما وافى ليزيل   [1] . أنظر أيضا الطبري (7: 315) ، وابن الأثير (4: 55) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 سلطانك. والله، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده فى يدك، ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك، فإن عاقبت، فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت، كان ذلك لك. ولقد بلغني أنّ الحسين وعمر بن سعد يجلسان، فيحدّثان عامّة الليل.» فقال عبيد الله بن زياد: - «نعم ما رأيت، الرأى رأيك.» ثمّ قال ابن زياد: - «اخرج أنت بجواب كتاب عمر بن سعد. فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمى، فإن فعلوا، فليبعث بهم إلىّ سلما، وإن أبوا، فقاتلوهم. فإن فعل عمر بن سعد، فاسمع منه وأطع، وإن أبى، فأنت الأمير على الناس، وثب عليه، واضرب عنقه، وابعث إلىّ برأسه.» جواب ابن زياد لكتاب ابن سعد ثمّ كتب إلى عمر بن سعد: - «أمّا بعد، إنّى لم أبعثك إلى الحسين لتطاوله، وتكفّ عنه، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له شافعا عندي. انظر: إن نزل الحسين وأصحابه على حكمى واستسلموا، فابعث بهم، وإن أبوا، فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثل بهم، [106] فإنّهم لذلك مستحقّون [1] . فإن أنت فعلت جزيناك خيرا، لأنك السامع المطيع، وإن   [1] . هنا زيادة فى الطبري (7: 316) وابن الأثير (4: 55) مع اختلاف طفيف بينهما، ونحن نورد ما فى الطبري: «.. فإن قتل الحسين فأوط الخيل صدره وظهره، فإنّه عاقّ مشاقّ [شاقّ- ابن الأثير.] قاطع ظلوم، وليس دهري فى هذا أن يضرّ بعد الموت شيئا، ولكن علىّ قول لو قد قتلته، فعلت هذا به. إن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل..» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 أنت أبيت، فاعتزل عملنا وجندنا، وخلّ بين شمر بن ذى الجوشن وبين العسكر [فإنّا قد أمرنا بأمرنا] [1] ، والسلام.» قدوم شمر بالكتاب فقدم شمر بالكتاب، فقرأه عمر، وقال لشمر: - «ما لك ويلك! لا قرّب الله داراك! وقبّح الله ما قدمت به! إنّك أنت ثنّيته عمّا كتبت به إليه، وقد- والله- أفسدت علينا أمورا رجونا معه الصلاح، والله يا شمر! لا يستسلم حسين، إنّ نفسه نفس أبيّة.» فقال له شمر: - «أخبرنى ما أنت صانع، تمضى لأمر أميرك، وإلّا فخلّ بيني وبين العسكر.» قال: - «لا، ولا كرامة لك! أنا أتولّى ذلك.» قال: - «فدونك!» زحف ابن سعد نحو الحسين فركب عمر بن سعد فى الناس، ثمّ زحف نحوهم، والحسين جالس أمام بيته محتب [2] بسيفه. فقال له العبّاس بن علىّ: - «يا أخى أتاك القوم، أما تراهم؟» وكان الحسين قد خفق برأسه [على ركبتيه،] [3] فنهض ثمّ قال:   [1] . زيادة من الطبري (7: 316) . [2] . احتبى: جلس على أليتيه، وضمّ فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستند. [3] . تكملة من الطبري (7: 318) . خفق: مال. نام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 - «يا عبّاس اركب- بنفسي أنت يا أخى- حتّى تلقاهم فتقول لهم: مالكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم.» فأتاهم العبّاس، واستقبلهم فى نحو عشرين فارسا، فقال لهم: - «ما جاء بكم؟ وما بدا لكم؟» فقالوا: - «إنّ أمر الأمير قد جاء بكيت وكيت.» قال: - «فلا [107] تعجلوا حتّى أرجع إلى أبى عبد الله، فأعرض عليه ما ذكرتم.» فانصرف العبّاس يركض نحو الحسين، يخبره الخبر، وترك أصحابه يخاطبون القوم. ثمّ أقبل العبّاس يركض، فقال: - «إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ننظر فى هذا الأمر، فإنّ هذا الذي جئتم به، لم يجر [بينكم وبينه] [1] فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا، فإمّا رضيناه فاستسلمنا، وإمّا كرهناه فرددنا.» وكان الحسين قال للعبّاس: - «إرجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّى لربّنا ونستغفره، ونوصى إلى أهلنا.» فجاءهم رسول عمر، فقام بحيث يسمعون الصوت، وقال: - «قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا، وإن أبيتم، فلسنا تاركيكم.» كلام الحسين لأصحابه فجمع الحسين أصحابه، وحمد الله، وأثنى عليه، ودعا دعاء كثيرا، وقال:   [1] . ما بين [] تكملة من الطبري (7: 319) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 - «أمّا بعد، فإنّى لا أعرف أهل بيت أبرّ، ولا أوصل من أهل بيتي. فجزاكم الله عنّى خيرا، وإنّى لا أظنّ يومنا من هؤلاء إلّا غدا، وإنّى قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا فى حلّ، ليس عليكم منّى ذمام. هذا الليل قد غشيكم [108] فاتّخذوه جملا، ليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا بسوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبوننى، ولو قد أصابونى، لهوا عن طلب غيرى.» فقال له إخوته: - «لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا، قبّح الله العيش بعدك.» وتكلّم أهله كلّهم مثل ذلك. ثمّ قام مسلم بن عوسجة الأسدىّ فقال: - «نحن نخلّى عنك، ولم نعذر فيك! والله، لو لم يكن معى سلاح، لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت، ويعلم الله أنّا حفظنا غيبة رسول الله- صلّى الله عليه- والله، لو علمت أنّى أقتل، ثمّ أحيى، ثمّ أقتل، ثمّ أحرق، ثمّ يذرى بى، يفعل بى ذلك سبعين مرة، ما فارقتك. فكيف وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.» ثمّ قام زهير بن القين، فقال مثل ذلك، وتكلّم جماعة أصحابه بمثل ذلك، وأشبه كلام بعضهم كلام بعض، وكانوا اثنين وثلاثين رجلا من الفرسان وأربعين راجلا. ثمّ أوصى الحسين، وقال لأخته: - «يا أخيّة، أقسم عليك، فبرّى قسمي، لا تشقّى علىّ جيبا، ولا تخمشي وجها، ولا تدعى علىّ بالويل والثبور إذا [109] أنا هلكت.» فبكت، فارتفعت الأصوات من جهة النساء، ولهنّ الرقّة والجزع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وقالت أخته: - «بأبى وأمّى أبا عبد الله! استقتلت؟» فردّد غصّته، ثمّ قال: - «لو ترك القطا لنام.» فقالت: - «يا ويلتى! أفتغصب نفسك اغتصابا؟ فذلك أروع لقلبي، وأعظم لبلائى.» ثمّ لطمت وجهها وخرّت مغشيا عليها، فصبّ الحسين على وجهها الماء، وعزّاها بكلام طويل. يوم عاشوراء وحرسهم بالليل أصحاب عمر بن سعد. فلما أصبحوا- وذلك يوم الجمعة، وقيل: يوم السبت، وكان يوم عاشوراء- خرج الحسين، فعبّى أصحابه، وأمر بأطناب البيوت، فقرنت حتّى دخل بعضها فى بعض، وجعلوها وراء ظهورهم لتكون الحرب من وجه واحد، وأمر بحطب وقصب كانوا جمعوه وراء البيوت، وكان من ورائهم موضع منخفض كأنّها ساقية، فأمر، فحفروه من الليل فى ساعة، وجعلوه كالخندق، وطرح ذلك الحطب والقصب فيه، وألقى فيه النار، وقال: - «لا نؤتى من ورائنا.» قال الشعبي: ففعلوا ذلك، وكان لهم نافعا. وأمر الحسين بمسك، فميث فى جفنة عظيمة، واطّلى [1] ، وركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه [110] أمامه، واقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا.   [1] . اطّلى بكذا، ادّهن به. وفى الطبري (7: 327) : ثمّ دخل الحسين ذلك الفسطاط [الذي كان أمر به فضرب] فتطلّى بالنورة. وفى الكامل (4: 60) : فاستعمل النورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 جاء الحرّ تائبا فحرّك الحرّ دابّته، حتّى استأمن إلى الحسين، وقال له: - «بأبى أنت وأمى، ما ظننت الأمر ينتهى بهؤلاء القوم إلى ما أرى، وظننت أنّهم سيقبلون منك إحدى الخصال التي عرضتها عليهم، فقلت فى نفسي: لا أبالى أن أطيع [1] القوم فى بعض أمورهم، وأمّا الآن فإنّى جئت تائبا ومواسيا لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أترى لى ذلك توبة؟» قال: - «نعم. يتوب الله عليك ويغفر لك. انزل!» قال: - «أنا فارسا خير لك منّى راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمرى.» ثمّ بارز، فقتل واحدا بعد آخر. فلم يزل يبارز الواحد من أصحاب الحسين، فيقتل عدّة من أصحاب عمر بن سعد. فقام عمرو بن الحجاج رافعا صوته: - «يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ [تقاتلون] [2] فرسان المصر، وقوما مستميتين. والله، لا يبرز لهم منكم أحد إلّا قتل، لا تبرزوا لهم! فإنّهم قليل، وقلّ ما يبقون، وقد جهدهم العطش.» فقال عمر بن سعد: - «صدقت.» وأرسل فى الناس، فعزم عليهم أن: - «لا يبارز منكم رجل رجلا منهم.»   [1] . فى الطبري (7: 332) : «أضيع» بدل «أطيع» . [2] . ما بين [] تكملة من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فأخذت الخيل تحمل، وأصحاب الحسين تثبت، وإنّما [111] هم اثنان وثلاثون فارسا. فقال عمر: - «ليتقدّم الرماة إلى هذه العدّة اليسيرة، فليرشقوهم بالنبل.» فتقدّموا، فلم يلبّثوهم أن عقروا خيلهم، فصاروا كلّهم رجّالة. وقاتلوا قتالا لم ير أعظم منه ولا أشدّ، إلّا أنهم كانوا إذا صرع الواحد منهم أو الإثنان تبيّن ذلك عليهم، وإذا قتلوا أضعاف عدّتهم من أولئك لم يتبيّن عليهم. ووصل الناس إلى الحسين، وقاتل بين يديه كلّ من استهدف للنبل، فرمى يمينا وشمالا، حتّى سقطوا، وجعل أصحابه يستقتلون بين يديه، ويسلّمون على الحسين، ويودّعونه، ثمّ يقاتلون حتّى يقتلوا. فكان أوّل من قتل من بنى أبى طالب علىّ الأكبر بن الحسين بن علىّ، ثمّ عبد الله بن مسلم بن عقيل، ثمّ محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، ثمّ جعفر بن عقيل بن أبى طالب. قال: ثمّ رأينا غلاما كان وجهه شقّة قمر، فى يده سيف، وعليه قميص ونعلان، وقد انقطع شسع أحدهما. فحمل عليه رجل، فضربه بالسيف على رأسه، فوقع الغلام لوجهه، وصاح: - «يا عمّاه!» فجلّى الحسين كما يجلّى الصقر، ثمّ شدّ على الرجل بسيفه، فاتّقاه فضرب ساعده، [112] فأطنّها [1] من المرفق وتنحّى عن الغلام، وانجلت الغبرة، فرأيت الحسين قائما على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله الأرض، والحسين يقول: - «بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم جدّك.»   [1] . فى مط: «فقطعها» بدل «فأطنّها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 ثمّ قال: - «عزّ، والله، على عمّك أن تدعوه، فلا يجيبك، أو يجيبك، ثمّ لا ينفعك.» ثمّ احتمله، فكأنى أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان فى الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره. قال: فقلت فى نفسي: ما يصنع به؟ فجاء به حتّى ألقاه مع ابنه علىّ بن الحسين والقتلى حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لى: القاسم بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب- صلوات الله على جميعهم. ومكث الحسين طويلا من النهار، وكلما انتهى إليه رجل انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله، حتّى أتاه مالك بن النسير، فضربه على رأسه بالسيف، فقطع برنس خزّ كان عليه، وأدمى رأسه، فألقى ذلك البرنس، ودعا بقلنسوة، فلبسها واعتمّ، وكان قد أعيا وبلّد [1] ، ولم يبق له قوّة، وجهده العطش. فدنا إلى الماء ليشربه، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع فى فمه يتلقّى الدم من فيه، فيرمى به إلى السماء. ثمّ حمد الله وأثنى [113] عليه، ثمّ جمع يده وقال: - «اللهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر منهم أحدا.» ثمّ أقبل إليه شمر بن ذى الجوشن فى نحو من عشرة من رجّالة أهل الكوفة، وطلب منزل الحسين الذي فيه ثقله. فمشى نحوهم [2] ، فحالوا بينه وبين رحله. فقال الحسين: - «ويلكم! إن لم يكن لكم دين، فكونوا فى دنياكم أحرارا، امنعوا أهلى من طغامكم وجهّالكم.» قال ابن ذى الجوشن:   [1] . كذا فى الأصل: بلّد. والضبط فى الطبري (7: 359) : وبلّد. والصحيح ما فى الأصل: بلّد: فتر فى العمل وقصّر. سقط إلى الأرض من الضعف. وفى مط: نكد، وهو تصحيف. [2] . فى الطبري (7: 362) : نحوه، فى حاشيته: نحوهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 - «ذلك لك.» وأقدم عليه بالرجّالة. قال عبد الله بن عماد: فلقد رأيته وهو يحمل على من فى يمينه فيطردهم، وعلى من فى شماله فيطردهم وعليه قميص خزّ وهو معتمّ، فو الله، ما رأيت مكثورا [1] قتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا، ولا أجرأ مقدما [2] . والله، ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجّالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب. فكأنّى بزينب أخته وهو على تلك الحال، قد خرجت وأنا أنظر إلى قرطها يجول بين أذنها وعاتقها وهي تقول: - «ليت السماء انطبقت على الأرض.» وكان قد دنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت: - «يا بن سعد [114] أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟» وكأنّى أنظر إلى دموع [عمر بن] [3] سعد تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها. فنادى فى الناس شمر: - «ويحكم! ما تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه، ثكلتكم أمّهاتكم!» فحمل عليه من كل جانب، وضرب على كتفه وطعن. فقال شمر لخولي بن يزيد الأصبحى: - «انزل، فاحتزّ رأسه.» فضعف وأرعد. - فقال له سنان بن أنس وهو الذي طعنه:   [1] . كذا فى مط والطبري (7: 364) : مكثورا. وفى حاشية الطبري: مكسورا. والمكثور: المغلوب بالكثرة. [2] . فى مط: أحرى مقدما. والضبط فى الطبري: مقدما. وفى الأصل يشبه أن يكون: مقدما. [3] . ما بين [] ساقط من الأصل، فأثبتناه كما فى مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 - «فتّ الله عضديك!» فنزل، فذبحه وأخذ رأسه. سلب الحسين وانتهاب نساءه وسلب الحسين حتّى سراويله، وترك مجرّدا، ومال الناس على الإبل والمتاع، فانتهبوه وانتهبوا نساءه، فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تغلب عليه، فيذهب به، حتّى جاء عمر بن سعد، فقال: - «لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض.» يعنى علىّ بن الحسين، وكان مريضا. وقتل من أصحاب الحسين عليه السلام اثنان وسبعون رجلا، وسرّح برأسه إلى بن زياد. كلام دار بين على بن الحسين وابن زياد فحدّث حميد بن مسلم، قال: كنت واقفا عند ابن زياد حين عرض عليه علىّ بن الحسين عليهما السلام، فقال: - «ما اسمك؟» قال: - «علىّ بن الحسين.» قال: - «أولم يقتل الله علىّ بن الحسين؟» فسكت. فقال له ابن زياد: «مالك [115] لا تتكلّم؟» قال: - «قد كان لى أخ يقال له: علىّ بن الحسين أيضا، [فقتله الناس] .» فقال: - «قد قتله الله.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 فسكت. فقال ابن زياد: - «مالك لا تتكلّم؟» قال: - الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها 39: 42 [1] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ الله 3: 145 [2] قال: - «أنت والله منهم، ويحكم، انظروا هذا قد أدرك [3] والله إنّى لأحسبه رجلا.» فكشف عنه بعض أصحاب ابن زياد، فقال: - «نعم، قد أدرك» فقال: - «أقتله.» فقال علىّ: - «فوكّل بهؤلاء النسوة من يكون محرما لهنّ يسير معهنّ إن كنت مسلما.» فقال ابن زياد: - «دعوه، سر أنت معهنّ.» وبعث بهنّ معه إلى الشام. ما قاله يزيد بعد تسلّم كتب البشارة فيقال: إنّ يزيد لمّا وردت عليه كتب البشارة، دمعت عينه وقال: - «كنت أرضى من طاعتهم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سميّة، أمّا إنّى لو كنت صاحبه لعفوت عنه.» ولمّا وضعت الرؤوس بين يدي يزيد، قال يزيد:   [1] . س 39 الزمر: 42. [2] . س 3 آل عمران: 145. [3] . فى الطبري (7: 673) : أنظروا هل أدرك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 نفلّق [1] هاما من رجال أعزّة علينا، وهم كانوا أعقّ وأظلما ثمّ جهّز النساء وعلىّ بن الحسين، وضمّ إليهم جيشا حتّى ردّهم إلى المدينة. ذكر حيل ابن الزبير كان ابن الزبير يظهر أنه عائذ بالبيت، ويبايع الناس سرّا. وبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأعطى الله عهدا: ليوثقنّ فى سلسلة. فبعث بسلسلة من فضّة وعمرو بن العاص [116] يومئذ عامل مكّة، وكان شديدا عليه، ولكنّه كان كثير المداراة رفيقا. فلما ورد البريد بالسلسلة رفق حتّى ردّه ردّا جميلا. وخطب الناس، وعاب أهل الكوفة خاصّة، وأهل العراق عامّة بقتل الحسين، وبكى وقال: - «لقد كان لأبى عبد الله- رضى الله عنه- فى ما جرى على أبيه وأخيه من هؤلاء القوم ناه، ولكنّه ما حمّ نازل.» ثمّ عظّم ما جرى عليه واستفظعه، وقال فى كلامه: - «لقد قتلوه كثيرا صيامه بالنهار، طويلا صلاته بالليل، ما كان يبدل بالقرآن غناء، ولا بالصيام شرب الخمر، ولا بالمجالس فى حلق الذكر الركض فى طلب الصيد.» يعرّض بيزيد. فثار إليه أصحابه وقالوا له: - «أيّها الرجل! أظهر بيعتك، فلم يبق بعد الحسين أولى بهذا الأمر منك.» فقال: - «لا تعجلوا!» وعلا أمره بمكّة، وكاتبه أهل المدينة وقالوا: - «أمّا إذ هلك الحسين فليس أحد ينازع ابن الزبير.»   [1] . كذا فى مط: نفلّق. وفى الطبري (7: 376) : يفلّقن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وبلغ ابن الزبير [1] أنّ مروان تمثّل لمّا اجتاز به البريد ومعه سلسلة من فضة وجامعة يجعل فيها ابن الزبير: فخذها، فليست للعزيز بخطّة ... وفيها مقال لامرئ متذلّل أعامر إنّ القوم ساموك خطّة ... وذلك فى الجيران، غزلا [2] بمغزل [117] أراك إذا قد صرت [3] للقوم ناضحا ... يقال له بالغرب [4] أدبر وأقبل وأرسل مروان ابنيه وقال: - «اذهبا فتعرّضا لابن الزبير، ثمّ تمثّلا بهذه الأبيات إذا بلّغته الرسل الرسالة.» ففعلا، فلما تعرّضا لينشداه، بادر ابن الزبير وقال: - «إى بنى مروان، قد سمعت ما قال أبو كما، فاذهبا، فأنشداه: إنّى لمن نبعة صمّ مكاسرها ... إذا تناوحت القصباء والعشر فلا ألين لغير الحقّ أسأله ... حتّى يلين لضرس الماضغ الحجر» عزل عمرو بن سعيد وتولية الوليد مكّة ثمّ إنّ يزيد اتّهم عمرو بن سعيد وظنّ أنه يقدر على أخذ ابن الزبير وليس يفعل، فعزله، وولّى الوليد بن عقبة. وخرج عمرو حتّى قدم على يزيد، فرحّب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثمّ عاتبه فى أشياء كان يأمر بها فى ابن الزبير فلا ينفذها.   [1] . وبلغ ابن الزبير: سقطت من مط. [2] . غزلا: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (7: 398) : غزل بمغزل. [3] . فى الطبري (7: 398) : إذا ما كنت. [4] . فى الطبري: بالدّلو. وفى مط: بالعرب، وفى حواشي الطبري: بالغرب، كما فى الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 فقال: - «يا أمير المؤمنين، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإنّ جلّ وأهل مكّة قد كانوا مالوا إليه، وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا إليه سرّا وجهرا، ولم يكن معى جند أتقوّى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذر منّى ويتحرّز، [118] وكنت أنا أرفق به وأداريه لئلّا يستوحش، فإذا استمكنت منه وثبت عليه، مع [1] أنى ضيّقت عليه، ومنعته من أشياء لو تمكّن منها كانت معونة له، وجعلت على مكّة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتّى يكتبوا لى اسمه، واسم أبيه، وما جاء فيه، وما الذي يريد. فمن كان من أصحابه أو ممّن اتّهمه، رددته صاغرا، وقد بعثت الوليد، وسيأتيك من أثره وعمله ما تعرف به مبالغتى فى أمرك، ومناصحتى لك.» فعذره يزيد، وتلقاه بجميل [2] ، ولبث الوليد مدّة بمكّة، ثمّ عزله يزيد، وولّى عثمان بن محمد بن أبى سفيان. فكان حدثا، فلم يضبط الأمر، ولا كان له رأى. ذكر الحال فى المدينة وظهر فى المدينة أنّ يزيد بن معاوية يشرب الخمر حتّى يترك الصلاة، وصحّ عندهم ذلك، وصحّ غيره ممّا يشبهه، فجعلوا يجتمعون لذلك [3] حتّى خلعوه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل، ووثبوا على عثمان بن محمد بن أبى سفيان ومن معه من بنى أميّة ومن يرى رأيهم، فنفوهم وكانوا ألف رجل. فخرجوا حتّى نزلوا دار مروان بن الحكم، فحاصرهم الناس حصارا ضعيفا، فتولّى تدبيرهم مروان، لأنّ عثمان بن محمد كان غرّا لا يرجع [119] إلى رأيه. وكتب مروان إلى يزيد كتابا من جماعة بما جرى عليهم ويطلبون الغوث منه. قال الرسول: فلما وردت على يزيد، قال:   [1] . فى مط: ومع (بالواو) . [2] . فى مط: بجهل، بدل: بجميل. [3] . فى مط: كذلك، بدل: لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 - «أما تكون بنو أميّة ومواليهم ألف رجل بالمدينة؟» قلت: - «بلى.» قال: - «فما استطاعوا أن يقاتلوهم ساعة من نهار؟» فقلت: - «أجمع الناس كلّهم عليهم، فلم تكن لهم بهم طاقة.» فكتب إلى عبيد الله بن زياد أن اغز ابن الزبير، فقال: - «والله لا أجمعهما للفاسق أبدا: أقتل ابن رسول الله وأغزو البيت؟» وندب مسلم بن عقبة المرّى، وهو شيخ كبير مريض [1] ، للمدينة، فخرج ونادى أن: - «سيروا إلى [2] الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا، ومعونة مائة دينار توضع فى يد الرجل من ساعته.» فانتدب له اثنا عشر ألف رجل. ووصّاه يزيد، إذا ظفر، أن ينهب المدينة ثلاثة أيّام، وذلك فى سنة ثلاث وستّين. وكان معاوية وصّى يزيد: - «إذا أرابك من أهل المدينة ريب، فارمهم بمسلم بن عقبة.» ولمّا بلغ أهل المدينة خبر مسلم ومن معه، أخذوا على بنى أميّة المحصورين فى دار مروان العهود والمواثيق، ألّا يدلّوا على عورة لهم، ولا يبغونهم غائلة. وأخرجوهم، فلقوا [120] مسلم بن عقبة بوادي القرى مع أثقالهم، فسأل مسلم عمرو بن عثمان بن عفّان عن القوم واستشاره، فقال: - «علىّ عهد ألّا أدلّ على عورة.» فانتهزه مسلم وقال: - «والله، لولا أنّك ابن عثمان، لضربت عنقك، والله، لا أقيلها [3] قرشيّا بعدك.»   [1] . فى مط: أربض المدينة. [2] . فى مط: على. [3] . فى مط: أقتلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وبلغ ذلك الناس، فهابوه. وقال مروان لابنه عبد الملك: - «ادخل قبلي إلى مسلم لعلّه يجتزى [1] بك منّى.» فدخل عليه عبد الملك، فقال: - «هات ما عندك، أخبرنى خبر الناس، وكيف ترى؟» ذكر رأى عبد الملك وما ظهر من حزمه قال: - «نعم، أرى أن تسير بمن معك، فتركب هذا الطريق إلى المدينة، حتّى إذا انتهيت إلى أدنى نخل بها نزلت، فاستظلّ الناس بظلّه، وأكلوا من صفوه، حتّى إذا كان الليل، أذكيت الحرس الليل كلّه عقبا بين أهل عسكرك، حتّى إذا أصبحت وصلّيت الصبح، مضيت بهم، وتركت المدينة ذات اليسار، ثمّ أدرت بالمدينة، حتّى تأتيهم من قبل الحرّة [2] مشرّقا، ثمّ تستقبل القوم، فإذا استقبلتم، أشرقت الشمس عليهم، وطلعت من أكتاف أصحابك، فلا توذيهم، وتقع فى وجوههم فتوذيهم، ويرون ما دمتم مشرّقين [121] ايتلاق بيضكم، وحرابكم، وأسنّة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم، ما لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم ما داموا مغرّبين، ثمّ قاتلهم [3] ، واستعن الله عليهم.» فقال له مسلم:   [1] . يجتزى: كذا فى الأصل. ومط: يجتزى (بالزاء المعجمة) : يكتفى. [2] . كذا فى الأصل: الحرّة. وفى مط: الخرّة. والحرّة: أرض ألبستها الحجارة السود، كأنّما أحرقت بالنار وأكثر الحرار حول المدينة وتسمّى مضافة إلى أماكنها، مثل: حرّة أوطاس، حرّة تبوك، و ... (يا، مع) . [3] . قاتلهم: فى الأصل: قاتلتم. وما أثبتناه يوافق مط والطبري 7: 411. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 - «لله أبوك، أىّ امرئ ولد إذ ولدك [1] ، لقد رأى بك خلفا.» ثمّ إنّ مروان لقيه، فقال له: - «إيه.» فقال: - «أليس قد لقيك عبد الملك؟» قال: - «بلى، وأىّ رجل عبد الملك! [قلّ] [2] ما كلّمت من رجال قريش شبيها به.» وقعة الحرّة وإباحة المدينة ثلاثا ثمّ ارتحل، وعمل برأى عبد الملك، فكانت وقعة الحرّة، وذلك فى سنة ثلاث وستّين، وهي من أعظم الوقائع وأشدّها. هزم فيها مسلم بن عقبة مرارا، وأهل المدينة مرارا، وكثر القتلى فى الفريقين، ولم يكن فى اقتصاص الحديث بأسره فائدة، إلّا أنّ آخره كان قتل عبد الله بن حنظلة الغسيل، وخلق من أهل المدينة وصالحيهم، وانهزم الناس. فأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال. بايع أهل المدينة ليزيد بن معاوية على أنّهم خول له وجيء بيزيد بن وهب بن ربيعة- وهو من وجوه قريش- فقال له: - «بايع!» فقال: - «أبايع على سنّة أبى بكر وعمر.» قال: - «اقتلوه!» قال: - «فإنّى أبايع.» قال:   [1] . أىّ امرئ ولد إذ ولدك: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أى امرأ أنت. [2] . ما بين [] زيادة من الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 - «لا والله! لا أقيلك عثرتك.» فقام مروان بن الحكم وكلّمه، لصهر كان بينهما، فأمر بمروان، [122] فوجئت عنقه، ثمّ قال: - «بايعوا على أنّكم خول ليزيد بن معاوية.» ثمّ أمر بقتل يزيد بن وهب. هذا، وبلغ أهل مكّة ما جرى على أهل المدينة، وما ارتكب منهم. ففتّ ذلك فى أعضادهم، وجاءهم [1] منه أمر عظيم، وعرفوا أنّه نازل بهم. ذكر اتّفاق حسن اتّفق لمسلم بن عقبة فى مسيره إلى أهل المدينة وحيلة لأهل المدينة ما [2] تمّت كان بعث أهل المدينة إلى كلّ ماء بينهم وبين أهل الشام، فصبّوا فيه زقّا من قطران، وعوّر، فأرسل الله عليهم السماء حتّى لم يحتاجوا أن يستقوا بدلو، حتّى وردوا المدينة. موت مسلم بن عقبة ورمى الكعبة وإحراقها وابن الزبير محاصر فيها واستخلف مسلم على المدينة روح بن زنباع متوجّها إلى مكّة، يريد ابن الزبير. فلمّا كان ببعض الطريق هلك، وذلك فى آخر المحرّم من سنة أربع وستّين. ولمّا حضره الموت، دعا الحصين بن نمير السلولي [3] ، وقال له:   [1] . جاءهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: جاء بهم. [2] . فى مط: وما تمّت. [3] . السلولي: كذا فى الأصل ومط. والظاهر أنّه تصحيف. وما فى الطبري (7: 424) : السكوني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 - «يا برذعة الحمار، والله، لولا أنّ أمير المؤمنين عهد إلىّ- إن حدث بى حدث- أن أستخلفك لما ولّيتك، ولكن انظر وصيّتى، وإيّاك والمخالفة! خذ عنّى أربعا: أسرع السير، وعجّل الوقائع، وعمّ الأخبار، ولا تمكّن قريشا من أذنك.» [1] ومات. [123] وخرج الحصين بن نمير إلى مكّة، وقد بايع أهل مكّة ابن الزبير، وقدم عليه نجدة بن عامر مع الخوارج يمنعون البيت، فحاصرهم الحصين، وأخرج ابن الزبير إليهم أخاه المنذر بن الزبير. فلما اشتدّ القتال، دعوه إلى المبارزة، فخرج وقتل، وقتل معه عدّة من وجوه أصحاب ابن الزبير، ولم يزل القتال دائما بينهم طول صفر. ولمّا مضت ثلاثة أيّام من شهر ربيع الأوّل، نصبوا المجانيق على البيت، ورموه بالحجارة والنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون: خطّارة [2] مثل الفنيق [3] المزبد [4] ... نرمي بها أعواد هذا [5] المسجد واحترقت الكعبة، وتصدّع منها ثلاثة أمكنة، واحترق ما كان فيها من خشب، وما عليها من كسوة. وقد قيل: إنما احترقت، لأنّ أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون حولها، فطارت إليها شرره ليلة ريح، فاحترقت.   [1] . فى الطبري (7: 425) : ولا ترع سمعك قريشا. [2] . الخطارة: المقلاع. المنجنيق. [3] . الفنيق من الإبل: الفحل. [4] . المزبد: كذا فى الأصل والطبري (7: 426) ، وفى مط: المريد. [5] . فى مط: أعلى المسجد، بدل: هذا المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 خلافة معاوية بن يزيد ولم يزل الحصار والقتال واقعا على ابن الزبير- وهو يصابر- إلى أن ورد نعى يزيد بعد أربعة وستّين يوما من الحصار، وذلك فى جمادى الأولى سنة ثلاث وستّين، ويقال: أربع وستّين، [124] وكانت ولايته ثلاث سنين وكسرا، وبايع الناس معاوية بن يزيد بن معاوية بالشام، وبايعوا عبد الله بن الزبير بالحجاز. ذكر سوء رأى ابن الزبير وضعف تدبيره، ومخالفته من أشار عليه بالصواب حتّى فاتته الخلافة مكث أهل الشام مع الحصين بن نمير يقاتلون ابن الزبير، وليس عندهم خبر وقد ضيّقوا على ابن الزبير، فبلغ ابن الزبير موت يزيد، فصاح: - «إنّ طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فى ما دخل فيه الناس [1] ، فليفعل، ومن كره، فليلحق بالشام.» فلم يسمع الناس منه. فدعا ابن الزبير الحصين بن نمير، وقال:   [1] . الناس: كذا فى الأصل. وفى مط: المسلمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 - «ادن منّى!» فخرج أحدهما إلى الآخر، فطاوله الحديث، إلى أن دعى الذي أخبر ابن الزبير بالخبر، وكان ديّنا فاضلا، وبينه وبين الحصين صهر، فلما سمع الحصين كلامه، عرف صحة الخبر، فقال لابن الزبير: - «إن يك هذا الرجل هلك، فأنت أحقّ من أرى بهذا الأمر، هلمّ فلنبايعك، على أن تخرج معى إلى الشام، [125] فإنّ هذا الجند الذي معى، هم وجوه الناس، وفرسانهم، فو الله، لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرّة.» فأبى ابن الزبير أن يخرج إلى الشام، وكان ذلك من جدّ مروان وإقباله، وإدبار ابن الزبير. وكان من ردّ ابن الزبير على الحصين أن قال: - «أنا أهدر تلك الدماء، حتّى أقتل بكل رجل عشرة.» فأخذ الحصين يكلّمه سرّا، وهو يجيبه جهرا. فقال الحصين بن نمير: - «قبّح الله من يعدّك [1] بعد هذا داهيا، أو أريبا [2] . قد كنت أظنّ أنّ لك رأيا، ألا، أرانى أكلّمك سرّا وتكلّمنى جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتوعدني بالقتل، وأبذل لك طاعة فى من معى، وتهدّدهم بالهلاك.» ثمّ خرج من عنده، وصاح فى الناس بالرحيل، وخرج إلى المدينة. وقدم ابن الزبير، فأرسل إليه: - «أما خروجي إلى الشام، فلا يمكن، فإنّى أتبرّك بالبيت، ولكن بايعوا لى   [1] . يعدّك: كذا فى الأصل. وما فى مط: يعذل. وهو خطأ. [2] . أريبا: كذا فى الأصل. وما فى مط: أوريبا! وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 هناك، فإنّى بعد ذلك أو منكم، وأقدم عليكم [1] .» فردّ عليه الحصين، وقال: - «إن أنت لم تقدم بنفسك، وجدنا من نبايعه هناك.» وأقبل بأصحابه نحو المدينة. [126] فاستقبله علىّ بن الحسين بن علىّ، عليه السلام، فسلّم عليه، ولم يكد يلتفت إليه أحد، واجترأ [2] أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام، وذلّوا حتّى كان لا ينفرد منهم رجل إلّا أخذ بلجام دابّته، ونكّس عنها. فكانوا يجتمعون فى عسكرهم، ولا يتفرّقون. فاجتمعت إليهم بنو أميّة، وقالوا: - «لا نبرح حتّى تحملونا.» ففعلوا. فخرج بنو أميّة بنسائهم وعيالاتهم، ومضى ذلك الجيش، حتّى دخل الشام. ولم يلبث معاوية بن يزيد إلّا ثلاثة أشهر، حتّى مات. ويقال: بل مكث أربعين يوما، وكان أقرّ عمّال أبيه. خطبة ابن زياد بالبصرة بعد انتهاء موت يزيد بن معاوية إليها وبلغ موت يزيد بن معاوية عبيد الله بن زياد بالبصرة، فصعد المنبر، وخطب الناس، وقال: - «يا أهل البصرة! قد علمتم قيامي بأمركم، وجبايتى الأموال، وتفرقتها، وانسبوني، فو الله، تجدوني مهاجرا إليكم، ووالدي ومولدي فيكم ودارى. ولقد   [1] . والعبارة فى الطبري (7: 431) : ولكن بايعوا لى هنالك، فإنّى مؤمنكم وعادل فيكم. [2] . واجترأ: كذا فى الأصل وما فى مط: واجترى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ووليتكم، وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلّا سبعين ألفا، ولقد أحصى اليوم ثمانين ألفا، وما كان ديوان عيالكم إلّا سبعين ألفا، وقد أحصى اليوم مائة ألف وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنّة أخافه [127] عليكم، إلّا وهو فى سجنكم. وقد توفّى أمير المؤمنين يزيد، واختلف أهل الشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا، وأوسعهم بلادا. فاختاروا رجلا ترضونه [و] [1] تجتمعون عليه، إلى أن يجتمع أهل الشام، فإن اختاروا من ترضونه دخلتم فى ما دخلوا فيه، وإن كرهتم ذلك، كنتم على جديلتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغنى الناس عنكم.» [2] ذكر طمع عبيد الله فى الخلافة وما احتال فيه وكان عبيد الله قد أنفذ بالليل إلى شقيق بن ثور، ومالك بن مسمع وحصين بن المنذر، وفرّق فيهم مالا كثيرا. فلما خطبهم هذه الخطبة، قام هؤلاء، وهم رؤساء الناس، فقالوا: - «ما لنا غيرك، ولا نعرف أحدا هو أقوى على هذا الأمر منك.» وبايعه هؤلاء، وبايعه الناس. فجعل الرجل إذا خرج من عنده، مسح يده على الحائط ويقول: - «أظنّ ابن مرجانة أنّا نولّيه أمرنا فى الفرقة، كما تولّاه إلى اليوم؟» فلم تمض بعبيد الله أيّام حتّى جعل سلطانه يضعف. فكان يأمر بالأمر، فلا يمتثل، ويرتأى الرأى، [128] فلا يقبل ويردّ عليه، ويأمر بحبس الظنين، فيحال   [1] . الواو زيادة منّا ولم تكن موجودة لا فى الأصل ولا فى مط. [2] . قس بما فى الطبري 7: 433. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 بين أعوانه وبينه. فبينا هو كذلك، إذ ظهر رجل بالبصرة، يدعو إلى ابن الزبير، وكثر الناس معه. فبلغ ذلك عبيد الله، وأراد أخذه، فامتنع عليه، وكثف جمعه، وقعد الناس عن عبيد الله، وقال فى خطبته: - «يا أهل البصرة، قد عرفتم بيعتي فى أعناقكم، وحرصي على ضبط أموركم، وقد تقاعد عنّى من يريد فرقتكم، وأن يضرب بعضكم وجوه بعض آخر بالسيف. وو الله يا أهل البصرة، لقد لبسنا الخزّ واليمنة [1] واللّيّن من الثياب، حتّى لقد أجمته [2] جلودنا، فما نبالى أن نلبس الحديد أيّاما.» فما لبث أن رمى بجماع الناس، فقال لهم: - «أيّها الناس، إنّ هذا المال فيكم، فخذوا أعطياتكم، وأرزاق ذراريّكم.» وأمر الكتّاب بتحصيل الناس، وتخريج الأسماء، واستعجلهم حتّى وكّل بهم من يحبسهم فى ديوان، وأسرج لهم الشموع، فكانوا يأخذون المال، ويتقاعدون عنه، فكفّ عن إخراج المال، وكان فى بيت مال البصرة يومئذ ألف ألف [000، 000، 1] درهم، فنقل ما بقي منها إلى من أودعها عنده. ودعا عبيد الله [129] محاربة [3] السلطان وأرادهم على القتال. فقال له أخوه عبد الله بن زياد: - «قد علمت أنّ الحرب دول، فلعلّها تدول عليك، وقد اتخذنا أموالا بين أظهر هؤلاء القوم، فإن ظفروا بك أهلكونا، ثمّ أهلكوها، فلم تبق لك باقية.» وقال له:   [1] . اليمنة: كذا فى الأصل. وفى مط: اليمنية. واليمنة واليمنة (بكسر الياء وفتحها) : ضرب من برود اليمن. [2] . أجمته: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أجهته. أجم الطعام وغيره أجما: ملّه من المداومة عليه. [3] . محاربة: فى الأصل ومط غموض. فى مط: «بحارية» من دون نقط. وفى الأصل: بحاربة، بخارية؟ ويبدو أنها تصحيف، بدليل ما فى ابن الأثير: «محاربة» وذلك فى حاشية الطبري. وما فى الطبري (7: 439) : خاصة السلطان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 - «والله لئن قاتلت القوم لأعتمدنّ على ظبة سيفي حتّى يخرج من صلبي.» فلما رأى عبيد الله ذلك، همّ بالهرب، فاحتال بالليل حتّى فرّ مستخفيا إلى مسعود بن عمرو، وكان سيّد الأزد، حتّى حصل فى داره. ذكر حيلته فى ذلك وجّه عبيد الله إلى الحارث بن قيس الأزدى، وذكّره بيد له عنده، وسأله أن يحمله إلى منزله، ويكتم أمره، حتّى يجتمع الناس. فقال له الحارث: - «إنّ مسعود [1] بن عمرو سيّد الأزد، وإن طلبك عندي لم أقدر على الامتناع منه، ولكن سأحتال لك من قبل امرأته، فإنّها بنت عمّه.» فقال له ابن زياد: - «فخذ معك مالا تطمعها فيه.» قال: - «هات.» فحمل معه مائة ألف درهم، فخرج بها الحارث حتّى أتى بها امرأة مسعود، ومعه عبيد الله، وعبد الله ابنا زياد، فاستأذن عليها، فأذنت له، ودخل. [130] ثمّ قال لها الحارث: - «قد أتيتك بأمر تسودين به نساءك، وتظهرين به فضل قومك، وتتعجّلين الغنى فى دنياك، هذه مائة ألف دينار، خذيها وضمّى عبيد الله.» فقالت: - «أخاف ألّا يرضى مسعود.» فقال الحارث: - «ألبسيه ثوبا من ثيابه، وأدخليه بيتك، وخلّى بيننا وبين مسعود.»   [1] . فى مط: ابن مسعود بن عمرو، بدل: إنّ مسعود بن عمرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فقبضت المال، وفعلت، ودخل الحارث على مسعود، وأخذ يحدّثه بحديث عبيد الله، فقال: - «إنّه كان يتعوّد من طارق الشرّ، وإنّك من طوارق الشرّ.» وقام حتّى دخل على ابنة عمّه، وأخذ برأسها ليضربها، فخرج عبيد الله، وقال: - «والله لقد أجارتنى ابنة عمّك عليك، وهذا ثوبك علىّ، وطعامك فى مذاخرى [1] ، وقد التفّ علىّ بيتك.» وشهد له الحارث. ولم يزالا [2] به حتّى سكون ورضى. ثمّ ركب مسعود من ليلة، ومعه الحارث، وجماعة من قومه، فطاف فى الأزد ومجالسهم، وقال: - «إن ابن زياد قد فقد، ولا نأمن اضطراب الناس، وأن يلطّخوكم به.» فقد كان أبوه زياد استجاربهم ومنعوه، فأصبحوا فى السلاح، فلمّا أصبح الناس، وفقدوا [131] ابن زياد، قالوا: - «أين توجّه؟» فقالت عجوز من بنى عقيل: - «أين ترونه توجّه؟ اندحس، والله، فى أجمة أبيه.» فقال الناس: - «صدقت. ما هو إلّا فى الأزد.» ثمّ اجتمع الناس على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وهو الذي يلقّب ببّة [3] ، على أن يقعد لهم، حتّى يجتمع أمر الناس،   [1] . فى الأصل: مداخرى (بالدال المهملة) ، فأعجمنا الدال كما فى مط. ومذاخر الحيوان: أمعاءه. وفى الطبري: فى بطني (7: 445) . [2] . لم يزالا: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: لم يزل إلّا. [3] . ببّة: كذا فى الأصل والطبري (7: 446- 447) . جاء فى الطبري: فقال الفرزدق حين بايعه: وبايعت أقواما وفيت بعهدهم ... وببّة قد بايعته غير نادم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فتولّى الأمر. واضطرب الناس بالبصرة، ووقعت الفتنة بين الأزد وتميم، وتأدّى إلى الحرب، فبعث مسعود مع ابن زياد مائة من الأزد حتّى خرجوا به إلى الشام. ذكر ما حفظ على ابن زياد فى طريقه من الآراء قال عبيد الله ذات ليلة: - «إنّه قد ثقل علىّ ركوب الإبل، فوطّئوا لى على ذى حافر.» قال: فألقيت له [1] قطيفة على حمار، فركبه [2] ، وإنّ رجليه لتكاد أن تخدّان فى الأرض. قال بشّار بن شريح اليشكري: فإنّه يسير ويحدّثنى، إذ سكت سكتة طويلة، فقلت: والله ما سكت إلّا لشيء فى نفسه. فدنوت منه، فقلت: - «أنائم أنت؟» قال: - «لا.» قلت: - «فما أسكتك؟» قال: - «كنت [132] أحدّث نفسي.» قال، قلت: - «أفلا أحدّثك ما كنت تحدّث به نفسك؟» قال: - «هات، فو الله ما أراك تصيب، ولا تكيس.» قلت: - «تقول: ليتني لم أكن قتلت حسينا.» قال: - «وماذا؟» قلت:   [1] . له: فى الأصل: لى. فأثبتناها كما فى مط. [2] . فركبه: فى الأصل: فركبته فأثبتناها كما فى مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 - «تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت.» قال: - «وماذا؟» قلت: - «تقول [1] : ليتني لم أكن بنيت البيضاء.» قال: - «وماذا؟» قلت: - «تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين على العرب.» قال: - «وماذا؟» قلت: - «تقول [2] : ليتني كنت أسخى ممّا كنت.» فقال لى: - «والله، ما نطقت بصواب، ولا سكتّ عن خطأ: أما الحسين، فإنّه سار إلىّ يريد قتلى، فاخترت أن أقتله على أن يقتلني، وأما البيضاء، فإنّى اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي، فأرسل يزيد بألف ألف [000، 000، 1] درهم، فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلى، وإن هلكت لم آس على ما لم أغرم عليه [3] ، وأما استعمال الدهاقين، فإنّ ابن أبى بكرة وزاذانفروخ رفعا علىّ عند معاوية، حتّى ذكرا قشور الأرزّ، وبلّغا خراج العراق مائة ألف ألف [000، 000، 100] يضمنانها، فخيّرنى معاوية بين الضمان والعزل، فكرهت العزل، فكنت [133] إذا استعملت العرب كسروا الخراج، وإن أقدمت على الرجل منهم أوغرت [4] صدور عشيرته، وإن أغرمت [5] قومه أضررت بهم، وإن تركته ضاع لى حقّ وأنا أعرف   [1] . تقول: سقطت من مط هنا وفى الموضع الآتي. وتجد الحوار عند الطبري أيضا (7: 457) . [2] . كذا فى الأصل ومط: «تقول» . وفى الطبري: «وتقول» بزيادة الواو. [3] . والعبارة فى الطبري: لم آس عليها ممّا لم أعنّف فيه (7: 458) . [4] . أوغرت: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: «أغرمت» وهو خطأ. [5] . أغرمت: كذا فى الأصل والطبري. وفى مط: غرمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 مكانه، فوجدت الدهاقين أعرف بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون على المطالبة منكم، مع أنّى قد جعلتكم أمناء عليهم، وأمّا قولك فى السخاء، فما كان لى مال أجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم، فخصصت به بعضكم دون بعض، فتقولون: ما أسخاه! ولكن عممتكم به، وكان عندي أنفع لكم، ولكنّى سأخبرك بما حدّثت به نفسي: قلت: ليتني قاتلت أهل البصرة، فإنّهم بايعوني طائعين، وأيم الله، إنّى حرصت على ذلك، ولكن إخوتى أتونى، وقالوا: إن قاتلتهم، وظهروا عليك، لم يبقّوا منّا أحدا، وإن تركتهم تغيّب الرجل منّا عند أخواله وأصهاره. فرقّ لهم قلبي. وكنت أقول: ليتني أخرجت أهل السجن، فضربت أعناقهم. وأما إذ فاتتنى هاتان الخصلتان، فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمرا.» [134] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 خلافة مروان بن الحكم كان لا يريد الخلافة ولكن ابن زياد أطمعه فيها وقدم عبيد الله بن زياد الشام، وكان قدمها الحصين بن نمير ومن معه [1] ، وهمّ مروان بن الحكم أن يسير إلى ابن الزبير فيبايعه، واجتمع الناس على ذلك. فذهب عبيد الله حتّى لقى مروان، وقال: - «استحييت لك ممّا تريد، أنت كبير قريش وسيّدها تصنع ما تصنع؟» فقال: - «ما فات شيء بعد.» واجتمع إليه بنو أميّة ومواليهم، وتجمّع إليه أهل اليمن، وهو يقول: - «ما فات شيء بعد.» كالمعتذر إليه. المروانيّون والزبيريّون واحتجاجاتهم وكان الضحّاك بن قيس بدمشق لمّا قدم عبيد الله بن زياد، وكان يهوى هوى ابن الزبير، والنعمان بن بشير بحمص يبايع لابن الزبير، وزفر بن الحارث بقنّسرين   [1] . فى الأصل ومط: وكان قدمها الحصين بن نمير ومن معه الشام. وكلمة «الشام» زائدة فحذفناها. أنظر الطبري 7: 467. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 يبايع لابن الزبير. وكان حسّان بن مالك بن بحدل الكلبي يرى الأمر لبنى أميّة، ويهوى هواهم، لأنّه كان خال خالد بن يزيد بن معاوية، فهو يحبّ أن يبايع له، وكان بالأردن، فجمع الناس وخطبهم، وقال: - «أيها الناس، ما شهادتكم على ابن الزبير، وعلى قتلى أهل الحرّة؟» قالوا: - «نشهد أنّ ابن الزبير منافق، وأنّ قتلى أهل [135] الحرّة فى النار.» قال: - «فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرّة؟» قالوا: - «نشهد أنّ يزيد مؤمن، وأنّ قتلانا فى الجنّة.» قال: - «وأنا أشهد- لئن كان دين يزيد بن معاوية حقا يومئذ- إنّه اليوم وشيعته على حقّ، وإن كان ابن الزبير يومئذ وشيعته على باطل، إنّه اليوم وشيعته على باطل.» قالوا: - «صدقت، نحن نبايعك ونقاتل معك من خالفك على أن تجنّبنا عبد الله وخالدا ابني يزيد، فإنّهما غلامان، ونكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبىّ.» فكتب حسّان بن مالك إلى الضحّاك بن قيس: - «إنّك تبايع ابن الزبير، وقد عرفت حقوق بنى أميّة عليك.» وعظم عليه الفرقة، ودعاه إلى الجماعة. وكتب جماعة بنى أميّة بمثل ذلك. فأبى الضحّاك بن قيس، ومن يرى رأيه. واجتمعت بنو أميّة ومن يرى رأيهم، فبايعوا مروان لسنّه، وذلك فى المحرّم سنة خمس وستين. وكان مروان لا يحدّث نفسه بذلك، ولا يحلم به، حتّى قدم عليه عبيد الله بن زياد من البصرة، فأطمعه، واتّفق ما حكيناه [136] من أمر حسّان، وجواب أهل الشام له. وكان الحصين بن نمير لقى مروان، فشرط عليه شروطا أجابه مروان إليها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فكان يهوى هواه. فلقى مالك بن هبيرة الحصين بن المنذر، وقال له: - «هلمّ نبايع هذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كانت من أبيه وهو غدا يحملنا على رقاب العرب.» يعنى خالد بن يزيد. فقال حصين: - «لا، لعمري ما تأتينا العرب بشيخ فنأتيهم [1] بصبىّ.» فقال مالك: - «هذا، ولمّا نرد تهامة، ولمّا يبلغ الحزام الطّبيين [2] .» فقال الحصين: - «مهلا يا با سليمان!» فقال له مالك: - «اسمع كلامي، والله لئن استخلفت مروان وآل مروان، ليحسدنّك على [3] سوطك، وشراك نعلك، وظلّ شجرة تستظلّ بها. إنّ مروان أبو عشرة، وأخو عشرة، وعمّ عشرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم خالد.» فأبى الناس إلّا شيخا، فاجتمعوا على مروان، وقالوا: - «مروان خليفتنا، على أن يكون الأمر بعده لخالد بن يزيد.» فلما اجتمع رأى الناس رضى حسّان بن بحدل أيضا، وتمّ [137] الأمر لمروان، وسار إلى الضحّاك، والتقيا بمرج راهط، فاقتتلا قتالا عظيما، وقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قطّ، وقتل الضحّاك. وخرج نعمان بن بشير، لمّا بلغه مقتل الضحّاك، هاربا من حمص ليلا، ومعه   [1] . وفى مط: فيأتيهم. [2] . وفى مط: الطنبين. وهو خطأ. [3] . والعبارة من «على سوطك» إلى «كنتم» سقطت من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 امرأته وثقله، فتحيّر [1] ليلته كلّها، وطلبه قوم، فظفر به، وحزّ رأسه، وجيء به إلى مروان. وأطبق أهل الشام على مروان واستوسقوا [2] له، فجاء [3] إلى مصر، وعليها عبد الرحمان بن جحدر [4] القرشىّ، يدعو إلى ابن الزبير، فقاتله فقتله، وآمن الناس، وبايعه أهلها، فرجع إلى دمشق. أسماء كتّاب يزيد ووزرائه كتب ليزيد عبيد الله بن أوس الغسّانى كاتب معاوية. وكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور، وهو الذي أشار عليه، لمّا بلغه مسير الحسين إلى الكوفة بأن يولّى عبيد الله بن زياد، وقد مرّ ذكره، وكتب إليه عن يزيد: - «أما بعد، فإنّ المحبوب [5] مسبوب يوما ما، والمسبوب محبوب يوما ما، وقد انتميت إلى منصب كما قال الأوّل: رفعت فجاوزت السحاب وفوقه ... فما لك إلّا مرقب الشمس مرقب [138] وقد ابتلى بالحسين زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان. وبليت به من بين العمّال، فإمّا أن تعتق [6] ، أو تعود عبدا، والسلام.» وقلّد سلمة بن حريد الأزدى من كتّاب فلسطين الخراج بمصر، وكان يكتب   [1] . فى مط: لتحيّر. [2] . فى مط: استوثقوا. [3] . فى مط: فجاؤوا. [4] . جحدر: كذا فى الأصل. فى مط: جحد. وفى الطبري (7: 467) : جحدم. [5] . فى مط: المحيوب مسيوب. (كذلك فى الموضعين الآتيين) . [6] . «فإما أن تعتق» : سقطت من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 لعبد الله بن الزبير، يقوم بجميع أموره، إلى أن قتل. واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وفيهم عبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف. وأمّا عبيد الله بن زياد، فكتب له مهران الترجمان، وقام بأمره كلّه، ولم يزل معه إلى أن مات يزيد، فأخرجه أهل البصرة من بلادهم. وقلّد يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان، وكان يكتب له اصطفانوس، فأقام بها، إلى أن ظهر ابن الزبير، وتوفّى يزيد. فاستخلف سلم على خراسان عبد الله بن خازم، وانصرف فى سنة أربع وستين، وتباطأ فى مسيره ليعلم على ما تستقرّ الأمور، فورد البصرة فى سنة خمس وستين. فدعا سلم يوما بإصطفانوس، وسلّم اثنى عشر ألف ألف [000، 000، 12] دينار، وقال له: - «احتفظ به، فما فيه قيمة درهم [1] ظلم فيه مسلم ولا معاهد.» فقال [139] اصطفانوس بالفارسيّة: - «فمن أين هذا كلّه!» فقال: - «من هدايا العمّال وأهل الكور والدهّاقين.» وكان أهل خراسان أحبّوا سلما محبة ما أحبّوها واليا قطّ، وسمّى باسمه أيّام ولايته، أكثر من عشرين ألف مولود، ثمّ ثاروا به حين بلغهم موت يزيد حتّى استخلف عليهم، وخرج، وهلك مروان بن الحكم بعد تسعة أشهر من ولايته، وجعل ولىّ عهده ابنه عبد الملك، وبعده سليمان، وكان سبب هلاكه أنّ الناس أشاروا عليه أن يتزوّج أمّ خالد بن يزيد ليغضّ منه، لأنّ الناس كانوا يتشوّفونه [2] ، وينتظرون بلوغه.   [1] . فما فيه قيمة درهم: كذا فى الأصل. وفى مط: فما فيه دينار واحد. [2] . ما فى الأصل: يتشوّفونه (بالفاء) . وما فى مط: يتشفونه. والمثبت هو الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 ذكر حيلة مروان بن الحكم التي عادت بهلاكه فتزوّج مروان أمّ خالد، فدخل يوما على مروان وعنده جماعة كثيرة، فمشى بين الصفّين، فالتفت مروان إلى من حوله، فقال: - «إنه ما علمت لأحمق، تعالى يا بن الرطبة الاست.» يقصّر به ليسقطه من عين الناس. فرجع [140] إلى أمّه، وبكى بين يديها، وقال: - «خاطبني بحضرة الناس بكذا.» فقالت له أمّه: - «لا تعرّفنّ أحدا، ولا يعرفنّ هو منك، واسكت فإنّى أكفيكه.» فدخل عليها مروان، وقال لها: - «هل قال لك خالد فىّ شيئا؟» فأنكرته، وبسطت له وجهها، وقالت: - «وأىّ شيء يقول خالد فيك؟» ثمّ مكثت [1] أيّاما حتّى أنس مروان، فنام عندها، فغطّته بوسادة وأمسكتها عليه حتّى مات [2] .   [1] . مكثت: كذا فى الأصل. وما فى مط: «مكث» وهو خطأ. [2] . كان هلاك مروان فى شهر رمضان سنة خمس وستين. تجد القصة فى الطبري (7: 577) ، وفى ابن الأثير (4: 191) ، وفى المسعودي (3: 89) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 أيّام عبد الملك بن مروان وكان مروان قبل هلاكه بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة، والآخر إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد. فأما عبيد الله، فسار حتّى نزل الجزيرة، وأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه الشيعة من الكوفة، وهم الذين تسمّوا بالتوّابين، يطلبون بدم الحسين بن علىّ [1] ، وسنذكر من أخبار التوّابين وأخبار أهل المدينة، ما يليق ذكره بهذا الكتاب. خبر التوّابين فأما خبر التوابين [2] ، فإنّه لما قتل الحسين بن علىّ، عليهما السلام [3] ، اجتمعت الشيعة بالكوفة، ولام بعضها بعضا، ورأوا أنّهم جنوا جناية عظيمة باستدعائهم [141] الحسين إلى الكوفة، ثمّ تقاعدهم عنه، إلى أن جرى عليه ما   [1] . وزاد فى مط: «رضى الله عنهما» . [2] . تجد خبر التوابين عند الطبري 7: 497، 538، وعند ابن الأثير 4: 158، وعند المسعودي فى مروج الذهب 3: 93. [3] . عليه السلام: لا توجد عبارة التسليم هذه فى مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 جرى، وأنه لا يغسل عنهم هذا العار [1] ، ولا يمحو عنهم هذا الإثم، إلّا الخروج والتوبة إلى الله، والطلب بدمه، إلى أن يقتلوا قاتليه أو يقتلوا قبل ذلك. فاجتمع الكلّ إلى خمسة من الرؤساء، وهم: سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة [2] ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدى، وعبد الله بن وال التميمىّ، ورفاعة بن شدّاد البجلىّ. ثمّ اجتمع هؤلاء الخمسة على سليمان بن صرد، وكانت له صحبة من النبىّ، صلّى الله عليه وسلّم، فرأسوه [3] ، وقالوا: - «لا بدّ من رئيس واحد تكون له راية يحفّ بها، ورأى يصدر عنه.» فرضوا بسليمان بن صرد، وخطبهم سليمان خطبة طويلة، قال فى آخرها: - «كونوا كتوّابى بنى إسرائيل، إذ قال لهم نبيّهم: إنكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم [4] . وإنّى أرى أنّ الله قد سخط عليكم مما [5] أتيتموه فى أمر ابن نبيّكم، فلا يرضيه شيء أو تبيروا [6] قتلة الحسين، فلا تهابوا الموت، فو الله ما هابه أحد إلّا ذلّ.» وتكلّم كلاما كثيرا يشبه هذا. [142] فقال خالد بن سعد: - «أمّا أنا، فو الله، لو أعلم أنّ قتلى نفسي يخرجني من ذنبي، ويرضى عنّى ربّى، لقتلتها، ولكن هذا الذي ذكرته من قتل الأنفس إنما أمر به قوم، فأشهد الله ومن حضر، أنّ كلّ مال أملكه، سوى سلاحي الذي أقاتل به، صدقة على المسلمين،   [1] . العار: كذا فى الأصل. وما فى مط: العمار. وهو خطأ. [2] . نجبه: كذا فى الأصل. وما فى مط مهملة إلّا فى الياء التحتانية. [3] . فرأسوه: كذا فى الأصل، وفى مط: قرأ سورة! وهو تصحيف. [4] . س 2 البقرة: 54. [5] . مما: كذا فى الأصل. وفى مط: بما. [6] . تبيروا: كذا فى الأصل. تبيروا: تهلكوا، تبيدوا. وفى مط: تثيروا. وهو تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 أقوّيهم به على قتال القاسطين.» وقام جماعة، فتكلّموا بمثل ذلك. فقال سليمان: - «حسبكم، من أراد من هذا شيئا، فليأت بماله عبد الله بن وال التيمي، فإذا اجتمع عنده ما يكفى جهّزنا به ذوى الخلّة من أشياعكم.» وكتب سليمان بن صرد إلى المدائن، وبها جماعة من الشيعة، ورأسهم سعد بن حذيفة بن اليمان، بما اجتمع عليه رأى القوم من إخوانهم، وذكّر بمقتل حجر وأصحابه، وبما يقاسيه الشيعة من الذلّ، وحضّهم على التوبة، واستقدمهم. فلما قرأ سعد بن حذيفة الكتاب على الشيعة الذين كانوا بالمدائن، أجابوه بالسمع والطاعة. فأجاب سليمان بن صرد، بما وجد عند الشيعة من الحرص، وأنهم جادّون ينتظرون الداعي، فإذا جاء [143] الصريخ أقبلنا ولم نعرّج، إن شاء الله. وكتب سليمان إلى أهل البصرة، وإلى من يتشيع بها بمثل ذلك، فجاءه الجواب بمثل ما أجابه أهل المدائن. ولم يزل الناس فى الاستعداد إلى أن هلك يزيد، وقام بالأمر مروان، ومدة ذلك ثلاث سنين وشهران. وهلك يزيد، وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث، واجتمعت الشيعة إلى سليمان بن صرد، وقالوا: - «قد مات هذا [1] الطاغية، وهم اليوم مضطربون مشغولون، فقم بنا نثب على عمرو بن الحريث، ثمّ نظهر الطلب بدم الحسين، ونتتبع قتلته فنقتلهم، وندعو الناس إلى أهل البيت المدفوعين عن حقوقهم.»   [1] . هذا الطاغية: كذا فى الأصل ومط ولكن كلمة غير واضحة زيدت فوق كلمتي «مات هذا» تشبه أن تكون «أمير» ، وباعتبارها تكون العبارة فى الأصل: «أمير هذا الطاغية» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 ذكر رأى سليمان بن صرد فى ذلك فلمّا أكثر الناس، وأطالوا عليه، قال لهم سليمان: - «رويدا، لا تعجلوا، إنّى قد نظرت فى ما تذكرون، فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة، وفرسان العرب، وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون علموا أنهم المطلوبون [144] فكانوا أشدّ شيء عليكم. وقد نظرت فى من معى منكم، فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا نفوسهم، ولم ينكأوا [1] فى عدوّهم، وكانوا لهم جزرا، ولكن بثّوا دعاتكم، فإنّى أرجو أن يكون الناس أسرع استجابة حيث هلك هذا الطاغية.» قدوم المختار، وما زعم ففعلوا، وخرجت منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. فلما كان بعد ذلك، قدم المختار بن أبى عبيد، فزعم أنه من قبل المهدىّ محمد بن الحنفيّة يدعوهم إلى الطلب بدم الحسين. فكانت الشيعة قد انقادت لسليمان بن صرد. فكان المختار، إذا خاطب الشيعة، ودعاهم إلى نفسه، قالوا: - «هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة.» فيقول المختار: - «هذا ليس لكم بصاحب، إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه، ويقتلكم. ليس له بصر بالحرب، ولا علم بها.» فلا يقبل منه.   [1] . لم ينكأوا: كذا فى الأصل، نكأ العدوّ (ينكأ) : جرحه، وقتله. وفى مط: ولم ينكوا. من قولهم: نكا العدوّ، وفيه (ينكى) : أوقع به. هزمه وغلبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 قدوم عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد من قبل ابن الزبير وقدم الكوفة عبد الله بن يزيد أميرا على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله [145] ، أميرا على خراج الكوفة. فبلغهما أنّ الشيعة خارجة، وأنهم [1] طائفتان: طائفة كثيرة مع سليمان بن صرد، وطائفة يسيرة مع المختار، وأشير على عبد الله بن يزيد أن يجمع الشرطة والمقاتلة ووجوه الناس وينهض إليهم، وقيل له: - «إذا صرت إلى منزله، دعوته، فإن أجابك حبسته [2] ، وإن قاتلك، قاتلته وقد جمعت له وعبّأت وهو مغترّ.» وقيل له: - «إن لم تفعل بذاك، خرج [3] عليك، وقد اشتدّت شوكته، وتفاقم أمره.» ذكر رأى عبد الله بن يزيد فنظر عبد الله بن يزيد، فإذا القوم يطلبون غيره بدم الحسين، فكره أن يستحضّهم. فقال لمن أشار عليه بما حكيناه: - «حدّثونى ما يريدون» قال: - «يذكرون أنهم يطلبون بدم الحسين.» فقال: - «أنا قتلت الحسين؟ لعن الله قاتل الحسين.»   [1] . فى الأصل: أنهما، وهو خطأ، وما أثبتناه يوافق مط. [2] . فى مط: جلسته. وهو خطأ. [3] . فى الأصل ومط: «وخرج» - بالواو- وحذفناها بمقتضى السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وقال: - «الله بيننا وبين هؤلاء القوم، إن تركونا لم نطلبهم.» ثمّ خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «فقد بلغني أنّ طائفة من أهل هذا المصر، أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل [146] لى: إنّهم يطلبون بدم الحسين بن علىّ. فرحم الله هؤلاء القوم، قد- والله- دللت على أماكنهم، وأمرت بأخذهم، وقيل لى: ابدأ بهم، قبل أن يبدءوك، فأبيت ذلك، وقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركونى لم أطلبهم. وعلام يقاتلوننى؟ فو الله ما أنا قتلت حسينا، ولا أنا ممّن قاتله. ولقد أصبت بمقتله، رضى الله عنه. هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا، ولينتشروا ظاهرين، ثمّ ليسيروا إلى قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، وأنا ظهير لهم. هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل أخياركم، وأماثلكم، قد توجّه إليكم عهد العاهد به، على مسيرة ليلة من منبج [1] ، فقتاله والاستعداد له أجزى وأرشد من أن يجعلوا بأسكم بينكم، فيسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم العدوّ غدا وقد رققتم [2] ، وتلك أمنيّة عدوّكم، فإنّه قد أقبل إليكم. أعدى خلق الله لكم من ولى عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، ومن قتل من تبغون دمه قد جاءكم، فاستقبلوه بحدّكم وشوكتكم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسكم، [147] فإنّى لم آلكم نصحا، جمع الله كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا.» فخرج أصحاب سليمان بن صرد ظاهرين، يشترون السلاح، ويتجهّزون بما يصلحهم. وأما النفر الذين مع المختار، فإنهم سكتوا، لأنّ المختار كان يريد ألّا يهيج أمرا   [1] . منبج: كذا فى المراصد والطبري 7: 511، وما فى الأصل: منبح- بالحاء المهملة، وما فى مط: منيح، وكلاهما تصحيف. [2] . رققتم: كذا فى الأصل: رققتم: ضعفتم. وفى مط: وفقتم. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 حتّى ينظر: إلى ما يصير أمر سليمان بن صرد. ورجا أن تستجمع له الشيعة، فيكون أقوى على درك ما يطلب. اجتماع الأمر لسليمان بن صرد واجتمع لسليمان أمره فى سنة خمس وستين، وكان قد واعد أصحابه، وكاتب أهل المدائن وغيرهم لغرّة شهر ربيع الأوّل، فخرج فى تلك الليلة إلى المعسكر بالنخيلة، ودار فى الناس ووجوه أصحابه، فلم تعجبه عدّة الناس. فبعث حكيم بن منقذ فى خيل، وبعث الوليد بن حصين فى خيل، وقال: - «اذهبا حتّى تدخلا الكوفة، فناديا: يا لثارات الحسين! وابلغا المسجد الأعظم، فناديا بذلك.» فخرجا، فكأنّ خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين. وكثر المستجيبون، وكثر البكاء والنحيب. وكان الرجل إذا سمع هذا النداء، فارق أهله وولده، وتركهم يبكون، ووثب إلى سلاحه [148] وودّعهم، ثمّ خرج. قال: فلم يصبح حتّى جاءه نحو ممن كان فى عسكره حين دخله، ثمّ دعا بديوانه حين أصبح، فوجد من جاء أربعة آلاف رجل من جملة ستّة عشر ألفا كانوا بايعوه، فقال: - «سبحان الله! أما هؤلاء بمؤمنين؟ أما يخافون الله؟ أما يذكرون ما أعطوا من العهود والمواثيق؟» وجعل يبعث ثقاته إلى من تخلّف عنه يذكّرهم الله. فخرج إليه نحو من ألف رجل. فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أيها الناس، إنه ما ينفعنا المكره، وإنما ينفعنا ذو النيّة. فمن كان يريد حرث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الدنيا، فو الله ما يأتى فيئا [1] ، ولا غنيمة، ما خلا رضوان الله، وما معنا ذهب ولا فضّة، ولا خزّ، ولا حرير، وما هو إلّا سيوفنا فى عواتقنا، ورماحنا فى أكفّنا، وزاد قدر البلغة إلى لقاء عدوّنا، فمن كان ينوي غير هذا، فلا يصحبنا.» فأجابه الناس: - «إنما خرجنا للَّه، وللتوبة إليه من ذنبنا، والطلب بدم ابن بنت رسول الله، وإنما نقدم على حدّ السيوف، وأطراف الرماح.» ذكر آراء أشير على سليمان ورأى رءاه وحده أما أكثر الناس، فأشاروا على سليمان أن يقصدوا الكوفة، وقالوا: - «إنّا خرجنا [149] نطلب بدم الحسين، وقتلة الحسين كلّهم بالكوفة: عمر بن سعد بن أبى وقّاص، ورؤوس الأرباع، وأشراف القبائل، فأين نذهب وندع الأوتاد. والله، ما نلقى، إن مضينا نحو الشام، وهذه الخيل التي أقبلت، إلّا عبيد الله وحده ممن نطلبه، ووراءكم ألدّهم بالكوفة، مثل عبيد الله. [2] » فقال سليمان بن صرد: - «والله، لقد جئتم برأى، فهلمّوا أيها الناس بجميع ما عندكم.» فلمّا سمع هذا وأمثاله، قال: - «لكن أنا لا أرى لكم ذلك.» ذكر الرأى الذي رءاه سليمان قال: - «إنّ الذي قتل صاحبكم هو الذي عبّى إليه الجنود فألزم الناس المسير إليه   [1] . فيئا: كذا فى الأصل. وما فى مط: فيها. [2] . مثل عبيد الله: كذا فى الأصل ومط. قس بما فى الطبري 5: 541- 542. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 كارهين، وهدّدهم.» ثمّ قال: - «لا أمان له عندي دون أن يستسلم، فأمضى فيه حكمى، هذا الفاسق، ابن الفاسق، ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد. فإن يظهر الله عليه كان من بعده أهون شوكة، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم، فينظرون من شرك فى دم الحسين، فيقتلونه، وإن قاتلتم الآن أهل مصركم، ما عدم الرجل أن يرى رجلا غدا وقد قتل أخاه، أو أباه، أو حميمه، أو رجلا [150] لم يكن يريد قتله، فيكثر أعداؤكم، فاستخيروا الله وسيروا.» فتهيّأ الناس للخروج. ذكر رأى آخر رءاه أمير الكوفة عبد الله بن يزيد لمّا بلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة أنّ سليمان خارج بأصحابه نحو عبيد الله بن زياد، رأيا أن يأتياهم، فيعرضا عليهم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدة، فإن أبوا إلّا الشخوص، سألوهم النظر حتّى يجهّزوا معهم جيشا، فيقاتلوا عدوّهم بكتف وحدّ [1] . فراسلا سليمان بن صرد وقالا: - «إنّا نريد أن نجيئك لأمر عسى الله أن يجعل لنا ولك فيه صلاحا.» فقال سليمان للرسول: - «قل لهما، فليأتيانا.» وأحسن سليمان تعبئة الناس، وجاء عبد الله بن يزيد، فى أشراف أهل الكوفة، وجاء إبراهيم فى جماعة من أصحابه. وكان عبد الله بن يزيد قال لكلّ رجل معروف علم أنّه شرك فى دم الحسين: لا تصحبنى، مخافة أن ينظروا إليه، فيعدوا   [1] . كذا فى الأصل: بكتف وحدّ. وما فى مط: بكتف وجد. وهو تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 عليه. وكان عمرو بن سعد طول تلك الأيام التي كان سليمان فيها معسكرا بالنخيلة، لا يبيت إلّا فى قصر الإمارة مع عبد الله بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم وهو غافل، فيقتل. ولما دخل عبد الله بن يزيد إلى سليمان، حمد الله، وأثنى عليه، [151] ثمّ قال: - «إنّ المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يغشّه، وأنتم أهل مصرنا، وأحبّ الناس إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدّوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم، وأقيموا معنا حتّى نتيسّر ونتهيّأ، فإذا علمتم أنّ عدوّنا قد شارف بلادنا خرجنا إليهم بجماعتنا، فقاتلناهم.» وتكلّم إبراهيم بنحو من هذا. فتكلّم سليمان، وحمد الله، وأثنى عليه، وقال: - «قد علمت أنّكما قد محضتمانى النصيحة، واجتهدتما فى المشورة، ونحن فقد خرجنا على نيّة، ولن ننقضها، ونسأل الله العزيمة، والتشديد.» فقالا: - «فأقيموا حتّى نجهّز معكم جيشا كثيفا، فتلقوا عدوّكم بكتف وجمع وحدّ.» فقال سليمان: - «تنصرفون ونرى رأينا.» فعرضا عليه الصبر عليهما، حتّى يجعلا له ولأصحابه خراج جوخى [1] دون الناس. فأبى سليمان وقال:   [1] . جوخى: نهر عليه كورة فى سواد بغداد بالجانب الشرقي منه الراذان، وهو بين خانقين وخوزستان، قالوا: ولم يكن ببغداد مثل كورة جوخى، كان خراجها ثمانين ألف ألف [000، 000، 80] درهم، حتّى صرفت دجلة عنها فخربت (المراصد وياقوت) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 - «ما خرجنا للدنيا.» وإنما فعلا ذلك، لما داخلهم من إقبال عبيد الله بن زياد نحو العراق. وأبطأ على سليمان أصحابه من أهل البصرة والمدائن، فخرج من عسكره بالنخيلة، ومرّ نحو الأقساس [1] ، وتخلّف عنه ناس كثير. فقال سليمان: - «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، 9: 47 لأنّ الله كره [152] انبعاثهم، فثبّطهم.» ثمّ خرج حتّى صبّح قبر الحسين. فلما انتهى الناس إليه، صاحوا صيحة واحدة، وبكوا. فما روى يوم كان أكثر باكيا منه، وجعلوا يدعون الله، ويسألونه أن يتوب عليهم، وأحسن الناس بالمنطق، وزادهم ذلك بصيرة، وشحذ رأيهم، ووطّنوا أنفسهم على الجهاد، وحبّ الشهادة. كتاب عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد وما كان من جوابه ثمّ ساروا، فلحقهم كتاب من عبد الله بن يزيد، وهم بالقيّارة، مع المحلّ [2] بن خليفة الطائىّ. قال المحلّ: فلقيته، وأبلغته السلام والكتاب، فاستقدم أصحابه حتّى ظنّ أن قد سبقهم. فوقف، وأشار إلى الناس، فوقفوا، ثمّ قرأ الكتاب، فإذا فيه: - «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين. سلام عليكم، أما بعد، فإنّ كتابي هذا   [1] . الأقساس: قرية بالكوفة وكورة يقال لها: أقساس مالك (المراصد) . [2] . المحلّ: ما فى الأصل ومط غير مضبوط، فضبطناه كما فى الطبري 5: 548. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 كتاب ناصح، وكم من ناصح مستغشّ، ومن غاشّ مستنصح. إنّه قد بلغني أن قد أقبل من الشام، جموع عظيمة، وأنتم تريدون أن تلقوهم بالعدد اليسير، وإنّه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها، تكلّ معاوله، وينزع، وهو مذموم الفعل والعقل. يا قومنا، لا تطمعوا عدوّكم فى أهل بلادكم، فأنتم خيار كلّكم، ومتى يصبكم عدوّكم، أطمعهم ذلك فى من وراءكم [153] من أهل مصركم. يا قومنا، إنّهم إن يظهروا عليكم، يرجموكم، ويعيدوكم فى ملّتهم، ولن تفلحوا إذا أبدا [1] ، يا قومنا، إنّ أيدينا وأيديكم واحدة وعدوّنا وعدوّكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدوّنا، ومتى تختلف تهن شوكتنا. يا قومنا، لا تستغشّوا نصحى، ولا تخالفوا أمرى، وأقبلوا حين يقرأ عليكم كتابي، أقبل الله بكم إلى طاعته، والسلام.» فلما قرأ الكتاب [2] ، قال ابن صرد للناس: - «ماذا ترون؟» قالوا: - «ماذا نرى؟ قد أبينا هذا عليهم، ونحن فى مصرنا، وأهلنا، والآن حين خرجنا، ووطّأنا أنفسنا على الجهاد، نفتأ عزيمتنا؟ ما هذا برأى.» ثمّ نادوه: - «أخبرنا برأيك!» قال: - «رأيى أن لا ننصرف عمّا جمعنا الله عليه، لأنّا وهؤلاء مختلفون، لأنّهم لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير، ونحن لا نرى الجهاد مع ابن الزبير إلّا   [1] . س 18 الكهف: 20. [2] . تجد الكتاب عند الطبري (7: 549) أيضا وباختلاف طفيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 ضلالا، وإن ظهرنا رددنا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا، فعلى نيّتنا، تائبين من ذنوبنا. لأنّ لنا شكلا، ولابن الزبير شكلا.» فانصرف الناس معه حتّى نزلوا هيت [1] . وكتب سليمان جواب الكتاب، ولا طفه، وأثنى عليه، واعتذر إليه، بأنّهم تائبون خرجوا على نيّة الجهاد، وتوجّهوا [154] لأمر لا ينقضونه. [2] فلما أتى هذا الكتاب إلى عبد الله بن يزيد، قال: - «استمات القوم. أوّل كتاب يرد عليكم يكون بقتلهم.» بين سليمان بن صرد وزفر بن الحارث فى قرقيسيا وسار القوم إلى قرقيسيا، وبها زفر بن الحارث بن كلاب، قد تحصّن بها من القوم، ولم يخرج إليهم. فبعث سليمان إلى المسيّب بن نجبة، فقال له: - «ايت ابن عمّك هذا، فقل له: فليخرج لنا سوقا، فإنّا لسنا إيّاه نريد، إنّما صمدنا لهؤلاء المحلّين.» فانتهى المسيّب إلى الحصن، وانتسب، واستأذن. فقيل:   [1] . هيت: سمّيت باسم بانيها، وهي بلدة على الفرات فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة على جهة البرية فى غربي الفرات (المراصد) . [2] . والجواب كما فى الطبري (7: 550) : «بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك، أما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت. فنعم- والله- الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة أنت والله من نأمنه بالغيب، ونستنصحه فى المشورة، ونحمده على كلّ حال، إنّا سمعنا الله، عزّ وجلّ، يقول فى كتابه: إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة (إلى قوله:) وبشّر المؤمنين [س 9 التوبة: 111] إنّ القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا. إنهم قد تابوا من عظيم جرمهم، وقد توجّهوا إلى الله، وتوكّلوا عليه، ورضوا بما قضى الله. ربنا عليك توكّلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، والسلام عليك.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 - «هذا رجل حسن الهيئة يستأذن عليك، ويزعم أنه المسيّب بن نجبة.» فقال زفر بن الحارث: - «هذا فارس مضر، وهو بعد رجل ناسك له دين، فأذنوا له.» وجاء، فأجلسه إلى جانبه، وسائله، وألطفه فى المسألة. ثمّ خاطبه المسيّب، وقال: - «ممّ تحصّن، إنه والله، ما إياكم نريد، وما قصدنا إلّا هؤلاء الظلمة المحلّين، فأخرج لنا سوقا، فإنّا لا نقيم بساحتك إلّا يوما أو بعض يوم.» فقال له زفر بن الحارث: - «إنّا لم نغلق أبواب المدينة إلّا لنعلم: إيّانا اعتريتم، أم غيرنا. وما نعجز عن الناس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحبّ [155] أنّا بلينا بقتالكم، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة حسنة جميلة.» ثمّ دعا ابنه، وأمر أن يضع لهم سوقا جامعة، وأمر للمسيّب بفرس وألف درهم. فقال المسيّب: - «أمّا المال، فلا حاجة لى فيه، ولا له خرجنا، وأما الفرس، فإنّى أقبله، فلعلّى أحتاج إليه إن غمز [1] فرسي تحتي.» وخرج حتّى أتى أصحابه، وأخرجت لهم السوق، وبعث إلى المسيّب بعشرين جزورا، وإلى سليمان بن صرد مثل ذلك. وكان سأل عن وجوه العسكر، فأخرج إلى كلّ واحد منهم بعشر جزائر وعلف كثير، وطعام واسع، وأخرج إلى العسكر عيرا عظيمة، وشعيرا كثيرا. وقال غلمان زفر للناس: - «هذه عير، فاجتزروا منها ما أحببتم، وهذا شعير، فاحتملوا ما أردتم، وهذا   [1] . فى مط: عمر. وهو خطأ. فى الطبري (5: 552) إن ظلع فرسي أو غمز. غمزت الدابة: ظلعت، أى مالت من رجلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 دقيق، فتزوّدوا ما أطقتم.» فأخصب القوم، ولم يحتاجوا إلى كثير شيء من السوق التي أخرجت لهم. وبعث إليهم زفر بن الحارث: - «إنّى خارج إليكم، ومشيّعكم، ومشير عليكم برأى عندي، والله موفّقكم.» ذكر رأى أشار به زفر بن الحارث على سليمان بن صرد وأصحابه [156] ثمّ إنّ زفر خرج إليهم من الغد، وقد خرجوا على تعبئة، فسايرهم، وقال لسليمان: - «إنّه قد بعث بخمسة من الأمراء، وقد فصلوا من الرقّة الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذى الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن المخارق [1] الغنوي، وحملة [2] بن عبد الله الخثعمي، وقد جاءوكم مثل الشوك والشجر، أتاكم والله عدد كثير، وحدّ حديد، وأيم الله، لقلّ ما رأيت رجالا أحسن هيئة ولا عدّة، ولا أخلق بكل خير، من رجال أراهم معكم، ولكنّه قد بلغني أنّه قد أقبلت إليكم عدّة لا تحصى.» قال ابن صرد: - «عَلَى الله تَوَكَّلْنا 7: 89، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. 12: 67 [3] » فقال لهم زفر: - «فهل لكم فى أمر أعرضه عليكم؟ لعلّ الله يجعل [4] لنا ولكم فيه خيرا.»   [1] . ما فى الأصل ومط: المحارق. وما فى الطبري: المخارق. [2] . حملة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: جبلة. [3] . س 12 يوسف 67، س 14 إبراهيم 12 بتصرّف. [4] . فى الأصل ومط: أن يجعل. (بزيادة أن) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 قال سليمان: - «وما هو؟» قال: «نفتح لكم مدينتنا، فتدخلونها، فيكون أمرنا واحدا، وأيديكم مع أيدينا.» فقالوا: - «لا نفعل ذلك.» قال زفر: - «فتنزلون على باب مدينتنا، ونخرج، ونعسكر إلى جانبكم، فإذا جاءنا هذا العدّو قاتلناه جميعا.» فقال سليمان لزفر: - «قد أرادنا أهل مدينتنا على مثل ما ذكرت، ثمّ كتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم نفعل.» [157] قال زفر: - «فلو ضممتم رأينا إلى رأيهم، وأقمتم معنا، وكاتبتم أهل مصركم، فبادروا إليكم بما عرضوا عليكم لرجونا أن يصل إلينا عدوّنا ونحن مجتمعون بحدّ واحد، وشوكة واحدة، فكانت الدبرة عليهم.» فقالوا: - «فإنّا لا نفعل.» فقال زفر: - «فانظروا الآن ما أشير به عليكم، فاقبلوه، وخذوا به، فإنّى عدوّ القوم، وأحبّ أن يجعل الله الدائرة على القوم، وأنا لكم وادّ، أحبّ أن يحوطكم الله بالعافية. إنّ القوم قد فصلوا من الرقّة، فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة فى ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة فى أيديكم، وما بين مدينتنا وبينكم فأنتم له آمنون. والله، لو أنّ خيولي كرجالى، لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 إلى عين الوردة، فإنّ القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خيول، والله، لقلّ ما رأيت جماعة خيل أكرم منها. تأهّبوا إليها من يومكم هذا، فإنّى أرجو أن تسبقوهم إليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة، فلا تقاتلوهم فى فضاء [1] ترامونهم، وتطاعنونهم، فإنّهم أكثر منكم، فلا آمن أن يحيطوا [158] بكم، ولا تقفوا لهم ترامونهم، وتطاعنونهم، فإنّه ليس لكم مثل عددهم، وإن استهدفتم لهم لم يلبّثوكم أن يصرعوكم، ولا تصفّوا لهم حين يلقونكم. فإنّى لا أرى معكم رجالا، ولا أرى جميعكم إلّا فرسانا، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمى رجالها، والرجال تحمى فرسانها، وأنتم لا رجال لكم تحمى فرسانكم. فالقوهم فى المقانب والكتائب. ثمّ بثّوها فى ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كلّ كتيبة كتيبة إلى جانبها، فإن حمل على إحدى الكتيبتين، ترجّلت الأخرى، فنفّست عنها الخيل والرجال، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة سفلت، ولو كنتم فى صفّ واحد، فزحفت إليكم الرجال، فدفعتم عن الصفّ انتقض، فكانت الهزيمة.» ثمّ وقف، فودّعهم، فأثنى الناس عليه، ودعوا له، وقالوا له خيرا. وقال له سليمان: - «نعم المنزول به أنت، أكرمت النزل [2] ، وأحسنت الضيافة، ونصحت فى المشورة.» موقعة عين الوردة ثمّ إنّ القوم جدّوا فى السير، فجعلوا كلّ مرحلتين مرحلة، حتّى انتهوا إلى عين الوردة، وسبقوا القوم إليها، ونزلوا فى [159] غربيّها، فأقاموا خمسا لا يبرحون،   [1] . فضاء: كذا فى الأصل. وما فى مط: قضاء. وهو خطأ. [2] . النزل: كذا فى الأصل. وفى الطبري ومط: النزول. والنزل: النازلون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 فاستراحوا فأراحوا خيلهم، ثمّ خطبهم سليمان، فأطال خطبته، وذكر الدنيا، فزهّد فيها، والآخرة فرغّب فيها، ثمّ قال: - «أمّا بعد، فقد أتاكم الله بعدوّكم الذي دأبتم له فى السير آناء الليل والنهار، تريدون فى ما تظهرون التوبة النصوح، ولقاء الله معذرين. فقد جاءوكم، بل أنتم جئتموهم فى دارهم وحيّزهم [1] ، فإذا لقيتموهم، فاصدقوهم، واصبروا، ولا يولّينّهم أحد دبره إلّا متحرّفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، ولا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيرا إلّا أن يكون من قتلة إخواننا بالطّفّ، فإنّ هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب فى أهل هذه الدعوة.» ثمّ قال سليمان: - «إن قتلت، فأمير الناس المسيّب بن نجبة، فإن أصيب، فأمير الناس عبد الله بن سعد بن نفيل، فإنّ أصيب، فأمير الناس عبد الله بن وال، فإن أصيب، فأميرهم رفاعة بن شدّاد. [2] ثمّ بعث المسيّب بن نجبة فى أربعمائة فارس، وقال له: - «سر حتّى تلقى أول عسكر من عساكرهم، فشنّ فيهم الغارة، فإن رأيت ما تحبّ، وإلّا فانصرف إلىّ، وإيّاك أن تنزل، أو ينزل أحد من [160] أصحابك.» فمضى المسيّب، حتّى لقى رجلا أعرابيا يسوق أحمرة. فقال: - «علىّ بالرجل.» فأتى به، فقال: - «كم بيننا وبين أدنى هؤلاء القوم؟» قال: - «أدنى عسكرهم إليك عسكر ابن ذى الكلاع، وبينه وبين الحصين بن نمير   [1] . كذا فى الأصل والطبري: وحيّزهم. وفى مط: خيرهم. [2] . أنظر الطبري (7: 555) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 اختلاف. ادّعى حصين أنه على جماعة الناس، وقال ابن ذى الكلاع: ما كنت لتولّى [1] علىّ. وقد تكاتبا فى ذلك إلى عبيد الله، [فهما ينتظران أمره] [2] فهذا عسكر ابن ذى الكلاع على رأس ميل.» قال: فتركنا الأعرابىّ، ومضينا مسرعين، فو الله ما شعروا بشيء حتّى أشرفنا عليهم وهم غارّون فحملنا إلى جانب عسكرهم، فو الله، ما ثبتوا وانهزموا، وخلّوا لنا معسكرهم، فقتلنا منهم، وجرحنا، وأخذنا من المعسكر ما خفّ علينا، وصاح المسيّب فينا: - «الرجعة، الرجعة، إنكم قد نصرتم وغنمتم وسلمتم، فانصرفوا.» فانصرفنا إلى سليمان. عبيد الله بن زياد يسرّح الحصين بن نمير لدفع سليمان وأتى الخبر عبيد الله، فسرّح إلينا الحصين بن نمير مسرعا، حتّى نزل فى اثنى عشر ألفا، فخرجنا إليه وقد عبّى سليمان ميمنته وميسرته، ووقف فى القلب. فلما دنوا منّا دعونا إلى الجماعة مع عبد الملك بن مروان، وإلى الدخول فى طاعته، ودعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد الله بن زياد [161] فنقتله ببعض من قتله من إخواننا، وأن يخلعوا عبد الملك بن مروان، وإلى أن نخرج من بلادنا من آل الزبير، ثمّ نردّ الأمر إلى أهل بيت نبيّنا الذين هم أولى بالأمر. فأبى القوم، وأبينا. ثمّ حملت ميمنتنا على ميسرتهم فهزمتهم، وحلمت الميسرة، وحمل سليمان فى القلب فهزمناهم حتّى اضطررناهم إلى عسكرهم، فكان الظفر لنا حتّى حجز الليل بيننا وبينهم، وقد أحجزناهم فى عسكرهم.   [1] . لتولّى: كذا فى الأصل. وما فى مط: تتولى. [2] . ما بين [] أخذناه عن الطبري 7: 557. كما يوجد عند ابن الأثير 4: 181. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فلما كان من الغد، صبّحهم ابن ذى الكلاع فى ثمانية آلاف، أمدّهم بها عبيد الله بن زياد، وكان عبيد الله أنفذ إليه يشتمه، ويقول: - «عملت عمل الأغمار، وضيّعت مسالحك وعسكرك. سر إلى الحصين بن نمير، حتّى توافيه، فهو أمير للناس.» فجاءه مددا، وغاديناهم القتال. فاقتتلنا قتالا لم ير الشيب والمرد مثله، وكان فينا قصّاص يقصّون، ويحضّون [1] ، ويقولون: - «أبشروا عباد الله، فحقّ لمن ليس بينه وبين لقاء الله، والراحة من أبرام الدنيا، وأذاها، إلّا فراق هذه النفس الأمّارة بالسوء، أن يكون سخيّا بفراقها، مسرورا بلقاء ربّه.» فاقتتلنا اليوم الثاني كقتال أمس، ثمّ اقتتلنا اليوم الثالث [162] مثل ذلك، إلى أن كثرنا أهل الشام، وانعطفوا [2] علينا من كلّ جانب. فلما نظر سليمان إلى ذلك قال: - «عباد الله، من أراد البكور إلى ربّه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلىّ.» وكسر جفن سيفه، ففعل معه ناس كثير مثل ذلك، ومشى الناس بالسيوف، مصلتين، فقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا. مقتل سليمان بن صرد فلما رأى الحصين بن نمير صبرنا وبأسنا، بعث رجالا ترمى بالنبل، واكتنفهم الخيل والرجال. فقتل سليمان، وأخذ الراية المسيّب بن نجبة، فقاتل وأحسن وصبر صبرا لم ير مثله، وقاتل قتالا لم يسمع بمثله، وما ظنّ أحد أنّ رجلا واحدا   [1] . يحضّون: كذا فى الأصل. وفى مط: يحصون. [2] . انعطفوا: كذا فى مط. وفى الطبري: تعطّفوا. وفى الأصل: انعطفوا (بهمزة باب الانفعال وتشديد باب التفعيل!) وهو خطأ. والمثبت يوافق مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 يقدر أن يبلى ما أبلى، إلى أن قتل، وأخذ الراية عبد الله بن سعد. قال: فبينا نحن نقاتل معه إذ جاء فرسان ثلاثة أنفذهم أهل المدائن على خيول مقلّمة تطوى المنازل يبشّروننا بخروج أصحابنا من المدائن وخروج المثنى بن محربة فى أهل البصرة، والجميع نحو من خمسمائة فارس. فقال عبد الله بن سعد لمّا قالوا له: أبشر بمجيء إخوانكم: - «ذلك لو جاءونا ونحن أحياء.» قال: فنظروا إلى ما أساء أعينهم، ولم يلبثوا أن قتل عبد الله بن سعد، ونادينا عبد الله بن [163] وال، وكان قد استلحم فى عصابة معه إلى جانبنا، فحمل عليهم رفاعة بن شدّاد، فكشفهم عنه، ثمّ أقبل إلى رايته، فأخذها، ونادى الناس: - «يا عباد الله، من أراد الحياة التي لا وفاة لها، والراحة التي لا نصب بعدها، والسرور الذي لا حزن فيه، فإلىّ.» ثمّ قاتلناهم، وكشفناهم. ثمّ انعطفوا علينا، وكثرونا من كلّ جانب حتّى ردّونا إلى مكاننا الذي كنّا به. (قال: وكنّا بمكان لا يقدرون أن يأتوا فيه، إلّا من وجه واحد) وحملت علينا خيل عظيمة فيها أدهم بن محرز عند المساء، فقتل عبد الله بن وال، فنادينا رفاعة، وقلنا: - «أمسك رايتك.» فقال: - «لا أريدها.» قلنا: - «إنّا للَّه، مالك؟» قال: - «ارجعوا بنا، فلعلّ [الله] [1] يجمعنا ليوم شرّ لهم.»   [1] . الله: تكملة من الطبري 7: 565. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 فوثب إليه عبد الله بن عوف بن أحمر. ذكر رأى رءاه ابن أحمر فقال: - «أهلكتنا، والله، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا، فلا نبلغ فرسخا حتّى نهلك من عند آخرنا، فإن نجا منّا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى فتقرّبوا به إليهم، فيقتل صبرا [1] . ننشدك الله أن تفعل. هذه الشمس قد طفلت للمغيب، وهذا الليل قد غشينا [164] هلمّ نقاتلهم على حالنا هذه، فإنّا الآن مجتمعون ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل، فرمينا بها، فكان ذلك أوّل شأن حتّى نصبح، فنسير على مهل، ويحمل الرجل منّا جريحه، وينتظر صاحبه، ويسير العشرة والعشرون معا، ويعرف الناس الوجه الذي يأخذون، فيتّبع بعضهم بعضا. ولو كان ما ذكرت لم تقف أمّ على ولد، ولم يعرف رجل وجه صاحبه، ولم نصبح إلّا ونحن بين مقتول ومأسور.» فقال له رفاعة: - «نعم ما رأيت.» وأخذ يحمّل. فقال ابن أحمر: - «قاتل معنا ساعة واحدة، رحمك الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.» وما زال يناشده حتّى احتبس عليه، وتحدّث الناس بما عزم عليه رفاعة من الرجوع، وكان لا تزال الجماعة تنادى: - «عباد الله، روحوا إلى ربّكم، والله، ما فى شيء من الدنيا خلف من رضا الله. قد بلغنا أنّ طائفة منكم يريدون الرجوع إلى ما خرجوا منه، وأن يركنوا إلى الدنيا   [1] . يقال: «قتل فلان صبرا» أى: حبس على القتل حتّى يقتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 التي قليلا ما يلبثون فيها. ثمّ يحملون، فيقاتلون حتّى يقتلوا.» [1] فلما أمسى الناس ورجع أهل الشام إلى معسكرهم، نظر رفاعة إلى كلّ رجل قد عقربه [2] ، وإلى [165] كلّ جريح لا يعين على نفسه. فدفعه إلى قومه. ثمّ سار بالناس ليلته كلّها حتّى عبر الخابور، وقطع المعابر كلّها وكان لا يمرّ بمعبر إلّا قطعه. وأصبح الحصين، فوجدهم قد ذهبوا، وكان رفاعة قد خلّف وراءهم أبا الجويريّة فى سبعين فارسا يسيرون وراء الناس فإذا سقط رحل حمله، وإذا سقط متاع قبضه حتّى يعرّفه. فلم يزالوا كذلك حتّى مرّوا بقرقيسيا، فبعث إليهم زفر من الطعام والعلف مثل ما كان بعثه فى المرة الأولى، وأرسل إليهم الأطبّاء، وقال لهم: - «أقيموا ما أحببتم، فلكم عندنا الكرامة والمواساة.» فأقاموا ثلاثا ثمّ تزوّدوا ما أحبّوا، ورحلوا. فاستقبلهم مددهم من البصرة، ومن المدائن، فتباكوا، وتناعوا إخوانهم، وانصرف أهل البصرة والمدائن إلى بلدانهم، وقدم الناس الكوفة والمختار محبوس. ووردت البشارة على عبد الملك بن مروان، فأظهر سرورا عظيما، وقال للناس: - «لم يبق بعد هؤلاء أحد عنده دفاع ولا امتناع.» ذكر ما كان من المختار بعد التوّابين [166] لما انصرف الناس إلى الكوفة إذ المختار محبوس، فكتب من حبسه إلى رفاعة بن شدّاد:   [1] . كذا فى الأصل. وفى مط: وأن تركنوا إلى التي قليلا ما تلبثون فيها ثمّ تحملون، فتقاتلون، حتّى تقتلوا. أنظر الطبري 7: 567. [2] . كذا فى الأصل ومط والطبري: قد عقربه. فى الكامل (4: 185) : قد عقربه فرسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 - «أما بعد، فمرحبا بالعصب الذين عظّم الله لهم الأجر، ورضى انصرافهم حين قفلوا. [1] إنّ سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه الله، فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون. إنّى أنا الأمين المأمون المأمور، أنا أمير الجيش، وقاتل الجبّارين، والمنتقم من الأعداء، والمقيد من الأوتار [2] . فأعدّوا، واستعدّوا، واستبشروا، وأبشروا. أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى الطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلّين، والسلام عليك [3] .» وتحدّث الناس بهذا من أمر المختار، فبلغ ذلك عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمّد، فخرجا فى الناس حتّى أتيا المختار، فأخذاه. وفى هذه الأيّام اشتدّت شوكة الخوارج بالبصرة، وقتل نافع بن الأزرق. ذكر السبب فى اشتداد شوكة الخوارج وما كان من أمرهم لما اشتغل أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم، بسبب [167] مسعود بن عمرو، وكثرت جموع نافع بن الأزرق، فأقبل حتّى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فى أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة ويرفعه عن أرضها، حتّى بلغ مكانا من أرض الأهواز يقال له: دولاب. فتهيّأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميرىّ، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميمىّ، وجعل ابن الأزرق على   [1] . قفلوا: كذا فى الأصل والطبري 7: 569. وفى مط: نقلوا. [2] . الأوتار: كذا فى الأصل والطبري. وفى مط: الأوتاد. [3] . عليك: ليست فى الطبري. وهي موجودة فى الأصل ومط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ميمنته عبيدة بن هلال اليشكرىّ، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمىّ، ثمّ التقوا، فاضطربوا، واقتتل الناس قتالا لم ير قطّ أشدّ منه، فقتل مسلم بن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمّر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب، وأمّرت الأزارقة عليهم عبد الله بن الماحوز، ثمّ عادوا، فاقتتلوا أشدّ قتال، فقتل الحجاج بن باب أمير أهل البصرة، وقتل عبد الله بن الماحوز أمير الأزارقة. ثمّ إنّ أهل البصرة أمّروا عليهم ربيعة بن الأحرم التميمي، وأمّرت الأزارقة عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثمّ عادوا فاقتتلوا حتّى [168] أمسوا وقد كره بعضهم بعضا وملّوا القتال. فإنّهم لمتواقفون متحاجزون إذ جاءت الخوارج سريّة لهم جامّة لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس، فانهزموا، وقاتل أمير البصرة ربيعة بن الأحرم [1] ، فقتل، وأخذ الراية حارثة بن بدر، فقاتل ساعة وقد ذهب عنه الناس، فقاتل من وراء الناس فى حماتهم وأهل الصبر منهم. ثمّ أقبل بالناس حتّى نزل بهم منزلا بالأهواز، وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم، وراعهم، وامتنع نومهم. وبعث بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة القرشىّ على تلك الحزّة [2] ، فقدم، وعزل عبد الله بن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصرة ليس دونها كبير مانع. ذكر اتّفاق جيّد اتّفق لأهل البصرة وهم فى تلك الحال فبينا الناس على حالهم تلك من الخوف والشدّة، إذ قدم المهلّب بن أبى صفرة   [1] . ربيعة بن الأحرم: كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (7: 582) : ربيعة الأجذم (بالذال المعجمة وبدون «بن» ) . [2] . الحزّة: كذا فى الأصل ومط والطبري. وفى الأصل كتب فوق كلمة «الحزّة» : الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 من قبل عبد الله بن الزبير معه عهده على خراسان. فقال الأحنف للحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة والناس عامّة: - «أيها الناس، لا والله، ما لهذا الأمر إلّا المهلّب، فاخرجوا [169] بنا إليه نكلّمه.» فخرج ومعه أشراف الناس، فكلّموه فى أن يتولّى قتال الخوارج، فقال: - «لا أفعل. هذا عهد أمير المؤمنين معى على خراسان، ولم أكن لأدع وجهى وأقاتل دونكم.» فدعاه ابن أبى ربيعة، فكلّمه فى ذلك، فقال له مثل ما قاله للقوم ولم يجبه. ذكر رأى صحيح وحيلة تمّت لأهل البصرة حتّى حارب عنهم المهلّب ثمّ اجتمع الناس، فأداروا بينهم الرأى، فاتّفقوا مع ابن أبى ربيعة، أن يكتبوا على لسان ابن الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم- «من عبد الله بن الزبير عبد الله أمير المؤمنين، إلى المهلّب بن أبى صفرة، سلام عليك. فإنّى أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإنّ الحارث بن عبد الله كتب إلىّ يذكر الأزارقة المارقة، وأنهم أصابوا جندا للمسلمين كان عددهم جمّا، وأشرافهم كثيرا، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنت وجّهتك إلى خراسان، وكتبت لك عليها عهدا، وقد رأيت حيث ذكر أمر هذه المارقة أن تخرج إليهم، وتلى قتالهم، ورجوت أن يكون ميمونا طايرك، مباركا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 على أهل مصرك، والأجر فى ذلك أفضل [170] من المسير إلى خراسان، فسر إليهم راشدا، فقاتل عدوّ الله وعدوّك، ودافع عن حقّك وحقوق أهل مصرك، فإنّه لن يفوتك من سلطاننا خراسان، ولا غير خراسان، إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» فأتى المهلّب بذلك الكتاب فقرأه، فلمّا فهمه، قال: - «فإنّى والله لا أسير إليهم إلّا أن تجعلوا لى ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أتقوّى [1] به، ومن معى، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوى الشرف من أحببت.» فقال جميع أهل البصرة: - «ذلك لك.» قال: «فاكتبوا على الأخماس بذلك كتابا.» ففعلوا، إلّا ما كان من مالك بن مسمع، وطائفة من بكر بن وائل، فاضطغنها [2] عليهم المهلّب. فقال الأحنف وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلّب: - «وما عليك أن لا يكتب لك مالك بن مسمع، ولا من تابعه من أصحابه إذا أعطاك الذي أردت جميع أهل البصرة، وهل يستطيع مالك خلاف جماعة الناس، أو له ذلك؟ انكمش أيها الرجل، واعزم على أمرك، وسر إلى عدوّك.» ففعل ذلك المهلّب، وأمّر على الأخماس. [171] فأمّر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمّر الحريش بن هلال السعدي على خمس بنى تميم.   [1] . أتقوى به ومن معى: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (7: 584) : ما أقوى به من معى. [2] . فاضطغنها: كذا فى الأصل والطبري (7: 584) . وفى مط: فاصطفها، وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وجاءت الخوارج حتّى انتهت إلى الجسر الأصغر عليهم عبيد الله بن الماحوز، فخرج إليهم المهلّب فى أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحاربهم عن الجسر ودفعهم عنه، فكان أوّل شيء دفعهم عنه البصرة، ولم يكن بقي لهم إلّا أن يدخلوها، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثمّ عبّى لهم، فسار فى الخيل والرجال، فلما رأوا أن قد أظلّ عليهم وانتهى إليهم ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم مرحلة بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حتّى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له: سلّى وسلّبرى [1] ، فأقاموا به. ولما بلغ حارثة بن بدر الغدانى أنّ المهلّب قد أمّر على قتال الأزارقة، قال لمن اتبعه وبقي معه من الناس: كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا قد أمّر المهلّب فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة إلى المهلّب. ولما نزل المهلّب بالقوم، خندق عليه، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام [172] الأحراس، ولم يزل الجند على مصافّهم والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكّلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلّب وجدوا أمرا محكما وثيقا شديدا، فرجعوا ولم يقابلهم انسان قطّ كان أشدّ عليهم منه، ولا أغيظ لقلوبهم منه. فمن ذلك أنهم بعثوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز فى خيلين عظيمين   [1] . سلّى وسلّيرى: كذا فى الأصل. وفى مط: سلى وسلرى. وفى ياقوت ص (232 و 244) : سلّى وسلّبرى، وعن محمد بن موسى: سلّى، ومجموع اللفظين موضع واحد من نواحي خوزستان قرب جندي سابور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 ليلا إلى معسكر المهلّب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وعبيدة من جانبه الأيسر، ثمّ كبّروا وصاحوا بالناس، فوجدوهم على تعبئتهم ومصافّهم حذرين معدّين. فلما ذهبوا ليرجعوا، ناداهم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فقال: وجدتمونا وقرا أنجادا ... لا كشفا خورا ولا أوغادا فردّوا عليه وتشاتموا. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلّب على تعبئتهم، وأخماسهم، ومواقفهم، وخرجت الخوارج على مثل ذلك من التعبئة، إلّا أنّهم أحسن عدّة، وأكرم خيولا، وأكثر سلاحا من أهل البصرة، وذلك أنّهم مخروا الأرض وجرّدوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاءوا وعليهم مغافر تضرب إلى صدورهم، [173] وعليهم دروع يسحبونها، وسوق من زرد يشدّونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، والتقى الناس، وقاتلوا كأشدّ القتال، فصبر بعضهم لبعض عامّة النهار. ثمّ إنّ الخوارج شدّت على الناس أجمعها شدّة منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا يلوى امرؤ على ولد، حتّى بلغ البصرة هزيمة الناس، وخافوا السبي، وأسرع المهلّب حتّى سبقهم إلى مكان يفاع فى جانب سنن المنهزمين، ثمّ نادى الناس: - «إلىّ إلىّ عباد الله!» فثاب إليه جماعة من قومه، وثاب إليه سارية بن عمان، حتّى اجتمع إليه نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلما نظر إلى من اجتمع، رضى جماعتهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أما بعد، فإنّ الله يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلّة، إنّى لجماعتكم لراض، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ولأنتم والله أهل الصبر وفرسان أهل المصر، وما أحبّ أنّ أحدا ممن انهزم معكم. لو كانوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا. عزمت على كلّ امرئ منكم لمّا أخذ عشرة أحجار معه، ثمّ امشوا بنا نحو معسكرهم، فإنهم الآن آمنون [174] وقد خرجت خيلهم فى طلب إخوانكم، فو الله إنّى لأرجو ألّا ترجع خيلهم حتّى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم.» فقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به، ثمّ أقبل بهم زحفا، فلا والله ما شعرت الخوارج إلّا بالمهلّب يضاربهم فى جانب عسكرهم. ثمّ استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه وعليهم السلاح والدروع كاملا، فيأخذ الرجل من أصحاب المهلّب يستعرض وجه الرجل بالحجارة فيرميه حتّى يثخنه، ثمّ يطعنه برمحه، ويضاربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلّا ساعة حتّى قتل عبيد الله بن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه، وأخذ المهلّب عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلا ذريعا، وأقبل من كان فى طلب أهل البصرة، منهم راجعا وقد وضع لهم المهلّب خيلا ورجالا فى الطريق تختطفهم وتقتلهم. فانكفئوا راجعين مفلولين مغلوبين، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان. وأقام المهلّب بالأهواز، وانصرف الخوارج على تلك الحال من الفلول وقلّة العدد حتّى جاءتهم [175] مادّة لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وإصبهان، وأقام المهلّب، فلم يزل ذلك مكانه حتّى جاء مصعب إلى البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة عنها، وكتب المهلّب بالفتح كتابا بليغا. احتيال المختار وهو فى المحبس وفى هذه المدة التي جرى ما حكيناه، كان المختار يحتال من محبسه ويراسل الشيعة، حتّى اجتمعوا له، فراسله وجوههم مثل رفاعة بن شدّاد، والمثنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 بن محرمة [1] ، وسعد بن حذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط [2] ، وعبد الله بن شدّاد، وقالوا له: - «نحن لك بحيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك حتّى نخرجك، فعلنا.» فسرّ المختار باجتماعهم له وقال: - «لا تريدوا هذا، فإنّى خارج فى أيّامى هذه.» قال: وكان المختار قد بعث غلاما له يدعى رزينا، إلى عبد الله بن عمر يسأله أن يشفع له، فكتب له عبد الله بن عمر كتابا لطيفا إلى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد يقول فيه: - «قد علمتما ما بيني وبين المختار بن أبى عبيد من الصهر، فأقسمت عليكما بحقّ ما بيني وبينكما لما خلّيتما سبيله.» فلما قرءا كتابه، أرسلا إلى المختار [176] وكفّلاه من قوم، وحلّفاه بالذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ومماليكه كلّهم ذكرهم وأنثاهم أحرار. فحلف لهم بذلك. فكان المختار بعد ذلك يقول: - «قاتلهم الله، ما أحمقهم حين يرون أنّى أفي لهم باليمين التي حلّفونيها. أمّا يميني لهم بالله، فإنّه ينبغي لى إذا حلفت على يمين، فرأيت ما هو خير منها، أن أدع ما حلفت عليه، وآتى الذي هو خير، وأكفّر عن يميني، وأمّا هذه البدنة فأهون علىّ من بصقة، وما ثمن ألف بدنة مما يهولني، وأما عتق موالىّ، فو الله، لوددت أنه قد استتبّ لى أمرى ثمّ لم أملك مملوكا أبدا.»   [1] . محرمة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 599) : والمثنى بن مخربة العبدى. [2] . شميط (بالشين المعجمة) : كذا فى الأصل. وفى مط: سميط، بالسين المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 ثمّ اختلفت الشيعة إلى المختار، ولم يزل يبايع له ويقوى أمره حتّى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة، فقدم عبد الله بن مطيع، [177] وطلب المختار، وبعث إليه من يثق به ليأتيه به، فتمارض المختار، وألقى عليه قطيفة وجعل يتقفقف [1] . فأقبل صاحب عبد الله بن مطيع وأخبره بعلّته، فصدّقه، ولهى عنه. المختار يدعو الشيعة إلى محمد بن الحنفيّة وبعث المختار إلى أصحابه، فأخذ يجمعهم فى الدور حوله ويواطئ أصحابه على الوثوب بالكوفة فى المحرّم ويدعوهم إلى المهدىّ محمد بن الحنفيّة، ويزعم أنه وزيره وخليله والشيعة مجتمعة له. فتلاقى القوم يوما، فاجتمع رؤساؤهم فى منزل سعر بن أبى سعر الحنفىّ وفيهم عبد الرحمن بن شريح، وكان عظيم الشرف، وسعيد بن منقذ، والأسود بن جراد [2] ، وقدامة بن مالك الجشمىّ، وقالوا: - «إنّ المختار يريد أن يخرج بنا وقد بايعناه، ولا ندري: أرسله إلينا محمد بن الحنفيّة أم لا؟ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفيّة، فلنخبره بما قدم علينا وما دعانا إليه، فإن رخّص لنا فى اتّباعه اتّبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه.» فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفيّة وإمامهم عبد الرحمن بن شريح. قال الأسود بن جراد: فقلنا لابن الحنفيّة: [178]- «إنّ لنا إليك حاجة.» قال: «أفسرّ هي، أم علانية؟» فقلنا: «لا، بل هي سرّ.»   [1] . تقفقف: اصطكّت أسنانه واضطرب حنكاه من البرد وغيره. [2] . جراد: كذا بالأصل. وفى مط: حرار. وما فى الطبري (8: 605) : جرّاد (بالتشديد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 قال: «فرويدا إذا.» فمكث قليلا، ثمّ تنحّى عن مجلسه، وانفرد. فدعانا، فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: كلام ابن شريح لابن الحنفيّة - «أما بعد، فإنكم أهل بيت خصّكم الله بالفضيلة، وشرّفكم بالنبوّة، وعظّم حقّكم على هذه الأمّة، فلا يجهل حقّكم إلّا مغبون الرأى، مبخوس [1] النصيب، وقد أصبتم بالحسين- رحمة الله عليه- فخصّتكم مصيبته وقد عمّت المسلمين. وقدم علينا المختار يزعم أنه قد جاءنا من تلقائكم، ودعانا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى الطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، فبايعناه على ذلك، ثمّ رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، فإن أمرتنا باتّباعه اتّبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه.» ثمّ تكلّمنا واحدا واحدا وهو يستمع، حتّى إذا فرغ من الاستماع وفرغنا من الكلام، حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبىّ محمّد- صلّى الله عليه-[179] ثمّ قال: جواب ابن الحنفيّة - «أما بعد، فإنكم ذكرتم ما خصّنا الله به من فضله، وإنّ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فله الحمد. أما ما ذكرتم من مصيبتنا   [1] . وفى الطبري (8: 606) : مخسوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 بالحسين، فإنّ ذلك كان فى الذكر الحكيم، وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع الله بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله قدرا مقدورا. وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا، فو الله، لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم.» قال: فخرجنا من عنده ونحن نقول: قد أذن لنا، ولو كره لقال: لا تفعلوا! قال: فجئنا وقوم من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنّا أعلمناه مخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا ممن كان على رأينا من إخواننا، وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشقّ ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذّل الشيعة عنه، وكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل مقدمنا [180] فلم يتهيّأ له ذلك. فلم يكن إلّا شهرا وزيادة شيء حتّى أقبل القوم على رواحلهم، ودخلوا على المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم: - «ما وراءكم؟ قد فتنتم وارتبتم؟» فقالوا له: - «قد أمرنا بنصرتك.» فقال: - «الله أكبر [1] ، أنا أبو إسحاق، اجمعوا لى الشيعة.» فجمع له منهم من كان قريبا، فقال: - «يا معشر الشيعة، إنّ نفرا منكم أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا   [1] . الله أكبر: كذا فى الأصل. وما فى مط: الله (بدون أكبر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى، وابن خير من مشى، حاشى النبىّ المصطفى، فسألوه عمّا قدمت له عليكم، فنبّأهم أنّى وزيره وظهيره ورسوله وخليله، وأمركم باتّباعى وطاعتي.» فقام عبد الرحمن بن شريح فقال: - «يا معشر الشيعة، إنّا كنّا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصّة، ولجميع إخواننا عامّة، فقدمنا على المهدىّ بن علىّ، فسألناه عن حربنا، وعمّا دعانا إليه المختار منها، فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته، فأقبلنا طيّبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشكّ والغلّ والريب، واستقامت لنا بصيرتنا [181] فى قتال عدوّنا، فليبلغ هذا شاهدكم غائبكم، واستعدّوا، وتأهّبوا.» ثمّ جلس وقمنا رجلا رجلا، فتكلّمنا بنحو من كلامه، فاستجمعت له الشيعة، وحدبت [1] عليه. ذكر رأى سديد أشير به على المختار وما كان من تأتّى المختار له حتّى تمّ له كما أحبّ قال عامر الشعبي: كنت أنا وأبى أوّل من أجاب المختار، فلمّا تهيّأ أمره ودنا خروجه. قال له أحمر بن شميط، ويزيد بن أنس، وعبد الله بن شدّاد: - «إنّ أشراف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع، ونحن نضعف عنهم، فلو جاء مع أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا بإذن الله، القوّة على عدوّنا، فإنّه فتى بئيس [2] وابن رجل شريف بعيد الصوت، وله عشيرة ذات عزّ وعدد.»   [1] . حدبت: كذا فى الأصل. وما فى مط: حدقت. حدب عليه: تعطّف وحنا. [2] . بئيس: الكلمة غير واضحة فى الأصل، فأثبتناها كما فى الطبري (8: 609) . وما فى مط: فتى عشيرته. وفى الكامل: رئيس (حواشي الطبري 8: 609) . والبئيس والبئس: الشجاع. من قولهم: بؤس يبؤس، أى: اشتدّ وشجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فقال لهم المختار: - «فالقوه وادعوه وأعلموه ما أمرنا من الطلب بدم الحسين.» المختار يرسل إلى ابن الأشتر ويدعوه قال الشعبي: فخرجوا إليه وأنا [فيهم وأبى وتكلّم] [1] [182] يزيد بن أنس، فقال له: - «إنّا قد أتيناك فى أمر نعرضه عليك وندعوك إليه، فإن قبلته كان خيرا لك، وإن تركته فقد أدّينا إليك النصيحة، ويجب أن تكون عندك مستورا.» فقال له إبراهيم بن الأشتر: - «مثلي لا تخاف غائلته وسعايته، ولا التقرّب إلى السلطان باغتياب الناس، وإنّما أولئك، الصغار الأخطار الدقاق همما.» فقالوا له: - «إنّا ندعوك إلى أمر قد أجمع رأى الملأ من الشيعة، كتاب الله، وسنّة نبيّه، والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء.» وتكلّم أحمر بن شميط فقال له: - «إنّى ناصح ولحظّك محبّ، وإنّ أباك قد هلك وهو سيد الناس، وفيك منه خلف إن رعيت حقّ الله وقد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك فى الناس، وأحييت أمرا قد مات. إنّما يكفى مثلك اليسير حتّى يبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها.» ثمّ أقبل عليه القوم يدعونه ويرغّبونه. فقال لهم إبراهيم:   [1] . ما بين المعقوفتين مطموس فى الأصل، فأثبتناه كما فى مط والطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 - «فإنّى أجيبكم إلى الطلب بدم الحسين وأهل بيته على أن تولّونى الأمر.» فقالوا: - «أنت لذلك أهل [ولكن] [1] ليس إلى ذلك سبيل. هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدىّ، [183] وهو الرسول والمأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته.» فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم، وانصرفنا من عنده إلى المختار وأخبرناه، فغبر ثلاثا. ثمّ إنّ المختار دعا بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه- قال الشعبي- وأنا وأبى فيهم، فسار بنا، ومضى أمامنا يقدّ بنا بيوت الكوفة قدّا لا ندري أين يريد، حتّى وقف بنا على باب إبراهيم بن الأشتر، فاستأذنّا عليه، فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد، فجلسنا عليها، وجلس المختار معه على فراشه. فقال المختار بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على محمد صلّى الله عليه: - «أما بعد، فإنّ هذا كتاب إليك من المهدىّ محمد بن علىّ أمير المؤمنين الرضا، وهو اليوم خير أهل الأرض، وابن خير أهل الأرض كلّها قبل اليوم بعد الأنبياء، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجّة عليك، وسيغنى الله المهدىّ محمّدا وأولياءه عنك.» قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إلىّ حين خرج من منزله، فلمّا قضى كلامه قال لى: - «ادفع الكتاب [184] إليه.» فدفعته إليه، فدعا بالمصباح، وفضّ خاتمه، ثمّ قرأ فإذا هو: - «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد المهدىّ إلى إبراهيم بن الأشتر، سلام عليك، فإنّى أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإنّى قد بعثت إليكم   [1] . ولكن: مطموسة فى الأصل ومأخوذة من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 بوزيرى وأمينى ونجيبي الذي ارتضيت لنفسي المختار، وقد أمرته لقتال عدوّى والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيرى كانت لك به فضيلة عندي، ولك بذلك أعنّة الخيل، وكلّ جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فى ما بين الكوفة وأقصى بلاد الشام، علىّ بالوفاء به، عهد الله وميثاقه، فإن فعلت نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكا لا تستقيله [1] . والسلام.» فلما قرأ إبراهيم الكتاب، قال: - «قد كتب إلىّ محمد بن الحنفيّة وكتبت إليه قبل اليوم، فما كان يكتب إلىّ إلّا باسمه واسم أبيه.» قال له المختار: - «إنّ ذلك زمان وهذا زمان.» قال إبراهيم: - «فمن يعلم أنّ هذا كتاب [185] محمّد بن الحنفيّة إلىّ؟» فقال له يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعة.» - «نشهد كلّنا أنّ هذا كتاب محمّد بن الحنفيّة.» إبراهيم بن الأشتر يبايع المختار قال الشعبي: فشهدوا كلّهم إلّا أنا وأبى. قال: فتأخّر عند ذلك إبراهيم عن صدر الفراش، وأجلس المختار عليه، وقال: - «أبسط يدك أبايعك.» فبسط المختار يده، فبايعه. قال الشعبي: ثمّ دعا لنا بفاكهة، فأصبنا منها، ودعا   [1] . لا تستقيله: كذا فى الأصل. وفى مط: تستقبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 لنا بشراب من عسل، فشربنا، ثمّ نهضنا وخرج معنا ابن الأشتر، فركب المختار، وركب معه حتّى دخل رحله. فلما رجع إبراهيم منصرفا أخذ بيدي، فقال لى: - «انصرف بنا يا شعبىّ.» قال: فانصرفت معه، ومضى بى حتّى دخل رحله، وقال: - «يا شعبىّ، إنّى قد حفظت أنّك لم تشهد أنت ولا أبوك. أفترى هؤلاء شهدوا على غير حقّ؟» قال، فقلت: - «قد شهدوا على ما رأيت، وهم سادة القرّاء، ومشيخة المصر، وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلّا حقّا.» قال: فو الله، لقد قلت هذه المقالة وأنا لهم متّهم [1] على شهادتهم، غير أنّى يعجبني الخروج وأنا أرى رأى القوم، وأحبّ تمام ذلك الأمر، فلم أطلعه على ما فى نفسي من ذلك. [186] فقال لى إبراهيم بن الأشتر: - «اكتب لى أسماءهم، فإنّى ليس كلّهم أعرف.» ودعا بصحيفة، ودواة، فكتب فيها: - «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعرى، وزيد بن أنس الأسدى، وأحمر بن شميط الأحمسىّ، ومالك بن عوف النهدىّ.. (حتّى أتى على أسماء القوم، ثمّ كتب:)   [1] . متّهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: منهم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 شهدوا أنّ محمد بن علىّ كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بمؤازرة المختار ومظاهرته على قتال المحلّين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا بهذه الشهادة شراحيل بن عبد الله، وهو أبو عامر الشعبىّ الفقيه، وعبد الرحمن بن عبد الله محمد النخعىّ، وعامر بن شراحيل الشعبي.» فقلت: - «ما تصنع بذلك رحمك الله.» فقال: - «دعه يكون.» قال: ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار. خروج المختار قال هشام، قال أبو مخنف: فكان إبراهيم يروح كلّ عشيّة عند المساء إلى المختار، فيمكث عنده حتّى تصوّب النجوم، ثمّ ينصرف. فمكثوا بذلك يدبّرون أمرهم، حتّى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول [187] سنة ستّ وستين، ووطّن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم. فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر، فأذّن، ثمّ استقدم، فصلّى بنا المغرب، ثمّ خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أو الذئب [1] ، وهو يريد المختار، فأقبلنا علينا السلاح.   [1] . أخوك أو الذئب: كذا فى الأصل والطبري (8: 613) . وما فى مط: أحول الذنب. (بإهمال الحرفين الأخيرين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ما كان من قبل عبد الله بن مطيع وقد كان أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع، فقال له: - «إنّ المختار خارج إحدى الليلتين.» فخرج إياس فى الشرطة، وكان إياس أشار على ابن مطيع، فقال له: - «قد بعثت ابني إلى الكناسة، فابعث فى كلّ جبّانة [1] عظيمة بالكوفة رجلا من أصحابك فى جماعة من أهل الطاعة ليهاب المريب الخروج عليك.» فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبّانة السبيع، وقال: - «اكفنى قومك، ولا أوتينّ من قبلك.» وبعث بجماعة يجرون مجراه إلى الجبابين [2] ووصّاهم أن يكفيه كلّ رجل قومه، وأن يحكم الوجه الذي وجّهه فيه، وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة، وقال: - «إذا سمعت صوت القوم توجّه نحوهم.» فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الإثنين، فنزلوا الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد [188] المغرب يريد إتيان المختار وقد بلغه أنّ الجبابين قد حشيت رجالا وأنّ الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر. فقال حميد بن مسلم- وكان صديقا لإبراهيم بن الأشتر يصير كلّ ليلة إلى المختار: خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتّى مررنا بدار عمرو بن حريث ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو مائة، علينا الدروع قد كفّرنا عليها بالأقبية ونحن متقلّدو السيوف ليس معنا سلاح غيره، فقلت لإبراهيم: - «خذ بنا فى الأزقّة وتجنّب السوق.»   [1] . الجبانة، ج جبابين: ما استوى من الأرض من ارتفاع، ولا شجر فيه. المقبرة. الصحراء. [2] . فى الأصل: الجبّانين (بالنونين) وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وأنا أرى أنه يأخذ على ناحية بجيلة [1] ويخرج إلى دار المختار، فلا يلقانا من نكترث له. وكان إبراهيم فتى حدثا شجاعا فكان لا يكره أن يلقاهم، فقال: - «والله، لآمرّنّ على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السيوف، فلأرعبنّ عدوّنا ولأرينّهم هوانهم علينا.» قال: فأخذنا على باب الفيل، ثمّ على دار عمرو بن حريث حتّى إذا جاوزناها لقينا إياس بن مضارب فى الشرطة مظهرين السلاح، فقال لنا: - «من أنتم؟» فقال: - «إبراهيم بن الأشتر.» فقال له ابن مضارب: - «ما هذا الجمع الذي معك، وما تريد؟ والله إنّ [189] أمرك لمريب، ولقد بلغني أنك تمرّ كلّ عشيّة هاهنا، وما أنا بتاركك حتّى آتى بك الأمير، فيرى فيك رأيه.» فقال إبراهيم: - «لا أبا [2] لغيرك، خلّ سبيلنا.» قال: - «كلّا والله، لا أفعل.» ومع إياس رجل من همدان يقال له: أبو قطن كان يصحب أمراء الشرطة، فهم يكرمونه ويؤثرونه- وكان صديقا لابن الأشتر، فقال ابن الأشتر: - «يا با قطن، أدن منّى.» ومع أبى قطن رمح طويل، فدنا أبو قطن منه ومعه الرمح وهو يرى أنّ ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب، ليخلّى سبيله. فقال إبراهيم،   [1] . بجيلة: كذا فى الأصل والطبري 8: 615. فى مط: نخيلة. [2] . لا أبا لغيرك: كذا فى الأصل والطبري 8: 615. وما فى مط: لا أنا لغيرك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وتناول الرمح من يده: - «إنّ رمحك هذا لطويل.» ثمّ حمل به إبراهيم بن الأشتر على ابن مضارب، فطعنه فى ثغرة نحره، فصرعه، وقال لرجل من قومه: - «انزل، فاحتزّ رأسه.» فنزل إليه، فاحتزّ رأسه، وتفرّق أصحابه، ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث ابن مطيع ابنه راشدا مكان أبيه على الشرط، وبعث مكان راشد بن إياس سويد بن عبد الرحمن المنقرىّ تلك الليلة، وأقبل إبراهيم الأشتر إلى المختار ليلة الثلاثاء، فدخل عليه، فقال له إبراهيم: - «إنّا اتّعدنا للخروج ليلة الخميس [190] وقد حدث أمر لا بدّ من الخروج الليلة.» قال المختار: - «وما هو؟» قال: - «عرض لى إياس بن مضارب فى الطريق ليحبسنى بزعمه، فقتلته وهذا رأسه مع أصحابى على الباب.» فقال المختار: - «فبشّرك الله بخير، فهذا طائر صالح، وهو أوّل الفتح، إن شاء الله.» ثمّ قال المختار: - «قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل النار فى الهرادىّ [1] ، ثمّ ارفعها للمسلمين، وقم يا عبد الله بن شدّاد، فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا قدامة بن مالك، فناد: يا لثارات الحسين.»   [1] . كذا فى مط والطبري (8: 616) : الهرادى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 ثمّ استدعى المختار درعه وسلاحه، فأتى به، فلبسه. فقال إبراهيم للمختار: - «إنّ هؤلاء الرؤوس الذين وضعهم ابن مطيع فى الجبابين، يمنعون إخواننا أن يأتونا ويضيّقون عليهم، فلو أنّى خرجت بمن معى حتّى آتى قومي فيأتينى كلّ من بايعنى منهم، ثمّ سرت بهم فى نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إلىّ من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس، فمن أتاك من الناس حبسته عندك إلى من معك، ولم تفرّقهم، فإن عوجلت وأتيت، كان معك من تمنع به، وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك فى الخيل والرجال.» قال له: - «فاعجل، [191] وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله، ولا تقاتل أحدا وأنت تستطيع ألّا تقاتل، واحفظ ما وصّيتك به، إلّا أن يبدأك أحد بقتال.» فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده فى الكتيبة التي أقبل فيها حتّى أتى قومه، فاجتمع إليه جلّ من كان بايعه وأجابه. ثمّ إنّه سار بهم فى سكك الكوفة طويلا وهو يتجنّب السكك التي فيها الأمراء حتّى انتهى إلى مسجد السّكون. فعجلت إليه خيل لزحر [1] بن قيس، فشدّ عليهم إبراهيم وأصحابه، فكشفوهم حتّى انتهوا إلى زحر بن قيس، فانصرف عنهم وركب بعضهم بعضا كلّما لقيهم زقاق دخل فيه منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون، ثمّ خرج إبراهيم يسير حتّى انتهى إلى جبّانة أثير، فوقف فيها طويلا ونادى أصحابه بشعارهم. فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم فى جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلّا وهم معه فى الجبّانة. فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه:   [1] . زحر بالحاء المهملة: كذا فى الأصل والطبري (8: 9652) وما فى مط: زجر، بالجيم المعجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 - «يا شرطة الله انزلوا إلى هؤلاء الفسّاق الذين خاضوا فى دماء أهل بيت رسول الله، صلّى الله عليه.» فنزلوا، ثمّ شدّ عليهم إبراهيم [192] فضربهم حتّى أخرجهم إلى الصحراء، وولّوا منهزمين يركب بعضهم بعضا وهم يتلاومون، فيقول قائل منهم: - «إنّ هذا لأمر [1] يراد، ما يلقون لنا جماعة إلّا هزمونا.» ولم يزل إبراهيم يهزمهم حتّى أدخلهم الكناسة. وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم: - «اتّبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلى من تدعو وما تطلب، وإلى ما يدعون وما يطلبون.» قال: - «لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتّى يؤمن الله بنا وحشته ويكون من أمره على علم، ويعرف هو أيضا ما كان من غنائنا [2] فيزداد هو وأصحابه قوّة وبصيرة إلى قواهم وبصائرهم، مع أنّى لا آمن أن يكون قد أتى.» فأقبل إبراهيم فى أصحابه، فلما أتى دار المختار وجد الأصوات عالية والقوم يقتتلون وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة، فعبّى له المختار والناس يقتتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجّارا وأصحابه أنّ إبراهيم قد جاءهم من ورائهم. فتفرّقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم وذهبوا فى الأزقّة والسكك، وحملت طائفة من أصحاب المختار على شبث بن ربعىّ وهو [193] يقاتل يزيد بن أنس، فخلّى لهم الطريق حتّى اجتمعوا جميعا. ثمّ اضطرّ شبث إلى أن ترك لهم السكة. وأقبل شبث حتّى أتى ابن مطيع، فقال له:   [1] . فى الأصل ومط: إنّ هذا الأمر، فأثبتنا العبارة كما فى الطبري (8: 618) . [2] . غنائنا (بالغين المعجمة.) كذا فى الأصل ومط وحواشي الطبري. وما فى الطبري: عنائنا، بالعين المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 - «ابعث إلى أمراء الجبابين [1] ليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثمّ انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم، وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإنّ أمر القوم قد قوى وقد ظهر المختار، واجتمع له أمره.» وبلغ ذلك المختار من مشورة شبث على ابن مطيع، فخرج فى جماعة من أصحابه حتّى نزل فى ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة فى السبخة، وخرج أبو عثمان النهدي، فنادى فى شاكر وهم مجتمعون فى دورهم يخافون أن يظهروا فى الميدان لقرب كعب بن أبى كعب منهم. وكان كعب هذا قد أخذ عليهم بأفواه السكك حين بلغه أنهم يخرجون، وسدّ طرقهم. فلما أتاهم أبو عثمان النهدي فى عصابة من أصحابه، نادى: - «يا لثارات الحسين، يا منصور أمت، يا أيها الحىّ المهتدون، ألا إنّ أمين [2] آل محمد قد خرج، فنزل دير هند، وبعثني داعيا ومبشّرا، فاخرجوا [194] إليه، رحمكم الله.» فخرج القوم من الدور يتداعون: - «يا لثارات الحسين.» ثمّ ضاربوا كعب بن أبى كعب حتّى خلّى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتّى نزلوا معه فى عسكره، وخرج عبد الله بن قراد فى جماعة من خثعم نحو المائتين، حتّى لحق بالمختار، ونزلوا معه فى عسكره وقد كان عرض لهم كعب بن أبى كعب، فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلّى عنهم ولم يقاتلهم، وخرجت شبام إليهم فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائة من جملة اثنى عشر ألفا كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر، فأصبح وقد فرغ من تعبئته. ثمّ إنّ ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين، فأمرهم أن ينضمّوا إلى المسجد، وقال   [1] . فى الأصل: الجبّانين. وما أثبتناه يوافق مط والطبري (8: 619) . [2] . أمين: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: أمير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 لراشد بن إياس بن مضارب: - «ناد فى الناس فليأتوا المسجد.» فنادى المنادى: - «ألا برئت الذمّة من رجل لم يحضر المسجد الليلة.» فتوافى الناس فى المسجد، فلما اجتمعوا، بعث ابن مطيع شبث بن ربعىّ فى نحو ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس فى أربعة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس فى أربعة آلاف من الشرط. فسرّح المختار إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس فى تسعمائة مقاتل، ويقال: [195] فى ستمائة فارس وستمائة راجل، وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة فى ثلاثمائة فارس وستمائة راجل نحو شبث، وقال لهما: - «امضيا حتّى تلقيا عدوكما، وإذا لقيتماهم، فانزلا فى الرجال وعجّلا القراع، وابدءاهم بالإقدام، وتستهدفا لهم فإنّهم أكثر منكم، ولا ترجعا إلىّ حتّى تظهرا، أو تقتلا.» فتوجّه إبراهيم بن الأشتر إلى راشد وقدّم المختار يزيد بن أنس فى تسعمائة أمامه، وتوجّه نعيم بن هبيرة قبل شبث. فقال سعر بن أبى سعر: لما انتهينا إلى شبث قاتلناه قتالا شديدا، فجعل نعيم بن هبيرة يضاربهم حتّى أشرقت الشمس، وضربناهم حتّى أدخلناهم البيوت، فسمعت شبث بن ربعىّ ينادى أصحابه: - «يا حماة السوء، بئس فرسان الحقائق أنتم، أمن عبيدكم تهربون؟» قال: فثابت إليه منهم جماعة، فشدّ علينا وقد تفرّقنا وهزمنا. فصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر بن أبى سعر فأسر، [وأسرت أنا] [1] وأسر خليد مولى   [1] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 623) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 حسّان، وأسر أبو سعيد الصيقل. قال: فسمعت أبا سعيد الصيقل هذا يقول: سمعت شبث بن ربعي يقول لخليد: - «من أنت؟» قال: - «خليد مولى حسّان.» فقال [196] له شبث: - «يا ابن المتكاء، تركت بيع الصحناء [1] بالكناسة، وكان جزاء من أعتقك أن تعدو [2] عليهم بسيفك تضرب رقابهم، اضربوا عنقه.» فقتل، ورأى سعرا الحنفىّ، فرفعه، فقال: - «أخو بنى حنيفة؟» فقال: - «نعم.» قال: - «ويحك! ما أردت إلى اتباع هؤلاء السبائية، قبّح الله رأيك؟ دعوا ذا.» فقلت فى نفسي: قتل المولى وترك العربىّ، إن علم أنى مولى قتلني، فلما عرضت عليه، قال: - «من أنت؟» فقلت: - «من بنى تيم الله.» قال: - «أعربيّ أنت أم مولى.» فقلت: - «لا، بل عربىّ، أنا من آل زياد بن أبى حفصة.» فقال: - «ذكرت الشرف المعروف، الحق بأهلك.» فأقبلت حتّى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لى بصيرة فى قتال القوم، فجئت إلى المختار، وقد وضعت فى نفسي أن آتى أصحابى حتّى أقتل معهم أو أظفر بظفرهم.   [1] . الصحناء: كذا فى الأصل. وفى مط: الصحنا. وما فى الطبري: الصحناة. والصحناء: الصحناة: إدام يتّخذ من السمك الصغار المملّح. [2] . فى الأصل: تعدوا (بالألف) . وفى مط تغدو (بالغين المعجمة) وما أثبتناه يطابق الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 قال: فأتيته وقد سبقني إليه سعر الحنفىّ وجاءه قتل نعيم وأقبلت إليه خيل شبث، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير. قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بما كان من أمرى، فقال لى: - «اسكت، فليس هذا بمكان الحديث.» وجاء شبث [197] حتّى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس، وكان ابن مطيع أنفذ ابن رويم فى ألفين من قبل سكّة لحّام، فوقفوا فى أفواه تلك السكك، وجعل المختار يزيد بن أنس على خيله، وخرج هو فى الرجّالة. قال: فحملت علينا خيل شبث حملتين فما يزول رجل منّا من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا: - «يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون، وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل عيونكم، وترفعون على جذوع النخل فى حبّ أهل بيت [نبيّكم] [1] وأنتم مقيمون فى بيوتكم وطاعة عدوّكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم، إذا والله لا يدعون منكم عينا تطرف، وليقتلنّكم صبرا، ولترونّ فى أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله، لا ينجيكم منهم إلّا الصدق والصبر والطعن الصائب فى أعينهم، والضرب الدراك على هامهم، فتيسّروا للشدة، وتهيّئوا للحملة، فإذا حرّكت رأسى مرتين فاحملوا.» فتهيّأنا، وجثونا على الركب، وانتظرنا أمره. وكان إبراهيم بن الأشتر حين توجه إلى راشد، لقيه فى مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم [198] لأصحابه: - «لا يهولنّكم كثرة هؤلاء، فو الله لربّ رجل خير من عشرة، ولربّ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله، وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ 2: 249 [2] .»   [1] . نبيّكم: سقطت من الأصل ومط. وأثبتناها كما يقتضيه السياق وكما فى الطبري 8: 624. [2] . س 2 البقرة: 250. ولا يخفى أن فى الآية: «كم من فئة ... » بدل: «ولربّ فئة ... » . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ثمّ قال: - «يا خزيمة بن نصر، سر إليهم فى الخيل.» ونزل هو يمشى فى الرجال، واقتتل الناس، فاشتدّ قتالهم، وبصر خزيمة [1] بن نصر العبسىّ براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه فقتله، ثمّ نادى: - «قتلت راشد وربّ الكعبة.» وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحو المختار، وبعث إليه من يبشّره بالفتح عليه. فلما جاءهم البشير، كبّروا، واشتدّت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرّح ابن مطيع حسّان بن قائد بن بكير العبسىّ فى جيش كثيف، فاعترض إبراهيم ليردّه بالسبخة، فقدّم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسّان بن قائد فى الخيل، ومشى إبراهيم نحوه فى الرجال، فانهزموا، وتخلّف حسّان بن قائد فى أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة، فلما رءاه عرفه، فقال له: - «يا حسّان، قد عرفتك، فالنجا.» فعثر لحسان فرسه، فوقع، فقال: - «لعا لك [2] [199] أبا عبد الله.» وابتدره الناس، فأحاطوا به، فضاربهم ساعة بسيفه. فناداه خزيمة: - «إنّك آمن يا با عبد الله، لا تقتل نفسك.» وجاء حتّى وقف عليه، ونهنه الناس عنه، ومرّ به إبراهيم. فقال خزيمة:   [1] . وبصر خزيمة بن نصر العبسىّ: فى الأصل ومط وفى حواشي الطبري: وبصر نصر بن خزيمة، والظاهر أنه سهو فى الكتابة. وما فى الطبري (8: 625) : وبصر خزيمة بن نصر العبسىّ، كما أثبتناه. [2] . لعا: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 626) : تعسا. لعا: صوت معناه الدعاء للعاثر بأن يرتفع من عثرته. يقال: لعا لفلان، وفى الدعاء عليه بالتعس يقولون: لا لعا له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 - «هذا ابن عمّى، وقد آمنته.» فقال إبراهيم: - «أحسنت.» وأمر خزيمة بفرسه حتّى أتى به فحمله عليه، وقال: - «الحق بأهلك.» وأقبل إبراهيم نحو المختار وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلما رءاه يزيد بن الحارث وهو على أفواه السكك التي تلى السبخة، أقبل نحوه ليصدّه عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال: - «أغن عنّا يزيد بن الحارث.» وصمد هو فى بقيّة أصحابه نحو شبث بن ربعي، فلما رءاه أصحاب شبث، أخذوا ينكصون وراءهم رويدا رويدا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه حمل عليهم، فانكشفوا حتّى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة بن نصر على يزيد بن الحارث بن رويم، فهزمه، وازدحم القوم على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار فى جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى أصحاب المختار إلى [200] أفواه السكك، رمته تلك المرامية بالنبل، فصدّوهم عن دخول الكوفة، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع وجاء قتل راشد بن إياس، فسقط فى يديه، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي لابن مطيع: - «أيها الرجل لا تسقط فى خلدك ولا تلق بيديك [1] ، أخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوّك، فإنّ الناس كثير عددهم وكلّهم معك إلّا هؤلاء الطائفة التي خرجت عليك، والله مخزيها وأنا أول منتدب، فاندب معى طائفة ومع غيرى طائفة.»   [1] . لا تسقط فى خلدك ولا تلق بيدك: كذا فى الأصل. وفى مط: ... فى جلدك ... وما فى الطبري (8: 627) : ولا يسقط فى خلدك ولا تلق بيدك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فخرج ابن مطيع، فخطب الناس وحضّهم، وقال فى خطبته: - «أيها الناس، قاتلوا عن حرمكم وعن مصركم، وامنعوا من فيئكم، والله لئن لم تفعلوا ليشاركنّكم فى فيئكم من لا حقّ له فيه، والله لقد بلغني أنّ فيهم من محرّريكم خمسمائة رجل عليهم أمير منهم، وإنما ذهاب عزّكم وسلطانكم حين يكثرون.» ثمّ نزل. وكان يزيد بن الحارث منعهم أن يدخلوا الكوفة، ومضى المختار من السبخة حتّى ظهر إلى الجبّانة، وقال: - «نعم مكان المقاتل هذا.» فقال له إبراهيم بن الأشتر: [201]- «قد هزمهم الله وفلّهم، وأدخل الرعب قلوبهم وتنزل هاهنا! سر بنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع، ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذى علّة، وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتّى نسير إلى عدوّنا.» ففعلوا. واستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدىّ، وقدّم إبراهيم الأشتر أمامه، وعبّى أصحابه على الحال التي كانوا عليها فى السبخة، وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج فى ألفى رجل، فخرج عليهم من السكّة المعروفة بالثوريّين، فبعث المختار إليهم أن: - «اطوه ولا تقم عليه.» فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، ومضى المختار فى أثر إبراهيم، وأمره أن يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى وخرج إليه من سكّة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذى الجوشن فى ألفين، فسرّح المختار إليه سعيد بن منقذ الهمدانىّ، فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 - «اطوه وامض على وجهك.» فمضى حتّى انتهى إلى سكّة شبث وإذا نوفل بن مساحق [202] فى نحو خمسة آلاف رجل وقد أمر ابن مطيع، فنودي فى الناس أن: - «الحقوا بابن مساحق.» واستخلف شبث بن ربعىّ على القصر، وخرج ابن مطيع حتّى وقف بالكناسة. فقال حصيرة بن عبد الله: إنّى لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل فى أصحابه، حتّى إذا دنا منهم، قال لهم: - «انزلوا.» فنزلوا. فقال: - «اقرنوا خيولكم بعضها إلى البعض، ثمّ امشوا إليهم مصلتين، ولا يهولنّكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعىّ، وآل عتيبة بن النهاس، وآل الأشعث، وآل فلان وفلان ... » حتّى [سمّى] [1] بيوتا من بيوتات أهل الكوفة، وقال: - «إنّ هؤلاء لو وجد أوّلهم حرّ السيف لرأيتم قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب.» قال حصيرة: فإنّى لأنظر إليه وإلى أصحابه حتّى قرنوا خيولهم وحتّى أخذ بن الأشتر أسفل قبائه، فأدخله فى منطقة له حمراء من حواشي البرد وقد شدّ بها على القباء وقد كفّر بالقباء على الدرع، ثمّ قال لأصحابه: - «شدّوا عليهم فدى لكم عمّى وخالي.» قال: فو الله ما لبّثهم [203] أن هزمهم، فركب بعضهم بعضا على فم السكّة، وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مسحاق، فأخذ بلجام دابّته ورفع عليه   [1] . سمّى: كذا فى الطبري (8: 629) . وفى الأصل: سمّوا. وما فى مط: سمّا. والصحيح ما فى الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 السيف، فقال له ابن مساحق: - «يا ابن الأشتر، أنشدك الله، أتطلبنى بثأر، هل بيني وبينك من حنة [1] ؟» فخلّى سبيله وقال: - «اذكرها» . فكان يذكرها له. وأقبلوا حتّى دخلوا الكناسة فى آثار القوم حتّى دخلوا المسجد وحصروا ابن مطيع ثلاثا. وجاء المختار حتّى نزل جانب السوق، وولّى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، فلما اشتدّ الحصار على بن مطيع كلّمه الأشراف، وكان يفرّق فيهم الدقيق من القصر. فقام إليه شبث بن ربعىّ فقال له: - «أصلحك الله، أنظر لنفسك ومن معك، فو الله ما عندنا غناء عنك ولا عن أنفسهم.» قال ابن مطيع: - «هاتوا، أشيروا علىّ برأيكم.» قال شبث: - «الرأى أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أمانا وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك.» قال ابن مطيع: [204]- «والله إنّى لأكره أن آخذ منه أمانا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كلّه وبالبصرة.»   [1] . الحنة: الحقد والغضب. من قولهم: وحن يوحن وحنا وحنة. وفى الطبري (8: 630) : إحنة. والإحنة: الحقد والضغن. من قولهم: أحن عليه أحنا وأحنا: حقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 قال: - «فتخرج ولا يشعر بك أحد حتّى تنزل منزلا بالكوفة عند من تثق به، فلا يعلم بمكانك حتّى تخرج فتلحق بصاحبك.» فقال لأسماء بن خارجة ولغيره من أشراف الناس: - «ما ترون فى ما أشار به علىّ شبث؟» فقالوا: - «ما نرى الرأى إلّا ما أشار به عليك.» قال: - «فرويدا حتّى أمسى.» فلما أمسى جمعهم، وحمد الله، وأثنى عليهم [1] وردّوا عليه مثله، وقال: - «جزاكم الله خيرا، أخذ امرؤ حيث أحبّ.» ثمّ خلّى عن القصر، وخرج من نحو درب الروميّين حتّى أتى دار أبى موسى، ففتح أصحابه الباب ونادوا: - «يا بن الأشتر، آمنون نحن؟» قال: - «أنتم آمنون.» فخرجوا، وبايعوا المختار، وجاء المختار حتّى دخل القصر، فبات به وأصبح، فخطب الناس وحضّ على البيعة، وقال: - «أيها الناس، لا والذي جعل السماء سقفا محفوظا، والأرض فجاجا سبلا [2] ، ما بايعتم بعد بيعة علىّ بن أبى طالب وآل علىّ أهدى منها.» ثمّ نزل، [205] فدخل ودخل الناس وأشرافهم، فبسط يده، وابتدره الناس   [1] . فى مط: عليه، بدل: عليهم، وهو خطأ. [2] . س 21 الأنبياء: 32- 33 (بالاقتباس والتلخيص) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 فبايعوه، وجعل يقول: - «تبايعون على كتاب الله، وسنّة نبيّه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلّين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، ومسالمة من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم، ولا نستقيلكم.» فإذا قال [الرجل] [1] : نعم، بايعه. وأقبل المختار يمنّى الناس، ويستجرّ مودّتهم ومودّة الأشراف، ويحسن السيرة جهده. وجاء ابن كامل، وكان على شرطته، فقال: - «إنّ ابن مطيع فى دار أبى موسى، وقد عرفت ذلك بالصحّة.» فلم يجبه بشيء، فأعادها عليه، فلم يجبه، فظنّ ابن كامل أنّ ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقا. فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف [000، 100] درهم، وقال له: - «تجهّز بهذه واخرج، فإنّى قد شعرت بمكانك، وظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلّا أنه ليس فى يدك ما يقوّيك على الخروج.» وأصاب المختار فى بيت مال الكوفة تسعة آلاف ألف [000، 000، 9] فأعطى أصحابه الذين قاتل [206] بهم حين حصر ابن مطيع فى القصر، وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل، خمسمائة كل رجل، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، وأقاموا معه تلك الأيّام الثلاثة مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومنّاهم، وأحسن السيرة وأدنى الأشراف. المختار يولّى الولايات ويعقد الألوية ثمّ ولّى الولايات، وعقد الألوية، فأوّل رجل عقد له المختار راية عبد الله بن   [1] . ما بين [] ليس موجودا فى الأصل، ولا فى مط، وزدناه من الطبري 8: 633. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 الحارث أخو الأشتر، عقد له على آذربيجان، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان معه ألفا فارس ورزقه ألف درهم فى كلّ شهر، وأمره بقتال الأكراد وإقامة الطرق، وكتب إلى عمّاله على الجبال أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بحلوان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى الموصل وبها محمد بن الأشعث بن قيس من قبل الزبير، فتنحى له عن الموصل، ثمّ شخص إلى المختار مع أشراف قومه وغيرهم، فبايع له ودخل فى ما دخل فيه أهل بلده. ثمّ وثب المختار بمن كان معه بالكوفة من قتلة الحسين، عليه السلام [207] والمتابعين على قتله، فقتل من قدر عليه وهرب بعضهم فلم يقدر عليه. وكان سبب ذلك أنّ مروان بن الحكم لما استوسقت له الشام بالطاعة، بعث عبيد الله بن زياد إلى العراق، وجعل له ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا ظفر بأهلها ثلاثا. وقد كنّا ذكرنا من أمر التوّابين وابن زياد ما كان بعين الوردة، ثمّ بعد ذلك مرّ بأرض الجزيرة وبها قيس عيلان [1] على طاعة ابن الزبير، فلم يزل عبيد الله مشتغلا بهم عن العراق نحوا من سنة، ثمّ أقبل إلى الموصل، وكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار: - «أما بعد، فإنّى أخبرك أيها الأمير، أنّ عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصل، ووجّه قبلي خيله ورجاله، وأنّى قد انحزت إلى تكريت حتّى يأتينى رأيك وأمرك، والسلام.» فكتب إليه: - «قد أصبت، فلا تبرحنّ مكانك حتّى يأتيك أمرى.»   [1] . كذا فى الأصل والطبري (8: 643) : قيس عيلان، بالعين المهملة. وفى مط: قيس غيلان، بالعين المعجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 ثمّ بعث المختار إلى يزيد بن أنس، فدعاه وقال: - «يا يزيد، إنّ العالم ليس كالجاهل، وإنّى أخبرك خبر من [208] لم يكذب ولم يكذب [1] ، أنا صاحب الخيل التي تجرّ جعابها وتضفر أذنابها حتّى توردها منابت الزيتون [2] ، اخرج إلى الموصل حتّى تنزل أدانيها، فإنّى ممدّك بالرجال.» فقال يزيد بن أنس: - «سرّح معى ثلاثة آلاف من الفرسان أنتخبهم وخلّنى والفرج الذي توجّهنى له، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك.» وقال المختار: - «فاخرج وانتخب على اسم الله من أحببت.» فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، وخرج معه المختار، وانصرف وقال له: - «إذا لقيت عدوّك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخّرها، ولكن خبرك [3] عندي كلّ يوم وأنا ممدّك وإن لم تستمدّ، لأنه أشدّ لعضدك، وأعزّ لجندك، وأرعب لعدوّك.» فقال له يزيد بن أنس: - «لا تمدّنى إلّا بدعائك، فكفى به مددا.» فقال الناس: - «صحبك الله، وأدّاك وأيّدك.» وودّعوه. فقال لهم: - «سلوا الله لى الشهادة. وأيم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر، لا تفوتني الشهادة   [1] . لم يكذب: كذا فى الأصل. وما فى مط: غير مضبوط. وفى الطبري لم يكذّب. أكذبه: حمله على الكذب. كذّبه: نسبه إلى الكذب كما هو معلوم. [2] . وزاد فى الطبري (8: 643) : غائرة عيونها، لاحقة بطونها. [3] . وليكن خبرك: كذا فى الأصل والطبري 8: 644. وفى مط: ولكرخيل!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 إن شاء الله.» وكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس: - «أما بعد، فخلّ بين يزيد [209] وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك.» وخرج يزيد بن أنس، فبات بالمدائن، ثمّ اعترض أرض جوخى [1] ، حتّى خرج بهم فى الراذانات، وحتّى قطع بهم إلى الموصل ونواحيها، وبلغ مكانه ومنزله عبيد الله بن زياد، وسأل عن عدّتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس. فقال عبيد الله: - «فأنا أبعث إلى كلّ ألف ألفين.» وبعث إليه ربيعة بن المخارق وعبد الله بن حملة كلّ واحد منهما فى ثلاثة آلاف، ثمّ قال: - «أيّكما سبق فهو أمير على صاحبه.» فسبق ربيعة بن المخارق، ونزل بيزيد بن أنس وهو بباتلىّ [2] ، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى، فطاف فى أصحابه على حمار معه الرجال يمسكونه، فجعل يطوف على الأرباع، ويقف على ربع ربع، ويقول: - «يا شرطة الله، اصبروا، وصابروا عدوّكم تظفروا، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً 4: 76 [3] . إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدى، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العدوىّ [4] ، فإن هلك فأميركم سعر بن أبى سعر   [1] . جوخى: جوخا: نهر على كورة واسعة فى سواد بغداد، بالجانب الشرقي منه الراذان [الراذانان- يا] وهو بين خانقين وخوزستان. صرفت الدجلة عن هذه الكورة حتّى خربت (مع) . [2] . بباتلى: كذا فى الأصل. وفى مط: ببانكى (بإهمال الحرف الأول) . وفى الطبري 8: 645: ساب تلى (بإهمال الجزء الأول) ومصحّفات فى الحاشية. [3] . س 4 النساء: 76. [4] . العدوىّ: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: العذرىّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الحنفىّ.» [210] قال: ونحن نرى فى وجهه أنّ الموت قد نزل به. ثمّ عبّى ميمنة وميسرة، وجعل ورقاء بن عازب على الخيل، ونزل هو بين الرجال على السرير، ثمّ قال: - «ابرزوا لهم بالعراء، وقدّمونى فى الرجال، ثمّ إن شئتم فقاتلوا عن أميركم [1] ، وإن شئتم ففرّوا عنه.» قال: فأخرجناه وذلك يوم عرفة سنة ستّ وستين. فأخذنا نمسك أحيانا ظهره، فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا. فيأمر بأمره، ثمّ لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع، فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، فحملت ميمنتنا على ميسرتهم، وميسرتنا على ميمنتهم، وحمل ورقاء بن عازب ومعه الخيل من ميسرتنا، فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتّى هزمناهم وحوينا عسكرهم، وانتهينا إلى ربيعة بن المخارق صاحبهم وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادى: - «يا أولياء الحقّ، يا أهل السمع والطاعة، إلىّ إلىّ، أنا ابن المخارق.» فحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدى، وعبد الله بن ضمرة العدوى، فقتلاه. قال: وأتى يزيد بن أنس بثلاثمائة أسير وهو فى السوق، فأخذ يومى بيده [211] أن: - «اضربوا أعناقهم.» فقتلوا من عند آخرهم، وما أمسى يزيد بن أنس حتّى مات، وكان أوصى بأنّ الأمير بعده ورقاء بن عازب، فصلّى عليه ودفنه. ذكر رأى رءاه ورقاء بن عازب ثمّ إنّ ورقاء بن عازب دعا رؤوس الأرباع وفرسان أصحابه، فقال لهم:   [1] . عن أميركم: كذا فى مط. وما فى الأصل: عن أمركم. فأثبتنا الكلمة كما فى مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 - «يا هؤلاء، ماذا ترون فى ما أخبرتكم، إنّما أنا رجل منكم.» وكان أعلمهم أنّ عبيد الله أقبل فى ثمانين ألفا من أهل الشام. فقال ورقاء: - «لست بأفضلكم رأيا، فأشيروا علىّ. هذا الرجل قد جاءكم فى جدّه وحدّه، ولا أرى لنا بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرّقت عنّا طائفة منّا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم وقبل أن نبلغهم، فيعلموا إنما ردّنا عنهم هلاك صاحبنا فلا يزالوا هائبين لنا ولقتلنا أميرهم، ولأنّا إنما نعتلّ لانصرافنا بموت صاحبنا، فإنّا إن لقيناهم اليوم لم ينفعنا هزيمتنا إيّاهم قبل اليوم إذا هزمونا.» فقالوا: - «فإنّك والله نعم [212] ما رأيت، انصرف بنا، رحمك الله.» فبلغ منصرفهم المختار وأهل الكوفة، ولم يعلموا كيف كان الأمر. فكان رأى ورقاء الأول صوابا وتركه إنفاذ الكتب بالبشارة وتعريفه صاحبه الصورة خطأ فأرجف الناس أن يزيد بن أنس هلك، وأنّ الناس انهزموا وما أشبه ذلك، فقلق المختار، وبعث المختار عينا له، فعاد إليه بالخبر [1] . فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر، فعقد عليه على سبعة آلاف رجل وقال له: - «سر حتّى إذا لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثمّ سر بهم حتّى تلقى عدوّك فتناجزهم.» فخرج إبراهيم وعسكر بحمّام أعين.   [1] . والعبارة فى الطبري (8: 649) : فبعث إلى المختار عامله على المدائن عينا له من أنباط السواد، فأخبره الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 ذكر اضطراب الناس على المختار وطمعهم فيه بعد خروج إبراهيم الأشتر لما خرج إبراهيم كثر إرجاف الناس بالمختار، وقالوا: - «تأمّر علينا بغير رضى منّا ولا ولاية من محمّد بن علىّ، وقد أدنى موالينا، فحملهم على رقابنا، وغصبنا عبيدنا، فحرب [1] بذلك أيتامنا وأراملنا.» [2] واتّعدوا منزل شبث بن ربعىّ. [213] وكان شبث إسلاميّا جاهليّا. وقالوا: - «هو شيخنا.» فأتوه، فذاكروه هذا الحديث. ولم يكن فى جميع ما عمله المختار شيء [3] أعظم على الناس من أن جعل للموالي نصيبا من الفيء. فقال لهم شبث: - «دعوني حتّى ألقاه.» فلقيه، فلم يدع شيئا مما أنكره أصحابه إلّا ذاكره به، فكان لا يذكر لهم خصلة إلّا قال المختار له: - «أرضيهم، وآتى كلّ شيء أحبّوا.» حتّى ذكر الموالي والمماليك، فقال: - «عمدت إلى موالينا وهم فيء آفاءهم الله علينا وهذه البلاد كلّها، فأعتقنا رقابهم نأمل الأجر من الله والشكر منهم، فلم ترض بذلك، حتّى جعلتهم شركاء فى فيئنا.»   [1] . حرب الرجل (يحرب حربا) : سلبه ماله وتركه بلا شيء. [2] . والعبارة فى الطبري (8: 649) :.. فحملهم على الدوابّ، وأعطاهم وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا. [3] . فى الأصل ومط: «شيئا» (بالنصب) وهو خطأكما لا يخفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 فقال المختار: - «إنّا سنتركهم لمواليهم، فهل تجعلون لى على أنفسهم- إن أنا فعلت ذلك- عهد الله وميثاقه وما أطمئنّ إليه من الأيمان، أن يقاتلوا معى بنى أمية وابن الزبير؟» فقال شبث: - «ما أدرى، حتّى أخرج إلى أصحابى فأذاكرهم ذلك.» [1] فخرج ولم يرجع، وأجمع رأى أشراف الكوفة على قتال المختار. فركب شبث وشمر بن ذى الجوشن ومحمّد بن الأشعث وغيرهم حتّى دخلوا على كعب بن أبى كعب الخثعمىّ، وذكروا [214] ما اجتمع عليه رأيهم من قتال المختار، وقالوا: - «تأمّر علينا بغير رضى منّا، وزعم أنّ ابن الحنفيّة بعثه إلينا، وقد علمنا أنّه لم يبعثه، وفعل وصنع، وأخذ عبيدنا وموالينا، وأطعمهم فيئنا.» وسألوه أن يجيبهم إلى ما سألوه من قتاله معهم. فرحّب بهم كعب وأجابهم إلى ما دعوه إليه. ثمّ دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى ذلك. ذكر رأى صحيح لعبد الرحمن فقال لهم: - «يا هؤلاء، إن أبيتم إلّا أن تخرجوا لم أخذلكم، وإن أطعتم لم تخرجوا.» فقالوا: - «ولم؟» فقال: - «لأنّى أخاف أن تتفرّقوا، وتختلفوا، وتتخاذلوا، ومع الرجل والله شجعاؤكم [2]   [1] . أنظر الطبري (8: 650- 651) . [2] . شجاؤكم: كذا فى الأصل. شجعاؤكم شجعانكم. وفى مط وهامش الأصل: شجعانكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وفرسانكم من أنفسكم. أليس معه فلان وفلان؟ ثمّ معه عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة وهؤلاء أشدّ حنقا عليكم من عدوّكم، فهو يقاتلكم بشجاعة العرب وعداوة العجم، وإن انتظر تموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشام، أو مجيء أهل البصرة [215] فتكونوا قد كفيتموه بغيركم ولم تجعلوا بأسكم بينكم.» فقالوا: - «ننشدك الله أن تخالفنا وتفسد علينا.» قال: - «فأنا رجل منكم فإذا شئتم فاخرجوا.» فلقى بعضهم بعضا، وقالوا: - «ننتظر حتّى يذهب عنه ابن الأشتر.» فأمهلوا حتّى إذا بلغ إبراهيم ساباط خرجوا إلى جبابينهم بجماعة الرؤساء، فلما بلغ المختار اجتماع الناس عليه مثل شمر بن ذى الجوشن، وشبث بن ربعىّ، وحسان بن قائد، وربيعة بن ثروان، وحجّار بن أبجر، ورؤيم بن الحارث، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وغيرهم ممن ذكرناهم قبل، ومن لم نذكرهم، بعث رسولا يركض إلى إبراهيم الأشتر وهو بساباط أن: - «لا تضع كتابي من يدك حتّى تقبل بمن معك.» وبعث إليهم فى ذلك اليوم: - «أخبرونى ما تريدون فإنّى صانع كلّ ما أحببتم.» قالوا: - «فإنّا نريد أن تعتزلنا، فإنّك زعمت أنّ ابن الحنفيّة بعثك ولم يبعثك.» فأرسل إليهم المختار أن: - «ابعثوا إليه من قبلكم وفدا، وأبعث من قبلي وفدا، ثمّ انظروا فى ذلك حتّى تتبيّنوه.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وهو يريد أن يريّثهم [1] بهذه المقالة [216] ليقدم عليه إبراهيم الأشتر وقد أمر أصحابه فكفّوا أيديهم، وأخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شيء يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلّا القليل يجيئهم إذا غفلوا عنه. ثمّ إنّ شمر بن ذى الجوشن أتى أهل اليمن، فقال لهم: - «إن اجتمعتم فى مكان نجعل فيه مجنّبتين ونقاتل من وجه واحد، فأنا صاحبكم، وإلّا فلا، والله لا أقاتل فى سكة واحدة ضيّقة ونقاتل من غير وجه.» وانصرف إلى جماعة قومه فى جبّانة بنى سلول [2] ، ولما بلغ المختار ذلك، جعل يواصل مكاتبة إبراهيم، فلما بلغ إبراهيم بن الأشتر خبره، نادى من يومه فى الناس، وسار بقيّة عشيّته تلك، ثمّ نزل سويعة، فتعشّى هو وأصحابه، وأراحوا دوابّهم شيئا كلا شيء، ثمّ سار بقيّة ليلته كلّها وصلّى الغداة بسورا، ثمّ سار من يومه وصلّى صلاة العصر على باب الجسر من الغد، ثمّ سار حتّى بات ليلته فى المسجد. ولما كان اليوم الثالث من مخرجهم على المختار خرج المختار إلى المنبر فصعده وكان شبث بن ربعىّ بعث إليه ابنه [217] يقول له: - «إنما نحن عشيرتك وكفّ يمينك، والله لا نقاتلك أبدا فثق بذلك منّا، وكان كارها لقتاله، ولما حضرت الصلاة واجتمع أهل اليمن كره كلّ رأس أن يتقدّمه صاحبه.» فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: - «هذا أول الخلاف، قدّموا الرضا فيكم، فإنّ فيكم سيّد قرّاء أهل المصر، فليصلّ بكم رفاعة بن شدّاد.» ففعلوا، فلم يزل يصلّى بهم حتّى كان يوم الوقعة. ثمّ إنّ المختار لمّا نزل، عبّى أصحابه، فقال إبراهيم بن الأشتر:   [1] . يريّثهم: كذا فى الأصل والطبري 8: 653. وما فى مط: يرتبهم. [2] . فى مط: بنى سلوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 - «إلى أىّ الفريقين أحبّ إليك أن نسير.» فنظر المختار وكان ذا رأى، فكره أن يسير إلى قومه، فلا يبالغ فى قتالهم، فقال: - «سر إلى مضر بالكناسة، وكان عليهم شبث بن ربعىّ، وأنا أسير إلى أهل اليمن.» ففعلا. ثمّ إنّ القوم اقتتلوا كأشدّ قتال اقتتله قوم [1] ، وانكشف من أصحاب المختار أحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وأصحابهما، فلم يرع المختار إلّا وقد جاءه الفلّ قد أقبل فقال: - «ما وراءكم؟» فقالوا: - «هزمنا.» قال: - «فما فعل أحمر بن شميط؟» قالوا: - «تركناه قد نزل عند مسجد القصّاص وقد نزل معه ناس [218] من أصحابه.» وقال أصحاب ابن كامل: - «ما ندري ما فعل.» فصاح بهم أن انصرفوا، ثمّ أقبل معهم قطعة، ثمّ بعث عبد الله بن قراد الخثعمي وكان على أربعمائة من أصحابه، فقال: - «سر فى أصحابك إلى ابن كامل، فإن يكن هلك، فأنت مكانه، وإن تجده حيّا، فسر فى مائة من أصحابك كلّهم فارس، وادفع إليهم بقيّة أصحابك، ومرهم بالحدّ معه والمناصحة، ثمّ امض فى المائة حتّى تأتى جبّانة السبيع.» فمضى، فوجد عبد الله بن كامل واقفا عند حمّام عمرو بن حريث معه ناس من   [1] . فى مط: اقّتت له قوم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 أصحابه قد صبروا وهو يقاتل القوم، فدفع إليه ثلاثمائة من أصحابه، ثمّ مضى حتّى نزل جبّانة السبيع، وأخذ فى السكك حتّى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده، وقال لأصحابه: - «ما ترون؟» وهم مائة خيار. قالوا: - «أمرنا لأمرك تبع.» فقال: - «والله إنّى لأحبّ أن يظهر المختار، وو الله إنّى لكاره أن يهلك أشراف قومي وعشيرتي اليوم، وو الله لأن أموت أحبّ إلىّ من أن آتيهم من ورائهم فيهلكون على يدي.» ثمّ وقف، وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي- وكان من أشدّ [219] الناس بأسا- فى مائتي رجل، وبعث عبد الرحمن بن شريك فى مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت هؤلاء مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروا عليه، فاقتتلوا عند ذلك كأشدّ القتال. ومضى الأشتر حتّى لقى شبث بن ربعي وخلقا من مضر كانوا معه، فقال لهم إبراهيم: - «ويحكم انصرفوا، فو الله ما أحبّ أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم.» فأبوا، فقاتلوه، فهزمهم، وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار بالبشرى إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل والناس على أحوالهم كلّ سكّة منهم قد أغنت [1] ما يليها، واجتمعت شبام وقد رأّسوا عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا أن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض:   [1] . فى مط: قد اعتنت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 - «أما والله، لو جعلتم حدّكم هذا على من خالفكم من غيركم، لكان أصوب. فسيروا إلى مضر وإلى ربيعة فقاتلوهم.» وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلّم، فقالوا: - «ما رأيك؟» فقال: - «قال الله عزّ وجلّ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا [220] فِيكُمْ غِلْظَةً 9: 123 [1] . قوموا!» فقاموا، فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة، ثمّ قال: - «اجلسوا.» فجلسوا. ثمّ مشى بهم الثانية أنفس من ذلك شيئا، ثمّ الثالثة كذلك، ثمّ قعد، فقالوا له: - «يا با القلوص، والله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع؟» قال: - «إنّ المجرّب ليس كمن لم يجرّب، إنّى أردت أن ترجع إليكم أنفسكم، وكرهت أن أحملكم على القتال وأنتم على حال دهش.» قالوا: - «أنت أبصر بما صنعت.» فلما خرجوا إلى جبّانة السبيع استقبلهم قوم، فهزموهم وقتلوا رئيسهم ودخلوا الجبّانة فى آثارهم يتنادون: - «يا لثارات الحسين.» فأجابهم ابن شميط: - «يا لثارات الحسين.» وقاتل يومئذ رفاعة بن شدّاد حتّى قتل، وقتل خلق من الأشراف واستخرج من دور الوادعيّين خمسمائة أسير. فأتى بهم المختار مكتّفين، فأخذ رجل من   [1] . س 9 التوبة: 123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 بنى نهد من رؤساء أصحاب المختار يقال له عبد الله بن شريك لا يخلو بعربىّ إلّا خلّى سبيله. فرفع ذلك إلى المختار، فقال المختار: - «اعرضوهم علىّ، فانظروا كلّ من شهد منهم قتل الحسين فأعلمونى به.» فأخذوا لا يمرّ عليه رجل شهد قتل الحسين إلّا قالوا له: - «هذا ممن شهد [221] قتله.» فقدّمه، فيضرب عنقه، حتّى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وأربعين قتيلا، وأخذ أصحابه كلّما رأوا رجلا قد كانوا تأذّوا به، وكان يماريهم، أو يضرّبهم، خلوا به فقتلوه، حتّى قتل ناس كثير منهم، وما يشعر بهم المختار. ثمّ أخبر به المختار من بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم وأخذ عليهم المواثيق ألّا يجامعوا عليه عدوه ولا يبغوه ولا لأصحابه غائلة، إلّا سراقة بن مرداس البارقىّ، فإنّه أمر به أن يساق معه إلى المسجد، ونادى منادى المختار من أغلق عليه بابه فهو آمن إلّا رجلا شرك فى دم آل محمّد. وكان يزيد بن الحارث بن رؤيم وحجّار بن أبجر بعثا لهما رسلا، فقالا لهم: - «كونوا قريبا من أهل اليمن، فإن ظهروا، فلتكن علامتكم كذا وإن ظهر عليكم فلتكن علامتكم كذا.» [1] فلما هزم أهل اليمن أتتهم رسلهم بعلامتهم، فقاما جميعا فقالا لقومهما: - «انصرفوا إلى بيوتكم.» فانصرفوا. فأما عمرو بن الحجاج الزبيدي، فإنّه كان ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته، ثمّ ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتّى الساعة، ولا   [1] . والعبارة فى الطبري (8: 661- 660) : فإن رأيتموهم قد ظهروا، فأيّكم سبق إلينا فليقل: «صرفان» وإن كانوا هزموا، فليقل: «جمزان» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 يدرى [222] أرض لحسته [1] ، أم سماء حصبته! مقتل شمر بن ذى الجوشن وأما شمر بن ذى الجوشن، فإنّ المختار أنفذ فى طلبه غلاما يدعى رزينا. فحدّث مسلم بن عبد الله الكنانىّ [2] ، قال: تبعنا رزين [3] غلام المختار فلحقنا، وقد خرجنا من الكوفة على خيولنا مضمّرة، فأقبل يتقطّر به فرسه. فلما دنا منه قال لنا شمر: - «اركضوا وتباعدوا، فلعلّ العبد يطمع فىّ.» قال: فركضنا وأمعنّا، وطمع العبد فى شمر، وأخذ شمر يستطرد له، حتّى إذا انقطع عن أصحابه حمل عليه شمر، فدقّ ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال: - «بؤسا لرزين، أما لو يستشيرنى ما أمرته أن يخرج لأبى السابغة.» ومضى شمر حتّى نزل ساتيدما، فنزل إلى جانب قرية يقال لها: الكلبانية [4] على شاطئ نهر إلى جانب تلّ، ثمّ أرسل إلى تلك القرية، فأخذ منها علجا فضربه، ثمّ قال: - «النجا بكتابي إلى مصعب بن الزبير.» [وكتب عنوانه: للأمير مصعب بن الزبير] [5] من شمر بن ذى الجوشن. فمضى العلج حتّى دخل قرية فيها بيوت وفيها أبو عمره، وكان المختار بعثه فى تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فى ما بينه وبين أهل البصرة، فلقى ذلك   [1] . لحسته: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: بخسته. [2] . الكنانى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: الضبابي. [3] . رزين: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 661) : رزبى. [4] . الكلبانية: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 662) : الكلتانية. [5] . ما بين [] تكملة من الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 العلج علجا من تلك القرية، [223] فأقبل يشكو إليه ما لقى من شمر، فسألوا العلج عن مكانه، فأخبرهم به، فإذا ليس بينهم إلّا ثلاثة فراسخ فساروا إليه. قال: وكنّا قلنا لشمر تلك الليلة: - «لو أنّك ارتحلت بنا من هذا المكان، فإنّا نتخوّف به.» فقال: - «أكلّ هذا فرقا من الكذّاب، والله لا أتحوّل منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعبا.» فو الله ما شعرنا إلّا وقد أشرفوا علينا من التلّ، فكبّروا، ثمّ أحاطوا بنا وخرجنا نشتدّ على أرجلنا وتركنا خيلنا، وأعجل شمر عن لبس سلاحه. قال: فأمر على شمر وإنّه لمؤتزر ببرد يقاتلهم، وكان أبرص، فكأنّى أنظر إلى بياض ما بين كشحيه وهو يطاعن الأقوام، فما هو إلّا أن أمعنت ساعة إذ سمعت التكبير وقائلا يقول: - «قتل الله الخبيث.» سراقة حلف أنه رأى الملائكة فأما سراقة بن مرادس البارقىّ، فإنّه حلف واجتهد فى اليمين أنه رأى الملائكة معهم تقاتل على خيول بلق، وقال لهم: - «أنتم أسرتمونى؟ ما أسرنى إلّا قوم على دوابّ لهم بلق، عليهم ثياب بيض.» فقال المختار: - «أولئك الملائكة، اصعد المنبر، فأعلم الناس ذلك.» فصعد واجتهد فى اليمين وأخبرهم بذلك. [224] ثمّ نزل فخلا به المختار وقال: - «إنى علمت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت ما قد عرفت: ألّا أقتلك، فاذهب عنّى حيث أحببت، لا تفسد علىّ أصحابى.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 فخلّى عنه، وذهب حتّى لحق بمصعب بن الزبير، وقال: ألا أبلغ أبا إسحاق أنّى ... رأيت الخيل دهما [1] مصمتات أرى عينىّ ما لم تراءاه ... كلانا عالم بالتّرّهات وانجلت وقعة السبيع عن سبعمائة وثمانين قتيلا وكانت يوم الأربعاء لستّ ليال بقين من ذى الحجّة سنة ستّ وستّين. تجرّد المختار لقتلى الحسين وخرج أشراف الناس، فلحقوا بالبصرة، وتجرّد المختار لقتلى الحسين، وقال: - «ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين أحياء يمشون فى الدنيا آمنين. بئس ناصر آل محمد إذا أنا فى الدنيا، أنا إذا الكذّاب كما سمّونى. الحمد لله الذي جعلني سيفا ضربهم به، ورمحا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقّهم، سمّوهم، ثمّ تتبّعوهم، حتّى تفنوهم. إنه لا يسوغ لى طعام ولا شراب حتّى أطهّر الأرض منهم وأنقّى المصر منهم.» [225] ودلّ عبد الله بن دبّاس، على نفر ممن قتل الحسين. منهم: عبد الله بن أسيد بن النزال الجهنىّ، ومالك بن النّسير البدّىّ وحمل بن مالك المحاربي. فبعث إليهم المختار، فأخذوا وأدخلوا عليه عشاء. فقال لهم المختار: - «يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله! قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه فى الصلاة.» فقالوا:   [1] . دهما: كذا فى الأصل. وفى الطبري (8: 665) : بلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 - «رحمك الله، بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا، واستبقنا.» قال المختار: - «فهلّا مننتم على الحسين بن بنت نبيّكم واستبقيتموه وسقيتموه.» ثمّ قال المختار للبدّىّ: - «أنت صاحب برنسه؟» فقال عبد الله بن كامل: - «نعم، هو هو.» فقال المختار: - «اقطعوا يد هذا ورجله، ودعوه يضطرب حتّى يموت.» ففعل به ذلك، وأمر بالآخرين فقتلا. ثمّ بعث رجالا كانوا معه يقال لهم: الدبّابة، إلى دار فى الحمراء فيها عبد الرحمن بن أبى خشكارة، وعبد الرحمن بن قيس الخولاني وغيرهما فجئنا بهم حتّى أدخلناهم عليه، فقال لهم: - «يا قتلة الصالحين، يا قتلة سيد شباب أهل الجنّة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم؟ لقد جاءكم الورس [1] بيوم نحس.» وكانوا أصابوا [226] من الورس الذي كان مع الحسين، أخرجوهم إلى السوق، فضربوا رقابهم، ففعل ذلك بهم وكانوا أربعة. وأخذ السائب بن مالك الأشعرىّ- وكان فى خيل للمختار- ثلاثة نفر ممن شهد قتل الحسين، فانتهى بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا فى السوق. وبعث المختار عبد الله بن كامل إلى عثمان بن خالد، وإلى أبى أسماء بسر بن أبى سمط [2] ، وكانا ممن شهدا قتل الحسين وفى سلبه، فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بنى دهمان، ثمّ قال:   [1] . الورس من الثياب: الأحمر. الورس: نبات كالسمسم يصبغ به. [2] . بسر بن أبى سمط: كذا فى الأصل وفى الطبري (8: 670) : بشر بن سوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 - «علىّ مثل خطايا بنى دهمان منذ خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد، إن [لم] [1] أضرب أعناقكم من عند آخركم.» فقلنا له: «أمهلنا حتّى نطلبه.» فخرجوا مع الخيل فى طلبه، فوجدوهما جالسين فى الجبّانة يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة، فأتى بهما عبد الله بن كامل، فضرب أعناقهم، ثمّ رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره بأن يرجع فيحرقهما بالنار، وقال: - «لا يدفنا، بل ليحرقا [2] بالنار.» وبعث أبا عمرة صاحب حرسه حتّى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحىّ وهو صاحب رأس الحسين- عليه السلام- فاختبى فى مخرجه [227] فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها: - «أين زوجك؟» فقالت: - «لا أدرى، أين هو..» وأشارت بيدها إلى المخرج. فدخلوا، فوجدوه وقد وضع على رأسه قوصرة، وأخرجوه. وكان المختار خرج يسير بالكوفة ومعه ابن كامل، فأخبروه الخبر، وأقبل حتّى قتله إلى جانب أهله، ثمّ دعا بنار فحرّقه. وكانت امرأته نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين. وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلىّ، فكلّم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة، وقال: - «خذ لى من هذا الرجل أمانا.» فكتب له:   [1] . تكملة من الطبري. [2] . فى الأصل: لا يدفنا، بل يحرقا. ولام الأمر زدناه. وفى الطبري (8: 670) : لا يدفنانّ يحرقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 «بسم الله الرحمن الرحيم» - «هذا أمان من المختار بن أبى عبيد لعمر بن سعد بن أبى وقّاص. إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك ومصرك وأهلك، ولم تحدث حدثا. فمن لقى عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلّا بخير. شهد السائب بن مالك، [228] وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شدّاد، وعبد الله بن كامل.» وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفينّ لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلّا أن يحدث حدثا، وأشهد الله على نفسه وكفى بالله شهيدا.» فكان أبو جعفر محمد بن علىّ الباقر عليه السلام يقول:- «أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلّا أن يحدث حدثا، فإنّه كان يريد: إذا دخل الخلا وأحدث.» فقال المختار ذات يوم وهو يحدّث جلساءه: - «لأقتلنّ رجلا عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسرّ قتله المؤمنين والملائكة المقرّبين.» فكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار، فسمع هذه المقالة، فوقع فى نفسه أنّ الذي يريده عمر بن سعد بن أبى وقّاص. فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان، فقال: - «الق عمر بن سعد الليلة، فخبّره بكذا وكذا وقل له: خذ حذرك.» قال: فأتاه فاستخلاه، ثمّ حدّثه الحديث. فقال له عمر بن سعد: - «جزى الله أباك عن الإخاء [1] خيرا، كيف يريد هذا بى بعد الذي أعطانى من   [1] . عن الإخاء خيرا. كذا فى الأصل، وفى مط: عن الأحبّاء خيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 العهود والمواثيق.» ثمّ خرج من ليلته حتّى أتى حمّامه، [229] وأخبر مولى له بما أريد به، فقال له: - «وأىّ حدث أعظم مما صنعت، إنك تركت رحلك وأهلك، إرجع إلى رحلك، لا تجعل للرجل عليك سبيلا.» فرجع إلى منزله، وأتى المختار بخبر انطلاقه، فقال: - «كلّا، إنّ لى فى عنقه سلسلة ستردّه.» فلما أصبح المختار بعث أبا عمرة وأمره أن يأتيه به. فجاء حتّى دخل عليه، فقال: - «أجب.» فقام عمر، فعثر فى جبّة [1] له ويضربه أبو عمرة بسيفه فقتله، وجاء برأسه فى أسفل قبائه حتّى وضعه بين يدي المختار. فقال المختار لابنه حفص بن عمر، وهو جالس عنده: «أتعرف هذا الرأس؟» فاسترجع، وقال: - «نعم، ولا خير فى العيش بعده.» قال له المختار: - «صدقت، فإنّك لا تعيش بعده. ألحقوا حفصا بأبى حفص!» فقتل، فإذا رأسه مع رأس أبيه. ثمّ قال المختار:   [1] . فعثر فى جبّة. والكلمة الأخير غير واضحة فى الأصل ومط فقرأناها فى ضوء ما فى الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 - «هذا بالحسين، وهذا بعلىّ بن الحسين ولا سواء. والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامل الحسين.» وبعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفيّة، وكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم» - «للمهدىّ محمد بن علىّ [230] من المختار بن أبى عبيد. سلام عليك أيها المهدىّ، فإنّى أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإنّ الله بعثني نقمة على أعدائكم، فهم بين أسير وطريد وقتيل وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصر مؤازريكم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن شرك فى دم الحسين وأهل بيته- رضى الله عنهم [1]- كلّ من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي ولست بمنجم عنهم حتّى لا يبلغني أنّ على أديم الأرض منهم أرما [2] ، فاكتب إلىّ أيها المهدىّ برأيك أتّبعه وأكن عليه، والسلام عليك أيها المهدىّ ورحمة الله وبركاته.» وطلب المختار كلّ من ذكر له من قتلة الحسين وشيعته، وأعدائه، فقتلهم وأحرقهم، ومن هرب ولم يقدر عليه هدم داره. ثمّ إنّ المختار بلغه أنّ أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه يبدأ به، فخشي أن يأتيه أهل الشام من المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فأخذ يدارى ابن الزبير ويكايده. وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم [231] بن أبى العاص إلى وادي القرى.   [1] . كذا فى الأصل: رضى الله عنهم. وفى مط: صلوات الله عليهم. وما فى الطبري (8: 675) : رحمة الله عليهم. وفى هامشه: عليهم السلام. [2] . أرما: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: أرميّا. وفى هامشه: آدميا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ذكر مكيدة للمختار على ابن الزبير لم يتمّ له كتب المختار إلى ابن الزبير: - «أما بعد، فقد بلغني أنّ عبد الملك بن مروان بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدّك بمدد فعلت.» فكتب إليه عبد الله بن الزبير: - «أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لى الناس قبلك، فإذا أتتنى بيعتك صدّقتك فى مقالتك، وعجّل إلىّ بتسريح الجيش، ومرهم أن يسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان، فيقاتلوهم، والسلام.» فدعا المختار شرحبيل بن ورس بن همدان، فسرّحه فى ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلّا سبعمائة رجل، فقال: - «سيروا مع شرحبيل وأطيعوه.» وقال لشرحبيل: - «إذا دخلت المدينة فاكتب إلىّ حتّى يأتيك أمرى.» وهو يريد: إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميرا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضى إلى مكة حتّى يحاصر ابن الزبير، ويقاتله. فخرج يسير قبل المدينة. [232] وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده. فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل فى ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير: - «إن رأيت القوم فى طاعتي، فاقبل منهم، وإلّا فكايدهم حتّى تهلكهم.» ففعلوا: وأقبل عباس بن سهل حتّى لقى ابن ورس وقد عبّى ابن ورس أصحابه ميمنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وميسرة. فدعا وسلّم عليه، ونزل هو يمشى فى الرجّالة وميمنته وميسرته على الخيول. وجاء عباس مع أصحابه وهم متقطّعون على غير تعبئة، فيجد ابن ورس على الماء قد عبّى أصحابه تعبئة القتال، فدنا منه، فسلّم عليه، ثمّ قال له: - «اخل معى.» فخلا به، فقال: - «رحمك الله، ألست فى طاعة ابن الزبير؟» فقال له ابن ورس: - «بلى.» قال: - «فسر بنا إلى عدوّ الله وعدوّه الذي بوادي القرى، فإنّ ابن الزبير حدّثنى أنّه إنّما أشخصكم صاحبكم إليه.» قال ابن ورس: - «ما أمرت بطاعتكم. إنما أمرت أن آتى المدينة، فإذا تركتها كاتبت صاحبي.» فقال عباس بن سهل: - «إن كنت فى طاعة ابن الزبير، فقد أمرنى أن أسير بك وبأصحابك إلى عدوّنا بوادي القرى.» فقال ابن ورس: - «ما أمرت بطاعتك وما أنا [233] بمتّبعك دون أن أدخل المدينة، ثمّ أكتب إلى صاحبي، فيأمرنى بأمره.» فلما رأى العباس لجاجه عرف خلافه، وكره أن يعلمه أنّه فطن له، فقال: - «فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك، فأمّا أنا فإنّى سائر إلى وادي القرى.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ذكر مكيدة عباس بن سهل بأصحاب المختار ثمّ جاء عباس بن سهل، فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزر [1] كانت معه، فأهداها له مع دقيق وغنم مسلّخة، وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعا، وبعث عباس إلى كلّ عشرة منهم شاة، فذبحوها واشتغلوا بها، وتركوا تعبئتهم، واختلطوا على الماء. فلما رأى عباس بن سهل أنهم قد شغلوا، جمع من أصحابه نحوا من ألف رجل من ذوى البأس والنجدة، ثمّ أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رءاهم ابن ورس مقبلين إليه، نادى فى أصحابه، فلم تتواف إليه مائة رجل. حتّى انتهى إليه عباس وهو يقول: - «يا شرطة الله، إلىّ إلىّ، قاتلوا المحلّين أولياء الشيطان الرجيم، فقد غدروا، وفجروا.» قال: فو الله ما اقتتلنا إلّا شيئا [234] ليس بشيء، حتّى قتل ابن ورس فى سبعين من أهل الحفاظ، ورفع ابن سهل راية الأمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلّا نحوا من ثلاثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حميد [2] الهمدانىّ. فلما وقعوا فى يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلّا نحوا من مائة رجل كره ناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلّوا سبيلهم، فرجعوا، فمات أكثرهم فى الطريق. وبلغ المختار أمرهم، فخطب الناس وقال: - «ألا، إنّ الفجّار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار.»   [1] . بجزر: كذا فى الأصل. وما فى مط: بحرز (مهملة إلّا فى الحرف الأخير) . وفى الطبري (8: 690) : بجزائر. والجزر والجزائر: جماعة الجزور. والجزور ما يصلح لأن يذبح من الإبل. [2] . حميد: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 691) : سلمان بن حمير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 ثمّ كتب إلى محمد بن الحنفيّة مع صالح بن مسعود الخثعمي: «بسم الله الرحمن الرحيم» - «أما بعد، فإنّى كنت بعثت إليك جندا ليذلّوا لك الأعداء، وليحوزوا لك البلاد، فساروا حتّى إذا أظلّوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغرّوهم، فلما اطمأنّوا إليهم وثبوا بهم فقتلوهم، فإن رأيت أن أبعث إلى المدينة من قبلي جندا كثيفا وتبعث إليهم من قبلك رسلا حتّى يعلم أهل المدينة أنّى فى طاعتك، وإنما بعثت الجند عن أمرك، فافعل، فإنّك ستجدهم أعرف بحقّكم أهل البيت، وأرأف بكم منهم بآل الزبير والملحدين، [235] والسلام.» فكتب إليه محمد بن الحنفيّة: - «أما بعد، فإنّ كتابك لمّا بلغني قرأته وفهمته، وعرفت تعظيمك لحقّى وما تنوي به من سروري، وإنّ أحبّ الأمور إلىّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فى ما أعلنت وأسررت. واعلم أنّى لو أردت القتال لوجدت الناس إلىّ سراعا، والأعوان لى كبيرا، ولكنّى أعتزلهم وأصبر حتّى يحكم الله لى وهو خير الحاكمين.» فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفيّة، فودّعه، وسلّم عليه، وهو كان حامل كتاب المختار، فأعطاه جواب الكتاب، وقال: - «قل له: فليتّق الله، وليكفف عن الدماء.» قال: فقلت له: - «أصلحك الله، أو لم تكتب إليه بهذا؟» قال ابن الحنفيّة: - «قد أمرته بطاعة الله، وطاعة الله تجمع الخير كلّه، وتنهى عن الشرّ كلّه.» فلما قدم كتابه على المختار، أظهر للناس: - «إنّى قد أمرت بأمر يجمع البرّ واليسر، ويضرح [1] الكفر والغدر.»   [1] . يضرح: كذا فى الأصل والطبري 8: 693. وفى مط: يصرح. وفى حواشي الطبري: يطرح. ضرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 ذكر رأى رءاه ابن الزبير بعد حبسه محمد بن الحنفيّة ومن معه بزمزم ثمّ إنّ عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر [236] رجلا من أهل الكوفة بزمزم كرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمّة وهربوا إلى الحرم، وتوعّدهم القتل والإحراق، وأعطى الله عهدا- إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم فى ذلك أجلا. فأشار بعض من كان مع ابن الحنفيّة عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من كان بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وحال من معهم وما توعّدهم به ابن الزبير، فوجّه ثلاثة نفر من الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والحرق بالنار، ويسألهم ألّا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته. فقدموا على المختار، ودفعوا إليه الكتاب. فلما قرأه قال: - «هذا كتاب مهديّكم وصريخ أهل بيت نبيّكم! قد حظر عليهم كما يحظر على الغنم، ينتظرون القتل والتحريق بالنار فى آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزّرا.» ووجّه أبا عبد الله الجدلىّ فى سبعين رجلا من أهل القوة، ووجّه ظبيان بن عثمان التميمي فى أربعمائة، [237] وأبا المعتمر فى مائة، وهانئ بن قيس فى مائة وعمير بن طارق فى أربعين، ويونس بن عمران فى أربعين، وكتب إلى محمد   [ () ] الشيء: دفعه وأبعده. ضرح القبر: شقّه: حفره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 بن علىّ بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم فى أثر بعض. وجاء أبو عبد الله الجدلىّ فى سبعين راكبا حتّى نزل ذات عرق ولحقه عقبة فى أربعين، ويونس فى أربعين، فتمّوا مائة وخمسين فارسا. فسار بهم حتّى دخلوا مسجد الحرام ومعهم الكافر كوبات [1] وهم ينادون: - «يا لثارات الحسين.» حتّى انتهوا إلى زمزم وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم وقد كان بقي من الأجل يومان. فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على محمد بن الحنفيّة، فقالوا له: - «خلّ بيننا وبين عدوّ الله ابن الزبير!» فقال لهم: - «إنّى لا أستحلّ القتال فى حرم الله.» فقال ابن الزبير: - «أتحسبون أنّى مخلّ سبيلهم دون أن يبايع وتبايعوا؟» فقال أبو عبد الله الجدلىّ: - «إى وربّ الركن والمقام، لتخلّينّ سبيله أو لنجالدنّك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون.» فقال ابن الزبير:   [1] . الكافر كوبات: كذا فى الأصل والطبري 8: 694. فى مط: الكافر كربات. وفى حواشي الطبري عن الأصول الأخرى: الكافر كوباث. والكافر كوبات جمع مفره الكافر كوب وهو مركب من لفظتين: عربية وفارسية معناه: قامع الكافر: آلة حربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 - «ما هؤلاء إلّا أكلة رأس، والله لو أذنت لأصحابى لقطفت رؤوسهم فى ساعة.» فقال له قيس بن مالك: [238]- «إن رمت ذلك، رجوت أن يوصل إليك قبل أن ترى ما تحبّ.» فكفّ ابن الحنفيّة أصحابه وحذّرهم الفتنة. ثمّ قدم أبو المعتمر وبقيّة الناس ومعه المال حتّى دخلوا المسجد فكبّروا [1] : - «يا لثارات الحسين.» فلما رءاهم ابن الزبير خافهم، وخرج محمد بن الحنفيّة ومن معه إلى شعب علىّ وهم يسبّون ابن الزبير، ويستأذنون محمد بن الحنفيّة فيه، ويأبى عليهم. واجتمع فى الشعب مع محمد بن علىّ أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال. ذكر ما كان من المختار بعد وقعة السبيع بالكوفة ثمّ إنّ المختار بعد أن فرغ من قتال من ذكرناهم فى وقعة السبيع، ما ترك إبراهيم بن الأشتر إلّا يومين حتّى أشخصه إلى الشام لحرب عبيد الله بن زياد، وأخرج معه وجوه أصحابه ممن شهد الحروب وجرّبها، وخرج المختار يشيّعه ويوصيه ومعه الكرسىّ ويليه قوم كالسدنة. وسنذكر خبر الكرسى ّ إن شاء الله. وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمّام أعين، فلما أراد أن ينصرف عنه [239] قال لابن الأشتر: - «خذ عنى ثلاثا: خف الله سرّ أمرك وعلانيته، وعجّل السير، وإذا لقيت عدوّك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم ليلا فاستطعت ألّا تصبح حتّى تناجزهم فافعل، وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل.» ثمّ قال:   [1] . فكبّروا: يا لثارات الحسين. كذا فى الأصل ومط والطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 - «هل حفظت ما أوصيتك به؟» قال: - «نعم.» قال: - «صحبك الله.» ثمّ انصرف. خبر الكرسى ّ كان طفيل بن جعدة بن هبيرة قد ضاقت يده، وكانت أمّه أمّ هانئ بنت أبى طالب أخت علىّ عليه السلام لأبيه وأمّه، وكان المختار يطالب آل جعدة بكرسىّ علىّ بن أبى طالب، فيقولون: - «لا والله، ما هو عندنا.» فيقول المختار: - «لا تكونوا حمقى» - ويتوعّدهم. قال طفيل: فاحترت يوما وأنا على إضاقتى تلك، فرأيت كرسيّا عند جار لى زيّات قد ركبه الوسخ. فخطر ببالي أن لو قلت للمختار: هذا كرسىّ علىّ بن أبى طالب، لقبله. فأرسلت إلى الزيّات أن: - «ابعث إلىّ بكرسيّك.» فأرسل به إلىّ، فأتيت المختار، فقلت له: - «إنى كنت [240] أكتمك أمر الكرسىّ الذي كنت تلتمسه، وقد بدا لى أن أظهره، لأنّ جعدة بن هبيرة كان يجلس عليه كأنّه يرى أنّ فيه أثرة من علم.» فقال: - «سبحان الله! فأخّرت هذا إلى اليوم! ابعث به!» قال: وقد كنت تقدّمت بغسله وقد غسل، فخرج عود نضار، وقد كان تشرّب الزيت، فخرج أبيض وقد غشّى. فأمر لى المختار باثنى عشر ألفا، ثمّ دعا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 - «الصلاة جامعة.» وخطب، فقال: - «إنه لم يكن فى الأمم الخالية أمر إلّا هو كائن فى هذه الأمّة مثله، فإنّه كان فى بنى إسرائيل التابوت، فيه بقيّة مما ترك آل موسى وال هارون تحمله الملائكة، وإنّ هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه.» فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبائيّة، فكبّروا ثلاثا. فلما خرج المختار مع إبراهيم بن الأشتر لوجه عبيد الله بن زياد، أخرج الكرسىّ على بغل يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة. فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتّى غلوا، وكان أول من سدنه موسى بن أبى موسى الأشعرى، ثمّ حوشب البرشمى [1] ، فكانوا [241] يرون أنّ المختار يتكلّم عنه بوحي، وأشباه هذا [2] . فأما إبراهيم بن الأشتر، فإنّه سار من يومه مسرعا لا ينثني، يريد أن يلقى عبيد الله بن زياد وأهل الشام قبل أن يدخلوا أرض العراق، فسبقهم إلى أرض الموصل، وأسرع إليه السير حتّى لقيه بخازر [3] إلى جنب قرية يقال لها: باربيثا [4] بينها وبين الموصل خمسة فراسخ، وأخذ ابن الأشتر لما دنا من ابن زياد لا يسير إلّا على تعبئة ويسير بهم جميعا لا يفرّقهم إلّا أنّه يبعث الطفيل بن لقيط فى الطلائع، وكان شجاعا بئيسا. ثمّ أرسل عمير بن الحباب السلمى إلى ابن الأشتر أنّى معك وأريد لقاءك الليلة.   [1] . البرشمى: كذا فى الأصل ومط (بالشين المعجمة) وما فى الطبري: البرسمى (بالسين المهملة) . [2] . أنظر الطبري (8: 702- 706) . [3] . بخازر: كذا فى الأصل والطبري (8: 707) . وفى مط: بحازر. وفى حواشي الطبري: بجازر، بحازر، بحارر. [4] . باربيثا: كذا فى الأصل والطبري. وفى مط: باربيتا. فى حواشي الطبري: باريثا، بادبيثا، ومصحّفات أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 فأرسل إليه ابن الأشتر أن: القنى إذا شئت. فأتاه عمير ليلا، فبايعه وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، فقال له ابن الأشتر: - «فإنّى أستشيرك فى أمر، فأشر علىّ.» قال: - «نعم.» قال: - «أترى أن أخندق علىّ وأتلوّم يومين أو ثلاثة؟» قال عمير بن الحباب: - «لا تفعل، إنّا لله، وهل يريد القوم إلّا هذه، إن طاولوك وماطلوك هو خير لهم [242] هم كثير أضعافكم، وليس يطيق القليل الكثير فى المطاولة، ولكن ناجز القوم، فإنّهم قد ملئوا منكم رعبا وإنهم إن شامّوا [1] أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم ومرة بعد مرة، أنسوا بهم واجترأوا عليهم.» قال إبراهيم: - «الآن علمت أنّك لى مناصح، صدقت الرأى وما رأيت. أما إنّ صاحبي، بهذا الرأى أمرنى.» قال عمير: - «فلا تعدونّ رأيه، فإنّ الشيخ قد ضرّسته الحروب، وقاسى منها ما لم تقاس. ناهض الرجل إذا أصبحت.» وانصرف عمير، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة، الليل كلّه، ولم يدخل عينه غمض حتّى إذا كان فى السحر الأوّل عبّى أصحابه ميمنة وميسرة، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجّالة بالرجّالة، وضمّ الخيل وعليها أخوه لأمّه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطا من الناس، ونزل   [1] . شامّوا: كذا فى الأصل والطبري (8: 708) . وما فى مط: سامتوا. سامته: وازاه وقابله. شامّه: قاربه. دنا منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 إبراهيم يمشى [1] ، وقال للناس: - «ازحفوا.» فزحف الناس معه رويدا رويدا حتّى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرّك منهم أحد بعد [243] فدعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثمّ مرّ بأصحاب الرايات، فكلما مرّ على راية وقف عليها وقال: - «يا أنصار الدين وشيعة الحقّ وشرطة الله! هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علىّ ابن فاطمة بنت رسول الله، صلّى الله عليهم، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته، وبين الفرات أن يشربوا منه وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتى ابن عمّه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب فى الأرض العريضة، حتّى قتله وقتل أهل بيته، قد جاءكم الله به، وجاءه بكم. وو الله إنّى لأرجو أنه ما جمع بينكم فى هذا الموطن وبينه، إلّا ليشفى صدوركم، ويسفك دمه على أيديكم.» وسار فى ما بين الميمنة والميسرة، فرغّبهم فى الجهاد، وحرّضهم على القتال. ثمّ رجع حتّى نزل تحت رايته، وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني [2] ، وعلى ميسرته عمير بن الحباب وشرحبيل بن ذى الكلاع على الخيل، وهو يمشى فى الرجال. فلما تدانى الصفّان حمل الحصين بن النمير فى ميمنة أهل [244] الشام على ميسرة أهل الكوفة وعليها علىّ بن مالك الجشمي، فثبت له هو بنفسه، فقتل، ثمّ أخذ رايته قرّة بن علىّ، فقتل أيضا فى رجال أهل الحفاظ، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء السلولىّ، فاستقبل المنهزمين وقال: - «يا شرطة الله، إلىّ إلىّ.»   [1] . يمشى: كذا فى مط والطبري. وفى الأصل: يمسي (بالسين المهملة) فأعجمناها. [2] . فى مط: الشكونى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 فأقبل جلّهم إليه، فقال: - «هذا أميركم يقاتل. إلى أين؟ سيروا بنا إليه.» فأقبل حتّى أتاه، فإذا هو كاشف عن رأسه ينادى: - «إلىّ إلىّ، أنا ابن الأشتر، إنّ خير فرّاركم كرّاكم، ليس مسيئا من أعتب.» فثاب إليه أصحابه. وأرسل إلى صاحب الميمنة: - «احمل على ميسرتهم.» وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير بن الحباب كما زعم. فحمل عليه سفيان بن يزيد بن المغفّل صاحب الميمنة، فثبت لهم عمير بن الحباب وقاتله قتالا شديدا. فلمّا رأى إبراهيم ذلك، قال لأصحابه: - «أمّوا هذا السواد الأعظم، فو الله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير زعق بها فطارت.» قال ورقاء بن عازب: فمشينا إليهم حتّى إذا دنونا منهم اطّعنّا بالرماح قليلا، ثمّ صرنا إلى السيوف والعمد [245] فاضطربنا بها مليّا. فو الله ما سمعت من وقع الحديد على الحديد إلّا مياجن [1] قصّارى دار الوليد بن عقبة بن أبى معيط. ثمّ انهزموا، فسمعت إبراهيم بن الأشتر يقول لصاحب رايته: - «انغمس برايتك فيهم.» فيقول له: - «جعلت فداءك، إنّه ليس متقدّم.» فيقول: - «بلى، فإنّ أصحابك يقاتلون، وإنّ هؤلاء يهربون.» فإذا شدّ إبراهيم بسيفه، فلا يضرب أحدا إلّا صرعه. وكرد إبراهيم بن الأشتر الرجال بين يديه كأنّهم الحملان، وإذا شدّ، شدّ أصحابه معه شدّة رجل واحد. فلمّا انهزم أهل الشام، قال ابن الأشتر:   [1] . مياجن: لا نقط فيها فى الأصل والنقط من الطبري (8: 712) . وما فى مط: مناحر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 مقتل ابن زياد بيد ابن الأشتر - «إنّى قد ضربت رجلا فقتلته ووجدت منه رائحة المسك، ضربة شرّقت يديه وغرّبت رجليه، تحت راية منفردة على شاطئ جازر، وأظنّه طاغيتهم، فالتمسوه.» فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا، ضربه فقطّه [1] . وحمل شريك بن حرير [2] على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه ابن زياد، فاعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، ونادى شريك: - «اقتلوني وابن الزانية.» فقتل ابن نمير. وكان شريك بن حرير [246] مع علىّ أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علىّ لحق ببيت المقدس، فلما جاءه قتل الحسين قال: - «أعاهد الله، لئن وجدت من يطلب بدم الحسين أقبل إليه، ولأقتلنّ ابن مرجانة، أو لأموتنّ دونه.» فلما بلغه خروج المختار يطلب بدم الحسين، جاءه، فوجّهه مع ابن الأشتر. وقتل ابن ذى الكلاع، وتبع أصحاب إبراهيم أهل الشام المنهزمين فكان من غرق أكثر ممن قتل. وأصابوا من عسكرهم كلّ شيء من الغنائم. ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عمّاله، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، فغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة، وخرج من أهل الكوفة كلّ من كان قاتل المختار وهزمهم، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وفيهم شبث بن ربعىّ. وكان المختار قال لأصحابه:   [1] . فقطّه: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: فقدّه. ولا يخفى الفرق بينهما. [2] . حرير: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري وهامشه: جدير، جرير، حدير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 - «سيأتيكم الفتح من قبل إبراهيم بن الأشتر. قد هزموا أصحاب ابن مرجانة.» وخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعرى، وخرج بالناس، فنزل ساباط، وقال للناس: - «أبشروا، فإنّ شرطة الله [247] قد حسّوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا منها.» قال: ودخلنا المدائن واجتمعنا إليه، فصعد المنبر، فو الله إنّه ليخطبنا، ويأمر بالجدّ والاجتهاد والثبات على الطاعة والطلب بدماء أهل البيت، إذ جاءته البشرى تترى، يتبع بعضها بعضا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار: - «يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون؟» قالوا: - «بلى والله، لقد قلت ذلك.» قال الشعبىّ: فيقول لى رجل من بعض جيراننا: - «أتؤمن الآن يا شعبىّ؟» قال: قلت: - «بأىّ شيء أو من؟ بأنّ المختار يعلم الغيب؟ لا أومن بذلك أبدا.» قال: - «أو لم يقل لنا أنهم انهزموا؟» فقلت: - «بلى، ولكن زعم أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل.» فقال: - «والله لا تؤمن حتّى ترى العذاب الأليم.» ذكر مسير مصعب إلى المختار وحربه لما قدم شبث [1] على مصعب بن الزبير كان تحته بغلة له قد قطع ذنبها [248]   [1] . فى مط: شيث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وقطع طرف أذنها، وشقّ قباءه وهو يصيح: - «يا غوثاه، يا غوثاه!» فعرّف مصعب أنّ بالباب رجلا صفته كذا وكذا، فقال لهم: - «نعم، هذا شبث بن ربعىّ، ولم يكن ليفعل هذا غيره، أدخلوه.» فأدخل إليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة، فأخبروه بما أصيبوا به من وثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن القيس، ولم يكن شهد وقعة الكوفة، وإنما كان يقصّ له. فلما بلغه هزيمة الناس، تهيّأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرّح وراءه قوما، فلم يلحقوه، ومضى إلى مصعب، فأدناه معصب وقرّبه وأكرمه لشرفه، وهدم المختار دار ابن الأشعث. ثمّ قال مصعب لمحمد بن الأشعث لما أكثر عليه الناس: - «إنّى لا أسير حتّى يأتينى المهلّب بن أبى صفرة.» فكتب مصعب إلى المهلّب وهو عامله على فارس أن: - «أقبل إلينا لتشهد أمرنا وتسير معنا إلى الكوفة.» فتباطأ عنه المهلّب كراهة للخروج، واعتلّ بشيء من الخراج، [249] فأمر مصعب محمد بن الأشعث بن قيس فى بعض ما كان محمد يستحثّه: - «ايتني بالمهلّب.» فخرج محمد بكتاب مصعب إلى المهلّب، فلما قرأه، قال: - «مثلك يا محمد فى شرفك يأتى بريدا؟ أما وجد المصعب بريدا غيرك؟» قال محمد: - «إنى، والله، ما أنا ببريد لأحد، غير أنّ نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا.» فخرج المهلّب بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه فى هيئة وعدّة وجموع ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 بها أحد من أهل البصرة. ولما ورد باب مصعب صادفه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلّب يده وكسر أنفه. فدخل الحاجب إلى المصعب وأنفه يسيل دما، فقال له: - «ما لك؟» قال: - «ضربني رجل ما أعرفه.» ودخل المهلّب، فلما رءاه الحاجب، قال: - «هو ذا.» فقال له مصعب: - «عد إلى مكانك.» ثمّ عسكر مصعب عند الجسر الأكبر، وقدّم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطىّ من بنى تميم على مقدّمته، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلّب على ميسرته، وبعث على الأخماس مالك بن مسمع [250] ومالك بن المنذر، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمرو الأزدىّ، وقيس بن الهيثم. وبلغ ذلك المختار، فقام فى أصحابه، فحمد الله وأثنى، وقال: - «يا أهل الدين وأعوان الحق وأنصار الضعيف وشيعة ال الرسول! إنّ فرّاركم الذين بغوا عليكم فهزمتموهم، أتوا أشباههم من الفاسقين، فاستغووهم عليكم ليمصح [1] الحقّ وينعش الباطل، ويقتل أولياء الله. والله لو هلكتم ما عبد الله فى الأرض إلّا بالفرى على الله واللعن لأهل بيت نبيّه، صلّى الله عليه. انتدبوا مع أحمر بن شميط.» فعسكر بحمّام أعين. ودعا المختار رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع ابن شميط، لأنهم فارقوا ابن الأشتر لما رأوا من تهاونه بأمر   [1] . مصح الحقّ: أزاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 المختار، فبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشا كثيفا. وسار أحمر بن شميط حتّى ورد المذار وجاء مصعب حتّى عسكر قريبا منه، ثمّ عبّى كل واحد منهم جنده، وجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب بن نضلة [1] ، وعلى الخيل رزين بن عبد الله السلولي، وعلى الرجّالة كثير بن إسماعيل [251] الكندىّ، وجعل أبا عمرة على الموالي وكان مولى لعرينة. مكيدة لعبد الله بن وهب على الموالي فجاء عبد الله بن وهب وكان على الميسرة، إلى ابن شميط وقد أخلاه، فقال له: - «إنّ الموالي والعبيد إلى [2] خور عند المصدوقة، وأنّ معهم رجالا كثيرا على الخيل وأنت تمشى، فمرهم لينزلوا معك، فإنّ لهم بك أسوة، وإنى أتخوّف إن طردوا ساعة فطوعنوا وضوربوا، أن يطيروا على متونها، ويسلموك، وإنّك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدّا.» وإنما غشّ الموالي والعبيد لما كان لقى منهم بالكوفة، فأحبّ- إن كانت عليهم الدبرة- ألّا يكونوا فرسانا بل رجّالة، فلا ينجو منهم أحد. ولم يتّهمه ابن شميط، وظنّ أنه إنما أراد بذلك نصيحته ليصبروا ويقاتلوا فقال: - «يا معشر الموالي، انزلوا معى، فقاتلوا.» فنزلوا معه ثمّ مشوا بين يديه وبين يدي رايته. وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عبّاد بن الحصين على الخيل، وأقبل عبّاد حتّى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال: - «إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة [252] رسوله، صلّى الله عليه، وإلى بيعة   [1] . نضلة: كذا فى الأصل والطبري 8: 721. وما فى مط: فضلة. [2] . إلى خور: كذا فى الأصل. وفى مط: إلى حور. وما فى الطبري: آل خور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.» فقال الآخرون: - «إنّا ندعوكم إلى كتاب الله، وسنّة رسوله، صلّى الله عليه، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن يجعل الأمر شورى فى آل الرسول، فمن زعم من الناس أنّ أحدا ينبغي أن يتولّى عليهم برئنا منهم وجاهدناه.» فانصرف عبّاد إلى مصعب فأخبره فقال له: - «إرجع، فاحمل عليهم.» فحمل على بن شميط، فلم يزل منهم أحد. ثمّ انصرف إلى موقفه، وحمل المهلّب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم فى بعض، فنزل ابن كامل، وانصرف عنه المهلّب، ثمّ وقف ساعة، وقال لأصحابه: - «احملوا حملة صادقة، فقد أطمعوكم.» يعنى جولتهم التي جالوها. فحمل عليهم حملة منكرة، فولّوا، وصبر ابن كامل فى رجال همدان، فأخذ المهلّب يسمع اتّصال [1] القوم: - «أنا الغلام الشاكرىّ، أنا الغلام الشبامىّ، أنا الغلام الثورىّ.» وحمل عمر بن عبد الله بن معمر على عبد الله بن أنس، فقاتل ساعة ثمّ انصرف عنه، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتّى قتل، وتنادى أصحابه: - «يا معشر بجيلة وخثعم، الصبر الصبر.» [253] فناداهم المهلّب: - «الفرار الفرار، فهو اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضلّ الله سعيكم.» ثمّ نظر إلى أصحابه فقال:   [1] . كذا فى الأصل ومط وبعض الأصول فى هامش الطبري: اتصال. وما فى الطبري (8: 722) : يسمع شعار القوم. وفى بعض الأصول: إيصال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 - «والله ما أدرى استحرار القتل إلّا فى أصحابى وقومي.» ومالت الخيل على رجّالة ابن شميط فانهزمت وأخذت فى الصحراء، فبعث مصعب بن الزبير عبّاد بن الحصين على الخيل وقال: - «أيّما أسير أخذته فاضرب عنقه.» وسرّح محمد بن الأشعث فى خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال: - «دونكم ثأركم.» فلم يكن على المنهزمين قوم أشدّ عليهم منهم، كانوا لا يعفون عن أسير إنما هو القتل، فلم ينج من ذلك الجيش إلّا طائفة من أصحاب الخيل، وأما رجالتهم، فأبيدوا. فتحدّث عبد الرحمن بن أبى عمير الثقفي، قال: والله إنى لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم، فأصغى إلىّ برأسه وقال لى: - «قتلت والله العبيد قتلة ما سمعت بمثلها قطّ.» ثمّ قال: - «وقتل ابن شميط وابن كامل، وفلان وفلان..» فسمى قوما من العرب ورجالا كان الواحد منهم خيرا من أمّة من الناس.» قال: فقلت: - «إنّا لله، هذه والله [254] مصيبة.» فقال لى: - «ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إلىّ من مثل ميتة ابن شميط، حبّذا مصارع الكرام.» قال: فعلمت أنّ الرجل قد حدّث نفسه إن لم يصب حاجته، أن يقاتل حتّى يموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وأقبل مصعب حتّى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تكن واسط هذه بنيت بعد، وأخذ فى كسكر، ثمّ حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس فى السفن، فأخذوا فى نهر يقال له: نهر خرشيذ، ثمّ خرجوا من ذلك النهر إلى الفرات. وكان أهل البصرة يخرجون فيجرّون سفنهم ويقولون [1] : عوّدنا المصعب جرّ القلس ... والزّنبريّات الطّوال القعس ولمّا بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه فى البرّ والبحر، سار حتّى نزل السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار: نهر الحيرة، ونهر السيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف [2] ، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كلّه فى هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة فى الطين. فلما رأوا ذلك، خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتّى أتوا ذلك السكر، فكسروه. [255] غلط المختار فى ذلك فكان غلط المختار فى ذلك، أنه حيث سكر الماء وقطعه عن القوم، وجب أن يخلّف على السكر جيشا قويّا. فصمد القوم لما كسروا السكر صمد الكوفة، فلما رأى المختار ذلك أقبل إليهم حتّى نزل حرورا، وحال بينهم وبين الكوفة، وقد كان حصّن قصره والمسجد، وأدخل فى قصره عدّة الحصار، واستعمل على الكوفة عبد الله بن شدّاد. وجاء مصعب فى جيشه، وخرج إليه المختار، وقد جعل على ميمنته سليم بن   [1] . تجد البيت عند الطبري (8: 724) . [2] . يوسف: كذا فى الأصل ومط وبعض الأصول فى هامش الطبري. وما فى الطبري (8: 725) : برسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثمّ الثوري، وكان على شرطته عبد الله بن قراد الخثعمي، وعلى الخيل عمر بن عبد الله النهدىّ، على الرجال مالك بن عمرو النهدىّ. وجعل مصعب على ميمنته المهلّب بن أبى صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبد الله بن معمر التيمىّ، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين الحبطىّ وعلى الرجال مقاتل بن مسمع الكندىّ، ونزل هو يمشى، وجعل على الكوفة محمد بن الأشعث. فجاء محمد حتّى نزل بين مصعب والمختار مقربا [1] ميامنا، فلما رأى ذلك المختار [256] بعث إلى كلّ خمس من أخماس البصرة رجلا من أصحابه فى خيل، ووقف فى بقيّة أصحابه، وزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم فى الميسرة عليهم عبد الله بن معمر، فقاتلهم ربيعة قتالا شديدا وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل أحدهما فانصرف، حمل الآخر، وربما حملا جميعا. فبعث مصعب إلى المهلّب: - «ما تنتظر أن تحمل من بإزائك؟ ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان اليوم؟ احمل بأصحابك.» فقال المهلّب: - «إنّى لعمري ما كنت لأجزر الأزد وتميما خشية أهل الكوفة حتّى أرى فرصتى.» وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن: - «احمل على من يليك.»   [1] . مقربا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 726) : مغرّبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 فحمل عليهم، فكشفهم حتّى انتهوا إلى مصعب. فجثا مصعب على ركبتيه، ولم يكن فرّارا، فرمى بأسهمه، ونزل الناس، فقاتلوا ساعة، ثمّ تحاجزوا. فبعث مصعب إلى المهلّب وهو فى خمسين من الأخماس جامّين كثيرى العدد والفرسان: - «لا أبا لك ما تنتظر أن تحمل على القوم؟» فمكث غير بعيد. ثمّ إنه قال [257] لأصحابه: - «قد قاتل القوم منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وبقي ما عليكم، احملوا واصبروا واستعينوا بالله.» فحملوا حملة عظيمة، فحطّموا أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفوهم. وقال عبد الله بن عمرو النهدىّ، وكان من أصحاب صفّين: - «اللهمّ إنّى على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفّين، اللهمّ إنّى أبرأ إليك من فعل هؤلاء المنهزمين.» وجالد بسيفه حتّى قتل. وأتى مالك بن عمرو النهدي بفرسه، وكان على الرجّالة، فركبه وانقصف أصحاب المختار انقصافة شديدة كأنّهم أجمة فيها حريق. فقال مالك حين ركب: - «ما أصنع بالركوب؟ والله لأن أقتل هاهنا أحبّ إلىّ من أن أقتل فى بيتي. أين أهل البصائر؟» فثاب إليه نحو من خمسين رجلا. ذكر ظفر بعد هزيمة وذلك عند المساء. فكرّ على أصحابه محمد بن الأشعث وكان إلى جانبه، فقتل محمد بن الأشعث هو وعامّة أصحابه. وانتهى المختار فى أصحابه إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 محمد بن الأشعث قتيلا ومالك بن عمرو يحسّهم بالسيف، فقال: - «يا معشر الأنصار، كرّوا على الثعالب الروّاغة.» [258] فحملوا عليهم، وانهزم أصحاب مصعب وطلع القمر. وأمر المختار مناديا فنادى: - «يا محمّد!» وكان علامة بينه وبين أصحابه، فحملوا على مصعب، فهزموه وأدخلوه عسكره، ولم يزل المختار وأصحابه يقاتلونهم حتّى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد. ذكر اتّفاق [1] سىّء بعد الظفر لأجل عجلة وسوء تثبّت وكان أصحابه قد وغلوا فى أصحاب مصعب، فقال له بعض من كان معه: - «أيها الأمير، ما تنتظر؟ قد هزم أصحابك وما بقي معك أحد، انصرف إلى القصر.» قال المختار: - «والله ما نزلت وأنا أريد الركوب، فأما إذا انصرف أصحابى فقدّموا فرسي.» فركب حتّى دخل القصر منهزما، وانصرف أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا: - «قد قتل.» فهرب منهم طائفة ممن أطاق الهرب، واختفوا فى دور الكوفة وتوجّه منهم نحو القصر نحو من ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم وكانوا فى الأصل عشرين ألفا فلما أتوا القصر وجدوا المختار فى القصر، فدخلوا معه.   [1] . ذكر اتفاق سىّء: كذا فى الأصل. وما فى مط: ذكر رأى سىّء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وأصبح مصعب فأقبل يسير بمن [259] معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمرّ بالمهلّب. فقال له المهلّب: «يا له فتحا ما أهنأه! لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل.» قال: - «صدقت، فرحم الله محمّدا.» ذكر قتل عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب ثمّ قال: - «يا مهلّب!» قال: - «لبّيك أيها الأمير.» قال: - «هل علمت أنّ عبيد الله بن علىّ بن أبى طالب قد قتل؟» قال: - «إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.» 2: 156 قال مصعب: - «أما إنّى كنت أحبّ أن يرى هذا الفتح، ثمّ لا نجعل أنفسنا أحقّ بشيء مما نحن فيه منه. أتدرى من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة. أما إنهم قتلوه وهم يعرفونه.» مصعب يحاصر قصر المختار وهو فيه ثمّ مضى حتّى حاصر المختار، وقطع عنهم الماء والمادّة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فنزل الكناسة، وبعث إلى الجبابين ليقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادّة، فأصابهم جهد شديد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه، فقاتلوا قتالا ضعيفا، وكان لا تخرج له خيل إلّا رميت بالحجارة من فوق البيوت ويصبّ عليهم الماء القذر، فاجترأ الناس عليهم. فكان أفضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 معايشهم من نسائهم. وذلك أنّ المرأة كانت تخرج من منزلها معها الطعام واللطف [1] والماء قد التحفت [260] عليه، فتخرج كأنها تريد المسجد الأعظم للصلاة أو تزور قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على حميمها بطعامه وشرابه ولطفه، وإنّ ذلك ليبلغ مصعبا. وكان المهلّب ذا حنكة وتجربة، فقال: - «أيّها الأمير، اجعل عليهم دروبا حتّى يمكنك أن تمنع ما يأتيهم من جهة أهليهم وتدعهم فى حصنهم حتّى يموتوا فيه.» وكان القوم إذا اشتدّ عليهم العطش استقوا ماء البئر، وطرحوا فيه العسل ليغيّر طعمه، فأخذ ثلاث نسوة فى الشباميّين أتين أزواجهنّ فى القصر، فبعث بهنّ إلى مصعب ومعهنّ الطعام والشراب، فردّهنّ مصعب ولم يعرض لهنّ. فقال المختار يوما لأصحابه: - «ويحكم! إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، انزلوا بنا، فلنقاتل حتّى نقتل كراما إن قتلنا، والله ما أنا بيائس إن أنتم صدقتموهم، أن ينصركم الله.» فضعفوا وعجزوا، فقال لهم المختار: - «أما أنا والله لا أعطى بيدي، ولا أحكّمهم فى نفسي.» ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما يريد المختار، تدلّى من القصر، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم. [261] مقتل المختار وما قاله فى أمره ثمّ إنّ المختار أزمع الخروج حين رأى من أصحابه الضعف والفشل. فأرسل إلى امرأته أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل   [1] . اللطف: الرفق، الهديّة. يقال: أهدى إليه لطفا، وما أكثر تحفه وألطافه. واللطف: اليسير من الطعام. ويقال: هؤلاء لطف فلان، أى: أصحابه وأهله الذين يلطفونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وتحنّط، ثمّ وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثمّ خرج فى تسعة عشر نفسا فيهم السائب بن مالك الأشعرىّ، وكان خليفته على الكوفة إذا خرج. ولما خرج المختار من القصر قال للسائب: - «ماذا ترى؟» قال: - «أنا أرى، أم الله؟» قال: - «بل الله، ويحك أحمق أنت. إنما أنا رجل من العرب لمّا رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ورأيت مروان انتزى على الشام، لم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، وكنت كأحدهم، إلّا أنى قد طلبت بثأر أهل بيت النبىّ، صلّى الله عليه وسلّم وعليهم، إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك فى دمائهم، وبالغت فى ذلك إلى يومى هذا. فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نيّة.» - «قال: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي؟» فتمثّل المختار عند ذلك بشعر غيلان بن سلمة الثقفىّ [1] : [262] ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ... عنّى الهموم بأمر ما له طبق لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ... غنم الحياة، وهول الموت والشفق إمّا تسفّ على مجد ومكرمة ... أو أسوة لك فى من يهلك الورق ثمّ خرج فى تسعة عشر رجلا، فقال للناس: - «أتؤمنونى وأخرج إليكم؟» فقالوا: - «لا، إلّا على الحكم.» فقال:   [1] . الأبيات تجدها عند الطبري أيضا (8: 737) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 - «لا أحكّمكم فى نفسي أبدا.» فضارب بسيفه حتّى قتل. ذكر رأى المختار فى تلك الحال وكان صوابا كان المختار قال لأصحابه حين أتوا أن يبايعوا على الخروج: - «إذا أنا خرجت فقتلت لم تزدادوا إلّا ضعفا وذلّا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم. يقول كلّ رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأرى، فيقتل وينظر بعضكم إلى بعض فيرى مصرعه ومصرع أحبّته، فيقولون: يا ليتنا كنّا [1] أطعنا المختار وعملنا برأيه، ولو أنكم خرجتم معى، كنتم إن أخطأتم الظفر، متّم كراما، وإن هرب منكم هارب فدخل فى عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا أذلّ من على [263] ظهر الأرض.» فكان الأمر على ما قال. ولما كان من الغد، قال لهم بجير بن عبد الله: - «يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأى لو أطعتموه، يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا بأسيافكم حتّى تموتوا كراما إن قتلتم.» فقالوا: - «قد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك فعصيناه، أفنحن نطيعك؟» فأمكنوا القوم من أنفسهم ونزلوا على الحكم. فبعث إليهم مصعب عبّاد بن الحصين، فكان يخرج بهم مكتّفين، فأدركتهم الندامة حينئذ، فقتلوا من عند   [1] . فى الأصل: يا ليتنا إنّا كنّا. فحذفنا «إنّا» لأنها زائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 آخرهم. ذكر كلام لهؤلاء المسلمين واستعطاف حين أحسّوا بالقتل قال بجير بن عبد الله المسلىّ [1] حين أتى به مصعب ومعه ناس كثير منهم: - «الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار وابتلاك بالعفو، وهما منزلتان، فى إحداهما رضا الله، وفى الأخرى سخطه. من عفا عفا الله عنه وزاده عزّا، ومن عاقب لم يأمن القصاص، يا بن الزبير، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تركا ولا ديلما، خالفنا إخواننا [264] من أهل مصرنا، فإمّا أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإمّا أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الإسلام [2] بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا، ثمّ اصطلحوا واجتمعوا. لقد ملكتم فأسجحوا، وقدرتم فاعفوا.» فلم يزل بهذا القول ونحوه حتّى رقّ لهم الناس، ورقّ مصعب أيضا، وأراد أن يخلّى سبيلهم. فقال عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث: - «تخلّى سبيلهم يا بن الزبير؟ اخترنا، أو اخترهم!» ووثب محمد بن عبد الرحمان بن سعيد بن قيس، فقال: - «قتل أبى وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة، ثمّ تخلّى سبيلهم ودماؤنا ترقرق فى أجوافهم، اخترنا أو اخترهم.» ووثب كلّ قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل، فقالوا نحوا من هذا القول. فلما رأى مصعب ذلك، أمر بقتلهم، فنادوه بأجمعهم: - «يا بن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فو الله ما بك ولا بأصحابك عنّا غدا غنى إذا لقيتم عدوّكم، فإن قتلنا لم نقتل حتّى نرقّهم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك.»   [1] . المسلىّ: كذا فى الأصل والطبري (8: 740) وما فى مط: المسلمي. [2] . أهل الإسلام: كذا فى الأصل مط، وما فى الطبري (8: 740) : أهل الشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فأبى عليهم وتبع رضا أصحابه. فقال بجير المسلىّ: - «إنّ حاجتي إليك ألّا أقتل مع هؤلاء، إنّى أمرتهم أن يخرجوا [265] بأسيافهم فيقاتلوا حتّى يموتوا كراما، فعصونى.» فقدّم ناحية فقتل. كلام آخر بنحو آخر من الاستعطاف ثمّ إنّ مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب: - «يا بن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمّة من المسلمين صبرا حكّموك فى دمائهم وكان الحقّ فى دمائهم ألّا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس، فإن كنّا قتلنا عدّة رجال منكم فاقتلوا عدّة من قتلنا منكم وخلّوا سبيل بقيّتنا وفينا رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا كانوا فى الجبال والسواد يجبون الخراج ويؤمنون السبل.» فلم يستمع له. فقال: - «قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكّة من هذه السكك فنطردهم ثمّ نلحق بعشائرنا، فعصونى حتّى نموت الآن ميتة العبيد، فأنا أسألك ألّا تخلط دمى بدمائهم.» فقدّم ناحية فقتل. فكان عدد من قتل صبرا ستة آلاف سوى من قتل فى المعركة. توبيخ من عبد الله بن عمر لمصعب على فعله هذا [266] فلقى مصعب بن الزبير يوما عبد الله بن عمر، فسلّم عليه، فأعرض عنه ابن عمر، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 - «أنا ابن أخيك مصعب.» فقال: - «نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة فى غداة واحدة. عش ما استطعت!» فقال مصعب: - «إنهم كانوا كفرة فجرة.» فقال ابن عمر: - «والله لو قتلت عددهم غنما من تراث أبيك، لكان ذلك سرفا.» كفّ المختار سمّرت إلى جنب المسجد ثمّ إنّ مصعبا أمر بكفّ المختار فقطعت، ثمّ سمّرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتّى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها، فقال: - «ما هذه؟» قالوا: - «كفّ المختار.» فأمر بنزعها. كتب مصعب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته وبعث مصعب عمّاله على الجبال والسواد. ثمّ كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له: - «إن أنت أجبتنى ودخلت فى طاعتي، فلك الشام، وأعنّة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب وما دام لآل الزبير سلطان.» وكتب إليه عبد الملك بن مروان من الشام يدعوه إلى طاعته ويقول: - «إن أجبتنى ودخلت فى طاعتي، فلك العراق.» فاستشار إبراهيم أصحابه، فاختلفوا عليه، فقال إبراهيم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 - «لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ورؤساء الشام، لأجبت عبد الملك [267] مع أنى لا أختار على أهل مصرى مصرا، ولا على عشيرتي عشيرة.» فكتب إلى مصعب، فأجابه مصعب: أن أقبل، فأقبل إليه، وبعث المهلّب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلّب على الفرات. ما جرى على عمرة امرأة المختار ثمّ إنّ مصعبا بعث إلى عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لها: - «ما تقولين فى المختار؟» فقالت: - «رحمه الله، كان عبدا من عباد الله الصالحين.» فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب إلى أخيه عبد الله أنها تزعم أنه نبىّ. فكتب إليه أن اقتلها. فأخرجها بعد عتمة، وسلّمها إلى مطر، فضربها ثلاث ضربات بالسيف، فقالت: - «يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه!» فسمع بها أبان بن النعمان بن بشير، فلطمه وقال له: - «يا بن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك.» ولزمه مطر حتّى رفعه إلى مصعب، فقال: - «إنّ أختى مسلمة.» وادّعى شهادة بنى قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب: - «خلّوا سبيله فإنّه رأى أمرا فظيعا [1] .»   [1] . وجاء فى الطبري (8: 743) : إنّ المصعب بعث إلى أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار، وإلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 فقال عمر بن أبى ربيعة: إنّ من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرّة عطبول [1] [268] قتلت هكذا على غير جرم ... إنّ الله درّها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرّ الذّيول حصار عبد الله بن خازم رجال بنى تميم بخراسان وفى هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بنى تميم بسبب من قتل منهم ابنه محمّدا. وذلك أنّ بنى تميم تفرّقوا بخراسان أيّام ابن خازم. فأتى قصرا يعرف بفرنبا [2] عدّة من فرسان بنى تميم وأنجادهم مثل عثمان بن بشير، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن العلق، وزهير بن ذؤيب العدوىّ، وجبهان بن مشجعة الضبّى، ورقبة بن الحرّ، والحجّاج بن ناشب، فأتاهم ابن خازم فحصرهم، وخندق على نفسه خندقا حصينا لئلّا يبيّتوه، فكانوا يخرجون ويقاتلونه ثمّ يرجعون إلى القصر. فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه فى ستة آلاف، وخرج أهل القصر، فقال عثمان بن بشير: - «لا أظنّ لكم اليوم بهم طاقة، فانصرفوا.» فقال زهير بن ذؤيب العدوى: امرأته طالق إن يرجع حتّى ينقض صفوفهم. وكان إلى جنبهم نهر يدخله الماء فى الشتاء، ولم يكن يومئذ [269] فيه ماء،   [ () ] عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لهما: «ما تقولان فى المختار؟» فقالت أمّ ثابت: «ما عسينا أن نقول؟ ما نقول فيه إلّا ما تقولون فيه أنتم.» فقالوا لها: «اذهبى.» وأما عمرة فقالت: « ... » [1] . العطبول، والعطبل: المرأة الفتيّة الجميلة الممتلئة. [2] . كتب فى هامش الأصل: فربنا: قرية فى سواد مرو. وجاء فى المراصد: فرناباذ: قرية كبيرة بينها وبين مرو خمسة فراسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 فاستبطنه زهير، فسار فيه ولم يشعر به أصحاب ابن خازم حتّى حمل عليهم، فحطّم أولهم على آخرهم واستداروا وكرّ راجعا واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به ولا ينزل إليه أحد حتّى انتهى إلى الموضع الذي انحدر منه، فخرج، وحمل عليهم، فأفرج له القوم حتّى رجع. فقال ابن خازم لأصحابه: - «إذا خرج إليكم زهير فطاعنتموه فاجعلوا فى رماحكم كلاليب، فاعلقوها فى أداته ودرعه.» فالتفت إليه ليحمل عليهم، فخلّوا رماحهم، فجاء يجرّ [1] أربعة أرماح حتّى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير: - «أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف وجعلت لك باشان [2] طعمة تناصحنى؟» فقال زهير للرسول: - «ويحك! كيف أنا صح قوما قتلوا الأشعث بن ذؤيب؟» فرجع الرسول فأسقط بها عند موسى بن عبد الله بن خازم. فلما أطال عليهم الحصار، أرسلوا إلى ابن خازم أن: - «خلّنا نخرج فنتفرّق.» فقال: - «لا، إلّا أن تنزلوا على حكمى.» قالوا: - «فإنّا ننزل على حكمك.» فقال لهم زهير: - «ثكلتكم أمّهاتكم، والله [270] ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإمّا أن تموتوا جميعا، وإما أن ينجو بعضكم   [1] . فجاء يجرّ أربعة أرماح: كذا فى الأصل. وما فى مط: فجاء بأربعة أرماح. [2] . باشان: كذا فى الأصل. وما فى مط: باسان (مهملة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 ويهلك بعض. وأيم الله، لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجنّ لكم عن مثل طريق البريد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم.» قال: فأبوا عليه، فقال: - «أما إنى سأريكم.» ثمّ خرج هو ورقبة بن الحرّ ومع رقبة غلام له تركىّ، وشعبة بن ظهير، فحملوا على القوم، فأفرجوا لهم، فمضوا. فأما رقبة وغلامه وشعبة فمضوا على وجوههم، وأما زهير فرجع إلى أصحابه حتّى دخل القصر، فقال لأصحابه: - «قد رأيتم، فأطيعونى.» فقالوا: - «إنّ فينا من يضعف عن هذا ويطمع فى الحياة.» قال: - «أبعدكم الله، والله لا أكون أجزعكم من الموت.» ففتحوا القصر، ونزلوا على حكمه، فأرسل إليهم، فقيّدهم، ثمّ حملوا رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى ابنه موسى وقال: - «والله، لئن عفوت عنهم لأتّكئن على سيفي حتّى يخرج من ظهري.» فقال له عبد الله: - «أما والله، إنى لأعلم [271] أنّ الغىّ فى ما يأمرنى به.» فقتلهم جميعا إلّا ثلاثة: الحجاج بن ناشب- كلّمه فيه رجال من بنى تميم كانوا معتزلين من عمرو، وحنظلة، وجبهان بن مسجعة، وهو الذي كان ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم خلّوا عن هذا البغل الديرج، ورجل من بنى سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر. فأما زهير بن ذؤيب، فأرادوا حمله مقيّدا، فأبى وأقبل يحجل [1] فى قيده حتّى جلس بين يديه، فقال له ابن خازم:   [1] . حجل المقيّد: قفز فى مشيه على الرجلين معا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 - «كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باشان طعمة؟» قال: - «لو لم تصنع بى إلّا حقن دمى لشكرتك.» فقام ابنه موسى، فقال: - «تقتل الضبع وتترك الذيخ [1] ؟ تقتل اللبوءة وتترك الليث؟» قال: - «ويحك! يقتل مثل زهير؟ من لقتال عدوّ المسلمين، من لنساء العرب؟» قال: - «والله لو شركت فى دم أخى لقتلتك.» فقام رجل من بنى سليم إلى ابن خازم، فقال: - «أذكّرك الله فى زهير.» فقال له موسى: - «اتخذه فحلا لبناتك!» فغضب ابن خازم، وأمر بقتله. قال زهير: - «فإنّ لى حاجة: لا تخلط دمى بدماء هؤلاء اللئام، فقد [272] نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين السيوف، والله لو فعلوا لشغلوا بنيّك [2] هذا بنفسه عن طلب الثأر بأخيه.» وأمر به فنحّى ناحية وقتل. فما أشبه هذا الرأى برأى المختار حتّى كأنّ أحدهما أخذ عن صاحبه، ولعلّ الوقتين كان واحدا، فإنّ الزمان متقارب. رجوع الأزارقة وفى هذه الأيام التي شغل فيها الناس بعضهم ببعض، رجعت الأزارقة إلى   [1] . فى هامش الأصل: الذيخ: ولد الذئب من الضبع. والسّمع ولد الضبع من الذئب. ويقال: الذيخ: الذئب الجريء. ذكر الضّباع الكثير الشعر: والسّمع ولد الذئب من الضبع. [2] . بنيّك: كذا فى الأصل. وما فى مط: ابنك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 قرب الكوفة، وذلك فى سنة ثمان وستين. وكان عبد الله بن الزبير ردّ أخاه مصعبا على العراق أميرا بعد أن كان عزله بابنه حمزة وظهر من ابنه حمزة خفّة فعزله. فلما ردّ مصعبا، بعث مصعب الحارث بن أبى ربيعة على الكوفة أميرا، وصار هو إلى البصرة، وكانت الأزارقة قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي إصبهان بعد ما أوقع بهم المهلّب بالأهواز. فلما أشخص المهلّب إلى الموصل كان عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، فانحطّت الأزارقة مع ابن الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله، فلقيهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ثمّ ظفر بهم وانهزموا، وتبعهم عمر بن عبيد الله، وكتب بالفتح إلى مصعب، ولحقهم بإصطخر وقد ثبتوا له، فلقيهم وقاتلهم قتالا شديدا وقتل ابنه. ثمّ إنّه ظفر بهم [273] وقطعوا قنطرة طمستان [1] ، وارتفعوا إلى إصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتّى اجتبروا [2] ، وقووا، واستعدّوا وكثروا. ثمّ إنهم أقبلوا حتّى مرّوا بفارس، وفيها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور [3] ، ثمّ خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أنّ الخوارج قد قطعت أرضه موجّهة إلى البصرة خشي ألّا يحتملها له مصعب، فشمّر فى آثارهم مسرعا حتّى أتى أرجان [4] ، فوجدهم حين خرجوا موجّهين إلى الأهواز. وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج، فعسكر بالناس بالجسر الأكبر وقال: - «والله، ما أدرى ما الذي أغنى عنّى أن وضعت عمر بن عبيد الله بن معمر   [1] . طمستان: فى الأصل ومط: طميسان. وفى الطبري (8: 754) : طمستان وهو الصحيح. وفى ياقوت: طمستان: بلفظ التثنية، كأنه «طم» و «استان» كقولهم: «دهستان» وأمثاله. مدينة بفارس. [2] . اجتبروا: كذا فى الأصل والطبري (8: 754) . فى حاشية الطبري عن الأصول: اختبزوا. وفى مط: اجزوا. اجتبر: استغنى بعد الفقر. [3] . سابور: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل غير واضح. [4] . أرجان: كذا فى الأصل ومط، وما فى الطبري (8: 754) : أرّجان (بتشديد الراء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 بفارس، وجعلت معه بها جندا أجرى عليهم أرزاقهم فى كلّ شهر، وأوفّيهم أعطياتهم فى كلّ سنة، وآمر لهم من المعاون كلّ سنة بمثل الأعطيات، قطع أرضه الخوارج إلىّ، وقد أزحت علّته، وقد أمددته بالرجال، وقوّيتهم، والله، لو قاتلهم ثمّ فرّ لكان أعذر له عندي، وإن كان الفارّ غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل.» إقبال الخوارج وعليهم الزبير وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير [274] بن الماحوز حتّى نزلوا الأهواز. فأتتهم عيونهم أنّ عمر بن عبيد الله فى أثرهم، وأنّ مصعبا قد خرج من البصرة. فقام الزبير خطيبا وقال بعد حمد الله: - «أما بعد، فإنّ من سوء الرأى والحين وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدوّنا، فلنلقهم من وجه واحد.» فسار بهم حتّى قطع بهم الأرض إلى جوخى، ثمّ أخذ على النهر وانات، ثمّ لزم شاطئ دجلة حتّى خرج على المدائن، فشنّ بها الغارات، وقتل الولدان والنساء والرجال، وبقربطون الحبالى. وانتهوا إلى ساباط، ففعلوا ذلك، وقتلوا نباتة [1] بنت أبى يزيد بن عاصم الأزدىّ، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت قرأت القرآن، وهي أفصح امرأة، غشوها [2] بالسيف، قالت: - «ويحكم هل سمعتم بأنّ الرجال كانوا يقتلون النساء؟ ويحكم، هل سمعتم بقتل امرأة؟ ويحكم أتقتلون من لا يبسط إليكم يدا ولا يريد بكم ضرّا، ولا يملك لنفسه نفعا؟ أتقتلون من يُنَشَّؤُا في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ 43: 18؟ [3] » فقال رجل منهم:   [1] . نباتة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 756) : بنانة. [2] . غشوها: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل عشوها. غشيه بالسوط: ضربه. [3] . س 43 الزخرف: 18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 - «لو تركتموها!» فقال له آخر: - «أعجبك جمالها [275] يا عدوّ الله! كفرت وافتتنت.» وانصرف الآخر عنه وتركهم، قال: فظننّا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها. خروج الحارث بن أبى ربيعة من الكوفة ومعه ابن الأشتر ثمّ إنّ الناس بالكوفة أتوا الحارث بن أبى ربيعة، فصاحوا إليه وقالوا: - «اخرج، فإنّ هذا عدوّنا قد أظلّ علينا.» فتقاعد إلى أن أكثروا الصياح فخرج حتّى نزل النخيلة، فأقام بها أياما. فوثب إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أما بعد، فإنّه قد سار إلينا عدوّ ليست له بقيّة، يخيف السبل ويخرّب البلاد، فانهض بنا إليه.» فأمر بالرحيل، فخرج حتّى نزل دير عبد الرحمان، فأقام فيه حتّى دخل شبث بن ربعىّ، فكلمه بنحو ما كلّمه به ابن الأشتر، فارتحل، ولم يكدّ، فرجز به الناس وكان يلقّب بالقباع: سار بنا القباع سيرا نكرا ... يسير يوما ويقيم شهرا فأشخصوه من ذلك المكان. فكلّما نزل بهم منزلا أقام، يصيح [1] به الناس وينادونه حول فسطاطه. فلم يبلغ الصراة إلّا فى بضعة عشر يوما وقد انتهى إليها [2] طلائع العدوّ، وأوائل الخيول. فلما أتتهم العيون بأن جماعة أهل [276]   [1] . يصيح: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 759) : يضجّ. [2] . إليها: كذا فى الأصل. وما فى مط: إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 المصر قد أتوهم [1] قطعوا الجسر بينهم وبين الناس. فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث بن أبى ربيعة: - «اندب معى الناس حتّى أعبر إلى هؤلاء الأكلب فأجيئك برؤوسهم.» فقال شبث بن ربعىّ، وأسماء بن خارجة، ومحمد بن عمير: - «أصلح الله الأمير، دعهم، فليذهبوا، لا تبدأ بهم.» وكانوا حسدوا إبراهيم بن الأشتر. فلما أتت أيّام اجتمع الناس فقالوا: - «يا أيها الأمير، ما قعودنا بهذا الجسر، فليعد، ثمّ اعبر بنا إليهم، فإنّ الله سيريك ما تحبّ.» فأمر بالجسر، فأعيد وعبر الناس إليهم، فطاروا إلى المدائن، فتبعهم المسلمون، فخرجوا، فأتبعهم الحارث بن أبى ربيعة، عبد الرحمان بن مخنف فى ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا فى أرض البصرة خلّاهم، فاتبعهم حتّى وقعوا فى أرض البصرة، ثمّ وقعوا إلى إصبهان، فانصرف عنهم من غير قتال [2] ، ومضوا حتّى نزلوا بعتّاب بن ورقاء بجىّ، وحاصروه. فكان يخرج إليهم فيقاتلهم ولا يطيقهم. وكانت إصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب الزبير، فبعث عتّابا، فصبر لهم عتّاب، فكان يقاتلهم على باب المدينة، ويرمون [277] من السور النشّاب والحجارة. فلما طال الحصار ونفدت الأطعمة هلك كراعهم وأصابهم الجهد الجهيد. ذكر رأى لعتّاب بن ورقاء صحيح فدعاهم عتّاب بن ورقاء، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:   [1] . أتوهم: فى الأصل ومط: أتاهم. وهو خطأ كما لا يخفى. [2] . والعبارة فى الطبري (8: 761- 762) : فأتبعهم الحارث بن أبى ربيعة عبد الرحمان بن مخنف، فى ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا فى أرض البصرة خلّاهم، فاتبعهم حتّى إذا خرجوا من أرض الكوفة إلى أصبهان انصرف [فانصرف- الحاشية] عنهم ولم يقاتلهم، ولم يكن بينه وبينهم قتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 - «أما بعد، أيها الناس، فإنّه قد أصابكم من الجهد ما ترون. فو الله، إن بقي إلّا أن يموت أحدكم على فراشه، فيحيى أخوه فيدفنه إن استطاع. وبالحرىّ أن يضعف عن ذلك، ثمّ يموت هو، فلا يجد من يدفنه ولا يصلّى عليه، فاتقوا الله، فو الله ما أنتم بالقليل الذي تهون شوكتهم، وإنّ فيكم لفرسان أهل المصر وإنكم لصلحاء من أنتم منه. اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم، وبنا حياة وقوّة، قبل أن لا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته. فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فو الله إنّى لأرجو، إن صدقتموهم، أن يظفركم الله بهم.» فناداه الناس من كلّ جانب: - «وفّقت وأصبت، اخرج بنا إليهم.» فجمع إليه الناس من الليل، وأمر لهم بعشاء كثير، فتعشّى الناس عنده. [278] ثمّ إنه خرج بهم حتّى أصبح على راياتهم، فصبّحهم فى عسكرهم، وهم آمنون أن يؤتوا فى عسكرهم، فأخلوا لهم حتّى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فقاتل فى عصابة نزلوا معه حتّى قتل. وانحازت الأزارقة إلى قطرىّ، فبايعوه، فمشوا إلى قطرىّ مصلتين للسيوف، فارتحلوا منهزمين، فكان آخر العهد بهم. ذكر رأى رءاه الأحنف للخوارج وهو يعدّ من سقطاته يقال: إنّ الخوارج دسّوا إلى الأحنف من جلس إليه، وذاكره بهم، فقال: - «إنّ هؤلاء إن ركبوا بنات سحّاج، وقادوا بنات صهّال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحرىّ أن يبقوا.» فلما بلغ ذلك قطريّا، ذهب وخلّاهم، ومضى نحو كرمان، فأقام بها حتّى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض، واجتبى المال، وقوى، ثمّ أقبل حتّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 أخذ فى أرض إصبهان، ثمّ خرج من شعب ناشط إلى إيذج [1] وأرض الأهواز، والحارث بن أبى ربيعة عامل مصعب على البصرة. فكتب إلى مصعب: - «قد تحدّرت الخوارج إلى الأهواز، وليس لهم إلّا المهلّب.» فبعث [279] إلى المهلّب، وهو على الجزيرة والموصل وأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر. وجاء المهلّب حتّى قدم البصرة، وانتخب الناس وسار بمن أحبّ. ثمّ توجّه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتّى التقوا بسولاف [2] ، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشدّ قتال يكون. ذكر توبيخ للخوارج المهلّب على طريق المكيدة ثمّ إنه بلغهم أنّ مصعبا قد قتل، ونحن نذكر خبره فى ما بعد، وذلك قبل أن يبلغ المهلّب وأصحابه. فناداهم الخوارج: - «ألا تخبروننا ما قولكم فى مصعب؟» قالوا: - «إمام هدى.» قالوا: - «هو وليّكم فى الدنيا والآخرة.» قالوا: - «نعم.» قالوا: - «وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا.» قالوا: - «نعم.» قالوا: - «فما قولكم فى عبد الملك بن مروان؟» قالوا: - «ذاك ابن اللعين نحن منه برآء إلى الله، هو عندنا أحلّ دما منكم» قالوا: - «فأنتم منه برآء فى الدنيا والآخرة.» قالوا:   [1] . إيذج: لا نقط فى الأصل ومط، فضبطناه حسب الطبري (8: 764) . [2] . بالضم، ثمّ السكون، وآخره فاء: قرية على غربىّ دجيل من أرض خوزستان قرب مناذر الكبرى (مراصد الاطلاع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 - «نعم، كبرائنا منكم.» قالوا: - «وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا.» قالوا: - «نعم، كعداوتنا لكم.» قالوا: - «فإنّ إمامكم مصعبا قتله عبد الملك، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك [280] إمامكم، وأنتم اليوم تبرّأون منه وتلعنونه.» قالوا: - «كذبتم يا أعداء الله.» فلما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب، فبايع المهلّب الناس لعبد الملك بن مروان. فأتتهم الخوارج فقالوا لهم: - «ما تقولون فى مصعب؟» قالوا: - «يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه.» قالوا: - «فقد أخبرتمونا أمس أنه وليّكم فى الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم فى عبد الملك؟» فقالوا: - «ذاك إمامنا وخليفتنا.» ولم يجدوا- إذ بايعوه- من أن يقولوا هذا القول بدّا. فقالت لهم الأزارقة: - «يا أعداء الله أنتم أمس تبرّأون منه فى الدنيا والآخرة، وتلعنونه، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم. وقد قتل إمامكم الذي كنتم تولّونه، فأيهما المحقّ، وأيهما المبطل، وأيهما المهتدى، وأيّهما الضالّ!» فقالوا لهم: - «يا أعداء الله، رضينا بذاك، إذ كان يلي أمورنا، ونرضى بهذا، كما كنّا رضينا بذاك.» قالوا: - «لا والله، ولكنّكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا.» وتشاتموا. ذكر مسير عبد الملك إلى مصعب [281] كان لا يزال عبد الملك يخرج من دمشق ومصعب من الكوفة. فإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 تدانيا، هجم الشتاء، فانصرف كلّ واحد إلى مكانه حتّى إذا كان سنة تسع وستين- وقد قيل سنة سبعين- خرج عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق: - «إنّك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى هذا، جاهدت معه وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لى هذا الأمر من بعدك.» فلم يجبه إلى شيء من ذلك. فانصرف عمرو إلى دمشق، فغلب عليها. ورجع عبد الملك فى أثره وإنّ عمرا اجتمع الناس إليه، فصعد المنبر فخطبهم، وقال بعد حمد الله والثناء عليه: - «أيها الناس إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر، إلّا زعم أنّ له جنّة ونارا يدخل الجنّة من أطاعه، والنار من عصاه. وإنى أخبركم أنّ الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إلىّ من ذلك شيء. غير أنّ لكم علىّ حسن المواساة والعطيّة.» ثمّ إنّ عبد الملك وعمرا اقتتلا أياما على باب دمشق [282] وتأدّى الأمر بينهما إلى الموادعة والصلح، وكتبا بينهما كتابا وآمنه عبد الملك. فيقال: إنّ عمرو بن سعيد جاء فى خيل متقلّدا قوسا، وأقبل حتّى أوطأ فرسه سرادقات عبد الملك، فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو: - «يا با أمية، كأنك تشبّه بتقلّدك هذه القوس بهذا الحىّ من قيس.» فقال: - «لا، ولكنّى أتشبّه بمن هو خير منهم: العاص بن أمية.» ثمّ قام مغضبا والخيل معه حتّى دخل دمشق، ودخل عبد الملك أيضا دمشق. فبعث إلى عمرو أن: - «أعط الناس أرزاقهم.» فأرسل إليه عمرو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 - «إنّ هذا ليس لك ببلد، فاشخص عنه.» ذكر استهانة بعدوّ عادت بهلكة فلما كان بعد أيام، بعث إلى عمرو أن: - «ايتنى أخاطبك.» فلما أتى رسوله عمرا يدعوه، صادف الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو: - «يا با أمية، لأنت أحبّ إلىّ من سمعي وبصرى، وقد أرى هذا الرجل بعث إليك أن تأتيه، وأنا أرى لك ألّا تفعل.» فقال عمرو: - «ولم؟» قال: - «لأنّه يقال: إنّ عظيما من ولد [283] إسماعيل يغلق أبواب دمشق، ثمّ يخرج منها، فلا يلبث إلّا أن يقتل.» فقال له عمرو: - «والله لو كنت قائما ما تخوّفت أن لا ينبّهنى [1] ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك منّى.» رواح عمرو إلى عبد الملك وما جرى عليه وقال عمرو للرسول: - «أبلغه عنّى السلام وقل له: أنا رائح إليك العشيّة.» فلما كان العشىّ، لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهىّ وقميص، وتقلّد سيفه. فلما نهض متوجّها عثر بالبساط، فقال حميد: - «أما والله لئن أطعتنى لم تأته.»   [1] . أن ينبهنى: كذا فى الأصل والطبري (8: 786) . وما فى مط: يهنى وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت ومضى فى مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بنى مروان، فاجتمعوا عنده. فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب، أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له. فدخل ولم يزل أصحابه يحبسون عند كلّ باب حتّى دخل عمرو قعر الدار وليس معه إلّا وصيف له. فرمى عمرو ببصره، فإذا حوله بنو مروان وفيهم حسّان بن بحدل الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي. فلما رأى جماعتهم أحسّ بالشرّ، فالتفت إلى وصيفه، فقال: - «انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد يعنى أخاه، فقل له يأتنى.» [284] فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له: - «لبّيك.» فقال له: - «اغرب فى حرق الله وناره.» وقال عبد الملك لحسّان وقبيصة: - «إذا شئتما، فقوما فالتقيا وعمرا [1] فى الدار.» فقال عبد الملك لهما كالممازح: - «ليطمئنّ عمرو! أيّكما أطول؟» فقال حسّان: - «قبيصة أطول منّى يا أمير المؤمنين بالإمرة.» وكان قبيصة على الخاتم. ثمّ التفت عمرو إلى وصيفه، فقال: - «انطلق إلى يحيى، فمره أن يأتينى.» فقال له: - «لبّيك.» ولم يفهم عنه. فقال له عمرو: - «اغرب عنّى.»   [1] . ما فى الأصل ومط وفى هامش الطبري: «وعمرو» . فأثبتناه كما فى الطبري (8: 787) : وعمرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 فلما خرج حسّان وقبيصة، أمر بالأبواب فأغلقت، ودخل عمرو، فرحّب به عبد الملك، وقال: - «ها هنا يا با أمية رحمك الله.» فأجلسه معه على السرير وجعل يحدّثه طويلا ثمّ قال: - «يا غلام خذ السيف عنه.» فقال عمرو: - «إنّا لله، يا أمير المؤمنين.» فقال عبد الملك: - «أو تطمع أن تجلس معى متقلّدا سيفك!» فأخذ السيف عنه، ثمّ تحدّثا ما شاء الله، ثمّ قال له عبد الملك: - «يا با أمية!» فقال: - «لبّيك يا أمير المؤمنين!» فقال: - «إنّك حيث خلعتنى آليت بيمين أنى إن ملأت عيني منك وأنا مالك لك، أن أجمعك فى جامعة.» فقال له بنو مروان: - «ثمّ تطلقه [285] يا أمير المؤمنين؟» قال: - «ثمّ أطلقه. وما عسيت أن أصنع بأبى أميّة.» فقال بنو مروان: - «أبرّ قسم أمير المؤمنين.» قال عمرو: - «فإنّى أبرّ قسم أمير المؤمنين.» فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثمّ قال: - «يا غلام قم فاجمعه فيها.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 فقام فجمعه فيها، فقال عمرو: - «أذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس.» فقال عبد الملك: - «أمكرا يا با أمية وأنت فى الحديد! لا ها الله، ما كنّا لنخرجك فى جامعة على رؤوس الناس ولا نخرجها منك إلّا صعدا [1] .» ثمّ اجتبذه اجتباذة أصاب فمه منها السرير فكسر ثنيّته. فقال عمرو: - «أذكّرك الله يا أمير المؤمنين، أن يدعوك كسر عظم منّى إلى أن تركب ما هو أعظم منه.» فقال له عبد الملك: - «والله لو أعلم أنّك تبقّى علىّ أو تفي لى وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان فى بلدة على مثل ما نحن عليه إلّا أخرج أحدهما صاحبه.» فلما رأى عمرو ما يريد قال: - «أغدرا يا بن الزرقاء؟» وأذّن المؤذّن العصر، فخرج عبد الملك يصلّى بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان بقتله. فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال: [286] له عمرو: - «أذكّرك الله والرحم، دعني يتولّ قتلى من هو أبعد رحما منك.» فألقى عبد العزيز السيف، وجلس وصلّى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل وغلّقت الأبواب. ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل فى الناس حتّى حلّ بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو وأناس من أصحابه كثير، فجعل من معه يصيحون: - «أسمعنا صوتك يا با أمية!»   [1] . صعدا: كذا فى الأصل. وفى مط: سعيدا. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وأقبل مع يحيى جماعة فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، فضرب الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربىّ صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس. ولما دخل عبد الملك داره وجد عمرا حيّا بعد. فقال لعبد العزيز: - «ما منعك من قتله؟» قال: - «إنّه ناشدني الله والرحم، فرققت له.» فقال عبد الملك: - «أخزى الله أمّك البوّالة على عقبها [1] فإنّك لم تشبه غيرها.» ولم يكونا من أم واحدة. ثمّ قال عبد الملك: - «يا غلام ائتني بالحربة.» فأتاه بها فهزّها، ثمّ طعنه بها [287] فلم تجزّ [2] ، ثمّ ثنّى فلم تجزّ. فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مسّ الدرع، فضحك، ثمّ قال: - «ودارع أيضا إن كنت لمعدّا. يا غلام ايتني بالصمصامة.» فأتاه بسيفه، ثمّ أمر بعمرو، فصرع وجلس على صدره، فذبحه وهو يقول: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني وانتفض عبد الملك رعدة فوضع على سريره. ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بنى مروان، فخرجوا هم ومن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه. وقام عبد العزيز، فأخذ المال فى البدور، وجعل   [1] . عقبها: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 790) : عقبيها. [2] . فلم تجزّ (فى كلا الموضعين) : كذا فى الأصل. وما فى مط: لم تجز. وفى الطبري: لم تجز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 يلقيها إلى الناس. فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا رأس عمرو، وكان ألقى إليهم، تفرّقوا وانتهبوا المال. ثمّ أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال، فجبيت حتّى عادت كلّها إلى بيت المال. وفقد عبد الملك ابنه الوليد، فجعل يقول: - «ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم.» فأتاه إبراهيم بن عربىّ، وقال: - «هذا الوليد عندي ليس به [288] بأس.» ثمّ أتى عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر بقتله، فقام إليه عبد العزيز فقال: - «جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين. أتراك قاتلا بنى أمية فى يوم واحد؟» فأمر به فحبس. وأتى عبد الملك بجماعة منهم فحبسهم [1] ، وكان همّ بقتلهم، فأشير عليه أن يسيّرهم إلى عدوّه، فإن هم قتلوا، كفى أمرهم، وإن سلموا رأيت رأيك، ولا يكون قد آثرت على نفسك قوما هم اليوم معك. فألحقهم بمصعب. فلما قدموا عليه ودخل إليه يحيى بن سعيد، قال له ابن الزبير: - «أفلتّ وانحصّ الذنب [2] .» فقال: - «والله إنّ الذنب لبهلبه [3] .» ذكر سبب العداوة والشحناء بين عبد الملك وبين عمرو بن سعيد كان الشرّ بينهما قديما، لأنّ ابني سعيد وابني مروان أعنى: محمد بن سعيد   [1] . أنظر الطبري (8: 792) . [2] . انحصّ: انقطع. وذلك مثل يضرب لمن يشرف على الهلكة، ثمّ يفلت منها. [3] . الهلب: الشعر كلّه، أو: ما غلظ منه وخشن كشعر ذنب الناقة، أو: شعر الذنب وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وعمرو بن سعيد، ومعاوية بن مروان، وعبد الملك بن مروان، كانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أمّ مروان بن الحكم الكنانيّة يلعبون عندها. فكانت تصنع لهم الطعام، ثمّ تأتيهم به وتضع بين يدي كلّ واحد صحفة على حدة، ثمّ تؤرّش [1] بين معاوية [289] بن مروان وبين محمد بن سعيد وبين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد، فيقتتلون، وربما تصارموا الحين لا يكلّم بعضهم بعضا. فكان ذلك دأبهما كلّما أتوها حتّى ثبتت الشحناء فى صدورهم على الصبى، ثمّ نشأت تلك العداوة معهما. فذكر أنّ خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: - «عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرّته فقتلته!» فقال عبد الملك: أدنيته منّى ليسكن ذعره ... فأصول صولة حازم مستمكن ثمّ إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد. فلما نظر إليهم عبد الملك، قال: - «إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون أنّ لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإنّ الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما فى أنفس أوّليكم على أوّلينا فى الجاهليّة.» فأقطع بأميّة بن عمرو وكان أكبرهم سنّا وأنبلهم وأعقلهم، فلم يتكلّم بشيء. فقام سعيد بن عمرو، وكان الأوسط، فقال: [290]   [1] . أرّش بينهم: أفسد، وأغرى بعضهم ببعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 ذكر كلام نفع عند سلطان حقود [1] - «يا أمير المؤمنين، ما تبغى علينا أمرا كان فى الجاهليّة، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا. فأما الذي بينك وبين عمرو، فإنّ عمرا ابن عمّك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى ربّه وكفى بالله حسيبا. ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها.» فرقّ لهم عبد الملك رقّة شديدة، وقال: - «إنّ أباكم خيّرنى بين أن أقتله أو يقتلني، فاخترت قتله على قتلى. فأما أنتم فما أرغبنى فيكم، وأوصلنى لقرابتكم، وأرعانى [2] لحقّكم!» فأحسن جائزتهم. مسير عبد الملك إلى العراق لحرب مصعب ثمّ سار عبد الملك من الشام إلى العراق لحرب مصعب وذلك فى سنة سبعين. وكان قال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد: - «إن وجّهتنى إلى البصرة مستخفيا فى موالىّ وأتبعتني خيلا يسيرة، رجوت أن أغلب لك عليها.» فأنفذه عبد الملك. فقدمها فى مواليه، ونزل [291] على عمرو بن أصمع، ولم يتمّ له ما أراد، وعلم به، فهرب بعد أن أثار فتنة، وقاتل مدّة. وبادر مصعب إلى البصرة، فوجد خالدا قد خرج بمن معه، فأتبعه بخداش بن يزيد، فأدرك مرّة بن محكان، فأخذه وقتله. وكتب عبد الملك إلى المروانيّة من أهل العراق، فأجابه كلّهم، وشرط كلّ واحد   [1] . كذا فى الأصل: «فقال:» ثمّ العنوان، ثمّ «يا أمير المؤمنين» . [2] . أرعانى: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أرجانى. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 ولاية إصبهان، فأنعم بها لهم. منهم: حجّار بن أبجر، وعتّاب بن ورقاء، والغضبان بن القبعثرى، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وغيرهم. وسار عبد الملك وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار مصعب وقد خذله أهل الكوفة، وأشار رؤساء أهل الشام على عبد الملك أن يقيم ويقدّم الجيوش، فطن ظفروا، فذاك. وإن لم يظفروا أمدّهم بالجيوش خشية على الناس، وإن أصيب فى لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك. فقال عبد الملك: - «لا يقوم بهذا الأمر إلّا قرشىّ له رأى، ولعلّى أبعث من له شجاعة وليس له رأى، وإنّى أجد فى نفسي [292] أنّى بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجيت إليه، ومصعب فى بيت شجاعة، أبوه شجاع قريش وهو شجاع ولا علم له بالحرب، ومعه من يخالفه، ومعى من ينصح لى.» فسار عبد الملك حتّى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا [1] ، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال له مصعب: - «ما فيه؟» قال: - «ما قرأته.» فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: - «إنّه والله ما كان أحد آيس منه منّى. ولقد كتب إلى أصحابك كلّهم بمثل ما كتب إلىّ. فأطعنى فيهم واضرب أعناقهم.» قال: - «إذا لا يناصحنا عشائرهم.» قال:   [1] . فى الأصل غير واضح. وفى مط: يا حمرا. فأثبتنا ما فى الطبري (8: 805) : باجميرا. وفى حاشيته عن الأصول: با حميرا، با خميرا، با حميراء، با خميراء. قال ياقوت: باجميرى موضع دون تكريت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 - «فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت، ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم.» فقال: - «يا با النعمان، أنا لفى شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذّرنى غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه.» وتمثّل مصعب: وإنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم ... تأسّوا [1] ، فسنّوا للكرام التأسّيا [293] فعلم الناس أنه قد استقتل. مقتل إبراهيم الأشتر ولمّا تدانى العسكران تقدّم إبراهيم بن الأشتر، فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، وهرب، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد بن معاوية، والتقى القوم، فقتل إبراهيم بن الأشتر، وقتل مسلم بن عمرو الباهلىّ، وهرب عتّاب بن ورقاء، وكان على الخيل مع مصعب. فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثىّ: - «أبا عثمان قدّم خيلك.» قال: - «ما أرى ذلك.» قال: - «ولم؟» قال: - «أكره أن تقتل مذحج فى غير شيء.» فقال لحجّار بن أسيد: - «قدّم رايتك.» قال:   [1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 804) : تأسّوا ... التأسّيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 - «إلى هذه العذرة؟» قال: - «ما تتأخّر إليه، والله أنتن وألأم.» وقال لعبد الرحمان بن سعيد بن قيس مثل ذلك. فقال: - «ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله.» فقال مصعب: - «يا إبراهيم، ولا إبراهيم لى اليوم.» ولما أخبر ابن خازم وهو بخراسان مسير مصعب إلى عبد الملك، قال: - «أمعه عمر بن عبيد الله؟» قيل: - «لا، استعمله على فارس.» قال: - «أمعه [1] المهلّب؟» قيل: - «استعمله على الموصل.» قال: - «أمعه عبّاد بن الحصين؟» قيل: - «لا، استخلفه على البصرة.» فقال: - «وأنا بخراسان.» ثمّ تمثّل: [294] خذينى، فجرّينى ضباع [2] وأبشرى ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره وقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب: - «يا بنىّ اركب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فإنّى مقتول.» وأخبره بما صنع أهل العراق. فقال ابنه:   [1] . وفى مط: أفمعه. [2] . ضباع: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 807) : جعار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 - «والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الجماعة، أو [الحق] [1] بأمير المؤمنين.» فقال مصعب [2] : - «لا والله، لا أفرّ، ولكن أقاتل. فلعمرى ما السيف بعار وما الفرار لى بعادة.» مقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى بن مصعب ثمّ أرسل عبد الملك إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان: - «إنّ ابن عمّك يعطيك الأمان.» فقال مصعب: - «إنّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلّا غالبا أو مغلوبا.» فلما أبى مصعب قبول الأمان، نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال: - «يا بن أخى، لا تقتل نفسك، لك الأمان.» فقال له مصعب: - «قد آمنك عمّك، فامض إليه.» قال: - «لا تحدّث نساء قريش أنّى أسلمتك [للقتل] [3] .» وتقدّم بين يدي مصعب، فقاتل حتّى قتل. وأثخن مصعب، ونظر إليه زائدة بن قدامة، فشدّ عليه، فطعنه، وقال:   [1] . ما بين [] تكملة من الطبري. [2] . وما فى الطبري (8: 807) : قال مصعب: والله لا تتحدّث قريش أنى فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتّى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل. فإن قتلت فلعمرى ما السيف بعار، وما الفرار لى بعادة ولا خلق ولكن إن أردت أن ترجع فارجع. فرجع فقاتل حتّى قتل. [3] . ما بين [] تكملة من الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 - «يا لثارات المختار.» فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتزّ رأسه، فأتى به [295] عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فأبى أن يأخذه، وقال: - «إنّى لم أقتله على طاعتك. إنما قتلته على وتر صنعه بى.» يعنى بذلك أخاه، لأنّ مصعبا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بنى نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ وضرب النميري بالسياط وتركه. وحدّث ابن عباس عن أبيه قال: إنّا لوقوف مع عبد الملك وهو يحارب مصعبا إذ دنا منه زياد بن عمرو، فقال: - «يا أمير المؤمنين، إنّ إسماعيل بن طلحة كان لى جار صدق، وقلّ ما أرادنى مصعب بسوء إلّا دفعه عنّى. فإن رأيت أن تؤمنه على دمه.» قال: - «وهو آمن.» فمضى زياد، وكان ضخما وعلى ضخم حتّى صاح بين الصفّين: - «أين أبو النحترى [1] إسماعيل بن طلحة؟» فخرج إليه. فقال: - «إنّى أريد أن أذكر لك شيئا.» فدنا حتّى اختلفت أعناق دوابّهما، وكان الناس يتنطّقون بالحواشى [2] المحشوّة. فوضع زياد يده فى منطقة إسماعيل، ثمّ اقتلعه عن سرجه وكان نحيفا، فقال: - «أنشدك الله يا أبا المغيرة، فإنّ هذا ليس بالوفاء لمصعب.» فقال: - «هذا أحبّ إلىّ لك من أن أراك غدا مقتولا.» ولما قتل مصعب [296] وابنه عيسى، قال عبد الملك:   [1] . النحترى: كذا فى الأصل. وفى مط: النحرى. وما فى الطبري (8: 808) : البختري. [2] . بالحواشى: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: الجواشن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 - «واروه، فقد كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكنّ هذا الملك عقيم.» وكان عبد الملك ومصعب يتحدّثان إلى حبّى، وهما بالمدينة. فلمّا قيل لها: قتل مصعب، قالت: - «تعس قاتله.» قيل: - «فإنّما قتله عبد الملك.» قالت: - «بأبى القاتل والمقتول.» وقد روى أنّ مقتل مصعب والحرب بينه وبين عبد الملك كان فى سنة اثنتين وسبعين. ومن المقامات المشهورة مقام [1] تقدّم فيه رجل بالأدب لمّا دخل عبد الملك الكوفة، وجاءته القبائل تبايعه، خاطب كلّا بما بسطه حتّى تقدّم إليه عدوان. قال معبد بن خالد الجدلي: فقدّمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخّرت ومعبد كان دميما. فقال عبد الملك: «من؟» فقال الكاتب: «عدوان.» فقال عبد الملك: غدير الحىّ من عدوا ... ن كانوا حيّة [2] الأرض بغى بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض [297]   [1] . فى الأصل: ومن المقامات المشهورة «ذكر» مقام تقدم فيه رجل بالأدب فحذفنا كلمة «ذكر» . وما فى مط: بدون «ذكر» . [2] . فى الأصل: حيّة، كما فى الطبري (8: 815) وما فى مط: جنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض ثمّ أقبل على الرجل، فقال: - «إيه.» فقال: - «لا أدرى.» فقلت من خلفه: ومنهم حكم يقضى ... فلا ينقض ما يقضى ومنهم من يجيز الحج ... ج [1] بالسنّة والفرض وهم من ولدوا أشبوا [2] ... بسرّ الحسب المحض قال: فتركني عبد الملك، ثمّ أقبل على الجميل فقال: - «من يقول هذا؟» قال: - «لا أدرى.» فقلت من خلفه: - «ذو الإصبع.» - «فأقبل على الجميل، فقال: - «لم سمّى ذا الإصبع؟» فقال: - «لا أدرى.» فقلت من خلفه [3] : - «لأن إصبعه قطعت يوم الكلاب. [4] »   [1] . الحجّ: كذا فى الأصل. فككنا الإدغام فى إثبات البيت، لكون مفصل المصراعين بين الجيمين. [2] . من ولدوا أشبوا: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (8: 815) : مذ ولدوا شبّوا. أشبى الرجل: ولد له ولد ذكى، فهو مشبىّ ومشب. [3] . فى مط: من خلقه (بالقاف!) وهو خطأ تكرر فى المواطن الآتية أيضا. [4] . الضبط من الأصل: الكلاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 فقال للجميل: - «وما اسمه؟» فقال: - «لا أدرى.» فقلت من خلفه: - «حرثان بن الحارث.» فأقبل على الجميل فقال: - «من أيّكم كان؟» قال: - «لا أدرى.» فقلت من خلفه: - «من بنى تاج» ، وهو يقول: أبعد بنى تاج وسعيك بينهم ... فلا تتبعن [1] عينيك من كان هالكا إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ... يقول وهيب: لا أصالح ذلكا [298] فأضحى كظهر العير جبّ سنامه ... يطيف به الولدان أحدب باركا ثمّ أقبل على الجميل، فقال: - «كم عطاؤك؟» فقال: - «سبعمائة.» وقال لى: - «فى كم أنت؟» قلت: - «فى ثلاثمائة.» فأقبل على الكاتبين فقال: - «حطّا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها فى عطاء هذا.»   [1] . فلا تتبعن: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: فلا تبتغى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 فرجعت وأنا فى سبعمائة وهو فى ثلاثمائة. ثمّ فرّق عبد الملك عمّاله ولم يف لأحد شرط عليه ولاية إصبهان. وفى هذه السنة، وجّه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير. توجيه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير وكان السبب فى توجيه دون غيره أنّ عبد الملك لمّا أراد الرجوع إلى الشام، قام الحجاج بن يوسف، فقال: - «يا أمير المؤمنين، إنّى رأيت فى منامي أنى أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولّنى قتاله.» فبعثه فى جيش من أهل الشام كثيف. فخرج ولم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، وكان يبعث البعوث فيقتتلون هناك. فكلّ ذلك تهزم خيل ابن الزبير، وترجع خيل الحجّاج بالظفر. ثمّ كتب الحجّاج إلى عبد الملك [299] يستأذنه فى دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أنّ شوكته قد كلّت وتفرّق عنه أصحابه. فأذن له. وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند، بالحجّاج وكان بالبصرة واليا عليها. فسار فى خمسة آلاف من أصحابه حتّى لحق بالحجّاج وذلك فى شعبان سنة اثنتين وسبعين. حصر ابن الزبير ومقتله لما دخل ذو القعدة، رحل الحجّاج من الطائف حتّى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير، وقدم عليه طارق لهلال ذى الحجّة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب، إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه فى هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة. وحجّ الحجّاج بالناس فى هذه السنة، ثمّ حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، ونصب المجانيق على البيت. فلما رمى البيت رعدت السماء وعلا صوت الرعد والبرق صوت الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم. فرفع الحجّاج برقة [1] قبائه فغرزها فى منطقته، ورفع الحجر فوضعه فى المنجنيق، ثمّ مدّه وقال لأصحابه: - «ارموا!» [300] ورمى معهم. فلما أصبحوا جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا. فانكسر أهل الشام، فقال الحجّاج: - «يا قوم، لا تنكروا ذلك، فإنّى ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضرنا، فأبشروا، إنّ القوم سيصيبهم مثل ما أصابكم.» فصعقت من الغد، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجّاج: - «ألا ترون أنهم قد أصيبوا وأنتم على الطاعة وهم على الخلاف؟» فتفرّق عامّة من كان مع الزبير، وخرجوا إلى الحجّاج فى الأمان حتّى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان فى من خرج إلى الحجّاج فى الأمان حتّى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان فى من خرج إلى الحجّاج ابنا عبد الله ابن الزبير: حمزة وخبيب، بعد أن أخذا أمانا لأنفسهما. فدخل على أمّه أسماء بنت أبى بكر، فقال: ما قالته لابن الزبير أمّه أسماء بنت أبى بكر «يا أمّه، قد خذلنى الناس حتّى ولدي وأهلى، فلم يبق إلّا اليسير، من ليس   [1] . فى الأصل: برقّة (برقّة؟) . وفى مط: ترقة. وفى الطبري (8: 845) : بركة وفى حواشيه: برقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 عنده من الدفع إلّا صبر ساعة. والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟» فقالت: - «أنت والله يا بنىّ أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك تلعّب [1] بها غلمان بنى أميّة، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت [301] نفسك، ومن قتل معك. فإن قلت: إنّى كنت على حقّ، فلما وهن أصحابى، ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك فى الدنيا؟ القتل أحسن.» فدنا ابن الزبير، فقبّل رأسها، وقال: - «هذا رأيى، ولكنّى أحببت أن أعلم رأيك، فزدينى بصيرة، فانظرى يا أمّه، إنّى مقتول من يومى هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر فى حكم، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد. اللهمّ، إنّى لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن تعزية لأمّى لتسلو عنّى.» فقالت أمّه: - «إنّى لأرجو أن يكون عزائى فيك حسنا. اخرج، حتّى أنظر إلى ما يصير أمرك.» قال: - «يا أمّه، لا تدعى لى الدعاء قبل وبعد.» قالت: - «لا أدعه أبدا.» ثمّ قالت: - «اللهمّ ارحم طول ذلك القيام فى الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ فى هواجر المدينة ومكّة وبرّه بأبيه وبى. اللهمّ إنى قد أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فائتني فى عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين.» ثمّ دنا عبد الله فقبّلها، فقالت:   [1] . وفى مط: تتلعّب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 - «هذا وداع فلا تبعد.» وكان [302] عليه الدرع. فلمّا عانقها وجدت مسّ الدرع، فقالت: - «ما هذا صنيع [1] من يريد ما تريد.» قال: - «ما لبسته إلّا لأشدّ منك.» قالت: - «فإنّه لا يشدّ منّى.» - فنزعها، ثمّ أدرج كمّيه، وأدخل أسفل قميصه وجبّة خزّ عليه فى أسفل المنطقة، وهو يقول: إنّى إذا أعرف يومى أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثمّ ينكر قال بعضهم: والله لقد رأيت ابن الزبير يخرج وقد كثره الناس، فيحمل فلا يبقى بين يديه أحد، وينهزم الناس، فيقف بالأبطح ما يدنو منه أحد، حتّى ظننت أنّه لا يقتل. وكان الحجّاج وطارق بن عمرو جميعا فى ناحية الأبطح إلى المروة والبابين، لكلّ طائفة منهم باب. فمرّة يحمل عبد الله بن الزبير فى هذه الناحية ومرّة فى هذه الناحية ولكأنّه أسد فى أجمة، ما يقدم عليه الرجال فيعدو فى أثرهم، ثمّ يصيح: - «أبا صفوان، ويل أمّة فتحا لو كان له رجال، لو كان قرني واحدا كفيته.» فقال أبو صفوان:   [1] . وفى مط: صنع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 - «إى والله وألف.» فلما كان يوم الثلاثاء، وقد أخذت علينا الأبواب، أذّن المؤذّن فصلّى بأصحابه، وقرأ ن وَالْقَلَمِ 68: 1 [1] [303] حرفا حرفا، ثمّ سلّم وقام وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «اكشفوا وجوهكم حتّى أنظر.» وعليهم المغافر والعمائم. فكشفوا وجوههم فقال: - «يا آل الزبير، لو طبتم لى نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا، لم تصبنا ربّانيّة [2] . أما بعد، يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإنى لم أحضر موطنا قطّ إلّا ارتثثت [3] فيه بين القتلى، وما أجد من دواء جراحها أشدّ مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإنّ الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة. غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرئ منكم قرنه، ولا يلهينّكم السؤال عنى. فلا تقولنّ: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا [4] من كان سائلا فإنّى فى الرعيل الأول. احملوا على بركة الله.» ثمّ حمل حتّى بلغ الحجون، فرمى بآجرّة، فأصابت فى وجهه، فأرعش لها، ودمى وجهه. فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما [304]   [1] . س 68 القلم: 1. [2] . ربّانيّة: كذا فى الأصل. سقطت من مط من قوله: «لو طبتم» إلى: «أما بعد» فسقطت كلمة «ربانيّة» أيضا. وفى الطبري (8: 850) : زبّاء بتّة. وفى حاشيته: ربانيّة، زبّاء بتّة. [3] . ارتثثت: كذا فى الأصل. وفى مط: ارتثت. وفى الطبري: «ارتثت فيه من القتلى» بدل: ارتثثت فيه بين القتلى. [4] . فى الأصل: إلّا. فأثبتناها: ألا، كما فى مط والطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وتمثّل أيضا [1] : عن أىّ يومىّ من الموت أفرّ ... أيوم لم يقدر، أم يوم قدر وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة: - «وا أمير المؤمنيناه!» فأشارت لهم إليه، فقتل. وجاء الخبر إلى الحجّاج، فسجد وجاء هو وطارق حتّى وقفا عليه، فقال طارق: - «ما ولدت النساء أذكر من هذا.» فقال الحجّاج: - «أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟» قال: - «نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر. إنّا لمحاصروه وهو فى غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر، ينتصف منّا بل يفضل علينا فى كلّ ما التقينا.» فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا. ثمّ دخل الحجّاج مكّة، فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة من أهله إلى المدينة، فنصبت بها، ثمّ ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان. وبعث عبد الملك إلى عبد الله بن خازم، وهو بخراسان يقاتل بحير بن ورقاء الصريمى يدعوه إلى طاعته ويقول له:   [1] . التمثّل بالبيت الآتي لم يرد فى الطبري 8: 851، حيث نجد البيت السابق فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 - «إنّ خراسان لك طعمة سبع سنين، فبايع لى.» [305] وكان عبد الملك بعث إليه برأس ابن الزبير، فغسله وحنّطه وكفّنه وبعث به إلى أهله بالمدينة. وحلف لا يعطى عبد الملك طاعة أبدا. فقال ابن خازم للرسول: - «لولا أنّ الرسل لا تقتل، لأمرت بضرب رقبتك، ولكن كل كتابه.» وأكله. مقتل ابن خازم فى مرو وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج [1] أحد بنى عوف بن سعد، وكان خليفة ابن خازم على مرو بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه. فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو، وأهل أبر شهر الذين مع بحير. فأقبل إلى مرو أن يأتى ابنه بالترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية يقال لها: شاه مزغند، بينها وبين مرو ثلاثة فراسخ. فقاتله ابن خازم، فقتل عبد الله بن خازم، وكان الذي ولى قتله وكيع بن عميرة القريعى، اعتون عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع، فطعنوه وصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله. فقال بعض الولاة لوكيع: - «كيف قتلت ابن خازم؟» قال: - «غلبته بفضل القنا. لمّا صرع قعدت على صدره، فحاول [306] القيام، فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثارات دويلة.» ودويلة أخ لوكيع من أمّه، قتل فى تلك الأيام. قال: فتنخّم فى وجهى، وقال:   [1] . وساج: كذا فى الأصل. وفى مط: وساح. وما فى الطبري (8: 854) : وشاح. وفى حواشيه عن الأصول: وساج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 - «لعنك الله، تقتل كبش مضر بأخيك: علج لا يساوى كفّا من نوى- أو قال:- من تراب؟» قال: فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت، لقد ملأ وجهى منه. فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث، فقال: - «هذه والله البسالة.» وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بنى غدانة إلى عبد الملك بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وساج فى أهل مرو حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم. فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس، وقيّد بحيرا وحبسه. وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله. ولاية المهلّب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك وفى هذه السنة [1] وجّه عبد الملك أخاه بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ثمّ كتب إليه: - «أمّا بعد، فابعث المهلّب فى أهل مصره إلى الأزارقة لينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم أولى الفضل والتجربة منهم، فإنّه أعرف بهم، وخلّه ورأيه فى الحرب، [307] فإنّى أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا حسيبا شريفا يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثمّ أنهض إليهم أهل المصرين، فليتبعوهم أىّ وجه ما توجّهوا حتّى يبيرهم الله ويستأصلهم، والسلام عليك.» فدعا بشر المهلّب، فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء. فبعث بجذيع بن   [1] . سنة أربع وسبعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 قبيصة وهو خال ابنه يزيد، فأمره أن يأتى الديوان، فينتخب الناس. فشقّ على بشر أنّ إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك فلا يستطيع أن يبعث غيره. فأوغرت صدره عليه حتّى كأنّ له إليه ذنبا. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمان بن مخنف، فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولى الفضل منهم والنجدة. قال عبد الرحمان بن مخنف، قال لى بشر: - «إنّك قد عرفت منزلتك منّى وأثرتك عندي، وقد ولّيتك هذا الجيش للذي [1] عرفت من جرأتك [2] وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظنّى بك، انظر هذا الكذّاب [3]- يعنى المهلّب ووقع فيه وسبعه [4]- (كذا) فاستبدّ عليه بالأمر، [308] ولا تقبلنّ له مشورة ولا رأيا.» وتنقّصه وقصّر به. قال عبد الرحمان: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدوّ والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغرينى بابن عمّى حتّى كأنّى سفيه من السفهاء، أو ممّن يستصبى ويستجهل. ما رأيت شيخا فى مثل سنّى ومنزلتي طمع منه فى مثل ما طمع فيه هذا الغلام منّى. شبّ عمرو عن الطوق. قال: ولما رءانى لست بالنشيط إلى جوابه قال: - «ما لك؟» قلت: - «أصلحك الله، وهل يسعني إلّا أن أنقاد لأمرك فى كلّ ما أحببت أو كرهت؟»   [1] . للذي: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: الذي. [2] . جرأتك: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 856) : جزئك. [3] . أنظر هذا الكذّاب: كذا فى الأصل. وفى مط: أنظر هذا الكتاب! وهو خطأ. وما فى الطبري أنظر هذا الكذا كذا يقع فى المهلّب! [4] . سبعه: كذا فى الأصل. وفى مط: شيعته. سبعه: ذعره. عابه. شتمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 قال: - «امض راشدا.» فودّعته وخرجت من عنده. وخرج المهلّب حتّى نزل رامهرمز، فلقى الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمان بن مخنف بأهل الكوفة، فنزل قريبا من المهلّب على ميل، أو ميل ونصف، حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث الناس إلّا عشرا حتّى أتاهم نعى بشر، وتوفّى بالبصرة، وارفضّ الناس من أصحاب المهلّب وأصحاب عبد الرحمان بن مخنف، وهم رؤساء أهل البصرة والكوفة، وبقيا فى قلّة. وكان بشر استخلف خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان ممن انصرف من أهل الكوفة: زحر بن قيس، [309] وإسحاق بن محمد بن الأشعث، ومحمد بن عبد الرحمان بن سعد بن قيس. فبعث عبد الرحمان ابنه جعفرا فى آثارهم، فردّ إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثمّ أخذ عليهما ألّا يفارقاه. فما لبثا إلّا يوما حتّى انصرفا ولحقا بزحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا، وبعث رسلا تضرب وجوه الناس وتردّهم. فقدم مولى له، فقرئ الكتاب على الناس وقد جمعوا له، وكان فيه حضّ على الجهاد وتوبيخ للرؤساء، وتهديد لعامّة الناس، ويقول فى آخره: - «أيها الناس، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم. إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين الذي ما فيه غميزة، ولا عنده رخصة على من خالفه وعصى أمره، وإنما سوطه سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإنّى لم آلكم نصيحة. اذهبوا إلى مكتبكم [1] وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين، فأقسم بالله لا   [1] . مكتبكم: الكلمة تكررت فى موضعين، فى الموضع الأول غموض فأثبتناها كما هي فى الموضع الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلّا قتلته والسلام.» فلم يلتفت الناس إلى ما فى الكتاب، وأقبل رؤساء [310] الكوفة حتّى نزلوا إلى جانب الكوفة فى قرية لآل الأشعث، وكتبوا إلى عمرو بن حريث: - «أما بعد، فإنّ الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمه الله، تفرّقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير، وإلى مصرنا، وأحببنا ألّا ندخل الكوفة إلّا بإذن الأمير وعلمه، والسلام.» فكتب إليهم: - «أما بعد، فإنّكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا أمان ولا إذن.» فلما أتاهم كتابه انتظروا حتّى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتّى قدم الحجّاج بن يوسف. سبب عزل بكير بن وساج عن خراسان وفى هذه الأيام عزل عبد الملك بكير بن وساج عن خراسان، وولّاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وكان سبب ذلك أنّ تميما اختلفت بخراسان، فصار منهم قوم يتعصّبون لبحير ويطلبون بكيرا، وصار منهم يعذرون بكيرا ويتعصّبون له. فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوّهم من المشركين. فكتبوا إلى عبد الملك أنّ خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلّا على رجل من قريش لا يحسدونه. فوجّه عبد الملك أمية بن [311] عبد الله، وكان يحبّه ويقول:   [ () ] وكما فى الطبري (8: 858، 859) . وفى حواشي الطبري: أمكنتكم (فى كلا الموضعين) . فى مط: مكنتكم؟ والموضع الثاني محذوف فى مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 - «هو لدتى [1] .» وكان بحير كما كتبنا فى ما تقدّم من خبره، فى حبس بكير لما كان منه فى رأس ابن خازم حين قتله. فلم يزل محبوسا عنده حتّى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: - «ظنّ بكير أنّ خراسان تبقى له فى الجماعة.» فمشى بينهم السفراء، فأبى بحير. ذكر رأى صواب أشير به على بحير فقبله ثمّ دخل عليه ضرار بن حصن الضبّى، فقال: - «إنّى لا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمّك يعتذر إليك وأنت أسير فى يده فلا تقبل منه! لو قتلك ما حبقت [2] فيه عنز. ما أنت بموفّق، اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك.» فقبل مشورته وصالح بكيرا. قال: فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألّا يغتاله. فلما بلغ بحيرا أنّ أمية قارب أبرشهر، قال لرجل من عجم مرو: - «دلّنى على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه ولك كذا وكذا.» وأجزل له العطيّة. وكان عالما بالطريق. فخرج إلى أرض [312] سرخس فى ليلة، ثمّ مضى به إلى نيسابور. فوافى أمية حتّى قدم أبر شهر، فلقيه، فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها   [1] . لدتى: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 861) : هو نتيجتى أى لدتى. [2] . حبقت: فى الأصل حيقت، ولم نجد لها معنى. وفى مط: حنقت. وما أثبتناه يؤيّده الطبري (8: 861) . حبقت: ضرطت. وأكثر استعماله فى الإبل والغنم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 ويحسن طاعتهم ويخفّ على الموالي مؤونتهم، ورفع على بكير أموالا قد أصابها، وحذّره غدره، وسار معه حتّى قدم مرو. وكان أمية سيّدا كريما. فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه أن يولّيه شرطته، فأبى بكير، فولّاها بحيرا. وقد كان لام بكيرا رجال من قومه وقالوا [1] : - «أبيت أن تلى حتّى ولّاها بحيرا، وقد عرفت ما كان بينكما.» قال: - «كنت أمس والى خراسان تحمل الحراب بين يدىّ وأصبر اليوم على الشرطة أحمل الحربة!» وقال أمية لبكير: - «اختر ما شئت من عمل خراسان.» قال: - «طخارستان.» قال: - «هي لك.» قال: فتجهّز بكير، وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأميّة: - «إن أتى بكير طخارستان خلعك.» فلم يزل يحذّره حتّى حذره، وأمره بالمقام. ذكر تولية [2] عبد الملك الحجّاج بن يوسف العراق وسيرة الحجّاج ولمّا توفّى بشر بن مروان، كاتب عبد الملك الحجّاج بن يوسف وهو بالمدينة [313] وولّاه العراق. فأقبل فى اثنى عشر راكبا على النجائب، حتّى دخل الكوفة حين انتشر النهار. فجاءه، وكان بشر بعث المهلّب إلى الحروريّة، وانصرف كثير من الناس عنه بعد وفاته. وقد كتبنا أمره فى ما تقدّم. فبدأ الحجّاج بالمسجد،   [1] . فى الأصل ومط: قال. فصحّحناها كما فى الطبري 8: 862. [2] . ما فى الأصل: ولاية وهو سهو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فدخله، ثمّ صعد المنبر وهو متلثّم بعمامة حمراء خزّ، فقال: - «علىّ بالناس.» فحسبوه وأصحابه خارجة. فهمّوا به، حتّى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، ثمّ قال: «أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أما والله، إنّى لأحمل الشرّ محمله [1] ، وأخذوه بنعله [2] وأجزيه بمثله، وإنّى لأرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإنّى لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى. قد شمّرت عن ساقها تشميرا. هذا أوان الشدّ، فاشتدّى زيم ... قد لفّها الليل بسوّاق حطم [3] ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجرّار [4] على ظهر وضم قد لفّها الليل بعصلبىّ ... مهاجر ليس بأعرابىّ إنّى والله، يا أهل العراق ما أغمز تغماز [314] التين، ولا يقعقع لى بالشّنان، ولقد فررت عن ذكاء وفتّشت [5] عن تجربة، وجريت من [6] الغاية. إنّ أمير المؤمنين نثل كنانته، ثمّ عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا [وأصلبها   [1] . محمله: كذا فى الأصل والطبري (8: 864) . وفى مط: حمله، وهو خطأ. [2] . بنعله: كذا فى الأصل والطبري، وهو الصحيح. وما فى مط: ينعله. [3] . الحطم: كذا ضبطت فى الأصل. وضبطها الطبري: «حطم» . [4] . بجرّار: النقطة التحتانية واحدة فى الأصل: بحرّار؟ بجرّار؟ وما فى الطبري: بجزّار. [5] . فتّشت عن تجربة: نقط الشين أثبتناها بقرينة ما فى مط، فما فى مط: فنشيت. [6] . جريت من الغاية: كذا فى الأصل. وفى الطبري: جريت إلى الغاية. والعبارة ساقطة من الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 مكسرا] فرماكم بى. فإنّكم طال ما أوضعتم فى الفتن وسننتم سنن الغىّ. والله لألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إنّى والله لا أعد إلّا وفيت، ولا أخلق إلّا فريت، فإيّاى وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على سبل الحقّ، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا فى جسده. من وجدناه بعد ثالثة من بعث المهلّب سفكت دمه وأنهبت ماله.» ثمّ دخل منزله ولم يزد على ذلك. ويقال: إنّه لمّا طال سكوته تناول محمد بن عمير حصى ليحصبه بها، وقال: - «قاتله الله، ما أعياه وآدمه [1] !» فلما تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتشر من يده ولا يعقل به. ثمّ دعا الحجّاج بالعرفاء، وقال: - «الحقوا بالمهلّب وائتوني بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ونهارا، فقد بلغني رفضكم للمهلّب وإقبالكم إلى [315] مصركم عصاة مخالفين. وإنّى لأقسم لكم بالله ما أجد أحدا بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه.» [2] فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا فى السوق، فخرج حتّى جلس على المنبر، فقال: - «يا أهل العراق وأهل الشقاق ومساوئ الأخلاق، إنّى سمعت تكبيرا لا يراد به الله فى الترغيب، ولكنّه تكبير يراد به الترهيب. وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بنى اللكيعة وعبيد العصا [3] وأبناء الأيامى، إن لا تربع رجل على ظلعه ولا يحسن حقن دمه ويبصر موضع قدمه، فأقسم باللَّه لأوشك أن أوقع بكم وقعة   [1] . آدمه: كذا فى الأصل، وهي ساقطة من مط. الأدمة: السمرة. وفى الطبري: أدّمه. [2] . تجد الخطبة وتفسير ألفاظها عند الطبري 8: 864. [3] . العصا: كذا فى الأصل والطبري (8: 868) . وفى مط: الحصى! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها.» فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ليتكلم بعذره [1] فقال: - «أسمعت كلامنا بالأمس؟» قال: - «نعم،» قال: - «ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟» قال: - «بلى.» قال: - «فما حملك على ذلك؟» قال: - «حبس أبى وكان شيخا كبيرا.» قال: - «أوليس الذي يقول: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكى حلائله إنّى لأحسب فى قتلك صلاح المصرين. قم إليه يا حرسىّ فاضرب عنقه.» فقام إليه [316] الحرسىّ، فأخرجه وضرب عنقه، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى: - «ألا إنّ عميرا أتى بعد ثالثة وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب.» فخرج الناس، فازدحموا على الجسر، فعبر فى تلك الليلة أربعة آلاف مذحج. وخرج العرفاء إلى المهلّب، وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة. وقال المهلّب لأصحابه: - «قدم العراق أمير ذكر، اليوم قوتل العدوّ.»   [1] . بعذره: كذا فى الأصل. وفى مط: بغدره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 قال عمرو بن سعيد: فو الله إنّى لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت زجرا [1] مضريا، فعدلت إليه وقلت: - «ما الخبر؟» قالوا: - «قدم علينا رجل من شرّ أحياء العرب، من هذا الحىّ، من ثمود، أسقف الساقين، أشرح [2] الجاعرتين، أخفش العينين. فقدّم سيد الحىّ عمير بن ضابئ فضرب عنقه.» ولقى ابن الزبير إبراهيم بن عامر، فسأله عن الخبر، فقال وذلك فى السوق: أقول لإبراهيم لمّا لقيته ... أرى الأمر أضحى [3] منصبا متشعّبا تجهّز وأسرع فالحق الجيش، لا أرى ... سوى الجيش، إلّا فى المهالك مذهبا تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا [317] هما خطّتا حتف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا فأمسى ولو كانت خراسان دونه ... رءاها مكان السوق، أو هي أقربا ثمّ أسرع الحجّاج إلى البصرة ولما قتل الحجّاج عمير بن ضابئ، خرج من فوره حتّى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة، مثل التي [4] قام بها فى أهل الكوفة، وتوعّدهم مثل وعيده إيّاهم. فأتى برجل من بنى يشكر، وقيل له: - «هذا عاص.» فقال:   [1] . فى الطبري: رجزا. وفى مط: زحرا. [2] . أشرح: كذا فى الأصل. وفى مط: أشرع. وما فى الطبري (8: 871) : ممسوح الجاعرتين. [3] . أضحى: سقطت من الأصل. فأثبتناها كما فى مط. وما فى الطبري: أمسى. [4] . فى الأصل ومط والطبري (8: 873) : الذي. وفى حاشية الطبري: التي. وهو الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 - «إنّ لى فتقا، وقد رءاه بشر فعذرنى، وهذا عطائي مردود فى بيت المال.» فلم يقبل منه، وقدّمه فضرب عنقه. ففزع أهل البصرة، فخرجوا حتّى تداكّوا على العارض برامهرمز، فقال المهلّب: - «جاء الناس أمر ذكر.» ذكر وثوب الناس بالحجّاج خرج الحجّاج بالناس حتّى نزل رستقباذ، ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا. فقام فى الناس، فقال: - «إنّ ابن الزبير زادكم فى أعطياتكم زيادة فاسق منافق ولست أجيزها.» فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدى، فقال: - «ولكنّها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، وقد [318] أثبتها لنا.» فكذّبه وتوعّده، فخرج ابن الجارود على الحجّاج، وبايعه وجوه الناس. فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عبد الله بن الجارود وجماعة ممن ثار معه، وبعث الحجّاج برأسه ورؤوس عدّة من أصحابه إلى المهلّب، ونصب برامهرمز ثمانية عشر رأسا من وجوه الناس. فساء ذلك الخوارج، وكانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف. وانصرف الحجّاج إلى البصرة، وكتب إلى المهلّب وإلى عبد الرحمان بن مخنف: - «أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا، فناهضوا الخوارج. والسلام.» فناهض المهلّب وعبد الرحمان الأزارقة، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنّهم زحفوا إليهم حتّى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتّى نزلوا بكازرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 ذكر توان لعبد الرحمان حتّى قتل وقتل معه خلق وسار المهلّب وعبد الرحمان حتّى نزلوا بهم، فخندق المهلّب ولم يخندق عبد الرحمان، فقال المهلّب لعبد الرحمان: - «إن رأيت أن تخندق عليك فعلت.» فقال أصحاب عبد الرحمان: - «خندقنا سيوفنا.» فلما كان الليل زحف الخوارج إلى المهلّب [319] ليبيّتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمان، فوجدوه لم يخندق. فنهض عبد الرحمان وقاتلهم وانهزم عنه أصحابه، ونزل فى جماعة من أهل الحفاظ والصبر، فقاتلوا حتّى قتل عبد الرحمان وقتلوا كلّهم حوله. فلما أصبح المهلّب جاء حتّى دفنه وصلّى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجّاج، فكتب الحجّاج بذلك إلى عبد الملك ونعى عبد الرحمان وذمّ أهل الكوفة. وبعث الحجّاج على عسكر عبد الرحمان بن مخنف، عتّاب بن ورقاء، وأمره إذ ضمّتها الحرب أن يسمع للمهلّب ويطيع. فساءه ذلك ولم يجد بدّا من طاعة الحجّاج، ولم يقدر على مراجعته. فجاء حتّى أقام فى ذلك العسكر، وقاتل الخوارج، وأمره إلى المهلّب، وهو فى ذلك يعنى أموره ولا يكاد يستشير المهلّب فى شيء. فلما رأى المهلّب ذلك اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة، فأغراهم بعتّاب. فلما كان ذات يوم، أتى عتّاب المهلّب يسأله أن يرزق أصحابه. فأجلسه المهلّب معه على مجلسه، فسأله عتّاب سؤالا فيه تجهّم وغلظة وترادّا الكلام حتّى قال [320] له المهلّب: - «يا بن اللخناء.» وذهب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: - «أصلح الله الأمير، شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم. إن سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 منه ما تكره فاحتمله.» فقبله وقام عتّاب، فاستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه ويقع فيه. فلما رأى عتّاب ذلك كتب إلى الحجّاج يشكو إليه المهلّب ويخبره أنه أغرى به سفهاء أهل البصرة ويسأله أن يضمّه إليه، ووافق ذلك حاجة من الحجّاج إليه فى ما لقى من شبيب، وما لقيه أيضا أشراف الكوفة منه. وسنذكر من خبره ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله. فبعث إليه الحجّاج أن: - «اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلّب.» فبعث المهلّب ابنه حبيبا، وأقام المهلّب يقاتلهم سنة. ذكر ما كان من شبيب بن يزيد وما لقى الحجّاج وأشراف الكوفة منه كان ابتداء أمر شبيب صحبته لرجل يعرف بصالح بن مسرّح، وكان صالح يرى رأى الصفريّة وكان ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عباده، وله أصحاب يقريهم القرآن ويفقّههم [321] ويقصّ عليهم، وقدم الكوفة فيقيم بها الشهر أو الشهرين، وكان بأرض الموصل والجزيرة، وله قصص محفوظ [1] وكلام مستحسن، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على محمد ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنّى بعمر، وذكر عثمان وما كان من أحداثه، ثمّ عليّا وتحكيمه الرجال فى أمر الله، ويتبرّأ من عثمان وعلىّ، ثمّ يدعو إلى مجاهدة أئمّة الضلال ويقول: - «تيسّروا يا إخوانى للخروج من دار الفناء، إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل فى الله، فإنّ القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم عند ما ترجم [2] الظنون، فيفرّق بينكم وبين آبائكم   [1] . قصص محفوظ: كذا فى الأصل. وما فى مط: قصص محفوظة. [2] . الرجم: أن يتكلّم بالظن. ومنه قولهم: «رجّم بالغيب» ، أو: «رجما بالغيب» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتدّ لذلك جزعكم. ألا، فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم، تدخلوا الجنّة.» وأشباه ذلك من الكلام. وكان فى من يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين. فقال يوما لأصحابه: - «ما تنتظرون؟ ما يزداد أئمّة الجور إلّا عتوّا وعلوّا وتباعدا من الحقّ، وجرأة على الربّ، فراسلوا إخوانكم حتّى يأتوكم وننظر ما نحن صانعون وأىّ وقت إن خرجنا [322] نحن خارجون.» فبينا هو كذلك، إذ أتاه المحلّل [1] بن وائل بكتاب شبيب وقد كتب إلى صالح: - «أما بعد، فقد كنت دعوتني إلى أمر استجبت له، فإن كان ذلك، فإنّك شيخ المسلمين، ولم نعدل بك منّا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمتنى، فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمنى المنيّة ولمّا أجاهد الظالمين. جعلنا الله وإيّاك ممّن يريد الله بعمله، والسلام عليك.» فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه: - «إنّه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلّا انتظارك، فاقدم علينا ثمّ اخرج بنا، فإنّك ممن لا تقصّى الأمور دونه، والسلام.» فلما ورد كتابه على شبيب دعا نفرا من أصحابه فجمعهم إليه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد والمحلّل بن وائل، والصفر بن حاتم، وإبراهيم بن حجر، وجماعة مثلهم. ثمّ خرج حتّى قدم على صالح بن مسرّح، وهو بدارا من أرض الموصل. فبثّ صالح رسله، وواعدهم الخروج فى هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض، واجتمعوا عنده فى تلك الليلة. فتحدّث فروة بن لقيط قال: إنّى لمعهم تلك الليلة وكان رأى استعراض الناس   [1] . المحلل: ضبط هذا الإسم مضطرب فى الأصل، فتارة بالحاء المهملة وأخرى بالجيم المعجمة. فأثبتناه بالحاء المهملة كما فى الطبري ومط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 [323] لما رأيت من المنكر والفساد فى الأرض. فقمت إليه، فقلت: - «يا أمير المؤمنين، كيف ترى السيرة فى هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ فإنّى أخبرك برأيى فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم. إنّا نخرج على قوم طاغين باغين، قد تركوا أمر الله، أو راضين بذلك، فأرى أن تضع [1] فيهم السيف.» فقال: - «لا، بل ندعوهم، فلعمرى، لا يجيبك إلّا من يرى رأيك، وليقاتلنّك من يزرى عليك، والدعاء أقطع لحجّتهم، وأبلغ فى الحجة لك عليهم.» قال: فقلت له: - «فكيف ترى فى من قاتلنا فظفرنا به، وما تقول فى دمائهم وأموالهم؟» فقال: - «إن قاتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا، فموسّع علينا ولنا.» فأحسن لنا القول. ثمّ قال صالح لأصحابه ليلته: - «اتّقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلّا أن يكونوا يريدونكم، فإنّكم خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى فى الأرض، وسفكت الدماء بغير حقّها، وأخذت الأموال غصبا، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثمّ تعملوا بها. وهذه دوابّ لمحمد بن مروان فى هذا الرستاق، فابدءوا بها، فاحملوا رجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم.» [324] ففعلوا ذلك وتحصّن منهم أهل دارا، وبلغ خبرهم محمد بن مروان، وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخفّ بأمرهم، وبعث إليهم عدىّ بن عميرة فى خمسمائة، وكان صالح فى مائة وعشرة، فقال عدىّ: - «أصلح الله الأمير، تبعثني إلى رأس الخوارج ومعه رجال سمّوا لى، وإنّ   [1] . نضع: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: تصنع. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الرجل منهم خير من مائة فارس فى خمسمائة.» فقال له: - «فإنّى أزيدك خمسمائة، فسر إليهم فى ألف فارس.» فسار من حرّان فى ألف رجل وكأنما يساق إلى الموت. وكان عدىّ رجلا يتنسّك. فلما نزل ذوغان نزل بالناس وأنفذ إلى صالح بن مسرّح رجلا دسّه إليه. فقال له: - «إنّ عديّا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأوى بلدا آخر وتقاتل أهله، فإنّ عديّا للقائك كاره.» فقال صالح: - «ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثمّ نحن مدلجون عنك، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمّة السوء، رأينا رأينا. فإمّا بدأنا بك، وإمّا رحلنا إلى غيرك.» فانصرف إليه الرسول، فأبلغه. فقال عدىّ: - «ارجع إليه فقل له: إنّى والله لا أرى رأيك، ولكنّى أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين، فقاتل غيرى.» [325] ذكر مكيدة صالح على عدى ّ فقال صالح لأصحابه: اركبوا. فركبوا. وحبس الرجل عنده حتّى خرجوا، ثمّ تركه ومضى بأصحابه حتّى أتى عديّا فى سوق ذوغان وهو قائم يصلّى الضحى، فلم يشعر إلّا والخيل طالعة عليهم. فلما دنا صالح منهم رءاهم على غير تعبئة، وقد تنادوا، وبعضهم يجول فى بعض. فأمر شبيبا، فحمل عليهم فى كتيبة، ثمّ أمر سويدا، فحمل فى كتيبة، وكانت هزيمتهم. وأتى عدىّ بدابّته فركبها، ومضى على وجهه، واحتوى صالح على عسكره وما فيه. وذهب فلّ عدىّ حتّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 لحقوا بمحمد بن مروان. فغضب، ثمّ دعا خالد بن جزء [1] السلمى، فبعثه فى ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة فبعثه فى ألف وخمسمائة، وقال لهما: - «أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجّلا. فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه.» فخرجا، وأغذّا السير، وجعلا يسألان عن صالح، فقيل لهما [2] : - «توجّه نحو آمد.» فاتّبعاه حتّى انتهيا إليه بآمد، فنزلا ليلا وخندقا وهما يتساندان كلّ واحد منهما على حدته. فوجّه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة فى شطر أصحابه، وتوجّه هو [326] نحو خالد السلمى، فاقتتلوا أشدّ قتال اقتتله قوم، حتّى حجز بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض. فتحدّث بعض أصحاب صالح قال: كنّا إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجّالتهم بالرماح، ونضحتنا [3] رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا فى خلال ذلك، فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا. فلمّا رجعنا وصلّينا وتروّحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح وقال: - «يا أخلّائى ماذا ترون؟» فقال شبيب: - «أنا أرى إن قاتلنا هؤلاء وهم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا. والرأى أن نرحل عنهم.» فقال صالح:   [1] . جزء: كذا فى الأصل والطبري (8: 889) . وما فى مط: حرّ. [2] . فى الأصل: له. وفى مط: إنّه. [3] . نضحتنا: غير واضحة فى الأصل ومط. فأثبتناها كما فى الطبري (8: 889) . نضح القوم ونضحهم بالنبل: رماهم ففرّقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 - «أنا أرى ذلك.» فخرجوا من تحت ليلتهم حتّى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل، ومضوا حتّى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجّاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة فى ثلاثة آلاف. فسار، وخرج صالح نحو جلولا وخانقين، واتّبعه الحارث حتّى انتهى إلى قرية يقال لها: الريح [1] وصالح يومئذ فى تسعين رجلا. فعبّى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة، وجعل صالح أصحابه كراديس ثلاثة، فهو فى كردوس وشبيب فى [327] ميمنته فى كردوس، وسويد بن سليم [2] فى كردوس من ميسرته، وفى كلّ كردوس منهم ثلاثون رجلا. فلما شدّ عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم وثبت صالح، فقتل، وضارب شبيب حتّى صرع عن فرسه، فوقع فى رجاله، فجاء حتّى انتهى إلى موقف صالح، فوجده قتيلا، فنادى: - «يا معشر المسلمين.» فلاذوا به، وقال لأصحابه: - «ليجعل كلّ رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه إذا أقدم عليه حتّى ندخل هذا الحصن ونرى من رأينا.» ففعلوا ذلك حتّى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا مع شبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه: - «أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه، فإنّهم لا يقدرون على خروجهم حتّى نصبّحهم [3] فنقتلهم.» ففعلوا ذلك بالباب، ثمّ انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه:   [1] . الريح: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 890) المذبج. وفى حواشيه: المديح، المدبح. [2] . فى الطبري: سليم. وما فى مط: مسلم. وما فى الأصل مضطرب حيث ضبط على وجهين: سليم وسلم. فوحدنا الضبط كما فى الطبري. [3] . فى الأصل: تصبّحهم فتقتلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 - «ما تنظرون يا هؤلاء؟ فو الله، لئن صبّحوكم إنه لهلاككم.» فقالوا: - «مرنا بأمرك.» فقال لهم: - «بايعوني إن شئتم، أو من شئتم منكم، ثمّ اخرجوا بنا حتّى نشدّ عليهم فى عسكرهم [328] فإنّهم آمنون منكم، فإنّى أرجو أن ينصركم الله.» قالوا: - «فابسط يدك.» فبايعوه. فلما جاءوا إلى الباب وجدوه جمرا، فأتوا باللبود، فبلّوها بالماء، ثمّ ألقوها عليه، وخرجوا، ولم يشعر الحارث بن عميرة إلّا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف فى جوف عسكرهم. فضارب الحارث حتّى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا وخلّوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتّى نزلوا المدائن. وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب. فأما صالح بن مسرّح فإنّه أصيب من سنة كما حكينا من أمره، ثمّ ارتفع فى أدانى أرض الموصل، ثمّ ارتفع نحو آذربيجان يجبى الخراج. وكان سفيان بن أبى العالية قد أمر أن يدخل فى خيل معه طبرستان، فأمر بالقفول، فصالح صاحب طبرستان، وأقبل فى نحو من ألف، وورد عليه كتاب الحجّاج: - «أما بعد، فأقم بالدسكرة فى من معك حتّى يأتيك جيش الحارث بن عميرة من ذى الشغار، وهو الذي قتل صالح بن مسرّح، ثمّ سر إلى شبيب حتّى تناجزه.» ففعل سفيان ذلك ونزل الدسكرة، ونودى فى جيش الحارث بن عميرة بالكوفة [329] والمدائن: - «برئت الذمّة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف ابن العالية بالدسكرة.» قال: فخرجوا حتّى أتوه، وارتحل سفيان فى طلب شبيب، ثمّ ارتفع عنهم كأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 يكره لقاءهم وقد أكمن لهم مصادا فى خمسين رجلا فى هزم من الأرض. فلمّا رأوه جمع أصحابه، ثمّ مضى فى سفح من الجبل مشرقا. فقالوا: - «هرب عدوّ الله.» واتّبعوه. ذكر رأى رءاه عدىّ بن عميرة فى تلك الحال فلم يقبل حتّى هلك الجيش فقال لهم عدىّ بن عميرة الشيبانى: - «أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتّى نضرب فى الأرض فنستبرئها، فإن يكونوا كمنوا كمنا حذرناه، وإلّا كان طلبهم [1] بأيدينا، لن يفوتنا.» فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا فى آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد تجاوزوا الكمين خرجوا إليهم. فحمل شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من وراءهم. فلم يقاتل أحد وكانت الهزيمة وثبت ابن أبى العالية فى نحو مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حتّى انتصف من شبيب، فقال سويد بن [331- 330] [2] سليم: - «أمنكم من يعرف أمير القوم ابن أبى العالية؟» فقال شبيب: - «أنا من أعرف الناس به. أما ترى صاحب الفرس الذي دونه المرامية، فإنه هو. فإن كنت تريده فأمهله قليلا.» ثمّ قال: - «يا قعنب، اخرج فى عشرين، ثمّ ائتهم [3] من وراءهم.» فخرج قعنب فى عشرين، فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم   [1] . طلبهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: طلبتهم. [2] . طفر المرقم من رقم 329 إلى رقم 331 فأثبتنا الرقمين لصفحة واحدة، حتّى لا نغيّر أرقام الصفحات. [3] . ائتهم: أثبتناها كما فى مط والطبري (8: 898) . وما فى الأصل: آتهم. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 جعلوا ينقصون ويتسلّلون. وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبى العالية، فطاعنه، فلم يصنع رمحاهما شيئا، ثمّ اضطربا بسيفيهما، ثمّ اعتنق كلّ أحد منهما، فوقعا إلى الأرض يعتركان، ثمّ تحاجزا [1] ، وحمل عليهم شبيب، فانكشف من كان معه. ونزل غلام لسفيان، يقال له غزوان [نزل] [2] عن برذونه، وقال لسفيان: - «اركب يا مولاي.» فركب سفيان وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان حتّى قتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبى العالية منهزما حتّى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجّاج، وكان الحجّاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان، فكاتب سورة سفيان وقال: انتظرنى. فلم يفعل، وعجّل نحو الخوارج. فلما عرف الحجّاج خبر سفيان، وقرأ كتابه، قال للناس: - «من صنع كما صنع هذا وأبلى [332] كما أبلى، فقد أحسن.» ثمّ كتب إليه يعذره ويقول له: - «إذا خفّ عليك الوجع، فأقبل مأجورا إلى أهلك.» وكتب إلى سورة: - «أما بعد، يا بن أمّ سورة، فما كنت خليقا أن تجتزئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا [3] إلى المدائن، فلينتخب من الخيل التي بها خمسمائة رجل، ثمّ ليقدم بهم عليك، ثمّ سر بهم حتّى تلقى [4] هذه المارقة، وأخبرنى فى أمرك، وكد عدوّك، فإنّ أفضل أمر الحرب المكيدة. والسلام.»   [1] . تحاجزا: كذا فى مط. وفى الطبري: تحاجزوا. وما فى الأصل غامض، ويشبه أن يكون: تحاجزنا. [2] . نزل: سقطت من الأصل ومط. فأثبتناها نقلا عن الطبري. [3] . صليبا: كذا فى الأصل والطبري (8: 898) . وما فى مط: صلبا. والصليب: الخالص النسب. يقال: هو عربي صليب. أى: خالص النسب. [4] . فى الأصل: نلقى. وما أثبتناه يؤيّده مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فلما أتى سورة كتاب الحجّاج، بعث عدىّ بن عميرة إلى المدائن وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة رجل، ثمّ رحل بهم حتّى قدم على سورة ببابل مهروذ. فخرج فى طلب شبيب، وخرج شبيب يجول فى جوخى، وسورة فى طلبه. فجاء شبيب إلى المدائن وتحصّن منه أهلها وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن وأصاب دوابّ من دوابّ الجند، وقتل من ظهر له، ولم يدخلوا البيوت، فأتى فقيل: - «هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك.» فخرج فى أصحابه حتّى انتهى إلى النهروان، فنزل به، وتوضّأ هو وأصحابه، ثمّ أتوا [333] مصارع إخوانهم الذين قتلهم علىّ بن أبى طالب، رضى الله عنه، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرّأوا من علىّ وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثمّ عبروا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتّى نزل بقطراثا [1] ، وجاءته عيونه، فخبّرته بمنزل شبيب بالنهروان. ذكر سوء رأى سورة فى الإقدام حتّى هزم وفلّ فدعا سورة رؤساء أصحابه، فقال لهم: - «إنّهم قلّ ما يلقون مصحرين أو على ظهيرة إلّا انتصفوا، وقد حدّثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم وأسير فى ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فأبيّتهم، فإنّهم آمنون لبياتكم. فإنّى والله أرجو أن يصرعهم الله مصرع إخوانهم بالنهروان من قبل.» فقالوا: - «اصنع ما أحببت.» فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعاء أصحابه،   [1] . قطراثا: كذا فى الأصل والطبري (8: 900) . فى مط: قطرانا. وفى حواشي الطبري: قطرانا، قطرابا، قطراثا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 ثمّ أقبل بهم حتّى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس [1] ثمّ بيّتهم. فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم. فاستووا على خيولهم، وتعبّوا بتعبئتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا. فحمل عليهم سورة، ثمّ [334] صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتّى تركوا العرصة، وحمل شبيب وجعل يضرب ويقول: من ينك العير ينك نيّاكا ... [جندلتان اصطكّتا اصطكاكا] [2] ورجع سورة إلى أصحابه مفلولا قد هزم فرسانه وأهل القوّة من أصحابه. فضحك بهم وأقبل نحو المدائن، وتبعهم شبيب حتّى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، ودفع شبيب إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبى العصيفر [3] ، وهو أمير على المدائن، فرماهم الناس بالنبل ومن فوق البيوت بالحجارة، ثمّ سار إلى تكريت. فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس بينهم فقالوا: - «هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيّت أهل المدائن.» فارتحل عامّة الجند، فلحقوا بالكوفة، وإنّ شبيبا لبتكريت. ولما أتى الحجّاج خبره قال: - «قبّح الله سورة، ضيّع العسكر، وخرج يبيّت الخوارج. والله لأسوءنّه.» ثمّ دعا الحجّاج الجزل وهو عثمان بن سعيد، فقال له: - «تيسّر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم، فلا تعجل عجلة الخرق النزق، ولا تحجم إحجام الوانى الفرق. هل فهمت؟» قال:   [1] . الحرس: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: الحرث. وهو خطأ. [2] . المصراع تكملة من الطبري (8: 901) . [3] . أبى العصيفر: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: أبى الغصيفن. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 - «نعم، أصلح الله الأمير، قد فهمت [1] ما قال.» [335] قال: - «فاخرج، فعسكر بدير عبد الرحمان حتّى يخرج إليك الناس.» فقال: - «أصلح الله الأمير، لا تبعثنّ معى أحدا من الجند المفلول [2] المهزوم، فإنّ الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت أن لا ينفعك والمسلمين منهم أحد.» قال: - «ذلك لك ولا أراك إلّا وقد أحسنت الرأى ووفّقت.» ثمّ دعا أصحاب الدواوين، فقال: - «اضربوا على الناس بالبعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس وعجّلوا.» فجمعت العرفاء، وأجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث [وأخرجوا أربعة] [3] آلاف. فأمرهم بالعسكر، ثمّ نودى فيهم بالرحيل. ثمّ ارتحلوا ونادى منادى الحجّاج أن: - «برئت الذمّة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلّفا.» فمضى الجزل بهم حتّى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، ثمّ خرج وبعث إليه ابن أبى عصيفر بفرس وبرذون وألفى درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام، وأصاب الناس من ذلك ما شاءوا. ثمّ إنّ الجزل خرج بالناس فى أثر شبيب، فطلبه فى أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسّوج إلى طسوج يريد بذلك أن يفرّق [336] الجزل أصحابه، ويتعجّل إليه فيلقاه فى عدد يسير على غير تعبئة. فجعل الجزل إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على أصحابه. فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه، وهم مائة وستون رجلا، فجعل على كلّ أربعين   [1] . سقط من مط، من قوله: «قد فهمت» إلى قوله: «لا تبعثنّ» . [2] . المفلول: كذا فى الأصل. وفى مط: المفلوك! وهو خطأ. [3] . انمحاء فى الأصل. فأثبتنا ما بين [] كما فى مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 منهم رجلا، فهو فى أربعين، ومصاد أخوه فى أربعين، وسويد بن سليم فى أربعين، والمحلّل [1] بن وائل فى أربعين، وقد أتته عيونه أنّ الجزل بن سعيد قد نزل بئر سعيد، فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم: - «إنّى أريد أن أبيّت الليلة هذا العسكر، فائتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة، وائتهم أنت يا محلّل من قبل المغرب، وليلحّ [2] كلّ امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم حتّى يأتيكم أمرى.» قال فروة بن لقيط: وكنت أنا فى الأربعين الذين كانوا معه، فقال لجماعتنا: - «تيسّروا، وليسر كلّ امرئ منكم مع أميره، ولينظر ما يأمر به أميره فليتّبعه.» فلمّا قضمت دوابّنا، وذلك أوّل ما هدأت العيون، خرجنا حتّى انتهينا إلى دير الخرّارة [3] ، فإذا للقوم مسلحة عليهم عياض بن أبى لينة [337] فما هو إلّا أن رءاهم مصاد أخو شبيب حتّى حمل عليهم فى أربعين رجلا، وكان أمام شبيب، أراد أن يرتفع عليهم حتّى يأتيهم من ورائهم كما أمره. فلما لقى هؤلاء قاتلهم، فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثمّ إنّا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلّا نحو ميل. فقال لنا شبيب: - «اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم [4] حتّى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم.» فاتّبعناهم ملظّين بهم، ملحّين عليهم، ما نرفّه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همّة   [1] . وفى الأصل يأتى هذا الإسم بالجيم. وما فى الطبري (8: 903) : المحلل، بالمهملة. [2] . وليلحّ: كذا فى الأصل. وما فى مط والطبري (8: 904) : وليلج. [3] . الخرّارة: كذا فى الأصل والطبري (8: 904) . وفى مط: الحرارة. وفى حواشي الطبري: الجرارة. الجرارة. [4] . أكتافهم: نقطة الحرف الثالث زالت فى الأصل. فأثبتناها كما فى مط. وما فى الطبري (8: 905) : أكتافهم. ويبدو أنّ الصحيح هو ما فى مط. بدليل قوله فى الأسطر الآتية: «وأحطنا بعسكرهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 إلّا عسكرهم. ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ورشقوهم بالنبل، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا. وكان الجزل قد خندق عليه وتحرّز، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح، ورشقوهم أصحابهم بالنبل، ومنعونا من خندقهم، نظر شبيب أنه لا يصل إليهم، فقال لأصحابه: - «سيروا ودعوهم.» فلما سار عنهم أخذ الطريق حلوان حتّى كان منهم على سبعة أميال. قال لأصحابه: - «انزلوا، فأقضموا دوابّكم [338] وقيلوا وتروّحوا، وصلّوا ركعتين، ثمّ اركبوا.» ففعلوا. ثمّ أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة، وقال: - «سيروا على تعبئتكم التي عبّأتكم عليها أول الليل، وأطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم.» فأقبلنا معه، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنوا، فما شعروا حتّى سمعوا وقع حوافر خيولنا، فانتهينا إليهم قبل الصبح، وأحطنا بعسكرهم، ثمّ صحنا بهم من كلّ ناحية، فإذا هم يقاتلوننا ويرموننا بالنبل من كلّ جانب، فقال شبيب لأخيه مصاد: - «خلّ لهم سبيل الكوفة.» وكان يقاتلهم من ذلك الوجه. فلما راسله أخوه شبيب بهذا، أقبل إليه، وجعلنا نقاتلهم من الوجوه الثلاثة، فلم نقدر أن نستفلّ منهم أحدا. فسرنا، فتركناهم، وخرج الجزل مع الصبح يتبعهم ويطلبهم، وجعل لا يسير إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب فى أرض جوخى وغيرها يكسر الحجّاج، فطال ذلك على الحجّاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 ذكر عجلة للحجّاج وسوء رأى له حتّى أهلك ذلك العسكر [339] فكتب الحجّاج إلى الجزل كتابا قرئ على الناس، نسخته: - «أما بعد، فإنّى قد بعثتك فى فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتّباع هذه المارقة وأن لا تقلع عنها حتّى تقتلها أو تفنيها. فوجدت التعريس [1] فى القرى والتخييم فى الخنادق أهون عليك من المضىّ لمناهضتهم ومناجزتهم.» فشقّ ذلك على الجزل. قال: فأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. فما لبثنا أن بعث الحجّاج على ذلك الجيش سعيد بن المجالد وعهد إليه أنه، إذا لقى المارقة، أن يزحف إليهم ولا يناظرهم ولا يطاولهم ولا يصنع صنيع الجزل. وكان الجزل يومئذ قد انتهى فى طلب شبيب إلى النهروان وقد لزم عسكره وخندق عليه. وجاء سعيد حتّى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا. فقام فيهم خطيبا. فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم. أنتم فى طلب هذه الأعاريب العقف [2] منذ شهرين، قد أخربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم حذرون فى جوف هذه الخنادق ولا تزايلونها إلّا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم [340] ونزلوا بلدا سوى بلدكم. أخرجوا على اسم الله إليهم.» فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: - «ما تريد أن تصنع؟» قال:   [1] . التعريس: كذا فى مط والطبري 8: 907. وما فى الأصل قريب إلى كونه التعريش (بالشين المعجمة) . عرّس المسافرون: نزلوا آخر الليل للراحة. عرّش فلان: بنى عريشا. والعريش: السقف. أو ما يستظلّ به. [2] . العقف: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: العجف. وفى حواشيه: العفف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 - «أريد أن أقدم على شبيب فى هذه الخيل.» فقال له الجزل: - «أقم أنت فى جماعة الناس فارسهم وراجلهم ودعني أصحر له، ولا تفرّق أصحابك، فإنّ ذلك شرّ لهم وخير لك.» فقال له: - «قف أنت فى الصفّ.» فقال: - «يا سعيد بن مجالد، ليس فى ما صنعت رأى، أنا بريء من رأيك هذا. سمع الله ومن حضر من المسلمين.» فقال: - «هو رأى إن أصبت فالله وفّقنى، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برءاء.» قال: فوقف الجزل فى صفّ أهل الكوفة، وقد أخرجهم من الخندق. وجعل على ميمنتهم عياض بن أبى لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمان بن عوف أبا حميد الراسبي [1] . ووقف الجزل فى جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطا [2] ، وأمر دهقانها أن يشترى لهم ما يصلحهم ويتخذ لهم غذاء. ففعل. فدخل مدينة قطيطا، وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ [341] [من الغداء] [3] حتّى أتاه سعيد بن مجالد فى أهل العسكر. فصعد الدهقان ثمّ نزل قد تغيّر لونه، فقال: - «ما لك؟» قال: - «قد والله جاءك جمع عظيم.» فقال: - «بلغ شواؤك؟» قال: - «لا.» قال: - «دعه.»   [1] . الراسبي: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 908) : الرواسي. [2] . قطيطا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 909) : قطيطيا. [3] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 909) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 قال: ثمّ أشرف إشرافة أخرى، فقال: - «قد أحاطوا بالجوسق.» قال: - «هات شواءك.» فجعل يأكل غير مكترث لهم. فقال لمّا فرغ: - «قوموا إلى الصلاة.» وقام وتوضّأ وصلّى بأصحابه الأولى، ولبس درعه وتقلّد سيفه وأخذ عمود حديد، ثمّ قال: - «أسرجوا لى البغلة.» فقال أخوه مصاد: - «أخى هذا اليوم تسرج بغلة؟» قال: - «نعم، أسرجوها.» فركبها، ثمّ قال: - «يا فلان أنت على الميمنة، وأنت يا فلان على الميسرة.» وقال لمصاد: - «أنت على القلب.» وأمر الدهقان، ففتح الباب فى وجوههم، فخرج إليهم وهو يحكّم. فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتّى صار بينهم وبين الدير ميل، وجعل سعيد يصيح: - «يا معشر همدان، أنا ابن ذى مرّان، إلىّ إلىّ.» ونزع سرابانة [1] كانت عليه. فنظر شبيب إلى مصاد فقال له: - «استعرضهم استعراضا، فإنّهم قد تقطّعوا. فإنّى حامل على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكل ولده.» ففعل مصاد ما أمره به [342] وحمل هو على سعيد بن مجالد، فعلاه بالعمود، فسقط ميّتا وانهزم أصحابه، وما قتل منهم يومئذ إلّا قتيل واحد. وانكشف   [1] . سرابانة: كذا فى الأصل. وما فى مط: سربانة. وفى الطبري (8: 910) : وأخذ قلنسوته ووضعها على قربوس سرجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 أصحاب سعيد بن مجالد حتّى انتهوا إلى الجزل، فناداهم الجزل: - «أيها الناس، إلىّ إلىّ.» وناداهم عياض بن أبى لينة: - «أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم هلك، فهذا أميركم الميمون النقيبة [1] . أقبلوا إليه.» فأقبلوا إليه. فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما. وقاتل الجزل قتالا شديدا حتّى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض بن أبى لينة حتّى استنقذاه وهو مرتثّ. وأقبل الناس منهزمين حتّى دخلوا الكوفة، وأتى بالجزل حتّى دخل المدائن، وكتب إلى الحجّاج بن يوسف: - «أما بعد، فإنّى أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّى خرجت من الجند الذي وجّهنى فيه إلى عدوّه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلىّ فيهم ورأيه. فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك وقد أرادنى العدوّ بكلّ ريدة، فلم يصب منّى غرّة حتّى قدم علىّ سعيد بن مجالد رحمه الله، فأمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألّا يقاتلهم إلّا فى جماعة الناس عامّة [343] فعصاني وتعجّل إليهم فى الخيل، وكنت أشهدت الله عليه وأهل المصرين، أنّى [2] بريء من رأيه الذي رأى، وأنّى لا أهوى ما صنع. فمضى، تجاوز الله عنه، ودفع الناس إلىّ، فنزلت ودعوتهم إلىّ، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتّى صرعت فحملني أصحابى من بين القتلى، فما أفقت إلّا وأنا فى أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن فى جراحات قد يموت الإنسان من دونها، ويعانى من مثلها. فليسأل الأمير، أصلحه الله، عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتى عدوّه، وعن موقفي يوم البأس. فإنّه يستبين له عند ذلك   [1] . الميمون النقيبة: كذا فى الأصل والطبري (8: 910) . وما فى مط: الميمون التعبئة! [2] . فى الأصل: وأنّى (بزيادة الواو) والواو ليست فى الطبري (8: 913) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 أنّى قد صدقته ونصحت له. والسلام.» فكتب إليه الحجّاج: - «أما بعد، فقد أتانى كتابك وقرأته وفهمت كلّ ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر نفسك وقد صدّقتك فى نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدّتك على عدوّك وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك. فأما عجلته فانّها أفضت به إلى الجنة وأما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنتك، حزم، وقد أحسنت وأصبت وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع، والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيّان [1] بن أعسر [344] ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم، فأنفقها فى حاجتك وما ينوبك. والسلام.» وبعث عبد الله بن أبى عصيفر إلى الجزل بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللّطف والهديّة. وأقبل شبيب حتّى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد، وكان ذلك يوم سوقهم، فآمنهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، وهو وأصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دوابّ وثيابا وأشياء ليس لهم منها بدّ، ثمّ أخذ بهم نحو الكوفة، فساروا، وبلغ الحجّاج مكانه بحمّام [أعين] [2] فبعث إلى سويد بن عبد الرحمان السعدي، فجهّزه فى ألفى فارس نقاوة وقال له: - «اخرج إلى شبيب، فالقه واجعل ميمنة وميسرة، ثمّ انزل إليهم فى الرجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتّبعه.» فخرج، فعسكر بالناس بالسبخة، وبلغه أنّ شبيبا قد أقبل. فسار نحوه وكأنما يساقون إلى الموت. وأمر الحجّاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس فى السبخة، ونادى:   [1] . حيّان بن أعسر: كذا فى الأصل. حبان اعرا! وما فى الطبري: حيّان بن أبجر. [2] . بحمّام [أعين] : الأصل غير واضح. وما أثبتناه بين [] من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 - «ألا، برئت الذمّة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة.» فبينا سويد بن عبد الرحمان يسير فى الألفين الذين معه وهو يعبّئهم [345] ويحرّضهم، إذ قيل له: - «قد غشيك شبيب.» فنزل، ونزل معه جلّ أصحابه، وقدّم رايته، فأخبر أنّ شبيبا لمّا أخبر بمكانك، تركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به. ثمّ قيل لهم: - «أما تراهم؟» فنادى فى أصحابه، فركبوا فى آثارهم وإنّ شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل له: - «إنّ أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون.» فلمّا بلغ مكان شبيب، ماج بعضهم فى بعض، وجالوا وهمّوا بدخول الكوفة حتّى قيل لهم: - «هذا سويد بن عبد الرحمان فى آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم فى الخيل.» ومضى شبيب حتّى أخذ على شاطئ الفرات، ثمّ أخذ على الأنبار، ثمّ دخل وقوقا، ثمّ ارتفع إلى أدانى آذربيجان. فتركه الحجّاج، وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن شعبه. فما شعر الناس بشيء حتّى جاء كتاب مادر واسب دهقان بابل مهروذ إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أنّ تاجرا من تجّار أهل بلادي أتانى يذكر أنّ شبيبا يريد أن يدخل الكوفة فى أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك لترى رأيك ثمّ لم ألبث أن جاءني جائيان [346] من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 جيراني، فحدّثانى أنه قد نزل خانيار [1] . فأخذ عروة كتابه، فأدرجه وسرّح به إلى الحجّاج بالبصرة. فلما قرأه الحجّاج أقبل جادّا إلى الكوفة، وأقبل شبيب حتّى انتهى إلى قرية يقال لها: حزى، على شاطئ دجلة، فعبر منها، وقال لأصحابه: - «يا هؤلاء، إنّ الحجّاج ليس بالكوفة وليس دون الكوفة شيء إن شاء الله، فسيروا بنا.» فخرج يبادر الحجّاج إلى الكوفة. وكتب عروة إلى الحجّاج: - «إنّ شبيبا أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل.» فطوى الحجّاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة: فنزلها الحجّاج صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ثمّ أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثمّ ركبوا خيولهم. فدخل الكوفة، وجاء شبيب حتّى انتهى إلى السوق. ثمّ شدّ حتّى ضرب باب القصر بعموده. قال: فحدّثنى جماعة أنهم رأوا ضربة شبيب باب القصر، ثمّ أقبل حتّى وقف عند المصطبّة [2] وقال: وكأنّ حافرها بكلّ خميلة ... فرق [3] يكيل به شحيح معدم ثمّ اقتحم أصحابه المسجد، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتل جماعة. ومرّ بدار [347] حوشب وهو على الشرط، فوقفوا على با به وقالوا:   [1] . وفى الطبري: خانيجار، بدل: خانيار. [2] . المصطبّ: سندان الحدّاد. المصطبة والمصطبّة: مكان ممهّد قليل الارتفاع عن الأرض يجلس عليه. [3] . فرق: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 917) : كيل. وفى بعض الأصول: قرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 - «إنّ الأمير يدعو حوشبا.» فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب فكأنّه أنكرهم وأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له: - «كما أنت حتّى يخرج صاحبك.» فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم وذهب لينصرف فعجّلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب وقتلوا غلامه ميمونا وأخذوا برذونه ومضوا. حتّى مرّوا بالجحّاف بن بسيط الشيبانى من رهط حوشب. فقال له سويد: - «انزل إلينا.» فقال: - «ما تصنع بنزولى؟» قال سويد: - «انزل أقضك ثمن البكرة التي كنت ابتعتها منك بالبادية.» فقال له الجحّاف: - «بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس المكان لقضاء الدين، أما ذكرت أداء أمانتك إلّا والليل مظلم وأنت على متن فرسك! قبّح الله دينا لا يصلح ولا يتمّ إلّا بقتل وسفك لدماء أهل القبلة.» ثمّ مرّوا بمسجد بنى ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلّى فى مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فقتلوه. ثمّ خرجوا متوجّهين نحو الردمة، وأمر الحجّاج فنودي: - «يا خيل الله اركبي وأبشرى.» وهو فوق القصر [348] وهناك مصباح مع غلام له قائم. فكان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن ومعه مواليه وناس من أهله، فقال: - «أعلموا الأمير مكاني، أنا عثمان بن قطن، ليأمرنى بأمره.» فناداه ذلك الغلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 - «قف مكانك حتّى يأتيك أمر الأمير.» وجاء الناس من كلّ جانب، وبات عثمان فى من اجتمع إليه من الناس حتّى أصبح. وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجّاج: - «إذا قدم عليك محمد بن موسى بن طلحة فجهّز معه ألفى رجل، وعجّل سراحه إلى سجستان.» فلما قدم محمد بن موسى الكوفة جعل يتحبّس ويتجهّز. فقال له نصحاؤه: - «تعجّل أيها الرجل إلى عملك، فإنّك لا تدرى ما يحدث.» فأقام على حاله وحدث من أمر شبيب ما حدث. حيلة الحجّاج على محمد بن موسى حتّى حارب الخوارج وقتل فقيل للحجّاج: - «إن سار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه ممن تطلب أحد، منعك منه؟» قال: - «فما الحيلة؟» قالوا: - «تأتيه فتسلّم عليه وتذكر نجدته وبأسه وأنّ شبيبا فى طريقه وقد أعياك، وأنّك ترجو أن يريح الله منه على [349] يديه، فيكون له ذكر ذلك [1] وشهرته.» فكتب إليه الحجّاج: - «إنّك عامل على كلّ بلد مررت به، وهذا شبيب فى طريقك تجاهد ومن معه ولك ذكره وصيته، ثمّ تمضى إلى عملك.» فاستجاب له.   [1] . ذلك: كذا فى الأصل. وفى مط: لك. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ثمّ إنّ الحجّاج بعث بشر [1] بن غالب الأسدىّ فى ألفى رجل وزيادة بن قدامة فى ألفين، وأبا الضريس مولى تميم فى ألف من الموالي، وأعين صاحب حمّام أعين مولى بشر بن مروان فى ألف، وجماعة غيرهم. واجتمع تلك الأمراء فى أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القوّاد، وأخذ نحو القادسيّة. فوجّه الحجّاج زحر بن قيس فى جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له: - «اتّبع شبيبا حتّى تواقعه حيث ما أدركته ما لم يعطف عليك وينزل فيقيم لك فلا تبرح حتّى تواقعه.» فخرج زحر حتّى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز [2] اليهودىّ، وكان شجاعا وعلى ميسرته عدىّ بن عميرة الكندىّ، وجمع شبيب خيله كلّها كبكبة واحدة، ثمّ اعترض بها الصفّ يوجف وجيفا حتّى انتهى إلى زحر بن قيس. فنزل زحر فقاتل [350] حتّى صرع وانهزم أصحابه. فظنّ القوم أنّهم قتلوه. فلما كان فى السحر وأصابه البرد قام يمشى حتّى دخل قرية فبات فيها وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه أربع [3] عشرة ضربة، فمكث أياما ثمّ أتى الحجّاج وعلى وجهه القطن، فأجلسه معه على السرير. وقال أصحاب شبيب لشبيب، وهم يظنّون أنّهم قتلوا زحرا: - «قد هزمنا لهم جندا، وقتلنا أميرا من أمرائهم عظيما. انصرف بنا الآن وافرين [4] .» فقال لهم:   [1] . بشر بن غالب، كذا فى الأصل والطبري (8: 923) . وما فى مط: بشير بن غالب. [2] . كذا فى الأصل: كناز. وما فى مط: كنان. [3] . فى الأصل: أربعة (بالتأنيث) فصححنا العدد كما فى مط. [4] . وافرين: فى الأصل غموض. وما أثبتناه يؤيده الطبري (8: 922) ومط. وفى بعض الأصول: واقرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 - «إنّ قتلنا هذا الرجل وهزيمتنا هذا الجند قد أرعبت هذه الأمراء، فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم، ما دون قتل الحجّاج وأخذ الكوفة شيء.» فقالوا: - «نحن طوع أمرك، فرأيك.» قال: فانقضّ [1] بهم جوادا حتّى أتى نجران الكوفة بناحية عين التمر، ثمّ استخبر عن القوم فعرّف اجتماعهم بروذآباد فى أسفل الفرات على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة، وبلغ الحجّاج مسير شبيب إليهم، فبعث إليهم يقول لهم: - «إن جمعكم قتال، فأميركم زايدة بن قدامة.» قال عبد الرحمن: فانتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء، على جماعتهم زايدة بن قدامة، وقد عبّى [351] كلّ أمير أصحابه على حدة وهو واقف فى أصحابه. فأشرف على الناس شبيب وهو على فرس له كميت أغرّ، فنظر إلى تعبئتهم، ثمّ رجع إلى أصحابه، فأقبل فى ثلاث كتائب يوجفون، حتّى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فيقف فى ميمنتنا، وفيها زياد بن عمرو العتكىّ، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت بإزاء ميسرتنا، وفيها بشر بن غالب الأسدى، وجاء شبيب فى كتيبة حتّى وقف مقابل القلب. قال: فخرج زايدة بن قدامة يسير فى الناس بين الميمنة والميسرة يحرّض الناس ويقول: - «عباد الله، إنكم الطيّبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون. اصبروا، جعلت لكم الفداء لكرّتين أو ثلاث، ثمّ هو النصر، ليس دونه شيء إلّا ترونهم. والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، وهم السرّاق المرّاق، إنّما   [1] . فانفضّ بهم جوادا: كذا فى الأصل والطبري، وما فى مط: فانقض بهم جادا! وفى بعض الأصول: فما نفضوا لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 جاءوكم ليهريقوا دماءكم ويأخذوا فيئكم [1] ، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، وغضّوا الأبصار واستقبلوهم بالأسنّة، ولا تحملوا عليهم حتّى آمركم.» ثمّ انصرف إلى موقفه. [352] وحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفّهم، وثبت زياد فى جماعة، ثمّ ارتفع عنهم سويد قليلا، ثمّ كرّ عليهم ثانية. قال فروة بن لقيط: إطّعنّا ساعة وصبروا لنا حتّى ظننت أنهم لن يزولوا. وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا. فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنّه لأشدّ العرب قتالا وأشجعهم وما يعرض [2] لهم. قال: ثمّ ارتفعنا عنهم، فإذا هم يتقوّضون، فقال لنا أصحابنا: - «ألا تراهم يتقوّضون؟ احملوا عليهم.» فراسلنا شبيب: - «خلّوهم حتّى يخفّوا.» فتركوهم قليلا، ثمّ حمل عليهم الثالثة، فانهزموا. فنظرت إلى زياد بن عمرو وإنّه ليضرب بالسيوف، وما من سيف يضرب به إلّا نبا عنه، ولقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا وهو مجفّف، فما ضرّه شيء منها. ثمّ إنّه والله انهزم. ثمّ انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلنا قتالا شديدا وصبرنا. ثمّ إنّ مصادا حمل على بشر بن غالب فى الميسرة، فصبر وأبلى وكرم، ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتّى قتلوا. فلما قتلوا انهزم أصحابه.   [1] . فيئكم: كذا فى الأصل والطبري (8: 923) . وما فى مط: فيكم. [2] . ما يعرض لهم: كذا فى الأصل. وفى مط: وما تعرض لهم. والعبارة فى الطبري (8: 934) : وانّه لأشجع العرب وأشدّه قتالا وما يعرض له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 قال: وشددنا على أبى الضريس فهزمناه حتّى انتهى إلى موقف أعين. [353] ثمّ شددنا عليه وعلى أعين فهزمناهم حتّى انتهوا إلى زايدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه، نزل ونادى: - «يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إلىّ إلىّ. لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم.» فقاتل عامة الليل إلى السحر. ثمّ إنّ شبيبا شدّ عليه فى جماعة من أصحابه، فقتله وربضة [1] حوله من أهل الحفاظ. وقال شبيب لأصحابه: - «ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة.» فدعوهم عند الفجر إلى البيعة. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت ممن قدّم فبايعته وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه. فكلّ من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه وأخذ سلاحه، ثمّ يدنى من شبيب فيسلّم عليه بأمير المؤمنين، ثمّ يبايع. فإنّا لكذلك، إذا أضاء الفجر، ومحمد بن موسى بن طلحة فى أقصى العسكر مع أصحابه قد صبروا. وأمر مؤذنه فأذّن، فلما سمع الأذان قال: - «ما هذا؟» قالوا: - «هذا محمد بن موسى بن طلحة، لم يبرح.» قال: - «ظننت أنّ حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا. نحّوا هؤلاء عنّا، وانزلوا بنا فلنصلّ.»   [1] . والعبارة فى الطبري (8: 925) : فقتله وأصحابه وتركهم ربضة [وربضة- الهامش] حوله من أهل الحفاظ. وفى مط: وقتلوه وربضة حوله من أهل الحفاظ. والضبط فى الأصل: «وربضة» فضبطنا حسب الطبري: «ربضة» . الربضة: مقتل كلّ قوم قتلوا فى موقعة واحدة. والربضة: الجثة. الجماعة من الغنم والناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فنزل، وأذّن هو، ثمّ استقدم، فصلّى بأصحابه، فقرأ: وَيْلٌ لِكُلِّ [354] هُمَزَةٍ 104: 1 [1] ، و: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ 107: 1 [2] . ثمّ سلّم وركبوا. فأرسل شبيب إلى محمد: - «إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجّاج وأنت جار لى، ولك حقّ. فانطلق لما أمرت به ولك الله ألّا أريبك.» فأبى إلّا محاربته. فأعاد إليه الرسول، فأبى إلّا قتاله. فقال له شبيب: - «كأنّى بأصحابك لو التقت حلقتا البطان، لأسلموك، فصرعت مصرع أصحابك فأطعنى وانطلق لشأنك، فإنّى أنفس بك عن القتل.» فأبى ودعا إلى البراز، فبرز له البطين، ثمّ قعنب، ثمّ سويد، فأبى إلّا شبيبا. فقالوا لشبيب: - «قد رغب عنّا إليك.» قال: - «فما ظنّكم؟ هم الأشراف.» فبرز له شبيب، وقال: - «أنشدك الله فى دمك، فإنّ لك جوارا.» فأبى. فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثنى عشر رطلا. فهشم بيضة عليه ورأسه، ثمّ نزل إليه فكفنه ودفنه. وابتاع ما غنموا له من عسكره، فبعث به إلى أهله واعتذر إلى أصحابه. قال: - «هو جارى بالكوفة، ولى أن أهب ما غنمت لأهل الردّة.» فقال له أصحابه: - «مادون الكوفة أحد يمنعها.» فنظر، فإذا أصحابه قد جرحوا. فقال لهم: - «ما عليكم أكثر مما فعلتم.» [355]   [1] . س 104 الهمزة: 1. [2] . س 107 الماعون: 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وخرج بهم إلى نفّر، ثمّ خرج بهم إلى بغداد نحو خانيجار، فأقام بها. ولما بلغ الحجّاج أنّ شبيبا قد أخذ نحو نفّر، ظنّ أنّه يريد المدائن وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما فى يديه من أرض الكوفة أكثر. فهال ذلك الحجّاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، وسرّحه إلى المدائن وولّاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعا حتّى نزل المدائن، وعزل الحجّاج ابن أبى عصيفر، وكان بها الجزل مقيما يداوى جراحاته، وكان ابن أبى عصيفر يعوده ويكرمه ويلطفه. فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء. فكان الجزل يقول: - «اللهمّ زد ابن أبى عصيفر جودا، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا.» ثمّ إنّ الحجّاج دعا عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فقال له: - «انتخب الناس.» وأخرج من قومه ستمائة من كندة، ومن سائر الناس ستة آلاف، واستحثّه الحجّاج، فعسكر بدير عبد الرحمان. فلما أراد الحجّاج إشخاصهم كتب إليهم كتابا قرئ عليهم. [356]- «أما بعد، فقد اعتدتم [1] عادة الأذلّاء وولّيتم الدبر [2] يوم الزحف دأب الكافرين. وإنّى قد صفحت عنكم مرّة بعد مرّة، وتارة بعد أخرى. وإنّى أقسم لكم باللَّه قسما صادقا، لئن عدتم لذلك لأوقعنّ بكم إيقاعا أكون به أشدّ عليكم من هذا العدوّ الذي تهربون منه فى بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأفناء الأنهار وألواذ الجبال. فخاف من كان له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر، والسلام.» وارتحل عبد الرحمان فى الناس حتّى مرّ بالمدائن، فنزل بها يوما حتّى تشرّى   [1] . اعتدتم: كذا فى الأصل. وما فى مط: أعدتم. [2] . الدبر: كذا فى الأصل. وما فى مط: الدبور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 به أصحابه حوائجهم، ثمّ نادى فى الناس بالرحيل، فارتحلوا. ثمّ أقبل حتّى دخل على عثمان بن قطن، ثمّ أتى الجزل، فسأله عن [1] جراحته. وحدّثه ساعة. فقال له الجزل: - «يا ابن عمّ، إنّك تسير إلى فرسان العرب، وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل [2] والله لكأنّما خلقوا من ضلوعها، ثمّ بنوا على ظهورها، ثمّ هم أسد الأجم [3] الفارس منهم أشدّ من مائة، إن لم يبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم. وإنّى قد قاتلتهم وبلوتهم، [357] فإذا أصحرت لهم انتصفوا منّى وكان لهم الفضل علىّ وإذا خندقت علىّ أو قاتلتهم فى مضيق نلت منهم ما أحبّ، وكان لى عليهم، فلا تلقهم وأنت تستطيع، إلّا فى تعبئة أو خندق.» ثمّ ودّعه، وقال له الجزل: - «هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنّها لا تجارى.» فأخذها. ثمّ خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقا وشهرزور. فخرج عبد الرحمان فى طلبه حتّى إذا كان على التخوم، أقام، وقال: - «إنما هو فى أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوا [4] .» فكتب إليه الحجّاج: - «أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك فى أثره أين سلك، حتّى تدركه فتقتله، أو تنفيه. فإنّما السلطان سلطان أمير المؤمنين، والجند جنده. والسلام.»   [1] . فى الأصل: فسأله به من جراحته: وفى مط والطبري: فسأله عن جراحته، فأثبتنا العبارة كما فى الأخيرين. [2] . أحلاس الخيل: كذا فى الأصل والطبري (8: 931) . وما فى مط: اجلاس الحبل! [3] . الأجم: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: الآجام. [4] . ليدعوا: كذا فى الأصل ومط. ومفى الطبري (8: 931) : ليدعوه. وفى بعض الأصول: ليدعوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فخرج عبد الرحمان حتّى قرأ الكتاب فى طلب شبيب. فكان شبيب يدعه حتّى إذا دنا منه يبيّته فيجده قد خندق، وحذر، فيمضى ويدعه، فيتبعه عبد الرحمان. فإذا بلغه أنه قد تحمّل، وأنه يسير، أقبل فى الخيل. فإذا انتهى إليه، وجده قد صفّ الخيل والرجّالة المرامية، [358] فلا تصيب له غرّة ولا غفلة، فيمضى ويدعه. ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرّته، ولا يصل إليه، جعل يخرج، كلّما دنا منه عبد الرحمان حتّى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا منه، ثمّ يقيم فى أرض غليظة خشنة، فيجيء عبد الرحمان فى خيله وثقله، حتّى إذا دنا من شبيب ارتحل عنه شبيب، فسار خمسة عشر فرسخا أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا. ثمّ يقيم حتّى يدنو عبد الرحمان. فكان شبيب قد عذّب ذلك العسكر، وشقّ عليهم، وأحفى دوابّهم، ولقوا منه كلّ بلاء. فلم يزل عبد الرحمان يتبعه حتّى مرّ به على خانقين، ثمّ جلولاء، ثمّ تامرّا [1] ، ثمّ أقبل إلى البتّ ونزل بها، وعلى تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا. وجاء عبد الرحمان حتّى نزل شرقىّ حولايا وهو فى راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل فى عواقير [2] من النهر، ونزلها عبد الرحمان حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن، وأرسل إلى عبد الرحمان: - «هذه الأيام أيّام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتّى تمضى هذه الأيام فعلتم.» فأجابه عبد الرحمان [359] إلى ذلك ولم يكن شيء أحبّ إلى عبد الرحمان من المطاولة والموادعة.   [1] . تامّرا: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 932) . وفى بعض الأصول: سامرّا. تامرّا: نهر كبير تحت بغداد شرقيّها، مخرجه من جبال شهرزور مما يجاورها وينسب إليه طسوج من طساسيج بغداد (مراصد الاطلاع) . [2] . عواقير: كذا فى الأصل. وفى مط: عولقير. وما فى الطبري: عواقيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فكتب عثمان بن قطن إلى الحجّاج: - «أما بعد، فإنّى أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّ عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وخلّى شبيبا، وكسر خراجها، فهو يأكل أهلها. والسلام.» وكتب إليه الحجّاج: - «قد فهمت ما ذكرت، وقد- لعمري- فعل عبد الرحمان غير مرضىّ، فسر إلى الناس، فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتّى تلقاهم.» وبعث الحجّاج إلى المدائن مطرّف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتّى قدم على عبد الرحمان ومن معه وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البتّ وذلك يوم التروية عشاء. فنادى الناس وهو على بغله: - «أيها الناس، أخرجوا إلى عدوّكم.» فوثب إليه الناس فقالوا: - «ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطّنوا أنفسهم على القتال. فبت الليلة، ثمّ اخرج على تعبئة.» فجعل يقول: - «لأناجزنّهم، فلتكوننّ الفرصة لى أولهم.» فأتاه عبد الرحمان، فأخذ بعنان بغلته وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شدّاد السلولي: - «إنّ الذي تريد من مناجزتهم الساعة، أنت فاعله غدا وهو خير لك وللناس. [360] إنّ هذه ساعة ريح [1] وغبرة وقد أمسيت، فانزل، ثمّ ابكر بنا غدوة.» فنزل، فسفت عليه الريح، وشقّ عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج،   [1] . فى مط: ربح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فبنوا له قبّة وبات فيه. ثمّ أصبح وخرج بالناس، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة. فصاح الناس إليهم وقالوا: - «ننشدك الله أن تخرج بنا فى هذا اليوم، فإنّ الريح علينا.» فأقام ذلك اليوم، وكان شبيب يخرج إليهم. فلما رءاهم لم يخرجوا إليه أقام. فلما كان من الغد خرج عثمان يعبّئ الناس على أرباعهم، وسألهم: - «من كان على ميمنتكم وميسرتكم؟» قالوا: - «كان خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن شدّاد السلولي كان على ميمنتنا.» فقال لهما: - «قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد ولّيتكما المجنّبتين، فاثبتا ولا تفرّا، فو الله لا أزول حتّى تزول نخيل راذان عن أصولها.» فقالا: - «فنحن والله الذي لا إله إلّا هو، لا نفرّ حتّى نظفر أو نقتل.» فقال لهما: - «جزاكما الله خيرا.» ثمّ أقام حتّى صلّى بالناس الغداة، ثمّ خرج بالخيل، ونزل يمشى فى الرجال. وخرج شبيب وهو يومئذ فى مائة [361] وأحد وثمانين رجلا. فقطع إليهم النهر، وكان هو فى ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل فى القلب مصادا أخاه، وزحفوا. وكان عثمان بن قطن يقول فيكثر: - «لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا [1] .» ثمّ قال شبيب لأصحابه: - «إنّى حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتى على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتّى يأتيه أمرى.»   [1] . س 33 الأحزاب: 16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وحمل [1] فى ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن، فانهزموا، ونزل عقيل بن شدّاد مع طائفة من أهل الحفاظ، فقاتل حتّى قتل، وقتلوا معه. ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم فى ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن، فهزمها وعليها خالد بن نهيك الكندي. فنزل خالد فقاتل قتالا شديدا، وحمل عليه شبيب من ورائه، فلم ينثن حتّى علاه بالسيف فقتله. ومشى عثمان بن قطن، وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب فى نحو من ستين رجلا. فلما دنا منهم عثمان بن قطن شدّ عليهم فى الأشراف وأهل الصبر، فضربوهم حتّى فرّقوا بينهم. [362] وحمل شبيب من ورائهم بالخيل، فما شعروا إلّا والرماح فى أكتافهم يكبّهم لوجوههم. وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا فى خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقاتل عثمان بن قطن، فأحسن القتال. ثمّ إنهم شدّوا عليه، فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب، فضربه ضربة بالسيف استدار لها، وقال: - «وكان أمر الله قدرا مقدورا [2] .» ثمّ إنّهم قتلوه، وقتل معه العرفاء ووجوه الناس، فقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلا، وقتل من سائر الناس نحو من ألف، ووقع عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فعرفه ابن أبى سبرة، فنزل وناوله الرمح وقال له: اركب، فركب وارتدف ابن أبى سبرة وقال له عبد الرحمان: - «ناد فى الناس: الحقوا بدير ابن أبى مريم.» فنادى. ثمّ انطلقا ذاهبين، وأمر شبيب أصحابه، فرفعوا عن الناس السيف ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجال، فبايعوه. وبات عبد الرحمان بدير   [1] . وحمل: كذا فى الأصل. والكلمة سقطت من مط. [2] . س 33 الأحزاب: 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 النعار [1] ، فأتاه فارسان. فخلا أحدهما بعبد الرحمان طويلا يناجيه، وقام الآخر قريبا منهما، ثمّ مضى مع صاحبه، فكان الناس يتحدّثون أنّ ذاك كان شبيبا وأنه كان كاتبه. [363] ثمّ خرج عبد الرحمان آخر الليل، فسار حتّى أتى دير ابن أبى مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم ابن أبى سبرة صبر [2] الشعير والقتّ كأنّها القصور ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، واجتمع الناس إلى عبد الرحمان فقالوا له: - «إن علم شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد تفرّق عنك الناس وقتل خيارهم، فالحق أيها الرجل بالكوفة.» فخرج، وخرج معه الناس، وجاء حتّى اختبأ [3] من الحجّاج، إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك. ثمّ إنّ شبيبا اشتدّ عليه الحرّ وعلى أصحابه، فأتى ماه بهراذان [4] ، فتصيّف بها ثلاثة أشهر. وأتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا كثير، ولحق به ناس ممن كان يطلبهم الحجّاج بمال وتباعات. فمنهم رجل يقال له: الحرّ بن عبد الله بن عوف، كان قتل دهقانين من أهل درقيط [5] كانا ضيفين عليه، ولحق بشبيب حتّى شهد معه مواطنه، حتّى قتل شبيب، وله مقام عند الحجّاج وكلام سلم به من القتل يجب أن نثبته. وهو أنّ الحجّاج، لمّا آمن بعد قتل شبيب كلّ من خرج إليه من أصحاب المال، خرج إليه الحرّ فى من خرج. فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه   [1] . النعار: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 939) : اليعار. وفى حواشي الطبري: البقار، النعار، النعار وصور أخرى مهملة. [2] . صبر: جمع مفرده الصبرة: الكومة من الطعام. يقال: اشترى الطعام صبرة: أى: جزافا بلا كيل أو وزن. [3] . اختبأ: كذا فى الأصل. وفى مط: احتبا. وما فى الطبري: اختبى. اختبأ: اختبى. [4] . ماه بهزاذان: ما فى الأصل مهمل فى الأول والثالث فضبطناه حسب الطبري (8: 941) . وفى حواشي الطبري عن الأصول والمخطوطات: نهراذان، بهزاذان، بهزادان. [5] . درقيط: نهر درقيط: كورة ببغداد من جهة الكوفة (ياقوت) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الحجّاج. فأتى به. [364] كلام للحرّ، لمّا أتى به ليقتل، سلم به فقال له الحجّاج: - «يا عدوّ الله قتلت رجلين من أهل الخراج؟» فقال له: - «قد كان- أصلحك الله- منّى ما هو أعظم من هذا.» قال: - «وما هو؟» قال: - «خروجي من الطاعة وفراقي الجماعة. ثمّ إنّك آمنت كلّ من خرج إليك وهذا أمانى وكتابك لى.» فقال له الحجّاج: - «قد لعمري فعلت أولى لك.» وخلّى سبيله. رجعنا إلى حديث شبيب. ثمّ إنّه لمّا انفسخ الحرّ عن شبيب خرج من ماه فى نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة. فجاء حتّى نزل قناطر حذيفة بن اليمان. فكتب ماذرواسب، وهو عظيم بابل مهروذ، إلى الحجّاج يخبره خبر شبيب. فقام الحجّاج فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أيها الناس، لتقاتلنّ عن بلادكم وعن فيئكم [1] أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على البلاء منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم.» فقام إليه الناس من كلّ جانب يقولون: - «نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا إليهم، فإنّا حيث سرّه.»   [1] . فيئكم: كذا فى الأصل. وما فى مط: فيكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وقام إليه زهرة [365] بن حويّة. وهو يومئذ شيخ كبير، لا يستتمّ قائما حتّى يؤخذ بيده، فقال: - «أصلح الله الأمير. إنّك إنما تبعث الناس متقطّعين، فاستنفر الناس إليهم كافّة، وابعث عليهم رجلا متينا شجاعا، محربا مجرّبا ممن يرى الفرار هضما وعارا، والصبر مجدا وكرما. 2 فقال له الحجّاج: - «فأنت ذاك. فاخرج!» فقال له: - «أصلح الله الأمير. إنما يصلح الناس فى هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهزّ السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا. قد ضعفت وضعف بصرى، ولكن أجرى [1] فى الناس مع أمير، فإنّى أثبت على الرحالة، فأكون مع الأمير فى عسكره وأشير عليه برأى.» فقال له الحجّاج: - «جزاك الله عن الإسلام والطاعة فى أوّل الإسلام وآخره خيرا. فقد نصحت وصدقت. أنا مخرج الناس كافّة، ألا، فسيروا أيها الناس.» فانصرف الناس وجعلوا يتيسّرون [2] ولا يدرون من أميرهم. ذكر رأى سديد للحجّاج وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بن مروان: - «أما بعد، فإنّى أخبر أمير المؤمنين، أكرمه الله، [366] أنّ شبيبا قد شارف المدائن، وإنّما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله فى مواطن كثيرة، فى كلّها تقتل أمراؤهم وتفلّ جنودهم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلىّ أهل الشام   [1] . أجرى: كذا فى الأصل. وما فى مط: أخرنى. [2] . كذا فى الأصل: يتيسّرون. وفى مط: يسيرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 فيقاتلوا عدوّهم ويأكلوا بلادهم، فليفعل.» فلما أتى عبد الملك كتابه، بعث إليه سفيان بن الأبرد فى أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمان بن مذحج فى ألفين، فسرّحهم حين أتاه كتاب الحجّاج، وكان بعث الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء ليأتيه، وكان على خيل الكوفة مع المهلّب وهم الجيش الذي كان بشر بن مروان بعث عليهم عبد الرحمان بن مخنف إلى قطري، وقد أخبرنا فى ما مضى بمقتل عبد الرحمان بن مخنف. فبعث الحجّاج عتّاب بن ورقاء على ذلك الجيش الذي أصيب فيهم عبد الرحمان، وكان جرى لعتّاب مع المهلّب كلام تأدّى إلى وحشة. فلما أن جاء فى هذا الوقت كتاب الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء بأن يأتيه، سرّ بذلك، ودعا الحجّاج أشراف الكوفة، فيهم: زهرة بن حويّة، وقبيصة بن والق، فقال: - «من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟» فقالوا: - «رأيك أيها الأمير [367] أفضل.» - «فإنّى قد بعثت إلى عتّاب بن ورقاء، وهو قادم [1] عليكم الليلة، فيكون هو الذي يسير فى الناس.» قال زهرة بن حويّة: - «أصلح الله الأمير، رميتهم بحجرهم، لا والله، ما يرجع إليك حتّى يظفر أو يقتل.» ذكر رأى جيّد رءاه قبيصة بن والق فقال قبيصة بن والق:   [1] . قادم: كذا فى الأصل. وفى مط: قادر. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 - «إنّى أشير عليك برأى اجتهدته نصيحة لأمير المؤمنين، وللأمير ولعامة المسلمين. إنّا قد تحدّثنا وتحدّث الناس. إنّ جيشا فصل إليك من أهل الشام، وإنّ أهل الكوفة قد هزموا، وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة، فقلوبهم كأنّما هي فى قوم آخرين. فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يلبثوا إلّا وهم يرون أنهم ميّتون، فعلت. فإنّك تحارب حوّلا قلّبا، طعّانا رحّالا، وقد جهّزت إليه أهل الكوفة، ولست واثقا بهم كلّ الثقة، وإنّما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام. إنّ شبيبا، بينا هو فى أرض، إذ هو فى أرض أخرى، ولا آمن أن يأتيهم [368] وهم غارّون [1] . وإن يهلكوا نهلك وتهلك العراق.» فقال: - «لله أنت! ما أحسن ما رأيت لى، وما أحسن ما أشرت به علىّ.» فبعث إلى من أقبل إليه من الشام، فأتاهم كتاب الحجّاج وقد نزلوا هيت، فقرءوه، فإذا فيه: - «أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار وخذوا على عين التمر حتّى تقدموا الكوفة إن شاء الله.» فأقبل القوم سراعا، وقدم عتّاب بن ورقاء فى الليلة التي قال الحجّاج إنه قادم. فأمره الحجّاج، فخرج بالناس وعسكر بحمّام أعين، وأقبل شبيب حتّى انتهى إلى كلواذى، فقطع منها دجلة. ثمّ أقبل حتّى نزل مدينة بهر سير، وصار بينه وبين مطرّف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرّف الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث رجالا من وجوه أصحابك.   [1] . غارّون: كذا فى الأصل والطبري (8: 944) . وفى مط: غازون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 مكيدة للمطرّف بن المغيرة كاد بها شبيبا حتّى حبسه عن وجهه وأظهر مطرّف أنّه يريد أن يدار سهم القرآن وينظر فى ما يدعو إليه، فإن وجده حقّا تبعه. فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب وسويد والمحلّل، ووصّاهم [369] شبيب ألّا يدخلوا السفينة حتّى يرجع رسوله من عند مطرّف، وبعث إلى مطرّف أن: - «ابعث إلىّ من أصحابك بعدّة أصحابى يكونوا رهنا فى يدي حتّى ترد على أصحابى.» فقال مطرّف لرسوله: - «القه وقل له: كيف آمنك على أصحابى إذا بعثت بهم الآن وأنت لا تأمننى على أصحابك.» فأبلغه الرسول، فقال شبيب: - «إنّك قد علمت أنّا لا نستحلّ الغدر فى ديننا، وأنتم تستحلّونه وتفعلونه.» فبعث إليه مطرّف جماعة من وجوه أصحابه. فلما صاروا فى يد شبيب، سرّح إليه أصحابه. فأتوا مطرّفا، فمكثوا أربعة أيّام يتناظرون [1] ، ثمّ لم يتّفقوا على شيء. فلما تبيّن لشبيب أن مطرّفا غير تابعه [2] ، تعبّى للمسير، وجمع أصحابه وقال لهم: - «إنّ هذا الثقفىّ قطعني عن رأيى منذ أربعة أيام. وذاك أنّى هممت أن أخرج فى جريدة من الخيل حتّى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام، رجاء أن أصادف غرّتهم قبل أن يحذروا، وكنت ألقاهم متقطّعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجّاج يستندون إليه، ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيون أنّ   [1] . يتناظرون: كذا فى الأصل. ما فى مط: يناظرون. [2] . غير تابعه: هكذا قرأناها، وليست واضحة تماما فى الأصل. وما فى مط: غير تابعة! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 أوائلهم قد دخلوا [370] عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة [1] . وجاءتني أيضا عيوني من نحو عتّاب أنّه قد نزل بجماعة أهل الكوفة والبصرة. فما أقرب ما بيننا وبينهم. فتيسّروا بنا للمسير إلى عتّاب بن ورقاء.» وكان عتّاب يومئذ قد أخرج معه جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم وشبّانهم، فوافى معه أربعون ألفا من المقاتلة، وعشرة آلاف من الشباب. فكانوا خمسين ألفا. وهدّدهم الحجّاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة، وتوعّدهم. وعرض شبيب أصحابه فى المدائن، فكانوا ألف رجل، فخطبهم، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «يا معشر المسلمين، إنّ الله عزّ وجلّ قد كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان، وأنتم اليوم مئون ومئون. ألا، إنّى مصلّ الظهر ثمّ سائر بكم إن شاء الله.» فصلّى، ثمّ نودى فى الناس، فأخذوا يتخلّفون ويتأخّرون. قال فروة بن لقيط: فلما جاز بنا ساباط، ونزلنا معه قصّ علينا، وذكّرنا بأيام الله وزهّدنا فى الدنيا، ورغّبنا فى الآخرة. ثمّ أذّن مؤذّنه، فصلّى بنا العصر، ثمّ أقبل حتّى أشرف بنا على عتّاب بن ورقاء. فلما رءاهم نزل من ساعته، وأمر مؤذّنه فأذّن، ثمّ تقدّم، فصلّى بهم المغرب، وخرج [371] عتّاب بالناس كلّهم، فعبّأهم، وكان قد خندق أول أيّام نزل. وكان يظهر أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن. فلما صفّ عتّاب الناس بعث على ميمنته محمد بن عبد الرحمان بن سعيد بن قيس، وقال له: - «يا بن أخى، إنّك شريف، فاصبر وصابر.» فقال له: - «أمّا أنا فو الله لأقاتلنّ ما ثبت معى إنسان.» وقال لقبيصة بن والق:   [1] . سقط من مط، من قوله: «وقد جاءتني» إلى قوله: «قد شارفوا الكوفة.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 - «اكفنى الميسرة.» فقال: - «أنا شيخ كبير. غايتي أن أثبت تحت رايتي..» وكان يومئذ على ثلث بنى تغلب. - «.. أما تراني لا أستطيع القيام، إلّا أن أقام؟ وأخى نعيم بن عليم وهو ذو جزء [1] وغناء.» فبعثه على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث، ابن عمّ عتّاب وشيخ أهل بيته على الرجّالة، وبعث معه ثلاثة صفوف فيه الرجّالة معهم السيوف، وصفّ هم أصحاب الرماح، وصفّ فيه المرامية. ثمّ سار بين الميمنة والميسرة، ويمرّ بأهل راية راية، فيحثّهم على الصبر ويقصّ عليهم. وقال فى ما حفظ من كلامه: - «إنّ أعظم الناس نصيبا فى الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين. ألا ترون أنه يقول: اصْبِرُوا، إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ 8: 46 [2] » ؟ وليس [372] الله لأحد أمقت منه لأهل البغي. ألا ترون أنّ عدوّكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه. لا يرون ذلك إلّا قربة لهم عند الله، فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار. أين القصّاص؟» قال ذلك مرارا، فلم يجبه أحد منّا. فلما رأى ذلك، قال: - «أين من يروى شعر عنترة؟» قال: فلا والله ما ردّ عليه أحد كلمة. فقال: - «إنّا لله، كأنّى بكم قد فررتم عن عتّاب، وتركتموه تسفى فى استه الريح.» ثمّ أقبل حتّى جلس فى القلب معه زهرة بن حويّة جالس وعبد الرحمان بن محمد بن الأشعث. وأقبل شبيب وهو فى ستمائة وقد تخلّف عنه من الناس أربعمائة، فقال:   [1] . ذو جزء: كذا فى الأصل. وما فى مط: ذو حر! والجزء: الكفاية. وفى الطبري (8: 950) : ذا حزم وعزم وغناء. [2] . س 8 الأنفال: 46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 - «ما تخلّف عنّى إلّا من لا أحبّ أن أراه فينا.» فبعث سويد بن سليم فى مائتين إلى الميسرة، وبعث المجلّل بن وائل فى مائتين إلى القلب. ومضى هو فى مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم: - «لمن هذه الرايات؟» قالوا: - «رايات ربيعة.» فقال شبيب: - «رايات طال ما نصرت الحقّ، وطال ما نصرت الباطل، لها فى كلّ نصيب. أنا أبو المدلّه، أثبتوا إن شئتم.» ثمّ حمل عليهم وهم على مسنّاة [373] أمام الخندق، ففضّهم، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاء شبيب حتّى وقف عليه، وقال لأصحابه: - «مثل هذا ما قال الله عزّ وجلّ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ، فَكانَ من الْغاوِينَ 7: 175 [1] .» ثمّ حمل على الميسرة وفيها عتّاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليها محمد بن عبد الرحمان، فقاتل فى الميمنة فى رجال تميم وهمدان، فأحسن القتال. فمازالوا كذلك حتّى أتوا، فقيل لهم: - «قتل عتّاب بن ورقاء.» قال: فانفضّوا، ولم يزل عتّاب جالسا على طنفسة فى القلب هو وزهرة بن حويّة [2] إذ غشيهم [3] شبيب، فانفضّ عنه الناس وتركوه، فقال عتّاب: - «يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلّ فيه الغناء. لهفي على خمسمائة فارس معى من وجوه الناس من نحو رجال تميم. ألا صابر لعدوّه! ألا مواس بنفسه؟»   [1] . س 7 الأعراف: 175. [2] . فى مط: جويه (بالجيم) . [3] . فى مط: غنيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فمضى الناس على وجوههم. فلمّا دنا منه شبيب وثب فى عصابة قليلة صبرت معه، فقال له بعضهم: - «أصلحك الله، إنّ عبد الرحمان [374] بن محمّد قد هرب عنك وانصفق معه ناس كثير.» فقال: - «قد فرّ قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالى ما صنع.» ثمّ قاتلهم ساعة وهو يقول: - «ما رأيت كاليوم قطّ موطنا لم أبل بمثله أقلّ ناصرا ولا أكثر هاربا خاذلا.» فرءاه رجل من بنى تغلب من أصحاب شبيب، وكان أصاب دما فى قومه، ولحق بشبيب، فقال لشبيب: - «والله، إنّى لأقتلنّ هذا المتكلّم عتّاب بن ورقاء.» فحمل عليه وطعنه، فوقع ووطئت الخيل زهرة بن حويّة. فأخذ يذبّ بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض. فجاءه الفضل بن عامر الشيبانى، فقتله، وانتهى إليه شبيب، فوجده صريعا، فعرفه وقال: - «من قتل هذا؟» فقال الفضل: - «أنا قتلته.» فقال شبيب: - «هذا زهرة بن حويّة. أما والله، لئن كنت قتلت على ضلالة لربّ يوم من أيّام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك، ولربّ خيل للمشركين هزمتها وسريّة له ذعرتها، ومدينة لهم فتحتها، ثمّ كان فى علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين.» وقتل وجوه العرب فى المعركة، واستمكن شبيب من أهل العسكر، فقال: - «ارفعوا عنهم السيف!» [375] ودعا إلى البيعة. فبايعه الناس من ساعتهم، وأخذ شبيب يبايعهم ويقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 - «إلى ساعة يهربون.» [1] فلما كان فى الليل هربوا، واحتوى شبيب على ما فى العسكر وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن، فأتاه وأقام شبيب ببيت قرّة يومين وقد دخل سفيان بن الأبرد وحبيب بن عبد الرحمان من مذحج فى من معها، فشدّوا ظهر الحجّاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أما بعد، يا أهل الكوفة، فلا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد منكم النصر، أخرجوا عنّا، فلا تشهدوا معنا قتال عدوّنا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا يقاتلن معنا إلّا من كان عاملا لنا ومن لم يشهد قتال عتّاب بن ورقاء.» ثمّ إنّ شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فقال لأصحابه: - «أيّكم يأتينى برأس عامل سورا؟» فانتدب إليه بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، وساروا مغذّين، حتّى انتهوا إلى دار الخوارج والعمّال فى سمّرجه [2] ، وكادوا الناس بأن قالوا: - «أجيبوا الأمير!» فقال الناس: - «أىّ الأمراء» فقالوا: - «أمير قد خرج [376] من قبل الحجّاج يريد هذا الفاسق شبيبا.» فاعترّ بذلك العامل منهم. فلما قربوا شهروا السيوف وحكّموا حين وصلوا إليه، فضربوا عنقه، وقبضوا ما وجدوا من مال، ولحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب المال، قال: - «أتيتمونا بفتنة المسلمين؟ هلمّ الحربة يا غلام!» فحزّت بها البدور، وأمر أن تنخس الدوابّ التي كانت عليها. فمرّت والمال   [1] . إلى ساعة يهربون: كذا فى الأصل. وما فى مط: إلى ساعة تهربون. [2] . سمّرجه: كذا فى الأصل. وما فى مط: سمرحه (بتخفيف الميم والحاء المهملة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 يتناثر من بدوره حتّى وردت الصراة، فقال: - «إن كان بقي شيء فاقذفوه فى الماء.» ذكر دخول شبيب الكوفة دخلته الثانية وإنّ أبا سفيان بن الأبرد أتى الحجّاج فقال: - «ابعثني إليه حتّى أستقبله قبل أن يأتيك.» فقال: - «ما أحبّ أن نفترق حتّى ألقاه فى جماعتكم الكوفة فى ظهورنا والحصن فى أيدينا.» وأقبل شبيب حتّى نزل موضع حمّام أعين، ودعا الحجّاج الحارث بن معاوية بن أبى زرعة بن مسعود الثقفي، فوجّهه فى ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتّاب، ونحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج فى ألف رجل، فنزل زرارة [1] . وبلغ ذلك شبيبا فتعجّل إليه. فلما انتهى إليه، حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه [377] وجاءوا حتّى دخلوا المدينة، وأقبل شبيب حتّى قطع ودنا من الكوفة، فبعث البطين فى عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات فى دار الرزق. فوجّه الحجّاج حوشب بن يزيد فى جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين، فلم يقو عليهم. فبعث إلى شبيب، فأمدّه بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه، ونجا ومضى البطين إلى دار الرزق فى أصحابه وعسكر على شاطئ الفرات، فلم يوجّه إليه الحجّاج أحدا. فمضى شبيب حتّى نزل السبخة وأقام ثلاثا لا يوجّه إليه الحجّاج أحدا، فابتنى مسجدا فى أقصى السبخة عند الإيوان، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلّى فى مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيها البقرة وآل عمران. فجاء شبيب مع امرأته حتّى وفت   [1] . زرارة: كذا فى مط والطبري 8: 957. وما فى الأصل غير واضح تماما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 بنذرها فى المسجد. وأشير على الحجّاج أن يخرج بنفسه، فقال الحجّاج لقتيبة بن مسلم: - «اخرج، فإنّى خارج، وارتد لى معسكرا.» فخرج ثمّ رجع إليه فقال: - «وجدت المدى [1] سهلا، فسر على اسم الله والطائر الميمون.» فخرج بأصحابه، فأتى على مكان فيه بعض القذر والكناسات [378] فقال: - «ألقوا لى هاهنا.» فقيل له: - «إنّ الموضع قذر.» فقال: - «ما تدعونني إليه أقذر الأرض، تحته طيّبة والسماء فوقه طيّبة.» وأخرج الحجّاج مولى له يقال له أبو الورد عليه تجفاف [2] ، وأخرج مجفّفة كثيرة وغلمانا له وقالوا: - «هذا الحجّاج!» فحمل عليه شبيب فقتله، ثمّ قال: - «إن كان الحجّاج، فقد أرحتكم منه.» ثمّ إنّ الحجّاج أخرج اليه طهمان فى مثل ذلك من العدّة والعدد والهيئة. فحمل عليه شبيب، فقتله، وقال: - «إن كان هذا الحجّاج فقد أرحتكم منه.» [3] ثمّ إنّ الحجّاج دلف إليه بنفسه وعلى ميمنته مطر بن ناجية وعلى ميسرته خالد بن عتّاب بن ورقاء وهو فى زهاء أربعة آلاف. فقيل له: - «أيها الأمير، لا تعرّفه موضعك.»   [1] . المدى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 966) : المأتى. [2] . التجفاف (بكسر التاء وفتحها) : آلة للخرب يتّقى بها كالدرع، للفرس، والإنسان. [3] . سقط من مط من قوله: «ثمّ إنّ الحجّاج أخرج إليه طهمان» إلى قوله: «فقد أرحتكم منه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 فتنكّر وأخفى مكانه وغفّل له مولى له، فنظر إليه شبيب وظنّه الحجّاج، فحمل عليه وضربه بعمود فقتله، فغفّل له أعين صاحب حمّام أعين بالكوفة، فقتله. فقال الحجّاج: - «علىّ بالبغلة!» فأتى ببغل محجّل، فقيل له: - «أصلح الله الأمير، إنّ الأعاجم تتطيّر أن تركب فى مثل هذا اليوم مثل هذا البغل.» فقال: - «أدنوه منّى، فإنّ اليوم يوم أغرّ محجّل. [379] فركبه ودنا، ثمّ طرحت له عباءة فنزل وجلس، ودعا بكرسىّ له، ثمّ نادى: - «يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، لا يغلبنّ باطل هؤلاء الأرجاس حقّكم، غضّوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنّة.» فجثوا على الركب وكأنّهم حرّة سوداء. فأقبل إليه، شبيب حتّى إذا دنا منهم عبّى أصحابه ثلاثة كراديس: كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلّل [1] بن وائل. فقال لسويد: - «احمل عليهم فى خيلك.» فحمل عليهم فثبتوا له حتّى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا فى وجهه ووجوه [2] أصحابه، فطعنوهم قدما، حتّى انصرف، وصاح الحجّاج: - «يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسىّ يا غلام.» وأمر شبيب المحلّل بن وائل، فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعل بسويد.   [1] . وفى الأصل يأتى هذا الإسم بالجيم تارة وبالحاء المهملة تارة أخرى. وفى الطبري: المحلل بن وائل (بالحاء المهملة) . [2] . سقط من مط من قوله «ووجوه أصحابه» إلى قوله «وثبوا فى وجهه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 فناداهم الحجّاج: - «يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسىّ.» ثمّ إنّ شبيبا حمل عليهم فى كتيبته، فثبتوا له حتّى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا فى وجهه، فقاتلهم طويلا. ثمّ إنّ أهل الشام طاعنوه قدما، حتّى ألحقوه بأصحابه. [380] فلما رأى صبرهم نادى: - «يا سويد احمل فى خيلك على هذه السكّة- يعنى سكّة لحّام بن حرير [1]- لعلّك تزيل أهلها، فتأتى الحجّاج من ورائه ونحمل نحن من أمامه.» فانفرد سويد بن سليم، فحمل على أهل تلك السكّة، فرمى من فوق البيوت وأفواه السكك. فانصرف وقد كان جعل الحجّاج عروة بن المغيرة بن شعبة فى نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه، لئلّا يؤتى من ورائه. ثمّ إنّ شبيبا قال لأصحابه: - «يا أهل الإسلام، إنّما شرينا للَّه، ومن شرى لله لم يكن عليه ما أصابه من أذى وألم، الصبر الصبر، شدّة كشدّاتكم فى مواطنكم الكريمة.» ثمّ جمع أصحابه وقال: - «الأرض الأرض، دبّوا تحت تراسكم حتّى إذا كانت أسنّتهم فوقها فأدلفوها [2] صعدا، ثمّ ادخلوا تحتها لتستقبلوا أقدامهم وهي الهزيمة بإذن الله.» فأقبلوا يدبّون إليهم. رأى جيّد رءاه خالد بن عتّاب فقال خالد بن عتّاب بن ورقاء للحجّاج: - «ائذن لى فى قتالهم، فإنّى موتور وأنا ممّن لا يتّهم فى نصيحة.» قال:   [1] . حرير: كذا فى الأصل. وفى مط: حرسه! وما فى الطبري: جرير. [2] . فأدلفوها: كذا فى الأصل. وما فى مط: فارلقوها. وفى الطبري (8: 9655) : فأزلقوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 - «فقد أذنت لك.» قال: - «فإنّى آتيهم من ورائهم حتّى أغير على عسكرهم.» [381] فقال له: - «إفعل ما بدا لك.» فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة مع مواليه وشاكريّته [1] حتّى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، وحرق فى عسكره. وأتى ذلك الخبر الحجّاج وشبيبا والتفتوا فرأوا النار فى بيوتهم. فأما الحجّاج وأصحابه فكبّروا، وأما شبيب فوثب هو وكلّ راجل معه على خيولهم. وقال الحجّاج لأصحابه: - «شدّوا عليهم، فقد أتاهم ما أرعبهم قلوبهم [2] .» فشدّوا عليهم فهزموهم. وتخلّف شبيب فى حامية الناس حتّى خرج من الجسر، وتبعه خيل الحجّاج. قال: فجعل يخفق [3] برأسه. قال أصغر الخارجي: كنت معه لمّا انهزم فقلت: - «يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك.» قال: فالتفت غير مكترث، وجعل يخفق برأسه. قال: فدنوا منّا فقلت: - «يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك.» قال: فالتفت- والله- غير مكترث وجعل يخفق برأسه. فبينا هو كذلك إذ بعث الحجّاج إلى خيله أن:   [1] . شاكريّته: كذا فى الأصل والطبري (8: 965) . وما فى مط: شاكريه. والشاكرية: جماعة الشاكريّين. والشاكرىّ الشاكر: معرّب چاكر) LChakar (Ker) تركي؟ - فارسي.) بمعنى الخادم والعبد (فم) . قال فى متن اللغة: الشكارة (مولّد أو دخيل) معناها: الشيء القليل، وغلّبت على بقعة الأرض الصغيرة تزرع للأجير. وهي عند العامة أرض تزرع للأجير من أصل أجرته وكأنّها مأخوذة من الشاكرىّ. [2] . قلوبهم: غير موجودة فى مط. [3] . يخفق: وفى الأصل يحفق (بالحاء المهملة فى المواضع الثلاثة) فأثبتناها كما فى مط والطبري 8: 961. يخفق برأسه: يحرّكه وهو ناعس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 - «دعوه فى حرق الله.» قال: فتركوه ورجعوا. ومضى شبيب ومن معه حتّى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم فى الدير، فخرجوا عليه، فهزموه نحوا [382] من فرسخين فألقى خالد نفسه بفرسه، فمرّ به ولواؤه فى يده. قال شبيب: - «قاتله الله فارسا وفرسه. هذا أشدّ الناس، وفرسه أقوى فرس فى الأرض.» فقيل له: - «هذا خالد بن عتّاب.» فقال: - «معرق [1] له فى الشجاعة، والله، لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار.» وإنّ الحجّاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثمّ صعد المنبر، فقال: - «والله ما قوتل شبيب قطّ قبلها [مثلها] [2] . ولّى هاربا، وترك امرأته يكسّر فى استها القصب.» ثمّ دعا حبيب بن عبد الرحمان الحكمي، فبعثه فى أثره فى ثلاثة آلاف من أهل الشام. وقال له الحجّاج: - «احذر بياته، وحيث ما لقيته [3] فنازله، فإن الله قد فلّ حدّه وقصم نابه.» فخرج حبيب فى أثر شبيب حتّى نزل الأنبار. وبعث الحجّاج إلى العمّال أن: - «دسّوا إلى أصحاب شبيب: أنّ من جاءنا منكم فهو آمن.» فكان كلّ من ليست له بصيرة ممّن هدّه القتال يجيء فيؤمن. وقبل ذلك ما كان   [1] . معرق: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 968) . وفى حواشيه: معرّق، معرف. [2] . مثلها: سقطت من الأصل ومط. فزدناها كما فى الطبري 8: 969. [3] . لقيته: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: ألفيته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 الحجّاج نادى فيهم يوم هربوا أنّ: - «من جاء منكم فهو آمن.» فتفرّق عنه ناس كثير من أصحابه. وبلغ شبيبا منزل [1] حبيب بن عبد الرحمان [383] الأنبار، فأقبل بأصحابه حتّى دنا من عسكرهم ونزل، فصلّى بهم المغرب. قال أبو زيد السكسكي: أنا والله فى أهل الشام ليلة جاء شبيب، فبيّتنا. قال: فلما أمسينا، جمعنا حبيب بن عبد الله، فجعلنا أرباعا وعلى كلّ ربع أمير، وقال لكلّ ربع منّا: - «ليجزئ كلّ ربع جانبه، فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم [2] هذا الربع الآخر. فإنّه بلغني أنّ الخوارج منّا قريب، فوطّنوا أنفسكم على أنكم مبيّتون ومقاتلون.» فمازلنا على تعبئتنا حتّى جاءنا شبيب، فبيّتنا، فشدّ على ربع منّا، فضاربهم طويلا. فما زالت قدم إنسان منهم، ثمّ تركهم وأقبل إلى الربع الآخر، فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء. قال: ثمّ أطاف بنا يحمل علينا حتّى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألزّ بنا حتّى قلنا: لا يفارقنا. ثمّ نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدى والأرجل، وفقئت الأعين، وكثر القتلى. قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منّا نحوا من مائة، وو الله لو كانوا يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وأيم الله على ذلك ما فارقونا حتّى مللناهم وملّونا، وكرهناهم وكرهونا. ولقد رأيت الرجل ما يضرب الرجل منهم [384] فما يضرّه شيئا من الإعياء والضعف. ولقد رأيت الرجل منّا يقاتل جالسا ينفح [3] بسيفه، ما يستطيع أن يقوم من الإعياء.   [1] . منزل: الضبط من الأصل. [2] . فلا يعنهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: فلا بينهم. وهو خطأ. وفى الطبري (8: 969) : فلا يغثهم. وفى تعاليقه: فلا يعنهم، فلا يعنهم، فلا يغنهم. [3] . ينفح: مهملة فى الأصل. فأثبتناها حسب الطبري (8: 970) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 فلما يئسوا ركب شبيب وقال لمن كان نزل معه: - «اركبوا!» وتوجّه منصرفا عنّا. قال فروة بن لقيط- وكان شهد معه مواطنه كلّها- قال لنا ليلتئذ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحة شديدة: - «ما أشدّ هذا الذي بنا، لو كنّا إنّما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا فى طاعة الله وثوابه.» فقال أصحابه: - «صدقت يا أمير المؤمنين.» قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم، ولا مقالته له: - «يا سويد! قتلت أمس منهم رجلين [1] : أحدهما أشجع الناس والآخر أجبن الناس. خرجت عشيّة أمس طليعة لكم، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثمّ خرج قبل أصحابه، وخرجت معه، فقال لى: - «كأنّك لم تشتر علفا.» فقلت: - «إنّ لى رفقاء قد كفونى ذلك.» فقلت له: - «أين ترى عدوّنا هذا؟» فقال: - «بلغني أنه نزل قريبا منّا، وأيم الله، لوددت أنّى قد لقيت شبيبهم هذا.» قلت: - «فتحبّ ذاك؟» قال: - «نعم.» قلت:   [1] . قس بما فى الطبري (8: 971) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 - «فخذ حذرك، فأنا والله شبيب.» وانتضيت سيفي، فخرّ والله ميّتا. [385] فقلت له: - «ارتفع ويحك!» وذهبت أنظر، فإذا هو قد مات. فانصرفت راجعا، فاستقبل الآخر راجعا من القرية، فقال: - «أين تذهب هذه الساعة، وإنّما يرجع الناس إلى عسكرهم.» فلم أكلّمه، ومضيت يقرّب [1] بى فرسي، واتّبعنى حتّى لحقني، فعطفت عليه، وقلت له: - «ما لك؟» قال: - «أنت والله من عدوّنا.» فقلت: - «أجل والله.» فقال: - «إذا لا تبرح والله حتّى أقتلك أو قتلتني.» وحملت عليه، فحمل علىّ، فاضطربنا بسيفنا ساعة، فو الله ما فضلته فى شدّة نفس ولا إقدام، إلّا أنّ سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته. ذكر مكيدة لشبيب بلغ شبيبا أنّ جند الشام الذين مع حبيب حملوا معهم حجرا وحلفوا ألّا يفرّون من شبيب حتّى يفرّ هذا الحجر. فلما سمع شبيب ذلك أراد أن يكيدهم. فدعا بأربعة أفراس وربط فى أذنابها ترسه فى ذنب كلّ فرس ترسين، ثمّ ندب معه ثمانية نفر من أصحابه ومعه غلام له يقال له: حيّان، كان بئيسا [2] شجاعا، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثمّ سار حتّى يأتى ناحية من العسكر، فأمر أصحابه   [1] . قرّب الفرس: عدا تقريبا، وهو ضرب من العدو دون الإسراع. [2] . وفى مط: رئيسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 [386] أن يكونوا فى نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كلّ رجلين فرسا، ثمّ يمسّوها الحديد حتّى يجد حرّه ويخلّوها فى العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: - «من نجا منكم فإنّ موعده هذه التلعة.» وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به. فنزل حيث رأى ذلك منهم حتّى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم به. ثمّ وغلبت فى العسكر، ودخل هو يتلوها محكّما، فضرب الناس بعضهم ببعض وماجوا. فقام حبيب بن عبد الرحمان فنادى: - «أيها الناس إنّ هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتّى يبين [1] لكم الأمر.» ففعلوا، وبقي شبيب فى عسكرهم، فلزم الأرض حيث رءاهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنه. فلما هذأ الناس، ورجعوا إلى أبنيتهم خرج فى غمارهم حتّى أتى التلعة، فإذا هو بحيّان، فقال: - «أفرغ على رأسى من الماء يا حيّان.» فلما مدّ رأسه ليصبّ عليه من الماء، همّ حيّان بضرب عنقه وقال لنفسه: - «لا أجد مكرمة لى ولا ذكرا أرفع من قتل هذا فى هذه الخلوة، وهو أمانى عند الحجّاج.» فأخذته الرعدة حيث همّ بما همّ به. فلما أبطأ بحلّ الإداوة، قال: - «ما يبطئك بحلّها.» وتناول السكين [387] من موزجه [2] ، فخرقها به، ثمّ ناوله إيّاها، فأفرغ عليه من الماء. قال حيّان: منعني والله الجبن وما أخذنى من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما   [1] . وفى مط: يتبيّن. [2] . الموزج: الخفّ. معرّب موزه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 هممت به، وما كنت أعهد نفسي جبانا. ثمّ خلا [1] شبيب بأصحابه وعسكره. ذكر هلاك شبيب فى هذه السنة باتّفاق سىّء ثمّ إنّ الحجّاج أخرج الناس إلى شبيب، وقسم فيهم أموالا عظيمة، وأعطى الجرحى خاصّة، وكلّ ذى جزء وبلاء، وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم. فبلغ ذلك حبيب بن عبد الرحمان، فشقّ عليه، وقال: - «تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسانه!» وكان شبيب قد أقام بكرمان حتّى حبروا واستراش هو وأصحابه. ومضى سفيان بعد شهرين واستقبله شبيب بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل فى الرجال، وبعث مصاص بن صيفي على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسّان الفهري، وعلى ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري. وأقبل شبيب فى ثلاثة كراديس: هو فى كتيبة، وسويد فى كتيبة، وقعنب [388] فى كتيبة، وخلّف المحلّل فى عسكره. فلما حمل سويد وهو فى ميمنته، على ميسرة سفيان، وقعنب وهو فى ميسرته، على ميمنة سفيان، وحمل هو على سفيان، اضطربوا مليّا حتّى رجعت الخوارج إلى المكان الذي كانوا فيه. قال يزيد السكسكىّ: والله لقد كرّ علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرّة كلّ ذلك لا نزول من صفّنا. فقال لنا سفيان: - «لا تفرّقوا، ولكن ليزحف الرجال إليهم زحفا.» ففعلنا وما زلنا نطاعنهم حتّى اضطررناهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى   [1] . خلا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 979) : لحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الجسر، نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم إلى المساء أشدّ قتال يكون لقوم قطّ. فما هو إلّا أن نزلوا أوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله قطّ، ولا ظننّاه يكون. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولم يأمن ظفرهم، دعا الرماة فقال: - «ارشقوهم بالنبل.» وذلك عند المساء. وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل، وقد كان صفّهم سفيان بن الأبرد على حدة وعليهم أمير. فلما رشقوهم شدّوا عليهم. فلما شدّوا على رماتنا شددنا عليهم فشغلناهم عنهم. فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، ثمّ كرّوا على أصحاب النبل كرّة صرعوا [389] منهم أكثر من ثلاثين رجلا. ثمّ عطف علينا يطاعننا حتّى اختلط الظلام. ثمّ انصرف عنّا. فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه: - «أيها الناس، دعوهم، لا تتبعوهم حتّى نصبّحهم.» قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحبّ إلينا من أن ينصرفوا عنّا. قال فروة بن لقيط: فما هو إلّا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: - «اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحوا باكرناهم إن شاء الله.» فعبرنا أمامه وتخلّف فى آخرنا، فأقبل [على] [1] فرس وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانة، وزلّ حافر فرس شبيب عن حرف [2] السفينة، فسقط فى الماء. فلما سقط قال: - «لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا.» 8: 42 [3] واغتمس فى الماء. ثمّ ارتفع فقال:   [1] . على: كذا فى مط والطبري (8: 974) . وما فى الأصل: فى. فصحّحناه. [2] . حرف: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: جوف. [3] . س 8 الأنفال: 42، 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 - «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.» 6: 96 [1] فهذا حديث أكثر الناس. وقد قال غيره من أصحاب شبيب إنه كان معه رجال كثير ممّن أصاب من عشائرهم وساداتهم. فلما تخلّف فى أخريات الناس من أصحابه، قال بعضهم لبعض: - «هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة؟» فقطعوا الجسر، فمالت [390] به السفن، ففزع الفرس ونفر ووقع فى الماء فغرق. والحديث الأول أشهر. فتحدّث جماعة من أصحاب سفيان، قالوا: لما سمعنا صوت القوم: «غرق أمير المؤمنين،» عبرنا إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه صافر ولا آثر. فنزلنا فيه فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا. فطلبنا شبيبا حتّى استخرجناه وعليه الدرع فسمعت الناس يزعمون أنه شقّ عن بطنه وأخرج قلبه. فكان مجتمعا صلبا كأنّه صخرة وانّه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان. فيحكى أن أمّ شبيب كانت لا تصدّق أحدا نعاه إليها. وكان قيل مرارا: «قتل» فلا تقبل. فلما قيل: إنّه غرق، قبلت وبكت. فقيل لها فى ذلك، فقالت: - «إنّى رأيت فى المنام حين ولدته أنه خرج من قبلي شهاب نار، فعلمت أنّه لا يطفئه إلّا الماء.» ذكر ما كان من المهلّب والأزارقة كان المهلّب مقيما بسابور يقاتل قطريا فى الأزارقة بعد ما صرف الحجّاج عتّاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة. ثمّ إنّه زاحفهم يوم البستان [391] فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان فى أيدى الخوارج، وفارس فى يد المهلّب.   [1] . س 6 الأنعام: 96، س 36 يس: 38، س 41 فصّلت: 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وكان لا يأتيه من فارس مادّة، فضاق الأمر عليه. فحازهم المهلّب حتّى خرجوا إلى كرمان، وتبعهم المهلّب حتّى نزل بجيرفت وقاتلهم أكثر من سنة قتالا شديدا حتّى حازهم عن فارس كلّها. فلما صارت فارس كلّها فى يد المهلّب، بعث الحجّاج عليها عمّاله وأخذها من المهلّب. فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى الحجّاج: - «أمّا بعد، فدع بيد المهلّب خراج فارس وحيالها، فإنّه لا بدّ للجيش من قوّة، ولا لصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسّا ودار بجرد، وكورة إصطخر.» فتركها للمهلّب. فبعث المهلّب عليهما عمّاله وكانتا قوّة له، وأقام المهلّب على قتال الأزارقة. ذكر اختلاف كلمة الخوارج إلى أن هلكوا بأجمعهم فلم يزالوا يقتتلون إلى أن بعث قطرىّ عاملا له على ناحية كرمان يقال له المقعطر، فقتل رجلا كان ذا بأس من الخوارج، فوثبت الخوارج [392] إلى قطرىّ، فذكروا ذلك له وقالوا له: - «أمكنّا من المقعطر نقتله بصاحبنا.» فقال لهم: - «ما أرى أن أفعل. رجل تأوّل فأخطأ فى التأويل. ما أرى أن تقتلوه وهو من ذوى الفضل والسابقة فيكم.» قالوا: - «بلى!» فقال لهم: - «لا!» فوقع الاختلاف بينهم. فولّوا عبد ربّ الكبير [1] وخلعوا قطريّا، وبقي مع القطرىّ عصابة نحو من ربعهم. وبلغ ذلك الحجّاج فكتب إلى المهلّب:   [1] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1006) : عبد ربّ الكبير، وما فى مط: عند ربّ الكبير! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 - «أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها. فإذا أتاك كتابي فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم، قبل أن يجتمعوا فتكون مؤونتهم عليك أشدّ. والسلام.» فكتب إليه: - «أمّا بعد، فقد بلغني كتاب الأمير وكلّ ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما دام بعضهم يقتل بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تمّوا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا، فأناهضهم على بقيّة ذلك وهم أوهى ما كانوا شوكة إن شاء الله.» فكفّ عنه الحجّاج وتركهم المهلّب، فقاتلوه قتالا [393] شديدا. ثمّ إنّه فلّهم وقتلهم، فلم ينج منهم إلّا قليل وسباهم، لأنّهم كانوا يسبون المسلمين. ذكر سبب هلاكهم كان سبب ذلك ما ذكرنا من تشتّتهم بالاختلاف. ولما وهي أمر قطرىّ توجّه مريدا طبرستان وبلغ أمره الحجّاج، فوجّه سفيان بن الأبرد مع جيش عظيم من أهل الشام، فأقبل سفيان حتّى أتى الرىّ، ثمّ اتبعهم. وكتب الحجّاج إلى إسحاق بن محمد بن الأشعث، وهو بطبرستان على جيش لأهل الكوفة أن: - «اسمع وأطع لسفيان.» فأقبل إلى سفيان، وسار معه فى طلب قطرىّ حتّى لحقوه فى شعب من شعاب طبرستان. فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، ووقع عن دابّته فى أسفل الشعب، فتدهدأ حتّى خرّ إلى أسفله، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري: - «اسقنى ماء.» وقد اشتدّ عطشه. فقال العلج له: - «أعطنى شيئا حتّى أسقيك.» فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 - «ويحك! ما معى والله إلّا ما ترى من سلاحي، وأنا مؤتيكه إذا أتيتنى بماء.» قال: - «لا، بل أعطنيه الآن» قال: - «لا، ولكن ائتني بماء قبل.» فانطلق العلج حتّى أشرف [394] على قطرىّ، ثمّ حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه، فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريّا، غير أنه يظنّ [1] أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة، فقتلوه، وادّعى قتله جماعة. وفى هذه المدّة التي جرى فيها ما جرى من أمر الأزارقة كان قتال أمية بن عبد الله بكير بن وساج بخراسان ذكر السبب فى ذلك حقد حقده عتّاب اللّقوة [2] ، وكان فى صحبة بكير. وكنّا ذكرنا أمر بكير مع أميّة، وأنّ أميّة لمّا ولى خراسان سامح بكيرا، ولم يقبل فيه سعاية، ولا حاسب له عاملا، ولكنّه ولّاه طخارستان بعد أن عرض عليه شرطته فأباها. فتجهّز بكير للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة. ثمّ وشا به بحير بن ورقاء وقال لأميّة: - «إنّه إن عبر النهر خلع الخليفة ودعا إلى نفسه.» فراسله أميّة: - «أقم، لعلّى أغزو، فتكون معى.» فغضب بكير وقال:   [1] . يظنّ: كذا فى الأصل. وما فى مط: نظر. وهو تصحيف. [2] . عتّاب اللّقوة: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 1022) : عتّاب اللّقوة الغدانى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 - «كأنّه يريد أن يضارّنى [1] .» [395] وكان عتّاب اللّقوة استدان وأنفق نفقة كثيرة ليخرج مع بكير. فلما أقام بكير أخذه غرماؤه فحبس حتّى أدّى عنه بكير. ثمّ إنّ أميّة أجمع بعد مدّة على الغزو ليغزو بخارى، ثمّ يأتى موسى بن خازم بالترمذ. فتجهّز الناس معه واستخلف ابنه زيادا على خراسان وسار معه بكير. فقال له بحير: - «إنّى لا آمن إن أستخلف أحدا، أن يتخلّف عنّى الناس، فقل لبكير، فليكن فى الساقة وليحشر الناس.» فأمره به، فكان على الساقة، حتّى أتى النهر. وقال أميّة لبكير: - «اقطع يا بكير.» فقال عتّاب اللّقوة: - «أصلح الله الأمير، اعبر أنت، ثمّ يعبر الناس بعدك.» فعبر، ثمّ عبر الناس. فقال أميّة لبكير: - «قد خفت ألّا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث. فارجع إلى مرو، فاكفنيها فقد ولّيتكها، فزيّن ابني وقم بأمره.» فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم، وعبر، ومضى أميّة إلى بخارى. فقال عتّاب اللّقوة لبكير لمّا عبر وقد مضى أميّة: - «إنّا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتّى ضبطنا خراسان [396] ثمّ طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاء يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن.» قال: - «فما ترى؟» قال:   [1] . يضارّنى: كذا فى الأصل والطبري (8: 1022) . وما فى مط: نصارنى! ضارّه: خالفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 - «أحرق هذه السفن، وامض إلى مرو، فاخلع أميّة وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما.» فقال بكير: - «إنّى أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معى.» فقال: - «أيخاف عدم الرجال؟ أنا آتيك من أهل مرو بما شئت، إن هلك هؤلاء الذين معك.» قال: - «يهلك المسلمون.» قال: - «إنّما يكفيك مناد ينادى: «من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا من المسلمين أسمع من هؤلاء وأطوع منهم.» قال: - «فيهلك أميّة ومن معه.» قال: - «ولم يهلك والناس معه لهم عدّة وعدد ونجدة وسلاح كامل ليقاتلوا عن أنفسهم حتّى يبلغوا الصين.» فلم يزل عتّاب بهذا وأشباهه حتّى [حرق] [1] بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أميّة فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أميّة، فأجابوه. وبلغ أميّة فصالح أهل بخارى على شيء يسير، وبادر بالرجوع، وأمر باتخاذ السفن فاتّخذت، وقال لمن معه من وجوه تميم: - «ألا تعجبون من بكير؟ [397] إنّى قدمت خراسان، فحذّرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كلّه ولم أفتّشه عن شيء، ولا أحدا من عمّاله، ثمّ عرضت عليه شرطتي، فأبى، فأعفيته، ثمّ ولّيته، فحذّرته، وأمرته بالمقام، وما كان ذلك إلّا نظرا له، ثمّ رددته إلى مرو، وولّيته الأمر، فكفر ذلك، وكافأنى بما ترون.»   [1] . فى الأصل ومط: قطع. وما أثبتناه فمن الطبري (8: 1024) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 فقال له قوم: - «تعرفون أمره أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه. إنّما أشار عليه بإحراق السفن عتّاب اللقوة.» ثمّ إنّ أميّة لمّا تهيأت له السفن عقد وعبر، وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله بن خازم. فقال شمّاس بن دثار، وكان غزا مع أميّة: - «أيها الأمير، قدّمنى فإنّى أكفيه إن شاء الله.» فقدّمه أميّة فى ثمانمائة فارس. وسار إليه بكير فقال: - «أما كان فى تميم أحد يحاربني غيرك؟» ولامه. فأرسل إليه شمّاس: - «أنت ألأم وأسوأ صنيعا منّى، لم تف لأميّة ولم تشكر صنيعه بك.» قال: فبيّته بكير، ففرّق جمعه وقال: - «لا تقتلوا منهم أحدا وخذوا سلاحهم.» فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلّوا عنه. فتفرّقوا. وقدّم أميّة كشماهن ورجع إليه شمّاس بن دثار. ثمّ أقبل [398] أميّة فى الناس، فقاتله بكير مدّة، ثمّ انحاز بكير يوما، فدخل الحائط، فنزل السوق. ونزل أميّة باشان [1] ، وكانوا يلتقون فى ميدان يزيد. فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثمّ التقوا يوما آخر فى الميدان، فضرب رجل من تميم على رجله، فجعل يسحبها وهريم يحميه. فقال الرجل: - «اللهمّ أيّدنا بالملائكة.» فقال له هريم: - «أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإنّ الملائكة فى شغل عنك.»   [1] . باشان: كذا فى الأصل. وفى مط: بإنسان وهو خطأ. وفى الطبري (8: 1026) : باسان. (بالسين المهملة) . باشان (بالشين المعجمة) : من قرى هراة (يا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 فتحامل، ثمّ أعاد قوله مرارا: - «اللهمّ أيّدنا بالملائكة.» فقال لهم هريم: - «لتكفّنّ عنّى، أو لأدعنّك والملائكة.» فسكت، وحماه حتّى ألحقه بالناس. فكانوا كذلك مدة يتقاتلون، وكان أصحاب بكير يغدون متفضّلين، فى ثياب مصبّغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدّثون وينادى مناد: - «من رمى بسهم، رمينا إليه برأس رجل من أهله وولده.» فلا يرميهم أحد. وأشفق بكير وخاف، إن طال الحصار، أن يخذله الناس. فطلب الصلح، وأحبّ أصحاب أميّة ذلك، لمكان عيالاتهم بالمدينة، وكان يحبّ أميّة العافية، فصالحه على أن يقضى عنه أربعمائة ألف، ويصل إليه أصحابه ويولّيه أىّ كورة خراسان شاء، ولا يسمع [399] قول بحير فيه، وإن راب منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتّى يخرج من مرو. وقال: وأخذ الأمان لبكير، وكتب إليه أميّة كتابا، ودخل أميّة المدينة، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان له من الإكرام وحسن الأدب. فأرسل إلى عتّاب اللّقوة فقال: - «أنت صاحب المشورة؟» قال: - «نعم، أصلح الله الأمير.» قال: - «ولم؟» قال: - «خفّ ما كان فى يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي.» قال: - «ويحك! فضرّبت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون فى بلاد العدوّ، وما خفت الله.» قال: - «قد كان ذاك وأستغفر الله.» قال: - «كم كان دينك؟» قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 - «عشرون ألفا.» قال: - «تكفّ عنّى وعن المسلمين غشّك وأقضى دينك.» قال: - «نعم، جعلني الله فداءك.» فضحك أميّة وقال: - «ظنّى بك غير ما تقول، وأرجو أن تفي.» فأدّى عنه عشرين ألفا. - «وكان أميّة سهلا ليّنا سخيّا لم يعط أحد بخراسان ما أعطاه، وكان مع ذلك ثقيلا على الناس لزهو كان فيه شديد. وكان يقول: - «ما أكتفى بخراسان وسجستان لمطبخى!» وعزل أميّة بحيرا عن شرطته، وكتب إلى عبد الملك بما كان من بكير وصفحه عنه، وعزله بحيرا طلب مرضاته. [400] عاقبة أمر بكير وأخذ أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم فيه. فجلس يوما بكير فى المسجد وعنده ناس من بنى تميم، فذكر شدّة أميّة على الناس، فذمّوه وقالوا: - «سلّط علينا الدهاقين فى الجباية.» وكان بكير وضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة فى ناحية من المسجد. فنقل بحير ذلك إلى أميّة، فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء وشهادة مزاحم بن المحشر [1] . فدعا أميّة مزاحما، فسأله، فقال: - «إنّما كان يمزح.» فأعرض عنه. ثمّ إنّ بحيرا أتاه، فقال:   [1] . المحشر: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1029) : المجشر (بالجيم المعجمة وتشديد الشين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 - «أصلحك الله، إنّ بكيرا دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشىّ وأكلت خراسان.» فقال أميّة: - «ما أصدّق بهذا وقد فعل وفعلت ما فعلت.» فأتاه بضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة، فشهدا أنّ بكيرا قال لهما: لو أطعتمانى قتلت هذا القرشىّ المخنّث، ودعانا إلى الفتك بك.» فقال أميّة: - «أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظنّ هذا به، وإنّ تركه- وقد شهدتم بما شهدتم به- عجز.» فقال له: - «إنّ عتّابا يحمله على ذلك.» فقال لحاجبه وصاحب حرسه، وكان يومئذ عطاء بن أبى السائب: - «إذا دخل بكير وبدل [1] وشمر دل ابنا أخيه فنهضت [401] فخذوهم.» وجلس أميّة للناس وجاء بكير وابنا أخيه. فلما جلسوا قام أميّة عن سريره، فدخل وخرج الناس، فلما همّ بكير بالخروج حبسوه وابني أخيه. فدعا أميّة ببكير وقال: - «أنت القائل كذا وكذا؟» فقال: - «تثبّت أصلحك الله ولا تسمع قول ابن المحلوقة.» فحبسه وأخذ جاريته، وكانت تسمّى: العارمة [2] ، فحبسها معه، وحبس الأحنف بن عبد الله العنبري. فلما كان من الغد، أخرج بكيرا، فشهد بحير وضرار وعبد العزيز أنّه دعاهم إلى خلعه والفتك به. فقال:   [1] . بدل: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: بدا. وهو خطأ. [2] . العارمة: كذا فى الأصل والطبري (8: 1030) . وما فى مط: العارضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 - «أصلحك الله، فإنّ هؤلاء أعدائى.» فقال أميّة لبحير: - «أتقتله؟» قال: - «نعم.» فقام إليه، ونهض أميّة. فقال بكير: - «يا بحير، إنّك تفرّق أمر بنى سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشىّ يلي منّى ما يريد.» فقال بحير: - «لا والله، يا بن الإصبهانيّة! لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيّين.» فقال: - «فشأنك يا بن المحلوقة.» وقتل أميّة ابن أخى بكير، ووهب جاريته العارمة لبحير. ثمّ وجّه أميّة رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصن الكلابي غيلة، فتفرّق جيشه، واستأمن طائفة منهم إلى موسى ورجع بعضهم إلى أميّة. [402] وعزل عبد الملك بن مروان أميّة عن خراسان وولّاها المهلّب من قبل الحجّاج، وسنذكر سببه. وأخذ الأبناء تحضّ على قتل بحير فى الشعر وفى غير الشعر، فتعاقد جماعة منهم على الفتك ببحير. فخرج فتى منهم يقال له الشمر دل من البادية حتّى قدم خراسان. فنظر إلى بحير واقفا، فشدّ عليه، فطعنه، فصرعه وظنّ أنّه قتله. فتنادى الناس: - «خارجىّ.» فراكضهم، فعثر فرسه وندر عنه فقتل. فكان بحير بعد ذلك يتحرّز من الغيلة، إلى أن خرج صعصعة بن حرب العوفىّ من البادية وقد باع غنيمات له واشترى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 حمارا، ومضى إلى سجستان فحاور قرابة لبحير هناك ولا طفه وقال: - «أنا رجل من بنى حنيفة من أهل اليمامة.» فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتّى أنسوا به. ذكر حيلة صعصعة على بحير حتّى اغتاله وقتله ثمّ إنه قال لهم: - «إنّ لى بخراسان ميراثا قد غلبت عليه، وبلغني أنّ بحيرا هو عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لى إليه كتابا يعينني على طلب حقّى.» فكتبوا إليه وخرج حتّى قدم مرو والمهلّب غاز [1] . فلقى قوما من بنى عوف، فأفشى إليهم سرّه، فأقبل [403] إليه مولى لبكير، فقبّل رأسه، وكان صقيلا، فقال له صعصعة: - «اتّخذ لى خنجرا.» ففعل، وأحماه وغمسه فى لبن أتان مرارا، ثمّ شخص من مرو وقطع النهر حتّى أتى عسكر المهلّب. فلقى بحيرا بالكتاب، وقال له: - «إنّى رجل من بنى حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبى بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولى ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه وأرجع إلى اليمامة.» فأمر له بنفقة وأنزله معه. وقال له: - «استعن بى على ما أحببت.» قال: - «أقيم عندك حتّى يقفل الناس.» فأقام شهرا أو نحوا من شهر يحضر معه باب المهلّب ومجلسه حتّى عرف به. وكان بحير مع تحرّزه وخوفه الفتك قد أنس بصعصعة هذا لأجل الكتاب الذي   [1] . والعبارة فى مط: حتّى قدم ووجد المهلّب غازيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 صحبه من عند أصحابه، وظنّه رجلا من بكر بن وائل، فأمنه [1] . فجاء يوما وبحير جالس فى مجلس المهلّب، عليه قميص ورداء فى نعلين. فقعد خلفه، ثمّ دنا منه فأكبّ عليه كأنّه يكلّمه. فوجأه بخنجره فى خاصرته فغيّبه فى جوفه وخضخضه. فقال الناس: - «خارجىّ!» وقال صعصعة: - «يا لثارات بكير! أنا ثائر ببكير.» فأخذه صاحب شرطة المهلّب فى الطريق، فأتى به المهلّب، فقال المهلّب: - «بؤسا لك. ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك وما على بحير بأس.» فقال: - «والله قد طعنته [404] طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدت ريح بطنه فى يدي.» فحبسه. ودخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبّلوا رأسه. ومات بحير من غد، فقيل لصعصعة: - «مات بحير.» فقال: - «اصنعوا ما بدا لكم الآن. أليس قد حلّت نذور نساء بنى عوف وأدركت ثأرى؟ أما والله لقد أمكننى منه خاليا غير مرّة، فكرهت أن أقتله سرّا.» فقال المهلّب: - «ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت صبرا من هذا.» وقتله. وقال المهلّب: - «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 غزوة أصيب فيها بحير فغضبت عوف بن كعب   [1] . ما فى الأصل: آمنه. وهو سهو. فأثبتناه كما فى مط، والطبري (8: 1050) : أمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 والأبناء.» وقال: - «علام قتل صاحبنا؟ وإنّما طلب بثأره.» فنازعتهم مقاعس والبطون حتّى خاف الناس أن يعظم البأس، إلى أن تلطّف أهل الحجى والرأى وقالوا: - «احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير بواء [1] ببكير.» فودّوا صعصعة. ذكر خروج عبد الرحمان بن الأشعث على الحجّاج وسبب خلعه لعبد الملك واجتماع الناس عليه ولمّا فرغ الحجّاج من شبيب، قدم عليه المهلّب وقد فرغ من الأزارقة. فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاد من أصحاب المهلّب، فحباهم ووصلهم. وكاتب عبد الملك بن مروان [405] بالفتح، وكتب عبد الملك إلى الحجّاج بولاية خراسان وسجستان مع العراق، وعزل أميّة عن خراسان، فبعث الحجّاج المهلّب إلى خراسان من قبله، وبعث عبيد الله بن أبى بكرة إلى سجستان، وذلك فى سنة ثماني وسبعين، فمكث ابن بكرة بقيّة سنته، ثمّ غزا رتبيل، وقد كان مصالحا، وكانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع. فبعث الحجّاج إلى عبيد الله بن أبى بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين من أهل الكوفة والبصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ، وكان من أصحاب علىّ بن أبى طالب عليه السلام، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة. فمضى عبيد الله حتّى وغل فى بلاد رتبيل، فأصاب من الأموال والغنم ما شاء،   [1] . بواء: كذا فى الأصل والطبري (8: 1051) . وهي غير موجودة فى مط. البواء: السواء والكفء. يقال: دم فلان بواء لدم فلان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضيهم كثيرة. وأصحاب رتبيل من الترك. فلما أمعنوا فى بلادهم ودنوا من مدينتهم وصاروا منها على ثمانية عشر فرسخا أخذوا على المسلمين بالعقاب والشعاب، فسقط فى أيدى المسلمين، وظنّوا أن قد هلكوا. فراسل ابن أبى بكرة رتبيل على أن يصالحه على سبعمائة ألف. فلقيه [406] شريح فقال له: - «إنّك لا تصالح على شيء إلّا حبسه السلطان عنكم واحتسبه فى أعطياتكم.» فقال الناس: - «لو منعنا العطاء ما حيينا، كان أهون علينا من هلاكنا.» فقال له شريح: - «والله لقد بلغت سنّا وقد هلكت لداتي [1] ، وما يأتى علىّ ساعة فأظنّها تمضى حتّى أموت، ولئن فاتتنى الشهادة وأنا أطلبها منذ زمان ما أخالنى أدركها. يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم.» فقال له ابن أبى بكرة: - «إنّك شيخ وقد خرفت.» فقال له شريح: - «إنّما حسبك أن يقال: بستان أبى بكرة، وحمّام أبى بكرة. يا أهل الإسلام من أراد الشهادة فإلىّ.» فاتّبعه ناس من المتطوّعين كثير وفرسان البأس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتّى أصيبوا. وقتل شريح ونجا ابن بكرة فى من نجا من المسلمين. وبلغ ذلك الحجّاج، فأخذه ما تقدّم وتأخّر وبلغ منه كلّ مبلغ، فكتب إلى   [1] . كذا فى الأصل. وما فى مط: لذاتي. وفى الطبري (8: 1037) : لذّاتى. لداتي: أترابى. أى الذين ولدوا معى. ولكلا الضبطين وجه من الصحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 عبد الملك: - «أمّا بعد، فإنّ جند أمير المؤمنين الذين كانوا بسجستان أصيبوا، فلم ينج إلّا القليل منهم، وقد اجترأ العدوّ على الإسلام، وأردت أن أوجّه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، وأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين فى ذلك، فإن رأى ذلك أمضيته، وإن لم يرد ذلك [407] فأمير المؤمنين أعلى بجنده عينا، مع أنّى أتخوّف أنّه إن لم يأت رتبيل ومن معه جند كثيف عاجلا، أن يستولوا على ذلك الفرج كلّه.» فكتب إليه عبد الملك: - «أمّا بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم [1] وعلى الله ثوابهم. وأما رأيى فى توجيه الجنود، فإنّى أرى إمضاء عزمك، فرأيك راشدا موفّقا.» فأخذ الحجّاج فى جهاز عشرين ألفا من أهل البصرة وعشرين ألفا من أهل الكوفة، وجدّ فى ذلك وشمّر وأعطى الناس أعطياتهم، وأخذهم بالخيول الروابع والسلاح الكامل، وأخذ فى عرض الناس، فلا يرى رجلا تذكر فيه شجاعة إلّا أحسن معونته. ولمّا استتمّ له الأمر بعث عليهم عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فقدم ابن الأشعث سجستان بمن معه فى سنة ثمانين، وكان عبيد الله [2] بن أبى بكرة قد مات قبل قدوم عبد الرحمان. ويقال: إنّ الحجّاج أنفق على ذلك العسكر، سوى الأعطيات والأرزاق، ألفى ألف [000، 000، 2] درهم. وكان يدعى ذلك الجيش جيش الطواويس، لحسن هيآتهم. [408] فندب عبد الرحمان الناس وعسكر بهم فى ظاهر سجستان، ونادى مناديه:   [1] . س 3 آل عمران: 154. [2] . عبيد الله: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 - «أىّ رجل تخلّف فقد أحلّ بنفسه العقوبة.» فخرج الناس كلّهم إلى معسكرهم ووضعت [1] لهم [الأسواق] [2] وأخذوا فى الجهاد والتهيّؤ للحرب. فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمان يعتذر إليه مصاب المسلمين ويخبره أنّه كان لذلك كارها وأنهم ألجئوه إلى قتالهم ويسأله الصفح ويعرض عليه الخراج، فلم يجبه ولم يقبل منه. وسار عبد الرحمان فى الجنود حتّى دخل أوّل بلاده، وأخذ رتبيل يضمّ إليه جنده ويدع له الأرض رستاقا رستاقا وحصنا حصنا. وكان ابن الأشعث كلّما حوى بلدا بعث إليه عاملا وبعث معه أعوانا ووضع البرد بين كلّ بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكلّ مكان مخوف حتّى إذا حاز من أرضه شيئا عظيما وملأ يده من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول فى أرض رتبيل، وقال: - «نكتفي بما أصبنا العام من بلادهم حتّى نجيئها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثمّ نتعاطى فى العام المقبل ما وراءها، ثمّ لا نزال ننتقصهم حتّى [409] نقاتلهم آخر ذاك على كنوزهم وذراريّهم وممتنع حصونهم، ثمّ لا نزايل بلادهم حتّى يهلكهم الله.» ثمّ كتب إلى الحجّاج بما فتح من بلاد العدوّ وبما صنع للمسلمين وبهذا الرأى الذي رءاه لهم. ذكر رأى خطأ للحجّاج أفسد به أولئك الجند وعبد الرحمان حتّى ألجأهم إلى مخالفته وخلعه وكتب الحجّاج جواب كتابه:   [1] . ووضعت: كذا فى مط والطبري (8: 1045) . وما فى الأصل غامض ويشبه أن يكون: ورصعت، وليس له معنى. [2] . الأسواق: سقطت من الأصل ومط، فأثبتناها كما فى الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 - «أما بعد، فإنّ كتابك أتانى وفهمته وهو كتاب امرئ يحبّ الهدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوّا ذليلا أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم عظيما، ولعمرك يا بن أمّ عبد الرحمان، إنّك حيث تكفّ عن ذلك العدوّ بجندي وحدّى، لسخىّ النفس عمّن أصيب من المسلمين، وإنّى لم أعذر رأيك الذي زعمت أنّك رأيته رأى مكيدة، ولكنّى رأيتك أنّه لم يحملك عليه إلّا ضعفك والتياث [1] رأيك. فامض لما أمرتك به من الوغول فى أرضهم والهدم لحصونهم، وقتل مقاتليهم، وسبى ذراريّهم.» ثمّ أردفه كتابا آخر قال فيه: [410]- «أمّا بعد، فأمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا [2] وليقيموا، فإنّها دارهم، حتّى يفتح الله عليهم.» ثمّ أردفه كتابا آخر فيه: - «أمّا بعد، فامض لما أمرتك من الوغول فى أرضهم، وإلّا فإنّ إسحاق بن محمد أمير الناس، فخلّه وما ولّيته.» - يعنى أخاه. فلما قرأ كتابه، قال: - «أنا أحمل ثقل إسحاق.» ثمّ دعا الناس وجمعهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: - «أيها الناس، قد عرفتم نصحى لكم ومحبتي لصلاحكم ولكلّ ما يعود عليكم نفعه. وقد كان من رأيى لكم فى ما بينكم وبين عدوّكم، رأى استشرت فيه ذوى أحلامكم وأولى التجربة فى الحرب منكم، فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم فى العاجل والآجل صلاحا، فكتبت بذلك إلى أميركم الحجّاج وهذا جوابه، يعجّزنى ويضعّفنى ويأمرنى بتعجيل الوغول بكم فى أرض العدوّ، وهي البلاد التي هلك   [1] . التياث: كذا فى الأصل والطبري 8: 1053. وما فى مط: السيات. وهو خطأ. [2] . فليحرثوا: فى الأصل غموض وفى مط إهمال كامل وما أثبتناه من الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فيها إخوانكم بالأمس، وإنّما أنا رجل منكم، أمضى إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم.» فثار إليه الناس من كلّ جانب. - «لا بل نأبى على عدوّ الله ولا نستمع له ولا نطيع.» وتكلّم وجوه الناس، فكان أولهم واثلة الكناني، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: - «إنّ الحجّاج ما يرى لكم إلّا ما يقول القائل الأوّل إذ قال [411] لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنّ الحجّاج والله ما يبالى أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللّصوب، فإن ظفرتم وغنمتم، أكل البلاد وحاز الأموال، وكان ذلك زيادة فى سلطانه، وإن ظفر عدوّكم كنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالى عتبهم [1] ، ولا يبقى عليهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمان، فإنّى أشهدكم أنّى أوّل خالع له.» فنادى الناس من كلّ جانب: - «فعلنا فعلنا وخلعنا عدوّ الله.» وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعىّ ثانيا، وكان على شرطته، فقال: - «عباد الله، إنّكم إن أطعتم الحجّاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمّركم تجمير فرعون، فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث، ولم تعاينوا والله الأحبّة فى ما أرى، أو يموت أكثركم. فبايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوّ الله فانفوه عن بلادكم.» فوثب الناس إلى عبد الرحمان ليبايعوه فقال: - «أتبايعوننى على خلع الحجّاج عدوّ الله وعلى النصرة لى والجهاد معى حتّى ننفيه من العراق؟»   [1] . عتبهم: كذا فى الأصل. فى مط: عيشهم. وهو خطأ. وما فى الطبري (8: 1054) : عنتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 فبايعه الناس على ذلك، ولم يذكر عبد الملك إذ ذاك بشيء. ثمّ استخلف على بست عياض بن همدان، وعلى زرنج عبد الله [412] بن عامر التميمي. وبعث إلى رتبيل، فصالحه على أنّ ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي، وإن هزم فأراده، ألجأه عنده وآواه. خروج عبد الرحمان نحو العراق وخرج عبد الرحمان نحو العراق وبعث على مقدّمته عطيّة بن عمرو العنبري، وبعث الحجّاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلّا هزمها، حتّى دخل فارس واجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: - «إنّا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعنا عبد الملك.» فاجتمعوا إلى عبد الرحمان، وكان أوّل من خلع عبد الملك تيحان بن أبجر قام فقال: - «أيها الناس إنّى قد خلعت أبا دبّان كخلعي قميصي.» فخلعه الناس ووثبوا إلى عبد الرحمان فبايعوه وكانت بيعته: - «تبايعوني على كتاب الله، وسنّة نبيّه، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد المحلّين.» فإذا قالوا: نعم، بايع. فلما بلغ الحجّاج ذلك، كتب إلى عبد الملك يخبره، ويسأله أن يعجّل بعثة الجنود إليه. وجاء حتّى نزل البصرة، وكان المهلّب بخراسان حين بلغه شقاق عبد الرحمان، فكتب إليه: - «أما بعد، فإنّك يا ابن محمّد قد وضعت رجلك فى غرز [1] طويل الغىّ. الله الله، فى نفسك لا تهلها، وفى دماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرّقها،   [1] . الغرز: ركاب الرحل من جلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 [413] والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: إنّى أخاف الناس على نفسي، فاللَّه أحقّ أن تخافه عليها من الناس. والسلام.» رأى سديد رءاه المهلّب للحجّاج فعصاه وكتب المهلّب إلى الحجّاج: - «أما بعد، فإنّ أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل ليس يردّه شيء حتّى ينتهى إلى قراره. إنّ لأهل العراق شرّة فى أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم. فليس شيء يردّهم حتّى يسقطوا إلى أهليهم ويشمّوا أولادهم، فافرج [1] لهم، ثمّ واقعهم فإنّ الله ناصرك عليهم إن شاء الله.» فلمّا قرأ كتابه قال: - «فعل الله به وصنع. لا والله، ما لي نظر، ولكنّ ابن عمّه نصح.» وتجهّز الحجّاج للقاء عبد الرحمان، وترك رأى المهلّب. وكان فرسان أهل الشام يسقطون إلى الحجّاج مائة مائة وخمسين خمسين [2] وعشرة عشرة، وأقلّ على البرد من قبل عبد الملك وهو فى كلّ يوم يساقط إلى عبد الملك كتبه ورسله يخبر أنّ ابن الأشعث أىّ كورة نزل، ومن أىّ كورة رحل، [414] وأىّ الناس إليه أسرع. وكان بكرمان أربعة آلاف من فرسان أهل البصرة وأهل الكوفة فلمّا مرّ بهم عبد الرحمان انجفلوا معه. وسار الحجّاج بأهل الشام حتّى نزل قريبا من تستر، وقدّم بين يديه مطهّر بن حيىّ [3] . وكان لعبد الرحمان مسلحة عليها عبد الله بن أبان الحارثىّ فى ثلاثمائة فارس. فلما انتهى إليهم مطهّر أقدم عليه فهزمته مسلحة عبد الرحمان، وأتت   [1] . فافرج لهم: كذا فى الأصل. وفى مط: وما فى الطبري (8: 1059) : ثمّ واقفهم عندها. [2] . ما فى الأصل ومط خمسون خمسون فصحّحناه. [3] . حيىّ: كذا فى الأصل. وفى مط: حىّ. وما فى الطبري (8: 1061) : حرّ. وفى تعاليقه: حي، جى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الحجّاج الهزيمة وهو يخطب. صعد إليه رجل فأخبره بهزيمة الناس، فقال: - «أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة، إلى معسكر ومعقل وطعام ومادّة، فإنّ هذا المكان الذي نحن فيه لا يحتمل الجند.» ثمّ انصرف راجعا وتبعه خيول أهل العراق. فكلّ من أدركوه قتلوه وكلّ ما أصابوا من ثقل حووه. ومضى الحجّاج لا يلوى على شيء حتّى نزل الراوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلّاء [1] ، فأخذه وحمله إليه، وخلّى البصرة لأهل العراق، وكان عامله عليها الحكم [2] بن أيّوب بن الحكم بن عقيل الثقفي. وجاء أهل العراق حتّى دخلوا البصرة. وكان الحجّاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعا، دعا بكتاب [415] المهلّب وقرأه وقال: - «لله أبوه، أىّ صاحب حرب هو! لقد أشار علينا بالرأى وكلّنا لم نقبل.» وكان مع الحجّاج يوم انهزم من المال مائة وخمسون ألف ألف [000، 000، 150] ففرّقها فى قوّاده، وضمّنهم إياها. ولمّا بلغ أهل البصرة هزيمة الحجّاج أراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر فرشاه الحكم بن أيوب مائة ألف درهم. فكفّ عنه. ودخل الحجّاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر، فانتزع المائة الألف منه. ولمّا دخل البصرة عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث بايعه أهلها، كلّهم قرّاؤها وكهولها، على خلع الحجّاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من القرّاء والشيوخ. وخندق الحجّاج عليه وخندق عبد الرحمان على البصرة، واقتتلوا فى المحرم سنة اثنتين وثمانين. فكانت خيل العراق تهزم أبدا خيل الشام حتّى إذا كان فى آخر المحرّم هزم أهل العراق على عادتهم أهل الشام فنكصت ميمنتهم   [1] . الكلّاء: اسم محلّة مشهورة وسوق بالبصرة أيضا سمّيت بذلك (معجم البلدان) . أنظر الطبري (8: 1061) . [2] . الحكم (فى كلا الموضعين) : كذا فى مط والطبري. ما فى الأصل: الحلم (باللّام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوّضت صفوفهم. فلما رأى ذلك الحجّاج جثا على ركبتيه وانتضى نحوا من شبر من سيفه وقال: - «لله درّ مصعب، ما كان أكرمه حين نزل به!» قال: [416] فعلمنا أنّه لا يفرّ. قال أبو الزبير الهمدانىّ: فغمزمت أبى بعيني ليأذن لى فأضرب الحجّاج بسيفي. فغمزني غمزة شديدة، فسكتّ [1] ، وحانت منّى التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: - «أبشر أيّها الأمير، فإنّ الله قد هزم العدوّ.» فقال لى: - «قم فانظر.» قال: فقمت فنظرت فقلت له: - «قد هزمهم الله.» فقال: - «قم يا زياد فانظر.» فقام فنظر فقال: - «الحقّ- أصلحك الله- يقينا، قد هزموا.» [2] فخرّ ساجدا. قال: فلمّا رجعت شتمني أبى وقال: - «أردت أن تهلكني وأهل بيتي.» قال: فانهزم الناس، وأقبل عبد الرحمان إلى الكوفة، وتبعه أهل القوّة من أصحاب الخيل من أهل البصرة. ولمّا مضى عبد الرحمان إلى الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمان بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال أشدّ   [1] . فسكتّ: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1064) فسكنت. وهو أنسب. [2] . العبارة توافق ما فى الطبري (8: 1064) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 قتال رءاه الناس. ثمّ انصرف فلحق بابن الأشعث، وقتل الحريش بن هلال وجماعة من الأشراف والوجوه. قال أبو الزبير: كنت قد أصابتنى جراحة وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه عنده قنطرة [417] زبارا [1] . فقال لى: - «إن رأيت أن تعدل عن الطريق فلا يرى الناس جراحتك فإنّى لا أحبّ أن يستقبلهم الجرحى.» ففعلت، ودخل الناس، فلمّا دخل الكوفة مال إليه الناس كلّهم ودخلوا إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوّضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فى من جاءه من أهل البصرة عبد الرحمان بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وكنّا ذكرنا أنّه قاتل الحجّاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث. فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فقال: - «قاتل الله عدىّ [2] الرحمان، قد فرّ وقاتل غلام من غلمان قريش بعده ثلاثا.» وأقبل الحجّاج من البصرة، فسار فى البرّ حتّى مرّ بالقادسيّة والعذيب، وبعث إليه عبد الرحمان بن الأشعث عبد الرحمان بن العباس فى خيل عظيمة من خيل البصرة، فمنعوه من نزول القادسيّة. ثمّ سايره حتّى ارتفعوا على وادي السباع، ثمّ تسايرا حتّى نزل الحجّاج دير قرّة، ونزل عبد الرحمان دير الجماجم. ثمّ جاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم. فكان الحجّاج بعد ذلك يقول: - «ما [3] كان عبد الرحمان يزجر الطير، حيث رءانى نزلت دير قرّة ونزل دير   [1] . زبارا: كذا فى الأصل. وفى مط: زمارا. قال ياقوت: زبارا موضع أظنّه من نواحي الكوفة، ذكر فى قتال القرامطة أيّام المقتدر. [2] . عدىّ: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: عبدى. [3] . ما كان: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1072) : أما كان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 الجماجم.» واجتمع القرّاء من أهل [418] المصرين وأهل الثغور والمسالح وجماعة أهل الكوفة والبصرة على حرب الحجّاج والذي جمعهم على حربه بغضهم له وإجماعهم على عدوانه وظلمه، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممّن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم مواليهم. وجاءت الحجّاج أمداده من قبل عبد الملك. فكان الحجّاج مخندقا فى عسكره والناس يخرجون فى كلّ يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رءاه الآخر أدنى خندقه أيضا من صاحبه واشتدّ القتال. ذكر وقعة دير الجماجم لمّا بلغ أهل الشام ورؤوس قريش قبل عبد الملك مخالفة أهل العراق الحجّاج اجتمعوا إليه، وقالوا [1] : - «إن كان إنّما يرضى أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فإنّ نزع الحجّاج أهون من حرب أهل العراق فانزعه عنهم تخلص [2] لك طاعتهم وتحقن به دماءنا ودماءهم.» بعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك وأخاه محمد بن مروان فى خيل إلى أرض العراق، وأمرهما أن يعرضا على أهلها نزع الحجّاج عنهم وأن يجرى عليهم أعطياتهم [419] كما يجرى على أهل الشام وأن ينزل ابن محمد بن الأشعث أىّ بلد شاء من العراق يكون عليه واليا ما كان حيّا وكان عبد الملك واليا. فإن هم قبلوا ذلك فاعزل عنهم الحجّاج ومحمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجّاج أمير جماعة أهل الشام وولىّ القتال، ومحمد بن مروان وعبد الله بن   [1] . فى الأصل: قال. وهو خطأ. وما فى مط والطبري (8: 1073) : قالوا. كما أثبتناه. [2] . فى الأصل ومط: وتخلص (بزيادة الواو) فحذفناها كما فى الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 عبد الملك فى طاعته. فلم يأت الحجّاج قطّ أمر كان أشدّ عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم. فكتب إلى عبد الملك: - «يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعى عنهم لا يلبثون إلّا قليلا حتّى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلّا جرأة عليك. ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفّان؟ فلما سألهم: ما الذي تريدون؟ قالوا: نزع سعيد بن العاص. فلما نزعه، لم تتمّ لهم السنة حتّى ساروا إليه، فقتلوه. إنّ الحديد بالحديد يقرع. وخار الله لك فى ما ارتأيت والسلام.» فأبى عبد الملك إلّا عرض هذه الخصال على أهل العراق طلبا للعافية من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجّاج خرج عبد الله بن عبد الملك [420] فنادى أهل العراق وقال: - «أنا عبد الله بن أمير المؤمنين وهو يعطيكم كذا وكذا.» وذكر الخصال التي ذكرناها. وقال محمد بن مروان: - «أنا رسول أمير المؤمنين إليكم وهو يعرض عليكم كذا وكذا.» وذكر هذه الخصال. فقالوا: - «نرجع العشيّة وننظر.» فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس ولا فارس إلّا أتاه. ذكر رأى رءاه عبد الرحمان عند هذه الحال لمّا اجتمع هؤلاء كلّهم عند ابن الأشعث حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أمّا بعد، أعطيتم اليوم أمرا انتهازكم إيّاه اليوم فرصة، ولا آمن أن يكون على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 ذى [1] الرأى غدا حسرة. وإنّكم اليوم على النصف، وإن كانوا اعتدّوا عليكم بالزاوية فأنتم تعتدّون عليهم بيوم تستر. فاقبلوا ما عرض عليكم وأنتم أعزّاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون. فلا والله لا زلتم عليهم جرّاء وعندهم أعزّاء أبدا، إن قبلتم.» فوثب إليه الناس من كلّ جانب، فقالوا: - «إنّ الله قد أهلكهم، فأصبحوا فى الأزل والضنك والمجاعة والقلّة والذلّة، ونحن ذوو العدد [421] الكثير والسعر الرفيع [2] والمادة القريبة. لا والله، لا نقبل.» فأعادوا خلعه ثانيا. وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم، أجمع من خلعهم إيّاه بفارس. فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجّاج، فقالا: - «شأنك بعسكرك وجندك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع.» فقال الحجّاج: - «قد قلت لكما أنّه لا يراد بهذا الخلاف غيركما.» ثمّ قال: - «إنّما أقاتل لكما وسلطاني سلطانكما.» فكانوا إذا لقياه سلّما عليه بالإمرة، وكان أيضا يسلّم عليهما بالإمرة، وخلّياه والحرب، فتولّاها وبرزوا للقتال. فجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمان بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله   [1] . ذى الرأى: كذا فى الأصل ومط والطبري. وفى بعض الأصول: ذا الرأى. [2] . السعر الرفيع: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (8: 1075) : السعر الرفيغ (بالغين المعجمة) . وما فى مط: الشعر الرفيع! والرفيغ: الهنيء. الرغيد. الواسع. وما فى الأصل أنسب. وأما ابن الأثير ففيه: الشعر الرخيص (4: 471) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 عبد الرحمان بن حبيب الحكمي. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجّاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمان بن العباس بن عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البختري الطائىّ، وعبد الرحمان بن أبى ليلى. فكانوا يتزاحفون كلّ يوم ويقتتلون. [422] فأما أهل الكوفة والبصرة فتأتيهم موادّهم من السواد فهم فى ما شاءوا من خصب. وأما أهل الشام ففي ضيق شديد قد غلب عليهم الأسعار وقلّ عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكانوا كأنّهم فى حصارهم [1] وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحون فيقتتلون أشدّ القتال. وكان الحجّاج يدنى خندقه مرّة وهؤلاء أخرى. فعبّى ذات يوم الحجّاج أصحابه وزحف فيها. وخرج ابن الأشعث فى سبعة صفوف بعضها فى أثر بعض وعبّى الحجّاج لكتيبة القرّاء التي فيها جبلة بن زحر ثلاث كتائب وعليهم الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم. فتحدّث أبو يزيد السكسكي قال: أنا والله فى الخيل التي عبّئت لجبلة بن زحر كلّ كتيبة تحمل حملة، فو الله ما استفضضناهم ولا شيئا منهم [2] . وقال أبو الزبير الهمداني: كنت فى خيل جبلة بن زحر. فلمّا حمل علينا أهل الشام مرّة بعد مرّة نادانا عبد الرحمان بن أبى ليلى الفقيه، فقال: - «يا معشر القرّاء، إنّ الفرار ليس بأحد من الناس أقبح منه بكم. إنّى سمعت عليّا- رفع الله درجته فى الصالحين والشهداء [423] والصدّيقين- يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا [3] وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي   [1] . فى حصارهم: كذا فى الأصل والطبري 8: 1076. وما فى مط: فى عصارهم! [2] . منهم: كذا فى الأصل. وما فى مط: منها. والعبارة فى الطبري (1077) : وما استنقصنا منهم شيئا. [3] . اقتباس من: س 9 التوبة: 40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 أصاب سبيل الهدى ونوّر قلبه باليقين. فقاتلوا المحلّين المبتدعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.» وتكلّم أبو البختري بنحو من هذا الكلام وحضّ على قتالهم، وكذلك الشعبىّ، وسعيد بن جبير. وقال جبلة: - «إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة لا تردّوا فيها وجوهكم حتّى تخالطوا صفّهم.» قال: فحملنا حملة بجدّ منّا فى قتالهم وقوّة منّا عليهم. فضربنا الكتائب الثلاث حتّى تكسّرت بعضها فى بعض وتفرّقت. ثمّ مضينا حتّى واقعنا [1] صفّهم فضاربناهم حتّى أزلناهم عنه. ثمّ انصرفنا، فمررنا بجبلة صريعا لا ندري كيف قتل. قال: فهدّنا ذلك وجئنا فوقفنا موقفنا الذي كنّا به وإنّ قرّاءنا لمتوافرون ونحن نتناعى جبلة بن زحر، كأنّما فقد [424] كلّ واحد منّا أباه أو أخاه، بل هو فى ذلك الموطن كان أشدّ علينا فقدا. فقال لنا أبو البخترىّ: - «لا يستبيننّ عليكم قتل جبلة بن زحر، فإنّما كان كرجل منكم أتته منيّته ليومها، وكلّكم ذائق ما ذاق، ومدعوّ فمجيب.» قال: فنظرت فى وجوه القرّاء، فإذا الكآبة على وجوههم بيّنة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل قد ظهر فيهم. فسرّ أهل الشام ما رأوا فينا، ثمّ نادونا: - «يا أعداء [الله،] [2] قد هلكتم والله، وقتل الله طاغيتكم.» وقدم علينا، ونحن على تلك الحال، بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيبانى،   [1] . واقعنا: كذا فى الأصل بشيء من الغموض. وما فى مط: أيضا: واقعنا. [2] . ما بين [] تكملة من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فشجّع الناس مقدمه وقالوا: - «هذا يقوم مقام جبلة.» فسمع هذا الكلام من بعضهم أبو البختري، فقال: - «قبحتم [1] ، إن كان كلّما قتل رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن مصقلة ألقيتم بأيديكم [2] وقلتم: لم يبق أحد نقاتل معه. ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم.» وكان قدم بسطام من الرىّ. قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم أعدّها عدّا لا يزيد يوما ولا ينقص يوما وما كنّا قطّ [425] أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم فى ذلك اليوم. وذلك أنّا قاتلناهم عامة يومنا أحسن القتال قاتلناهم قطّ ونحن آمنون من الهزيمة عالون القوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي فى الخيل من ميمنة أصحابه حتّى دنا من الأبرد بن قرّة التميمي وعلى ميسرة عبد الرحمان بن محمد. فو الله ما قاتله كبير قتال حتّى انهزم. فأنكرها الناس منه، وكان شجاعا، ولم يكن الفرار له بعادة. فطن [3] الناس أنّه كان أو من وصولح على أن ينهزم بالناس. فلما فعلوا تقوّضت الصفوف من نحوه، وركب الناس رؤوسهم وأخذوا فى كلّ وجه. فصعد عبد الرحمان بن محمد المنبر، وأخذ ينادى الناس: - «إلىّ إلىّ، أنا محمد.» فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره فى خيل له، وجاءه عبد الله   [1] . قبحتم: الضبط من الأصل كما فى الطبري (8: 1088) . قبحتم [عن الخير] : أى نحّيتم عنه. [2] . ألقيتم بأيديكم. كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة. كما جاء فى التنزيل: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (س 2 البقرة: 195) . [3] . فطن الناس: كذا فى الأصل ومط. ولم نجدها فى الطبري ولا ابن الأثير. ويبدو أنها تصحيف من «فظنّ» مع أنّ ل «فطن» أيضا وجها أقوى، لولا وحدة الفاء، لأن السياق يتطلّب أن تتكرر الفاء: ففطن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 بن ذؤاب السلمى فى خيل له، فوقف قريبا منه وثبت حتّى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبالهم تحوزه. فقال: - «يا ابن رزام، احمل على هذه الرجّالة.» فحمل عليهم حتّى أمعنوا. ثمّ جاءت خيل أخرى ورجّالة، فقال: - «احمل عليهم يا ابن ذؤاب.» فحمل عليهم [426] حتّى أمعنوا وثبت لا يبرح. ودخل أهل الشام العسكر، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفّل الأزدى، فقال: - «انزل، فإنّى أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلّك إن انصرفت اليوم أن تجمع لهم جميعا فى غد يهلكهم الله.» وكانت بنت عبد الله بن يزيد تحت عبد الرحمان بن محمد. فنزل وخلّى أهل العراق العسكر وانهزموا لا يلوون. ومضى عبد الرحمان مع أناس من أهل بيته. فقال الحجّاج: - «أتركوهم، فليبتدروا [1] ولا تتبعوهم.» ونادى المنادى: - «من رجع فهو آمن.» ورجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخلّيا العراق والحجّاج. دخول الحجّاج الكوفة وجلوسه للناس وجاء الحجّاج حتّى دخل الكوفة وجلس للناس. فكان لا يبايعه أحد من أهل العراق إلّا قال:   [1] . فليبتدروا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1096) : فليتبدّدوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 - «أتشهد أنّك قد كفرت؟» فإذا قال: «نعم،» بايعه، وإلّا قتله. فجاء رجل من خثعم، وكان معتزلا للناس جميعا من وراء الفرات. فسأله عن حاله فقال: - «ما زلت معتزلا وراء هذه النطفة منتظرا أمر الناس حتّى ظهرت، فأتيت لأبايعك مع الناس.» فقال: - «أمتربّص؟ [427] أتشهد أنّك كافر؟» - «بئس الرجل أنا إذا! إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثمّ أشهد على نفسي بالكفر.» قال: - «إذا أقتلك.» قال: - «فإن قتلتني، والله ما بقي من عمرى إلّا كظمء حمار [1] ، وإنّى لأنتظر الموت صباح مساء.» قال: - «اضربوا عنقه.» فلما ضربوا عنقه لم يبق أحد حوله من الحرس إلّا رحمه ورثى له من القتل. قتله كميل بن زياد النخعي وما دار بينهما من كلام ودعا بكميل بن زياد النخعي، وكان ركينا فى الحرب حليما صاحب نجدة وحفاظ من أصحاب علىّ بن أبى طالب عليه السلام، فقال: - «أنت المقتصّ من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلا.» فقال: - «والله ما أدرى على أيّنا أنت أشدّ غضبا: عليه حين أقاد من نفسه، أم علىّ   [1] . قال فى متن اللغة: ظمء الحياة: ما بين سقوط الولد إلى حين موته. ويكنى بظمء الحمار عن قصر المدة لأنه أقل الحيوان صبرا على العطش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 حين عفوت عنه؟» فراجعه الحجّاج. فقال: - «أيها الرجل! لا تصرف علىّ أنيابك، ولا تتهدّم علىّ تهدّم الكثيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما بقي من عمرى إلّا مثل ظمئ الحمار، فإنّه يشرب غدوة، ويموت عشيّة ويشرب عشيّة ويموت غدوة. اقض ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله، وغدا الحساب.» فقال الحجّاج: - «فإنّ [428] الحجّة عليك.» قال: - «إن كان القضاء إليك.» قال: - «اقتلوه!» فقتل رحمه الله. وأتى برجل آخر من بعده طلبه الحجّاج. فقال الحجّاج: - «إنّى أرى وجه رجل ما أظنّه يشهد على نفسه بالكفر.» قال: - «أخادعى أنت عن نفسي؟ بلى أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذى الأوتاد.» فضحك الحجّاج وخلّى سبيله. وتوفّى فى هذه السنة المهلّب منصرفه من كسّ [1] يريد مرو وأصابته الشوصة فدعا حبيبا ومن حضر من ولده فوصّاهم.   [1] . فى الأصل وحواشي الطبري (8: 80- 1078) : كس. من دون ضبط. وفى ياقوت بكسر الكاف وتشديد الشين. وفى مط: كسر. وهو تصحيف. وفى الطبري وابن الأثير (4: 473) : كشّ. اسم لمدينة بما وراء النهر يقال لها اليوم: «شهر سبز» أى: المدينة الخضراء (فم، مد) . قال البلاذري: كسّ هي الصغد، تكسر فيه الكاف وتفتح، وربما صحّفه بعضهم فقاله: كشّ. قال ابن ماكولا: لمّا عبرت نهر جيحون وحضرت بخارى وسمرقند وجدت جميعهم يقولون: كسّ. قال: المقدسي: «كسّ تعريب كشّ» (نقلا عن معجم البلدان بالتلخيص) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وصيّة المهلّب إلى ولده حين حضرته الوفاة قال: - «عليكم بتقوى الله، وصلة الرحم. اجمعوا أمركم ولا تختلفوا. تبارّوا لتجتمع أموركم. إنّ بنى الأمّ يختلفون وكيف ببني العلّات [1] . وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن أفعالكم أفضل من أقوالكم، فإنّى أحبّ الرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه. واتّقوا الجواب [2] وزلّة اللسان، فإنّ الرجل تزلّ قدمه فينتعش من زلّته، ويزلّ لسانه فيهلك. وآثروا الجود على البخل [429] وأحبّوا العرب، واصطنعوا العرف. فإنّ الرجل تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم فى الحرب بالأناة والمكيدة، فإنّها أنفع من الشجاعة، وإذا كان [اللقاء] [3] ، ونزل القضاء. فإن أخذ رجل بالحزم وظهر على العدوّ، قيل: [أتى] الأمر [4] من وجهه ثمّ ظفر. وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكنّ القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعلّم السنن وآداب الصالحين. وإيّاكم والخفّة وكثرة الكلام فى مجالسكم. اعرفوا حقّ من يغشاكم، فكفى بغدوّ الرجل ورواحه إليكم تذكرة له. وقد استخلفت عليكم يزيد.» فقال المفضّل: - «لو لم تقدّم يزيد لقدّمناه.» ومات المهلّب وصلّى عليه حبيب، ثمّ سار بالجند إلى مرو. فكتب يزيد إلى   [1] . العلّات: (بفتح العين المهملة وهي مكسورة فى الطبري) جمع مفرده: العلّة: وهي الضرّة. يقال: بنو علّات: أى بنو أمّهات شتى من رجل واحد. وعكسها: أولاد الأخياف. ويقال: هم إخوة أخياف، أى: بنو أخياف. أى أمّهم واحدة والآباء شتى. [2] . واتقوا الجواب: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 1083) . [3] . فى الأصل ومط: القضا، وهو سهو. وفى الطبري (8: 1083) : اللقاء. [4] . فى الأصل ومط: أتاه الأمر. وفى الطبري (8: 1083) : أتى الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 عبد الملك بوفاة أبيه واستخلافه إيّاه، فأقرّه الحجّاج. وذلك فى سنة اثنتين وثمانين. ذكر وقعة الحجّاج وابن الأشعث بمسكن لمّا انهزم ابن الأشعث من دير الجماجم، وتفرّق أصحابه حصل خلق منهم بالمدائن [430] مع محمد بن أبى وقّاص وجماعة مع عبيد الله بن عبد الرحمان بن أبى سمرة بن جندب. وخرج الحجّاج فى آثارهم، فبدأ بالمدائن. فلمّا بلغ محمد بن سعد عبوره خرج مع أصحابه حتّى لحق بابن الأشعث. وخرج إليه عبيد الله بن عبد الرحمان أيضا، واجتمع إليه الناس من كلّ أوب [1] حتّى عسكروا معه على دجيل بمسكن، وأتاه فلّ الكوفة، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصلقة على الموت، وخندق عبد الرحمان على أصحابه، وبثق [2] الماء من جانب، فوجّه القتال من وجه واحد. وقدم عليه خالد بن حرير بن عبد الله القسري من خراسان فى ناس كانوا معه من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشدّ قتال حتّى قتل زياد بن عثيم من أصحاب الحجّاج وكان على مسالحه، فهدّه ذلك وهدّ أصحابه. وعبّى أصحابه وحضّهم على القتال، وباكرهم بقاتل لم ير مثله قطّ. وجاءه عبد الملك بن المهلّب مجفّفا [3] وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد. فقال له الحجّاج:   [1] . أوب: ما فى الأصل: لوب (باللّام) والمثبت من مط. الأوب: القصد والعادة والطريق. يقال: «جاءوا من كلّ أوب» أى: من كل جهة. [2] . بثق: كذا فى الأصل والطبري (8: 1099) وما فى مط: نتق. بثق النهر: كسر سدّه ليفيض منه الماء. [3] . مجفّفا: كذا فى الأصل. وما فى مط مهمل من دون نقط. وفى الطبري: محفّفا (بالحاء المهملة) . جفّفه: ألبسه التجفاف: آلة للحرب يتّقى بها كالدرع، للفرس والإنسان. حفّفه القوم (بالحاء المهملة) : أحدقوا به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 - «ضمّ إليك يا عبد الملك هذا النشر [1] لعلّى أحمل عليهم.» ففعل، وحمل الناس [431] من كلّ جانب، فانهزم أهل العراق أيضا وقتل أبو البختري الطائىّ وعبد الرحمان بن أبى ليلى، وكانا قالا قبل أن يقتلا: - «إنّ الفرار كلّ ساعة لقبيح بنا.» فصبرا وأصيبا. ومشى بسطام بن مصقلة فى أربعة آلاف ممّن بايعوه على الموت، فهزم أهل الشام مرارا وكشفهم حالا بعد حال، ولم يكن الحجّاج يعرف إليهم طريقا إلّا الطريق الذي يلتقون فيه. فأتى بشيخ كان راعيا، فدلّه على طريق من وراء أجمة فى الكرخ طوله ستّة فراسخ فى ضحضاح من الماء. فبات الحجّاج الليلة وانتخب من جلد أهل الشام أربعة آلاف، وقال لقائدهم: - «ليكن هذا العلج أمامك وهذه خمسة آلاف درهم. فان أقامك على عسكرهم فادفع إليه المال، وإن كذبنا فاضرب عنقه. فإن رأيتهم فاحمل عليهم فى من معك وليكن شعاركم: يا حجّاج يا حجّاج.» فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجّاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه. فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجّاج من جهة بسطام بن مصقلة كما حكينا من أمره قبل، حتّى عبر السّيب ودخل ابن الأشعث [432] عسكره فانتهبه. ذكر تكاسل كان من ابن الأشعث عاد بوبال عليه واتّفاق محمود للحجّاج قيل لابن الأشعث:   [1] . النشر: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 100) . النشر: القوم المتفرقون لا يجمعهم رئيس. يقال: اللهم اضمم نشرى. أى: ما تفرّق من أمرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 - «الرأى أن تتبعه ولا تنفّس عنه.» فقال: - « [قد] تعبنا ولحقنا نصب.» فرجع إلى عسكره، وألقى أصحابه السلاح وباتوا آمنين، فى أنفسهم لهم الظفر، وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم. فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدرى أين يتوجّه، دجيل من يساره وجدلة أمامه ولها جرف منكر. فكان من غرق أكثر ممن قتل. وسمع الحجّاج الصوت، فعبر السيب، وكان قد قطعه إلى عسكره، ثمّ وجّه خيله إلى القوم، فالتقى العسكران على ابن الأشعث، فانهزم فى ثلاثمائة. فمضى على شاطئ دجلة حتّى أتى دجيلا، فعبره فى السفن وعقروا دوابّهم، وانحدر فى السفن إلى البصرة. فدخل الحجّاج عسكره وقتل من وجد، حتّى قتل أربعة آلاف، فيهم بسطام بن مصقلة وجماعة من أهل الشرف والصبر. وخرج ابن الأشعث بمن معه من الفلّ منهزمين نحو سجستان فلمّا [433] دخل كرمان تلقّاه عمرو بن لقيط وكان عامله عليها. فسأله نزلا، ونزل. فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل: - «والله، لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أنّك جبان فى مواطنك.» فقال عبد الرحمان: - «ما جبنت، والله لقد دلفت إلى الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت وقاتلت راجلا، فما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم فى موطن حتّى لا أجد مقاتلا، ولا أرى معى مقاتلا، ولكنّى زاولت ملكا مؤجّلا.» ثمّ مضى ابن الأشعث بمن معه حتّى فوّز فى مفازة كرمان وخيل الشام تتبعه، ثمّ مضى حتّى خرج إلى زرنج [1] مدينة سجستان، وفيها رجل من بنى تميم كان   [1] . زرنج: مدينة هي قصبة سجستان، وسجستان اسم الكورة كلّها (معجم البلدان) . اسم قديم لمدينة كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 استعمله عبد الرحمان عليها يقال له عبد الله بن عامر بن بنى مجاشع. فلمّا قدم عليه ابن الأشعث منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها. فأقام عبد الرحمان أيّاما رجاء افتتاحها ودخولها. فلمّا رأى أنه لا يصل إليها خرج حتّى أتى بست [1] ، فكان استعمل عليها رجلا يقال له: عياض بن هميان السدوسي، فاستقبله وقال له: - «انزل.» [434] ذكر طمع عياض فى ابن الأشعث فجاء ابن الأشعث حتّى نزل به وانتظر حتّى غفل أصحاب عبد الرحمان، وتفرّقوا عنه وثب عليه، فأوثقه وأراد أن يأمن بها عند الحجّاج ويتخذ بها عنده مكانا، وقد كان رتبيل حين سمع بمقدم عبد الرحمان عليه استقبله فى جنوده، وجاء حتّى أحاط ببست، وبعث إلى البكرىّ، والله، لئن آذيته بما يقذى عينه أو ضررته ببعض المضرّة، أو رزأته حبلا من شعر، لا أبرح العرصة حتّى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثمّ أسبى ذراريّكم، وأقسّم بين الجند أموالكم، وأقتل من عاند [2] منكم.» فأرسل إليه البكري أن: - «أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا ونحن ندفعه إليك سالما وما كان له من مال موقّرا.»   [ () ] مركز سجستان. وقد تبدّل هذا الإسم فى ما بعد إلى مدينة سجستان (شهر سيستان) والإسم الأخير كان عليها حتّى الأيام التي خربت المدينة فيها على يد تيمور. (لسترنج: 60- 359) . [1] . بست: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة وأظنّها من أعمال كابل (معجم البلدان) ، وتقع على ملتقى رافدى نهر هيرمند فى أفغانستان (فم) . [2] . عاند: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: عاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 فصالحه على ذلك وآمنهم. ففتحوا لابن الأشعث وخلّوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له بعد ما أنس وتساءلا: - «هذا الرجل كان عاملي على هذه المدينة، وركب منّى ما رأيت، فأذن لى فى قتله؟» قال: - «آمنته وأكره الغدر به.» فقال: - «فأذن لى فى لهزه ودفعه والتصغير [1] به.» [435] فقال: - «أمّا هذا فنعم.» ففعل به عبد الرحمان، ثمّ مضى مع رتبيل حتّى دخل بلاده، فأنزله رتبيل وأكرمه وعظّمه وكان معه ناس من الفلّ كثير. ذكر ما اغترّ به عبد الرحمان حتّى فارق رتبيل ثمّ اضطرّ إلى معاودته كان جماعة من أصحاب عبد الرحمان وعظم فلوله ممّن لم يقبلوا أمان الحجّاج وناصبوه فى مواطنه لم يكن لهم عنده وجه، فاضطرّوا إلى الخروج فى إثر عبد الرحمان، فلم يزالوا يتساقطون إلى نواحي سجستان حتّى اجتمع منهم وممّن اتّبعهم من أهل البلد نحو من ستين ألفا. فنزلوا على عبد الله بن عامر، فحصروه وكتبوا إلى عبد الرحمان يخبرونه بعددهم وجماعتهم وهو عند رتبيل، وكان يصلّى بهم عبد الرحمان بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، وكتبوا إليه أن: - «أقبل، لعلّنا نسير إلى خراسان، فإنّ بها منّا جندا عظيما، فلعلّهم يبايعوننا [2] على قتال أهل الشام وهي بلاد واسعة عريضة فيها حصون.»   [1] . التصغير: كذا فى مط والطبري (8: 1103) . وما فى الأصل: التصعير (بالعين المهملة) . [2] . يبايعوننا: ما فى الأصل ومط: يبايعونا، والمثبت يوافق الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 فخرج إليه عبد الرحمان بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر حتّى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمان، فضرب وعذّب وحبس. ثمّ إنّه توجّه [436] إليهم خيل الشام، عليهم عمارة بن تميم اللخمىّ. ذكر آراء أشير بها على ابن الأشعث ورأى رءاه وحده سديد لو ساعدوه عليه أشار أصحاب عبد الرحمان عليه أن يخرج عن سجستان، وقالوا له: - «هلمّ بنا، نأتى خراسان وندع لهم سجستان.» فقال عبد الرحمان: - «على خراسان يزيد بن المهلّب وهو شابّ شجاع صارم وليس بتارك سلطانه، ولو قد دخلتموها وجدتموه سريعا إليكم، ولن يدع أهل الشام اتّباعكم، [1] فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألّا تنالوا ما تظنّون.» فقالوا: - «إنّما أهل خراسان منّا، ونحن نرجو أن لو دخلناها أن يكون من يتّبعنا منهم أكثر ممّن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة نتنحّى [2] فيها حيث شئنا ونمكث حتّى يهلك الله الحجّاج أو عبد الملك، أو نرى رأينا.» فقال لهم عبد الرحمان: - «سيروا على اسم الله.» فساروا حتّى بلغوا هراة. فلم يشعروا بشيء حتّى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمان [437] بن سمرة بن جندب القرشىّ فى ألفين، ففارقه وأخذ طريقا سوى طريقهم.   [1] . الضبط من الأصل، وهو يوافق الطبري (8: 1105) . [2] . نتنحّى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1105) : ننتحى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 فلمّا أصبح ابن الأشعث خطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: - «أمّا بعد، فإنّى قد شهدتكم فى هذه المواطن، وليس منها مشهد لا أصبر لكم فيه [1] نفسي حتّى لا يبقى فيه منكم أحد، وقد كنت لمّا رأيتكم لا تصبرون ولا تصدقون القتال، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه. فجاءتني كتبكم بأن: أقبل إلينا فإنّا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلّنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم، فرأيتم أن أمضى إلى خراسان وزعمتم أنّكم مجتمعون لى، وأنّكم لن تتفرّقوا عنّى، فحسبي منكم يومى هذا. قد صنع عبيد الله ما قد رأيتم، فاصنعوا أنتم أيضا ما بدا لكم. أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله. فمن أحبّ منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحبّ فى كنف الله.» فتفرّقت منهم طائفة ونزلت معه طائفة وبقي عظم العسكر. فوثبوا إلى عبد الرحمان بن عباس الهاشمىّ لما انصرف ابن الأشعث، فبايعوه ثمّ مضى عبد الرحمان بن الأشعث إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتّى انتهوا إلى هراة، فلقيهم الرقاد بن عبيد العتكىّ، فقتلوه [438] وخرج إليهم يزيد بن المهلّب، وأرسل إليهم وإلى الهاشمىّ: - «قد كان لك فى البلاد متّسع ومن هو أكلّ منّى حدّا وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس [لى] [2] فيه سلطان، فإنّى أكره قتالك. وإن أحببت أن أمدّك بمال لسفرك أعنتك عليه.» فأرسل إليه: - «ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا انتقام، ولكنّا أردنا أن نريح ثمّ نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت.» فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمىّ على الجباية وبلغ يزيد، فقال:   [1] . فيه: كذا فى الطبري (8: 1105) ومط. وما فى الأصل: فيها. وهو سهو. [2] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 1106) تطلّبه سياق العبارة، فأضفناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 - «من أراد أن يريح ثمّ يجتاز لم يجب الخراج.» فقدّم المفضّل فى خمسة آلاف ثمّ أتبعه فى أربعة آلاف. ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: - «ما أرانى إلّا قد ثقلت عن الحرب. أىّ فرس يحملني!» ثمّ دعا بفرسه الكامل، فركبه حتّى أتى هراة، وأرسل إلى الهاشمىّ: - «قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك. فاخرج، فو الله ما أريد أن أقاتلك.» فأبى إلّا القتال، ودسّ الهاشمىّ إلى جند يزيد يمنّيهم ويعدهم إلى نفسه. فأخبر بعضهم يزيد، فقال: - «جلّ [439] الأمر عن العتاب. أتغدّى بهذا قبل أن يتعشّى بى.» فسار إليه حتّى تدانى العسكران وتأهّبوا للقتال، وألقى ليزيد كرسىّ، فقعد عليه، وولّى الحرب أخاه المفضّل، وقال له: - «قدّم خيلك.» فتقدّم بها وتهايجوا، فلم يكن بينهم كبير قتال حتّى تفرّق الناس عن عبد الرحمان الهاشمىّ، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، فكثرهم الناس، فانكشفوا. فأمر يزيد بالكفّ عن اتّباعهم، وأخذوا ما كان فى عسكرهم، وأسروا منهم أسرى فيهم سعيد بن أبى وقّاص، وموسى بن عمر بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم [1] بن القعقاع بن معبد بن زرارة، ويزيد بن الحصين، وعبد الرحمان بن طلحة بن عبيد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسند، وابن سمرة قصد مرو. ثمّ انصرف يزيد إلى مرو، وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع ابن عمّ له، وخلّى عن   [1] . فى مط: «الرهوى والهلف أم نعيم» بدل: «الزهري والهلفام بن نعيم» ، والتحريف غريب! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 ابن طلحة وعبد الله بن فضالة. وسعى قوم عبيد الله بن عبد الرحمان بن سمرة، فأخذه يزيد، وحبسه. فأمّا محمد بن سعد بن أبى وقّاص، فيقال: إنّه قال ليزيد: - «أسألك بدعوة أبى لأبيك.» ولقوله هذا حديث فيه طول. [440] ذكر ما تقدّم به الأسرى عند الحجّاج لمّا قدم الأسرى على الحجّاج، قدّم موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر، فقال: - «أنت صاحب عدىّ الرحمان.» فقال: - «أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبحلمك وبفضلك، وإن عاقبت، عاقبت ظلمة [1] مذنبين.» فقال الحجّاج: - «أمّا قولك: شملت البرّ والفاجر فكذبت، ولكنّها شملت الفجّار وعوفي منها الأبرار، وأمّا اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك.» فعزل، ورجا له الناس العافية. حتّى قدّم الهلقام بن نعيم، فقال له الحجّاج: - «أخبرنى عنك، ما رجوت اتّباع عبد الرحمان بن محمد، أرجوت أن يكون خليفة؟» قال: - «نعم، رجوت ذلك وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك.» فغضب الحجّاج، وقال: - «اضربوا عنقه!» ونظر إلى موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر وقد كان نحّى [2] عنه، فقال:   [1] . فى مط: «وإن عاقبت فظلمة» بدل: «إن عاقبت، عاقبت ظلمة» . [2] . نحىّ: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: يحى. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 - «اضربوا عنقه!» وقتل، وقتل بقيّتهم. كلام للشعبىّ لمّا حمل إلى الحجّاج كان الحجّاج لمّا هزم الناس نادى مناديه: - «من لحق بقتيبة بن مسلم بالرىّ فهو أمانه.» فلحق ناس كثير بقتيبة وفيهم عامر الشعبىّ. فذكره الحجّاج يوما وقال: - «أين هو، [441] وما فعل؟» قال له يزيد بن أبى مسلم، وهو كاتب الحجّاج: - «بلغني أيها الأمير أنّه لحق بقتيبة.» فكتب الحجّاج إلى قتيبة أن يبعث إليه بالشعبى حين ينظر فى كتابه. فسرّحه إليه. قال الشعبي: كنت لابن أبى مسلم صديقا. فلمّا قدم بى على الحجّاج لقيته وقلت له: - «أشر علىّ.» قال: - «ما أدرى ما أشير به عليك، غير أن: اعتذر ما استطعت من عذر.» فلمّا دخلت سلّمت بالإمرة ثمّ قلت: - «أيها الأمير إنّ الناس قد أمرونى أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق. وأيم الله لا أقول فى هذا المقام إلّا حقا. قد والله سوّدنا عليك، وخرجنا واجتهدنا عليك كلّ الجهد فما ألونا [1] . فما كنّا بالفجرة الأقوياء، ولا بالبررة الأتقياء. ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إلينا أيدينا، وإن   [1] . ألونا: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1112) : آلونا. وهو خطأ. وقوله: فما ألونا أى: فما قصرنا، وما أبطأنا. ومنه قولهم: لم نأل جهدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 عفوت عنّا فبحلمك. وبعد فالحجّة [1] لك علينا.» فقال له الحجّاج: - «أنت والله أحبّ إلىّ ممّن يدخل علىّ يقطر سيفه من دمائنا ثمّ يقول: ما فعلت وما شهدت. قد أمنت عندنا يا شعبىّ.» قال: فانصرفت. فلما مشيت قليلا، قال: - «هلّم يا شعبىّ!» [442] قال: فوجل لذلك قلبي، ثمّ ذكرت قوله: «قد أمنت» . فاطمأنّت نفسي. قال: - «كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبىّ؟» وكان لى مكرما. فقلت: - «أصلح الله الأمير، اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا.» قال: - «انصرف يا شعبىّ.» فانصرفت. فيروز يمنع الحجّاج أن ينال ماله وقيل: إنّ الحجّاج لمّا أتى بالأسرى من عند يزيد بن المهلّب، قال لحاجبه: - «إذا دعوت بسيّدهم فأتنى بفيروز فأبرزوا سريره.» وهو حينئذ بواسط القصب، قبل أن تبنى مدينة واسط. ثمّ قال لحاجبه: - «جئني بسيّدهم.» فقال لفيروز: - «قم!»   [1] . فالحجّة: ما فى الأصل: الحجة. بدون الفاء. والفاء أضفناها من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 فقال له الحجّاج: - «أبا عثمان ما أخرجك [1] مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم.» فقال: - «فتنة عمّت الناس فكنّا فيها.» فقال: - «أكتب لى أموالك.» قال: - «ثمّ ماذا؟» قال: - «أكتبها أوّل.» قال: - «ثمّ أنا آمن على دمى؟» قال: - «أكتبها، ثمّ أنظر.» قال: - «أكتب يا غلام: ألف ألف [000، 000، 1] ، ألفى ألف [000، 000، 2] .» حتّى ذكر مالا عظيما. فقال الحجّاج: - «أين هي، وعند من هذه الأموال؟» قال: -[ «عندي.» قال: - «فأدّها.» قال: - «وأنا آمن على دمى؟» قال: - «والله، لتؤدّينّها، ثمّ لأقتلنّك.» قال:] [2]- «لا والله لا، جمعت [3] مالي ودمى.» فقال الحجّاج للحاجب: - «نحّه!»   [1] . ما أخرجك مع هؤلاء: كذا فى الأصل. وما فى مط: ما أحوجك مع هؤلاء. وهو خطأ. [2] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 1120) . والعبارة سقطت من الأصل ومط. وهي موجودة فى ابن الأثير (4: 487) . أيضا. [3] . لا جمعت: كذا فى الأصل. وفى مط: لا اجتمعت. وهو خطأ. وما فى الطبري: لا تجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 فنحّاه ثمّ أمر به فعذّب. وكان فى ما عذّب به أن كان يشدّ عليه [443] القصب الفارسىّ المشقّق، ثمّ يجرّ حتّى تحزّز [1] جسده، ثمّ ينضح عليه الخلّ والملح. فلما أحسّ بالموت، قال لصاحب العذاب: - «إنّ الناس لا يشكّون أنّى قتلت. ولى ودائع أموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبدا. فأظهرونى للناس ليعلموا أنّى حىّ فيؤدّوا المال.» فأعلم الحجّاج فقال: - «أظهروه.» فأخرج، فصاح فى الناس: - «من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرنى فأنا فيروز الحصين [2] . إنّ لى عند أقوام مالا. فمن كان لى عنده شيء فهو له وهو فى حلّ فلا يؤدّينّ أحد منه درهما. ليبلغ الشاهد الغائب.» فأمر به الحجّاج فقتل. ذكر خديعة للحجّاج ظنّ الناس بها أنّه آمنهم حتّى قتلهم كان الحجّاج أمر مناديا فنادى عند الهزيمة يوم الزاوية: - «ألا لا أمان لفلان ولا لفلان.» سمّى رجالا من الأشراف ولم يقل: الناس آمنون. فقال الناس:   [1] . حتّى تحزّز: كذا فى الأصل. وفى مط: ثمّ يحرز. وفى الطبري (8: 1122) : حتّى يخرّق. وفى تعاليقه: يحرز. وفى ابن الأثير (4: 489) : حتّى يجرح. [2] . فى الأصل ومط: فيروز بن حصين. كتب فى هامش الأصل: «فيروز ليس ابن الحصين. وإنّما هو من أولاد أكابر العجم، أسلم طوعا على يدي الحصين العنبري، فولاؤه له، وهو يسمى: فيروز حصين، يعرف به.» وفى الطبري (8: 1122) وابن الأثير 4: 489: «فيروز حصين» بدل «فيروز بن حصين» ، ولذلك حذفنا «بن» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 - «قد آمن الناس كلّهم إلّا هؤلاء النفر.» فأقبلوا إلى حجرته. فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثمّ قال: - «لآمرنّ بكم اليوم رجلا ليس بينه وبينكم قرابة.» فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمىّ، ففرّقهم وقتلهم. فروى النضر بن شميل عن هشام بن حسّان أنّه قال يوما: قتل [444] الحجّاج صبرا مائة ألف وعشرين ألفا، أو مائة ألف وثلاثين ألفا، منهم يوم الزاوية أحد عشر ألفا، ما استبقى منهم إلّا رجلا واحدا كان ابنه فى الكتّاب [1] مع ابن الحجّاج، فدعا الصبىّ وقال: - «أهبه لك» ، قال: - «نعم.» فخلّى سبيله. ذكر هلاك عبد الرحمان بن الأشعث ورأى لبعض أصحابه صحيح كان مع عبد الرحمان بن الأشعث لمّا انصرف من هراة راجعا إلى رتبيل، رجل من أود يقال له: علقمة بن عمرو. فقال له: - «إنّى ما أريد أن أدخل معك.» قال له عبد الرحمان: - «ولم؟» قال: - «لأنّى أتخوف عليك وعلى من معك.» قال: - «وكيف؟» قال: - «والله لكأنّى بكتاب من الحجّاج قد جاء فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا   [1] . الكتّاب: سقطت من مط، وهي موجودة فى الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 هو قد بعث بك سلما [1] أو قتلك ومن معك. ولكن هاهنا خمسمائة رجل قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصّن [2] فيها ونقاتل حتّى نعطى أمانا، أو نموت كراما.» فقال عبد الرحمان: - «كلّا، فادخل معى، فإنّى أواسيك وأكرمك.» فأبى عليه. ودخل عبد الرحمان إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة. فبعثوا عليهم مودودا [3] البصرىّ. فأقاموا [445] حتّى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمىّ، فحاصرهم، فقاتلوه، وامتنعوا منه حتّى آمنهم. فخرجوا إليه، فوفى لهم. وتتابعت كتب الحجّاج إلى رتبيل فى عبد الرحمان أن: - «ابعث به إلىّ، فو الله لأوطينّ أرضك ألف ألف مقاتل.» وكان عمارة قد انتهى إلى سجستان فى ثلاثين ألفا، وكان عند رتبيل رجل من تميم من بنى يربوع يقال له: عبيد بن أبى سبيع، وكان مع ابن الأشعث، فخصّ برتبيل، وكان قديما رسول ابن الأشعث فخفّ عليه. فلمّا رأى رتبيل لا يسلم ابن الأشعث خلا به وخوّفه الحجّاج، وقال: - «أنا آخذ لك من الحجّاج عقدا ليكفّنّ الحجّاج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه ابن الأشعث.» فقال رتبيل: - «فإنّى أفعل.» فكاتب الحجّاج وأعلمه أنّ رتبيل لا يعصيه وأنّه يتوصّل له إلى أخذ ابن الأشعث، وأخذ من الحجّاج مالا، وخرج إلى عمارة بن تميم، فاستجعل منه ألف   [1] . ضبط الأصل: سلما (بكسر السين) وأما عند ابن الأثير (4: 501) سلما (بالفتح) . [2] . فنتحصّن فيها: كذا فى الأصل والطبري (8: 1133) وهو الصحيح. وما فى مط: فشخص فيها. [3] . مودودا البصرىّ: كذا فى الأصل ومط وابن الأثير (4: 501) وما فى الطبري (8: 1133) : مودودا النضري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 ألف [000، 000، 1] درهم، وأخذ من رتبيل [1] أيضا مالا، واشترط لرتبيل ألّا يغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدّى بعد العشر سنين فى كلّ سنة تسعمائة [446] ألف درهم. فأعطى هو وابن أبى سبيع، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث، فأحضره وثلاثين من أهل بيته وقد أعدّ لهم الجوامع والقيود، فألقى فى عنقه جامعة، وفى عنق أخيه القاسم بن محمد بن الأشعث جامعة، وأرسل بهم إلى أدنى مسلحة عمارة منه. وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث: - «تفرّقوا إلى حيث شئتم.» ولمّا قرب ابن الأشعث من عمارة، ألقى نفسه من فوق قصر، فمات واحتزّ رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة فضرب أعناقهم، وأرسل برأس الأشعث وبرؤوس أهله إلى الحجّاج، فأرسل به الحجّاج إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز وهو يومئذ على مصر. فحكى ابن عائشة: انّه لمّا أتى عبد الملك برأس ابن الأشعث، أرسل به مع خصىّ له إلى امرأة من بنات عمر بن الأشعث كانت تحت رجل من قريش. فلمّا وضع بين يديها نهضت إليه وقالت: - «مرحبا برأس [2] لا يتكلّم، ملك ابن ملوك [3] ، طلب ما هو أهله، فأبت المقادير.» فذهب الخصىّ ليأخذ الرأس واجتذبته من يده وقالت: - «لا والله حتّى أبلغ حاجتي منه.» ثمّ دعت بخطمىّ [447] فغسلته وغلّفته، ثمّ قالت:   [1] . رتبيل: كذا فى الأصل والطبري وابن الأثير فى جميع المواطن. وما فى مط: «زنبيل» فى المواطن كلها. وهو تصحيف. [2] . برأس لا يتكلّم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (1168) : بزائر لا يتكلّم. [3] . فى الأصل ومط: ملك ابن ملوك. فى الطبري: ملك من الملوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 - «شأنك به الآن.» فأخذه. ثمّ أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها قال له: - «إن استطعت أن تصيب منها سحلة [1] .» ذكر سبب عزل يزيد بن المهلّب عن خراسان كان الحجّاج يهاب ناحية يزيد بن المهلّب بعد فراغه من عبد الرحمان بن محمد ويعرف منزلته من عبد الملك فيخشاه على موضعه وقد كان أذلّ أهل العراق كلّهم، إلّا آل المهلّب، فأكثر على عبد الملك فى شأن يزيد بن المهلّب، وخوّفه غدره وعيّره، فإنّه وأهل بيته زبيريّون. فكتب إليه عبد الملك: - «قد أكثرت فى معنى يزيد، وإنّ الذي دعا آل المهلّب إلى الوفاء لابن الزبير هو الذي يدعوهم إلى الوفاء لى.» وبلغ يزيد بن المهلّب ما يريد الحجّاج. فكان يكثر الغزوات ويعتلّ على الحجّاج إذا استقدمه أنّه بإزاء عدوّ وحروب. إلى أن أذن عبد الملك فى عزل يزيد وتقليد قتيبة بن مسلم خراسان. فكتب الحجّاج إلى يزيد بن المهلّب أن: - «استخلف أخاك المفضّل.» وكتب إلى المفضّل بولاية خراسان. فجعل المفضّل [448] يستحثّ يزيد. فقال له يوما يزيد: - «يا أخى، إنّ الحجّاج لا يقرّك بعدي، وإنما دعاه [إلى] [2] ما صنع مخافة أن   [1] . سحلة: كذا فى الأصل ومط. السحل: الثوب الأبيض الرقيق. أو: ثوب لا يبرم غزله. وفى الطبري: سخلة (بالخاء المعجمة) . والسخلة: الذكر والأنثى من ولد الضّأن والمعز ساعة يولد. [2] . إلى: سقطت من الأصل ومط. فأخذناها عن الطبري (8: 1141) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 أمتنع عليه.» قال: - «بل حسدتني.» قال يزيد: - «أنا أحسدك يا بن بهلة [1] ؟ ستعلم.» وقد كان يزيد قال لنصحائه: - «من ترون الحجّاج يولّى خراسان؟» قالوا: - «رجلا من ثقيف.» قال: - «كلّا، ولكنّه يكتب إلى رجل منكم بعهده. فإذا قدمت عليه عزله، فولّى رجلا من قيس، وأخلق بقتيبة.» قال: فلمّا قال له أخوه ما قال وولّاه الحجّاج بعد يزيد تيقّن يزيد ما كان يظنّه قبل ذلك. فاستشار الحصين [2] بن المنذر، فقال له: - «أقم واعتلّ، فإنّ أمير المؤمنين حسن الرأى فيك، وإنّما أتيت من قبل الحجّاج، فإن أقمت رجوت أن يكتب إليه بإقرارك.» قال يزيد: - «إنّا أهل بيت بورك لنا [3] فى الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف.» فقال الحصين بن المنذر: أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكى عليك صبابة ... وما أنا بالدّاعى لترجع سالما   [1] . بهلة: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري بصورتين: بهلة (فى النثر) وبهلّة (فى النظم) وفى بعض الأصول: بهلّة. [2] . الحصين (بالصاد المهملة) كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري وابن الأثير: الحضين (بالضاد المعجمة) . [3] . بورك لنا: العبارة سقطت من مط. وتجدها عند الطبري (8: 1141) أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 فلمّا قدم قتيبة خراسان، قال لحصين: - «كيف قلت ليزيد؟» قال: قلت له: [449] أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فنفسك ولّ اللّوم إن كنت لائما فإن يبلغ الحجّاج أن قد عصيته ... فإنّك تلقى أمره متفاقما قال: - «فماذا أمرته فعصاك؟» قال: - «أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير.» فقال رجل لعباط [1] بن الحصين: - «أمّا أبوك فوجده قتيبة حين فرّه [2] قارحا بقوله: أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير.» فكان عزل يزيد عن خراسان وخروج قتيبة إليها فى سنة خمس وثمانين، وذلك أنّه لمّا حصل يزيد عند الحجّاج عزل المفضّل وولّى قتيبة. وفى هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بالتّرمذ ذكر السبب فى ذلك كنّا ذكرنا ما كان من عبد الله بن خازم من قبل مع بنى تميم. فتفرّق عنه عظم من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بنى تميم على ثقله بمرو، فقال   [1] . لعباط: ما فى الأصل بدون نقط ونقطة الباء من مط. وفى الطبري (8: 1142) : عياض، بدل: عباط. [2] . فرّه قارحا: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: فره وارجا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 لابنه موسى: - «حوّل ثقلي من مرو، واقطع نهر بلخ حتّى تلجأ إلى حصن تثق به فتقيم فيه.» فشخص موسى فى مائتين وعشرين فارسا من الصعاليك، فصار فى أربعمائة [450] وانضمّ إليه رجال من بنى سليم، فقطع النهر وأتى بخارى [1] فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى وخافه وقال: - «رجل فاتك وأصحابه مثله طالبو [2] حرب وشرّ، ولا آمنهم.» فبعث إليهم بصلة من عين ودوابّ وكسوة، فنزل على عظيم من عظماء بخارى فى نوقان [3] ، فقال له الرجل: - «إنّه لا خير لك فى المقام وهم لا يأمنونك.» فخرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنا. فلم يأت بلدا إلّا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم حتّى أتى سمرقند وصاحبها طرخون. فأنزله وأكرمه. فجرى بينهما ما استوحش منه طرخون، فقال له: - «لولا أنّى أعطيتكم الأمان لقتلتكم، فاخرجوا عن بلدي.» ووصله وأخرجه. فخرج موسى وأتى كسّ. فكتب صاحب كسّ إلى طرخون يستنصره. فأتاه فخرج إليه موسى فى سبعمائة، فقاتلهم حتّى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثير. فلمّا أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رؤوسهم كما تصنع الخوارج، وقطعوا   [1] . بخارى: فى الأصل: بخارا. خلافا للمواطن الأخرى فى الأصل. فوحّدنا الضبط وكتبناها بالياء كما هو فى كلّ المواطن فى هذا النصّ. [2] . طالبو حرب: كذا فى مط وهو أصحّ. وفى الأصل: طالبي حرب (بتقدير «يكونون» ؟) وما فى الطبري (1146) : أصحاب حرب. [3] . نوقان: لا نقطة على النون الأولى فى الأصل ومط. وهي من الطبري (8: 1146) . وفى حواشيه عن بعض الأصول: بوقان، موقان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 صفنات [1] أقبيتهم كما تصنع العجم إذا استماتوا، ودسّ إلى طرخون زرعة بن علقمة، فقال: - «إنّ القوم مستقبلون، فما حاجتك إلى أن تقتل من لا تصل إليه حتّى يقتل من أصحابك عدّتهم، ولو قتلته وإيّاهم جميعا [451] ما نلت حظّا، لأنّ له قدرا فى العرب، فلا يلي أحد خراسان إلّا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لا تسلم من آخر.» قال: - «ليس إلى ترك كسّ عليه سبيل.» قال: - «فكفّ عنه حتّى يرتحل.» فكفّ عنه. وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر. فنزل موسى على بعض الدهاقين خارجا من الحصن، والدهقان مجانب لترمذ شاه. فقال لموسى: - «إنّ صاحب الترمذ متكرّم شديد الحياء، فإن ألطفته وهاديته أدخلك حصنه.» فأهدى له وألطفه موسى حتّى لطف الذي بينهما. وخرج فتصيّد معه وكثر ألطاف موسى له. فصنع يوما صاحب الترمذ طعاما، وأرسل إليه: - «إنّى أحبّ أن أكرمك، فتغدّ عندي، وائتني فى مائة من أصحابك.» فانتخب موسى مائة من أصحابه، فدخلوا على خيولهم، فقيل لهم: - «انزلوا.» فنزلوا، وأدخلوا بيتا خمسين فى خمسين، وغدّوهم. فلمّا فرغوا من الغداء   [1] . صفنات أقبيتهم: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 1147) : صفنات أخبيتهم. الصّفنة والصّفن: السّفرة تجمع بالخيط كالعيبة يكون فيها متاع الرجل وأداته. خريطة للراعي يكون فيها زاده وزناده وما يحتاج إليه كالسفرة من أدم لأهل البادية يجعلون فيها زادهم، وربما استقوا بها الماء كالدلو. والأخبية: جمع مفرده الخباء: ما يعمل من وبر أو صوف أو شعر للسّكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 اضطجع موسى. فقالوا له: - «اخرج.» قال: - «لا أصيب منزلا مثل هذا. فلست بخارج منه حتّى يكون بيتي أو قبرى.» وقاتلوهم فى المدينة. فقتل خلق من أهلها وهرب الآخرون. فدخلوا منازلهم وغلب موسى على المدينة [452] وقال لترمذشاه: - «اخرج، فإنّى لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك.» فخرج الملك وأهل المدينة، فأمّوا الترك يستنصرونهم. فقالوا: - «دخل عليكم مائة رجل فأخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكسّ، فعرفناهم، فنحن لا نقاتل هؤلاء.» وأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة. فلمّا قتل أبوه انضمّ إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوى، فكان يخرج ويغير على من حوله. فراسله الترك بقوم ليعلموا ما الذي يريد، ويتقرّر أمورهم على صلح، ويكفّوا [1] عن الغارة. فلمّا قدموا قال موسى لأصحابه: - «إنّ هؤلاء يسمّونكم جنّا [2] وأريد أن أكيدهم بمكيدة، وذلك فى أشدّ ما يكون من زمان الحرّ.» ذكر مكيدة ضعيفة تمّت على قوم أغتام ثمّ أمر موسى بنار، فأجّجت، وألبس أصحابه ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودا، ومدّوا أيديهم إلى النار كأنّهم يصطلون، وأذن موسى للترك، فدخلوا. فلمّا رأوهم على تلك الحال فزعوا وقالوا:   [1] . يتقرّر ... ويكفّوا..: عطف على مجرور اللّام فى «ليعلموا» بتقدير «أن» أى: ليتقرّر، وليكفّوا. [2] . جنّا: كذا فى الأصل. وما فى مط «حيا» وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 - «ما هذا، ولم صنعتم ما نرى؟» قالوا: - «إنّا نجد البرد فى هذا الوقت [453] ونجد الحرّ فى الشتاء.» فلمّا رجعوا أخبروا أصحابهم، فقالوا: - «هذا صنيع الجنّ، ولا خير فى قتال هؤلاء، والرأى مقاربتهم.» ولمّا ولى بكير بن وساج خراسان لم يعرض له ولم يوجّه إليه أحدا. ثمّ قدم أميّة، فسار بنفسه يريده. فخالفه بكير وخلع ورجع إلى مرو، كما حكينا فى ما تقدّم. فلمّا صالح أميّة بكيرا وحال الحول، وجّه إلى موسى رجلا من خزاعة فى جمع كثير. فعاد أهل الترمذ [1] إلى الترك، فاستنصرهم، وقالوا: - «نجتمع عليهم مع من غزاهم منهم فنظفر بهم.» فسارت الترك مع أهل الترمذ فى جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعىّ. فكان يقاتل الخزاعىّ أوّل النهار والترك آخره. فقاتلهم ثلاثة أشهر على ذلك. ثمّ قال موسى لعمرو بن خالد بن حصن الكلبي، وكان فارسا: - «قد طال أمرنا هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيّت عسكر الخزاعىّ، فإنّهم للبيات آمنون، فما ترى؟» قال: - «البيات نعمّا هو، فليكن ذلك بالعجم، فإنّ العرب أشدّ حذرا وأسرع فزعا وأجرأ [2] على الليل من العجم.» فعمل موسى على بيات الترك. فلمّا ذهب الليل ثلثه خرج فى أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد: - «اخرجوا بعدنا وكونوا قريبا، فإذا سمعتم التكبير [454] فكبّروا.» وأخذ على شاطئ النهر حتّى ارتفع فوق العسكر. ثمّ أخذ من ناحية كفنان [3] .   [1] . الترمذ (بالذال المعجمة) : كذا فى الأصل فى جميع المواطن، وما فى مط: الترمد (بالدال المهملة) . [2] . أجرأ: كذا فى الأصل. وما فى مط: اجراء. وهو خطأ. [3] . كفنان: كذا فى الأصل. فى مط: كنعان! وما فى الطبري (8: 1150) : كفتان، وفى حواشيه عن الأصول: كفنان، كفتان، كفيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 فلمّا قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعا. ثمّ قال: - «أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبّروا.» وأقبل وقدّم حمرا بين يديه ومشوا خلفه. فلمّا رءاهم أصحاب الأرصاد قالوا: - «من أنتم؟» قالوا: - «عابروا سبيل.» فقال لهم صاحب الرصد: - «جوزوا.» فلمّا جازوا الرصد تفرّقوا وأطافوا بالعسكر وكبّروا، فلم يشعر الترك إلّا بوقع السيوف. فثاروا، وأقبل بعضهم يقتل بعضا. ثمّ ولّوا وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا ومالا، وأصبح الخزاعىّ [1] وأصحابه وقد كسرهم ذلك وخافوا مثلها من البيات، فتحرّزوا. ذكر مكيدة لعمرو بن خالد فقال عمرو بن خالد لموسى: - «إنّك لا تظفر إلّا بمكيدة، وأرى لهم أمدادا فهم يكثرون. فتناولني بضرب فلعلّى أصيب من صاحبهم فرصة فأقتله ويتفرّق عنك هؤلاء الجمع.» فقال له: - «تتعجّل الضرب، ثمّ تتعرض للقتل.» قال: - «أمّا القتل فأنا متعرّض له فى كلّ يوم، وأمّا الضرب فما أيسره فى جنب ما أريد.» فتناوله بالضرب، ضربه [455] خمسين سوطا، فخرج من عسكره موسى،   [1] . الخزاعي: كذا فى الأصل وما فى مط: الحراحى. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 فأتى عسكر الخزاعىّ مستأمنا، وقال: - «أنا رجل من أهل اليمن، كنت مع عبد الله بن خازم. فلمّا قتل أتيت ابنه، فلم أزل معه. فلمّا قدمت اتّهمنى وتنكّر لى، ثمّ تغضّب علىّ وقال: أنت عين له، فضربني ولم آمن القتل وقلت: ليس بعد الضرب إلّا القتل، فهربت منه.» فآمنه الخزاعىّ، وأقام معه إلى أن دخل يوما وهو خال، ولم ير عنده سلاحا، فقال له كأنّه يتنصّح له: - «إنّ مثلك فى مثل حالك لا ينبغي أن يكون فى حال من أحواله بغير سلاح.» فقال: - «إنّ معى سلاحا.» ورفع صدر فراشه، وإذا سيف منتضى. فتناوله عمرو فضربه به حتّى قتله. وخرج فركب فرسه ونذر به الناس وقد أمعن. فطلبوه، ففاتهم ورجع إلى موسى، وتفرّق ذلك الجيش وأتى بعضهم موسى مستأمنا، فآمنه. ولم يوجّه إليه أميّة أحدا إلى أن قدم المهلّب، فلم يعرض له ووصّى بنيه، فقال: - «إيّاكم وموسى، فإنّكم لا تزالون ولاة هذا الثغر ما أقام هذا الرجل بمكانه، فإنّ قتل كان أوّل طالع عليكم أميرا على خراسان رجل من قيس.» فمات المهلّب، وولّى [456] يزيد فلم يعرض له. وكان المهلّب ضرب حريث بن قطبة الخزاعىّ، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى. فلمّا ولى يزيد بن المهلّب أخذ أموالهما وحرمهما، وقتل أخا لأمّهما يقال له الحارث بن منقذ. فبلغهما صنيع يزيد، وكان ثابت محبّبا فى العجم بعيد الصوت فيهم يعظّمونه ويثقون به، حتّى إنّهم كانوا يحلفون بحياته فلا يكذبون. فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صنع به، فغضب له طرخون، وجمع له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 نيزك [1] والسّيل [2] وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله وقد سقط إلى موسى فلّ عبد الرحمان بن عباس القرشي من هراة وفلّ ابن الأشعث من العراق وغيرهم. فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن. فقال له ثابت: - «سر حتّى تقطع النهر، فتخرج يزيد بن المهلّب من خراسان ونولّيك، فإنّ طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى معنا.» فهمّ أن يفعل، فقال له نصحاؤه: - «إنّ ثابتا وأخاه خائفان من يزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان تولّيا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم بمكانك.» فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت: - «إن أخرجنا يزيد قدم عامل عبد الملك [457] ولكنّا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر ما يلينا، ونحصّل لنا ما وراء النهر [3] فنأكلها.» ورضى ثابت، وأخرج عمّال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، فقوى أمرهم. وانصرف طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى إلى بلادهم وتدبير الأمر كلّه لثابت وحريث، والأمير موسى ليس له غير الإسم. فألحّ أصحاب موسى عليه فى الفتك بثابت وحريث، فأبى وقال: - «ما كنت لأغدر بهم.» فبيناهم على ذلك إذ أخرجت عليهم الهياطلة والتبّت والترك فى سبعين ألفا لا   [1] . نيزك: كذا فى الأصل والطبري (8: 1152) . وما فى مط: نيزل (بدون نقطتي الياء) . [2] . والسّيل: كذا فى الأصل. وما فى مط: السبيل. وفى الطبري: السبل. والسبيل: موضع فى بلاد الرباب قرب اليمامة (ياقوت) . [3] . وزاد فى مط: «وحملت إليهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 يعدّون الحاسر ولا صاحب بيضة جمّاء إلّا أن تكون البيضة ذات قونس [1] . فخرج موسى لقتالهم إلى ربض المدينة، ووقف ملك الترك على تلّ فى مائة ألف. فقال موسى لأصحابه: - «إن أزلتم هؤلاء، فليس الباقون بشيء.» فقصد لهم حريث، وألحّ عليهم حتّى أزالهم عن التلّ، ورمى حريث فى جبهته بنشّابة. ثمّ بيّتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتّى وصل إلى شمعة [2] ملكهم، فقتله وقتل العجم قتلا ذريعا، ونجا من نجا منهم بشرّ. ومات حريث بعد يومين، وحملوا الرؤوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك [458] الرؤوس جوسقين [3] . فقال أصحاب موسى: - «وقد كفيت أمر حريث، فأرحنا من أمر ثابت.» فأتى وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه، فدسّ غلاما كان فى خدمة موسى وأعطاه مالا وقال له: - «إيّاك أن تتكلّم بالعربيّة، وإن سألوك: من أنت؟ فقل: من سبى باميان [4] .» فكان الغلام ينقل إلى ثابت خبرهم إلى أن واقفوا [5] يوما موسى على الفتك بثابت. فقال موسى: - «قد أكثرتم، وفيه هلاككم، فعلى أىّ وجه تفتكون به وأنا لا أغدر به؟» فقال نوح بن عبد الله بن خازم:   [1] . القونس والقونوس: أعلى بيضة الحديد. أعلى الرأس. [2] . شمعة: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 1154) . وفى حواشي الطبري عن بعض الأصول: سمعة (بالسين المهملة) . [3] . جوسق: معرّب أصله الفارسي: كوشك:Kushk البناء العالي. القصر. [4] . باميان: كذا فى الأصل والطبري (8: 1155) وما فى مط: باسيان. [5] . واقفوا: كذا فى الأصل. وما فى مط: وافقوا. واقفه على كذا: سأله الوقوف والثبات عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 - «إذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك.» فقال: - «أما والله، إنّه لهلاككم.» فخرج الغلام، فأعلمه، فخرج من تحت ليلته، وأصبحوا وقد ذهب وفقد الغلام. فعلموا أنّه كان عينا له عليهم، وخرج إلى ثابت قوم، فقصد خشوان [1] . فقال موسى: - «قد فتحتم على أنفسكم بابا فسدّوه.» وسار إليه موسى، وراسل ثابت طرخون، فأقبل معينا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وصار ثابت فى ثمانين ألفا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة [459] حتّى جهدوا. فلما اشتدّ عليهم الحصار، قال يزيد بن هذيل: - «إنّما مقام هؤلاء مع ثابت، والله أفتكنّ بثابت، أو لأموتنّ، فالقتل أحسن من الموت جوعا.» فخرج إلى ثابت مستأمنا، فقال ظهير لثابت: - «أنا أعرف بهذا منك، والله ما أتاك رغبة فيك، ولا جزعا منك، ولقد جاءك بغدرة، فخلّنى وإيّاه.» فقال: - «ما كنت لأقدم على رجل أتانى لا أدرى أكذلك هو أم لا.» قال: - «فدعني أرتهن منه رهنا.» قال: - «أمّا هذا فنعم.» فقال ثابت ليزيد بن هذيل: - «أمّا أنا فواثق بك وابن عمّك أعلم بك منّى، فانظر ما يقول لك.» فقال يزيد لظهير:   [1] . خشوان: كذا فى الأصل. وما فى مط: خوان. والعبارة فى الطبري: ولحق ثابت إلى بخشورا فنزل المدينة وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم. فقال موسى لأصحابه: قد فتحتم على أنفسكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 - «أبيت يا با سعيد إلّا حسدا. ما يكفيك ما ترى من الذلّ، تشرّدت عن العراق عن أهلى، وصرت بخراسان على ما ترى، أما يعطفك الرحم؟» فقال له ظهير: - «أما والله، لو تركت ورأيى فيك لما كان هذا، ولكن أرهنّا [1] ابنيك قدامة والضحّاك.» فدفعهما، فكانا فى يدي ظهير. فأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلا يجدها حتّى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتاه نعيه من مرو. فخرج ثابت متفضّلا إلى زياد ليعزّيه ومعه ظهير وطائفة من أصحابه [460] وفيهم يزيد بن هذيل وقد تقدّم ظهير فى أصحابه، فدنا من ثابت وضربه، فعضّ السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ، ورمى يزيد بنفسه فى نهر الصغانيان، فنجا سباحة، وحمل ثابت إلى منزله. فلمّا أصبح طرخون أرسل إلى ظهير: - «ائتني بابني يزيد.» فأتاه بهما فقتلهما. وكان يزيد بن هذيل سخيّا شجاعا شاعرا، وعاش ثابت سبعة أيّام، ثمّ مات، وقام بأمر العجم طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت قياما ضعيفا وانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم. فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال: - «موسى يعجز أن يدخل متوضّأه، فكيف يبيّتنا، لقد طار قلبك، لا يحرسنّ الليلة أحد العسكر.» فلمّا ذهب من الليل ثلثه خرج موسى فى ثلاثمائة، وأخوه فى ثلاثمائة، ويزيد بن هذيل فى ثلاثمائة، ورقبة بن الحرّ فى ثلاثمائة، وقال لهم: - «تفرّقوا أرباعا حتّى تدخلوا عسكرهم من أربع نواحي، ولا يمرّ أحد منكم   [1] . أرهنّا: كذا فى الأصل والطبري (8: 1158) . وما فى مط: أرهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 بشيء إلّا ضربه.» فدخلوا عسكرهم من النواحي لا يمرّون بدابّة ولا رجل ولا خباء، ولا جوالق إلّا ضربوه، وهجم نوح بن عبد الله بن [461] خازم على سرادق طرخون. فبرز إليه فتجاولا، وطعن طرخون فرس نوح فى خاصرته فشبّ ودلّى بنوح حتّى سقط فى نهر الصغانيان، وراسل طرخون موسى: - «كفّ أصحابك، فإنّا نرتحل إذا أصبحنا.» فرجع موسى إلى عسكره، وارتحل طرخون وجميع من معه، فأتى كلّ قوم بلادهم. فكان أهل خراسان يقولون: - «ما رأينا قطّ مثل موسى بن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثمّ خرج يسير فى بلاد خراسان، حتّى أتى ملكا، فغلبه على مدينته، ثمّ سار إليه الجنود من العرب والعجم والترك.» فكان يقاتل العرب [1] فى أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام فى حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى لا يعازّه فيه أحد. فلمّا ولى المفضّل خراسان أخرج عثمان بن مسعود من الحبس، وقال: - «إنّى أريد أن أوجّهك إلى موسى بن عبد الله.» قال: - «والله، لقد وترني [2] ، وإنّى لثائر بابن عمّى ثابت وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستمونى، وشرّدتم بنى عمّى، واصطفيتم أموالهم.» فقال له المفضّل: - «دع عنك هذا، وسر، فأدرك بثأرك.»   [1] . العرب: كذا فى الأصل. وما فى مط: العراب. والعراب من الخيل والإبل: كرائم سالمة من الهجنة. [2] . لقد وترني: كذا فى الأصل والطبري (8: 1161) . وما فى مط: لقد ترى. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 فوجّهه [462] فى ثلاثة آلاف، وقال له: - «مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان.» فنادى بذلك فى السوق، فتسارع الناس، وكتب المفضّل إلى أخيه مدرك وهو ببلخ أن يسير معه. فنزل عثمان جزيرة بالترمذ يعرف اليوم بجزيرة عثمان، فى خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّيل وطرخون، فقدموا عليه، وحصروا موسى، فضيّقوا عليه وعلى أصحابه، وخندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرّة، فقال يوما لأصحابه: - «حتّى متى؟ أخرجوا بنا، فاجعلوه يومكم، إمّا ظفرتم وإمّا قتلتم.» وقال لهم: - «اقصدوا للصّغد والترك.» وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم فى المدينة وقال له: - «إن قتلت فلا تسلمنّ المدينة إلى عثمان، بل ادفعها إلى مدرك بن المهلّب.» وخرج، وصيّر بإزاء عثمان قوما من أصحابه وقال: - «لا تهايجوه حتّى يقاتلكم.» وقصد لطرخون، فصدقه، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم، فجعلوا ينقلونه، وكرّت الصغد [1] والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصين، فقاتلهم، فعقر به، فسقط، فنادى مولى له: - «احملنى ويحك.» فقال: - «الموت كريه، ولكن ارتدف [463] فإن نجونا نجونا معا، وإن هلكنا هلكنا معا.»   [1] . الصغد: فى الأصل: السغد (بالسين بدل الصاد) فبدّلنا السين بالصاد توحيدا للضبط. وفى مط: السند. وما فى الطبري يوافق ما أثبتناه (8: 1162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 فارتدف ونظر إليه عثمان حين وثب، فقال: - «وثبة موسى وربّ الكعبة.» فخرج من الخندق، وحمل وكشف أصحاب موسى، وقصد لموسى، فعثرت دابّة موسى، فسقط هو ومولاه، فابتدروه فقتلوه وبقيت المدينة فى يد النضر، فدفعها إلى مدرك وآمنه، وكتب المفضّل بالفتح إلى الحجّاج، وذلك فى سنة خمس وثمانين. ثمّ دخلت سنة ستّ وثمانين وفيها مات عبد الملك بن مروان. فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر. أسماء وزراء عبد الملك بن مروان وما نقل إلينا من آرائهم وتدابيرهم التي يليق ذكرها بهذا الكتاب [1] قبيصة بن ذؤيب كان يكتب لعبد الملك قبيصة بن ذؤيب الخزاعىّ، ويكنّى أبا إسحق، وكان خاصّا به، وكان يتولّى ديوان الخاتم. وبلغ من لطافة محلّه منه أنّ الكتب الواردة على عبد الملك كان يقرأها قبيصة قبل أن تصل إلى عبد الملك، ثمّ يدخل بها إليه مفضوضة الختم فيقرأها. وكان مروان عهد إلى أخيه عبد العزيز [464] بعد عبد الملك، فهمّ عبد الملك، لمّا تمكّن واستقام أمره، بخلعه والعقد لابنيه الوليد وسليمان، فنهاه قبيصة بن ذؤيب كاتبه، وقال:   [1] . لم نجد فى الطبري أسماء الوزراء والكتّاب الآتية أسماؤهم، والروايات هذه أخذها مسكويه من مصدر آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 - «انتظر، فلعلّ الموت يأتى عليه فيكفيكه.» وكان قلّده مصر، فورد الكتاب بوفاته سنة خمس وثمانين، فقرأه قبيصة على عادته، ثمّ دخل على عبد الملك فعزّاه بأخيه، وعقد لابنيه الوليد وسليمان العهد بعده، وكتب إلى البلدان بذلك فبايعوه. أبو الزعيزعة وكان يكتب له أبو الزعيزعة مولاه. فيحكى أنّه حضر زفر بن الحارث يوما عند عبد الملك وبحضرته أبو الزعيزعة بعد أن اجتمع إليه، فقال لزفر بن الحارث: - «كيف ترى ما ساقه الله إلينا؟» فقال زفر: - «الحمد لله الذي نصرك على كره من كره.» فقال أبو الزعيزعة: - «ما كره ذلك إلّا كافر.» فقال له زفر: - «كذبت! قال الله عزّ وجلّ لنبيّه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ من بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً من الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ 8: 5 [1] ، أمؤمنين سمّاهم أم كفّارا؟» فغضب عبد الملك، فقال زفر: - «يا أمير المؤمنين، أرأيت لو قلت: الحمد لله الذي نصرك، فقد كنت مسرورا بذلك، أما كنت تمقتني [465] ويمقتني الله وأنا أقاتلك تسع سنين؟» فقال له: - «صدقت.»   [1] . س 8، الأنفال: 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 روح بن زنباع وكان يكتب له روح بن زنباع. وروح هذا هو الذي همّ به معاوية، فقال له: - «يا أمير المؤمنين، لا تشمتنّ بى عدوّا أنت وقمته [1] ، ولا تسوءنّ فىّ صديقا أنت سررته، ولا تهدمنّ ركنا أنت بنيته. هلّا أتى حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتى!» فأمسك عنه. ربيعة الغار الحرشى ّ وكان يكتب له ربيعة الغار الحرشي. وكان استشاره عبد الملك فى تقليد الوليد ابنه العهد، فقال: - «أمهلنى سنة.» فأمهله. فلمّا انقضت عاوده وقال: - «إنّى عزمت أن أوليّه شيئا من النواحي، فإذا مضت له مدّة قلّدته العهد.» فقال: - «يا أمير المؤمنين، إنّك بعثت الوليد يقسم الأموال بين الناس ما رضوا عنه، فكيف تبعثه جابيا؟ إن احتاط ذمّ، وإن رفق عجز، وأنت تريد أن تجبيه، فولّه المعاون والصوائف [2] ، فيكون ذلك شرفا وذكرا.» صالح بن عبد الرحمان وهو الذي نقل الدواوين من الفارسيّة إلى العربيّة وكتب له صالح بن عبد الرحمان مولى بنى مرة بن عبيد بن تميم من سبى   [1] . وقم الدابّة: جذب عنانها لتقف. وقم الرجل: قهره وردّه عن حاجته أقبح الردّ. [2] . المعاون والصوائف: المعاون جمع مفرده المعونة: العون. الصوائف جمع مفرده الصائفة: الغزوة فى الصيف. صائفة القوم: ميرتهم فى الصيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 سجستان، ويكنّى صالح أبا الوليد، وهو الذي نقل الدواوين من الفارسيّة إلى العربيّة. وكان ذلك أنّ الدواوين [466] كانت تجرى فيها وجوه الأموال بالفارسيّة. وكان بالبصرة والكوفة ديوان بالعربيّة لإحصاء الناس وأرزاقهم وأعطياتهم، وهو الذي كان عمر رسمه. وكان بالشام أيضا ديوانان: أحدهما بالروميّة، والآخر بالعربيّة، فجرى الأمر عليه إلى أيّام عبد الملك، وكان إذ ذاك يتقلّد ديوان الفارسيّة زادان فرّوخ، فخلفه عليه صالح بن عبد الرحمان، فخفّ [1] على قلب الحجّاج وحضّ به. فقال لزادان فرّوخ: - «إنّى قد خففت على قلب الحجّاج، ولست آمن أن أزيلك عن محلّك [2] لتقديمه إيّاى [3] ، وأنت ربيبى.» فقال له زادانفرّوخ: - لا تفعل، فإنّه إلىّ أحوج منّى إليه.» فقال له: - «وكيف ذلك؟» قال: - «لا يجد من يكفيه الحساب.» فقال له صالح: - «لو شئت حوّلته إلى العربيّة.» فقال له: - «فحوّل منه سطرا.» فحوّل منه شيئا كثيرا. فقال زادانفرّوخ لأصحابه: - «التمسوا كسبا غير هذا.»   [1] . خف. فى الأصل ومط: حفّ (بالحاء المهملة) فأعجماها بقرينة تكرار الكلمة بشكل «خففت» أدناه. خفّ على الأمير: قبله وأنس به. [2] . محلّك: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وفى مط: محلّه. [3] . سقط من مط قوله: «إيّاى» إلى قوله «لا يجد من» ، أى أكثر من عشرين كلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 فلمّا بلغ الحجّاج ذلك أمر صالحا بنقل الدواوين، فنقلها إلى العربيّة فى سنة ثمان وسبعين. وكان عامّة كتّاب العراق تلامذة صالح. ولمّا هم صالح بنقل [467] الدواوين، قال له بعض كتّاب الفرس: - «كيف تصنع بواذ [1] .» قال: - «أكتب: أيضا.» فقال: - «كيف تصنع بدهيازده [2] ؟» قال: - «أكتب عشرا.» فقال: - «كيف تصنع بدهبوذه [3] ، وبنجبوذه [4] ؟» قال: - «أكتب عشيرا [5] ونصف عشير.» قال له: - «قطع الله أصلك من الدنيا، كما قطعت الفارسيّة.» وقال الحجّاج يوما لصالح، وكان متّهما برأى الخوارج: - «إنّى فكّرت فيك فوجدت مالك ودمك حلالين لى وأنّنى غير آثم إن تناولتهما.» فقال صالح: - «إنّ أغلظ ما فى الأمر- أعزّ الله الأمير- أنّ هذا القول بعد الفكر.» فضحك منه ولم يقل له شيئا.   [1] . واذ: كذا فى الأصل وما فى مط: واد (بالدال المهملة) . ولعله مصحّف من: «واز» وهو لغة فى «باز» ومن معاني «باز» فى الفارسية: الإعادة والتكرار و «أيضا» . [2] . دهيازده: كذا فى الأصل. وفى مط: دهيارده (بالراء المهملة) . [3] . دهبوذه: الحرفان الثالث والخامس مهملان فى الأصل أعجمناهما كما فى مط. [4] . بنجبوذه: كذا فى مط. وما فى الأصل: بنجيوذه (بالياء) . [5] . العشير: العشر، أو عشر العشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 عبيد بن المخارق ومن كتّاب الحجّاج عبيد بن المخارق، قلّده الحجّاج الفوجتين، فوردها وقال: - «هل هاهنا دهقان يعاش برأيه؟» فقيل له: - «هذا جميل بن بصبهرى.» فأحضره وشاوره، فقال له جميل: - «خبّرنى أقدمت لرضى ربّك، أم رضى نفسك، أم رضى من قلّدك؟» فقال: - «ما استشرتك إلّا برضى الجميع.» قال: - «فاحفظ عنّى خلالا: لا يختلف حكمك على الرعيّة، ليكن حكمك على الشريف والوضيع [1] سواء، ولا تتّخذنّ حاجبا ليردّ عنك الوارد [468] من أهل عملك، وليكن على ثقة من الوصول إليك، وأطل الجلوس لأهل عملك يتهيّبك عمّالك، ولا تقبل هديّة، فإنّ صاحبها لا يرضى بثلاثين ضعفا [2] لها، فإذا فعلت ذلك فاسلخ جلودهم من فروعهم إلى أقدامهم.» قال: فعملت بوصيّته، فجبيتها خمسة عشر ألف ألف [000، 000، 15] درهم. يزيد بن أبى مسلم وكان يزيد بن أبى مسلم- واسم أبى مسلم دينار من موالي ثقيف- كاتبا للحجّاج، وكان أخاه من الرضاعة. فتقلّد له ديوان الرسائل، وكنيته أبو العلاء. وكان الحجّاج يجرى له فى كلّ شهر ثلاثمائة درهم، فكان يعطى امرأته خمسين درهما، وينفق فى ثمن اللّحم وما يتّصل به خمسة وأربعين درهما، وينفق باقيها فى ثمن الدقيق وسائر عوارض نفقته، وإن فضل منها شيء ابتاع به ماء وسقاه   [1] . الوضيع: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: الرضيع! [2] . ضعفا لها: فى الأصل ومط: ضعفها لها. وهو سهو نشأ من الخلط بين «ضعفا» و «لها» عند النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 المساكين، وربما ابتاع قطفا وفرّقها فيهم وهو مع ذلك يقتل الخلق للحجّاج. وحكى أنّ الحجّاج عاده من علّة اعتلّها، فوجد بين يديه كانونا من طين ومنارة خشب، فقال: - «يا أبا العلاء، ما أرى [1] أرزاقك تكفيك.» فقال: - «إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني، فثلاثون ألفا لا تكفيني.» ويزيد بن أبى مسلم [469] هو الذي نبّه الحسن البصري على الاستتار حتّى سلم من الحجّاج، وذلك أنّه لقيه خارجا من عنده فقال له: - «توار يا با سعيد، فإنّى لست آمن أن تتبعك [2] نفسه.» فتوارى عنه، وسلم منه. وقيل: إنّه استتر تسع سنين. عبد الملك وكاتب له قبل هديّة وبلغ عبد الملك أنّ بعض كتّابه قبل هديّة، فقال له: - «أقبلت هديّة منذ ولّيتك؟» فقال: - «أمورك، يا أمير المؤمنين، مستقيمة، والأموال دارّة، والعمّال محمودون، وخراجك موفّر.» فقال: - «أخبرنى عمّا سألتك.» قال: - «نعم، قد قبلت.» قال: - «فو الله لئن كنت قبلت هديّة لا تنوي مكافأة للمهدي لها، إنّك لدنىّ ولئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفى رجلا لم تكن لتستكفيه لولاها، إنّك لخائن، ولئن كنت نويت تعويض المهدى عن هديّته ولا تخون له أمانة ولا تثلم له [3] دينا، فلقد   [1] . وفى مط: لا أرزاقك، بدل: ما أرى أرزاقك. وهو خطأ. [2] . تتبعك: مهملة فى الأصل، وما أثبتناه يوافق مط. [3] . له: سقطت من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 قبلت ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك ساير مجاوريك، وسلبك هيبة السلطان، وما فى من أتى أمرا لم يخل فيه، من لؤم أو دناءة أو خيانة أو جهل مصنع [1] .» وخلعه عن عمله. [470]   [1] . مصنع: كذا فى الأصل. مع شيء من الغموض. وما فى مط: مضيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 خلافة الوليد بن عبد الملك وبويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة. فخطب الناس لمّا انصرف من دفن أبيه، وقال فى آخر خطبته: - «أيّها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد. أيّها الناس، من أبدى ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه.» ثمّ نزل وحاز أدوات الخلافة وأثاثها، وكان جبّارا عنيدا. ورود قتيبة إلى خراسان وفى هذه السنة وهي سنة ستّ وثمانين، ورد قتيبة بن مسلم إلى خراسان فقدمها والمفضّل يعرض الجند وهو يريد أن يغزو الموضع الذي يقال له: أخرون وشومان. فخطب الناس قتيبة، وحثّهم على الجهاد، وسار، فلمّا كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وعظماؤهم، فساروا معه. فلمّا قطع النهر تلقّاه تيش [1] الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب. فدعاه إلى بلاده. فمضى مع تيش إلى الصغانيان، فسلّم إليه بلاده. وسار قتيبة إلى أخرون [2] وشومان وهما من   [1] . تيش الأعور: كذا فى الأصل. وما فى مط: تبش الأعور، وأما فى الطبري (8: 1180) بيش الأعور. وفى حواشيه عن الأصول: تيش. [2] . أخرون وشومان: كذا فى الأصل ومط. والطبري. وما فى ابن الأثير: آخرون وشومان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 طخارستان [471] فجاءه صاحبها، فصالحه على فدية أدّاها، فقبلها قتيبة ورضى، وانصرف إلى مرو، واستخلف أخاه صالحا، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسان انبجغر [1] ، وكان معه نصر بن سيّار، فأبلى يومئذ، فوهب له قرية تدعى تنجابه [2] . ثمّ قدم صالح على قتيبة بعد ذلك فاستعمله على الترمذ، وغزا قتيبة بعد ذلك بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى، فلمّا نزل بعقوتهم استنصروا السغد، واستمدّوا من حولهم، فأتوهم فى جمع كثير، وأخذوا بالطرق، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر نحو شهرين، وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق على الجند، وأمر الناس بالدعاء لهم فى المساجد وهم يقتتلون فى كلّ يوم. وكان لقتيبة عين يقال له تندر [3] من العجم، فأعطاه أهل بخارى مالا على أن يفتأ [4] عنهم قتيبة. ذكر حيلة لتندر ما نفذت له وقتل لأجلها أقبل تندر إلى قتيبة، فقال: - «أخلنى!» فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبّى، فقال تندر: - «هذا عامل يقدم عليك وقد عزل الحجّاج، فلو انصرفت بالناس [472] إلى مرو.» فدعا قتيبة مولاه سيا، فقال له:   [1] . باسان انبجغر: كذا فى الأصل (بإهمال الحرف الذي يلي النون الثانية) . وفى مط: باسان اتجعر. وما فى ابن الأثير (4: 524) : كاشان وأورشت (أورشيت) . [2] . تنجابه مهملة فى الأصل إلّا فى الباء. وفى مط: سحابه! وما فى الطبري: (تنجانة (بتخانه؟) وفى حواشيه: بتخايه (بإهمال الحرف الأول) . [3] . تندر: فى الأصل: تندر بفتح الأول والصحيح كما ضبطناه، لأنه اسم فارسي بمعنى الرعد وضبطه فى القواميس الفارسية.LTondar:وما فى الطبري (8: 1186) : تندر، ومصحفات فى الحواشي. [4] . يفتأ: من قولهم: فتأه عن الأمر، أى: سكّنه عنه، كفّه عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 - «اضرب عنق تندر!» فقتله. ثمّ قال لضرار: - «لم يعلم هذا الخبر غيرى وغيرك، وإنّى أعطى الله عهدا، إن ظهر هذا الحديث من أحد حتّى تنقضي حربنا، لألحقنّك بتندر، فاملك لسانك، فإنّ انتشار هذا الحديث يفتّ فى أعضاد الناس.» ثمّ أذن للناس، فدخلوا، فراعهم قتل تندر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة: - «ما يردعكم من قتل عبد أحانه [1] الله.» قالوا: - «كنّا نظنّه ناصحا للمسلمين.» قال: - «بل كان غاشّا، قد مضى لسبيله بذنبه، فاغدوا على قتال عدوّكم والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به.» فغدا الناس متأهبين، فأخذوا مصافّهم، ومشى قتيبة فحضّ أهل الرايات. فكانت بين الناس مشاولة. ثمّ إنّهم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مآخذها، فقاتلوهم حتّى زالت الشمس، ثمّ منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزم المشركون يريدون المدينة، فاتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول، فتفرّقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل. فوضع قتيبة [473] الفعلة فى أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من قيس، وارتحل عنهم يريد الرجوع. فلمّا سار مرحلتين نقضوا، وكفروا، وقتلوا العامل وأصحابه وجدعوا آنفهم [2] وآذانهم، وبلغ ذلك قتيبة، رجع إليهم وقد تحصّنوا، فقاتلهم شهرا، ثمّ وضع الفعلة فى أصل المدينة، فعلّقوها بالخشب وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فينهدم. فسقط الحائط وهم يعلّقونه،   [1] . أحانه الله: أهلكه الله. الحين بمعنى الهلاك والمحنة. [2] . آنفهم: كذا فى الأصل. وفى مط: آنافهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 فقتل أربعين رجلا من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى، وقاتلهم، فظفر بها عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان فى من أخذوا فى المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش [1] الترك على المسلمين. فقال لقتيبة: - «أنا أفدى نفسي.» فقال له سليم الناصح: - «ما تبدل؟» قال: - «خمسة آلاف حريرة صينيّة قيمتها ألف ألف [000، 000، 1] .» قال قتيبة: - «ما ترون؟» قالوا: - «نرى أنّ فداءه زيادة فى غنائم المسلمين وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟» قال: - «لا والله، لا يروّع بك مسلم أبدا.» وأمر به فقتل. وأصاب فى بيكند من آنية الذهب والفضّة ما لا يحصى. فولّى الغنائم والقسم [474] عبد الله بن وألان، وكان قتيبة يسمّيه الأمين بن الأمين، وإياس بن بيهس، فأذابا الآنية والأصنام ورفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث [2] ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفا، فأعلماه فرجع فيه، فأمرهما أن يذيباه، فأذاباه، فخرج منه خمسون ألف مثقال. وأصابوا فى بيكند شيئا كثيرا، فصار فى أيدى المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان.   [1] . استجاش (بالجيم المعجمة) : كذا فى الأصل. وما فى مط: استحاش (بالحاء المهملة) وما فى الأصل هو الصحيح. [2] . الخبث: ما كان فى الذهب والحديد ونحو هما من الغشّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 ذكر اتّفاق عجيب مع إضاعة حزم وهو السبب الذي سمى به قتيبة عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين كان السبب الذي سمّى قتيبة له عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين أنّ مسلما الباهلىّ قال لو ألان: - «إنّ عندي مالا أحبّ أن أستودعكه.» فقال: - «أتريد أن يكون مكتوما أو لا؟» فكره أن يعلمه الناس. قال: - «لا، بل أحبّ أن تكتمه.» قال: - «ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا.» وأمره إذا رأى رجلا جالسا فى ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف. قال: - «نعم.» فجعل المسلم المال فى خرج وحمله على بغل [475] وقال لمولى له: - «انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا، فإذا رأيت رجلا جالسا، فخلّ عن البغل وانصرف.» فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده، فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظنّ أنّه قد بدا له، فانصرف، وجاء رجل من بنى تغلب، فجلس فى ذلك الموضع، وحضر الرسول مع البغل والمال، فرأى الرجل جالسا، فخلّى عن البغل ورجع. فقام التغلبىّ، فلما رأى البغل والمال ولم ير معه أحدا قاد البغل إلى منزله وقبض المال إليه. وكان ظنّ مسلم أنّ المال صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتّى احتاج إليه، فلقيه وقال: - «ما لي.» قال: - «ما قبضت شيئا ولا لك عندي مال.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فكان مسلم يشكوه ويتنقّصه. فأتى يوما مجلس بنى ضبيعة، فشكاه، والتغلبىّ جالس. فقام إليه وخلا به وسأله عن المال، فأخبره، فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج إليه، وقال: - «أتعرفه؟» قال: - «نعم،» قال: - «والخاتم؟» قال: - «نعم.» قال: - «فاقبض مالك.» وأخبره الخبر. فكان مسلم بعد ذلك يأتى القبائل وجميع من شكا وألان عندهم وخوّنه فيعذره ويخبرهم الخبر. [476] ذكر رأى للحجّاج أشار به وهو بواسط على قتيبة وهو بخراسان حتّى فتح بخارى وموقف لأصحاب قتيبة مستحسن غزا قتيبة وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين، فلم يظفر من البلد بشيء. فرجع إلى مرو، فكتب إليه الحجّاج: - «صوّرها لى والطرق إليها.» فبعث إليه بصورتها. فكتب إليه الحجّاج أن: - «ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله عزّ وجلّ ممّا كان منك وائتها من مكان كذا وكذا.» [1] فخرج قتيبة إلى بخارى وذلك فى سنة تسعين، من حيث أشار به الحجّاج،   [1] . وزاد فى الطبري (8: 1199، 1229) : «وقيل: كتب إليه الحجّاج أن: كس بكس، وانسف نسفا، ورد وردان، وإيّاك والتحويط، ودعني من بنيّات الطريق.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرهم. فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة، فحصرهم. فلمّا جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم يقاتلونهم، فقالت الأزد: - «اجعلونا على حدة وخلّوا بيننا وبين قتالهم.» فقال لهم قتيبة: - «شأنكم، تقدّموا.» فتقدّموا، فقاتلوهم وقتيبة جالس عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا، ثمّ جال المسلمون وركبهم المشركون، فحطّموهم حتّى دخلوا عسكر قتيبة وجازوه حتّى ضرب النساء وجوه الخيل [477] وبكين، وقاتلوهم حتّى ردّوهم. فوقف الترك على نشز [1] ، فقال قتيبة: - «من يزيلهم لنا عن هذا الموقف؟» فلم يقدم عليهم أحد والأحياء [2] كلّهم وقوف. فمشى قتيبة إلى بنى تميم فقال: - «يا بنى تميم، أنتم بمنزلة الحطمة [3] ، فيوما كأيّامكم، فداؤكم أبى.» فأخذ اللواء وكيع بيده وقال: - «يا بنى تميم، أتسلمونى اليوم؟» فقالوا: - «لا يا با المطرف.» وهريم بن طحفة المجاشعىّ على خيل بنى تميم ووكيع رأسهم. فأحجموا جميعا، فقال وكيع: - «يا هريم، قدّم!»   [1] . النشر: المكان المرتفع. وفى الطبري أيضا: نشز (بالزاء المعجمة) . [2] . الأحياء: أى أحياء العرب (أنظر الطبري 8: 1202) . [3] . الحطمة: كذا فى الأصل. وفى الطبري الحطميّة. وفى حواشيه: الحطمة والحطيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 ودفع إليه الراية، وقال: - «قدّم خيلك.» فتقدّم هريم ودبّ وكيع فى الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدوّ، فوقف وقال له وكيع: - «أقحم يا هريم.» فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصؤول [1] وقال: - «أنا أورد وأقحم خيلى هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها. والله إنّك لأحمق.» قال: - «يا بن اللخناء لا أراك تردّ أمرى.» وحدفه [2] بعمود كان معه. فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال: - «ما بعد هذا أشدّ من هذا.» وعبر هريم فى الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب فقنطر على النهر وقال لأصحابه: - «من وطّن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه.» فما عبر معه إلّا [478] ثمانمائة رجل، فدبّ حتّى إذا أعيوا [أقعدهم] [3] فأراحوا حتّى إذا دنوا من العدوّ جعل الخيل مجنّبتين، وقال لهريم: - «إنّى مطاعن القوم فاشغلهم عنّا بالخيل وقل للناس: شدّوا.» فحملوا، فو الله ما انثنوا حتّى خالطوهم، وحمل هريم [فى] خيله [4] عليهم،   [1] . الجمل الصؤول: الجمل الذي يهجم على الناس ويقتلهم. من قولهم: صؤل (يصؤل صآلة) البعير: أخذ يهجم على الناس ويقتلهم. [2] . حدفه (بالدال المهملة) : لغة فى حذفه: أى ضربه. الحذف بالعصا كالقذف بالحصى. وما فى الطبري (8: 1202) : حذفه (بالذال المعجمة) . [3] . ما فى الأصل غير واضح ويشبه أن يكون: «لم تقدهم؟» . وما أثبتناه مأخوذ من الطبري (8: 1202) . [4] . وحمل هريم خيله عليهم: كذا فى الأصل والطبري. وما فى ابن الأثير (4: 543) : وحمل هريم فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 فطاعنوهم بالرماح، فما كفّوا عنهم حتّى حدّروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة: - «من جاء برأس فله مائة.» فزعم موسى بن المتوكل القريعىّ، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بنى قريع كلّ رجل يجيء برأس، فيقال: - «ممّن أنت؟» فيقول: - «قريعىّ.» فجاء رجل من الأزد برأس، فقالوا له: - «من أنت؟» فقال: - «قريعىّ.» قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال: - «كذب والله، أصلح الله الأمير، والله لابن عمّى.» فقال له قتيبة: - «ويحك! ما الذي دعاك إلى هذا؟» قال: - «رأيت كلّ من جاء برأس قال: قريعىّ. فظننت أنّه ينبغي لكلّ من جاء برأس أن يقول ذلك.» فضحك قتيبة حتّى استغرب [1] . وفتح الله على يديه بخارى، وفضّ أولئك الجمع. فلمّا تمّ له ذلك هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد ومعه فارسان حتّى وقف قريبا من عسكر قتيبة [479] وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلّمه، فأمر قتيبة رجلا، فدنا منه فسأل الصلح على فدية يؤدّيها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب،   [ () ] الخيل. فزدنا «فى» بأمارة ما فى ابن الأثير. [1] . استغرب، واستغرب، وأغرب فى الضحك: بالغ فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وصالحه وأخذ منه رهنا حتّى بعث إليه بما صالحه عليه. وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك. ذكر غدر نيزك ونقضه عهد قتيبة، وظفر قتيبة به بعد ذلك وقتله إيّاه أمّا طرخون فقد ذكرنا أنّه هاب قتيبة فصالحه، وأمّا نيزك فإنّه هابه ونقض الصلح. وكان سبب غدره أنّه لمّا فصل من بخارى مع قتيبة رأى ما صنع طرخون فقال لأصحابه وخاصّته: - «إنّى قد هبت هذا العربىّ لما يتمّ على يده من الفتوح وأنا معه ولست آمنه، وذلك أنّ العربىّ بمنزلة الكلب إذا ضربته نبح، وإذا أرضيته بصبص [1] ، وإن أنا غزوته ثمّ أرضيته شيئا نسى ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلمّا أعطاه فدية قبلها، وهو مع ذلك شديد السطوة فلو استأذنته ورجعت، كان الرأى.» قالوا: - «فافعل.» فاستأذنه فى الرجوع إلى [480] طخارستان فأذن له، فقال لأصحابه: - «أحدّوا السير.» فساروا سيرا شديدا حتّى أتوا النوبهار [2] . فنزل يصلّى فيه ويتبرّك به، وقال لأصحابه: - «إنّى لا أشك أنّ قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لى، وسيقدم   [1] . بصبص الكلب: حرّك ذنبه. [2] . النوبهار: معبد بوذىّ كانت البرامكة يلون سدانته قبل إسلامهم ثمّ وزارتهم للعبّاسيين. ويقال: إنّه كان بيت نار فى بلخ، وكانت له مكانة عند المجوس مثل ما للكعبة عند المسلمين (فم) . أنظر أيضا الطبري (8: 1181، 1205) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي فأقيموا ربيئة [1] ينظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنّه لا يبلغ البروقان حتّى يبلغ طخارستان.» فبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتّى نبلغ شعب خلم [2] ، ففعلوا، وكان كما قال: وأقبل رسول قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلمّا مرّ الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان- ومدينة بلخ يومئذ خراب- ركب نيزك فى أصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة وهو بالبروقان فى طلبه، فوجده قد دخل فى شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى إصبهبد بلخ، وإلى باذان ملك مروروذ، وإلى سهرك ملك الطالقان، وإلى شهرك ملك الفارياب، وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه وواعدهم [481] الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله، وسأله أن يأذن له، إن اضطرّ إليه، أن يأتيه ويؤمنه فى بلاده. فأجابه إلى ذلك، وضمّ ثقله. وكان جبغويه [3] ملك طخارستان ونيزك من عبيده، إلّا أنّه كان ضعيفا واسمه الشذّ [4] ، فأخذه نيزك وقيّده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه ويمنعه. فلمّا استوثق منه أخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وكان محبّبا مصدّقا عند الناس، وبلغ قتيبة خلع نيزك فى قبل الشتاء، وقد تفرّق عنه الجند، فلم يبق معه إلّا أهل مرو، فبعث أخاه عبد الرحمان إلى بلخ فى اثنى عشر ألفا إلى البروقان وقال:   [1] . الربيئة: الطليعة الذي يرقب العدو من مكان عال لئلّا يدهم قومه. وما فى الطبري: ربئة. [2] . خلم: كذا ضبط فى الأصل (بفتح الخاء المعجمة) وضبط فى الطبري: خلم (بضم الخاء) . [3] . جبغويه: الحرف الثاني مهمل من النقط فى الأصل، فأعجمناه كما تكرر فى المواضع التالية. فى مط: جبغويه، وفى متن الطبري (8: 1221) : جيغويه. وفى حواشيه عن الأصول: جبعونة وجيغويه. [4] . الشذّ: كذا فى الأصل والطبري (8: 1206) : الشذّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 - «أقم ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو طخارستان واعلم أنّى قريب منك.» فسار عبد الرحمان، فنزل البروقان، وأمهل قتيبة، حتّى إذا كان فى آخر الشتاء كتب إلى أهل أبر شهر وأبيورد وسرخس، فقدموا عليه مع أهل هراة، فأوقع بالطالقان لأنّ ملكها [482] طابق نيزك على حرب قتيبة وواعده مع من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة. فسار قتيبة إلى الطالقان، فأوقع بأهلها وقتل منهم مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ فى نظام واحد، وبلغ مرزبان مرو الروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. فقدم قتيبة مرو الروذ، فوجد ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى ملك الفارياب، فتلقّاه ملكها بالطاعة، فرضي عنه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا، وخرج صاحب الجوزجان هاربا، فترك أرضه ولحق بالجبال. ثمّ مضى يتبع أخاه عبد الرحمان وكان خلّف نيزك على فم الشعب مقاتلة، وترك أيضا فى قلعة من وراء الشعب مقاتلة، فأقام قتيبة أيّاما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدم منهم على شيء ولا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقا يفضى إلى نيزك إلّا الشعب أو مفازة لا تحمل العساكر. فهو فى ذاك متحيّر إذ قدم عليه [الرؤب خان] [1] ملك الرؤب [2] ، فاستأمنه على أن يدلّه [483] على مدخل القلعة التي من وراء الشعب. فآمنه قتيبة وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون وفلّوهم وهرب من كان فى الشعب، ودخل قتيبة، والناس معه، الشعب، وسار إلى نيزك،   [1] . الرؤب خان: ما فى الأصل ومط: الرومجار. إلّا أنّ الحرف الأخير غير واضح فى الأصل. [2] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1219) . وما فى مط: الروم. وما أثبتناه فى الكلمتين، ترجيح لما فى الطبري. وفى حواشي الطبري: الزوب جار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وقدّم أخاه عبد الرحمان، وبلغ خبره نيزك [1] ، فارتحل من منزله وقطع وادي فرغانه، ووجّه بثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتّى نزل الكرّز وعبد الرحمان بن مسلم يتبعه، وأخذ عليه مضائق الكرّز، فتحرّز نيزك فى الكرّز وليس إليه مسلك إلّا من وجه واحد وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدوابّ. فحصره قتيبة شهرين حتّى قلّ ما فى يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدرىّ وجدّر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح فقال له: - «انطلق إلى نيزك، فاحتل أن يأتينى به بغير أمان، فإن أعياك وأبى فآمنه واعلم أنّى إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل [2] لنفسك.» قال: - «فإن كنت فاعلا فاكتب إلى عبد الرحمان لا يخالفني.» [484] وكان بينهما فرسخان. قال: - «نعم.» فكتب له. فلمّا قدم على عبد الرحمان، قال: - «ابعث رجالا، فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا، فليحولوا بيننا وبين الشعب.» قال: فبعث عبد الرحمان خيلا، فكانت حيث أمرهم سليم، وحمل معه من الأطعمة والأخبصة [3] التي تبقى أيّاما أوقارا حتّى أتى نيزك، فقال له نيزك: - «خذلتني يا سليم!» قال:   [1] . نيزك: كذا فى الأصل والطبري فى جميع المواطن. وما فى مط: بترك. [2] . فاعمل: كذا فى الأصل وهي ساقطة من مط. [3] . الأخبصة: كذا فى الأصل. وما فى مط: الأحبصة (بالحاء المهملة) . والخبيصة الحلواء المخبوصة وهي أخصّ من الخبيص الذي هو حلواء معمولة بالتمر والسمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 - «ما خذلتك، ولكن عصيتني وأسأت إلى نفسك، خلعت وغدرت.» قال: - «دعني من العتاب، ما لرأى؟» قال: - «الرأى أن تأتيه، فقد أمحكته [1] وليس ببارح [2] موضعه هذا وقد اعتزم على أن يشتو بمكانه، هلك أو سلم.» قال: - «يا سليم آتيه من غير أمان.» قال: - «ما أظنّه يؤمنك، فقد ملأت قلبه غضبا، ولكنّى أرى ألّا يعلم بك حتّى تضع يدك فى يده، فإنّى أرجو إن فعلت ذلك أن يستحى منك ويعفو عنك.» قال: - «أترى ذاك؟» قال: - «نعم.» قال: - «إنّ نفسي لتأبى هذا وهو إن رءانى قتلني.» قال سليم: - «ما أتيتك إلّا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت [485] أن تسلم وتعود حالك عنده إلى ما كانت. فأمّا إذا أبيت فأنا منصرف.» قال: - «فتغذّ الآن.» قال: - «لأظنّكم فى شغل عن تهيئة الطعام ومعنا طعام كثير.» ودعا سليم بالغداء، فجاؤوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغمّ ذلك نيزك وتبيّن ذاك فى وجهه. فقال له سليم: - «يا با الهيّاج، إنّى لك من الناصحين، إنّى أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق معى حتّى تأتى قتيبة.» قال: - «ما كنت لآتيه على غير أمان وإنّ ظنّى به أنّه قاتلي وإن آمنني، ولكنّ   [1] . أمحكه: ما حكمه: محكة: خاصمه ولاجّه وتمادى فى اللجاجة. أمحكه: أغضبه. [2] . ببارح: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: تبارح وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 [الأمان] [1] أعذر لى وأرجى أن يؤمنني.» قال: - «فقد آمنك، أفتتّهمني؟» قال: - «لا.» قال: - «فانطلق معى.» فقال له أصحابه: - «اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلّا حقا.» فدعا بدوابّه وخرج مع سليم فلمّا انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض، قال: - «يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإنّى أعلم متى أموت. أموت ساعة أعاين قتيبة.» قال: - «كلّا!» فركب ومضى معه جبغويه، وقد كان برأ من الجدرىّ. فلمّا خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلّفها [486] سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم: - «هذا أوّل الشرّ.» قال: - «لا تفعل، تخلّف [2] هؤلاء عنك خير لك.» وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتّى دخلوا على عبد الرحمان بن مسلم. فأرسل رسولا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن مهزوم إلى عبد الرحمان أن اقدم بهم. فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسّام الليثي وكتب إلى الحجّاج يستأذنه فى قتل نيزك. فجعل ابن بسّام نيزك فى قبّته وحفر حول القبّة خندقا، فوضع عليه حرسا، ووجّه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي،   [1] . ما بين [] أخذناه من الطبري (8: 1221) . وهو ساقط من الأصل ومط كليهما. [2] . تخلّف: كذا فى الأصل بالضبط. وضبطت الكلمة فى الطبري: تخلّف. ولكلا الضبطين وجه من الصحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 فاستخرج ما كان فى الكرّز من المتاع ومن كان فيه فقدم بهم على قتيبة فحبسهم ينتظر كتاب الحجّاج بعد أربعين يوما يأمره بقتل نيزك، فدعا به وقال له: - «هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمان أو عند سليم؟» قال: - «لى عند سليم.» قال: - «كذبت.» وقام ودخل وردّ نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيّام ولا يظهر للناس. وتكلّم الناس فى أمر نيزك، فقال بعضهم: - «لا يحلّ قتله.» وقال بعضهم: - «لا يحلّ له [487] تركه.» وخرج قتيبة فى اليوم الرابع، فجلس وأذن للناس، فقال: - «ما ترون فى قتل نيزك؟» فاختلفوا: فقال قائل: - «اقتله.» وقال قائل: - «قد أعطيته [1] عهدا، فلا تقتله.» وقال قائل: - «لا تأمنه على المسلمين.» فدخل ضرار بن الحصين الصبّى. فقال: - «ما تقول يا ضرار؟» قال: - «أقول: إنّى سمعتك تقول: أعطيت الله لئن مكّننى منه لأقتلنّه! فإن لم تفعل لم ينصرك عليه.» فأطرق قتيبة طويلا ثمّ قال:   [1] . قد أعطيته: كذا فى الأصل. ما فى مط: أعطيتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 - «والله، لئن لم يبق من أجلى إلّا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه،» وأرسل إلى نيزك، فأمر بقتله وقتل أصحابه. فقتلوا وهم سبعمائة. وفى رواية أخرى: إنّ قتيبة قال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة: - «هل بك قوّة؟» قال: - «نعم، وأزيد [1] .» وكانت فى بكر أعرابيّة، قال: - «دونك هؤلاء الدهاقين.» فقتل يومئذ اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابني أخيه فى أصل عين تدعى: وخش خاشان. ثمّ أذن قتيبة للسيل والشذّ، فانصرفا إلى بلادهما، وأطلق جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتّى مات الوليد. وكان الحجّاج يقول: - «بعثت قتيبة [488] فتى غرّا. فما زدته ذراعا إلّا زادني كراعا.» فتح شومان وكسّ ونسف ثم غزا قتيبة شومان وكسّ ونسف، ففتحها عنوة، وسرّح أخاه عبد الرحمان بن مسلم إلى السغد، فسار حتّى نزل بمرج قريب منهم، فراسله ملكها بشيء صالحه عليها، ودفع إليه رهنا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمان إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون: - «إنّك قد رضيت بالذلّ، وأعطيت الجزية وأنت شيخ!» فقال: - «إنّ عدوّنا قوىّ، وأرى مداراته أدوم لنا وأجمع لشملنا.» فقالوا:   [1] . أزيد: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1223) : أريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 - «لا حاجة لنا فيك.» قال: - «فولّوا من أحببتم.» فولّوا غورك [1] وحبسوا طرخون. فقال طرخون: - «ليس بعد سلب الملك والحبس إلّا القتل، فيكون ذلك بيدي أحبّ إلىّ من أن يليه منّى غيرى.» واتّكأ على سيفه حتّى خرج من ظهره. فتح خوارزم وغزا قتيبة خوارزم، فصالحه صاحبها، ومضى منها إلى السغد، وذلك فى سنة ثلاث وتسعين. وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان خرّزاذ أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند [489] أحد ممّن هو منقطع إلى الملك، جارية أو دابّة أو متاعا فاخرا، أرسل فأخذه، وإذا بلغه أنّ عند أحد منهم بنتا [2] أو أختا جميلة أرسل فغصبه إيّاها، فإذا شكا إلى الملك. قال: - «لا أقوى عليه.» وقد ملأه مع هذا غيظا. فكتب إلى قتيبة يدعوه [3] إلى أرضه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من كان يضادّه ليحكم فيه ما يرى. وبعث فى ذلك رسلا ولم يطلع أحدا من مرازبته على ما كتب به. فقدم رسله على قتيبة فى آخر الشتاء وقت الغزو وقد تهيّأ للغزو، فأظهر قتيبة أنّه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما أحبّ من قبل قتيبة، وجمع خوارزم شاه دهاقنته وأمناءه، فقال لهم:   [1] . غورك: كذا فى الأصل. وما فى مط: عورك (مهملة) . وفى الطبري (8: 1229) : بالضبط: غوزك. [2] . بنتا: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: بنيا! [3] . سقط من مط من قوله «يدعوه إلى أرضه» إلى قوله: «وبعث فى» . فأصبح النصّ فى مط: «فكتب إلى قتيبة ذلك رسلا» ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 - «إنّ قتيبة يريد السغد وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم فى ربيعنا.» فأقبلوا على الشرب والتنعّم وأمنوا عند أنفسهم الغزو، فلم يشعروا حتّى نزل قتيبة فى هزار دشت [1] ، فقال خوارزم شاه لأصحابه: - «ما ترون؟» فقالوا: - «نرى أن نقاتله.» قال: - «لكنّى لا أرى ذلك، لأنّه عجز عنه من هو أقوى منّا وأشدّ شوكة، ولكنّا نؤدّى إليه شيئا نصرفه به عامنا [490] ونرى رأينا.» قالوا: - «فرأينا رأيك.» فأقبل خوارزم شاه حتّى نزل فى مدينة الفيل من وراء النهر ومدائن خوارزم ثلاث يطيف بها فارقين واحد [2] ، فمدينة الفيل أحصنهنّ، وقتيبة فى هزار دشت بينهما نهر بلخ، فلم يعبر، فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع على أن يعينه على ملك خام جرد [3] وأن يفي له بما كتب إليه. فقبل منه قتيبة ووفى له، وبعث أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادى خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمان وغلبه على أرضه، وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير. فلمّا جاء بهم عبد الرحمان أمر قتيبة بسريره، فأخرج فقتل الأسرى بين يديه. فحكى المهلّب بن إياس أنّه أخذت سيوف الأشراف يضرب بها الأعناق فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح. فأخذ سيفي فلم يضرب به شيء إلّا أبانه. فحسدنى بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب به أن اصفح بالسيف، فصفح به قليلا، فوقع فى   [1] . هزار دشت: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1238) : هزار سپ. وفى حواشيه عن الأصول: هزاست. وفى ابن الأثير (4: 570) : هزار أسب. [2] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1238) أيضا. والعبارة: «ومدائن خوارزم» ، «فارقين واحد» فى ابن الأثير (4: 570) . [3] . خام جرد: فى الأصل: حام حرد (بالإهمال) . والمثبت من الطبري، ويؤيده ابن الأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 ضرس المقتول فثلمه. قال: فرأيت السيف وكان أبو الذيّال يقول: هو [491] عندي بعينه. فتح السغد ولمّا أخذ قتيبة صلح صاحب خوارزم قام إليه المجسّر [1] بن مزاحم السلمى فقال: - «إنّ لى حاجة فأخلنى.» فأخلاه، فقال: - «إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن. فإنّهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنّما بينك وبينهم عشرة أيّام.» فقال له قتيبة: - «أشار عليك أحد بهذا؟» قال: - «لا.» قال: - «فأعلمته أحدا؟» قال: - «لا.» قال: - «فو الله، لئن تكلّم به أحد لأضربن عنقك.» فأقام يومه ذلك. فلمّا أصبح من الغد دعا عبد الرحمان فقال: - «سر فى الفرسان والمرامية وقدّم الأثقال إلى مرو.» فوجّهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمان يتبع الأثقال يريد مرو يومه كلّه. فلمّا أمسى كتب إليه: - «إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر فى الفرسان والمرامية نحو السغد   [1] . المجسّر: كذا فى الأصل (بالسين المهملة) . وفى الطبري (8: 1241) أيضا: المجسّر، وفى حواشيه عن الأصول: المحسّن. المجشّر.. وفى ابن الأثير (4: 571) : المجشّر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 واكتم الأخبار فإنّى بالأثر.» فلمّا أتى عبد الرحمان الخبر أمضى الأثقال إلى مرو، وسار حيث أمره. وخطب قتيبة الناس فقال: - «إنّ الله، عزّ وجلّ، قد فتح لكم هذه البلدة فى وقت الغزو فيه ممكن وهذه السغد [492] شاغرة برجلها قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا من مال الصلح الذي صالحنا عليه صاحبهم، وصنعوا به ما بلغكم. وقال الله، عزّ وجلّ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ 48: 10 [1] . فسيروا على بركة الله فإنّى أرجو أن تكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة.» فأتى السغد وقد سبقه عبد الرحمان بن مسلم فى عشرين ألفا، وقدم عليه قتيبة فى أهل خوارزم بعد ثالثة ورابعة، فقال: - «إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين [2] .» فحصرهم شهرا، فقاتلوه فى حصارهم من وجه واحد، وخاف أهل السغد طول الحصار، فكتبوا إلى أهل الشاش وإخشيذ [3] فرغانة: - «إنّ العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم فاجتمعوا على أن تأتوهم.» فأرسلوا إليهم أن: - «أرسلوا إليهم من يشغلهم حتّى نبيّت عسكرهم.» وانتخبوا فرسانا من أبناء المرازبة والأساورة والأشدّاء الأبطال، فوجّهوهم وأمروهم أن يبيّتوا عسكرهم. وجاءت عيون المسلمين، فأخبروهم، فانتخب   [1] . س 48 الفتح: 10. [2] . والآية: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ 37: 177 (س 37 الصافّات: 177) . [3] . كذا فى الأصل: إخشيذ. وما فى الطبري (8: 1242) وابن الأثير (4: 572) : إخشاد، وفى حواشي الطبري أخشيد (بالدال المهملة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 قتيبة [493] ثلاثمائة أو ستمائة من أهل النجدة واستعمل عليهم صالح بن مسلم. وكان ملك الشاش وإخشيذ فرغانة وخاقان لمّا أتاهم كتاب غورك قالوا: - «إنّ صاحب السغد بيننا وبين العرب، فإن وصلوا إليهم كنّا أضعف وأذلّ، فإنّا والله ما نؤتى إلّا من سفلتنا وإنّهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيّون بهذا الأمر.» فانتخبوا أبناء الملوك وفتيانهم وقالوا لهم: - «أخرجوا حتّى تأتوا على عسكر قتيبة، فإنّه مشغول بحصار السغد.» وولّوا عليهم ابنا لخاقان. وبلغ قتيبة الخبر كما حكيناه من أمره، فانتخب من أهل النجدة والبأس، فكان منهم: شعبة بن ظهير، وزهير بن حيّان، وعدّة من أمثالهم، فقال لهم: - «إنّ عدوّكم قد رأوا بلاء الله عندكم وتأييده إيّاكم، فأجمعوا على أن يحتالوا ويطلبوا غرّتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم وقد فضّلكم [الله] [1] بدينه، فأبلوا الله بلاءا حسنا تستوجبون به الثواب مع الذبّ عن أحسابكم.» ووضع قتيبة [494] عيونا على العدوّ، حتّى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكرهم من الليل، أخرج الذين انتخبهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم. فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصف لهم. وفرّق صالح خيله، وأكمن كمينا عن يساره ويمينه، حتّى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه جاء العدوّ باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف فى خيله. فلمّا رأوه شدّوا عليه حتّى إذا اختلفت الرماح شدّ الكمينان عن يمين وشمال. فلم ير قوم   [1] . ما بين [] تكملة من الطبري (8: 1247) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 كانوا أشدّ منهم. فتحدّث شعبة قال: إنّا لنختلف عليهم بالضرب والطعن إذ تبيّنت قتيبة، فضربت ضربة أعجبتنى وأنا أنظر إلى قتيبة فقلت: - «كيف ترى بأبى أنت وأمّى؟» فقال: - «اسكت دقّ الله فاك.» فقتلناهم، فلم يفلت منهم إلّا الشريد، وأقمنا نحوي [1] الأسلاب، ونحتزّ الرؤوس حتّى أصبحنا، ثمّ أقبلنا إلى العسكر. فلم أر قطّ جماعة جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منّا رجل إلّا معلّقا رأسا معروفا باسمه، وسلبا من جيّد السلاح [495] وكريم المتاع ومناطق الذهب ودوابّ فره، وجئنا بالرؤوس إلى قتيبة، فقال: - «جزاكم الله خيرا عن الدين والأحساب.» ثمّ أكرمنى من غير أن يكون باح لى بشيء، وقرن بى فى الصلة والإكرام حيّان العدوى وحليسا الشيبانى. فظننت أنّه رأى منهما مثل الذي رأى منّى. وكسر ذلك أهل السغد وطلبوا الصلح وعرضوا الفدية، فأبى قتيبة وقال: - «أنا ثائر بدم طرخون- يعنى صاحبهم- كان مولاي، وفى ذمّتى.» ووضع قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وهو فى ذلك لا يقلع عنهم، وناصحه من كان معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، وبذلوا أنفسهم. فأرسل إليهم غورك: - «إنّك إنّما تقاتلني بإخوتى وأهل بيتي من العجم فأخرج [2] إلى العرب.» فغضب قتيبة ودعا الجدلىّ وقال: - «اعرض الناس وميّز أهل البأس.» فجمعهم، ثمّ جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء، فجعل يدعو برجل   [1] . من قولهم: حوى يحوى. [2] . الضبط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 رجل فيقول: - «ما عندك؟» فيقول العريف: - «شجاع.» ويقول: - «ما هذا؟» فيقول: - «محتضر [1] .» ويقول: - «ما هذا؟» فيقول: - «جبان.» فسمّى قتيبة الجبناء الأنتان [2] ، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم [496] فأعطاه الشجعاء والمحتضرين [3] ، فترك لهم رثّ السلاح، ثمّ زحف بهم فقاتل بهم فرسانا ورجالا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدّوها بغرائر الدخن [4] وجاء رجل حتّى قام على الثلمة، فشتم قتيبة شتما قبيحا فضيحا [5] بالعربيّة. وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم: - «اختاروا منكم رجلين.» فاختاروا. فقال: - «أيّكما يرى هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف وإن أخطأ قطعت يده.» فتلكّأ أحدهما وتقدّم الآخر، فلم يخطئ عينه. فأمر له بعشرة آلاف. فتحدّث يحيى بن خالد بن ثابت مولى مسلم بن عمرو قال: كنت فى رماة قتيبة، فلمّا فتحنا المدينة صعدت السور، فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه،   [1] . محتضر: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (8: 1244) : مختصر. [2] . الأنتان: ما فى الأصل غير واضح والمثبت من الطبري. [3] . المحتضرين: كذا فى الأصل. وما فى الطبري المختصرين. [4] . الدخن: نبات عشبىّ من النجيليّات، حبّه صغير أملس كحب السمسم ينبت برّيّا ومزروعا. [5] . وعند الطبري (8: 1249) فى نقل رواية: «قال: فنادى مناد فصيح بالعربية، يشتم قتيبة.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 فوجدته ميّتا على الحائط ما أخطأت النشّابة عينه حتّى خرجت من قفاه. ثمّ أصبحوا من غد فرموا المدينة حتّى ثلموا فيها. وقال قتيبة: - «ألحّوا عليها حتّى تعبروا الثلمة.» فقاتلوهم، ورماهم السغد بالنشّاب، فوضعوا ترستهم على أعينهم، ثمّ حملوا حتّى صاروا على الثلمة، وكانوا طلبوا الصلح، فقال قتيبة: - «لا والله! [497] ما نصالحكم إلّا ورجالنا على الثلمة ومجانيقنا تخطر على مدينتكم.» فصالحهم من غد على ألفى ألف ومائتي ألف [1] [000، 200، 2] فى كلّ عام، على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس [2] ليس فيه صبىّ ولا شيخ ولا ذو عيب، وعلى أن يخلوا المدينة لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجد فيدخل ويصلّى، ويوضع له فيها منبر، ويتغدّى ويخرج. فلمّا تمّ الصلح بعث قتيبة بعشرة من كلّ خمس [3] برجلين، فقبضوا ما صالحهم عليه، فقال قتيبة: - «الآن ذلّوا حين صار أزواجهم وأولادهم فى أيديكم.» ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدا ووضعوا منبرا، فدخلها قتيبة فى أربعة آلاف انتخبهم. فلمّا دخلها أتى المسجد، فصلّى وخطب، ثمّ تغدّى. وأرسل إلى أهل السغد: - «من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإنّى لست خارجا منها، وإنّما صنعت هذا لكم، ولست آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه غير أنّ الجند يقيمون فيها.»   [1] . كذا فى الأصل والطبري (8: 1245) . وفى ابن الأثير: « ... ومائتي ألف مثقال..» [2] . رأس: كذا فى الأصل والطبري. وفى ابن الأثير: فارس. [3] . من كلّ خمس: كذا فى الأصل (بالضبط) وفى الطبري (8: 1245) أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 والباهليّون يقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس [1] وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض [498] ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت ووضعت بين يديه وكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها. فقالت الأعاجم: - «إنّ فيها أصناما من حرقها هلك.» فقال قتيبة: - «أنا أحرقها بيدي.» فجاء غورك [2] ، فجثا بين يديه وقال: - «إنّ شكرك علىّ واجب، لا تعرّض لهذه الأصنام.» فدعا قتيبة بالنار، فأخذ شعلة بيده، وخرج فكبّر، ثمّ أشعلها وأشعل الباب، فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضّة خمسين ألف مثقال. جارية رابعة ليزدجرد أصابها قتيبة ومن ملح الحديث وإن لم يكن من شرط هذا الكتاب، أنّ قتيبة أصاب بالسغد جارية رابعة من ولد يزد جرد [3] ، فقال: - «أترون ابن هذه يكون هجينا؟» فقالوا: - «نعم، يكون هجينا من قبل أبيه.» فبعث بها إلى الحجّاج، فبعث بها الحجّاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.   [1] . رأس: كذا فى الأصل والطبري (8: 1246) وفى مط، وابن الأثير (4: 573) : فارس. [2] . غورك: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 7- 1246) : غوزك. وفى ابن الأثير (4: 573) : غورك. [3] . تجد الرواية عند الطبري أيضا (8: 7- 1246) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 ما أوصى به قتيبة عبد الله بن مسلم ولمّا فتح قتيبة سمرقند استخلف عليها عبد الله بن مسلم وخلّف عنده جندا كثيفا وآلة من آلات الحرب كثيرة، وقال: - «لا تدعنّ مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلّا [499] مختوم اليد، فإن جفّت الطينة قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة أو سكّينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها منهم فاقتله. وقال قتيبة لمّا جمع بين فتح خوارزم وسمرقند: - «هذا العداء لا عداء العيرين.» لأنّه افتتح خوارزم وسمرقند فى عام واحد، وذلك أنّ الفارس إذا صرع فى طلق واحد عيرين، قيل: عادى بين عيرين. فتوح أخرى تمّت فى هذه المدّة وفى هذه المدة التي ذكرنا فيها أمور الحجّاج بالعراق وأخباره مع الخوارج وعبد الرحمان بن الأشعث وغزوات قتيبة والمهلّب قبله كانت غزوات لعبد الله بن عبد الملك أرض الروم، ففتح فيها المصيصة وغيرها، وغزوات لمسلمة بن عبد الملك، ففتح فيها طوانة، وغيرها، وقسطنطنين، وغزالة، وحصن سورية، وعمّورية وهرقلة، وقمولية. وغزا أيضا مسلمة بن عبد الملك فى هذه المدة الترك حين بلغ الباب من ناحية أذربيجان. وأغزى موسى بن نصير الأندلس، ففتحها، وفتح موسى بن نصير من بلاد الأندلس عدّة مدن، وقتل ملكها، وكان [500] رجلا من أهل إصبهان، وكان ملوك الأندلس يلقّبون كما تلقّب الأكاسرة والقياصرة، فيقال لملكها: الأذرينوق [1] ،   [1] . أنظر ابن الأثير 4: 556. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 فقتله موسى بعد قتال شديد لم تكن فيها مكيدة، وكانت فيها غزوات العباس بن الوليد أرض الروم. وغزوات لمروان بن الوليد الروم، فتحوا لهم مدنا وحصونا. ولم يذكر فى جميع ذلك ما يستفاد منه تجربة. وقتل الحجّاج سعيد بن جبير فى سنة خمس وسبعين. ذكر كلام لسعيد بن جبير كان سبب قتله قال: لمّا أتى الحجّاج بسعيد بن جبير، قال: - «لعن الله ابن النصرانيّة..» يعنى خالدا القسرىّ وهو الذي كان أرسل به من مكّة. - «.. أتراني ما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكّة.» ثم أقبل على سعيد، فقال: - «يا سعيد، ما أخرجك علىّ مع عدوّ الرحمان [1] ؟» قال: - «أصلح الله الأمير، إنّما أنا رجل من المسلمين يخطئ مرّة ويصيب مرّة.» قال: فطابت نفس الحجّاج وتطلّق حتّى رجونا [501] أن يتخلّص منه. عاوده فى شيء، فقال: - «إنّما كانت له بيعة فى عنقي.» قال: فغضب الحجّاج وانتفخ حتّى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال: - «يا سعيد، ألم أقدم مكّة فقتلت ابن الزبير، ثمّ أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟» قال: - «بلى.» قال:   [1] . عدو الرحمان: كذا فى الأصل. وما فى مط: عبدى الرحمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 - «ثم قدمت الكوفة واليا على العراق، فجدّدت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية؟» قال: - «بلى.» قال: - «فنكثت لأمير المؤمنين بيعتين، ووفيت بواحدة لابن الحائك! يا حرسىّ اضرب [1] عنقه.» ثم قام ليركب، فوضع رجله فى الركاب، وقال: - «لا والله، لا أركب حتّى تبوّأ مقعدك من النار.» فضربت عنقه، فالتبس عقله مكانه، فجعل يقول: - «قيودنا قيودنا!» فظنّ أنّه يريد القيود التي فى رجل سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. فكان إذا نام يراه فى منامه كأنّه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: - «ما لى ولابن جبير؟» موت الحجّاج بن يوسف وفيه هذه السنة مات الحجّاج بن يوسف، وكان استخلف فى مرضه [502] على حرب العراقين والصلاة بأهلها يزيد بن كبشة، وعلى خراجها يزيد بن أبى مسلم، فأقرّهما الوليد بعد موت الحجّاج، وكذلك فعل بعمّال الحجّاج، أقرّهم على أعمالهم التي كانوا عليها فى حياته. ودخلت سنة ستّ وتسعين من سيرة الوليد بن عبد الملك وفيها مات الوليد بن عبد الملك فى النصف من جمادى الآخرة منها، وكان   [1] . اضرب عنقه: كذا فى الأصل. وما فى مط: اضربا عنقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 عند أهل الشام أفضل خلائفهم [1] ، وذلك أنّه بنى مساجد منها مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار وأعطى المجذّمين وأفردهم، وقال: - «لا تسألوا الناس!» وأعطى كلّ مقعد خادما وكلّ ضرير قائدا. وفتحت فى ولايته فتوح عظام. أمّا موسى بن نصير ففتح الأندلس، وبلغ قتيبة كاشغر، وهي أوّل مدائن الصين، وفتح محمد بن القاسم الهند. وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع. فكان الناس فى أيامه إذا التقوا فإنّما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والضياع. ثم ولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، وكان الناس [503] يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري. فلمّا ولى عمر بن عبد العزيز، كانوا يلتقون فيقولون: - «ما وردك؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وكم تصوم من الشهر؟» وكان الوليد وسليمان وليّى عهد عبد الملك. فلمّا أفضى الأمر إلى الوليد أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان. فأبى سليمان، فأراده [2] على أن يخلعه من بعده، فامتنع أيضا، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى. فكتب إلى عمّاله بأن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه أحد إلّا الحجّاج وقتيبة. ذكر رأى لعبّاد بن زياد فقال عبّاد بن زياد: - «يا أمير المؤمنين، إنّ الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على   [1] . خلائفهم: فى الأصل ومط: خلائقهم وهو تصحيف. والمثبت من الطبري (8: 1271) . [2] . فأراده: كذا فى الأصل ومط والطبري (8: 1274) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 البيعة لابنك عبد العزيز من بعده، فإنّه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه.» [504] فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالمسير إليه، فأبطأ، واعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه. فأمر الناس بالتأهّب وأخرجت مضاربه ومات قبل أن يسير. فتح كاشغر وما دار بين مبعوثى قتيبة وملك الصين وكان قتيبة قد غزا فى هذه السنة مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصين. فلمّا بلغ فرغانة أتاه موت الوليد، فوغل قتيبة حتّى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن: - «ابعث إلىّ رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسأله عن دينكم.» فانتخب قتيبة من عسكره اثنى عشر رجلا من أفناء [1] القبائل لهم جمال وأجسام وألسن وبأس. وبعد أن سأل عنهم، فوجدهم بحيث أحبّ، فكلّمهم قتيبة وفاطنهم، فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدّة حسنة من السلاح والمتاع والجيّد من الخزّ والوشي والليّن من الثياب والرقيق والبغال والعطر، وحملهم على خيول مطهّمة تقاد معهم، ودوابّ يركبونها، وقال لهم: - «سيروا على بركة الله، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أن لا [505] أنصرف حتّى أطأ بلادهم و [أختم] [2] ملوكهم وأجبى خراجهم.» فساروا وعليهم هبيرة بن المشمرج [3] ، فلمّا قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم. فدخلوا الحمّام، ثمّ خرجوا، فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثمّ مسّوا   [1] . الأفناء: جمع مفرده الفنء: الجماعة من الناس. تقول: جاء فنء من الناس. والفناء: الكثرة. تقول: مال ذو فنء. [2] . وأختم: كذا فى مط والطبري (8: 1277) . وما فى الأصل غير واضح. [3] . المشمرج: ضبطناه كما فى الطبري. وهو غير مضبوط فى الأصل ومط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الغالية، ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلّمهم الملك ولا أحد من جلسائه، فنهضوا فقال الملك لمن حضره: - «كيف رأيتم هؤلاء؟» قالوا: - «رأينا قوما هم نساء، ما بقي منّا أحد حين رءاهم ورأى شعورهم ووجد رائحتهم إلّا انتشر ما عنده.» قال: فلمّا كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخزّ والمطارف وغدو عليه. فلمّا دخلوا إليه قيل لهم: - «ارجعوا!» ثم قال لأصحابه: - «كيف رأيتم؟» قالوا: - «هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك [الهيئة] [1] الأولى وهم أولئك.» فلمّا كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدّوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وتقلّدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكّبوا القسىّ [506] وركبوا خيولهم. فنظر إليهم صاحب الصين من منظرة له، فرأى أمثال الجبال مقبلة. فلمّا دنوا ركّزوا رماحهم، ثمّ أقبلوا مشمّرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: - «ارجعوا!» فانصرفوا. فلمّا ركبوا خيولهم اختلجوا رماحهم ثمّ رفعوا خيولهم كأنّهم يتطاردون بها. فقال الملك لأصحابه: - «كيف ترونهم؟» قالوا: - «ما رأينا مثل هؤلاء قطّ.» فلمّا أمسى أرسل إليهم أن ابعثوا إلىّ زعيمكم وأفضلكم رجلا.   [1] . سقط ما بين [] من الأصل. فأخذناه عن مط. كما أنّ الكلمة ليست فى الطبري أيضا (أنظر 8: 1278) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه: - «قد رأيتم عظيم ملكي وأنّه ليس أحد يمنعكم منّى وأنتم فى بلادي بمنزلة الخاتم فى كفّى، وأنا سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني [1] قتلتكم.» قال: - «سل.» قال: - «لم صنعتم ما صنعتم من الزىّ [2] فى اليوم الأوّل والثاني والثالث؟» قال: - «أمّا زيّنا فى اليوم الأوّل فلباسنا فى أهالينا، وأمّا يومنا الثاني، فإذا أتينا أمراءنا، وأمّا يومنا الثالث فزيّنا لعدوّنا، فإذا هاج هيج كنّا هكذا.» قال: - «ما أحسن ما دبّرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف [507] فإنّى قد عرفت حرصه وقلّة أصحابه وإلّا بعثت إليه من يهلكه ويهلككم معه.» ذكر كلام لهبيرة فى جواب الملك صار سببا لحمله الخراج وتهيّبه الحرب فأجابه هبيرة وقال: - «كيف يكون قليل الأصحاب من أوّل خيله فى بلادك وآخرها فى منابت الزيتون، وكيف يكون حريصا من خلّف الدنيا وراءه قادرا عليها وغزاك؟ وأمّا تخويفك إيّانا بالقتل فإنّ لنا آجالا إذا حضرت فلسنا نكرهها ولا نخافها.» فقال بعد أن أطرق: - «فما الذي يرضى صاحبك؟» قال: - «إنّه قد حلف ألّا ينصرف حتّى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى   [1] . فى الأصل ومط والطبري: لم تصدقني (بصيغة المفرد) وفى بعض الأصول عن حواشي الطبري: لم تصدقوني. وهو أنسب. [2] . الزي: كذا فى الأصل والطبري، وهو الصحيح. وما فى مط: الذي! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 الجزية.» قال: - «فإنّا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها.» قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم. ثمّ أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعثوا به.» فقبل الجزية وختم الغلمة وردّهم ووطئ التراب. فقال فى ذلك سوادة بن عبد الله السلولي: لا عيب فى الوفد الذين بعثتهم ... للصين لو سلكوا طريق المنهج [508] كسروا الجفون على العدى [1] خوف الرّدى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج لم يرض غير الختم فى أعناقهم ... ورهائن دفعت لحمل سمرّج أدّى رسالتك التي استرعيته ... وأتاك من حنث اليمين بمخرج قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس. من سيرة قتيبة وكان من سيرة قتيبة إذا بعث طلائع الفرسان أو غيرهم أن يأمر بلوح منقوش فيشقّ شقّتين، فيعطيهم شقّة ويحتبس شقّة ويأمرهم أن يدفنوها فى موضع يصفه من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، ثمّ يبعث بعده من يستخرجها ليعلم أصادق طليعته أم لا.   [1] . العدى: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1279) : القذى. وفى حواشيه عن بعض الأصول: العدى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان وفى هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك وخالف قتيبة بخراسان وتأدّى أمره إلى أن قتل. ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك ما حكيناه من إجابة قتيبة الوليد إلى خلع سليمان. فلمّا مات الوليد وبويع سليمان خافه قتيبة، وأشفق أن يولّى سليمان يزيد بن المهلّب خراسان [509] لمودّة كانت بين يزيد بن المهلّب وبين سليمان. فكتب قتيبة كتابا إلى سليمان يهنّئه بالخلافة ويعزّيه عن الوليد ويعلمه بلاءه [1] وطاعته لعبد الملك والوليد وأنّه على مثل ذلك له من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان، ثمّ كتب كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته فى صدورهم وبعد صوته فيهم، ويذمّ المهلّب وآل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه. ثم كتب كتابا ثالثا فيه خلعه. وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال:   [1] . بلاءه: كذا فى الأصل والطبري (8: 1284) . وما فى مط: بلاده. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 - «ادفع هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلّب حاضرا فقرأه ثمّ ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب الثالث. وإن قرأ الأوّل ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين.» فقدم رسول قتيبة ودخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع الكتاب الأوّل، فقرأه، ثمّ ألقاه إلى يزيد، ثمّ دفع إليه الكتاب الثاني [510] فقرأه ثمّ رمى به إلى يزيد، ثمّ أعطاه الكتاب الثالث فتمعّر [1] لونه ثمّ دعا بطين فختمه ثمّ أمسكه [بيده] [2] . ثمّ أمر رسول قتيبة أن ينزل. فحوّل إلى دار الضيافة. فلمّا أمسى دعا به سليمان، فأعطاه صرّة فيها دنانير، فقال: - «هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان، فسر، وهذا رسولي معك بعهده.» فخرج الباهلىّ و [معه] [3] رسول سليمان. فلمّا كانا بحلوان تلقّاهما الناس بخلع قتيبة واضطراب الأمر. فدفع الرسول العهد إلى رسول قتيبة وانصرف هو. ذكر عجلة قتيبة بالخلع وما دبّره من أمره فأمّا قتيبة فإنّه لمّا همّ بالخلع استشار إخوته، فقال عبد الرحمان: - «اقطع بعثا، فوجّه فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو وسر [4] حتّى تنزل سمرقند، ثمّ قل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فإنّه لا يقيم معك إلّا ناصح.»   [1] . فتمعّر: كذا فى الأصل والطبري 8: 1285. وفى حواشي الطبري عن الأصول: تمغّر. وفى مط: تغيّر. تمعّر لونه أو وجهه: تغيّر وعلته صفرة: تمغّر: أصبح مغرة. والمغرة: الطين الأحمر يصبغ به. [2] . ما بين [] غير مقروء فى الأصل، فأخذناه من مط. [3] . ما بين [] غير مقروء فى الأصل ومأخوذ من مط. [4] . فى الأصل ومط: «إلى مرو وسرخس حتّى تنزل» من دون «سر» . وفى الطبري: «إلى مرو وسر حتّى تنزل» فرأينا الصواب ما فى الطبري لسياق العبارة، وخلط النسّاخ بين «خس» و «حتى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وقال أخوه عبد الله: - «اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان.» فأخذ برأى عبد الله [511] فخلع سليمان ودعا الناس إلى خلعه، وخطب: - «أيها الناس، إنّى قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر، فضممت الأخ إلى أخيه والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدّرة ولا مؤخّرة، وقد جرّبتم الولاة [قبلي،] [1] أتاكم أميّة، فكتب إلى أمير المؤمنين أنّ خراج خراسان لا يقيم مطبخى، ثمّ جاءكم أبو سعيد [2] ، فدوّم [3] ثلاث سنين ولا تدرون: أفى طاعة أنتم أم فى معصية، لم يجب فيئا، ولا نكا عدوّا. ثمّ جاءكم بنوه بعده. فحل تنازى [4] إليه النساء، وإنّما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنّقة القيسي، فلم يجبه أحد..» فغضب وقال: - «.. لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على غير ما كسرتم قرنه يا أهل السافلة- ولا أقول العالية- يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كلّ أوب، يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفح والكذب والبخل! بأىّ يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم يوم سلمكم؟ يا أصحاب مسيلمة، يا بنى ذميم- ولا أقول: تميم- يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمّون الغدر [512] فى الجاهليّة كيسا [5] ، يا معشر عبد القيس القساة، تبدّلتم من أبر النخل أعنّة الخيل، يا   [1] . ما بين [] غير مقروء فى الأصل، فزدناه من مط، كما يوافق الطبري. [2] . كتب فى حاشية الأصل: «يعنى المهلّب.» [3] . فدوّم ثلاث سنين: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1287) : فدوّم بكم ثلاث سنين (بزيادة «بكم» ) [4] . تنازى إليه النساء: كذا فى الأصل. وفى مط: ينادى إليه الثناء. وما فى الطبري: تبارى إليه النساء. [5] . فى الأصل والطبري: كيسان. وما فى مط: كيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 معشر الأزد تبدّلتم من [قلوس] [1] السفن أعنّة الحصن. الأعراب، وما الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيخ [2] والقيصوم ومنابت الفلفل، تركبون البقر والحمر فى جزيرة بنى كاوان [3] ، حتّى إذا جمعتكم كما يجمع قزع [4] الخريف، قلتم كيت وكيت. أما والله، لأعصبنّكم عصب السلمة [5] . يا أهل خراسان! هل تدرون من واليكم؟ يزيد بن ثروان. كأنّى بأمير قد جاءكم، من جاء وحكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم. إنّ هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. الشام أب مبرور، والعراق أب مكفور، حتّى متى ينتطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم. يا أهل خراسان! انسبوني تجدوني عراقىّ الأب، عراقىّ الأمّ، عراقىّ المولد، عراقىّ الهوى والرأى والدين، وقد أصبحتم اليوم فى ما ترون من الأمن والعافية وقد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج [513] من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه المزيد.» ثم نزل. فأتاه أهل بيته، فقالوا: - «ما رأينا كاليوم قطّ، والله، ما اقتصرت على العالية وهم شعارك ودثارك،   [1] . أخذنا ما بين [] من الطبري وهو ساقط من الأصل ومط. [2] . الشيح والقصوم والفلفل: الشيح. نبت سهلي رائحته طيبة قويّة ترعاه الماشية. والقيصوم: نبات طيّب الرائحة يتداوى به. والفلفل: معروف. ولكن فى الأصل ومط: القلقل ولم ننته إلى معنى له. وفى الطبري: الفلفل كما أثبتناه. [3] . جزيرة بنى كاوان ويقال: جزيرة كادان: جزيرة عظيمة يقال لها جزيرة «لافت» وهي فى بحر فارس بين عمان والبحرين، كان بها قرى ومزارع وهي الآن خراب (مراصد الاطلاع) . [4] . قزع: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: قرع. القزع: والواحدة القزعة قطع من السحاب صغار. والقرع معروف. [5] . السلمة: واحدة السلم، والسلم: جنس شجر أو نبات شائك من فصيلة القطانيات ينمو فى البلدان الحارّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 حتّى تناولت بكرا وهم أعضادك وأنصارك، ثمّ لم ترض بذلك حتّى تناولت تميما وهم إخوتك، ثمّ لم ترض حتّى تناولت الأزد وهم يدك.» فقال: - «ويحكم! إنّى لمّا تكلّمت فلم يجيبوا غضبت، فلم أدر ما قلت. أما أهل العالية فكإبل الصدقة وقد جمعت من كلّ أوب، وأمّا بكر فإنّها أمة لا تمنع يد لامس، وأمّا تميم فجمل أجرب، وأمّا عبد القيس فما تضرب [1] العير بذنبه، وأمّا الأزد فأعلاج أشرار لو وسمتهم لما أثمت.» فغضب الناس من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه، وكرهوا أيضا خلع سليمان. فكان أوّل من تكلّم فى ذلك الأزد. فأتوا حصين بن المنذر، فأبى أن يقبل رئاستهم فأرادوا أن يولّوا عبد الله بن ذودان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حصين وقالوا: - «قد تدافعنا الرئاسة، فنحن نولّيك أمرنا وربيعة [514] تخالفك.» قال: - «لا ناقة لى فى هذا ولا جمل.» قالوا: - «فما ترى؟» قال: - «إن جعلتم هذه الرئاسة فى تميم تمّ أمركم.» قالوا: - «فمن ترى من تميم؟» قال: - «ما أرى أحدا غير وكيع.» فقال حيّان النبطىّ وكان حاضرا: - «إنّ أحدا لا يتقلّد هذا الأمر ثمّ يصلى بحرّه ويبذل دمه ويتعرّض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلّا هذا الأعرابى- يعنى وكيعا- فإنّه مقدام لا يبالى ما ركب ولا ينظر فى عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه [2] ، وهو   [1] . فما تضرب: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (8: 1289) : فما يضرب. [2] . تطيعه: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: قطيعة. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 موتور يطلب قتيبة برئاسته التي صرفها عنه وصيّرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس الضبىّ.» فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرّا، وقيل لقتيبة: - «ليس يفسر أمر الناس إلّا حيّان.» فأراد أن يغتاله. وكان حيّان كثير الملاطفة لحشم الولاة، فلا يخفون عنه شيئا. فدعا قتيبة رجلا وأمره بقتل حيّان وسمعه بعض الخدم. فأتى حيّان فأخبره. فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض. وأتى الناس وكيعا فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال: - «نعم.» وتمثّل: سأجنى ما جنيت وإنّ أمرى ... لمعتمد على نضد ركين [515] وبخراسان يومئذ من المقاتلة من جميع القبائل نحو من خمسين ألفا ومن الموالي سبعة آلاف، وكان الذي يلي أمر الموالي حيّان. ويقال: إنه ديلمىّ، وقيل: بل هو من خراسان، وإنّما قيل له نبطىّ للكنته [1] . فأرسل حيّان إلى وكيع: - «أرأيت إن كففت عنك وأعنتك، أتجعل لى جانب نهر بلخ خراجه ما دمت واليا؟» قال: - «نعم.» فقال للعجم: - «هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا.» قالوا: - «نعم.»   [1] . للكنته: كذا فى الطبري (8: 1291) . وما فى الأصل ومط: للكتبة. وليس له معنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 فبايعوا وكيعا سرّا. فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال له: - «إنّ الناس يختلفون إلى وكيع ويبايعونه.» فكان وكيع يأتى منزل عبد الله بن مسلم الفقير أخى قتيبة فيشرب عنده، فقال عبد الله: - «هذا يحسد وكيعا والحديث باطل. وكيع فى بيتي يشرب ويسكر ويسلح [1] فى ثيابه وهذا يزعم أنّهم يبايعونه.» وجاء وكيع إلى قتيبة، فقال: - «احذر ضرارا، فإنّى لا آمنه عليك.» فأنزل قتيبة ذاك على الحسد الذي بينهما. وتمارض وكيع، فدسّ قتيبة ضرار بن سنان الضبّى إلى وكيع، فبايعه سرّا، فتبيّن لقتيبة أمره، فدعا ضرارا وقال له: - «كنت صدقتني.» قال: - «لم أخبرك إلّا بعلم، فأنزلت [516] ذلك منّى على الحسد.» قال: - «صدقت.» فأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه. فوجده الرسول قد طلى على رجليه مغرة [2] وعلّق عليها خرزا وعنده من يرقيه [3] . فقال له: - «أجب الأمير.» قال: - «قد ترى ما برجلي.» فرجع الرسول إلى قتيبة، فأعاده إليه وقال:   [1] . يسلح (بالحاء المهملة) : كذا فى الأصل والطبري. سلح (يسلح سلحا) : تغوّط. وهو خاصّ بالطير والبهائم، واستعماله للإنسان من باب التساهل على التشبيه. وفى مط: يسلج (بالجيم المعجمة) . سلج (يسلج سلوجا) الإبل: استطلقت بطونها من أكل السلج وهو نبات ترعاه الإبل. سلج اللّقمة: بلعها. [2] . المغرة والمغرة: طين أحمر يصبغ به. وحمرته ليست ناصعة. أو شقرة بكدرة. [3] . يرقيه: من قولهم: رقى المريض: عوّذه. ويقال: باسم الله أرقيك، والله يشفيك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 - «ايتنى به محمولا على سرير.» قال: - «لا أستطيع.» فقال قتيبة لشريك بن الصامت، وكان على شرطته، ولرجل آخر من غنىّ [1] : - «انطلقا إلى وكيع فأتيا به، فإن أبى فاضربا عنقه.» ووجّه معهما خيلا فقال هريم بن طخفة [2] : - «أنا آتيك به أصلحك الله.» قال: - «فانطلق.» قال هريم: فركبت برذوني وركضت مخافة أن يردّنى، فأتيت وكيعا وقد سبق إليه الخبر والخيل يأتيه. فخرج وخرج معه هريم وهو على يمينه. ونادى وكيع فى الناس، فأقبلوا أرسالا من كلّ وجه، وأقبل فى الناس وهو يقول: قرم إذا حمّل مكروهة ... شدّ الشراسيف لها والحزيم وأمر قتيبة رجلا فقال: - «ناد فى الناس: أين بنو عامر؟» فنادى: - «أين بنو عامر؟» [517] فقال له مجفر [3] بن جزء الكلابىّ: - «وقد كان جفاؤهم حيث وضعتهم.» قال: - «ناد: أذكّركم الله والرحم.» قال مجفر:   [1] . آخر من غنّى: كذا فى الأصل والطبري (8: 1292) وما فى مط: ولعلّه «مرغنىّ» . [2] . هريم بن أبى طخفة: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: هريم بن أبى طحمة. [3] . مجفر بن جزء: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري (8: 1294) : محفن بن جزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 - «أنت قطعتها.» قال: - «ناد لكم العتبى.» فناداه مجفر وغيره: - «لا أقالنا الله إذا.» فدعا قتيبة ببرذون له مدرّب كان يلجأ إليه فى الزحوف [1] ، فقرّب إليه، فجعل يقمص حتّى أعياه. فلمّا رأى ذلك عاد إلى سريره وقال: - «دعوه، هذا أمر يراد.» وجاء حيّان النبطي فى العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله مسلم، وقال لحيّان: - «احمل على أحد هذين الطرفين.» قال: - «لم يأن لى ذلك.» فغضب عبد الله وقال: - «ناولني قوسي.» فقال: - «ليس هذا يوم قوس.» وأرسل وكيل إلى حيّان: - «أين ما وعدتني؟» فقال حيّان لابنه: - «إذا رأيتنى قد حوّلت قلنسوتي ومضيت، فمل بمن معك من العجم إلىّ.» ففعل، ومالت [2] الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبّر أصحابه. وبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس، فرمى بسهم فأصاب هامته، فحمل إلى قتيبة مائل الرأس،   [1] . الزحوف: كذا فى الأصل والطبري (8: 1294) . وفى مط: الرحوب! والعبارة فى الطبري: «وكان يتطيّر إليه فى الزحوف.» بدل: «وكان يلجأ إليه فى الزحوف.» [2] . ومالت الأعاجم: كذا فى الأصل والطبري (8: 1295) . وما فى مط: سالت الأعاجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمان بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق [518] والغوغاء فقتلوه، ودنوا من قتيبة، فدعا بدابّة فأتى به، فلم يقرّ ليركبه، فقال: - «إنّ له لشأنا.» ورجع فجلس، وجاء الناس حتّى بلغوا فسطاطه، فخرج عنه من كان حوله فقتل وقتل معه من بنى مسلم [1] أحد عشر رجلا سبعة منهم لصلب مسلم، وأربعة من بنى أبنائهم، فصلبهم وكيع، وهم: قتيبة، وعبد الرحمان وعبيد الله، وعبد الله الفقير، وصالح، ويسار [2] ، ومحمد بنو مسلم، وكثير بن قتيبة، ومفلّس بن عبد الرحمان، ورجلان آخران، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو، وكان عامل الجوزجان، وضرار أخوه استنقذ أخواله، وكانت أمّه الغرّاء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة. وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزميّة، فوضعت بعد ليزيد بن المهلّب، فأخذها، فهي أمّ خليدة. ولمّا قتل قتيبة صعد وكيع المنابر، فعلم منه أنّه يأتى بآبدة [3] وهوجة [4] . فصعد معه عمارة بن خئيّه [5] ، فتكلّم فأكثر، فقال وكيع: - «دعنا من هذرك وقذرك.» وتكلّم وكيع فقال: - «مثلي ومثل قتيبة، ما قال الأوّل:   [1] . مسلم: كذا فى الأصل والطبري 8: 1296. وما فى مط: سليم. وهو خطأ. [2] . يسّار: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: بشّار. [3] . الآبدة: الأمر العجيب يستغرب له. أوابد الكلام: غرائبه وعجائبه. [4] . الهوج: الحمق والطيش والشجاعة. [5] . خئيّة: كذا فى الأصل. وفى مط: حبيبة. وما فى الطبري (8: 1298) : جنيّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 من ينك العير ينك نيّاكا [519] من أىّ يوميك من الموت تفرّ ... أيوم لم يقدر، أم يوم قدر «.. أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتّال، والله لأقتلنّ ثمّ لأقتلنّ، ثمّ لأصلبنّ. إنّى لوالغ دماء، إلّا أنّ مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم، والله ليصيرنّ القفيز فى السوق غدا بأربعة، أو لأصلبنّه. صلّوا على نبيّكم صلّى الله عليه.» ثم نزل. وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: - «إنّ الأزد أخذته.» فخرج وكيع وهو يقول: - «دهدرّين سعد القين! [1] والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتّى أوتى بالرأس، أو يذهب برأسى معه.» ودعا بخشب، فقال: - «إنّ هذه الخيل لا بدّ لها من فرسان يتهدّد بالصلب.» فقال له حصين: - «يا أبا مطرّف، توتى به فاسكن.» وذهب حصين إلى الأزد، وهو سيّدهم، فقال: - «أحمقى أنتم؟ بايعناه وأعطيناه المقادة وعرّض نفسه، ثمّ تأخذون الرأس! أخرجوه، لعنه الله من رأس!»   [1] . دهدرّين سعد القين: كذا فى الأصل. والضبط فى الطبري: «ده درّين سعد القين» . قال فى متن اللغة: دهدرّين (دهدرّية) : الرجل الكذوب. وقولهم دهدرّين سعد القين: مثل ومعناه: بطل سعد القين. لأنّ دهدرّين اسم فعل لبطل. والقين: الحدّاد والصانع. أى بطل الحدّاد لتشاغل الناس عنه بما هم فيه من الشدّة والقحط. (نقل بالتلخيص) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فجاؤوه به، فوهب لمن جاء به ثلاثة آلاف درهم. وبعث بالرأس مع رجال من القبائل وعليهم [520] سليط، ولم يبعث من بنى تميم أحدا. ووفّى لحيّان النبطي بما كان وعده به. فقال رجل من عجم خراسان: - «يا معشر العرب! قتلتم قتيبة، والله لو كان منّا ثمّ مات فينا لجعلناه شهيدا وحفظنا تابوته إلى الحشر نستفتح به إذا غزونا.» وقال الإصبهبذ يوما لرجل: - «يا معشر العرب! قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيّد العرب.» قال: - «نعم، فأيّهما كان أهيب فى صدوركم وأعظم قدرا عندكم؟» فقال له الإصبهبذ: - «لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به مكبّلا بالحديد ويزيد معنا فى بلادنا وال علينا، لكان قتيبة أهيب فى صدورنا وأعظم من يزيد.» ورثى الشعراء قتيبة، فأكثروا. وولّى سليمان يزيد بن المهلّب العراق مكان الحجّاج حربها وخراجها وصلاتها . ذكر رأى رءاه يزيد لنفسه عاد مكروها عليه فكرّ يزيد فى نفسه فقال: - «إنّ العراق قد أخربها الحجّاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذّبتهم عليه صرت [520] [1] مثل الحجّاج وأعيد عليهم مثل تلك السجون التي قد عافاهم الله منه أو متى لم آت سليمان بمثل   [1] . رقم الصفحة مكرّر فى مصوّرة الأصل، فكرّرناه نحن أيضا، حرصا على بقاء الأرقام فى الصفحات الآتية كما هي، لتفادى الخلط عند المراجعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 ما جاء به الحجّاج لم يقبل منّى.» فأتى يزيد سليمان وقال له: - «أدلّك على رجل بصير بالخراج تولّيه إيّاه فتكون أنت الذي تأخذه به؟» قال: - «نعم.» قال صالح بن عبد الرحمان: قال: - «قد قبلنا رأيك.» وولّاه. فأقبل يزيد إلى العراق وتقدّم صالح فنزل واسطا. فلمّا قدم يزيد خرج الناس يتلقّونه. وقيل لصالح: - «هذا يزيد وقد خرج الناس يتلقّونه.» فلم يخرج حتّى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح عليه درّاعة وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد فسايره، فلمّا دخل المدينة، قال له صالح: - «قد فرّغت لك هذه الدار.» وأشار إلى دار. فنزلها يزيد واحتمل ذلك، ثمّ ضيّق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا. واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح. فقال له يزيد: - «أكتب علىّ ثمنها.» واشترى متاعا كثيرا وصكّ صكاكا إلى صالح لباعتها فلم ينفذ. فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال: - «هذا عملي بنفسي.» فلم يلبث [أن جاء] [1] صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد:   [1] . فلم يلبث [أن جاء] صالح: سقط ما بين [] من الأصل، فنقلناه من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 - «ما هذه [521] الصكاك التي لا يقوم لها الخراج. قد أنفذت لك منذ أيّام صكا بمائة ألف [000، 100] درهم وعجّلت لك أرزاقك، ثمّ سألت مالا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء ولا يرضى به أمير المؤمنين وتؤخذ به.» فقال له يزيد: - «يا با الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرّة.» قال: - «فإنّى أجيزها، فلا تكثرنّ علىّ.» قال: - «لا.» وضجر يزيد بصالح [1] ، فكان لا يصل معه إلى شيء. فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال له: - «إنّى أريدك لأمر قد أهمّنى فأحبّ أن تكفينيه ولك مائة ألف.» قال: - «مرني بما شئت.» قال: - «أنا فى ما ترى من الضيق، قد أضجرنى ذلك، وبلغني أنّ أمير المؤمنين ذكر خراسان لعبد الملك أخى، فاخرج واحتل حتّى يسمّيها لى.» قال: - «أفعل، سرّحنى إلى أمير المؤمنين فى بعض الأمور فإنّى أرجو أن آتيك بعهدك عليها.» ما احتال به الأهتم حتّى قلّد يزيد خراسان فكتب معه يزيد كتابين إلى سليمان وذكر فى أحدهما أمر العراق وأثنى فيه على ابن الأهتم وعلمه بها. ثمّ وجّهه على البريد وأعطاه ثلاثين ألفا، فسار سبعا. [522] ثمّ قدم على سليمان فباسطه سليمان وحادثه وقال له: - «إنّ يزيد بن المهلّب كتب إلىّ يذكّر علمك بالعراق وبخراسان، فكيف علمك   [1] . والعبارة فى الطبري (9: 1308) : «.. فبلغ الخبر يزيد بن المهلّب وقد ضجر بالعراق وقد ضيّق عليه صالح بن عبد الرحمان، فليس يصل معه إلى شيء..» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 بها [1] ؟» قال: - «يا أمير المؤمنين، بها ولدت وبها نشأت، فلي بها خبر وعلم.» قال: - «ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك، فأخبرنى عن خراسان.» قال: - «أمير المؤمنين أعلم بمن يريد أن يولّى، فإن ذكر أحدا أخبرته برأى فيه: هل يصلح أم لا.» فسمّى سليمان رجلا من قريش. فقال: - «يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان.» قال: - «فعبد الملك بن المهلّب.» قال: - «ولا هو.» حتّى عدّد رجالا كان فى آخرهم وكيع بن أبى سود. فقال: - «يا أمير المؤمنين، ما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندي يدا من وكيع. لقد أدرك بثأرى وشفاني من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقّا علىّ وإنّ النصيحة تلزمني له. إنّ وكيعا لم يجتمع له قطّ ثلاثمائة عنان إلّا حدّث نفسه بغدرة. خامل [2] فى الجماعة نابه [3] فى الفتنة.» قال: - «صدقت. ويحك! فمن لها؟» قال: - «رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين.» قال: - «فمن هو؟» قال: - «لا أبوح به إلى أن يضمن أمير المؤمنين ستر ذلك علىّ وأن يجيرني [4] منه إن   [1] . فكيف علمك بها: كذا فى الأصل. وما فى مط: وكيف علمك. (من دون «بها» ) . [2] . خامل: كذا فى الأصل والطبري (9: 1311) . وما فى مط: خابل. [3] . نابه: الكلمة مطموسة فى الأصل، فأثبتناها كما فى مط والطبري. [4] . أن يجيرني: ما فى الأصل مطموس. وما فى مط والطبري (9: 1310) : يوافق ما أثبتناه. كما يؤيده ما فى الأسطر الآتية فى الأصل: «استجرت» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 علم.» قال: - «نعم، سمّه لى من هو؟» قال: - «يزيد بن المهلّب.» [523] قال: - «ويحك! ذاك بالعراق، والمقام بها أحبّ إليه من المقام بخراسان.» قال: - «قد علمت يا أمير المؤمنين، ولذلك استجرت [1] بك، ولكن تكرهه على ذلك، فتستخلف على العراق، ويسير هو.» قال: - «أصبت.» فكتب عهده على خراسان، وأنفذه إليه على يد ابن الأهتم. فقدم به على يزيد، فدعا يزيد ابنه مخلدا، فقدّمه إلى خراسان، فسار من يومه، ثمّ سار يزيد، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكوفي، وصيّر مروان بن المهلّب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، وعلى الكوفة بشير بن حسّان النهدي. ولمّا قرب مخلد من مرو تلقّاه الناس، فتثاقل وكيع، وكان مخلد قدّم عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي حين دنا من مرو. فأرسل عمرو بن عبد الله إلى وكيع: - «انطلق إلى أميرك فتلقّه [2] ولا تكن أعرابيّا أحمق جافيا.» وأخرجه على كره. فلمّا بلغ الناس إلى مخلد ترجّلوا له غير وكيع ومحمد بن حمران وعبّاد بن لقيط. فجاءهم قوم، فأنزلوهم. ولمّا قدم مخلد مرو حبس وكيعا، فعذّبه وأصحابه قبل [524] قدوم أبيه. فتحدّث إدريس بن حنظلة قال: لمّا قدم مخلد مرو حبسني، فجاءني ابن الأهتم، فقال لى:   [1] . استجرت: كذا فى الأصل. وما فى مط: استحرت (بالحاء المهملة) وهو خطأ (أنظر التعليقة السابقة) . [2] . فتلقّه ولا تكن: كذا فى الأصل. وما فى مط: فيلقه ولا يكن. تجد الرواية عند الطبري أيضا ولكن بسياق مختلف (أنظر 9: 1312) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 - «أتريد أن تنجو؟» قلت: - «نعم.» قال: - «أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم [1] بن عمرو المرّى إلى قتيبة فى خلع سليمان.» فقلت له: - «يا بن الأهتم إيّاى تخدع عن ديني؟» قال: فدعا بطومار وقال: - «إنّك أحمق.» وكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قريش إلى قتيبة: - «إنّ الوليد قد مات وإنّ سليمان باعث هذا المزونىّ [2] على خراسان، فاخلعه.» فقلت: - «يا بن الأهتم تهلك والله نفسك. لئن دخلت عليه لأعلمنّه أنّك كتبتها.» فلم يحفل وقال: - «قد قلت: إنّك أحمق.» ذكر حيلة تمّت على مسلمة بن عبد الملك فى هذه السنة بأرض الروم حتّى كاد يهلك هو والمسلمون كان وجّه أخاه مسلمة إلى قسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتّى يفتحها أو يأتيه أمره. فشتا [3] بها وصاف، وذلك أنّه لمّا دنى من قسطنطينية أمر كلّ فارس أن يحمل على عجز فرسه مدّين من طعام حتّى يأتى به قسطنطينية. [525] فأمر   [1] . خريم: كذا فى الأصل والطبري (9: 1312) . وما فى مط وحواشي الطبري عن الأصول: خزيم. [2] . المزونىّ: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: المرواني. [3] . فشتابها وصاف: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: «فشابها وصاق» ! وهو خطأ. شتا بها وصاف: أقام شتاء وصيفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 بالطعام فألقى ناحية مثل الجبال. ثمّ قال للمسلمين: - «لا تأكلوا منه شيئا.» فغبروا [1] فى أرضهم وازدرعوا، وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس. ومكث ذلك الطعام فى الصحراء لا يكنّه شيء طول الصيف، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثمّ أكلوا من الزرع. فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهرا لأهلها ومعه وجوه أهل الشام. واتفق موت ملك الروم، فراسلوا إليون صاحب أرمينية، فشخص إليون من أرمينية ومكر فى طريقه بمسلمة، ووعده أن يسلّم إليه قسطنطينية، وكانت قد راسلت الروم إليون: - «إن صرّفت عنّا مسلمة ملّكناك.» ووثّقوا له. فلمّا أتى إليون مسلمة، قال له: - «إنّك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم ما دام هذا الطعام عندك، وقد أحسّوا بذلك، فلو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم.» فأحرقه، ووجّه مسلمة معه من شيّعه حتّى نزل بقسطنطينية، وملّكه الروم. فكتب إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له حتّى يدخل من الطعام من النواحي، [526] [وما] [2] يعيش به القوم ويصدّقونه بأنّ أمره وأمر مسلمة واحد وأنّهم فى أمان من [السباء] والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة فى حمل الطعام وقد [هيّأ] إليون السفن والرجال. فأذن له، فما بقي   [1] . فغبروا: ما فى الأصل: فغبّروا (بتشديد الباء) وما ضبطناه يوافق مط. وفى الطبري: أغيروا. وفى تعاليقه: أعبروا. فغبروا: مكثوا. بقوا. أغيروا: شنّوا الغارات. ولكلا الضبطين وجه. [2] . كل كلمة وضعناها بين [] والتي وقعت على صفحة [526] من الأصل فهي كلمات وقعت فى ابتداء سطور تلك الصفحة وغير ظاهرة بكاملها فى التصوير. فأثبتناها كما هي فى مط والطبري (9: 1316) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 فى تلك الحظائر إلّا ما لا يذكر، حمل [فى] ليلة واحدة، وأصبح إليون محاربا وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب [بها] [1] . فلقى الجند ما لم يلق جند قطّ، حتّى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من عسكره وحده. وأكلوا الدوابّ والجلود وأصول الشجر والعروق [و] الورق، وكلّ شيء حتّى الروث، وسليمان مقيم بدابق ونزل الشتاء، فلم يقدر [على] أن يمدّهم حتّى هلك سليمان. سليمان يحرّض يزيد بذكر فتوح قتيبة فأمّا يزيد بن المهلّب فإنّه أقام ثلاثة أشهر، وكان سليمان بن عبد الملك كلّما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلّب: - «أما ترى ما صنع الله على يدي قتيبة؟» فيقول له يزيد بن المهلّب: - «ما فعلت جرجان [التي] حالت بين الناس والطريق الأعظم وأفسدت قومس وأبر شهر.» ويقول: - «هذه الفتوح ليست بشيء فى جرجان.» وكذلك كانت حال جرجان، لأنّ سعيد بن العاص [527] كان صالح أهل جرجان. ثمّ إنّهم امتنعوا وكفروا، ولم يأتهم أحد بعد سعيد، ومنعوا ذلك الطريق. فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته إلّا بوجل وخوف. كان الطريق من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة بن مسلم. ثمّ غزا مصقلة خراسان فى أيّام معاوية فى عشرة آلاف، فأصيب هو وجنده بالرّويان، فهلكوا فى واد من أوديتها، أخذ العدوّ عليهم بمضائقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمّى: وادي مصقلة، وكان يضرب به المثل: «حتّى يرجع مصقلة من خراسان» .   [1] . لعيب بها: كذا فى الطبري (8: 1316) . وما فى الأصل: لعبت بها. وفى مط: لما تمّ عليها، بدل: لعيب بها. وفى حواشي الطبري عن الأصول: لعيى بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 اهتمام يزيد بن المهلّب بجرجان فلمّا ولى يزيد بن المهلّب لم تكن له همّة غير جرجان. فخرج إلى دهستان [1] ، وبها صول التركىّ مع الأتراك، وهناك جزيرة فى البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهي من جرجان ممّا يلي خوارزم. فكان صول يغير على فيروز مرزبان جرجان، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم، ثمّ يرجع إلى البحيرة ودهستان. فوقع بين فيروز وبين ابن عمّ له يقال له: المرزبان، منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل المياسان [2] ، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلّب [528] وأخذ صول جرجان. فلمّا قدم على يزيد بن المهلّب قال له: - «ما أقدمك؟» قال: - «خفت صولا فهربت منه.» فقال له يزيد: - «هل من حيلة لقتاله؟» قال: - «نعم، وشيء واحد إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده.» قال: - «ما هو؟» قال: - «أن يخرج من جرجان حتّى ينزل البحيرة، فإن أتيته هناك وحاصرته ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال لصول حتّى يقيم بجرجان، واجعل على ذلك جعلا [3] ومنّه، فإنّه يبعث بكتابك إلى صول يتقرّب به إليه، لأنّه يعظّمه، فيتحوّل على جرجان فينزل البحيرة.»   [1] . دهستان: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1318) . وفى تعاليق الطبري عن الأصول: قهستان. [2] . المياسان: كذا فى الأصل. وفى مط: الماسياب. وما فى الطبري: البياسان. [3] . الجعل والجعالة بتثليث الجيم: أجر العامل. ما يعطى للمحارب إذا حارب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 ذكر هذه الحيلة التي احتال بها يزيد بمشورة فيروز حتّى ظفر به فكتب يزيد بن المهلّب إلى صاحب طبرستان: - «إنّى أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت، إن بلغه أنّى أريد ذلك أن يتحوّل إلى البحيرة فينزلها، وإن يتحوّل إليها لم يقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان، فلم يأت البحيرة، حملت إليك خمسين ألف مثقال، فاحتل له بكلّ حيلة حتّى تحبسه بجرجان، فإن أقام ظفرت به.» فلمّا أتى الإصبهبذ الكتاب تقرّب به إلى صول. فلمّا أتى [529] صولا الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها وبلغ يزيد مسيره من جرجان إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها. فخرج إلى جرجان فى ثلاثين ألفا ومعه فيروز، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، وعلى سمرقند وكسّ ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلّب. دخول يزيد بن المهلّب جرجان وأقبل حتّى أتى جرجان ولم تكن يومئذ مدينة، إنّما هي جبال محيطة بها أبواب ومخارم يقوم عليها الرجل فلا يقدم عليه أحد. فدخلها يزيد لم يعازّه أحد، وأصاب أموالا، وهرب المرزبان عمّ فيروز، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، وأناخ على صول، فحاصرهم، وكان صول يخرج إليه فى الأيّام فيقاتله ثمّ يرجع إلى حصنه، حتّى عجزوا وانقطعت عنهم المواد. فأرسل إليه صول يطلب الصلح، فقال يزيد: - «لا إلّا على حكمى.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 فأبى. فأرسل إليه: - «إنّى أصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائة من أهل بيتي وخاصّتى على أن تؤمننا فننزل [1] البحيرة.» فأجابه إلى ذلك. فخرج بماله وغلمانه ممّن أحبّ، وصار مع يزيد. فقتل يزيد من الأتراك جماعة صبرا ومن على آخرين، وقال الجند ليزيد: - «أعطنا أرزاقنا.» فدعا [530] إدريس بن حنظلة العمّى، فقال له: - «يا بن حنظلة، أحص لنا ما فى البحيرة حتّى نعطى الجند.» فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد: - «فيها ما لا يستطاع إحصاؤه فى هذه السرعة. وهناك ظروف. فتحصى الجواليق وتعلم ما فيها، ثمّ تقول للجند: أدخلوا فخذوها. فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من حنطة، أو شعير، أو أرز، أو سمسم، أو عسل، فأثبتناه عليه.» قال: - «نعم ما رأيت.» ففعلوا ذلك، وقال للجند: - «خذوا.» فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابا أو طعاما، أو حمل من شيء فيكتب على كلّ رجل ما أخذ، فأخذوا شيئا كثيرا. طمع يزيد بن المهلّب فى طبرستان ولمّا فرغ يزيد من صول طمع فى طبرستان أن يفتتحها، وهمّ بالمسير إليها. فاستعمل عبد الله المعمر اليشكري على دهستان البياسان، وضمّ إليه أربعة آلاف   [1] . فننزل: كذا فى الأصل. والعبارة فى الطبري (9: 1325) : على أن تؤمّننى فتنزل البحيرة ... فقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 رجل، وسار إلى آخر حدود جرجان مما يلي طبرستان، فاستعمل اندرشان [1] أسد بن عمرو، ويقال: بل ابنا لعبد الله بن المعمّر وضمّ إليه أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فراسله الإصبهبذ يسأله الصلح، وأن يخرج من طبرستان ولا يتوغّلها. فأبى يزيد، ورجا أن يفتتحها. فوجّه أخاه [531] أبا عيينة من وجه وخالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه. وقال: - «إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس.» فسار أبو عيينة فى أهل المصرين ومعه هريم بن أبى طحمة، ووصّى يزيد أبا عيينة بأن يشاور هريما وقال: - «هو ناصح وذو رأى.» وأقام يزيد معسكرا واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان والديلم، فأتوه والتقوا فى سفح جبل، فانهزم المشركون، واتبعهم المسلمون حتّى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون واتّبعهم المسلمون، فرماهم وهم فوقهم بالحجارة والنشّاب، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتّى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكفّ العدوّ عن اتّباعهم. وكتب الإصبهبذ إلى المرزبان ابن عمّ فيروز وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان: - «إنّا قد قتلنا يزيد وأصحابه، فاقتل [2] أنت من فى البياسان من العرب.» فخرج إلى البياسان والمسلمون غارّون فى منازلهم فقتلوا جميعا فى ليلة. وأصبح عبد الله بن المعمّر مقتولا فى أربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحدا [532] وقتل من بنى عمّ يزيد خمسون رجلا، وكتب المرزبان إلى الإصبهبذ:   [1] . اندرشان: كذا فى الأصل ومط. ولعلّه تصحيف «اندرستان» كما فى الطبري (9: 1327) . وهناك تصحيفان آخران أوردا فى حواشي الطبري عن الأصول وهما: أندرسان، أندرسار. [2] . والعبارة فى مط: فاقبل أنت فى الساسان. فخرج إلى البياسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 - «إنّى قد قتلت من عندي من العرب، فخذ أنت المضائق والطرق على من بقي منهم قبلك.» وبلغ يزيد والمسلمين مقتل عبد الله بن المعمّر وأصحابه، فأعظموا ذلك وهالهم. ففرغ يزيد إلى حيّان النبطىّ وقال: - «لا يمنعنّك ما كان منّى إليك من نصيحة المسلمين.» وكان يزيد قد غرّم حيّان مائتي ألف درهم- وسنذكر ذلك- وشكا يزيد إليه ما يرى بالمسلمين من الوهن بما بلغهم عن جرجان ثمّ بما أخذ عليهم الإصبهبذ من الطرق، وقال له: - «اعمل فى الصلح.» قال: - «أفعل.» فأتى حيّان الإصبهبذ وقال له: - «أنا رجل منكم وإن كان الدين فرّق بيني وبينكم، وأنا لك ناصح، فإنّك أحبّ إلىّ على كلّ حال من يزيد، وقد بعث يستمدّ وأمداده منه قريبة، وإنّما أصابوا منه طرفا، ولست آمن أن يأتيك ما لا تقوم له. فأرح نفسك منه وصالحه، فإنّك إن صالحته صيّر حدّه على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا.» فقبل الإصبهبذ منه وصالحه على سبعمائة ألف [000، 700] ، ويروى خمسمائة ألف [533] وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على يد كلّ رجل جام فضّة وسرقة حرير [1] وكسوة. ثمّ رجع إلى يزيد وقال: - «ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه.» قال: - «من عندهم، أو من عندنا؟» قال: - «من عندهم.» وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان. فبعث من   [1] . سرقة حرير: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1229) : سرقة خزّ. السرقة، (وجمعها: السرق) : الشقّة من الحرير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 يحمل ما صالحهم عليه حيّان، وانصرف إلى جرجان. فأمّا سبب تغريم يزيد حيّان مائتي ألف درهم وخوفه أنّه لا يناصحه، فهو أنّ مخلد بن يزيد كان ببلخ ويزيد يومئذ بمرو، وعرض لحيّان ما احتاج فيه إلى مكاتبة مخلد. فأحضر كاتبه وأملى عليه: - «من حيّان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد.» فقال له ابنه مقاتل بن حيّان: - «يا أبه [1] تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك.» فقال: - «نعم يا بنىّ. فإن لم يرض لقى ما لقى قتيبة.» وتمّم كتابه وأنفذه إلى مخلد. فبعث مخلد بالكتاب إلى أبيه يزيد فأغرمه يزيد مائتي ألف درهم. يزيد بن المهلّب يفتح جرجان الفتح الآخر ثم إنّ يزيد بعد انصرافه من طبرستان ومصالحة الإصبهبذ قصد جرجان وأعطى الله عهدا لئن ظفر بهم ألّا يقلع عنهم ولا يرفع السيف [534] حتّى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل منه لغدرهم بجنده ونقضهم لعهده. فلمّا بلغ المرزبان أنّه قد صالح الإصبهبذ وتوجّه إلى جرجان ضاقت به الأرض، فجمع أصحابه وأتى وجاة [2] وتحصّن فيها وصاحبها لا يحتاج إلى عدّة من طعام وشراب، وأقبل حتّى نزل عليها وهم متحصّنون فيها وحولها غياض عظيمة، فليس يعرف لها إلّا طريق واحد. فأقام على ذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لهم ما يأتى إلّا من وجه واحد، فكانوا يخرجون إليه   [1] . يا أبه: كذا ضبط فى الأصل. وأمّا فى مط فضبط: يا أبت. كما فى الطبري 9: 1330. [2] . وجاة (بالتاء المنقوطة) : كذا فى الأصل. وما فى مط: وجا. وفى الطبري: وجاه (بالهاء) وفى تعاليقه عن الأصول وجّاه: (بتشديد الجيم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 فى الأيّام ويقاتلونه ثمّ يرجعون إلى حصنهم. فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عسكر يزيد بن المهلّب إلى الصيد ومعه شاكريّة له، فأبصر وعلا فى الطريق يرقى [1] فى الجبل فاتّبعه وقال لمن معه: - «قفوا مكانكم.» ووقل فى الجبل يتبع الوعل، فما شعر بشيء حتّى اطّلع على عسكر العدوّ، فرجع يريد أصحابه وخاف ألّا يهتدى إن عاد، فجعل يحرق قباءه وعمامته، ويعقد على الشجر علامات حتّى ظفر بأصحابه ينتظرون. [535] ثمّ رجع إلى العسكر وأتى من أوصله إلى يزيد. فلمّا رءاه يزيد قال: - «ما عندك؟» فقال: - «أتريد أن تدخل وجاة [2] بغير قتال؟» قال: - «نعم.» قال: - «جعالتى؟» قال: - «احتكم.» قال: - «أربعة آلاف.» قال: - «بل أضعافها.» قال: - «عجّلوا إلى أربعة آلاف، ثمّ أنتم بعد من وراء الأحساب.» فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال: - «الطريق لا يحتمل هذه الجماعة، لا لتفاف الغياض [3] .»   [1] . يرقى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1331) . وما فى مط: يرمى وهو خطأ. [2] . وجاة: كذا فى الأصل. وما فى الطبري: وجاه (أيضا) وفى مط: فجاة (فجأة؟) . [3] . الغياض: جمع مفرده: الغيضة: مجتمع الشجر فى مغيض الماء. الأجمة. والمغيض مجتمع الماء ومدخله فى الأرض. غاض الماء: نقص. غار. نضب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 فاختار منهم ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال لابنه: - «إن غلبت على الحياة، فلا تغلبنّ على الموت، وإيّاك أن أراك عندي منهزما.» وقال للناس: - «إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا حتّى إذا كان فى السحر فكبّروا، ثمّ توجّهوا نحو باب المدينة فإنّكم تجدوني قد نهضت بجميع الناس إلى بابها.» فلمّا أشرف ابن زحر على المدينة أمهل حتّى إذا كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها، مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا [1] إلّا قتله. وكبّر ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قطّ، لم يرعهم [536] إلّا والمسلمون معهم فى مدينتهم يكبّرون. فدهشوا وأقبلوا لا يدرون أين يتوجّهون. غير أنّ عصابة منهم أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة فدقّت يد جهم وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبّثوهم إلّا قليلا حتّى قتلوهم. يزيد بن المهلّب يدخل باب جرجان ويبرّ يمينه فى أهلها وسمع يزيد بن المهلّب التكبير، فوثب فى الناس إلى الباب، فوجدهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد من يمنعه ولا يدفع عنه كبير دفع. ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجوذع فرسخين عن يمين الطريق وعن يساره، فصلبهم أربعة فراسخ وسبى وأصاب ما كان فيها وقاد أربعين ألفا [000، 40] إلى اندر هرز وادي جرجان وقال: - «من طلبهم بثأر فليقتل.»   [1] . أحدا: تكرّرت الكلمة فى الأصل، فحذفنا إحداهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 فكان الرجل من المسلمين يقتل الجماعة فى الوادي، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ولتبرّ يمينه، فطحن واختبز وأكل. وهي مدينة جرجان، ولم يكن جرجان يومئذ مدينة. وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد العزيز بالفتح، وعظّم [537] ذلك قال: - «إنّ الله فتح لأمير المؤمنين من جرجان وطبرستان ما أعيا سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباذ، وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، ومن بعدهما من خلفاء الله.» وكتب فى الكتاب [1] أن: - «قد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلّ ذى حقّ حقّه من الفيء والغنيمة ستّة آلاف ألف [000، 000، 6] وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله.» ذكر رأى أشير به على يزيد بن المهلّب فلم يقبله فعاد وبالا عليه فقال له كاتبه المغيرة بن أبى قرّة: - «لا تكتب بتسمية مال، فإنّك من ذلك بين أمرين: إمّا استكثره فأمرك بحمله، وإمّا سخت نفسه بذلك به فسوّغكه فتتكلّف له الهديّة ولا يأتيه من قبلك شيء إلّا استقلّه، ويحصّل الكتّاب ما سمّيته فى دواوينهم فيبقى مخلدا عليك، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالتفح وسله القدوم عليه، ثمّ تشافهه بما أحببت وتقصّر فى الكتاب. [538] فإنّك إن تقصّر عمّا أصبت أحرى من أن تكثّر.»   [1] . فى الكتاب: كذا فى الأصل وهو صحيح. ولكن فى مط: اكتساب. وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 فأبى يزيد وأمضى الكتاب. ودخلت سنة تسع وتسعين وفيها توفّى سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال مضين من صفر. فكانت خلافته سنتين وسبعة أشهر. وكانوا يتبرّكون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنّه ذهب عنهم الحجّاج، فأطلق الأسرى وخلّى أهل السجون وأحسن إلى الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 خلافة عمر بن عبد العزيز واستخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز على ما سنحكيه. وهو أنّه لمّا مرض مرضته التي مات فيها، عهد فى كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ. قال رجاء بن حبوة [1] : فقلت: - «ما تصنع يا أمير المؤمنين، إنّه ممّا يحفظ به الخليفة فى قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح.» فقال سليمان: - «أنا أستخير الله وأنظر فيه، ولم أعزم عليه.» قال: فمكث يوما أو يومين، ثمّ خرّقه ودعاني، فقال: - «ما ترى فى داود بن سليمان؟» يعنى ابنه. قلت: - «هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدرى أحيّ [539] هو أم ميّت.» فقال لى: - «فمن ترى؟» قلت:   [1] . حبوة: كذا فى الأصل. والكلمة مهملة فى مط. وما فى الطبري (9: 1341) : حيوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 - «رأيك يا أمير المؤمنين.» - «وأنا أريد أن أنظر من يذكر [1] .» قال: - «كيف ترى فى عمر بن عبد العزيز؟» فقلت: - «أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما.» فقال: - «هو والله على ذلك.» ثم قال: - «والله، لئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه، لتكوننّ فتنة، ولا يتركونه يلي أبدا عليهم إلّا أن يجعل أحدهم بعده.» ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم. قال: - «فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم ويرضون به.» قلت: - «رأيك.» فكتب: - «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. إنّى ولّيتك الخلافة من بعدي. ومن بعدك يزيد بن عبد الملك. فليسمع المؤمنون له وليطيعوا، وليتّقوا الله ولا يختلفوا، فيطمع فيهم.» وختم الكتاب، وبعث به إلى صاحب شرطته يأمره أن يجمع أهل بيته ولمّا اجتمعوا قال سليمان لرجاء: - «اذهب بكتابي إليهم، فأخبرهم أنّه كتابي، ومرهم فليبايعوا من ولّيت فيه.» ففعل رجاء. فلمّا قال رجاء ذلك لهم قالوا: [540]- «ندخل ونسلّم على أمير المؤمنين.» قال: - «نعم.»   [1] . من يذكر: كذا فى الأصل والطبري 9: 1341. وما فى مط: تذكر (بصيغة الخطاب) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 فدخلوا. فقال لهم سليمان: - «فى هذا الكتاب- وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إلى يد رجاء بن حبوة- عهدي. فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سمّيت فى هذا الكتاب.» فبايعوه رجلا رجلا. قال: ثمّ خرج بالكتاب مختوما. قال رجاء: فلمّا تفرّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز، فقال [1] : - «إنّى أخشى أن يكون هذا قد أسند إلىّ شيئا من الأمر. فأنشدك الله وحرمتي ومودّتى إلّا أعلمتنى إن كان ذلك حتّى أستعفيه الآن قبل أن تأتى حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة.» قال رجاء: - «لا والله، ما أنا بمخبرك حرفا.» فذهب عمر غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال: - «يا رجاء، إنّ لى بك حرمة ومودّة قديمة وعندي شكر، فأعلمنى فإن كان إلىّ علمت، وإن كان إلى غيرى تكلّمت، فليس مثلي قصّر به ذلك، ولك الله علىّ ألّا أذكر من ذلك شيئا أبدا.» قال رجاء: فأبيت وقلت: - «لا والله، لا أخبرك حرفا واحدا ممّا أسرّ إلىّ.» قال: فانصرف هشام وقد يئس وضرب بإحدى يديه على الأخرى [541] وهو يقول: - «فإلى من إذا نحّيت [2] عنّى! أتخرج من بنى عبد الملك؟»   [1] . فقال: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: «فقد» بدل «فقال» وهو تصحيف عجيب. [2] . إذا نحّيت: كذا فى الأصل. والضبط فى الطبري (9: 1343) : إذا نحّيت. وفى مط: تجنّب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 قال رجاء: ودخلت على سليمان وهو يجود بنفسه، فلقّنته الشهادة، وحرّفته إلى القبلة، وسجّيته، وأجلست على الباب من أثق به، ووصّيته ألّا يبرح حتّى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. ثمّ خرجت وأرسلت إلى صاحب الشرطة حتّى جمع أهل بيت أمير المؤمنين فى مسجد دابق [1] ، وتوسّطتهم إلى المنبر، وقلت: - «بايعوا!» فقالوا: - «قد بايعنا مرّة ونبايع أخرى.» قلت: - «هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا من سمّى فى هذا الكتاب المختوم.» فبايعوا الثانية رجلا رجلا. فلمّا بايعوا بعد موت سليمان رأيت أنّى قد أحكمت الأمر. قلت: - «قوموا إلى صاحبكم فقد مات.» قالوا: - «إنّا لله وإنّا إليه راجعون.» وقرأت الكتاب عليهم. فلمّا انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز، نادى هشام بن عبد الملك: - «لا نبايعه أبدا.» قلت: - «أضرب والله عنقك. قم فبايع من [2] قد بايعته مرّتين.» فقام يجرّ رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبعي [3] عمر بن عبد العزيز، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع [542] لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه. ولمّا كفّن سليمان وصلّى عليه عمر ودفنه وأتى بمراكب الخلافة من البراذين   [1] . دابق: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: داتو. وهو خطأ. [2] . من: سقطت من مط. [3] . بضبعي عمر: الضبع: وسط العضد. العضد كلّها. الإبط. يقال: أخذ بضبعه: أى أعانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 والخيل والبغال، ولكلّ دابّة سائس مفرد، فقال: - «ما هذا؟» قالوا: - «مراكب الخلافة.» قال: - «دابّتى أوفق لى.» وركب دابّته وصرفت تلك الدوابّ. ثمّ أقبل سائرا. فقيل له: - «منزل الخلافة.» فقال: - «فيه عيال أبى أيّوب- يعنى سليمان- وفى فسطاطى كفاية حتّى يتحوّلوا.» فأقام فى منزله حتّى فرّغوه من بعد. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى العمّال بكلّ بلد بما صار إليه، فأوجز وأحسن. ثم وجّه إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه بخيل عتاق وأموال عظيمة. وعزل يزيد بن المهلّب عن العراق، ووجّه على البصرة عدىّ بن أرطاة الفزارىّ، وبعث على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطّاب من بنى عدىّ بن كعب. فضمّ إليه أبا الزياد [1] ، فكان أبو الزياد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمان. وبعث عدىّ فى إثر يزيد بن المهلّب موسى بن الوجيه [543] الحميري. ودخلت سنة مائة وفيها خرجت الخارجة على عمر بن عبد العزيز بالعراق فكتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطّاب عامله على العراق، يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، صلّى الله عليه، ففعل.   [1] . أبا الزياد: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (91: 1347) : أبا الزناد. ولعلّ هذا هو الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ولمّا أعذر فى دعائهم، بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحروريّة، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك فى جيش من أهل الشام جهّزهم من الرقّة. وكتب إلى عبد الحميد: - «قد بلغني ما فعل جيشك السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخلّ بينه وبينهم.» فلقيهم مسلمة فى أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم. وكان هذا الخارجىّ بسطام من بنى يشكر ويلقّب شوذب، وكان خروجه فى ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة. وكان عمر كتب إلى بسطام يدعوه [1] ويسأله عن مخرجه ويقول فى كتابه: - «بلغني أنّك خرجت غضبا لله ولنبيّه، صلّى الله عليه، ولست بأولى بذلك منّى. فهلمّ [544] أناظرك، فإن كان الحقّ بأيدينا دخلت فى ما دخل فيه الناس، وإن كان فى يدك نظرنا فى أمرك.» فأمسك بسطام عن الحرب ولم يحرّك ساكنا، وكتب إلى عمر: - «قد أنصفت. وقد بعثت إليك رجلين يدار سانك ويناظرانك.» فلمّا وصل الرجلان إلى عمر، أطالا معه حتّى قالا له: - «أخبرنا عن يزيد، لم تقرّه خليفة بعدك.» قال: - «صيّره غيرى [2] .» قالا: - «أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثمّ وكلته [3] إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت   [1] . فى الأصل: يدعوهم. والمثبت يوافق مط والطبري، وهو أنسب. [2] . صيّره غيرى: كذا فى الأصل. وما فى مط: صيّر غيرى (بدون الهاء) . [3] . وكلته: كذا ضبط ما فى الأصل ومط. وضبط فى الطبري (9: 1349) : وكلّته (بتشديد الكاف) وكل إليه الأمر: فوّضه إليه واكتفى به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 أدّيت الأمانة إلى من ائتمنك عليها [1] ؟» فقال: - «أنظرنى ثلاثا.» فخرجا من عنده. وبلغ ذلك مروان، فخافوا أن يخرج ما فى أيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد. فدسّوا إليه من سقاه سمّا. فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلّا ثلاثا حتّى مات. عمر بن عبد العزيز يحبس يزيد بن المهلّب ثم عدنا إلى حديث يزيد بن المهلّب. لمّا أقبل يزيد بن المهلّب فنزل واسطا، ركب منها السفن يريد البصرة. فبعث عدىّ من منعه وأوثقه، ثمّ بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، وكان عمر يبغض يزيد وأهل بيته ويقول: - «هم جبابرة، ولا أحبّ أمثالهم.» وكان يزيد يبغض عمر ويقول: [545]- «إنّى لأظنّه مرائيا.» فلمّا ولى عمر عرف يزيد أنّ عمر كان من الرئاء بعيدا. ولمّا وصل يزيد إلى عمر سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان. فقال: - «كنت من سليمان بالمكان الذي قد علمت، وإنّما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وكنت علمت أنّ سليمان لم يكن ليأخذنى بشيء سمّعت به، ولا بأمر أكرهه.» فقال له: - «لا أجد فى أمرك إلّا حبسك [2] ، فاتّق الله وأدّ ما قبلك، فإنّها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها.» وردّه إلى محبسه.   [1] . عليها: فى الأصل ومط: ائتمنك عليه. فأنّثنا الضمير. [2] . لا أجد ... إلّا حبسك: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: ما أجدك إلّا حسك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وبعث الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فسرّحه إلى خراسان. وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطى الناس، لا يمرّ بكورة إلّا أعطاهم فيها أموالا عظاما، حتّى قدم على عمر بن عبد العزيز. فدخل عليه، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: - «إنّ الله، يا أمير المؤمنين، صنع لهذه الأمّة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمّل ما عليه، فصالحنى على ما [1] إيّاه تسأل.» فقال عمر: - «لا، إلّا أن [2] تحمل جميع ما إيّاه نسأل.» فقال: - «يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بيّنة [546] فخذه بها، وإن لم تكن بيّنة فصدّق مقالة يزيد، وإلّا فاستحلفه [3] ، فإن لم يفعل فصالحه.» فقال عمر: - «ما أجد إلّا أخذه بجميع المال.» فلمّا خرج مخلد من عند عمر، قال: - «هذا خير عندي من أبيه.» ولمّا أبى يزيد أن يؤدّى إلى عمر شيئا، ألبسه جبّة صوف وحمله على جمل وقال: - «سيروا به إلى الدهلك [4] .»   [1] . على ما إيّاه تسأل: كذا فى الأصل. وفى مط: على إيّاه تسأل. فسقطت «ما» . [2] . إلّا أن تحمل: كذا فى الأصل. وما فى مط: إلّا صحان تحمل! وهو خطأ غريب. [3] . استحلفه (بالحاء المهملة) : كذا فى الأصل. وما فى مط: استخلفه (بالخاء المعجمة) وهو خطأ. [4] . دهلك، ويقال: دهنك: جزيرة فى بحر اليمن وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة: بلدة ضيّقة حرجة حارّة كان بنو أميّة إذا سخطوا على أحد نفوه إليها (مراصد الإطلاع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فلمّا أخرج، فمرّ به على الناس أخذ يقول: - «أما لى عشيرة؟ ما لي يذهب بى إلى دهلك! وإنّما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الحارب [1] . سبحان الله! أما لى عشيرة.» فدخل على عمر سلامة بن نعيم الحولاني، فقال: - «يا أمير المؤمنين، اردد يزيد إلى محبسه، فإنّى أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه. فإنّى قد رأيت قومه غضبوا له.» فردّه إلى محبسه. فلم يزل فى محبسه ذلك حتّى بلغه مرض عمر. فأخذ يعمل فى الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنّه قد كان عذّب أصهاره، وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله: لئن أمكنه الله من يزيد ليقطعنّ منه طابقا. فكان يخشى ذلك. فبعث [547] يزيد بن المهلّب إلى مواليه، فأعدّوا له إبلا، وخرج حتّى حاز مراصد عمر. وكتب إلى عمر بن عبد العزيز: - «إنّى والله لو علمت أنّك تبقى ما خرجت من محبسى، ولكنّى لم آمن يزيد بن عبد الملك.» وقد قيل: إنّ يزيد بن المهلّب إنّما هرب من سجن عمر بعد موت عمر. وكانت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر. ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة. ذكر بعض سيرة عمر بن عبد العزيز كان الجرّاح بن عبد الله لمّا ولى خراسان استخرج الجزية من كلّ من اتّهم إسلامه. فكتب عمر إليه: - «أنظر من صلّى إلى القبلة قبلك، فضع عنه الجزية.» فسارع الناس إلى الإسلام. فقيل للجرّاح:   [1] . الحارب (بالحاء المهملة) : كذا فى الأصل. والكلمة ساقطة من مط. وما فى الطبري (9: 1351) : الخارب (بالمعجمة) . والحارب (بالمهملة) : حربه حربا: سلبه جميع ما يملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 - «إنّ الناس قد سارعوا إلى الإسلام. وإنّما ذلك تعوّذ [1] من الجزية، فامتحنهم بالختان.» فكتب الجرّاح بذلك إلى عمر. فكتب عمر إليه: - «إنّ الله بعث محمّدا صلّى الله عليه داعيا ولم يبعثه خاتنا [2] .» وقال عمر: - «أبغونى رجلا صدوقا أسأله عن [548] خراسان.» فقيل له: - «قد أصبته، عليك بأبى مجلز.» وكان الجرّاح لمّا قدم خراسان، كتب إلى عمر: «إنّى قدمت خراسان، فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة، فهم ينزون فيها نزوا. أحبّ الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حقّ الله عليهم، فليس يكفّهم إلّا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلّا بإذنك.» فكتب إليه عمر: - «يا بن أمّ الجرّاح! أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربنّ مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلّا فى حقّ، واحذر القصاص، فإنّك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور [3] ، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها [4] .» وكتب إليه أن: - «احمل معك أبا مجلز [5] ، وخلّف على خراسان عبد الرحمان بن نعيم الغامدى، وعلى جزيتها عبد الله بن حبيب.»   [1] . تعوّذ: كذا فى الأصل. وفى مط: تعود. وما فى الطبري: نفورا. وما فى مط خطأ. [2] . خاتنا: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل غامض و: حابيا؟ خابيا؟. [3] . س 40 الغافر: 19. [4] . س 18 الكهف: 49. [5] . أبا مجلز: كذا فى الأصل. والضبط فى الطبري: أبا مجلز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 ولمّا قدم أبو مجلز لاحق ابن حميد على عمر، وكان رجلا لا تأخذه العين، دخل على عمر فى غمار الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس. فقيل لعمر وقد سأل عنه بأنه: - «دخل مع الناس، ثمّ خرج.» فدعا به عمر، فقال: [549]- «يا با مجلز، إنّى لم أعرفك.» قال: - «فهلّا- يا أمير المؤمنين- أنكرتنى إذ لم تعرفني.» قال: - «أخبرنى عن عبد الرحمان بن عبد الله.» قال: - «يكافئ الأكفاء، ويعادى الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم، إن وجد من يساعده.» قال: - «فعبد الرحمان بن نعيم؟» قال: - «ضعيف ليّن يحبّ العافية، وتأتّى [1] له.» قال: - «الذي يحبّ العافية وتأتّى له أحبّ إلىّ.» فولّاه الحرب والصلاة، وولّى عبد الرحمان القشيري الخراج. وكتب إلى أهل خراسان: - «إنّى استعملت على حربكم عبد الرحمان بن نعيم، وعبد الرحمان بن عبد الله على خراجكم من غير معرفة منّى بهما ولا اختيار إلّا ما أخبرت عنهما، فإن كانا على ما تحبّون فاحمدوا [2] الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.»   [1] . وتأتّى له: كذا فى الأصل والطبري (8: 1356) . وما فى تعاليق الطبري: تأنّى (بالنون) . [2] . فاحمدوا الله (بصيغة الجمع) : كذا فى الأصل. وما فى مط: فاحمد الله (بصيغة المفرد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 ابتداء دعوة بنى هاشم [1] وفى هذه السنة، وهي سنة مائة، وجّه محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس من أرض السراة ميسرة إلى العراق، ووجّه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السرّاج وحيّان العطّار رجال إبراهيم بن سلمة إلى خراسان دعاة، وعلى خراسان [550] يومئذ الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فدعوا إليه وكتبوا بأسماء من استجاب، وبعثوا بالكتاب إلى ميسرة، وبعث به ميسرة إلى محمد بن علىّ. فكان ذلك ابتداء دعوة بنى هاشم. فاختار أبو محمّد الصادق وهو أبو عكرمة السرّاج لمحمّد بن علىّ، اثنى عشر نقيبا منهم: سليمان بن كثير الخزاعىّ، ولاهز بن قريط التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائىّ، وموسى بن كعب التميمىّ، وخالد بن إبراهيم، والقاسم بن مجاشع، وعمران بن إسماعيل، ومالك بن هيثم الخزاعىّ، وطلحة بن زريق، وأبو حمزة عمرو بن أبى أعين، وشبل بن طهمان وهو أبو على الهروىّ، وعيسى بن أعين. ثم اختار سبعين رجلا كتب إليهم محمّد بن علىّ كتابا كالسيرة والمثال يسيرون بها.   [1] . العنوان مستخرج من النص فى الأسطر الآتية من دون أى تغيير. والعنوان فى الطبري (9: 1358) : «أوّل الدعوة» . وفى ابن الأثير (5: 53) : «ذكر ابتداء الدعوة العبّاسيّة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 خلافة يزيد بن عبد الملك ودخلت سنة احدى ومائة وفيها ولى يزيد بن عبد الملك الخلافة، وكنيته أبو خالد، وهو ابن تسع وعشرين سنة فى قول هشام بن محمّد. وفيها قتل شوذب الخارجي [1] . [551] ذكر ذلك قد كنّا ذكرنا خروج من خرج من قبل شوذب لمناظرة عمر. فلمّا مات عمر أحبّ عبد الحميد بن عبد الرحمان أن يتحظّى عند يزيد بن عبد الملك. فبعث بمحمّد بن جرير فى ألفين إلى محاربة شوذب، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر. فلمّا طلع عليهم محمّد بن جرير مستعدّا للحرب، قالوا: - «ما أعجلكم قبل انقضاء المدّة بيننا وبينكم، أليس قد توادعنا إلى أن يرجع الرسولان؟» فأرسل إليه محمّد: - «إنّه لا يسعنا ترككم.»   [1] . الخارجي: كذا فى الأصل. والكلمة ساقطة من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 فقالت الخوارج: - «ما فعل هؤلاء هذا إلّا وقد مات الرجل الصالح.» فبرز لهم شوذب، فأكثروا القتل فى أهل الكوفة وولّوا منهزمين والخوارج فى أكنافهم [1] تقتل حتّى بلغوا أخصاص الكوفة وجرح محمّد بن جرير فى استه. ورجع شوذب إلى موضعه ينتظر صاحبيه. فجاءا فأخبراه بما جرى وبموت عمر. فأقرّ يزيد بن عبد الملك عبد الحميد على الكوفة، ووجّه من قبله تميم بن الحباب [2] فى [552] ألفين، فراسلهم وأخبرهم أنّ يزيد لا يقارّهم على ما فارقهم عليه عمر. فلعنوه، ولعنوا يزيد. ثمّ حاربوه وقتلوه وهزموا أصحابه. فلجأ بعضهم إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد. ووجّه إليهم نجدة بن الحكم الأزدى فى خلق كثير، فقتلوه وهزموا أصحابه. ووجّه إليهم الشحاج [3] بن وداع فى ألفين من أهل البأس والنجدة، فقتلوه وقتل منهم نفرا منهم هدبة اليشكري ابن عمّ شوذب وكان عابدا، وفيهم أبو شبيل مقاتل بن شيبان، وكان فاضلا فيهم سيّدا. دخول مسلمة الكوفة ومقتل شوذب الخارجي فلمّا دخل مسلمة الكوفة فى ما روى هشام شكا إليه أهلها مكان شوذب وخوفهم منه، وما قد قتل منهم. فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي وكان فارسا شجاعا، فعقد له على عشرة آلاف، ووجّهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شوذب لأصحابه: - «من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنّما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنّما البقاء فى الدار الآخرة.» [553]   [1] . أكنافهم: ما فى الأصل مطموس. وفى الطبري (9: 1376) : أعقابهم. والمثبت من مط. [2] . الحباب: ما فى الأصل مهمل. وما فى مط مهمل أيضا إلّا فى الباء الأخيرة. وما ضبطناه يوافق الطبري. [3] . الشحّاج: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط وابن الأثير: السحّاج (بالسين المهملة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 فكسروا أغماد سيوفهم وحملوا، فكشفوا [1] سعيدا وأصحابه مرارا حتّى خاف الفضيحة، فذمر أصحابه وقال: - «أمن هذه الشرذمة- لا أبا لكم- تفرّون؟ يا أهل الشام يوما كأيّامكم!» فحملوا عليهم، فطحنوهم طحنا ولم يبقّوا منهم أحدا وقتلوا شوذبا- وهو بسطام- وفرسانه، والريّان بن عبد الله اليشكري. فرثاهم الشعراء وأكثروا، إلّا أنّا لا نكتب فى هذا الكتاب ما يجرى هذا المجرى، وقد ذكرنا كثيرا منه فى اختيارنا من أشعار العرب. دخول يزيد بن المهلّب البصرة وخلعه يزيد بن عبد الملك وفى هذه السنة لحق يزيد بن المهلّب بالبصرة، فغلب عليها وقد كنّا حكينا هربه من محبس عمر. ولمّا مات عمر وبويع ليزيد بن عبد الملك بلغه هرب يزيد بن المهلّب. فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمان يأمره أن يطلبه ويستقبله. وكتب إلى عدىّ بن أرطاة يعلمه هربه ويأمره أن يطلبه ويستقبله. فأمّا عدىّ بن أرطاة فإنّه أخذ من أولاد المهلّب وعشيرته من وجدهم، فحبسهم. وفيهم: المفضّل، [554] وحبيب ومروان بنو المهلّب، وأفلت محمّد بن المهلّب فلم يقدر عليه. وأقبل يزيد حتّى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمان هشام بن مساحق القرشىّ فى ناس من أهل الكوفة ذوى [2] بأس، ووجوه الناس وأهل القوّة. فقال: - «انطلق حتّى نستقبله، فإنّه اليوم يمرّ بجانب العذيب.»   [1] . فكشفوا: كذا فى الأصل والطبري (9: 1378) . وما فى مط: فكسروا. [2] . ذوى بأس: كذا فى الأصل. وما فى مط ذوو بأس (بالرفع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 فمشى هشام قليلا، ثمّ رجع إلى عبد الحميد، فقال: - «أجيئك به أسيرا، أم آتيك برأسه؟» فقال: - «أىّ ذلك شئت.» فكان من سمع ذلك منه تعجّب له. فلمّا خرج هشام مضى إلى العذيب حتّى نزله. ومرّ به يزيد بن المهلّب غير بعيد، فلم يتجاسر أحد منهما الإقدام عليه حتّى عبروا. ومضى نحو البصرة، وانصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد. فجمع عدىّ بن أرطاة أهل البصرة، وخندق عليها. فقال عبد الملك بن المهلّب لعدىّ بن أرطاة: - «خذ ابني رهينة، واحبسه مكاني وأنا أضمن لك أن أردّ يزيد أخى عن البصرة حتّى يأتى فارس وكرمان ويطلب لنفسه الأمان [555] ولا يقربك [1] .» فأبى عليه. وجاء يزيد مع أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع محمّد بن المهلّب- ولم يكن ممّن حبس- رجالا من قومه وأهل بيته وناس من مواليه. فخرج حتّى استقبله فى كتيبة تهول من رءاها، وكان عدىّ قد بعث على كلّ خمسين من أخماس البصرة رجلا مرضيّا، وأقبل يزيد بن المهلّب لا يمرّ بخيل من خيولهم ولا قبيلة من قبائلهم إلّا تنحّوا له عن السبيل تهيّبا وإعظاما. حتّى انتهى إلى المغيرة بن عبد الله الثقفىّ وهو على الخيل فاستقبله ليردّه. فحمل عليه محمّد بن المهلّب، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه وأقبل يزيد حتّى نزل داره، واختلف الناس إليه. وأخذ يبعث إلى عدىّ بن أرطاة أن: - «ادفع إلىّ إخوتى وأنا أصالحك على البصرة وأخلّيك وإيّاها حتّى آخذ   [1] . يقربك (يقرنك؟) الحرف الرابع مهمل فى الأصل ومط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 لنفسي ما أحبّ من يزيد بن عبد الملك.» فلم يجبه إلى ذلك. وكان خرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلّب يصلح [556] أمر عمّه يزيد. فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسرىّ [1] وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلّب وأهل بيته. وأخذ يزيد بن المهلّب، قبل أن يوافيه حميد، يعطى كلّ من أتاه العطايا العظيمة ويقطع لهم قطع الذهب والفضّة. فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن مسمع ساخطا على عدىّ. وذلك أنّه نزع منه راية بكر بن وائل وأعطاها ابن عمّه. ومالت إلى يزيد ربيعة كلّها وبقيّة تميم وقيس، وناس بعد ناس فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع وناس من أهل الشام. وكان عدىّ لا يعطى إلّا درهمين درهمين ويقول: - «لا يحلّ لى أن أعطيكم من بيت المال درهما إلّا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلّغوا بهذا حتّى يأتى الأمر فى ذلك.» وله يقول الفرزدق: أظنّ رجال [2] الدرهمين يقودهم [3] ... إلى الموت آجال لهم ومصارع فأحزمهم من كان فى قعر بيته ... وأيقن أنّ الأمر لا بدّ واقع وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدىّ، فنزلوا المربد. فبعث إليهم يزيد بن المهلّب [557] مولى له يقال له دارس. فحمل عليهم فهزمتهم. فقال الفرزدق:   [1] . القسري: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: القرى. وهو خطأ. [2] . رجال الدرهمين: كذا فى الأصل وهو الصحيح. وما فى مط: الرجال الدرهمين. وهو خطأ. [3] . يقودهم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1383) : يسوقهم. وكلاهما صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 تفرّقت الجعراء [1] أن صاح دارس ... ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم جزى الله قيسا عن عدىّ ملامة ... ألا صبروا حتّى تكون تلاحم وخرج يزيد بن المهلّب حتّى اجتمع له الناس، حتّى نزل جبّانة بنى يشكر وهو المنصف فى ما بينه وبين القصر. وجاءته تميم وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم محمّد بن المهلّب، فضرب مسور بن عباد الحبطىّ بالسيوف، فقطع أنف البيضة، وأسرع السيف فى وجهه، وحمل على هريم بن أبى طحمة، فأخذ بمنطقته فجذبه عن فرسه وتماسك فى السرج حتّى انقطعت المنطقة، وقال: - «هيهات! عمّك أرزن من هذا.» فانهزم القوم وأقبل يزيد فى أثر القوم يتلوهم حتّى دنا من القصر. وخرج إليه عدىّ بنفسه فى أصحابه، فقاتلوا ساعة وقتل من أصحابه خلق فيهم: الحارث بن مصرّف الأودى، وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجّاج، وقتل موسى بن الوجيه الحميري [558] وقتل جماعة أمثالهم. ثم انهزم أصحاب عدىّ، وسمع أخوه يزيد- وهم فى محبس عدىّ- الأصوات تدنو والنشّاب تقع فى القصر والصحن، فقال لهم عبد الملك: - «إنّى لا أرى يزيد إلّا قد ظهر، ولست آمن من مع عدىّ من مضر ومن أهل الشام أن يأتوا فيقتلونا قبل أن يصل يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثمّ أسندوه. بالثياب والرحل.» ففعلوا، فلم يلبثوا ساعة حتّى جاءهم عبد الله بن دينار مولى بنى عامر وكان على حرس بنى عدىّ. فجاء يشتدّ إلى الباب هو وأصحاب له وقد صنع بنو المهلّب ما قال لهم عبد الملك، ووضعوا متاعا كثيرا على الباب، ثمّ اتّكأوا عليه.   [1] . الجعراء: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1383) : «الحمراء إذ» بدل: «الجعراء أن» . وفى حواشيه عن الأصول: الجفراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وأخذ القوم يعالجون الباب فلا يستطيعون الدخول، وأعجلهم الناس فخلّوا عنهم، وجاء يزيد بن المهلّب حتّى نزل دار سليم بن زياد بن أبى سفيان إلى جانب القصر، وأتى بالسلاليم، فلم يلبث سفيان أن فتح القصر. وأتى بعدىّ بن أرطاة، فجيء به، وخاطبه بما يجرى مجرى التبكيت. ثمّ أمر بحبسه وقال له: - «أما إنّ حبسي إيّاك [559] ليس إلّا لحبسك بنى المهلّب وتضييقك علينا فى ما كنّا نسألك التسهيل عليهم.» ذكر اتّفاق سىّء اتّفق على يزيد بن المهلّب خرج الحوارىّ بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربين من يزيد بن المهلّب فلقى فى طريقه خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلّب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد المهلّب وكلّ شيء أراده. فاستقبلهما فسألاه عن الخبر. فلمّا رأى حميد بن عبد الملك معهما خلا بهما وقال: - «أين تريدان؟» قالا: - «نريد يزيد بن المهلّب، قد جئناه بكلّ شيء يريد ويقترح.» فقال: - «هيهات، قد تجاوز الأمر ذلك وما تقدران أن تصنعا بيزيد أو يصنع هو بكما. قد ظهر على عدوّه عدىّ بن أرطاة وقد قتل سراة الناس ووجوه الفرسان، وحبس [1] عديّا، فارجعا ولا تهديا نفوسكما إلى يزيد.» فعادى مع الحوارىّ بن زياد وأقبلا بحميد معهما إلى يزيد بن عبد الملك. فقال لهما حميد: - «أنشدكم الله أن تخالفا فى أمر يزيد وما بعثتما به، فإنّ يزيد قابل منكما وإنّ   [1] . حبس: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: جلس! وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 هذا [560] وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء. فناشدتكما الله أن تسمعا مقالة هذا فينا.» فلم يقبلا قوله وأقبلا به حتّى دفعاه إلى عبد الرحمان بن مسلم الكلبي، وكان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملا عليها. فلمّا بلغه خلع يزيد بن المهلّب، كتب إلى يزيد بن عبد الملك: - «إنّ جهاد من خالفك [1] أحبّ إلىّ من ولايتي خراسان، فلا حاجة لى فيها، واجعلنى ممّن توجّه إلى يزيد بن المهلّب.» وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطّاب على خالد بن يزيد بن المهلّب وهو بالكوفة، وعلى حمّال [2] بن زحر وليسا ممّن ينطف [3] بشيء، إلّا أنّه أوثقهما لما عرف بين حمّال وبين بنى المهلّب، وسرّح بهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعا ولم يفارقا السجن حتّى هلكا فيه. وبعث يزيد بن عبد الملك رجالا من أهل الشام إلى الكوفة يسكّنونهم ويثنون عليهم بطاعتهم ويمنّونهم الزيادات. ثم إنّ يزيد بن عبد الملك بعث العبّاس بن الوليد بن عبد الملك فى أربعة آلاف فارس جريدة [4] خيل حتّى وافوا الحيرة [561] يبادر إليها يزيد بن المهلّب. أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك فى جنود أهل الشام، فأخذ على الجزيرة على شاطئ الفرات، واستوسق أهل البصرة ليزيد بن المهلّب، وبعث عمّاله إلى الأهواز وفارس. وبعث عبد الرحمان إلى بنى تميم:   [1] . خالفك: كذا فى الأصل وفى مط: خلفك. وهو خطأ. [2] . حمّال بن زحر: كذا فى الأصل والطبري (9: 1389) . وفى حواشيه عن الأصول: جمال بن زجر. [3] . ينطف: كذا فى مط والطبري. وما فى الأصل: تنطف. [4] . الجريدة: جماعة الخيل لا رجّالة فيها وقد جرّدت عن سواها بوجه. قس العبارة بما فى الطبري (9: 1360) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 - «إنّ هذا مدرك بن المهلّب يريد أن يلقى بينكم الحرب وأنتم فى بلاد عافية فى طاعة وعلى جماعة.» فخرجوا ليلا يستقبلونه ويكيدونه. وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو ألفى فارس حتّى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة. فقالوا لهم: - «ما جاء بكم وما أخرجكم إلى هذا المكان؟» فاعتلّوا عليهم بأشياء ولم يقرّوا أنّهم خرجوا ليكيدوا مدرك بن المهلّب. فقال لهم الأزد: - «بل قد علمنا أنّكم لم تخرجوا إلّا لتلقّى صاحبنا وها هو ذا منكم قريب، فما شئتم.» ثم أسرعت الأزد حتّى لقوا مدركا على رأس المفازة، فنصحوا له وأعلموه أنّه يقع فى بلاء لا يدرون ما عاقبته ويشيرون عليه بالانصراف إلى أن يتمّ أمر يزيد.» فقبل ورجع من مكانه. ثم إنّ يزيد بن المهلّب لمّا استجمع له أهل البصرة، صعد المنبر وخطبهم وأخبرهم أنّه [1] يدعوهم [562] إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ويحثّ على الجهاد ويزعم أنّ جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم. فكان الحسن البصري حاضرا. فرفع صوته وقال: - «والله لقد رأيناك واليا ومولّيا [2] عليك، فما ينبغي لك.» فوثب عليه من كان بجنبه، فأخذوا بيده وفمه وأجلسوه، وما شكّ الناس أنّه سمعه ولكنّه لم يلتفت إليه ومضى فى خطبته. ثم إنّ الحسن خرج يخذّل الناس عنه ويقول:   [1] . ما فى الأصل: أنهم. وهو سهو. فصحّحناه كما فى مط والطبري (9: 1391) . [2] . مولّيا: كذا فى الأصل ومط والطبري. وما فى بعض الأصول: مواليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 - «كان بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون [1] يسرّح بها إلى بنى مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم.» فلمّا غضب نصب قصبا ووضع عليه خرقا وقال: - «قد خالفت هؤلاء، فخالفوهم.» وقال: - «إنّى أدعوكم إلى سنّة العمرين، ألا إنّ سنّة العمرين [2] أن يوضع قيد فى رجليه، ثمّ يردّ إلى محبس عمر الذي حبسه فيه.» فقال ناس من أصحابه ممّن سمعوا قوله: - «والله، لكأنّك يا با سعيد راض عن أهل الشام.» فقال: - «أنا راض عن أهل الشام [3] ؟ قبّحهم الله ونزحهم! أليسوا الذين أحلّوا حرم رسول الله، صلّى الله عليه، يقتلون أهله ثلاثة أيّام وثلاث ليال وقد أباحوها لأنباطهم وأقباطهم يحملون الحرائر [563] وذوات الدين لا يتناهون عن انتهاك حرمة، ثمّ خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار.» ثم إنّ يزيد خرج من البصرة، واستخلف عليها مروان بن المهلّب، وقدّم بين يديه عبد الملك بن المهلّب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، وأقبل حتّى نزل واسطا. وكان قبل أن يبلغها استشار أصحابه وقال لهم: - «إنّ أهل الشام قد نهضوا إليكم.» ذكر آراء أشير بها على يزيد بن المهلّب فما عمل بها فقال له حبيب وغيره:   [1] . ترون: كذا فى الأصل والطبري (9: 1392) . وفى مط: يرون. [2] . ألا إنّ سنّة العمرين: العبارة سقطت من مط. وفى الطبري: وإنّ من سنّة العمرين ... [3] . أنا راض عن أهل الشام! هذه العبارة أيضا سقطت من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 - «نرى أن تخرج حتّى تنزل فارس وتأخذ بالشعاب والعقاب وتدنو من خراسان وتطاول القوم، فإنّ أهل الجبال ينقضّون إليك وفى يدك القلاع والحصون.» فقال: - «ليس هذا برأى وليس يوافقني. إنّما تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل.» فقال له حبيب: - «فإنّ الرأى الذي كان ينبغي أن يكون فى أوّل الأمر قد فات. كنت أمرتك حين ظهرت على البصرة أن توجّه خيلا [564] عليها بعض أهل بيتك حتّى يرد الكوفة، فإنّما هو عبد الحميد، مررت به فى سبعين رجلا. فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز فى العدّة، وتسبق إليها أهل الشام وعظم أهلها يرى رأيك ويحبّ أن لا يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني. وأنا اليوم أشير عليك برأى: سرّح مع بعض أهل بيتك خيلا عظيمة، فتأتى الجزيرة وتبادر إليها حتّى تنزل حصنا من حصونها، وتسير فى إثرهم. فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندا من جندك بالجزيرة ويقبلوا إليك. فيقيمون عليهم، فكانوا حابسيهم عنك حتّى تأتيهم ويأتيك [من] [1] بالموصل من قومك وتبذل المال، ويأتيك أهل الجزيرة، وينقضّ إليك أهل العراق وأهل الثغور وتقاتلهم فى أرض رفيغة [2] السعر، وقد جعلت العراق كلّه وراء ظهرك.» فقال: - «إنّى أقطع جندي.» فلمّا نزل واسطا أقام بها أيّاما يسيرة.   [1] . من: سقطت من الأصل ومط. وهي موجودة فى الطبري (9: 1394) . [2] . رفيغة: كذا فى الأصل. وما فى مط والطبري: رفيعة (بالعين المهملة) ، وفى ابن الأثير: رخيصة. والرفيغة من الرفاغية وهي: سعة العيش وخصبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ودخلت سنة اثنتين ومائة قد حكينا ما كان من توجيه يزيد بن عبد الملك، العباس بن الوليد بن عبد الملك [565] ومسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلّب لمحاربته. واستعدّ يزيد للقائهما واستخلف على واسط ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدّم بين يديه أخاه عبد الملك، ثمّ سار حتّى مرّ بفم النيل، ثمّ سار حتّى نزل العقر. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتّى نزل الأنبار، ثمّ عقد عليها الجسر، فعبر من قبل قرية يقال لها: فارط. ثمّ أقبل حتّى نزل على يزيد بن المهلّب وقد قدّم يزيد عبد الملك نحو الكوفة فاستقبله العباس بن الوليد بسورا [1] ، فاصطفّوا. ثمّ اقتتل القوم فشدّ عليهم أهل البصرة شدّة كشفوهم فيها، وقد كان معهم ناس من بنى تميم وقيس ممّن انهزم من يزيد من البصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العبّاس بن الوليد فيهم هريم بن أبى طحمة المجاشعىّ. فلمّا انكشف أهل الشام تلك الانكشافة نادى هريم بن أبى طحمة: - «يا أهل الشام، الله الله! إلى أين؟ أتسلموننا وقد اضطرّهم أصحاب عبد الملك إلى نهر؟» فأخذوا ينادونه: - «لا بأس عليك، إنّ لأهل الشام جولة فى أوّل القتال [566] أتاك الغوث [2] .» ثم إنّ أهل الشام كرّوا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا. وجاءهم عبد الملك حتّى انتهى إلى أخيه بالعقر وسقط إلى يزيد ناس كثير من أهل الكوفة ومن أهل الجبال. فبعث على الأرباع رؤساءهم عبد الله بن المفضّل الأزدىّ، والنعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمّد بن إسحاق بن محمّد بن الأشعث،   [1] . سورا (بالألف المقصورة) : موضع بالعراق من أرض بابل وهي مدينة السريانيّين وقد نسبوا إليها الخمر (معجم البلدان) . [2] . أتاك الغوث: تكررت العبارة فى الأصل، وهي غير مكرّرة لا فى مط ولا فى الطبري (9: 1396) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وحنظلة بن عتّاب بن ورقاء التميمىّ. وجمعهم جميعا مع المفضّل بن المهلّب. فتحدّث علاء بن زهير قال: والله إنّا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: - «أترون أنّ فى العسكر ألف سيف يضرب به؟» قال: فيقول له: حنظلة بن العتّاب: - «إنّهم والله ما ضربوا بألف سيف قطّ، والله لقد أحصى ديوانى مائة وعشرين ألف. والله، لوددت أنّ مكانهم الساعة معى من بخراسان من قومي.» ثم إنّه خطب الناس وحرّضهم، وقال فى كلامه: - «إنّه ذكر لى أنّ هذه الجرادة الصفراء (يعنى مسلمة بن عبد الملك) وعاقر ناقة ثمود (يعنى العبّاس بن الوليد وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمّه [567] روميّة) والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتّى كلّمته فيه فأقرّه على نسبه، فبلغني أنّه ليس يهمّهما إلّا التماسي فى الأرض. والله، لو جاءوا بأهل الأرض جميعا، وليس إلّا أنا، ما برحت العرصة حتّى تكون لى أو لهم.» قالوا: - «إنّا نخاف أن تعنّينا كما عنّانا عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث.» قال: - «إنّ عبد الرحمان فضح الذمار [1] وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله؟» نزل. قال: ودخل عامر العميثل، وهو من الأزد وقد جمع جموعا، فأتاه فبايعه. وكانت بيعة يزيد: - «تبايعوني على كتاب الله وسنّة نبيّه وعلى ألّا يطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا تعاد علينا سيرة الفاسق الحجّاج. ومن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبى جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه.» ثم يقول:   [1] . فضح الذمار: والذمار كل ما يلزمك حمايته والدفاع عنه، وإن ضيّعته لزمك اللّوم. ومن معانيه: الحرم والأهل. وفى مط: فصح الذمار وفصح حسبه (بالصاد المهملة) وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 - «تبايعون؟» فإذا قالوا: «نعم.» بايعهم. ذكر رأى صواب رءاه يزيد فخالفه فيه أصحابه دعا يزيد بن المهلّب رؤساء أصحابه، فقال لهم: - «إنّى قد رأيت أن أجمع اثنى عشر ألف رجل، فأبعثهم مع محمّد بن عبد الملك، حتّى يبيّتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع [1] [568] والأكف والزبل من الخندق الذي حفروه، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقيّة ليلته. وأمدّه بالرجال حتّى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس فناجزتهم. فإنّى أرجو عند ذلك أن ينصرنا الله عليهم.» فقال السميدع (وكان كنديّا [2] يرى رأى الخوارج، قد اعتزل مع طائفة من القرّاء أيّام قتال يزيد مع عدىّ بن أرطاة إلى أن قالت طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدىّ: قد رضينا بحكم السميدع. ثمّ دعاه يزيد إلى نفسه وشرط له العمل بالكتاب والسنّة، فأجابه، واستعمله على الأبلّة فى تلك الأيّام) : - «إنّا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وقد زعموا أنّهم قابلون منّا هذا، فليس لنا أن نمكر ولا أن نغدر. ولا أن نريدهم بسوء حتّى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه منّا.» فقال جماعة من أهل الديانة: - «هكذا ينبغي.»   [1] . البراذع والأكف والزبل: أمّا البراذع جمع مفرده: البرذعة (والدال لغة) : الحلس: البساط من مسح وغيره يلقى تحت الرحل. والأكف: جمع مفرده الإكاف والأكاف والوكاف: البرذعة. والزبل: جمع مفرده الزبيل، الزنبيل: القفّة. الجراب: الوعاء الذي يحمل فيه. [2] . كنديّا: الكلمة غير واضحة فى الأصل، والمثبت من مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 قال يزيد: - «ويحكم! أتصدّقون بنى أميّة أن يعملوا بالكتاب والسنّة وقد ضيّعوا [1] ذلك مذ كانوا! إنّهم لم يقولوا لكم إنّا نقبل منكم، وهم يريدون ألّا يعملوا فى سلطانهم [569] إنّما [2] تأمرونهم وتدعونهم إليه، ولكنّهم أرادوا أن يكفّوهم عنهم حتّى يعملوا فى المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، أبدأوهم بها! إنّى لقيت بنى مروان، فو الله ما لقيت منهم رجلا هو أشدّ تمرّدا ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصفراء.» يعنى: مسلمة. قالوا: - «لا نرى أن نفعل ذلك حتّى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه منّا.» وكان مروان بن المهلّب وهو بالبصرة يحثّ الناس على حرب أهل الشام ويسرّح الناس إلى يزيد. وكان الحسن البصري يثبّط الناس عن يزيد بن المهلّب ويخطب أصحابه بما يقعدهم [3] . فلمّا بلغ ذلك مروان بن المهلّب، قام خطيبا كما كان يقوم، فأمر الناس بالجدّ والاجتهاد والاحتشاد، وقال: - «لقد بلغني أنّ هذا الشيخ الضالّ المرائى- ولم يسمّه- يثبّط عنّا الناس. والله، لو أنّ جاره نزع من خصّ [4] داره قصبة لظلّ يرعف أنفه، وينكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب حقّنا وأن ننكر مظلمتنا! أما والله، ليكفّنّ عن ذكرنا، أو عن جمعه سقّاط الأبلّة وعلوج فرات البصرة، [570] أو لأنحينّ [5] عليه مبردا خشنا. فلمّا بلغ ذلك الحسن قال:   [1] . ضيّعوا: كذا فى الأصل والطبري (9: 1400) . وما فى مط: صنعوا. وهو خطأ. [2] . إنّما تأمرونهم وتدعونهم: كذا فى الأصل. وفى مط: إنّما يأمرونهم ويدعونهم. وما فى الطبري: إلّا ما تأمرونهم وتدعونهم. [3] . أنظر كلام الحسن البصري فى الطبري (9: 1400) . وفى هذا الكتاب وهذا الجزء ص 562- 563. [4] . الخصّ: البيت من قصب أو شجر. البيت يسقف عليه بخشبة كالأزج: البيت يبنى طولا. [5] . لأنحينّ: غير معجم فى الأصل. والإعجام من الطبري. وما فى مط: لا نحير! وهو خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 - «والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه.» فقال ناس من أصحابه: - «والله لو أرادك ثمّ شئت لمنعناك.» فقال لهم: - «قد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه، آمركم أن لا يقتل بعضكم بعضا مع غيرى وأدعوكم أن يقتل بعضكم بعضا دوني!.» فبلغ ذلك مروان، فاشتدّ عليهم وأخافهم، وطلبوا حتّى تفرّقوا، ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكفّ عنه مروان بن المهلّب. وكانت مدّة إقامة يزيد بن المهلّب منذ اجتمع هو ومسلمة ثمانية أيّام. حتّى إذا كان يوم الجمعة الأربع عشرة خلت من صفر، بعث إلى الوضّاح أن يخرج بالوضّاحيّة فى السفن حتّى يحرق السفن التي فى الجسر، ففعل. وخرج مسلمة فعبّى جنود أهل الشام ميمنة وميسرة، وازدلف بهم نحو يزيد، وخرج إليه يزيد فى مثل تعبئته. فحدّث العلاء بن منهال، أنّ رجلا من أهل الشام خرج، فدعا إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد. فبرز إليه محمّد بن عبد الملك، فحمل عليه، فاتّقاه الرجل بيده وعلى كفّه [1] كفّ [571] وساعد من حديد. فضربه محمّد، فقطع كفّ الحديد وأسرع السيف فى كفّه، واعتنق فرسه. وأقبل محمّد يضربه ويقول: - «المنجل أعود عليك من مبارزة الفرسان، عليك بالمنجل!» قال: وذكر أنّه كان حيّان النبطىّ. قال: ولمّا أحرق الوضّاح الجسر وسطع دخانه وقد نشبت الحرب ولم يشتدّ القتال نظر الناس إلى الدخان وقيل لهم: - «أحرق الجسر.»   [1] . سقط من مط قوله: «كفّ وساعد» إلى قوله: «وأسرع السيف» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 فانهزموا. وقيل ليزيد: - «قد انهزم الناس.» قال: - «وممّ انهزموا؟ وهل كان قتال ينهزم من مثله؟» فقيل له: - «أحرق الجسر فلم يثبت أحد.» قال: - «قبّحهم الله.» قال: - «بقّ دخّن عليه فطار.» فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه. فقال [رجل من أهل بيته: - «ينهزمون وهم كالجبال.» فقال:] [1]- «اضربوا وجوه المنهزمين.» ففعلوا ذلك حتّى كثروا عليهم، واستقبلهم [2] منهم مثال الجبال.» فقال: - «دعوهم، فو الله إنّى لأرجو أن لا يجمعني الله وإيّاهم فى مكان واحد أبدا، دعوهم يرحمهم الله. غنم عدا فى نواحيها الذئب.» وكان يزيد لا يحدّث نفسه بالفرار. ولمّا انهزم الناس قال يزيد للسميدع: - «يا سميدع! أصحّ أمر رأيك، ألم أعلمك ما يريد القوم؟» قال: - «بلى، والرأى والله كان رأيك [572] وأنا ذا معك لا أزايلك فمرني بأمرك.» قال:   [1] . ما وضع بين المعقوفتين ساقط من الأصل ولم نجده لا فى الطبري (9: 1403) ولا فى ابن الأثير (5: 82) بل زيادة خاصّة بمط، فأضفناها. [2] . واستقبلهم منهم مثل الجبال: كذا فى الأصل والطبري. وفى ابن الأثير: استقبله أمثال الجبال. أما فى مط فسقطت العبارة ضمن سقوط عبارة أطول تبدأ بقوله: «اضربوا وجوه» وتنتهي بقوله: «فقال» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 - «إمّا لا فانزل.» فنزل فى أصحابه. وجاء يزيد جاء وقال: - «إنّ حبيبا قد قتل.» فقال: - «لا خير فى العيش بعده امضوا بنا قدما.» فعلمنا أنّه مستقتل [1] ، فأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسلّلون، وبقيت مع يزيد بقيّة: جماعة حسنة وهو يزدلف بهم. فكلّما مرّ بخيل أو جماعة من أهل الشام كشفها وعدلوا عن سننه وسنن أصحابه. وأتاه آت وقال له: - «ذهب الناس.» وهو يسرّ إليه وأنا أسمعه. وقال له: - «هل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنّها حصن حتّى تأتيك الأمداد من البصرة وعمان والبحرين فى السفن وتضرب خندقا.» فقال: - «قبّح الله رأيك! ألى تقول ذا؟ الموت أيسر علىّ من ذلك.» فقال: - «ألا ترى من حولك من جبال الحديد؟.» وهو يسرّ إليه. فقال: - « [أمّا] أنا [فما] أباليها [2] ، جبال حديد كانت أم جبال نار. اذهب عنّا إن كنت لا تريد القتال معنا.» وتمثّل: أبالموت خشّتنى عباد [3] وإنّما ... رأيت منايا الناس يسعى دليلها فما ميتة إن متّها [4] غير عاجز ... بعار، إذا ما غالت النفس غولها [573]   [1] . مستقتل: كذا فى الأصل. وما فى مط: مستقبل. وهو تصحيف. والعبارة فى الطبري (9: 1404) : فعلمنا أنّه قد استقتل. [2] . فى الأصل ومط: «فأنا أباليها» . والتصحيح من الطبري. [3] . عباد: كذا فى الأصل بالضبط (أى بضمّ العين) وضبط فى الطبري: «عباد» (بكسرها» . [4] . متّها: كذا فى الأصل والطبري وهو صحيح. وما فى مط: منها! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وكان يزيد بن المهلّب على برذون له أشهب. فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره حتّى إذا دنا منه، دعا مسلمة بفرسه ليركب. فعطفت عليه خيول الشام فقتل يزيد بن المهلّب والسميدع، وقتل أخوه محمّد بن المهلّب. فحكى: أنّ رجلا من كلب يقال له: الفحل بن عيّاش [1] لمّا نظر إلى يزيد قال: يزيد بن المهلّب والفحل بن عيّاش كلّ قتل صاحبه! - «يا أهل الشام، هذا يزيد والله لأقتلنّه، أو يقتلني. إنّ معه ناسا، فمن يحمل معى يكفيني أصحابه حتّى أصل إليه؟» فقال ناس من أصحابه: - «نحن نحمل معك.» ففعلوا، وحملوا بأجمعهم، فاضطربوا ساعة وسطع الغبار وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن الفحل بن عيّاش بآخر رمق. فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، يقول لهم: - «أنا قتلته.» ويومى إلى نفسه أنّه: - «هو قتلني» ! وكان مسلمة لا يصدّق أنّه هو قتله. فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبى معيط.   [1] . الفحل بن عيّاش: كذا فى الأصل. وفى مط: الفحل بن عبّاس. وفى الطبري (9: 1405) : القحل بن عيّاش (بالقاف) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وأبلى يومئذ المفضّل بن المهلّب بعد قتل يزيد وإخوته حتّى ظنّ أنّه يتلافى الأمر وحده مع نفر معه يذمر بهم ويقول لهم: - «غضّوا أبصاركم [574] ولا تلتفتوا، فداءكم أبى وأمّى.» ويحمل الحملات الصادقة حتّى تفرّقت عنه تلك العصابة وبقي وحده. فأخذ الطريق إلى واسط. فقال الناس: - «ما رأينا من العرب رجلا فى مثل منزلته كان أغشى للبأس [1] بنفسه ولا أضرب بسيفه ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه.» وأسر أهل الشام خلقا من أصحاب يزيد، فسرّح بهم إلى محمّد بن عمرو بن الوليد، فحبسهم إلى أن جاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى محمّد بن عمرو أن: - «اضرب أعناق الأسرى.» فقال للعريان بن الهيثم وكان على شرطته: - «أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين.» فقام قوم من بنى تميم وهم لا يدرون ماذا يراد بهم، فقالوا: - «اتّقوا الله وابدأوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فإنّا نحن انهزمنا بالناس.» فقال لهم العريان: - «اخرجوا على اسم الله!» فأخرجهم إلى المصطبّة، ثمّ أرسل إلى محمّد بن عمرو، ويخبره بإخراجهم وبمقالتهم. فبعث إليه أن: - «اضرب أعناقهم.» فتحدّث نجيح [2] مولى زهير قال: والله إنى أنظر إليهم وهم يقتلون وإنّهم ليقولون:   [1] . للبأس: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1407) : للناس. [2] . نجيح: كذا فى الأصل والطبري (بالجيم ثمّ الحاء) وما فى مط: نحيح (بالحائين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 - «إنّا لله، انهزمنا بالناس وهذا جزاؤنا.» فما هو إلّا أن فرغ منهم جاء رسول [575] مسلمة بكتابه فيه النهى عن قتل الأسرى وإطلاقهم. وكان مسلمة ضمن لهم ضمانات وواطأهم إذا رأوا دخان الحريق من الجسر أن ينهزموا بالناس. ففعلوا، ثمّ قتلوا. ولمّا جاء فلّ يزيد إلى واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلّب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا فى يديه، فضرب أعناقهم. منهم: عدىّ بن أرطاة، وابنه محمّد بن عدىّ ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وغيرهم من الأشراف. وكانوا قالوا له: - «ويحك! إنّا لا نراك [1] تقتلنا إلّا أنّ أباك قد قتل، وأنّ قتلنا ليس بنافعك فى الدنيا وهو والله ضارّك فى الآخرة.» فقتلهم كلّهم إلّا ربيع بن زياد بن ربيع بن أنس. فقال له قوم: - «نسيته.» فقال: - «ما نسيته ولكن لم أكن لأقتله وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف، ولست أتّهمه فى ودّ، ولا أخاف بغيه.» ورثى الشعراء يزيد وإخوته المقتولين فأكثروا. وأقبل معاوية بن يزيد حتّى أتى البصرة معه المال والخزائن. وجاء المفضّل، فاجتمع إليه جميع آل المهلّب بالبصرة، وقد كانوا أعدّوا السفن البحريّة وتجهزوا بكلّ الجهاز، لأنّهم كانوا يتخوّفون [576] ما كان، وقد كان يزيد بن المهلّب بعث وداع بن حميد الأزدىّ على قندابيل [2] أميرا، فقال له: - «إنّى قد اخترتك من بين قومي لأهل بيتي، فكن عند حسن ظنّى بك.» وأخذ عليه أيمانا غلاظا، وقال:   [1] . نراك: كذا ضبط فى الأصل. وهذا صحيح، لأنّه لم يسمع مضارع «رأى» بمعنى الظن إلّا مجهولا. [2] . قندابيل: كذا فى الأصل والطبري (9: 1410) . فى مط: فررائيل. وقندابيل مدينة بالسند. قصبة لولاية يقال لها الندهة، من قصدار إليها خمسة فراسخ (مراصد الإطلاع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 - «إنّى سائر إلى هذا العدوّ ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتّى يكون لى، أو لهم، وإن ظفرت أكرمتك، وإن تكن الأخرى ولجأ إليك أهل بيتي كنت فى حصن معهم وآويتهم حتّى يأخذوا لأنفسهم أمانا.» ولمّا اجتمعوا بالبصرة حملوا عيالاتهم وأموالهم فى السفن البحرية، ثمّ لجّجوا فى البحر حتّى مرّوا بمهزّم بن الفزر [1] ، وكان يزيد استعمله على البحرين. فقال لهم: - «أشير عليكم أن لا تفارقوا سفنكم فإنّ ذلك بقاؤكم، وإن خرجتم منها يخطفكم الناس وتقرّبوا بكم إلى بنى مروان.» فخالفوه ومضوا حتّى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم وحملوا عيالهم وأموالهم على الدوابّ. وكان معاوية بن يزيد بن المهلّب حين قدم البصرة بالخزائن والأموال أراد أن يتأمّر عليهم. فاجتمع آل المهلّب، فأمّروا عليهم المفضّل بن المهلّب، وقالوا: - «المفضّل أكبرنا وسيّدنا وإنّما [577] أنت غلام حدث السن كبعض فتيان أهلك.» فلم يزل المفضّل عليهم حتّى خرجوا إلى كرمان وبكرمان فلول كثيرة. فاجتمعوا إلى المفضّل. وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضبّ الكلبى فى طلب آل المهلّب وفى أثر الفلّ. فأدرك مدرك المفضّل بن المهلّب وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس. فاتّبعهم فأدركهم فى عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتدّ قتالهم. فقتل ممن كان مع المفضّل: النعمان بن إبراهيم بن الأشتر، ومحمّد بن إسحاق بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك دهستان أسيرا، وجرح عثمان بن إسحاق، ومحمّد بن الأشعث جراحة   [1] . بمهزم بن الفزر: كذا فى الأصل. وما فى مط: بمهزم بن الفرد. وفى الطبري (9: 1410) : بهرم بن القرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 شديدة وهرب حتّى بلغ حلوان. فدلّ عليه هناك فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة. ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلّب فطلبوا الأمان، فأومنوا، منهم: مالك بن إبراهيم بن الأشتر والزّرد [1] بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمان بن محمّد مواطنه كلّها. ومضى آل المهلّب ومن سقط إليهم إلى قندابيل، وكان مسلمة ردّ مدركا الضبىّ وسرّح فى أثرهم هلال بن أحوز التميمىّ [578] من بنى مازن بن عمرو بن تميم، فلحقهم بقندابيل. فأراد آل المهلّب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد، وكاتب هلال بن أحوز [2] ولم يباين آل المهلّب فيحذروه. فلمّا التقوا للحرب وصفّوا كان وداع بن حميد على الميمنة وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزدىّ. فرفع لهم هلال بن أحوز المازني راية الأمان، فمال إليها وداع بن حميد وغدر بآل المهلّب، وتبعه عبد الملك بن هلال، وارفضّ عنهم الناس فخلّوهم. فلمّا رأى ذلك مروان بن المهلّب ذهب يريد الانصراف إلى النساء، فقال له المفضّل: - «أين تريد؟» قال: - «أدخل إلى النساء من أهلى فأقتلهنّ لئلّا يصل إليهنّ هؤلاء الفسّاق.» فقال: - «ويحك! أتقتل أخواتك وبنات أخواتك ونساء أهلك؟ إنّا والله ما نخاف عليهنّ منهم.» فردّه عن ذلك. ثم مشوا بالسيوف وقاتلوا حتّى قتلوا من عند آخرهم إلّا عيينة بن المهلّب وعثمان بن المفضّل بن المهلّب، فإنّهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل، وبعث   [1] . الزرد: كذا فى الأصل ومط وما فى الطبري (9: 1411) : الورد. [2] . أحوز: كذا فى الأصل والطبري (9: 1412) وما فى مط: أحور (بالحاء المهملة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 برؤوسهم ونسائهم وأولادهم إلى مسلمة بن عبد الملك. منع الجرّاح من بيع ذرّيّة آل المهلّب وقال مسلمة: - «والله لأبيعنّ [579] ذرّيّتهم.» وكانوا فى دار الرزق. فقال الجرّاح بن عبد الله: - «فإنّى أشتريهم منك لأبرّ قسمك.» فاشتراهم منه بمائة ألف درهم. قال: - «هاتها.» قال: - «إذا شئت [فخذها] [1] .» ثم تركها عليه ولم يطالبه بها، وخلّى سبيلهم إلّا تسعة فتية منهم أحداثا بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب أعناقهم. ورثاهم الشعراء. يزيد بن عبد الملك يولّى مسلمة على الكوفة والبصرة وخراسان بعد قتل يزيد بن المهلّب ولمّا فراغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلّب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان فى هذه السنة. وفى هذه السنة وجّه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبى العاص إلى خراسان، وهو الذي يلقّب بسعيد خدينة [2] ، وإنّما استعمله مسلمة لأنّه كان ختنه على ابنته، وقدّم سعيد خدينة قبل شخوصه سورة بن أبجر من بنى دارم، فقدّمها قبله بشهر أو نحوه، واستعمل شعبة بن ظهير   [1] . فخذها: ليست لا فى الأصل ولا فى مط وإنّما أضفناها من الطبري (9: 1414) . [2] . خدينة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1417) : خذينة (بالذال المعجمة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 النهشلىّ على سمرقند، فخرج إليها فى خمسة وعشرين رجلا من أهل بيته. فأخذ على آمل اموية، وأتى بخارى، فصبّحه [1] وصحبه منها مائتا رجل، فقدم السغد وقد [580] كان أهلها ارتدّوا فى ولاية عبد الرحمان بن نعيم، ثمّ عادوا إلى الصلح. فخطب شعبة أهل السغد ووبّخ سكّانها من العرب وغيرهم بالجبن، وقال: - «ما أرى فيكم جريحا ولا أسمع فيكم أنّة.» فاعتذروا بأن جبّنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدىّ وكان على الحرب. قدم سعيد. فأخذ عمّال عبد الرحمان بن عبد الله الذين ولوا أيّام عمر بن عبد العزيز فحبسهم. فكلّمه فيهم قوم فضمّنهم وأطلق عنهم، ثمّ رفع إليه على عمّال يزيد بن المهلّب وهم ثمانية. فأرسل إليهم وحبسهم فى القهندز بمرو، فقيل له: - «إنّ هؤلاء لا يودّون إلّا أن يبسط عليهم.» وكان فيهم جهم بن زهر. فأرسل إليه ثمّ ضربه فى ما بعد. وعزل شعبة بن ظهير عن سمرقند، وولّى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرّف، وكان الناس يضعّفون سعيدا ولقّبوه خدينة [2] . فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك ووجّههم إلى السغد وكان عليهم كورصول، وأقبلوا حتّى نزلوا بقصر الباهلىّ. سبب طمع الترك فى سعيد خدينة وقيل: إنّ سبب طمع الترك أنّ بعض [581] عظماء الدهاقين رأى فى ذلك القصر امرأة من باهلة فهويها، فأرسل إليها فخطبها، فأبت فاستجاش ورجا أن يسبوا فيأخذ المرأة قهرا. فأقبل كورصول فى من معه من الترك حتّى حضر   [1] . فصبّحه: كذا فى الأصل. والكلمة ليست لا فى مط ولا فى الطبري (9: 1418) . [2] . وفى الطبري (9: 1418) : «.. فلقب خذينة. وخذينة هي الدهقانة ربّة البيت.» وفيه (9: 1417) أيضا: وإنّما لقب بذلك فى ما ذكر لأنّه كان رجلا ليّنا سهلا متنعّما. وإنّما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنّه كان ختنه على ابنته. كان سعيد متزوّجا بابنة مسلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 بالقصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريّهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله، وخافوا من الترك، وأشفقوا أن يبطئ عنهم المدد. فصالحوا الترك على أربعين ألفا وأعطوهم من الرجال سبعة عشر نفسا رهينة، وندب عثمان بن عبد الله بن مطرّف الشخّير الناس، فانتدب المسيّب بن بشر الرياحىّ وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبة بن ظهير: - «لو كان هاهنا خيول خراسان بأميرهم ما وصلوا إلى إغاثتهم [1] .» وكان فى من انتدب شعبة بن ظهير وجماعة من الرؤساء، فقال لهم المسيّب بن بشر لمّا عسكروا: - «إنّكم تقدمون على حلبة الترك وهي حلبة خاقان، والعوض إن صبرتم الجنّة، والعقاب إن فررتم النار، فمن أراد الصبر فليقدم.» فانصرف عنه ألف وثلاثمائة، وسار فى الباقين. فلمّا سار قليلا أقبل على الناس وقال مثل [582] مقالته الأولى، فاعتزل ألف. ثمّ قال بعد ما سار فرسخا مثل ذلك فاعتزل ألف آخر، وسار فى سبعمائة، حتّى إذا كان على فرسخين من القوم نزل. فأتاهم من [2] ترك خاقان ملك قىّ [3] ، فقال: - «إنّه لم يبق هاهنا دهقان إلّا وقد تابع [4] الترك غيرى وأنا فى ثلاثمائة مقاتل، فهم معك. وعندي الخبر أنّ القوم قد كانوا صالحوا على أربعين ألفا وأعطوهم سبعة عشر رجلا يكونون فى أيديهم رهنا. فلمّا بلغهم مسيركم إليهم   [1] . إغاثتهم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1422) : غايتهم. وفى حواشيه عن الأصول: غاثتهم. [2] . من: موجودة فى الأصل ومط. وليست فى الطبري. [3] . قىّ: كذا فى الأصل ومط والطبري. وفى بعض الأصول: فىّ. [4] . تابع: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: بايع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 قتل الترك من كان أيديهم من الرهائن.» قال: وكان فيهم نهشل بن يزيد الباهلي فنجا، والأشهب بن عبد الله الحنظلي، وميعادهم أن يقاتلوهم غدا أو يفتحوا القصر. فبعث المسيّب رجلين من العرب ورجلا من العجم من ساعته- وكان ليلا- على خيولهم، وقال: - «إذا قربتم فشدّوا دوابّكم بالشجر واعلموا علم القوم.» فأقبلوا فى ليلة مظلمة وقد أجرت الترك الماء فى نواحي القصر. فليس يصل إليه أحد ودنوا من القصر فصاح بهم [1] الربيئة، فقال: - «لا [583] تصح وادع لنا عبد الملك بن دثار.» فدعوه [2] فقالا له: - «أرسلنا المسيّب وقد أتاكم الغوث.» قال: - «أين هو؟» قالا: - «على فرسخين، فهل عندكم امتناع إلى أن يلحق؟» قال: - «قد أجمعنا على تسليح [3] نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا حتّى نموت جميعا غدا.» فرجعا إلى المسيّب، فأخبراه. فقال المسيّب للذين معه: - «إنّى سائر إلى هذا العدوّ. فمن بايعنى على الموت، وإلّا فليذهب.» فلم يفارقه أحد وبايعوه على الموت. فلمّا أصبح سار وقد زاد الماء الذي أجروه إلى المدينة تحصينا. فلمّا كان بينه وبينهم نصف فرسخ رأى أن ينزل ويبيّتهم. فلمّا أمسى أمر الناس، فشدّوا على خيولهم وركب فحثّهم على الصبر   [1] . بهم: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: بهما (9: 1423) . [2] . فدعوه: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: فدعاه. [3] . تسليح نسائنا: كذا فى الأصل ومط. وفى الطبري: تسليم نسائنا. ولكليهما وجه من الصحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 ورغّبهم فى ما يصير إليه أهل الجهاد والاحتساب والصبر وما لهم فى الدنيا من الغنيمة والشرف إن ظفروا، وما لهم فى الآخرة من الثواب والنعيم الأبدىّ إن قتلوا. ثم قال لهم: - «اكعموا [1] دوابّكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوا وشدّوا شدّة صادقة وكبّروا. وليكن شعاركم: «يا محمّد» ، ولا تتّبعوا مولّيا [584] فتتفرّقوا، وعليكم بالدوابّ فاعقروها، فإنّ دوابّ القوم إذا عقرت أشدّ عليهم منكم. واعلموا أن القليل الصابر خير من الكثير الفشل، وليست لكم قلّة. إنّ سبعمائة سيف لا تضرب بها فى عسكر إلّا أوهنوه وإن كثر أهله.» وعبّأهم ميمنة وميسرة، وساروا حتّى إذا كانوا على غلوتين [2] كبّروا، وذلك فى السحر، وثار الترك وخالطهم المسلمون وانهزموا، فعقر المسلمون الدوابّ. عاد الترك وصابروا، فجال المسلمون وانهزموا، حتّى إذا صاروا إلى المسيّب وتبعهم الترك فضربوا عجز دابّة المسيّب. فترجّل قوم من المسلمين منهم البخترىّ، ومحمد بن قيس الغنوي وزياد الإصبهانىّ، ومعاوية بن الحجّاج وثابت قطنة، وكان على ميسرة المسيّب. فأمّا البخترىّ فقاتل حتّى قطعت يمينه فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذبّ ببدنه حتّى استشهد. واستشهد أيضا محمّد بن قيس، وشلّت يد الحجّاج الطائىّ. ثمّ لم يصبر الترك وانهزموا. وضرب ثابت قطنة عظيما من عظمائهم، فقتله [585] ونادى منادى المسيّب: - «لا تتبعوهم، فإنّهم لا يدرون من الرعب أتبعتموهم أم لا، واقصدوا القصر، ولا تحملوا للقوم شيئا من المتاع إلّا المال، واقصدوا من ضعف عن المشي   [1] . كعم الدابّة: شدّ فمه لئلّا يعضّ أو يأكل، أو لأغراض أخرى. [2] . غلوتين: كذا فى الأصل والطبري (9: 1424) . وما فى مط علوتين (بالعين المهملة) وهو تصحيف. والغلوة: الغاية وهي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 فاحملوه ولا تحملوا من أطاق على المشي.» وقال المسيّب: - «من حمل امرأة أو صبيّا أو ضعيفا حسبة [1] فأجره على الله. ومن أبى فله أربعون درهما. وإن كان فى القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه.» قال: فقصدوا جميعا القصر، فحملوا من كان فيه. وانتهى رجل من بنى فقيم إلى امرأة، فقالت: - «أغثنى [2] أغاثك الله.» فوقف وقال: - «دونك عجز الفرس!» فوثبت، فإذا هي على عجز الفرس، وإذا هي أفرس من رجل يعجب لها من رءاها. وتناول الفقيمىّ بيد ابنها غلاما صغيرا، فوضعه بين يديه وأتوا ملك قىّ [3] ترك خاقان. فأنزلهم قصره، وأتاهم بطعام وقال: - «الحقوا بسمرقند.» ثم قال: - «هل بقي أحد؟» قالوا: - «نعم، هلال الجديدىّ.» فقال: - «لا أسلمه.» فأتاه به، وبه بضع وثمانون ضربة. فاحتمله فبرأ، إلى أن أصيب يوم الشعب مع الجند، ورجع الترك من الغد، فلم يروا فى القصر أحدا ورأوا قتلاهم. فقالوا: - «لم يكن الذين جاءوا [586] بالأمس من الإنس.»   [1] . الحسبة: الأجر والثواب. [2] . أغثنى: كذا فى مط والطبري (9: 1425) وما فى الأصل: أغثتنى. فرجّحنا ما فى مط والطبري. [3] . ملك قىّ: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: ملك فى. وهو تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 فقال بعض من شهد ليلة قصر الباهلي: كنّا فى القصر. فلمّا التقوا ظننّا أنّ القيامة قامت لهول ما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد. غزو سعيد الترك وفى هذه السنة قطع سعيد خدينة نهر بلخ، وغزا الترك، وكانوا قد نقضوا العهد وأعانوا الترك. وذلك بعد ما كلّم الناس سعيدا مرارا وقالوا له: - «تركت الغزو. فقد كثر الترك، وكفر أهل السغد.» فلمّا عبر سعيد وقصد السغد لقيه الترك وطائفة من السغد. فهزمهم المسلمون. وقال سعيد: - «لا تتبعوهم، فإنّ السغد بستان أمير المؤمنين.» فلمّا كان الغد خرجت مسلحة المسلمين- والمسلحة يومئذ من تميم- فما شعروا إلّا بالترك معهم خرجوا عليهم من غيضة، وعلى خيل بنى تميم شعبة بن ظهير، فقتل شعبة. وذاك أنّه أعجل عن الركوب، فقاتلهم راجلا إلى أن قتل، وقتل نحو من خمسين رجلا، وانهزم المسلحة وأتى الناس الصريخ [1] . فقال عبد الرحمان بن المهلّب العدوىّ: كنت أوّل من أتاهم لمّا أتانا الخبر وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة [587] كأنّه قنفذ من النشّاب وقد قتل. ثمّ لحق الناس وحملوا على العدوّ حتّى كفّوهم. وجاء الأمير والجماعة، فانهزم العدوّ. ذكر كلمة صارت سبب حتف كان سعيد عبر النهر مرّتين، فلم يجاوز سمرقند. وكنّا حكينا أنّه لمّا هزم   [1] . الصريخ: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1429) : الصريح (بالحاء المهملة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 المسلمون الترك وأهل السغد ألحّوا [1] فى طلبهم. فنادى منادى سعيد: - «لا تطلبوهم، فإنّ السغد بستان أمير المؤمنين.» وقال سعيد: - «قد هزمتموهم. أفتريدون بوارهم وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرّة، فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع.» وكان سعيد إذا بعث سريّة فأصابوا وغنموا وسبوا ردّ السبي ووبخ السريّة. فقال له يوما حيّان النبطىّ وهو بإزاء العدوّ من أهل السغد: - «أيها الأمير، ناجز العدوّ.» فقال: - «لا، هذه بلاد أمير المؤمنين.» فلمّا انهزم أهل السغد تبعهم حيّان، فقال له سورة بن أبجر: - «انصرف كما أمر الأمير.» فقال: - «أدع عقيرة الله وأنصرف!» [2] فقال له: - «يا نبطىّ!» قال: - «أنبط الله وجهك.» [588] وكان حيّان يكنّى فى الحرب: أبا الهيّاج، وإيّاه عنى الشاعر: إنّ أبا الهيّاج أريحىّ ... للرّيح فى أثوابه دوىّ فحقد عليه سورة [وقال:] [3]- «أنبط الله وجهك.»   [1] . ألحّوا: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: ألحقوا. وهو تصحيف وخطأ. [2] . فى الطبري (9: 1430) : عقيرة الله أدعها وأنصرف؟ وفى ابن الأثير (5: 95) : عقيرة الله لا أدعها. [3] . وقال: سقطت من الأصل وأخذناها عن مط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 ثم خلا بسعيد فقال: - «إنّ هذا العبد أعدى الناس للعرب. قد عصى أمرك، وهو الذي أفسد خراسان على قتيبة وهو واثب بل مفسد عليك خراسان، ثمّ يتحصّن فى بعض هذه القلاع.» قال: - «يا سورة! لا تسمعنّ.» سعيد يقتل حيّان بإطعامه ذهبا ثم مكث أيّاما وقد ثقل سعيد على الناس وضعّفوه، فلم يأمن حيّان. فأمر سعيد بذهب فسحل [1] وألقى فى طعام وناوله حيّان. فلمّا علم أنّه قد حصل فى جوفه ركب وركب معه الناس وفيهم حيّان. فركض أربعة فراسخ فنزل حيّان وعاش أربعة أيّام ومات فى الرابع. وفى هذه السنة عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام. ذكر سبب عزل مسلمة عن العراق وخراسان [589] كان سبب ذلك أنّ مسلمة لمّا ولى أرض العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئا، وكان يزيد بن عبد الملك يريد عزله فيستحييه، فيكتب بتشوّقه. فشاور مسلمة عبد العزيز بن حاتم بن النعمان فى الشخوص إلى يزيد ليزوره [2] فقال له: - «أمن تشوّق بك إليه؟ إنّك لطروب.» قال: - «إنّه لا بدّ من ذاك.» قال: - «إذا لا تخرج من عملك حتّى تلقى الوالي عليه.»   [1] . سحل الذهب أو الفضّة: سحقهما. بردهما. والسحالة: البرادة. [2] . ليزوره: كذا فى الأصل وهو صحيح. وما فى مط: لبروزه. وهو تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 فشخص. فلمّا بلغ دورين لقيه عمر بن هبيرة الفزارىّ على خمس من دوابّ البريد. فدخل عليه ابن هبيرة مسلّما، فقال: - «إلى أين يا ابن هبيرة؟» قال: - «وجّهنى أمير المؤمنين فى حيازة أموال بنى المهلّب.» فلمّا خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز، فجاءه. فقال: - «هذا ابن هبيرة قد لقينا كما ترى.» قال: - «قد كنت أنبأتك.» قال: - «فإنّه إنّما وجّه لحيازة أموال بنى المهلّب.» قال: - «هذا أعجب من الأوّل: يصرف عن الجزيرة ويوجّه فى حيازة أموال بنى المهلّب.» قال: فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عمّاله والغلظة عليهم. فقال الفرزدق: [590] راحت بمسلمة الركاب مودّعا ... فارعى فزارة لا هناك المرتع ولقد علمت لئن فزارة أمّرت ... أن سوف تطمع فى الإمارة أشجع ظهور أمر الدعاة فى خراسان وفى هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم. فسبى سبعمائة أسير وفيها [1] أيضا وجّه ميسرة رسله من العراق إلى خراسان، فظهر أمر الدعاة فيها. وكان سعيد خدينة يومئذ بخراسان، فأتاه آت فقال: - «إنّ ها هنا قوما يدعون إلى إمام لهم وقد ظهر منهم كلام قبيح.» فبعث سعيد   [1] . أى سنة اثنتين ومائة. تجد الرواية فى الطبري أيضا (9: 1434) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 إليهم فقال: - «من أنتم؟» قالوا: - «ناس من التجار.» قال: - «فما الذي يحكى عنكم؟» قالوا: - «لا ندري.» قال: - «جئتم دعاة؟» فقالوا: - «إنّ لنا فى أنفسنا شغلا عن هذا.» فقال: - «من يعرف هؤلاء؟» فجاء قوم من خراسان جلّهم من ربيعة واليمن. فقالوا: - «نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه.» فخلّى سبيلهم. ثم دخلت سنة ثلاث ومائة سبب عزل سعيد خدينة عن خراسان وفيها عزل عمر بن هبيرة سعيد خدينة عن خراسان. وذاك أنّ الناس شكوا [591] سعيد خدينة. فكتب عمر بن هبيرة بذلك إلى يزيد، وكتب بأسماء من أبلى يوم العقر، ولم يذكر سعيد بن عمرو الحرشىّ. فكتب إليه يزيد بن عبد الملك: - «لم لم تذكر الحرشىّ؟ ولّه خراسان!» فولّاه، وخرج سعيد الحرشىّ وقدم خراسان فى سنة ثلاث ومائة والناس بإزاء العدوّ، وقد كانوا نكبوا. فخطبهم وحثّهم على الجهاد وقال: - «إنّكم لا تقاتلون عدوّ الإسلام بكثرة ولا بعدّة، ولكن بنصر الله وعزّ الإسلام.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وكان شاعرا، فقال: فلست [1] لعامر إن لم تروني ... أمام الخيل أطعن بالعوالي وأضرب هامة الجبّار منهم ... بعضب الحدّ حودث بالصقال فما أنا فى الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرجال أبى لى والدي من كلّ ذمّ ... وخالي فى الحوادث غير خال إذا خطرت أمامى حىّ كعب ... وزافت كالجبال بنو هلال وكانت السغد قد أعانت الترك أيّام خدينة. فلمّا وليهم الحرشىّ خافوا [592] على أنفسهم. فأجمع عظماؤهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم: - «لا تفعلوا، أقيموا واحملوا إليه خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما تستقبلون، واضمنوا له عمارة أرضكم، والغزو معه، إن أراد ذلك، واعتذروا إليه ممّا كان منكم، وأعطوه رهائن تكون فى يديه.» قالوا: - «لا نفعل، فإنّه لا يرضى ولا يقبل ذلك منّا. ولكنّا نأتى خجندة فنستجير بملكها ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منه ونوثق له ألّا يرى منّا أمرا يكرهه.» فقال: - «أنا رجل منكم، وما أشرت به فهو خير لكم.» فأبوا وخرجوا إلى خجندة، وخرج كارزنج [2] ، وكشر [3] ، وشاركث [4] ، وثابت   [1] . فلست: فى الأصل ومط: لست. بدون الفاء. والفاء زدناها من الطبري (9: 1439) . [2] . كارزنج: مهملة فى الأصل ومط، فأعجمناها كما فى الطبري (9: 1440) . وفى حواشي الطبري عن الأصول: كازرنج (بتقديم الزاء على الراء) . [3] . كشر: كذا فى الأصل وبعض هوامش الطبري. وفى متن الطبري: كشّين. وفى مط: كشبر. [4] . شاركث: الحرف الأخير مهمل فى الأصل. وما فى الطبري بياركث وفى حواشيه عن الأصول: شاركث، بياركت شاركمت، وفى مط: شادلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 بأهل إشتيخن [1] . وأرسلوا إلى ملك فرغانة، وهو الطار، يسألونه أن يمنعهم وينزلهم مدينته. فأرسل إليهم: - «سمّوا لى رستاقا أفرّغه لكم، وأجّلونى عشرين يوما، وإن شئتم فرّغت لكم شعب عصام بن عبد الله الباهلىّ.» وكان قتيبة خلّفه فيه، فقيل: شعب عصام. فأرسلوا إليه: - «فرّغه لنا.» قال: - «نعم، وليس لكم علىّ عقد ولا جوار حتّى تدخلوه، وإن أتتكم العرب [593] قبل أن تدخلوه لم أمنعهم.» فرضوا، ففرّغ لهم الشّعب. وقد كان هذا الشعب من رستاق أسفرة، وأسفرة يومئذ إلى ولىّ عهد ملك فرغانة وهو بلاذا، وكان قال لهم كارزنج: - «أخيّركم [2] ثلاث خصال إن تركتموها هلكتم. إنّ سعيدا فارس العرب، وقد وجّه على مقدّمته عبد الرحمان بن عبد الله القشيرىّ فى كماة [3] أصحابه، فبيّتوه واقتلوه. فإنّ الحرشىّ إن أتاه خبره لم يغزكم.» فأبوا عليه. قال: - «فاقطعوا إليه نهر الشاش، وسلوه: ما تريدون؟ فإن أجابكم، وإلّا مضيتم إلى سرباب [4] .» قالوا: - «لا.» قال: - «فأعطوهم الخراج.»   [1] . اشتيخن: كذا فى الأصل والطبري. وما فى مط: مهمل من النقط. وفى تعاليق الطبري عن الأصول والنسخ: استخر، اسنحنر (بالإهمال الكامل) ، استحن. [2] . أخيركم (بالياء) : كذا فى الأصل والطبري (9: 1441) . وما فى مط: أخبركم (بالباء الموحدة) . [3] . كماة: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري: حماة. [4] . سرباب: ما فى الأصل مهمل من النقط والإعجام من مط. وما فى الطبري: سوياب. وفى تعاليقه عن الأصول: سوتات، سوبات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 فأبوا. ولحق كار زنج وأهل السغد بخجندة. تمّت المجلدة الثانية من كتاب تجارب الأمم وعواقب الهمم. ويتلوها فى المجلدة الثالثة: «ودخلت سنة أربع ومائة.» والحمد لله ربّ العالمين وصلواته على النبىّ محمّد وآله الطيّبين، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فرغ من انتساخه محمّد بن علىّ بن محمّد أبو طاهر البلخي فى (السابع والعشرين) من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسمائة. وفرغ من انتساخه الحسن بن منصور فى منتصف شوّال سنة ست و ( ... ؟) وفرغ من انتساخه ابنه محمد بن الحسن بن منصور فى ثالث جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 [ المجلد الثالث ] [ تتمة تجارب العصر الأموي ] [ تتمة خلافة يزيد بن عبد الملك ] [2 و 1] بسم الله الرّحمن الرّحيم وحسبنا الله ونعم الوكيل الحمد لله ربّ العالمين، وصلواته على محمّد النّبيّ وآله الأخيار أجمعين ودخلت سنة أربع ومائة فغزا الحرشىّ وقطع النّهر وعرض النّاس، ثمّ سار فنزل قصر الرّيح على فرسخين من الدّبوسية ولم يجتمع إليه جنده، وأمر النّاس بالرّحيل. فقال له هلال بن عليم الحنظلي: - «يا هناه، إنّك وزيرا خير منك أميرا. إنّ الأرض حرب شاغرة برجلها [1] ، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرّحيل.» قال: - «فكيف لى؟» قال: - «تأمر بالنّزول.» فقبل ونزل. وخرج ابن عمّ لملك فرغانة يقال له السّلار [2] إلى الحرشىّ، فقال له: - «إنّ أهل السّغد بخجندة.» وأخبره خبرهم وقال: - «عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشّعب، فليس علينا لهم جوار حتّى يمضى الأجل.»   [1] . شاغرة: كذا فى الأصل والطبري (9: 1442) . وما فى آ: شاعرة. فى مط: ساغرة. [2] . السّلار: كذا فى الأصل ومط. وما فى الطبري (9: 1442) وآ: النيلان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 فوجّه الحرشىّ مع السّلار عبد الرّحمن القشيري فى جماعة، ثمّ ندم بعد ما فصلوا، وقال: - «جاءني علج لا أدرى صدقنى أم كذبني، فغررت بجند من [3] المسلمين.» وارتحل فى أثرهم حتّى نزل بأسروشنة [1] ، فصالحهم على شيء يسير، وسار جادّا مغذّا حتّى لحق القشيرىّ بعد ثالثة، وسار حتّى انتهى إلى خجندة، فاستشار الفضل بن بسّام وقال: - «ما ترى؟» قال: - «أرى المعاجلة.» قال: - «لكنّى لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى من يرجع، أو قتل قتيل إلى من يحمل؟ ولكنّى أرى النّزول والتّأنّى، والاستعداد للحرب.» فنزل، ورفع الأبنية، وأخذ فى التّأهب، فلم يخرج أحد من الغد، فجبّن النّاس يومئذ الحرشىّ وقالوا: «كان هذا يذكر رأيه وبأسه بالعراق، فلمّا صار إلى خراسان ماق.» فحمل رجل من العرب، فضرب بعمود باب خجندة حتّى فتح الباب، وقد كانوا حفروا فى ربضهم وراء الباب الخارج خندقا، وغطّوه بقصب وعلّوه بالتّراب مكيدة، وأرادوا، إذا التقوا، إن انهزموا، أن يكونوا قد عرفوا الطّريق، ويشكل على المسلمين، فسقطوا فى الخندق. فلمّا خرجوا قاتلوهم وأخطئوا هم [2] الطّريق، فسقطوا فى الخندق [4] دهشا فأخرجوا من الخندق أربعين   [1] . أسروشنة (ويقال: أشروسنة) : بلدة كبيرة بما وراء النهر من بلاد الهياطلة بين سيحون وسمرقند بينها وبين سمرقند ستّة وعشرون فرسخا (مراصد الاطلاع) . [2] . وأخطئوا هم: كذا فى الأصل. وفى مط والطبري (9: 1443) : وأخطأوهم. وفى آ: وأخطئوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 رجلا على الرّجل درعان درعان. وحصرهم الحرشىّ ووضع عليهم المجانيق. فأرسلوا إلى ملك فرغانة: - «غدرت بنا.» وسألوه النّصر. فقال: - «أغدر ولا أنصركم. فانظروا لأنفسكم، فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم فى جواري.» فلمّا يئسوا من نصره طلبوا الصّلح وسألوا الأمان، وأن يردّهم إلى السّغد. فاشترط عليهم أن يردّوا ما فى أيديهم من نساء العرب وذراريّهم، وأن يؤدّوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلّف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثنا حلّت دماؤهم. فخرج إليه كارذنج [1] . فقال له: - «إنّ لى إليك حاجة أحبّ أن تشفعني [2] فيها.» قال: - «ما هي؟» قال: - «أحبّ، إن جنى منهم رجل جناية بعد الصّلح، ألّا تأخذنى بما جنى.» فقال الحرشىّ: - «ولى حاجة فاقضها.» قال: - «وما هي؟» قال: - «لا تلحقنّ فى شرطي ما أكره.» ثمّ أخرج التّجّار والملوك من الجانب الشّرقىّ، وترك أهل خجندة الّذين هم   [1] . كارذنج: (هنا بالذال المعجمة وفى ما سبق بالزاء المعجمة) : ما فى الأصل ومط وآ مهمل. والإعجام من الطبري (9: 1444) : وفى بعض المواطن منه: كازرنج، كارزنج (بالزاء) . (9: 1440، 1446) . [2] . أن تشفعني: كذا فى الأصل ومط والطبري. وما فى آ: تسعفنى. ولكليهما وجه من الصّحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 أهلها على حالهم. فقال كارذنج للحرشىّ: - «ما تصنع؟» قال: - «أخاف عليك معرّة [1] [5] الجند.» فكان عظماؤهم مع الحرشىّ فى العسكر، ونزلوا على معارفهم فى الجند، ونزل كارذنج على أيّوب بن أبى حسّان. وبلغ الحرشىّ أنّهم قتلوا امرأة من نساء كنّ [2] فى أيديهم. فقال لهم: - «بلغني أنّ ثابتا صاحب اشتيخنج [3] قتل امرأة ودفنها تحت حائط.» فجحدوا. فأرسل الحرشىّ إلى قاضى خجندة، فنظروا، فإذا المرأة مقتولة. فدعا الحرشىّ بثابت وأرسل كارذنج غلامه إلى باب السّرادق ليأتيه بالخبر، وسأل الحرشىّ ثابتا وغيره عن المرأة، وكان الحرشىّ تيقّن أنّه قتلها من جهات، فقتله. فرجع غلام كارذنج إليه بقتل ثابت. فجعل يعضّ على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارذنج أن يستعرضهم الحرشىّ، فقال لأيّوب بن أبى حسّان: - «إنّى ضيفك وصديقك، ولا يجمل بك أن تقتل ضيفك فى سراويل خلق ربما بدا منه عورته.» قال: - «فخذ سراويلي.» قال: - «وهذا أيضا لا يجمل، أقتل فى سراويلاتكم! ولكن سرّح غلامي إلى ابن أخى يجيئني بسراويل جديد.»   [1] . معرّة: كذا فى الأصل والطبري وآ. وما فى مط: مغرة. والمعرّة: المساءة والإثم. [2] . من نساء كنّ: كذا فى الأصل وآ والطبري. وما فى مط: من يساكن! [3] . اشتيخنج: ما فى الأصل: اشتيخنج (بالإهمال إلّا فى التاء) . وما فى آونمط مهمل تماما. والعبارة فى الطبري (9: 1444) : «بلغني أنّ ثابتا الإشتيخنّى.» فى الجزء الثاني من تجارب الأمم وفى الطبري: اشتيخن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وكان قال لابن أخيه: - «إذا أرسلت إليك أطلب سراويلا، فاعلم أنّه القتل.» فلمّا بعث [6] بالسّراويل، أخرج قديدة [1] خضراء، فقطّعها عصائب، وعصبها برؤوس شاكريّته. ثم خرج هو وشاكريّته، فاعترض النّاس، فقتل خلقا وتضعضع العسكر، ولقى النّاس منه شرّا، حتّى انتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود فى طريق ضيّق، فقتله ثابت. وكان فى أيدى السّغد أسرى من المسلمين، فقتلوا خمسين ومائة، وأفلت منهم غلام، فأخبر الحرشىّ، فأرسل من علم علمهم، فوجد الخبر حقّا، فأمر بقتل من عنده، وعزل التّجّار عنهم، وكان التّجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصّين. فامتنع أهل السّغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم. فكان عدد الحرّاثين خاصّة سبعة آلاف. ثمّ أرسل من يحصى أموال التّجّار، وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل. فاصطفى أموال السّغد وذراريّهم، فأخذ منه كلّ ما أعجبه. ثمّ دعا مسلم بن بديل العدوىّ، فقال: - «قد ولّيتك المقسم.» فقال: - «بعد ما عمل فيه عمّالك ليلة؟ ولّه [2] غيرى.» فولّاه عبيد الله بن زهير بن حيّان العدوىّ، فأخرج الخمس [7] وقسم الأموال، وكتب الحرشىّ إلى يزيد بن عبد الملك ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة. وكان هذا ممّا وجد عليه فيه عمر بن هبيرة.   [1] . قديدة: فى الأصل: فريدة. فى مط والطبري (9: 1445) : فرندة: فأثبتنا ما فى آ، وهو الصحيح. القديدة: الشقّة من الثوب ونحوه. قدّه: شقّه طولا. [2] . ولّه: فى الأصل ومط وآ: ولّها. فى حواشي آوالطبري (9: 1446) : ولّه. وهو الصحيح كما أثبتناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 عجيب ما حكى فى تلك الحال فمن عجيب ما حكى فى تلك الحال أنّ رجلا اشترى جونة [1] بدرهمين من صاحب الأقباض، فانصرف بها. فلمّا حلّها، وجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على وجهه وكأنّه رمد. فردّ الجونة وأخذ الدّرهمين. ثمّ طلب، فلم يوجد. فتح قلعة وسرّح الحرشىّ سليمان بن أبى السّرىّ، وهو مولى لبنى عوافة، الى قلعة ليفتحها. وكان يمرّ بوادي السّغد من وجه واحد، وأنفذ معه خوارزم شاه، وشوكر بن ختلّ [2] ، وعودم [3] صاحب أجرون. فوجّه سليمان بن أبى السّرىّ على مقدّمته المسيّب بن بشر الرياحىّ. فتلقّاه أصحاب القلعة على فرسخ، فقاتله، فهزمهم المسيّب، حتى ردّهم إلى القلعة، فحصرهم سليمان ودهقانها يقال له: ديوشتى [4] فكتب الحرشىّ إلى سليمان يعرض عليه المدد. فأرسل إليه: - «ملتقانا ضيّق، فسر أنت إلى كسّ، فأنا فى كفاية إن شاء الله.» [8] . فلمّا طال الحصار على ديوشتى، طلب النّزول فى أمان. فقال سليمان: - «لا، إلّا على حكم سعيد الحرشىّ.»   [1] . جونة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1446) . فى آ: جوبة. الجونة: سليلة مستديرة مغشّاة بالجلد يحفظ العطار فيها الطيب. [2] . ختل: كذا فى الأصل ومط. فى آ: حنك. فى الطبري: حميك، خنك. [3] . عودم: كذا فى الأصل. فى مط وآ: عوذم (بالذال المعجمة) وفى الطبري: عورم (بالراء المهملة) . [4] . ديوشتى: كذا فى الأصل ومط. ما فى آمهمل، وما فى الطبري (9: 1447) : ديواشنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 فرضي بذلك، ونزل على أن يوجّهه مع المسيّب بن بشير الحرشىّ. فوفى له سليمان، ووجّهه إلى الحرشىّ، فألطفه وأكرمه مكيدة، وطلب أهل القلعة الصّلح بعد مسيره على ألّا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلّمون إليه القلعة. فكتب سليمان إلى الحرشىّ أن يبعث الأمناء لقبض ما فى القلعة، فبعث ثقاته فباعوا ما فى القلعة مزايدة، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم. خروج الحرشىّ إلى كسّ وربنجن وخرج الحرشىّ إلى كسّ، فصالحوه على عشرة آلاف رأس، وصالح دهقانها على أن يوفيه ذلك فى أربعين يوما على ألّا يأتيه. فلمّا فرغ من كسّ خرج إلى ربنجن [1] فقتل ديوشتى، وصلبه على ناؤوس، وكتب على أهل ربنجن كتابا بمائة رأس إن فقد من موضعه، وولّى نصر بن سيّار قبض صلح كسّ، ثمّ عزل سورة بن أبجر، وولّى نصر بن سيّار، وبعث برأس ديوشتى إلى العراق. وكانت خران [2] منيعة لا يطمع فيها [9] فأشير على سليمان أن يوجّه المسربل بن الخرّيت النّاجى، وكان المسربل صديقا لملكها وكان محببا إليهم، فوجّهه، فلما وصل إلى القوم خبّر ملكها بما صنع الحرشىّ بأهل خجندة وخوّفه. قال: - «فما ترى لى؟» قال: - «أن تنزل بأمان.» قال:   [1] . ربنجن: ما فى الأصل وآ مهمل، وما فى مط غير واضح. وما أثبتناه يوافق الطبري. [2] . خران (ويمكن أن تقرأ «خزان» بإعجام الزاء أيضا) : كذا فى الأصل. ما فى مط: حزان. فى الطبري وحواشيه: خراز، حران، حزّان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 - «فما أصنع بمن لحق بى من عوامّ النّاس؟» قال: - «تصيّرهم معك فى أمانك.» فصالحهم، وآمنوه وبلاده، ورجع الحرشىّ إلى مرو ومعه هذا الملك واسمه سبغرى [1] . فلمّا نزل أسباذ [2] ، قتل سبغرى ومعه أمانه. ويقال: إنّ دهقان بن ماخر [3] قدم على ابن هبيرة، فأخذ أمانا لأهل السّغد، فحبسه الحرشىّ بمرو. فلمّا قدم دعا به فقتله وصلبه فى الميدان. فقال راجزهم: إذا سعيد سار فى الأخماس فى رهج يأخذ بالأنفاس دارت على الشّرك أمرّ الكاس وطارت التّرك على الأحلاس ولّوا فرارا عطل [4] القياس وفى هذه السّنة رحل أبو محمّد الصّادق وعدّة من أصحابه من خراسان [10] إلى محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس، وقد ولد له أبو العبّاس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم فى خرقة وقال لهم: - «والله، ليتمّنّ هذا الأمر حتّى تدركوا ثاركم من عدوّكم.»   [1] . سبغرى: كذا فى الأصل. فى مط وآ: سبعرى (بالعين المهملة) . فى الطبري (9: 1448) : سبقرى، سبغرى، سبعرى. [2] . أسباذ: كذا فى الأصل. فى مط: أسباد. ما فى آمهمل. وفى الطبري (9: 1449) : أسنان. وفى هامشه: اسبان، اسناذ. [3] . ماخر: كذا فى الأصل وآ. فى الطبرى (9: 1449) : ماجر. وفى هامشه: ماجد. [4] . عطل: كذا ضبط فى الأصل. والضبط فى الطبري: عطّل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 عزل سعيد بن عمرو الحرشىّ عن خراسان. وفى هذه السّنة، عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشىّ عن خراسان، وولّاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي. ذكر السّبب فى ذلك كان عمر بن هبيرة وجد [1] على الحرشىّ فى أشياء. أحدها أنّه قد كان كتب إليه بتخلية ديوشتى، فقتله، وكتب أمانا لدهقان بن ماخر، فصلبه، وكان يستخفّ بأمر ابن هبيرة، وإذا ورد عليه له رسول قال له: كيف «أبو المثنّى» ، ويقول لكاتبه: «أكتب إلى أبى المثنّى» ولا يقول: «الأمير.» فبلغ ذلك ابن هبيرة، فدعا جميل بن حمران، وقال له: - «قد بلغني أشياء عن الحرشىّ، فأخرج إلى خراسان، وأظهر أنّك قدمت تنظر فى الدّواوين، واعلم لى علمه.» فقدم جميل، فقال له الحرشىّ: - «كيف تركت أبا المثنّى؟» وجعل جميل ينظر فى الدّواوين. فقيل للحرشىّ: - «إنّ جميلا [11] ما قدم للنّظر فى الدّواوين، وما قدم إلّا ليعلم علمك.» فدسّ إليه طعاما مسموما، فأكله ومرض، وتساقط شعره، وبادر بالخروج إلى هبيرة، فعولج واستبلّ وصحّ، فقال لابن هبيرة: - «الأمر أعظم ممّا بلغك، ما يرى سعيد إلّا أنّك بعض عمّاله.» فغضب وعزله وعذّبه، حتّى نفخ [2] فى بطنه النّمل.   [1] . وجد عليه: غضب، وفى الطبري (9: 1453) : إنّ سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشىّ ... » . [2] . نفخ (بالخاء المعجمة) : كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1454) : نفج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وكان سعيد يقول حين عزله عمر: - «لو سألنى ابن هبيرة درهما يضعه على عينه ما أعطيته.» فلمّا عذّب أدّى شيئا كثيرا. فقيل له: - «ألم تزعم أنّك لا تعطيه درهما؟» فقال: - «ما كنت ذقت العذاب [1] .» ذكر السّبب فى ولاية مسلم بن سعيد خراسان لمّا قتل سعيد بن أسلم ضمّ الحجّاج ابنه مسلما مع ولده، وهو مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة بن عمرو بن الصّعق، واسم الصّعق خويلد، فتأدّب ونبل. فلمّا قدم عدىّ بن أرطاة، أراد أن يولّيه لما رأى من أدبه ونبله. فشاور كاتبه فقال- «ولّه ولاية خفيفة، ثمّ ارفعه.» فولّاه ولاية، فقام بها وضبطها [12] وأحسن. فلمّا وقعت فتنة يزيد بن المهلّب، حمل تلك الأموال إلى الشّام. فلمّا قدم عمر بن هبيرة أجمع على أن يولّيه ولاية، فدعاه ولم يكن شاب بعد، ثمّ نظر فرأى شيبة فى لحيته، فكبّر. قال: ثمّ سمر ذات ليلة ومسلم فى سمره، فتخلّف مسلم بعد السّمّار وفى يد ابن هبيرة سفرجلة، فألقاها إليه تحيّة، وقال: - «أيسرّك أن أولّيك خراسان؟» قال: - «نعم.» قال:   [ () ] (بإلجاء المهملة) . [1] . ذقت العذاب: كذا فى الأصل ومط. وما فى آ: ذقت من العذاب. وفى هامش آ: مسّ العذاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 - «أغد [1] إلىّ إن شاء الله.» فلمّا أصبح جلس، ودخل النّاس، فدعا مسلما، وعقد له على خراسان، وكتب عهده، وكتب إلى عمّال الخراج أن يكاتبوا مسلم بن سعيد. فسار مسلم، فقدم خراسان نصف النّهار، ووافى دار الإمارة، فوجد بابها مغلقا، فأتى المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقا، فصلّى. وخرج وصيف من باب المقصورة فقيل له: الأمير. فمشى بين يديه حتّى أدخله مجلس الوالي فى دار الإمارة، وأعلم الحرشىّ بمكانه، فأرسل إليه: - «أقدمت أميرا أو وزيرا أو زائرا؟» فأرسل إليه: - «مثلي لا يقدم خراسان زائرا ولا [13] وزيرا.» فأتاه الحرشىّ، فشتمه، وأمر بحبسه. فقيل له: - «إن أخرجته نهارا قتل.» فحبسه عنده حتّى أمسى، ثمّ قيّده. وبعث مسلم على كورة رجلا من قبله على حربها، وكان ابن هبيرة أخذ قهرمانا ليزيد بن المهلّب، له علمّ بأهل خراسان وبأشرافهم، وأمره أن يكتب له كلّ من عنده مال، وعليه طريق للسّلطان. فلم يدع شريفا إلّا قرفه [2] . فكتب ابن هبيرة إلى مسلم مع أبى عبيدة العنبري يأمره بجباية تلك الأموال. فأراد مسلم أخذ النّاس بتلك الأموال الّتى فرّقت [3] عليهم. فقال له نصحاؤه:   [1] . أغد: كذا فى الأصل وآ. وما فى مط: اعد (مهملة) . [2] . قرفه: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1459) . وما فى مط مهمل. قرفه: عابه واتهمه. [3] . فرّقت: ما فى الأصل مهمل إلّا فى الحرف الأخير. فى آ: قرفت. فى الطبري (9: 1460) : قرفت. وفى هامشه: فرّقت، كما فى مط وكما رجّحناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 - «إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل فى هذا حتّى يوضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان، لأنّ هؤلاء أعيان النّاس، قرفوا بالباطل. إنّما كان على مهزم بن جابر ثلاثمائة ألف، فزادوا مائة ألف، فصار أربعمائة ألف، وعامّة من سمّى لك ممّن كثير عليه، هو بمنزلته.» فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدا فيهم مهزم بن جابر. فلمّا وصلوا قال مهزم بن جابر: [14]- «أيّها الأمير، إنّ الّذى رفع إليك رفع الباطل والظّلم. ما علينا من هذا كلّه إلّا القليل الّذى لو أخذنا، به أدّيناه.» فقال ابن هبيرة: - «إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها.» [1] قال: - «فليقرأ الأمير ما بعده: وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل.» فقال ابن هبيرة: - «لا بدّ من هذا المال.» قال: - «أما والله، إن أخذته لتأخذنّه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم فى عدوّك وليضرّنّ ذلك بأهل خراسان فى عدّتهم وكراعهم وحلقتهم، ونحن فى ثغر نكابد فيه الأعداء لا تنقضي حربهم، وإنّ أحدنا ليلبس الحديد حتّى يلتبس [2] صدأه بجلده، وحتّى إنّ الخادمة التي تخدمه لتصرف وجهها عن مولاها، أو عمّن تخدمه لسهوكة [3] الحديد، وأنتم فى بلادكم متفضّلون فى الرّقاق وفى المعصفرات، والّذين قرفوا بهذه الأحوال وجوه أهل خراسان، و   [1] . س 4 النساء: 58. [2] . يلتبس: كذا فى الأصل. وفى الطبري (9: 1461) : ويخلص صدأه إلى جلده. [3] . سهوكة الحديد: كذا فى الأصل وآ. فى مط: سهولة الحديد. والسهوكة: ريح كريهة تجدها ممّن عرق، أو من اللحم المنتن، وفى الطبري: ريح الحديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 أهل الولايات والكلف العظام فى المغازي، وقبلنا قوم قدموا علينا، فجاؤوا على الحمرات [1] ، فولّوا الولايات، واقتطعوا [15] الأموال، فهي عندهم موفّرة جمّة.» فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بأن يستخرج هذه الأموال ممّن ذكر الوفد أنّها عندهم، وكما ذكروا. فلمّا أتى مسلما كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال فأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذّبهم، ففعل حتى استوفى منهم ما قرفوا به. موت يزيد بن عبد الملك وفى هذه السّنة مات يزيد بن عبد الملك، وكان بالبلقاء من أرض دمشق، وله ثمان وثلاثون سنة، وكانت خلافته فى قول هشام بن محمّد وأبى معشر أربع سنين وشهرا، ويكنّى أبا خالد، وكان صاحب لهو وطرب، وكانت عنده حبابة [2] ، وهي الّتى تسمّى العالية، وسلامة، وهو الّذي طرب يوما فقال: - «أطير والله.» فقالت له حبابة: - «فعلى من تدع الأمّة!»   [1] . الحمرات: كذا فى الأصل وآ والطبري. فى مط: الجرات. [2] . حبابة: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1464) . وما فى مط: حنابه (حنانه؟) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 خلافة هشام بن عبد الملك واستخلف هشام بن عبد الملك أتت هشاما الخلافة وهو بالزّيتونة، فى دويرة صغيرة كانت له. فجاءته الخلافة على البريد، وسلّم إليه العصا والخاتم، وسلّم عليه [16] بالخلافة. فركب هشام من الرّصافة حتّى أتى دمشق. قدوم بكير بن ماهان من السّند وفى هذه السّنة قدم بكير بن ماهان من السّند، وكان بها مع الجنيد بن عبد الرّحمن ترجمانا له. فلمّا عزل الجنيد قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضّة ولبنة من ذهب. فلقى أبا عكرمة الصّادق، وميسرة، ومحمّد بن خنيس [1] ، وسالما الأعين، وأبا يحيى مولى بنى سلمة. فذكروا له أمر دعوة بنى هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق عليهم ما معه، ودخل إلى محمّد بن علىّ، ومات ميسرة، فوجّه محمّد بن علىّ بكير بن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه.   [1] . خنيس: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1467) . وما فى آ: حبيش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 عزل عمر بن هبيرة وفى هذه السّنة عزل هشام بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن العراق، وما كان إليه من عمل المشرق، وولّى ذلك كلّه خالد بن عبد الله القسري. ودخلت سنة ستّ ومائة بب الوقعة بين المضريّة واليمانيّة وربيعة ببلخ وفيها ولد عبد الصّمد بن علىّ، وفيها كانت الوقعة بين المضريّة واليمانيّة وربيعة [1] بالبروقان من أرض بلخ. وكان سبب ذلك [17] أنّ مسلمة بن سعيد غزا، فقطع النّهر، وتباطأ عنه النّاس، وكان ممّن تباطأ عنه البختري [2] بن درهم. فلمّا أتى النّهر ردّ نصر بن سيّار وسليمان بن موسى بن عبد الله بن خازم وبلعاء [3] بن مجاهد بن عبد الله العنبري وجماعة أمثالهم إلى بلخ، وعليهم جميعا نصر بن سيّار، وأمرهم أن يخرجوا النّاس إليه. فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم بن عمرو من دخول بلخ، وكان واليا عليها. فنزل نصر البروقان، وأتاه أهل صغانيان، وأتاه سلمة العقفانى [4] من بنى تميم وحسّان بن خالد الأسدى، وكلّ واحد فى خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابى، وزرعة بن علقمة، سلمة بن أوس، والحجّاج بن هارون النّميرى فى أهل بيته.   [1] . وربيعة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1472) . وفى آ: والربيعية. [2] . البختري: الحرف الاول مهمل فى الأصل. فى مط: البحتري (بالحاء المهملة) وفى آ: الخزي. [3] . بلعاء: كذا فى الأصل. فى مط: بلغا. فى آ: وما فى الطبري (9: 1473) : أيضا بلعاء وفى هامشه: بلعام. [4] . سلمة العقفانى: كذا فى الأصل. فى آ: العفغانى. فى مط: مسلمة العفقانى. فى الطبري (9: 1473) : العقفانى (بالضبط) . وفى حواشي الطبري: العفقانى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 وتجمّعت بكر والأزد بالبروقان رأسهم البختري، وعسكر أيضا بالبروقان على نصف فرسخ منهم. فأرسل نصر إلى أهل بلخ: - «قد أخذتم أعطياتكم، فالحقوا بأميركم، فقد قطع النّهر.» فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم بن عمرو [18] ثمّ تكلّم النّاس المكرهون، فقال قوم من ربيعة: - «إنّ مسلم بن سعد [1] يريد أن يخلع، فهو يكرهنا على الخروج.» واجتمع [2] قوم من تغلب إلى عمرو بن مسلم: - «إنّك منّا.» وقال بعضهم شعرا ينسب فيه باهلة إلى تغلب. فقال عمرو بن مسلم حين عزاه التّغلبى إلى تغلب: - «أمّا القرابة فما أعرفها، وأمّا المنع فسأمنعكم.» فسفر [3] الضحّاك بن مزاحم ويزيد [4] بن المفضّل الحدّانى وكلّما نصرا فى الانصراف. فناشداه بالله، فانصرف. فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري، ونادوا: - «يال بكر [5] .» فكرّ عليهم نصر، فكان أوّل قتيل رجل من باهلة من أصحاب عمرو بن   [1] . مسلم بن سعد: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1473) : مسلم بن سعيد. [2] . فى الطبري (9: 1473) : «فأرسلت تغلب ... » . [3] . فسفر: كذا فى الأصل والطبري وآ ومط. وفى حواشي الطبري: فسافر، فنفر. [4] . كذا فى الأصل ومط وآ والطبري: يزيد. فى هامش الطبري عن بعض الأصول: زيد. [5] . يال بكر فكرّ عليهم: والضبط فى الأصل يالبكر. وفى مط: بالتكبير فكبّر. فى آ: بالتكبير فكرّ. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1474) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 مسلم، وقتل بعده ثمانية عشر رجلا سوى من قتل فى السّكك. وانهزم عمرو بن مسلم إلى القصر، وأرسل إلى نصر: - «ابعث إلى بلعاء بن مجاهد.» فأتاه بلعاء فقال: - «خذ لى أمانا.» فآمنه نصر، وقال [1] : - «لولا أن أشمت بك بكر بن وائل لقتلتك.» وقيل: بل أصابوا عمرو بن مسلم فى طاحونة، وأخذ البختري فى غيضة دخلها، وأخذ زياد بن طريف الباهلي، فضربهم [19] نصر مائة مائة، وحلق رؤوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح. ثمّ إنّ مسلما غزا فى هذه السنّة، وكان خطب فى ميدان يزيد، فقال: - «ما أخلّف بعدي شيئا أهمّ عندي من قوم يتخلّفون بعدي مخلّقى [2] الرّقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين، اللهمّ افعل بهم وافعل، وقد أمرت نصرا ألّا يأخذ متخلّقا [3] إلّا قتله، وما أرى لهم من عذاب ينزله الله بهم.» يعنى عمرو بن مسلم وأصحابه. فلمّا صار ببخارى أتاه الخبر بولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق. ثمّ أتاه كتاب خالد: - «أتمم غزاتك.»   [1] . قال: كذا فى آوالطبري (9: 1475) . ما فى الأصل ومط: قالوا وهو خطأ. [2] . مخلّقى الرقاب: كذا فى آوالطبري (9: 1477) بالخاء المعجمة. فى الأصل: محلفى (بالحاء المهملة) . وما فى مط: مهمل من النقط. [3] . متخلّقا: كذا فى الأصل: متخلّقا. فى آوالطبري (9: 1477) : متخلّفا. فى حواشي الطبري: متخلّفا (كالأصل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 فسار إلى فرغانة، وأتاه الخبر أنّ خاقان قد أقبل، ثمّ أتاه أنّ خاقان معسكر فى موضع كذا. فأمر بالاستعداد للمسير. فلمّا أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل فى يوم. ثمّ سار من غد حتّى قطع وادي السبّوح، وأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بن ابى عبد الله قوما [1] من العرفاء والموالي، فأغار التّرك على ذلك الموضع، وعلى [2] الّذين [20] أنزلهم عبد الله، فقتلوهم، وأصابوا دوابّ لمسلم، وقتل المسيّب بن بشر الرياحيّ، وقتل البراء، وكان من فرسان المهلّب، وقتل أخو غورك، وثار النّاس فى وجوههم، فأخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن ماعز الحماني [3] ، ورحل هو بالنّاس. فسار ثمانية أيام وهم مطيفون بهم. فلمّا كان الليلة التاسعة، أراد النّزول. فشاور النّاس، فأشاروا عليه بالنّزول، وقال: - «إذا أصبحنا وردنا الماء والماء منّا غير بعيد، وإنّك إن نزلت المرج تفرّق النّاس فى الثّمار وانتهب عسكرك.» فقال لسورة بن أبجر: - «ما ترى يا بالعلاء؟» قال: - «أرى ما رأى النّاس.» ونزلوا ولم يرفع بناء فى العسكر، وأحرق النّاس ما ثقل من الأبنية والامتعة، فحرّقوا قيمة ألف ألف وأصبح النّاس، فساروا ووردوا الماء، فإذا دون النّهر   [1] . قوما: سقطت من مط وهي موجودة فى الأصل وآ. [2] . على: سقطت من مط وهي موجودة فى الأصل وآ. [3] . الحماني: (بكسر الحاء المهملة) : كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1479) : الخمّانى (بكسر الخاء المعجمة وتشديد الميم) ، وفى حواشي الطبري: الجمانى (بالجيم المعجمة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 أهل فرغانة والشّاش. - قال مسلم بن سعيد: - «أعزم على كلّ رجل إلّا اخترط سيفه.» ففعلوا، فسارت الدّنيا كلّها سيوفا. فتركوا [1] الماء، وعبروا. فأقام يوما، ثم [21] قطع من غد، واتّبعهم ابن لخاقان. قال: فأرسل حميد بن عبد الله وهو على السّاقة إلى مسلم: - «قف لى ساعة، فإنّ خلفي مائتي رجل من التّرك، حتّى أقاتلهم.» وهو مثقل جراحة. فوقف النّاس، وعطف على التّرك، فأسر أهل السّغد وقائدهم وقائد التّرك فى سبعة، وانصرف البقيّة، ورمى حميد بنشّابة فى ركبته فمات. وعطش النّاس بعد قطع النّهر، وكان عبد الرّحمن بن نعيم الغامدى [2] حمل عشرين قربة على إبله. فلمّا رأى جهد النّاس أخرجها، فشربوا جرعا، واستسقى يوم العطش مسلم بن سعيد، فأتوه بإناء، فأخذه جابر، أو حارثة بن كثير من فيه. فقال مسلم: - «دعوه، فما نازعنى شربتى إلّا من حرّ دخله.» فأتوا خجندة، وقد أصابتهم شدّة ومجاعة. فانتشر النّاس، وورد الخبر بولاية أسد بن عبد الله خراسان، ولّاه خالد القسرىّ وعزل مسلم بن سعيد. فبينا النّاس بخجندة إذا فارسان يركضان ويسألان عن عبد الرّحمن بن نعيم، فأتياه بعهده من أسد بن عبد الله [22] فأقرأه عبد الرّحمن مسلما، فقال: - «سمعا وطاعة.»   [1] . فتركوا: كذا فى الأصل. فى مط: ونزلوا. وفى آ: فزلوا وكلاهما خطأ. [2] . الغامدى (بالغين المعجمة) : كذا فى الأصل. وما فى مط وآ: العامدى (بالعين المهملة) . وفى الطبري (9: 1479) . العامري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 فكان عبد الرّحمن أوّل من اتّخذ الحياض فى مفازة آمل [1] . وقيل: إنّ أعظم النّاس غناء يوم العطش إسحاق بن محمّد الغدانى. وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولّاه خراسان: - «ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنّه لسانك والمعبّر عنك، وحثّ صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمّال العذر.» قال: «ومن عمّال العذر؟» قال: - «مر أهل كلّ بلد أن يختاروا لأنفسهم. فإذا اختاروا رجلا فولّه، فإن كان خيرا كان لك، وإن كان شرّا كان لهم دونك وكنت معذورا.» توبة بن أبى أسيد وما كان منه وكان مسلم بن سعيد كتب [2] إلى ابن هبيرة واستدعى منه توبة بن أبى أسيد مولى بنى العنبر، فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة: - «احمل إلىّ توبة بن أبى أسيد.» فحمله، فقدم، وكان جميلا وسيما جهيرا له سمت. فلمّا دخل على ابن هبيرة قال:- «مثل هذا فليولّ.» ووجّه به إلى مسلم. فلمّا ورد عليه، قال له مسلم: - «هذا خاتمي، فاعمل برأيك.» فلم يزل معه حتّى قدم أسد [3] بن عبد الله، [23] فأراد توبة أن يشخص مع مسلم. فقال له أسد:   [1] . مدينة مشهورة فى غربىّ جيحون فى طريق بخارى من مرو. [2] . كتب: كذا فى الأصل ومط. وما فى آ: وجّه. [3] . أسد: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1489) . وما فى مط وحواشي الطبري: أسيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 - «أقم معى، فأنا أحوج إليك من مسلم.» فأقام معه، فأحسن إلى النّاس، وألان جانبه، وأجمل مع الجند وأعطاهم أرزاقهم. فقال له أسد يوما: - «أحلفهم بالطّلاق، لا يتخلّف أحد عن مغزاه، ولا يدحل [1] بديلا سواه.» فأبى ذلك توبة ولم يره صوابا وأحلفهم بأيمان أخر. فلمّا قدم عاصم بن عبد الله، أراد أن يحلّف النّاس بالطّلاق، وقالوا: - «نحلف بأيمان توبة.» فهم يعرفون ذلك له. حجّ هشام بن عبد الملك وما استحسن له فى هذا الحجّ وحجّ بالنّاس فى هذه السّنة هشام بن عبد الملك. فممّا [2] استحسن له ما تحدّث به ابن أبى الزّناد عن أبيه، قال: كتب إلىّ هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن أكتب لى سنن الحجّ. فكتبتها له. قال أبو الزّناد: فتلقّيته [3] ، فإنّى لفى موكبه أسير خلفه، إذ لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفّان. فنزل له، وسلّم عليه، ثمّ سار إلى جنبه. فصاح هشام: - «أبو الزّناد!» فتقدّمت، فسرت إلى جانبه الآخر، فأسمع سعيدا يقول:   [1] . لا يدحل: كذا فى الأصل. والدحل: الدهاء فى كيس وحذق. والمداحلة: المخادعة. ولكنّ ما فى الطبري (9: 1482) ومط وآ: يدخل (بالخاء المعجمة) . [2] . فمما: كذا فى الأصل وآ. فى مط: فما (من دون «من» ) . [3] . فتلقّيته: كذا فى الأصل ومط. فى آ: فلقيته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 - «يا أمير المؤمنين، إنّ [1] الله [24] لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون أبا تراب فى هذه المواطن الصّالحة. فأمير المؤمنين ينبغي أن يلعنه فى هذه المواطن الفاضلة.» قال: فشقّ على هشام، وثقل عليه كلامه، ثمّ قال: - «إنّا ما قدمنا لشتم أحد ولا لعنه، إنّما قدمنا حجّاجا.» ثمّ قطع كلامه، وأقبل علىّ، فقال: - «يا عبد الله بن ذكوان، فرغت ممّا كتبت إليك؟» قلت: - «نعم.» قال: أبو الزّناد: وثقل على سعيد، ما حضرته يتكلّم به عند هشام، فرأيته منكسرا كلّما رآنى. هشام بن عبد الملك وظلامة إبراهيم وألسنة قريش وفى هذه السّنة أيضا كلّم إبراهيم بن محمّد بن طلحة هشام بن عبد الملك وهشام قد صلّى فى الحجر، فقال له: - «أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الّذى خرجت معظّما [2] له ولحقّه لمّا رددت علىّ ظلامتي.» قال: - «أىّ ظلامة؟» قال: - «دارى.» قال: - «فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟» قال: - «ظلمني.» قال:   [1] . سقطت من مط من قوله: «إن الله» إلى قوله: «بيت أمير المؤمنين» . [2] . معظّما: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1483) : معظّما. فى آ: تعظيما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 - «فعن الوليد بن عبد الملك؟» قال: - «ظلمني.» قال: - «فعن سليمان بن عبد الملك؟» قال: - «ظلمني.» قال: - «فعن عمر بن عبد العزيز؟» قال: - «رحمة الله عليه، لقد ردّها.» قال: - «فعن يزيد بن عبد الملك؟» [25] قال: - «هو قبضها منّى وظلمني بعد قبضي لها وهي اليوم فى يديك.» قال هشام: - «أما والله، لو كان فيك ضرب لضربتك.» قال إبراهيم: - «فىّ والله ضرب بالسّيف وبالسّوط.» فانصرف هشام، والأبرش خلفه. فقال: - «أبا مجاشح، كيف سمعت هذا اللسان [1] ؟» قال: - «ما أجود لسانه!» قال: - «هذه قريش وألسنتها، ولا يزال فى النّاس بقايا، ما رأيت مثل هذا.» قدوم أسد خراسان وكنّا حكينا قدوم خالد بن عبد الله العراق أميرا، وأنّه ولّى أخاه أسد بن عبد الله خراسان. فقدمها ومسلم غاز بفرغانة. فذكر عن أسد أنّه لمّا أتى النّهر ليقطعه، منعه الأشهب بن عبد الله بن تميم أحد بنى غالب، وكان على السّفن   [1] . اللسان: كذا فى الأصل ومط والطبري. فى آ: الإنسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 بآموية [1] . فقال أسد: - «أقطعنى.» قال: - «لا سبيل إلى إقطاعك، لأنّى نهيت عن ذلك.» فقال: - «لاطفوه وأطمعوه.» فأبى. فقال له: - «فإنّى الأمير.» - «ففعل حينئذ فقال له أسد: - «اعرفوا هذا حتّى نشركه [2] فى أمانتنا.» فقطع النّهر وأتى السّغد، فنزل مرج السّغد، وعلى خراج سمرقند هانئ بن أبى هانئ. فخرج فى النّاس يتلقّى أسدا. فلقوه بالمرج وهو جالس [26] على حجر. فتطيّر النّاس وقالوا: - «أسد على حجر، ما عند هذا خير.» فقال له هانئ: - «أقدمت أميرا؟» قال: - «نعم، وما معى إلّا ثلاثة عشر درهما هي فى كمّى، وإنّما أنا رجل منكم.» ودخل سمرقند، وبعث رجلين معهما عهد عبد الرّحمن بن نعيم على الجند، وكان عبد الرّحمن يومئذ على السّاقة، فدفعا إليه العهد والكتاب بالقفول و   [1] . بآمويه: كذا فى الأصل ومط: آمويه. وفى آ: بآمل آمويه. وفى الطبري (9: 1484) : بآمل. آمل، آمل زم (رم؟) ، آمل جيحون، وآمل الشطّ (البطّ؟) ، وآمل المغازة، وآمو، وآمويه، كلّها واحدة: مدينة فى غربىّ جيحون فى طريق بخارى من مرو (انظر مراصد الاطلاع ومعجم البلدان) . وهناك مدينة أخرى مسماة بآمل، فى طبرستان جنوبي بحر الخزر. [2] . نشركه: كذا فى الأصل ومط من دون شكل. وما فى الطبري (9: 1484) : نشركه (بفتح الراء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 الإذن لهم. فقرأ الكتاب، وأتى به مسلم بن سعيد وبعهده [1] . فقال مسلم: - «سمعا وطاعة.» فقام عمرو بن هلال السّدوسى، فقنعه سوطين لما كان منه إلى بكر بن وائل بالبروقان، وشتمه حسين بن عثمان بن بشر بن المحتفر [2] . فغضب عبد الرّحمن بن نعيم، وزجرهما، وأغلظ لهما، ثمّ أمر بهما فدفعها، وقفل بالنّاس، وشخص معه مسلم. فلمّا قدموا على أسد، وهو بسمرقند، شخص أسد إلى مرو، وعزل هانئا، واستعمل على سمرقند الحسن بن أبى العمرّطة من ولد آكل المرار. فقدمت على الحسن امرأته وهي الجنوب بنت القعقاع بن الأعلم سيّد الأزد [27] ويعقوب بن القعقاع قاضى خراسان. فخرج يتلقّاها، وغزاهم التّرك، فقيل له: - «هؤلاء التّرك قد أتوك.» وكانوا سبعة آلاف. فقال: - «ما أتونا، ولكن أتيناهم، وغلبناهم على بلادهم، واستعبدناهم. وأيم الله، مع هذا، لأدنيّن بعضكم من بعض، ولأقرننّ نواصي خيلكم بنواصي خيلهم. ثمّ خرج، فتباطأ حتّى أغار التّرك وانصرفوا. فقال النّاس: - «خرج إلى امرأته فتلقّاها [3] مسرعا. وخرج إلى العدوّ متباطئا.» فبلغه ذلك، فلم يحتملها فخرج إليهم، وخطبهم وقال: - «تقولون وتعيبون. اللهم اقطع آثارهم، وعجّل أقدارهم، وأنزل بهم   [1] . وبعهده: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1485) : وبعهده فى آ: وتعهده. [2] . المحتفر: كذا فى الأصل. ما فى مط: غير واضح. والحرفان الأخيران مهملان فى آ. وما فى الطبري (9: 1485) : المحتفز (بالزاء المعجمة) . [3] . فتلقّاها مسرعا: كذا فى الأصل ومط وآ: فتلقّاها. ما فى الطبري (9: 1487) : يتلقاها مسرعا. وفى تعاليقه: مسرعا يتلقّاها (بالتقديم والتأخير) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 الضرّاء، وارفع عنهم السرّاء.» فشتم النّاس جهرا وشتموه سرّا. خطيب يحصر وكان استخلف حين خرج إلى التّرك ثابت قطنة، وكان خطيبا شاعرا. فلمّا خطب الناس حصر فقال: - «من يطع الله ورسوله فقد ضلّ!» وأرتج عليه، فلم ينطق بكلمة. فلمّا نزل عن المنبر قال: فإلّا أكن فيكم خطيبا فإنّنى ... بسيفي، إذا جدّ الوغى لخطيب [28] فقيل له: - «لو قلت هذا على المنبر كنت خطيبا.» فهجاه حاجب الفيل، وكان يهاجيه، فقال: أبا العلاء، لقد لاقيت معضلة ... يوم العروبة من كرب وتخنيق لمّا [1] رمتك عيون النّاس ضاحية ... أنشأت تجرض، لمّا قمت، بالرّيق تلوى اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النّيق وقال أيضا: تقضى الأمور، وبكر غير شاهدة ... بين المجاذيف والسّكان مشغول ما يعرف النّاس منه غير قطنته [2] ... وما سواها من الآباء مجهول   [1] . هذا البيت ساقط من الأصل وهو موجود فى كل من مط وآ والطبري (9: 1486) . [2] . قطنة: جاء فى هامش الأصل فى وجه هذه التسمية: سمّى ثابت قطنة، لقطنة كانت على جراحة كانت فى وجهه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 ثمّ دخلت سنة سبع ومائة بكير بن ماهان يوجّه أبا عكرمة وأبا محمّد الصّادق ومحمّد بن خنيس وعمّار دعاة إلى خراسان. وفيها وجّه بكير بن ماهان أبا عكرمة، وأبا محمّد الصادق [1] ، ومحمّد بن خنيس، وعمّار العبادي فى عدّة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق، دعاة إلى خراسان. فجاء رجل من كندة إلى خراسان. فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبى عكرمه ومحمّد بن خنيس وعامّة أصحابه، ونجا عمّار. فقطع أسد أيدى من ظفر به وأرجلهم [29] وصلبهم. وأقبل عمار إلى بكير بن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب إلى محمّد بن علىّ بذلك. فأجابه: - «الحمد لله الّذى صدّق مقالتكم ودعوتكم. أما إنّه قتلى ستقتل.» غزو جبال تمرون وفى هذه السّنة غزا أسد جبال تمرون ملك الغرشستان ممّا يلي جبال الطّالقان. فصالحه تمرون وأسلم على يديه، فهم اليوم يتولّون اليمن. غزو الغور وفيها غزا أسد الغور، وهي جبال هراة. فعمد أهلها إلى أثقالهم، فصيّروها فى كهف ليس إليه طريق. فأمر أسد باتّخاذ توابيت، ووضع فيها الرّجال ودلّاها بالسّلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه. فقال ثابت قطنة:   [1] . فى الأصل وآ وحواشي الطبري: وأبا محمّد الصادق ومحمّد الصادق. فى مط والطبري (9: 1488) : وأبا محمّد الصادق (من دون تكرار «محمّد الصادق» ) . فما أثبتناه يوافق مط والطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 أرى أسدا تضمّن مقطعات ... تهيّبها الملوك ذوو الحجاب سما بالخيل من أكناف مرو ... يوقّرهنّ [1] بين هلا وهاب إلى غورين حيث حوى أربّ [2] ... وصافح بالسّيوف وبالحراب هدى ضلّالنا قتلى نراها ... مصلّية بأفواه الشّعاب وكان إذا أناخ بدار قوم ... أراها المخزيات من العذاب [30] ودخلت سنة ثمان ومائة غزو الختّل وفيها غزا أسد بن عبد الله الختّل. فذكر على بن محمّد بإسناده، أنّ خاقان أتى أسدا وقد انصرف إلى القواذيان وقطع النّهر، فلم يكن بينهم قتال، ومضى إلى الغوريان، فقاتلوهم يوما، وصبروا لهم، وبرز رجل من المشركين، فوقف أمام أصحابه، وركز رمحه وقد أعلم بعصابة خضراء، وسلم بن أحوز واقف مع نصر بن سيّار، فقال سلم لنصر: - «قد علمت سوء رأى أسد، وأنا حامل على هذا العلج، فلعلّى أقتله فيرضى [3] .» قال: - «شأنك» فحمل عليه، فما اختلج رمحه حتّى غشيه سلم، فطعنه، فإذا هو بين يدي فرسه يفحص برجليه، ورجع سلم، فوقف فقال لنصر: - «أنا حامل حملة أخرى.»   [1] . يوقّرهن: كذا فى الأصل وآ. فى الطبري (9: 1489) : وتوفزهنّ. فى مط: ويوفرهنّ. [2] . أربّ: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري: أزبّ (بالزاء المعجمة) . وجاء فى هامش آ: الأربّ: أهل الميثاق. [3] . فيرضى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1493) . فى مط وآ: فرضي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 فحمل، حتّى إذا دنا منهم اعترضه [1] رجل من العدوّ، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، ورجع سلم جريحا، فوقف. فقال نصر لسلم: - «قف لى، حتى أحمل عليهم.» فحمل، حتّى خالط العدوّ، فصرع رجلين، ورجع جريحا، ووقف فقال: - «أترى ما صنعنا يرضيه [2] ، لا رضى الله عنه؟» [31] قال: - «لا والله، فيما أظنّ.» قال: وأتاهما رسول أسد فقال: - «يقول لكما الأمير: قد رأيت موقفكما منذ اليوم، وقلّة غنائكما عن المسلمين، لعنكم الله!» فقالا: - «آمين، إن عدنا لمثل هذا.» وتحاجزوا يومئذ، ثمّ عادوا من الغد. فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد، فأسروا وغنموا. [3] ثمّ دخلت سنة تسع ومائة عزل هشام بن عبد الملك خالدا القسرىّ عن خراسان والسبب فى ذلك وفى هذه السنّة، عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن   [1] . اعترضه. كذا فى الأصل والطبري. فى مط: أعرضه. وفى آ: سقطت من قوله: «فوقف وقال» حتى قوله: «لسلم» . [2] . والعبارة فى مط: «أبرى ما صعنا يرصيه» بتصحيف لا معنى له. [3] . جاء فى الطبري (9: 1494) : وقال بعضهم: رجع أسد فى سنة 108 مفلولا من الختل فقال أهل خراسان [بالفارسية] : «از ختّلان آمذى برو تباه آمذى بيدل فراز آمذى» . لقد تكرر ذلك فى مواضع من الطبري باختلاف فى الضبط. (انظر أيضا الطبري: 9: 1492، 1602، 1603) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 خراسان، وصرف أخاه أسدا عنها. وكان السّبب فى ذلك أنّ أسدا أخا خالد تعصّب، حتّى أفسد النّاس، وخطب فى يوم جمعة فقال فى خطبته: - «قبّح الله هذه الوجوه، وجوه أهل الشّقاق والنّفاق والشّغب والفساد. اللهمّ فرّق بيني وبينهم، وأخرجنى إلى مهاجرى [1] ووطنى.» ثمّ قال: - «من يروم ما قبلي، أو يترمرم [2] وامير المؤمنين خالي، وخالد بن عبد الله أخى ومعى اثنا عشر ألف سيف يمان؟» ثم نزل عن منبره. فلمّا صلّى ودخل عليه النّاس وأخذوا مجالسهم [32] أخرج كتابا من تحت فراشه، فقرأه على النّاس، فيه ذكر نصر بن سيّار، وعبد الرّحمن بن نعيم، وسورة بن أبجر، والبختري بن أبى درهم من بنى الحارث بن عبّاد. فدعا بهم، وأنبهم، فأرّم [3] القوم، وتكلّم سورة بن أبجر، فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنّه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدوّ مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من فوقهم بالباطل. فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجرّدوا، فضرب عبد الرّحمن بن النّعيم، وكان رجلا بطينا أرسح. فلمّا ضرب التوى وجعل سراويله يزلّ عن موضعه. فقام بعض أهل بيته، فأخذ رداء له هرويّا، وقام مادّا ثوبه بيديه، وهو ينظر إلى أسد يريد أن يأذن له فيؤزره. فأومأ إليه أن افعل. فدنا منه فأزّره وقال: - «اصبر أبا زهير، فإنّ الأمير وال مؤدّب.»   [1] . إلى مهاجرى: كذا فى الأصل ومط وآ والطبري (9: 1498) ، والضبط فى الطبري: «مهاجرى» بضمّ الميم. فى حواشي الطبري: من مهاجرى. [2] . يترمرم: كذا فى الأصل وآ والطبري. ما فى مط: تبرم. يترمرم: إذا حرّك فاه للكلام ولم يتكلّم. ما أشبهه بقولهم: تزمزم (بالاعجام) . تزمزمت شفتاه بالشيء: تحركتا. [3] . فأرّم: كذا فى الأصل وآ: أرّم: حك أضراسه بعضها ببعض من الغيظ. فى مط: فادم. فى الطبري: «فأزم القوم فلم يتكلم أحد، فتكلم سورة ... » أزم على الشيء: عضّ بالفم كلّه عضّا شديدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 ثم ضرب الجميع، وحلّقهم بعد الضّرب، ودفعهم إلى عبد ربّه [1] بن أبى صالح مولى بنى سليم وكان من الحرسي، وعيسى بن بريق، ثمّ وجّههم إلى خالد، وكتب إليه أنّهم أرادوا الوثوب عليه. فكان ابن بريق كلّما نبت شعر أحدهم حلقه. وكان البختري بن أبى درهم يقول: [33]- «وددت أنّه ضربني وهذا شهرا.» يعنى نصر بن سيّار، لما كان بينهم بالبروقان. فأرسل بنو تميم إلى نصر: - «إن شئتم انتزعناكم من أيديهم.» فكفّهم نصر. فلمّا قدم بهم على خالد، لام أسدا، وعنّفه، وقال: - «ألا بعثت برؤوسهم؟» فقال عرفجة التميمي: فكيف [2] ، وأنصار الخليفة كلّهم ... عناة وأعداء الخليفة مطلق بكيت ولم أملك دموعي وحقّ لى ... ونصر شهاب الحرب فى الغلّ موثق وقال نصر: بعثت بالعتاب فى غير ذنب ... فى كتاب تلوم أمّ تميم إن أكن موثقا أسيرا لديهم ... فى هموم وكربة وسهوم رهن قسر فما وجدت بلاء ... كإسار الكريم عند اللئيم أبلغ المدّعين قسرا، وقسر ... أهل عود القناة ذات الوصوم   [1] . عبد ربّه: ما فى الأصل وآ يشبه أن يكون «عبدونه» وما أثبتناه يؤيده مط والطبري (9: 1498) . [2] . فكيف: فى الأصل ومط وآ: كيف، بدون الفاء، فأضفناها من الطبري (9: 1500) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 هل فطمتم عن الخيانة والنّك ... ث، أم أنتم كالحاكم [1] المستديم وقال الفرزدق: أخالد، لولا الله لم تعط طاعة ... ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا [34] إذا للقيتم دون شدّ وثاقه ... بنى الحرب لا كشف اللقاء ولا غمرا وكان قدم خراسان أبو محمّد مولى همدان، داعيا بعثه محمّد بن علىّ بن عبد الله بن عبّاس وقال له: - «أدع النّاس إلينا، وانزل فى اليمن، والطف بمضر [2] .» ونهاه عن رجل يقال له غالب من أبرشهر، لأنّه كان مفرطا فى حبّ بنى فاطمة. فلمّا قدم زياد أبو محمّد، ودعا إلى بنى العبّاس، وذكر سيرة بنى مروان وظلمهم، وجعل يطعم النّاس الطّعام، توافى إليه خلق، فقدم عليه غالب من أبرشهر، فكانت بينهم منازعة، غالب يفضّل آل أبى طالب، وزياد يفضّل بنى العبّاس. فأخبر بخبرهم أسد بن عبد الله، فدعا بزياد، وكان معه رجل يكنّى أبا موسى. فلمّا نظر إليه أسد قال له: - «أعرفك، رأيتك فى حانوت بدمشق.» قال: - «نعم.» قال أسد لزياد: - «فما هذا الّذى بلغني عنك.» قال: - «رفع إليك الباطل. إنّما قدمت خراسان فى تجارة لى وقد فرّقت مالي   [1] . كالحاكم: كذا فى الأصل وآ. فى مط: الحاكم وما فى الطبري (9: 1500) : الحاكر. [2] . والطف بمضر: فى الأصل ومط وآ: مضر (بدون باء) . فأضفنا الباء كافى الطبري (9: 1501) ، وكما هو الصحيح، لأنّ الصحيح لغة: لطف به وله (بالباء أو اللام) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 على النّاس ولو قد صار إلىّ خرجت.» قال له أسد: - «أخرج عن بلادي.» فانصرف عنه، وعاد إلى أمره. وكان الحسن بن شيخ [1] [35] على خراج مرو، ويبلغه خبره، فدخل على أسد وعظّم عليه أمره، فأرسل إليه. فلمّا نظر إليه قال: - «ألم أنهك عن المقام بخراسان؟» فقال له زياد: - «ليس عليك، أيّها الأمير، منّى بأس.» فأحفظه فأمر بقتلهم، وكانوا عشرة. فقال له أبو موسى: - «اقض ما أنت قاض.» فازداد غضبا وقال: - «أنزلتنى منزلة فرعون.» فقال: - «ما أنزلتك [2] ، ولكن الله أنزلك.» فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل الكوفة، ولم ينج منهم يومئذ إلّا غلامان استصغرهما، وصلب الباقون. فأتى من الغد أحدهما [3] وسأله أن يلحقه بأصحابه، فأشرف به على السّوق وهو يقول: - «رضينا بالله ربّا، وبالقرآن إماما، وبمحمد، صلى الله عليه، نبيّا.»   [1] . فى آ، زيادة بين كلمة «شيخ» و «على» يشبه أن تكون «وفى» وليس لها معنى. [2] . ما أنزلتك: كذا فى الأصل ومط. وما فى آ: أنزلتم. وهو خطأ. وفى هامش آ: أنزلتك. [3] . زاد فى الطبري: ... وأسد فى مجلسه المشرف على السوق بالمدينة العتيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 فدعا أسد بسيف كان لبخارا خذاه [1] ، وضرب عنقه بيده. ثمّ قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يقال له كثير. فكان يأتيه الّذين لقوا زيادا فيدعوهم. وكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان كثير أمّيّا. فقدم عليه خداش [2] وهو فى قرية يقال لها مرغم، فغلب كثيرا على أمره. ولمّا تعصّب أسد وأفسد النّاس بالعصبيّة، بلغ ذلك هشاما، فكتب إلى خالد: اعزل أخاك. فعزله، [36] واستأذن له بالحجّ، ففعل. فقفل أسد إلى العراق، واستخلف الحكم بن عوانة الكلبىّ، فأقام الحكم صيفته ولم يغز. استعمال هشام بن عبد الملك أشرس على خراسان واستعمل هشام بن عبد الملك على خراسان أشرس بن عبد الله السّلمى، وأمره، أن يكاتب خالدا، وكان أشرس فاضلا خيّرا، كانوا يسمّونه: الكامل، لفضله عندهم. وقال: ولمّا قدم خراسان، فرح به أهلها، فاستعمل على شرطته عميرة أبا أميّة اليشكري، ثمّ عزله وولّى السّمط، واستقضى محمّد بن زيد وكان أوّل من اتّخذ الرّابطة بخراسان، فاستعمل على الرّابطة عبد الملك بن زياد الباهلىّ. وتولّى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه، وكان يحجّ بالنّاس فى هذه السّنين إبراهيم بن هشام. فيقال: إنّه خطب النّاس بمنى فى غد يوم النّحر وقال: - «سلوني، فأنا ابن الوحيد، لا تسألون أحدا أعلم منّى.» فقام إليه رجل من العراق فسأله عن الأضحية: أواجبة هي؟ فما درى أىّ   [1] . كان لبخارا خذاه: كذا فى الأصل. فى مط: كان لنحارا حداه. وهو تصحيف. والعبارة ساقطة فى آ. وفى مكانها: فأخذ. وما فى الطبري (9: 1502) يوافق ما فى الأصل. [2] . خداش: كذا ضبط فى الأصل (بكسر الخاء) . وما فى الطبري (9: 1503) : خدّاش. زاد فى الطبري: كان اسمه عمارة، فسمّى خداشا لأنّه خدش الدين! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 شيء يقول، فنزل. ثمّ دخلت سنة عشر ومائة وفى هذه السّنة همّ أشرس بأن يدعو أهل الذّمّة ممّا وراء النّهر إلى الإسلام [37] على أن يوضع عنهم الجزية. ذكر سوء رأى أشرس وفساد تدبيره وحرصه على المال حتّى نصب النّاس له الحرب ذكر أنّ أشرس قال فى عمله بخراسان: - «أبغونى رجلا له ورع وفضل أوجّهه إلى من وراء النّهر يدعوهم إلى الإسلام.» فأشاروا عليه بأبى الصّيداء صالح بن طريف مولى بنى ضبّة، فقال: - «لست بالماهر بالفارسيّة.» فضمّوا إليه الرّبيع بن عمران التّيمى. فقال أبو الصّيداء: - «فإنّى أخرج على شريطة أنّ من أسلم لم تؤخذ منه الجزية، فإنّما خراج خراسان على رؤوس الرّجال.» قال أشرس: «أجل، ذلك لك.» قال أبو الصيداء لأصحابه: «فإنّى أخرج، فإن لم يف أعنتمونى عليهم.» قالوا: «نعم.» فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بن أبى العمرّطة الكندي حربها وخراجها. فدعا يومئذ أبو الصّيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية. فتسارع النّاس إلى ذلك، فكتب غورك إلى أشرس أنّ الخراج [38] قد انكسر، وكتب أشرس إلى ابن أبى العمرّطة فى ذلك، فقال ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 أبى العمرّطة لأبى الصّيداء: - «لست من الخراج فى شيء. فدونك هانئا والاشحيذ [1] .» فقام [2] أبو الصّيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممّن أسلم. فكتب هانئ إلى أشرس وقال: - «ممّن تأخذ الخراج، والنّاس قد أسلموا وبنو المساجد.» فكتب أشرس إلى هانئ والعمّال: - «إنّ الخراج قوّة للمسلمين، وقد بلغني أنّ أهل السّغد وأشباههم لم يسلموا رغبة وإنّما دخلوا فى الإسلام تعوّذا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض، وحسن إسلامه، وقرأ من القرآن شيئا فارفع عنه خراجه، وإلّا فاستوفه منه.» فأعاد العمّال الجزية على من أسلم، فامتنعوا، واعتزل من أهل السّغد سبعة آلاف، فنزلوا على ستّة فراسخ من سمرقند، وخرج إليه أبو الصّيداء والرّبيع بن عمران التّيمى، وأقسم الشّيبانى وأبو فاطمة الأزدى وجماعته من العرب لينصرونهم [3] ، ولم يخرج ابن أبى العمرّطة إلى حربهم، فعزل أشرس بن أبى العمرّطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشّر بن مزاحم السّلمى، وضمّ إليه عميرة بن سعد [39] الشّيبانى. فلمّا قدم المجشّر كتب إلى أبى الصّيداء وثابت قطنة، وكان خرج معه يسألهما أن يقدما عليه فى أصحابهما، فقدم أبو الصّيداء وثابت قطنة، فحبسهما.   [1] . الاشحيذ: كذا فى الأصل والطبري (9: 1508) . فى مط: الاسحيد. وفى آ: الاخشيذ. [2] . فقام: فى الأصل، ومط، وآ: فقال (بدون المقول) وهو خطأ، فصححناه بما فى الطبري (9: 1508) : فقام. [3] . لينصرونهم: فى الأصل، ومط، وآ، والطبري (9: 1509) : لينصروهم. وفى حواشي الطبري عن بعض الأصول: لينصرونهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 فقال ابو الصّيداء: - «أغدرتم ورجعتم عمّا قلتم؟» فقال له هانئ: - «ليس بغدر ما كان فيه حقن الدّماء.» وحمل أبا الصّيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده. فلمّا حمل ابو الصّيداء اجتمع أصحابه، وولّوا أمرهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا، فقال لهم: - «كفّوا، حتى أكتب إلى الأشرس فيأتينا رأيه.» فكتبوا إلى أشرس، فكتب الأشرس: - «ضعوا عليهم الجزية.» فرجع أصحاب أبى الصّيداء منكسرين وضعف أمرهم، ولم يقدموا على محاربة السّلطان، وتتبّع العمّال الرؤساء منهم وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت قطنة محبوسا، وألحّ هانئ والعمّال فى الخراج وجباية الأموال والجزية، حتّى استخفّوا [1] بعظماء العجم، وسلّطوا عليهم من أقامهم، وحرّق ثيابهم، وألقى مناطقهم فى أعناقهم، وأخذوا الجزية من الضّعفاء. فكفرت السّغد وبخارى، واستجاشوا التّرك فلم يزل ثابت قطنة فى حبس المجشّر حتّى قدم نصر بن سيّار واليا [40] على المجشّر، فحمل ثابتا إلى أشرس مع إبراهيم بن عبد الله الليثي، فحبسه، وكان نصر بن سيّار ألطفه وأحسن إليه، فمدحه ثابت وهو محبوس عند أشرس، فقال: ما هاج شوقك من نؤى وأحجار ... ومن رسوم عفاها صوب أمطار لم يبق منها ومن أعلام عرصتها ... إلّا صبيح [2] ، وإلّا موقد النّار   [1] . استخفّوا: كذا فى الأصل، ومط: استخفّوا. وما فى آ: واستفتحوا. [2] . صبيح: كذا فى الأصل ومط وآ: صبيح. وما فى الطبري (9: 1510) : شجيج. وفى حواشيه: شحيج، صبيح (بالإهمال) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وماثل [1] فى ديار الحىّ بعدهم ... مثل الرّبيئة فى أهدامه العاري ديار ليلى قفار، لا أنيس بها ... دون الحجون وأين الحجن من دارى بدّلت منها، وقد شطّ المزار بها ... وادي المخافة لا يسرى بها السّارى بين السّماوة فى حزم مشرّقة ... ومعنق دوننا آذيّة جارى نقارع [2] التّرك ما تنفك نائحة ... منّا ومنهم على ذى نجدة شار إن كان ظنّى بنصر صادقا أبدا ... فما أدبّر من نقضي وإمرارى لا يصرف الجند حتّى يستفيء بهم ... نهبا عظيما ويوفى [3] ملك جبّار حتّى تروهم ودون [4] السّرح بارقة ... فيها لواء كظلّ الأجدل الضّارى [41] لا يمنع الضّيم [5] إلّا ذو محافظة ... من الخضارم سبّاق [6] بأوتار [7] إنّى وإن كنت من جذم الّذى نشرت ... منه الفروع وزندي الثّاقب الواري لذاكر منك أمرا قد سبقت به ... من كان قبلك يا نصر بن سيّار ناضلت عنّى نضال الحرّ إذ قصرت ... عنّى لعشيرة واستبطأت أنصارى وصار كلّ صديق كنت آمله ... ألبا علىّ، ورثّ الحبل من جارى وما تلبّست بالأمر الّذى وقعوا ... به علىّ ولا دنّست أطمارى ولا عصيت إماما كان طاعته ... حقّا علىّ، ولا فارقت من عار ولمّا ارتدّ أهل السّغد وأهل بخارى لأجل الجزية، واستجاشوا التّرك،   [1] . وماثل: كذا فى الأصل ومط وآ: وماثل. وما فى الطبري (9: 1510) : ومائل. [2] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: بقارع. وما فى الطبري (9: 1511) : تقارع. [3] . ويوفى: كذا فى الأصل ومط وآ: ويوفى. وما فى الطبري (9: 1511) : ويحوى. [4] . ودون: كذا فى الأصل والنسختين: ودون. وما فى الطبري: دوين. [5] . الضيم: كذا فى الأصل وآ ومط: الضيم. وما فى الطبري (9: 1511) : الثغر. [6] . سبّاق: كذا فى الأصل وآ: سبّاق. وما فى مط والطبري: سيّاق. [7] . بأوتار: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1511) : باوتار. وما فى آ: بأوتارى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 خرج إليهم أشرس، فنزل آمل، وأقام ثلاثة أشهر، وقدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النّهر فى عشرة آلاف واقبل التّرك مع أهل بخارى والسّغد فحصروا قطن بن قتيبة فى خندقه، وجعل خاقان ينتخب كلّ يوم فارسا فيعبر، وقطعت قطعة من التّرك النهر فقال قوم: - «أقحموا [1] دوابّكم عريا.» فعبروا، وأغاروا على سرح النّاس، فأخرج أشرس ثابت قطنة [42] بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو، ووجّهه مع عبد الله بن بسطام فى خيل، فاتّبعوا التّرك، فقاتلوهم بآمل حتّى استنقذوا ما بأيديهم. ثمّ قطع التّرك النّهر راجعين، ثمّ عبر أشرس بالنّاس إلى قطن بن قتيبة، ووجّه أشرس رجلا يقال له: مسعود، أحد بنى حيّان فى سريّة، فلقيهم العدوّ، فقاتلهم، فهزم مسعود وأصيب رجال من المسلمين، وأقبل العدوّ. فلمّا صاروا بقرب، لقيهم المسلمون، فقاتلوهم، فجال المسلمون، فقتل فى تلك الجولة خلق من المسلمين. ثمّ كرّ المسلمون، وصبروا، فانهزم المشركون، ومضى أشرس بالنّاس حتّى نزل بيكند [2] ، وقطع عنهم العدوّ الماء، فأقام أشرس والمسلمون فى عسكرهم يومهم وليلتهم، فأضحوا وقد نفد ماؤهم، فاحتفروا فلم ينبطوا وعطشوا، فارتحلوا إلى المدينة الّتى منها قطعوا الماء عنهم [3] ، وعلى مقدّمة المسلمين قطن بن قتيبة، فلقيهم العدوّ، فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة وعجز النّاس عن القتال، وكاد قوم يوسرون من الجهد، فحضّ الحارث بن سريج [43] النّاس. فقال: - «أيّها النّاس، القتل بالسّيف أكرم فى الدّنيا وأعظم أجرا عند الله من   [1] . أقحموا: كذا فى الأصل وآ، والطبري (9: 1512) : أقحموا. وفى مط: ألجموا. [2] . بيكند (بكسر الباء وفتح الكاف) ،: بلد بين بخارى وجيحون. (مراصد الاطلاع) . [3] . عنهم: كذا فى الأصل وآ: عنهم. وما فى مط: منهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 الموت عطشا.» وتقدّم الحارث بن سريج [1] وقطن بن قتيبة وجماعة من بنى تميم وقيس، فقاتلوا حتّى أزالوا التّرك عن الماء، وابتدره النّاس، فاستقوا ورووا. فمرّ ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي، فقال: - «يا عبد الملك، هل لك فى الجهاد؟» قال: - «أنظرنى ريث ما أغتسل وأتحنّط.» فوقف له، حتّى خرج ومضى. فقال ثابت لأصحابه: - «أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم.» وحضّهم، فحملوا على العدوّ، واشتدّ القتال، فقتل ثابت وعبد الملك فى عدّة من المسلمين فضمّ قطن بن قتيبة وإسحاق بن حسّان خيلا من بنى تميم تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدوّ، فقاتلوهم حتّى كشفوهم وركبهم المسلمون يقتلونهم حتّى حجزهم الليل وتفرّق العدوّ. فأتى أشرس بخارى فحاصر أهلها. وتحدّث قوم شهدوا قتال التّرك لمّا التقوا على الماء وقاتلوا عليه، قالوا: سمعنا ثابتا يقول: - «اللهمّ إنّى كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة، والله لا ينظر إلىّ بنو أميّة [44] مشدودا فى الحديد.» فحمل، وحمل أصحابه، فكذب أصحابه وثبت هو، فرمى برذونه فشبّ، وضربه فأقدم وضرب فارتثّ، فقال وهو صريع: - «اللهم إنّى أصبحت ضيفا لابن بسطام، وقد أمسيت ضيفك، فاجعل قراي من ثوابك الجنّة.»   [1] . سريج: كذا فى الأصل والطبري (9: 1513) . وما فى آ، ومط: شريح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 ولحق غورك فى تلك الوقعة بالتّرك. فيقال: إنّه وقع وسط خيل، فلم يجد بدّا من اللحاق بهم. ويقال: إنّ أشرس كان أرسل إلى غورك يطلب منه طاسا كان عنده. فقال غورك [1] لرسول [2] أشرس: - «إنّه لم يبق معى شيء أتدهّن [3] به غير هذا الطّاس. فاصفح عنه.» فأرسل إليه: - «اشرب فى قرعة، وابعث إلىّ بالطّاس.» فكان ذلك سبب فراقه. فيقال: إنّ أشرس نزل قريبا من مدينة بخارى، ثمّ تحوّل منه إلى كمرجة [4] ، وكانت كمرجة من أشرف آجام خراسان وأعظمها. فمرّ بهم سبّابة [5] مولى قيس وقال: - «إنّى قصدتكم للنّصيحة. إنّ خاقان مارّ بكم غد، فأرى لكم أن تظهروا عدّتكم ليرى حدّا واحتشادا فينقطع طمعه منكم.» فقال لهم رجل: - «استوثقوا منه، فإنّه جاءكم ليفت فى أعضادكم.» [45] قالوا: - «لا تفعل هذا مولانا، وقد عرفناه بالنّصيحة.» فلم يقبلوا منه، وفعلوا ما أمرهم به المولى. وصبّحهم خاقان، فلمّا حاذى بهم ارتفع إلى طريق بخارى، كأنّه يريدها، فانحدر بجنوده من وراء تلّ بينه و   [1] . غورك: غير موجودة، لا فى الأصل ولا فى آ، فأضفناها من مط. [2] . لرسول: غير موجودة، لا فى الأصل ولا فى مط، فأضفناها من آ. [3] . اتدهّن: فى الأصل وآ: أتدهقن. فى مط: ابدهر (وهو تصحيف اتدهن) وما أثبتناه يؤيده الطبري (9: 1516) . [4] . كمرجه: كذا ضبطت فى الطبري (9: 1517) وابن الأثير (5: 152) . [5] . سبّابة: كذا فى الأصل. فى آ: سيابة. فى مط: سبابة. وفى الطبري (9: 1516) «سبابة أو شبابة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 بينهم. فنزلوا وتأهّبوا وهم لا يشعرون بهم. فما فاجأهم أن طلعوا على التّلّ، فإذا جبل حديد [1] فيهم أهل فرغانة والطّاربند وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارا. فسقط فى أيدى النّاس. فقال لهم كليب بن قبان [2] الذّهلى: - «هم يريدون مزاحفتكم، فسرّحوا دوّابكم المجفّفة فى طريق النّهر، كأنّكم تريدون أن تسقوها، فإذا حدرتموها [3] فخذوا طريق الباب، وتسرّبوا الأوّل فالأوّل.» فلمّا رءاهم التّرك يتسرّبون، شدّوا عليهم فى مضيق، وكانوا أعلم بالطّريق من التّرك، فسبقوهم إلى الباب، فلحقوهم عنده، وقتلوا رجلا من العرب كان على حاميتهم يقال له المهلّب، وقاتلوهم، فغلبوهم على الباب الخارج من الخندق ودخلوه، فاقتتلوا، وجاء رجل بحزمه قصب قد أشعلها، فرمى بها فى وجوههم، فتنحّوا [4] ، وأجلوا عن قتلى وجراحات [5] . [46] وأمسى القوم. فانصرف التّرك وأحرق العرب القنطرة. وجاءهم خسرو بن يزدجرد فى ثلاثين رجلا. فقال: - «يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الّذى جئت بخاقان ليردّ علىّ مملكة آبائى؟ وأنا آخذ لكم الأمان.» فشتموه، فانصرف.   [1] . جبل حديد: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1517) : جبل جديد فى مط: خيل حديد. [2] . ما فى الأصل غير واضح، فأثبتناه الإسم كما جاء فى مط وفى مواطن أخرى من الأصل. فى مط: قبان. وفى آ: فنان. وما فى الطبري (9: 1517) : قنان. [3] . حدرتموها: كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1517) : جرّدتموها. [4] . فى مط. ففتحوا. [5] . كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1518) : جرحى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 فجاءهم بازغرى [1] فى مائتين، وكان داهية، من وراء النّهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال: - «آمنونا حتّى ندنو منكم، وأعرض عليكم ما أرسلنى به إليكم خاقان.» فآمنوه، فدنا من المدينة، فأشرفوا عليه، ومعه أسرى من العرب، وقال بازغرى: - «يا معشر العرب، احدروا إلىّ رجلا منكم أكلّمه برسالة خاقان.» فحدروا حبيبا مولى مهرة من أهل درقتين [2] ، فكلّموه، فلم يفهم. فقال: - «احدروا إلىّ رجلا يعقل عنّى.» فحدروا يزيد بن سعيد الهلالي [3] ، وكان يشدو شيئا من التركية. فقال له: - «هذه خيل الرّابطة، ووجوه العرب، معه أسرى.» وقال لهم: - «إنّ خاقان أرسلنى إليكم وهو يقول لكم: إنّى أجعل من كان عطاءه منكم ثلاثمائة، ستّمائه، ومن كان عطاؤه [47] ستّمائة أجعله ألفا، وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم.» فقال له يزيد: - «هذا أمر لا يلتئم، كيف يكون العرب وهم ذئاب، مع التّرك وهم شاء لا يكون بيننا وبينهم صلح.» فغضب بازغرى.   [1] . بازغرى: ما فى الأصل وآ. (بالعين المهملة) وما فى مط غير منقوط. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1519) : بازغرى. (بالغين المعجمة) . [2] . درقتين: كذا فى كل من الأصل ومط وآ: درقتين بالإهمال. والنقاط مستفادة من الطبري (9: 1518) . [3] . الهلالي: كذا فى الأصل ومط: الهلالي. وما فى آوالطبري: الباهلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 فقال التّركيان اللذان معه: - «ألا تضرب عنقه؟» فقال: - «لا، نزل إلينا بأمان.» وفهم يزيد ما قالا له، فخاف. فقال: - «بلى يا بازغرى، إلّا أن تجعلونا نصفين، فيكون نصفنا فى أثقالنا، ويسير النّصف معه، فإن ظفر خاقان فنحن معه، وإن كان غير ذلك كنّا كسائر مدائن سغد.» فرضي بازغرى والتّركيان بما قال [1] . فقال له: - «اعرض على القوم ما تراضينا به.» وأقبل، فأخذ بطرف الحبل، فجذبوه حتّى صار على السّور، فنادى: - «يا أهل كمرجه اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان.» قالوا: - «لا نجيب ولا نرضى.» قال: - «يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين.» قالوا: - «نموت جميعا قبل ذلك.» قال: - «فأعلموهم ذلك.» قال: - «فأشرفوا عليهم.» فقال: - «يا بازغرى، أتبيع الأسرى الّذين فى أيديكم فنفادى بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فإنّا لا نجيبكم إليه.» فقال لهم: - «أفلا تشترون أنفسكم [48] منّا؟ فما أنتم عندنا إلّا بمنزلة من فى أيدينا   [1] . قال: كذا فى مط وآ والطبري (9: 1519) . وما فى الأصل: قالا. وهو خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 منكم.» وكان فى أيديهم الحجّاج بن حميد النّضرى. فقالوا: - «يا حجّاج، إلا تتكلّم؟» قال: - «علىّ رقباء.» ثمّ أمر خاقان بقطع الشّجر.» ذكر حيلة تمّت مع اتّفاق حسن فكان خاقان يقطع الشّجر الرّطب، ويلقيه فى الخندق، وجعل أهل كمرجة يلقون معه الحطب اليابس، حتّى سوّى الخندق ليقطعوا [1] إليهم. فأشعلوا النّيران، فهاجت ريح شديدة، صنعا من الله عزّ وجلّ، فاشتعلت النّيران فى الحطب، فأحرق ما عملوا فى ستّة أيام، فى ساعة واحدة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم، وشغلناهم بالجراحات، فأصابت بازغرى نشّابة فى سرّته، فاحتقن بوله، فمات من ليلته، فقطع أتراكه أذانهم، فأصبحوا بشرّ منكّسين رؤوسهم يبكونه، ودخل عليهم أمر عظيم. فلمّا امتدّ النّهار، جاءوا بالأسرى، وهم مائة، فيهم أبو العوجاء العتكي وأصحابه، فقتلوهم، ورموا إليهم برأس الحجّاج بن حميد النّضرىّ [2] ، وكان مع المسلمين مائتان من أولاد [49] المشركين كانوا رهائن فى أيديهم، فقتلوهم، واستماتوا، واشتد القتال، وقاموا على باب الخندق، وصار منهم على السّور خمسة أعلام.   [1] . ليقطعوا إليهم: كذا فى الأصل ومط وآ. ليقطعوا إليهم. فى حواشي الطبري: ليقطعوا النهر إليهم. [2] . النضري: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1520) . وفى آ: البصري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 فقال كليب: «من لى بهؤلاء؟» فقال ظهير بن مقاتل الطّلاوى [1] : - «أنا لك بهم.» فذهب يسعى وقال لفتيان: - «امشوا خلفي.» وهو جريح. فقتل من أصحاب الأعلام اثنان ونجا ثلاثة. فقال لهم خاقان: - «عليكم بهذا الغنم وقسمه فى أصحابه.» ثم قال لهم: - «كلوا لحومها واسلخوا جلودها واملأها ترابا، ثمّ اكبسوا [2] خندقهم بها.» ففعلوا، وبعث الله سحابة فمطرت وسال الخندق، فاحتمل المطر ما ألقوا فيه [3] ، فألقاه فى النّهر الأعظم. فيقال: إنّ خاقان لمّا رأى أنّه لا يصل إليهم، شتم أصحابه، وعيّر أهل السّغد وفرغانة والشّاش والدّهاقين وقال لهم: - «زعمتم أنّ فى هذه خمسين حمارا وأنّا نفتحها فى خمسة أيّام وقد صارت الخمسة الأيام شهرين.» وشتمهم وأمرهم بالارتحال، فقالوا: - «ما ندع جهدا، ولكن أحضرنا غدا فانظر.» فلمّا كان الغد جاء خاقان فوقف فقام إليه ملك الطّاربند، واستأذنه [50] فى   [1] . الطلاوى: كذا فى الأصل ومط: الطلاوى. وما فى الطبري (9: 1520) : وآ الطفاوي. [2] . اكبسوا: كذا فى الأصل وآ: واكبسوا. وما فى مط: اكسوا. [3] . ضاع من نسخة آ (مخطوطة آستان قدس) ما يعادل ص 50 إلى ص 84 من صفحات الأصل (مخطوطة اياصوفيا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 القتال والدّخول عليهم. قال: - «لا أرى أن نقاتل فى هذا الموضع.» وكان خاقان يعظّمه، فقال له: - «اجعل لى جاريتين من جواري العرب وأنا أدخل عليهم.» فأذن لهم، فقاتل حتّى قتل ثمانية، وجاء حتّى وقف على ثلمة، وكان إلى جنب الثّلمة بيت فيه خرق يفضى إلى الثّلمة، وفى البيت رجل مريض من بنى تميم، فرماه بكلّوب، فتعلّق بدرعه، ثمّ نادى النّساء والصّبيان فجذبوه حتّى سقط لوجهه، ورماه رجل بحجر فأصاب أصل أذنه فصرع، وجاء شابّ أمرد من التّرك، فأخذ سيفه، وغلبناهم على جسده [1] . وكانوا قد اتّخذوا أبنية من خشب، فألصقوها بحائط [2] الخندق، ونصبوا قبالة ما اتّخذوا أبوابا، وأقعدوا وراءها الرّماة وجاء رجلان، فاطّلع أحدهما فى الخندق، فرماه واحد منّا، فلم تضرّه الرّمية لكثرة سلاحه، وكان عليه كاسخودة [3] تبّتيّة، فرماه رجل شيبانىّ، وليس يرى منه غير عينيه، ورماه غالب بن المهاجر، فدخلت نشّابة فى عينيه وتنكّس، فلم يدخل خاقان شيء أشدّ منه. فأرسل إلى المسلمين: [51]- «أنّه ليس من رأينا أن نرتحل من مدينة ننزل عليها دون افتتاحها أو نرحلهم [4] عنها.» فقال لهم كليب بن قبان: - «وليس من ديننا أن نعطى بأيدينا حتّى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم.»   [1] . جسده: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1521) : جسده. والعبارة فى الطبري: « ... فقتله وأخذ سلبه وسيفه فغلبناهم على جسده.» [2] . بحائط: كذا فى الأصل: بحائط الخندق وما فى مط: بحائطى الخندق. [3] . كاسخودة تبتيّة: فى الطبري (9: 1522) : كاشخودة تبّتيّة. فى مط كاسجودة تبنية! [4] . نرحلهم: كذا فى الأصل. وما فى الطبري (9: 1522) : ترحّلهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 فرأى التّرك أنّ مقامهم عليهم ضرر، فقالوا: - «نعطيكم الأمان على أن ترحلوا بأموالكم وأهاليكم إلى سمرقند أو الدّبوسيّة.» ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدّة، فبعثوا إلى أهل سمرقند يشاورونهم. فأشاروا عليهم بالدّبوسيّة وقالوا: هي أقرب. فرجع إلى أصحابه، فأخذوا من التّرك رهائن لئلّا يعرضوا لهم، وأخذ التّرك من العرب رهائن، وارتحل خاقان، وأظهر أنّه إنّما فعل ذلك من أجل غورك، أنّه مع العرب، وأنّ ابنه المختار طلب إليه فى ذلك مخافة على أبيه. فأجابه إلى ذلك. وقال المسلمون: - «أعطونا رجلا كبيرا يكون معنا.» فقال لهم التّرك: - «اختاروا من شئتم.» فاختاروا كورصول، وكان معهم. فلمّا ارتحل خاقان قال كورصول للعرب: - «ارتحلوا» . قالوا: - «نكره أن نرتحل والتّرك لم يمضوا، فلا [52] نأمنهم أن يعرضوا لبعض النّساء فتحمى العرب، فنصير إلى ما كنّا فيه من الحرب.» قال: فكفّ عنهم حتّى مضى خاقان والتّرك. فلمّا صلّوا الظّهر أمرهم كورصول بالرّحلة، وقال: - «إنّما الشّدّة والخوف أن تسيروا فرسخين، ثمّ تصيروا إلى قرى متّصلة، فارتحلوا.» وكان فى أيدى التّرك من العرب خمسة رهائن، وفى أيدى العرب من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 التّرك خمسة، فارتدف خلف رجل من التّرك رجل من العرب معه خنجر، وليس على التّركى غير قباء، فساروا بهم. ثمّ قال العجم لكورصول: - «إنّ الدّبوسيّة فيها عشرة آلاف مقاتل، فلا نأمن أن يخرجوا علينا.» فقال لهم العرب: - «إن قاتلوكم قاتلناهم معكم.» فساروا، فلمّا صار بينهم وبين الدّبوسيّة قدر فرسخ وأقلّ [1] ، نظر أهلها إلى فرسان ورجّالة، فظنّوا أنّ كمرجة قد فتحت، وإنّ خاقان قصدهم. فتهيّأوا للحرب، فوجّه كليب بن قبان رجلا من بنى ناجية يقال له الضّحّاك، على برذون يركض، وعلى الدّبوسيّة عقيل بن ودّان السّعدىّ. فأتاهم الضّحّاك وهم صفوف فرسان ورجّالة، فأخبرهم بالخبر، فأقبل أهل الدّبوسيّة [53] يركضون، فحملوا كلّ من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحا. ثمّ إنّ كليبا أرسل محمّد بن كرّان [2] ومحمّد بن درهم ليعلما سباع بن النّعمان وسعيد بن عطيّة وسائر الرّهائن فى أيدى التّرك، أنّهم قد بلغوا مأمنهم، ثمّ خلّوا عن الرّهن، فجعلت العرب ترسل رجلا من الرّهن الّذين [3] فى أيديهم من التّرك، وترسل التّرك رجلا من الّذين فى أيديهم من العرب، حتّى بقي سباع بن النّعمان فى أيدى التّرك، ورجل من التّرك فى أيدى العرب، وجعل كلّ فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر. فقال سباع: - «خلّوا رهينة التّرك.» فخلّوه وبقي سباع فى أيديهم. فلمّا التقى مع كورصول قال له:   [1] . وأقلّ: كذا فى الأصل والطبري (9: 1524) : واقلّ. وما فى مط: أقبل. [2] . كرّان: كذا فى الأصل ومط: كرّان. وما فى الطبري (9: 1524) : كرّاز. [3] . الذين: ما فى الأصل ومط: الذي. وما فى الطبري: الذين. وهو الصحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 - «لم فعلت هذا؟» قال: - «إنّى وثقت برأيك، وقلت: ترفّع نفسك عن الغدر فى مثل هذا.» فوصله وسلّحه، وحمله على برذون، وردّه إلى أصحابه. وكان حصار كمرجة خمسة وثلاثين [1] يوما. فيزعمون أنّهم لم يسقوا إبلهم خمسة وعشرين يوما. وفى هذه السّنة جعل خالد بن عبد الله القسري بالبصرة الصّلاة مع الشرط والأحداث، والقضاء إلى بلال بن أبى برده، فجمع ذلك كلّه. [54] ودخلت سنة احدى عشرة ومائة وفيها عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان وكان السّبب فى ذلك، أنّ شدّاد بن خالد بن عبد الله الباهلي شخص إلى هشام، فشكاه، فعزله واستعمل الجنيد بن عبد الرّحمن على خراسان سنة احدى عشرة ومائة. وكان السّبب فى استعماله إيّاه، أنّه كان أهدى لأمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، فأعجبت هشاما، فأهدى لهشام قلادة أخرى، فاستعمله على خراسان، وحمله على ثمانية من البريد، فسأله أكثر من تلك الدوابّ، فلم يفعل. فقدم خراسان فى خمسمائة وأشرس بن عبد الله يقاتل أهل بخارا والسّغد. فسأل عن رجل يسير معه إلى ما وراء النّهر، فدلّ على الخطّاب بن محرز السّلمى خليفة أشرس. فسار معه، فلمّا قدم آمويه، أشار عليه الخطّاب أن يقيم ويكتب إلى من بزمّ ومن حوله، فقدموا عليه، فأبى وقطع النّهر، وأرسل إلى أشرس أن أمدّنى بخيل، وخاف أن يقتطع قبل أن   [1] . ثلاثين: فى الأصل ثلاثون. خلافا للطبري (9: 1525) ومط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 يصل إليه، فوجّه إليه أشرس عامر بن مالك [1] الحمّانى. فلمّا كان ببعض الطّريق، عرض له التّرك والسّغد ليقتطعوه قبل أن [55] يصل إلى الجنيد. فدخل عامر حائطا حصينا، وقاتلهم على ثلمة الحائط ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم، فرماه رجل من العدوّ بنشّابة عرض منخريه، فأنفذ المنخرين. فقال له عامر بن مالك: - «يا بالزّاهرية، كأنّك دجاجة مقفّ [2] .» وكان خاقان على تلّ خلفه أجمة عظيمة. فخرج من عسكر أشرس، عاصم بن عمير [3] السّمرقندى وواصل بن عمرو القينى فى شاكريّته، فاستدارا حتّى صارا من وراء الأجمة والماء، فضمّوا خشبا وقصبا وما قدروا عليه، حتّى اتّخذوا طريقا، فعبروا عليه، فلم يشعر خاقان إلّا بالتّكبير من ورائه، وحمل واصل والشاكريّة على العدوّ، فقاتلوهم، فقتل تحت واصل برذونان، وهزم خاقان وأصحابه. وخرج عامر بن مالك من الحائط، فمضى إلى الجنيد، وهو فى سبعة آلاف، فتلقّى الجنيد، فأقبل معه وعلى مقدّمة الجنيد عمارة بن خزيم [4] فلمّا انتهى إلى فرسخين من بيكند، تلقّته خيل التّرك، فقاتلهم، وكاد الجنيد يهلك ومن معه، ثمّ أظهره الله، فسار حتّى قدم العسكر وقد ظفر بأولئك الأتراك. فزحف [56] إليه خاقان فالتقوا دون رومان [5] من بلاد سمرقند وقطن بن قتيبة على ساقة   [1] . مالك: فى الأصل ملك. وما فى مط والطبري (9: 1528) : مالك. [2] . مقفّ: كذا فى الأصل ومط: مقفّ. وما فى الطبري (9: 1528) : مقرّق. [3] . فى الأصل: عمير بن. وما أثبتناه يؤيّده الطبري (9: 1528) . [4] . خزيم: كذا فى الأصل: خزيم. وما فى مط والطبري (9: 1529) : حريم. [5] . رومان: كذا فى الأصل ومط: رومان. وفى الطبري (9: 1529) : زرمان. وفى حواشيه: ذرمان، درمان، زرنان، رزمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الجنيد، وواصل فى أهل بخارا، وكان ينزلها قاسم ملك الشّاش، وأسر الجنيد ابن أخى خاقان فى هذه الغزاة، فبعث به إلى هشام، وأوفد لمّا أصاب فى وجهه ذلك عمّار بن معاوية العدوىّ ومحمّد بن الجرّاح العبدىّ وعبد ربّه بن أبى صالح السّلمى إلى هشام. ثمّ أتى الجنيد مرو غانما ظاهرا. فقال خاقان: - «هذا غلام مترف هرب منّى [1] العام، وأنا مهلكه فى قابل [2] .» واستعمل الجنيد عمّاله، فلم يستعمل إلّا مضريّا، وكان بينه وبين الباهليّين تباعد، لما كان بينهم بالبروقان. ثمّ دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة وفى هذه السّنة استشهد الجرّاح بن عبد الله الحكمي فى من معه من أهل الشّام بمرج أردبيل، وافتتحت التّرك أردبيل. ولمّا بلغ هشاما أنّ التّرك قتلت الجرّاح بن عبد الله وافتتحت أردبيل، دعا سعيد بن عمرو الحرشىّ، [57] فقال له: - «أنّه بلغني أنّ الجرّاح بن عبد الله قد انحاز عن المشركين.» فقال: - «كلّا يا أمير المؤمنين، الجرّاح أعرف بالله من أن ينحاز عن العدوّ، لكنّه قتل.» قال: - «فما الرأى؟» قال: - «تبعثني على أربعين دابّة من دوّاب البريد، ثمّ تبعث إلىّ كلّ يوم أربعين   [1] . هرب منّى: كذا فى الأصل ومط: هرب منّى. وما فى الطبري (9: 1529) : هزمنى. [2] . قابل: كذا فى الأصل ومط والطبري: قابل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 دابّة عليها أربعون رجلا. ثمّ اكتب إلى أمراء الأجناد يوافونى.» ففعل ذلك هشام، فأصاب سعيد بن عمرو للتّرك ثلاثة [1] جموع وفودا إلى خاقان بمن أسروا من المسلمين وأهل الذّمّة. فاستنفذ الحرشىّ ما أصابوا، وأكثر القتل فيهم. ثمّ أنفذ هشام أخاه مسلمة بن عبد الملك فى أثر التّرك، فسار فى شتاء شديد البرد، ومطر وثلوج، فطلبهم، حتّى جاز الباب، وخلّف الحارث بن عمرو الطائىّ بالباب. وقعة الجنيد مع الترك وفى هذه السّنة كانت وقعة الجنيد مع التّرك ورئيسهم خاقان بالشّعب. وفيها قتل سورة بن أبجر والأشراف. وقد قيل: إنّ هذه الوقعة كانت فى سنة ثلاث عشرة. وكان سبب ذلك أنّ الجنيد بن عبد الرّحمن خرج [58] غازيا فى هذه السّنة يريد طخارستان، فنزل على نهر بلخ، ووجّه عمارة بن خزيم إلى طخارستان فى ثمانية عشر ألفا، وإبراهيم بن بسّام الليثي فى عشرة آلاف فى وجه آخر. وجاشت التّرك، فأتوا سمرقند، وعليها سورة بن أبجر أحد بنى دارم. وكتب سورة إلى الجنيد: - «انّ [2] خاقان جاش بالتّرك، فخرجت إليهم، فما قدرت أن أمنع حائط سمرقند، فالغوث!»   [1] . ثلاثة جموع: ما فى الأصل ومط: ثلاث جموع. وما فى الطبري (9: 1531) : ثلاثة جموع. [2] . فى الأصل ومط وحواشي الطبري: «أن ينزل خاقان جاش بالتّرك» بزيادة «ينزل» وهذه الكلمة زايدة مقحمة، وهي غير موجودة فى الطبري. (9: 1532) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 فأمر الجنيد النّاس بالعبور، فقام إليه المجشّر بن مزاحم السّلمى وابن بسطام الأزدى، وابن صبيح الحرقى، فقالوا: - «إن التّرك ليسوا كغيرهم، لا يلقونك صفّا ولا زحفا وقد فرّقت جندك: فمسلم بن عبد الرّحمن بالرّوب، والبختي [1] بهراة، ولم يحضرك أهل الطّالقان، وعمارة بن خزيم غائب.» وقال له المجشّر: - «إنّ صاحب خراسان لا يعبر النّهر فى أقلّ من خمسين ألفا، فأكتب إلى عمارة، فليأتك، وأمهل ولا تعجل.» قال: - «فكيف بسورة ومن معه من المسلمين، لو لم أكن إلّا فى بنى مرّة، أو من طلع معى من أهل الشّام، لعبرت.» قال: [59] - «أليس أحقّ النّاس أن يشهد الوغا ... وأن يقتل الأبطال، ضخم [2] على ضخم» وعبر، ونزل كسّ، وبعث الأشهب بن عبيد الحنظلي ليعلم علم القوم. فرجع إليه فقال: - «قد أتوك، فتأهّب.» فبلغ التّرك مسيره، فعوّروا [3] طريق كسّ وما فيه من الركايا. فقال الجنيد: - «أىّ الطّرق إلى سمرقند أمثل؟» قالوا: - «طريق المحترقة.» فقال المجشّر بن مزاحم السّلمى:   [1] . كذا فى الأصل: البختي. ما فى مط مهمل. وما فى الطبري (9: 1532) : البختري. [2] . ضحم: كذا فى الأصل ومط: ضخم. وما فى الطبري (9: 1533) : ضخما. [3] . فعوّروا طريق كسّ: كذا فى الأصل والطبري: فعوّروا. وفى مط: فعبروا. وفى حواشي الطبري: «فعوّروا الآبار التي فى ... » . كسّ كشّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 - «القتل بالسّيف أمثل من القتل بالنّار. إنّ طريق المحترقة فيه الشّجر والحشيش، ولم يزرع منذ سنتين، فقد تراكم بعضه على بعض، فإن لقيت خاقان، أحرق ذلك كلّه، فقتلنا بالنّار والدّخان، ولكن خذ طريق العقبة، فهو بيننا وبينهم سواء.» فأخذ الجنيد طريق العقبة، فارتقى فى الجبل [1] . فأخذ المجشّر بعنان دابّته وقال: - «إنّه كان يقال: إنّ رجلا من قيس مترفا يهلك على يده جند من جنود خراسان، وقد خفنا أن تكونه.» قال: «أفرخ روعك [2] .» فقال المجشّر: «أمّا ما كان بيننا مثلك فلا يفرح.» فبات فى أصل العقبة، ثمّ ارتحل حتّى. أصبح، فصار [60] الجنيد بين مرتحل ومقيم، فتلقّاه فارس. فقال له: - «ما اسمك؟» قال: - «حرب.» قال: - «ابن من؟» قال: - «ابن محرب.» قال: - «ممّن؟» قال: - «من بنى حنظلة.» قال:   [1] . فى بعض الأصول: الخيل. [2] . روعك: فى الأصل بضمّ الرّاء، وفى الطّبرى (9: 1534) : بفتحها. الرّوع (بضم الرّاء) : سواد القلب وقيل موضع الفزع منه. يقال أيضا: أفرغ روعك. اى: اسكن واستأمن. الرّوع (بفتح الراء) : الفزع. الحرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 - «سلّط الله عليك الحرب، والحرب، والكلب [1] .» ومضى بالنّاس حتّى دخل الشّعب وبينه وبين سمرقند أربعة فراسخ. فصبّحه خاقان فى جمع عظيم، وزحف إليه السّغد، وشاش، وفرغانة. فحمل خاقان على المقدّمة، وعليها عثمان بن عبد الله بن السّخّير [2] ، فرجعوا إلى العسكر والتّرك تتبعهم وجاءوهم من كلّ وجه، وقد كان الإخريد [3] قال للجنيد: - «ردّ النّاس إلى العسكر، فقد جاءك جمع كثير.» فطلع أوائل الخيل من العدوّ، والنّاس يتغدّون، فرءاهم عبيد الله بن زهير بن حيّان، فكره أن يعلم النّاس حتّى يفرغوا من غدائهم، والتفت أبو الوأل [4] ، فرءاهم، وقال: «العدّو!» فركب النّاس إلى الجنيد. فصيّر تميما والأزد فى الميمنة، وربيعة فى الميسرة ممّا يلي الجبل [5] ، وعلى مجفّفة خيل بنى تميم عبيد الله بن زهير بن حيّان، وعلى المجرّدة عمر بن حرفاس [6] المنقري، وعلى جماعة بنى تميم عامر بن مالك الحمّانى، وعلى الأزد عبد الله بن بسطام [61] بن مسعود، وعلى خيلهم المجفّفة والمجرّدة فضيل بن هنّاد وعبد الله بن حوذان: أحدهما على المجفّفة والآخر على المجرّدة. فالتقوا وربيعة ممّا يلي   [1] . الحرب والكلب. الحرب: الهلاك والويل. حرب الرجل: سلب ماله وتركه بلا شيء. الكلب: داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعضّ النّاس، فيكلب النّاس أيضا. العطش الشديد. [2] . السّخّير: كذا فى الأصل: السّخير. فى الطبري (9: 1534) : الشّخّير. وما فى مط: السحر. [3] . الإخريد: ما فى الأصل ومط مهمل، والإعجام من الطبري. [4] . ابو الوأل: كذا فى الأصل ومط: ابو الوأل. وما فى الطبري (9: 1534) : ابو الزّيّال. [5] . الجبل: كذا فى الأصل والطبري ومط. وفى حواشي الطبري (9: 1534) عن الأصول: الخيل. [6] . حرفاس: كذا فى الأصل ومط: حرفاس. وفى الطبري (9: 1535) : جرفاس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 الجبل [1] فى مكان ضيّق، فلم يقدم عليهم أحد. وقصد العدوّ الميمنة، وفيها تميم والأزد فى موضع واسع فيه مجال للخيل، فترجّل حيّان بن عبيد الله بن زهير بين يدي أبيه، ودفع برذونه إلى أخيه عبد الملك. فقال له أبوه: - «يا حيّان، انطلق إلى أخيك فإنّه حدث وأخاف عليه.» فأبى، فقال: - «يا بنىّ، إنّك إن قتلت على حالك هذه، قتلت عاصيا.» فرجع إلى الموضع الّذى خلّف فيه أخاه والبرذون فإذا أخوه قد لحق بالعسكر وقد شدّ البرذون، فقطع حيّان مقوده وركبه، فإذا العدوّ قد أحاطوا بالموضع الّذى خلّف فيه أباه وأصحابه، فأمدّهم الجنيد بنصر بن سيّار وبسبعة فيهم جميل بن غزوان. فدخل عبيد الله بن زهير معهم، وشدّوا على العدوّ، فكشفوهم، ثمّ كرّوا عليهم، فقتلوا جميعا، فلم يفلت أحد ممّن كان فى ذلك الموضع. [62] قتل عبيد الله بن زهير، وابن حوذان، وابن حرفاس، والفضيل [2] بن هنّاد، وجالت الميمنة والجنيد واقف فى القلب، فأقبل إلى الميمنة، فوقف تحت راية الأزد، وقد كان جفاهم. فقال له صاحب راية الأزد: - «ما جئتنا لتحبونا ولا لتكرمنا، ولكنّك قد علمت أنّه لا يوصل إليك ومنّا رجل حي، فإن ظفرنا كان لك، وإن هلكنا لم تبك علينا، ولعمري، لئن ظفرنا وبقيت لا أكلّمك كلمة أبدا.» وتقدّم، فقتل، وأخذ الرّاية ابن مجّاعة، فقتل، فتناول الرّاية ثمانية عشر   [1] . الجبل: كذا فى الأصل: و (9: 1535) : الجبل (كما فى الموضع السابق) [2] . الفضيل: فى الأصل ومط: الفضل. وفى الطبري (9: 1536) : الفضل كما فى الموضع السابق منه، فوحّدنا الضبط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 رجلا من الأزد. قال: وصبر النّاس يقاتلون حتّى أعيوا. فكانت السّيوف لا تحيك ولا تقطع شيئا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به! حتّى ملّ الفريقان. فكانت المعانقة، فتحاجزوا. فقتل من الأزد خلق، وفيهم الفضيل الحارثي صاحب الخيل. وقتل يزيد بن الفضل الحدّانى، وكان حمل يوم الشّعب على مائة بعير سويقا للمسلمين، فجعل يسأل عن النّاس، فلا يسأل عن أحد إلّا قيل له: «قتل.» فاستقدم وهو يقول: - «لا إله إلّا الله.» فقاتل حتّى [63] قتل. وقاتل يومئذ محمّد بن عبد الله بن حوذان وهو على فرس أشقر، عليه تجفاف مذهّب. فحمل سبع مرّات يقتل فى كلّ مرّة رجلا، ثمّ يرجع إلى موقفه، فهابه كلّ من كان فى ناحيته. فناداه التّرجمان من قبل خاقان: - «يقول لك الملك: لا تستقتل، وتحوّل إلينا، فنرفض صنمنا الّذى نعبده، ونعبدك» . فقال محمّد: - «إنما أقاتلكم لتتركوا عبادة كلّ شيء، وتعبدوا الله وحده.» وقاتل حتّى استشهد. وقتل جشم بن قريظ الهلالي، وقتل النّضر بن راشد العبدى، وكان دخل على امرأته والنّاس يقتتلون، فقال لها: «كيف أنت إذا أتيت بابى ضمرة فى لبد مضرّجا بالدّماء؟» فشقّت جيبها، ودعت بالويل. فقال: - «حسبك، لو أعولت كلّ أنثى علىّ اليوم، لعصيتها شوقا إلى الجنّة.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وقاتل حتّى استشهد. وبينا النّاس كذلك، إذ أقبل رهج، وطلعت فرسان. فنادى منادى الجنيد: - «الأرض، الأرض.» فترجّل، وترجّل معه النّاس. ثمّ نادى منادى الجنيد: - «ليخندق كلّ قائد على حياله.» فخندق النّاس فتحاجزوا. [64] وأصبحوا يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النّهار، فلم ير موضعا القتال [1] فيه أيسر من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصدوهم. فقالت بكر لزياد: - «إن القوم قد كثروا، فخلّنا نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا.» فقال لهم: - «قد مارست منذ سبعين سنة أنّكم إن حملتم عليهم فصعدتم [2] انبهرتم، ولكن دعوهم حتّى يقربوا.» ففعلوا. فلمّا قربوا منهم، حملوا عليهم، فأخرجوا لهم، فسجد الجنيد. وقال خاقان يومئذ: - «إنّ العرب إذا أحرجوا استقتلوا. فخلّوهم حتّى يخرجوا، ولا تعرّضوا لهم.» وخرج جوار للجنيد يولولن، فانتدب رجال من أهل الشّام، فقالوا: - «الله الله، يا أهل خراسان، إلى أين؟»   [1] . القتال: كذا فى الأصل: القتال. وما فى مط والطبري (9: 1538) : للقتال. [2] . فصعدتم انبهرتم: كذا فى الأصل. فى مط: فصعدات انهرتم (!) . وما فى الطبري (9: 1539) : فصعدتم انهزمتم. وفى حواشيه: فصدعتم انهرم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وقال [الجنيد [1]] : - «ليلة كليلة الجرّاح، ويوم كيومه.» فقيل له: - «لم، أصلحك الله؟» قال: - «إن الجرّاح سير إليه بآذربيجان، فقتل [2] أهل الحجى والحفاظ. فلمّا جنّ عليه الليل انسلّ النّاس تحت الظّلمة إلى مدائن لهم بآذربيجان، وأصبح الجرّاح فى قلّة، فقتل.» سبب قتل سورة بن أبجر وفى هذه الغزوة، قتل سورة بن أبجر التّميمى. [65] وكان سبب ذلك أنّ عبد الله بن حبيب قال للجنيد: - «اختر بين أن تهلك أنت أو سورة.» فقال: - «هلاك سورة أهون علىّ.» قال: - «فاكتب إليه، فليأتك فى أهل سمرقند، فإنّ التّرك إن بلغهم أنّ سورة قد توجّه إليك انصرفوا إليه، فقاتلوه.» فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم عليه، وقيل: كتب إليه: «أغثنى.» فقال عبادة بن السّليل لسورة: - «انظر أبرد بيت بسمرقند، فنم فيه. فإنّك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير، أم رضى.» وقال له حليس [3] بن غالب الشّيبانى: - «إنّ التّرك بينك وبين الجنيد، فإن خرجت كرّوا عليك، فاختطفوك.»   [1] . الجنيد: تكملة من الطبري (9: 1539) . [2] . فقتل: سقطت فى مط من قوله «فقتل» إلى قوله: «بآذربيجان» . [3] . حليس: كذا فى الأصل والطبري. (9: 1539) فى مط: حلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 فكتب إلى الجنيد: - «إنّى لا أقدر على الخروج.» فكتب إليه الجنيد: - «يا بن اللخناء، لتقدمنّ، أو لاوجّهنّ شدّاد بن خالد الباهلي وكان له عدوّا فاقدم، وضع فلانا بفرّخشاذ فى خمسمائة ناشب، والزم الماء، فلا تفارقه.» فأجمع على المسير. فقال له الوجف بن خالد العبدى: - «إنّك لهلك نفسك والعرب ومن معك بمسيرك.» قال: - «لا بدّ.» فقال له عبادة [66] وحليس: - «أمّا إذا أبيت فخذ على النّهر.» فقال: - «أنا لا أصل إليه على النّهر فى يومين، وبيني وبينه من هذا الوجه ليلة فأصبّحه، فإذا سكنت الرّجل [1] سرّ فصبّحته.» ذكر إفشاء سرّه فى ذلك حتّى هلك هو ومن معه فكان خطأه فى هذا الرّأى أن أظهره، وكان ينبغي أن يعرّض بغير الطّريق [الّذى [2]] يسلكه. فلمّا قال ما قاله، جاءت عيون الأتراك إلى خاقان، فأخبروه بما عزم عليه سورة. وأمر سورة بالرّحيل، واستخلف على سمرقند موسى بن أسود، وخرج فى اثنى عشر ألفا. فأصبح على رأس جبل دلّه عليه علج. فتلقّاه خاقان حين أصبح، وقد سار ثلاثة فراسخ، وبينه وبين الجنيد فرسخ.   [1] . الرّجل: كذا فى مط والطبري (9: 1540) : الرجل. نقطة الجيم غير واضحة فى الأصل. [2] . الّذى: ساقطة فى الأصل وموجودة فى مط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 فقال بعض الرّواة وهو أبو الذّيّال: - «قاتلهم فى أرض حوّارة.» فصبر، وصبروا حتّى اشتدّ الحرّ. فقال له غورك: - «يومك يوم حارّ، فلا تقاتلهم حتّى تحمى الشّمس عليهم، وعليهم السّلاح، يثقلهم.» فأخذ خاقان برأيه، وأشعل النّيران فى الحشيش، وواقعهم، وحال بينهم وبين الماء. فقال سورة لعبادة: - «ماذا ترى يا أبا السّليل؟» قال: - «تركت الرّأى.» قال: - «فما ترى الآن؟» قال: - «أن تشرع الرّماح، وتزحف [67] زحفا، فإنّما هو فرسخ حتّى تصل إلى العسكر.» قال: «لا أقوى على هذا، ولا يقوى فلان وفلان وعدّد رجالا ولكنّى أرى أن أجمع الخيل ومن أرى أنّه يقاتل، فأصكّهم به، سلمت أم عطبت.» فجمع النّاس، وحملوا، فانكشف التّرك، وثار الغبار، فلم يبصروا. وكان وراء التّرك لهب فسقطوا فيه، سقط فيه العدوّ والمسلمون، وسقط سورة، فاندقّت فخذه، وتفرّق النّاس، فانجلت الغبرة والنّاس متفرّقون. فعطفت التّرك، فقتلوهم لم ينج منهم إلّا ألف رجل. فانحاز المهلّب بن زياد العجلى فى سبعمائة إلى رستاق يعرف بالمرغاب، فأصيب المهلّب بالمرغاب. لأنّ القوم تبعوهم وقاتلوهم، وقاتلهم أهل قصر من قصور المرغاب. فلمّا أصيب المهلّب، ولّوا أمرهم الوجف بن خالد. فقال لهم غورك وكان فى من تبعهم مع التّرك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 - «يا وجف، لكم الأمان.» فقال قريش بن عبد الله.» - «لا تثقوا بهم. ولكن إذا جنّنا [1] الليل خرجنا عليهم حتّى نأتى سمرقند. فإنّا إن أصبحنا قتلونا.» فعصوه وأقاموا. فساقوهم إلى خاقان فقال: - «لا أجيز أمان غورك.» فقال غورك للوجف: - «أنا عبد لخاقان، من شاكريّته.» قال: - «فلم غررتنا؟» فقاتلهم الوجف وأصحابه [68] فقتلوا غير سبعة عشر رجلا دخلوا حائطا فأمسوا. فقطع المشركون شجرة فألقوها على ثلمة الحائط، فجاء قريش بن عبد الله العبدى إلى الشّجرة، فرمى بها، فخرج فى ثلاثة، فأتوا ناؤوسا فكمنوا فيه، وجبن الآخرون، فقتلوا حين أصبحوا، وقتل سورة. وكان الجنيد خرج من الشّعب لمّا اشتغل التّرك بسورة، وبادر بالسّير، وكان خالد بن عبيد الله بن حبيب يقول له: - «سر، سر.» ومجشّر بن مزاحم السّلمى يقول: - «أذكّرك الله، أقم.» والجنيد يتقدّم. فلمّا رأى المجشّر ذلك، نزل، فأخذ بلجام دابّة الجنيد. فقال: - «والله، لا تسير ولتنزلنّ طائعا أو كارها، ولا ندعك تهلكنا بقول [2] هذا   [1] . جنّنا: كذا فى الأصل والطبري (9: 1542) : جنّنا. فى مط: جاءنا. فى حواشي الطبري: أجنّنا. [2] . بقول: كذا فى الأصل والطبري (9: 1543) : بقول: وما فى مط: يقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 الهجرىّ، انزل.» فنزل، ونزل النّاس، فلم يتتامّ نزولهم حتّى طلع التّرك. فقال المجشّر: - «لو لقونا ونحن نسير، ألم يستأصلونا؟» فلمّا أصبحوا تناهضوا، فانكشفت طائفة وجال النّاس. فقال الجنيد: - «ايّها النّاس، إنّها النّار.» فتراجعوا، وأمر الجنيد رجلا فنادى: - «أىّ عبد قاتل فهو حرّ.» فقاتل العبيد قتالا عجبا عجب منه النّاس، وجعل أحدهم يأخذ اللّبد، فيجوبه [1] ، ويجعله فى عنقه يتوقّى به، فسرّ النّاس بما رأوا من صبرهم، [69] وحمل العدوّ، وصبر النّاس حتّى انهزم العدوّ. فقال موسى بن النّعر للنّاس: - «أتفرحون بما رأيتم من العبيد! والله، إنّ لكم منهم ليوما أرونان [2] .» ومضى الجنيد إلى سمرقند، فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو. وكان المجشّر صاحب رأى فى الحرب يرجع إليه. وأمّا عبيد الله بن حبيب فكان له تعبئة فى القتال وعلم به، وكان عبد الرّحمن بن صبح الحرقىّ إذا نزل الأمر العظيم فى الحرب، لم يكن لأحد مثل رأيه. ولمّا انصرف التّرك إلى بلادهم بعث الجنيد بنهار بن توسعة مع ابن عمّ له إلى هشام بن عبد الملك يخبره.   [1] . فيجوبه: كذا فى الأصل: يجوبه. فى مط: يحويه يحويه (بالتكرار) . وما فى الطبري (9: 1543) : يجوبه. وفى حواشيه: فيحربه. جاب الثوب: قطعه. [2] . أرونان: كذا فى الأصل والطبري (9: 1543) : أرونان. فى مط: أروبان. وفى حواشي الطبري: أرونان، أزوفان، أروزبان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 - «أنّ سورة عصاني. أمرته بلزوم الماء، فلم يفعل، وتفرّق أصحابه، وأصيب سورة فى جماعة من أصحابه.» فدعا هشام بنهار بن توسعه، فاستخبره الخبر، فأخبره بجميع ما شهد. وكان الجنيد أوفد إلى خالد، وأوفد خالد إلى هشام يحسّن أمره فى قتل سورة. فقال هشام: - «إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 مصاب سورة بخراسان، والجرّاح بالباب.» فكان أبلى نصر بن سيّار يوم الشّعب، فانقطع سيفه، وانقطع سير [1] ركابه. فأخذ سيور [2] ركابه يضرب بها من كان يقاتله [70] حتّى أثخنه، وسقط فى اللهب مع سورة جماعة يومئذ، فلم يشكر الجنيد لنصر ما كان من بلائه. فقال نصر: إن تحسدونى على حسن البلاء لكم ... يوما، فمثل بلائي جرّ لى حسدا يأبى الإله الّذى أعلى بقدرته ... كعبي عليهم، وأعطى فوقكم عضدا وضربي التّرك عنكم يوم فرقكم ... بالسّيف فى الشّعب، حتّى جاوز السّندا ذكر آراء أشير بها عليه، فأخذ بأصولها [3] ولمّا أقام الجنيد بسمرقند، وانصرف خاقان إلى بخارى، وكان عليها قطن بن قتيبة، فخاف النّاس على قطن من التّرك. فشاورهم الجنيد. فقال قوم: - «الزم سمرقند، واكتب إلى أمير المؤمنين يمدّك بالجنود.» وقال قوم: - «بل تسير وتأتى ربنجن، ثمّ تسير منها إلى كسّ ثمّ إلى نسف، فتصل منها إلى أرض زمّ، وتقطع النّهر، فتنزل آمل، فتأخذ عليه بالطّريق.»   [1] . سير: كذا فى الأصل والطبري: سير. وفى الطبري (9: 1546) : سيور. [2] . سيور: كذا فى الأصل والطبري: سيور. وفى مط: سورة! [3] . نقلنا العنوان إلى فوق بسطرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فبعث إلى عبد الله بن أبى عبد الله، فقال: - «قد اختلف النّاس علىّ فأخبره بما قالوا فما [71] الرأى؟» فاشترط عليه ألّا يخالفه فى ما يشير به من ارتحال ونزول أو قتال. قال: - «نعم.» - «فإنى أطلب إليك خصالا.» قال: - «ما هي؟» قال: - «تخندق حيثما نزلت، ولا يفوتنّك حمل الماء ولو كنت على شاطئ نهر، وأن تطيعنى فى نزولك وارتحالك. فأعطاه ما أراد. فقال: - «أمّا ما أشاروا به عليك فى مقامك بسمرقند حتّى يأتيك الغياث، فالغياث يبطئ عليك. وإن سرت فأخذت بالنّاس غير الطّريق، فتتّ فى أعضادهم وانكسروا عن عدوّهم، واجترأ عليك خاقان وهو اليوم قد استفتح بخارى ولم تفتح له. فإن أخذت بهم فى غير الطّريق، تفرّق النّاس عنك مبادرين إلى منازلهم، ويبلغ أهل بخارى فيستسلمون لعدوّهم وإن أخذت الطّريق الأعظم، هابك العدوّ. والرّأى أن تعمد إلى عيالات من شهد الشّعب وأصحاب سورة، فتقسمهم على عشائرهم، وتحملهم معك، فإنّى أرجو أن ينصرك الله على عدوّك وتعطى كلّ رجل تخلّف [1] بسمرقند ألف درهم وفرسا.» فأخذ برأيه، وخلّف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشّخّير فى ثمانمائة رجل فرسانا [72] ورجّالة، وأعطاهم سلاحا. فشتم النّاس عبد الله بن أبى عبد الله وقالوا:   [1] . كذا فى مط والطبري (9: 1549) تخلّف (بالخاء المعجمة) وما فى الأصل: تخلف (بالمهملة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 - «عرّضنا للهلاك.» وأمر الجنيد بحمل العيال، وخرج معه النّاس، وعلى طلائعه الوليد بن القعقاع، وسرّح الجنيد الأشهب بن عبيد الحنظلي ومعه عشرة من طلائع الجند، وقال له: - «كلّما مضيت مرحلة، فسرّح إلىّ رجلا يعلمني الخبر.» وسار الجنيد، فلمّا صار بقصر الرّيح، أخذ عطاء [1] الدّبوسىّ [2] بلجام فرس الجنيد، فكبحه فقرع رأسه هارون الشّاشى مولى ابن خازم بالرّمح حتّى كسره على رأسه. فقال الجنيد لهارون: «خلّ عن الدّبوسىّ.» وقال له: - «مالك يا دبوسىّ؟» قال: أنظر أضعف شيخ فى عسكرك، فسلّحه سلاحا تامّا، وقلّده سيفا وجعبة وترسا، وأعطه رمحا، ثم سر بنا على قدر مشيه، فإنّا لا نقدر على السّوق والقتال وسرعة السّير ونحن رجّالة.» ففعل ذلك الجنيد، فلم يعرض النّاس عارض حتّى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان، فعرضوا لهم بكرمينية أوّل يوم من شهر رمضان. فلمّا ارتحل الجنيد من كرمينية قدّم محمّد بن زيد [3] فى الأساورة آخر النّهار [73] فلمّا كان فى طرف مفازة كرمينية رأى العدوّ ضعيفا. فرجع إلى الجنيد، فأخبره. فنادى منادى ألّا يخرج المكذّبون [4]   [1] . عطاء: فى الأصل: عطا. من دون همزة. [2] . الدّبوسى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1550) . فى مط: الديوسى. [3] . زيد: كذا فى الأصل: زيد. فى مط: يزيد. فى الطبري (9: 1550) : الرندى. [4] . المكذبون: كذا فى الأصل ومط: المكذبون. فى الطبري (9: 1550) : المكتّبون. وفى حواشيه: المكذبون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 إلى عدوّهم. فخرج النّاس وشبّت الحرب، وجاء عبد الله بن أبى عبد الله إلى الجنيد يضحك. فقال له الجنيد: - «ما هذا بيوم ضحك.» قال: - «بلى، والحمد للَّه، إذا لم يلقك هؤلاء إلّا فى حال معطشة على ظهر وأنت مخندق آخر النّهار، بل أتوك كالّين وأنت مستريح، معك الزّاد.» فما قاتل التّرك إلّا قليلا، ثم رجعوا. وكان عبد الله بن أبى عبد الله قال للجنيد وهم يقاتلون: - «ارتحل.» فقال الجنيد: - «فهل من حيلة؟» قال: - «نعم، تمضى برايتك [1] قدر ثلاث غلوات [2] ، فإنّ خاقان يودّ أنّك لو أقمت، فينطوى عليك إذا شاء.» فأمر بالرّحيل وعبد الله بن أبى عبد الله على السّاقة. ثمّ أرسل إليه أن: «أنزل.» قال: - «أنزل على غير ماء؟» فأرسل إليه: - «إن لم تنزل ذهبت خراسان من يدك.» فنزل، وأمر النّاس أن يستقوا. فذهب النّاس الرّجالة والنّاشبة وهما صفّان، فاستقوا، وباتوا، فلمّا أصبحوا ارتحلوا. فقال عبد الله بن أبى عبد الله:   [1] . برايتك: كذا فى الأصل والطبري: برايتك. وما فى مط: بمراتبك. [2] . غلوات: كذ فى الأصل: غلوات. فى الطبري (9: 1551) : غلاء. فى مط: غاوات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 - «إنكم معشر العرب أربعة جوانب، فليس [74] يغيث [1] بعضكم بعضا، كلّ ربع لا يقدر أن يزول عن مكانه مقدّمة وهم: القلب ومجنّبتان وساقة، فإن جمع خاقان خيله ورجاله، ثمّ صدم جانبا منكم وهم ساقه كان بواركم، وبالحرىّ أن يفعل [2] ، وأنا أتوقّع ذلك فى يومى، فشدّوا السّاقة بخيل.» فوجّه الجنيد بخيل بنى تميم والمجفّفة، وجاءت التّرك، فمالت على السّاقة وقد دنا المسلمون من الطّواويس، فاقتتلوا واشتدّ الأمر بينهم، فحمل سلم بن أحوز على عظيم من عظماء التّرك، فقتله، فتطيّر التّرك وانصرفوا من الطّواويس، ومضى المسلمون فأتوا بخارى يوم المهرجان، فتلقّاهم أهل بخارى بالدّراهم البخاريّة، ففرّق فيهم عشرة عشرة. وكان الجنيد يذكر خالد بن عبد الله ويقع [3] فيه ويقول: - «ربذة بن [4] الرّبذ، صنبور [5] بن صنبور، قلّ بن قلّ، هيفة بن [6] الهيف.» وقدمت الجنود على الجنيد مع عمرو بن مسلم الباهلي فى أهل البصرة، ومع عبد الرّحمن بن نعيم الغامدى [7] فى أهل الكوفة وهو بالصّغانيان، وابتدأ الشّعراء يمدحون نصر بن سيّار ويذكرون بلاءه، ويذمّون الجنيد، فتركنا ذكرها. [75]   [1] . يغيث: كذا فى الأصل ومط: يغيث. وما فى الطبري (9: 1551) : يعيب. [2] . يفعل: كذا فى الأصل والطبري (9: 1552) : يفعل. فى مط: تفعل. [3] . يقع فيه: يسبّه ويعيبه ويغتابه. [4] . ربذة بن: كذا فى الأصل: ربذة بن. فى مط والطبري (9: 1552) : ربذة من. وفى حواشي الطبري: زبدة من الزبد. [5] . صنبور بن صنبور: كذا فى الأصل والطبري (9: 1552) : صنبور بن صنبور. فى مط: سنّور بن سنّور. [6] . فى الطبري (9: 1552) : من الهيف. [7] . الغامدى: كذا فى الأصل: الغامدى. فى مط: العامدى. فى الطبري: العامري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائه وفى هذه السّنة هلك عبد الوهّاب بن بخت وهو مع البطّال بأرض الرّوم. غزا معه فى هذه السّنة، فانهزم النّاس عن البطّال، فانكشفوا، فجعل عبد الوهّاب يكرّ [1] فرسه ويقول: - «ما رأيت فرسا أجبن منه، سفك الله دمى إن لم أسفك دمك.» ثمّ ألقى البيضة عن رأسه وصاح: - «أنا عبد الوهّاب بن بخت، إلى أين أيّها النّاس؟ أمن الجنّة تفرّون؟» ثمّ تقدّم فى نحور العدوّ، فمرّ برجل وهو يقول: - «وا عطشاه!» فقال: - «تقدّم، الرّىّ أمامك.» قال: فخالط القوم، وقتل وقتل فرسه. وفى هذه السّنة صار من دعاة ولد العباس جماعة إلى خراسان، فأخذ الجنيد رجلا منهم، فقتله، ثم قال: - «من أصبت منهم فدمه هدر.» ودخلت سنة أربع عشرة ومائة وفيها ولى عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي خراسان، وتوفّى الجنيد قبل أن يصل إليها. وكان سبب ولاية عاصم أنّ الجنيد تزوّج الفاضلة بنت يزيد بن [76]   [1] . يكرّ: كذا فى الأصل. يكرّ. فى الطبري (9: 1560) : يكزّ. بالزّاء المعجمة. فى حواشيه: يكرّ، كما فى الأصل. فى مط: تكرّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 المهلّب، فغضب هشام على الجنيد، وكان بين عاصم وبينه عداوة شديدة، فولّاه خراسان وقال: - «إن أدركته وبه رمق فأرهق نفسه.» وأنّما قال ذلك، لأنّ الجنيد كان قد استسقى بطنه، فمات الجنيد قبل وصول عاصم. فقال أبو الجويرية: هلك الجود والجنيد جميعا ... فعلى الجود والجنيد السّلام أصبحا ثاويين فى بطن مرو ... ما تغنّى على الغصون الحمام كنتما نهزة الكرام، فلمّا ... متّ مات النّدى ومات الكرام وفى هذه السّنة خلع الحارث بن سريج، وكانت الحرب بينه وبين عاصم بن عبد الله. وذلك أنّ عاصما لمّا قدم خراسان، أقبل الحارث بن سريج حتّى قدم بلخ، وعليها نصر بن سيّار، والبختي [1] بن ضبيعة المرّى ولّاهما الجنيد. فلمّا انتهى إلى قنطرة عطاء، وهي على نهر بلخ على فرسخين من المدينة، تلقّاه نصر بن سيّار فى عشرة آلاف، والحارث بن سريج فى أربعة آلاف. فدعاهما الحارث إلى الكتاب والسنّة والبيعة للرّضا. فقال قطن بن عبد الرّحمن بن حرّ [2] الباهلي: - «يا حارث، أنت تدعو إلى كتاب الله والسّنة. [77] والله، لو أنّ جبرئيل عن يمينك وميكائيل عن يسارك، ما أجبتك.»   [1] . البختي: الأصل يشبه أن يكون هكذا: البختي. ما فى مط مهمل وفى الطبري (9: 1566) : التجيبى. وفى حواشيه: النجي، البخنى (با همال الثالث) ، المحيي، المحتى. [2] . حرّ: كذا فى الأصل ومط وما فى الطبري (9: 1567) : جزى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وقاتلهم، فأصابته رمية فى عينه، فكان أوّل قتيل، وانهزم إلى المدينة أهل بلخ، واتّبعهم الحارث حتى دخلها وخرج نصر من باب آخر، فأمر الحارث بالكفّ عنهم، وخرج إلى الجوزجان، واستعمل على بلخ رجلا من ولد عبد الله بن خازم. ثمّ استشار أصحابه فى قصد مرو. فقال له أبو فاطمة: - «مرو بيضة خراسان، وفرسانهم كثير، لو لم يلقوك إلّا بعبدهم لانتصفوا منك، فأقم، فإن أتوك قاتلتهم، وإن أقاموا قطعت المادّة عنهم.» فعصاه وغيره [1] وسار. فقال أهل الدّين من مرو: - «إن مضى إلى أبرشهر ولم يأتنا فرّق جماعتنا، وإن أتانا نكب.» وبلغ عاصما أنّ أهل مرو يكاتبون الحارث، فأجمع على الخروج وقال: - «يا أهل خراسان، قد بايعتم الحارث بن سريج، وأنّه قصد بلخ والجوزجان والفارياب والطّالقان ومرو الرّوذ ففتحها، وليس يقصد مدينة إلّا خلّيتموها له. أنا لا حق بأرض قومي أبرشهر، وكاتب منها أمير إلى المؤمنين حتّى يمدّنى بعشرين ألفا من أهل الشّام.» فقال له مجشّر بن مزاحم: - «إن أعطوك بيعتهم بالطّلاق والعتاق [78] فأقم، وإن أبوا، فسر حتّى تنزل أرض أبرشهر وتكاتب أمير المؤمنين.» فقال خالد بن هريم [2] وهلال بن عليم: - «لا والله، لا نخلّيك والذّهاب، فيلزمنا ذنبك عند أمير المؤمنين، ونحن.   [1] . وغيره: كذا فى الأصل: وغيره. فى مط: وعبر. [2] . هريم: كذا فى الأصل والطبري (9: 1569) : هريم. فى مط: هزيم (بالزاء المعجمة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 معك حتّى نموت إن بذلت الأموال.» قال: - «فإنّى أفعل.» قال يزيد بن قران الرّياحى: - «إن لم أقاتل معك ما قاتلت، فبنت الأبرد بن قرّة الرّياحى طالق ثلاثا.» وكانت عنده. فقال عاصم: - «كلّكم على هذا؟» قالوا: - «نعم.» وكان سلمة بن أبى عبد الله صاحب حرسه يحلّفهم بالطّلاق. وأقبل الحارث بن سريج إلى مرو فى جمع كثير يقال ستّون ألفا، ومعه فرسان الأزد وتميم وعدّة من الدّهاقين، وخرج عاصم فى أهل مرو، وغيرهم، فعسكر عند البيعة وقال: فأعطى النّاس دينار دينارا، فخفّ عنهم النّاس، وأعطاهم ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير. فلمّا قرب بعضهم من بعض، أمر بالقناطر فكسرت. فجاء أصحاب الحارث، فقالوا: - «تحصروننا فى البرّيّة [1] ، دعونا نقطع إليكم فنناظركم فى ما خرجنا له.» فأبوا عليهم. وذهبت رجّالتهم يصلحون القناطر، وأتاهم رجّالة مرو يقاتلونهم ويمنعونهم. فمال محمّد بن المثنّى برايته إلى عاصم، فلمّا فعل ذلك بدأ أصحاب الحارث بالحملة، والتقى النّاس، فقتل قوم وانهزم أصحاب الحارث، فغرق بشر كثير من أصحاب [79] الحارث ومضت الدّهاقين إلى بلادهم. فأرسل عاصم بجماعة إلى الحارث يسأله ما يريد. فبعث الحارث إليه بمحمّد بن مسلم وحده، فرجع معهم، وقال لهم: - «إنّ الحارث وإخوته يقرأون عليكم السّلام ويقولون: قد عطشنا، فدعوا   [1] . البرّيّة: كذا فى الأصل والطبري (9: 1570) : البرّيّه. وفى مط: البويه. وهو خطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 ننزل الليلة ونتناظر غدا، فإن اتّفقنا، وإلّا كنتم من وراء أمركم.» فأبوا عليه. فقال مقاتل بن حيّان: - «يا أهل خراسان، كنّا بمنزلة أهل بيت واحد، ثغرنا واحد، ويدنا على عدوّنا واحدة، وقد أنكرنا ما صنع صاحبكم. وجّه إليه أميرنا بجماعة الفقهاء والقرّاء من أصحابه، ووجّه [هو] رجلا واحدا.» قال محمّد: - «إنّما أتيتكم مبلغا، وسيأتيكم الّذى تطلبون غدا إن شاء الله.» وانصرف محمّد بن مسلم إلى الحارث. وسار الحارث، فبلغ عاصما، فلمّا أصبح سار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فهزم أصحاب الحارث وقتلوا قتلا ذريعا، وقطع الحارث وادي مرو، وضرب رواقا. فكفّ عنه عاصم، ولو ألحّ فى طلبه لأهلكه. وكان الحارث قال لأصحابه: - «لا يردّ لى راية.» فلمّا هزم هذه الهزيمة، أجمع أصحابه على مفارقته. وكان عاصم لمّا رأى الحارث يستفحل أمره والنّاس يميلون إليه وهو يفتح كلّ يوم [80] مدينة، هابه وانهزم أصحابه، وخشي أن يبطئ عنه المدد من جهة الخليفة فيهلك. ودخلت سنة سبع عشرة ومائة وفيها عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان وضمّها إلى خالد بن عبد الله، فولّاها أخاه أسد بن عبد الله. ذكر السّبب فى ذلك كان عاصم كتب إلى هشام بن عبد الملك: - «أمّا بعد، يا أمير المؤمنين، فإنّ الرّائد لا يكذب أهله. وقد كان من أمير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 المؤمنين إلىّ ما يحقّ به علىّ النّصيحة له، وإنّ خراسان لا تصلح إلّا أن تضمّ إلى صاحب العراق، فتكون موادّها ومعونتها فى الأحداث والنّوائب من قريب لتباعد أمير المؤمنين عنها وتباطؤ غياثه عمّن يكون بها.» فلمّا أمضى كتابه، أخرج حديثه إلى أصحابه، مثل مجشّر بن مزاحم ويحيى بن حصين وأشباههم. فقال لهم المجشّر بعد ما مضى الكتاب: - «كأنّك بأسد قد طلع عليك.» فقدم أسد بعد كتاب عاصم بشهرين. ثمّ عاد الحارث واستعدّ وأراد مناجزة عاصم. فلمّا بلغ عاصما أنّ أسد بن عبد الله قد أقبل، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابا على أن ينزل الحارث أىّ كور خراسان [81] شاء، على أن يكتبوا [1] جميعا إلى هشام يسألونه كتاب الله وسنّة نبيّه. صلّى الله عليه فإن أبى، أجمعوا أمرهم جميعا عليه. فختم على الكتاب جماعة من الرّؤساء ممّن رضى به، وأبى يحيى بن حصين وقال: - «هذا خلع لأمير المؤمنين.» وكان فى بعث الشّام رجل من اليمانية يعدل بألف رجل، اختارته اليمانية، يكنّى أبا داود، وكان فى خمسمائة. فكان لا يمرّ بقرية من قرى خراسان إلّا قال لأهلها: - «انتظروني [2] ، فكأنّكم بى قد مررت بكم راجعا حاملا رأس الحارث بن سريج.» فلمّا التقوا خرج ودعاه إلى البراز، فبرز له الحارث بن سريج، فضربه فوق   [1] . يكتبوا: كذا فى الأصل ومط: يكتبوا. فى الطبري (9: 1577) : يكتبا. [2] . انتظروني: كذا فى الأصل. فى مط: انظرونى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 منكبه الأيسر، فصرعه، وحامى أصحابه فحملوه، فخولط فكان يقول: - «يا أبرشهر [1] ، يا أصحاب العموداه [2] ، الحارث بن سريجاه.» ورمى الحارث بن سريج رجل من أهل الشّام بنشّابة فأصابت لبان فرسه، فاستحضره وألحّ عليه بالضّرب حتّى [3] عرّقه وشغله عن ألم الجراحة، فحمل الشّامى عليه برمحه، حتّى إذا ظنّ أنّ الرّمح قد خالطه، مال الحارث عن فرسه، ثمّ لحق الشّامىّ. فقال له الشّامىّ: - «بحرمة الإسلام إلّا كففت عن دمى.» قال: - «انزل عن فرسك.» فنزل، وركبه الحارث. وعظّم أهل [82] الشّام يحيى بن الحصين لما كان منه فى أمر الكتاب الّذى كتبه عاصم. وكان هشام لمّا بلغه أمر الحارث بن سريج وكتاب عاصم، كتب إلى خالد بن عبد الله: - «ابعث أخاك ليصلح ما أفسد. فإن كانت وجبة فلتكن به.» فوجّه أخاه أسدا إلى خراسان وما يملك عاصم من خراسان إلّا مرو وناحية أبرشهر، والحارث بن سريج بمرو الرّوذ، وخالد بن عبد الله الهجرىّ بآمل من قبل الحارث. فأقام أسد أيّاما يروّى: أيقصد الحارث بمرو الرّوذ، أم خالدا بآمل؟ حتّى أجمع على توجيه عبد الرّحمن بن نعيم الغامدى فى أهل الكوفة إلى الحارث، وسار أسد إلى آمل، فلقيه خيل عظيمة لأهل آمل عليها   [1] . يا أبرشهر: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1580) : يا أبرشهر. فى حواشي الطبري: يا ابن شهر. [2] . العموداه: كذا فى الأصل: العموداه. فى مط: العمود. فى الطبري (9: 1580) : المعموراه. فى حواشيه: المعموداه. [3] . حتى عرّقه: فى الطبري: حتى نزّقه وعرّقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 زياد الفرشى [1] فهزمهم، وتحصّنوا فى ثلاث مدائن لهم، ونزل عليهم أسد وحصرهم ونصب المجانيق عليهم وهناك خالد بن عبد الله الهجري من قبل الحارث بن سريج. فلمّا ضاق عليهم الحصار طلبوا الأمان. فخرج إليهم بعض أصحاب أسد وقال: - «يقول لكم الأمير: ما تطلبون؟» قالوا: - «كتاب الله وسنة نبيّه.» قال: - «فلكم ذلك.» قالوا: - «على ألّا يأخذ أهل المدن بجنايتنا.» فأعطاهم ذلك. وسار أسد إلى بلخ فى طريق زمّ، وكان أهل بلخ [83] قد تابعوا [2] سليمان بن عبد الله بن خازم، فقدم بلخ، ثمّ اتّخذ سفنا، وسار منها إلى التّرمذ، فوجد الحارث محاصرا لها، وكان مع الحارث وجوه النّاس ومعه السّيل [3] . فنزل أسد دون النّهر، ولم يطق العبور إليهم، ولا أن يمدّ أهل التّرمذ. إلّا أنّ أهل التّرمذ قد قويت نفوسهم، فهم يخرجون ويقاتلون أشدّ قتال. فكان أصحاب الحارث من القرّاء يأتون أبواب التّرمذ، فيبكون عندهم، فيشكون جور بنى مروان، ويسألونهم أن يمالئوهم على حرب بنى مروان، حتّى تكون أيديهم واحدة، فيأبون عليهم. فقال السّيل يوما للحارث وهو معه: - «يا حار، إنّ التّرمذ بنيت بالطّبول والمزامير، ولا تفتتح بالبكاء، إنّما تفتتح   [1] . الفرشى: كذا فى الأصل: الفرشى (بالفتح) . وما فى الطبري (9: 1582) : القرشي. [2] . قد تابعوا: كذا فى الأصل: قد تابعوا. فى مط والطبري (1583) : قد بايعوا. [3] . السّيل: كذا فى الأصل: السّيل. فى مط: السبيل. فى الطبري (9: 1583) : السبل. فى حواشيه: البسيل، السيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 بالسّيف. فقاتل إن كان بك قتال.» فتركه السّيل وأتى بلاده وارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل التّرمذ إلى حارث، فقاتلوه ووثبوا حتّى هزموه، وقتلوا أبا فاطمة وعكرمة وخلقا من أهل البصائر. وسار أسد إلى سمرقند على طريق زمّ وكان بزمّ القاسم الشّيبانى بحصن هناك. فلمّا مرّ به أسد لم يعرض له. ولمّا عاد فى هذا الوقت مجتازا به، بعث إلى الهيثم الشّيبانى وهو بزّم أيضا [84] فى طاعة الحارث. فقال له: - «إنّكم ما أنكرتم على قومكم إلّا سوء سيرتهم، ولم يبلغ ذلك السّبى ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند، وأنا أريد سمرقند، ولك عهد الله وميثاقه أن لا يبدأك منّى شرّ، ولك المواساة واللطف والكرامة والأمان [1] لمن معك، وإن أنت غمطت ما دعوتك إليه، فعلى عهد الله وميثاقه وذمّة أمير المؤمنين وذمّة خالد، إن أنت رميت بسهم أن لا أومنك أبدا، ولا أفي لك بأمان إن جعلته لك.» فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان. فآمنه، وسار معه إلى سمرقند. قتل دعاة بنى العبّاس بخراسان وفى هذه السّنة أخذ أسد جماعة من دعاة بنى العبّاس بخراسان، فقتل بعضهم ومثل ببعضهم. فكان فيهم سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، ولاهز بن قريط، وعدّة منهم. فأمّا موسى بن كعب، فأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب، فجذب حتّى تحطّمت أسنانه، ثمّ أمر فوجئ لحياه، فندر ضرسه. وضرب لاهز بن قريط بالسّوط، وأمر بصلبه، فتكلّم   [1] . نهاية الصّفحات السّاقطة من مخطوطة آ (آستان قدس) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 فيه الحسن بن زيد وقال: - «هو لى جار وهو بريء [85] ممّا قرف [1] به.» فوهبه له. فقال: - «والآخرون أعرفهم بالبراءة.» فخلّى سبيلهم وضمنهم [2] . ودخلت سنة ثماني عشرة ومائة وفيها وجّه بكير بن ماهان خداشا على خراسان يدعو إلى محمّد بن علىّ، فصار واليا على شيعة بنى العباس. ويقال إنّ اسمه عمّار بن يزيد، فغيّر اسمه. فلمّا دعا النّاس تسارعوا إليه، وقبلوا ما جاءهم به، وسمعوا وأطاعوا، حتّى غيّر ما دعاهم إليه، وتكذّب وأظهر دين الخرّمّية ودعا إليه، ورخّص لبعضهم نساء بعض، وأخبرهم أنّ ذلك دين محمّد بن علىّ. فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، فوضع عليه العيون حتّى ظفر به، فأتى به فسأله فلم يلطف به وجعل يغلّظ فى بعض كلامه. فأمر به أسد فقطعت يداه وقلع لسانه وسمل وصلب بآمل. ثمّ إن أسدا لما انصرف من سمرقند سرّح جديعا الكرماني إلى القلعة الّتى فيها [3] الحارث من طخارستان العليا. فحصرهم وقتل مقاتلتهم، وكان فيها   [1] . قرف: كذا فى الأصل: قرف. فى مط: قرن. فى الطبري (9: 1588) : قذف. [2] . وضمنهم: فى آ: «وضمنهم إياه» بزيادة «إيّاه» وهي ليست لا فى الأصل ولا فى مط. [3] . فيها الحارث: كذا فى الأصل ومط وآ: فيها الحارث. فى الطبري (9: 1589) : فيها ثقل الحارث. وفى حواشيه حواشيه عن بعض الأصول: فيها أهل الحارث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 أصهار الحارث ورهطه، فسبى عامّة أهلها من العرب والموالي وغيرهم من الذّرارىّ، وباعهم فيمن يزيد بسوق بلخ. [86] والسّبب فى ذلك وكان السّبب فى ذلك أنّه كان قد نقم على الحارث نحو من خمسمائة رجل من أصحابه أشياء ورئيسهم جرير بن الميمون القاضي، وهمّوا بمفارقته. فقال لهم الحارث: - «إن كنتم لا بدّ مفارقىّ وطلبتم الأمان فاطلبوه وأنا شاهد، فإنّه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم تعطوا الأمان.» فقالوا: - «ارتحل أنت عنّا وخلّنا.» ثمّ بعثوا من يطلب لهم الأمان، فوصل أسدا الرّسول وأحسن إليه. فقال الرّسول: - «إنّ القوم فى القلعة، ليس لهم طعام ولا ماء.» فغدر بهم وسرّح أسد جديعا الكرماني فى ستّة آلاف. فلمّا كان بينه وبين القلعة فرسخ أو دونه، نزل حتّى وافاهم قوم فيهم المهاجر بن ميمون فى جماعة مستأمنة. فتركهم حتّى اجتمعوا. ثمّ خطبهم فقال بعد حمد الله والثّناء عليه: - «يا أهل بلخ، لا أجد لكم مثلا غير الزّانية من أتاها أمكنته من رجلها. أتاكم الحارث فى ألف من العجم فأمكنتموه من مدينتكم، فقتل أشرافكم وطرد أميركم. ثمّ سرتم معه مكانفيه [1] إلى مرو فخذلتموه. ثمّ انصرف إليكم منهزما،   [1] . مكانفيه: كذا فى الأصل ومط. فى آ: مكاثفيه. فى الطبري (9: 1591) : من مكانفيه (بزيادة «من» ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 فأمكنتموه من المدينة. والّذى نفسي بيده، لا يبلغني عن رجل منكم [87] كتب كتابا إليهم فى سهم إلّا قطعت يديه ورجليه. فأمّا من كان معى من أهل مرو فهم خاصّتى، ولست أخاف غدرهم.» ثمّ نهد إلى القلعة وحصرها وكان القوم مجهودين، قد جاعوا وعطشوا. فنادى مناديه أن: - «قد نبذنا إليكم بالعهد.» وقاتلوهم. فسألوا أن ينزلوا على الحكم وتترك نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد. وأقام حتّى رجع إليه جواب كتابه من أسد على يد المهلّب بن عبد العزيز العتكىّ [1] بكتاب يقول فيه: - «احمل إلىّ خمسين رجلا منهم، وليكن فيهم المهاجر بن ميمون وأمثاله من وجوههم.» ففعل، فقتلهم أسد. وكتب إلى الكرماني أن يصيّر الّذين بقوا عنده أثلاثا. فثلثا يصلبهم، وثلثا يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلثا يقطع أيديهم. ففعل ذلك الكرماني وباع أثقالهم وذراريّهم كما حكينا. موت علىّ بن عبد الله بن العبّاس وفى هذه السّنة مات علىّ بن عبد الله بن العبّاس وله ثمان وسبعون سنة، وكان ولد فى الليلة الّتى ضرب فيها علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه [2]- فسمّاه عبد الله بن العبّاس أبوه عليّا وكنّاه أبا الحسن وقال:   [1] . العتكي: كذا فى الأصل وآ، والطبري (9: 1591) : العتكي فى مط: العبلى. [2] . كذا فى الأصل ومط وآ: رضى الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 - «سمّيته باسم أحبّ النّاس إلىّ.» ودخلت سنة تسع عشرة ومائة وفيها لقى أسد صاحب التّرك، فقتله وغنم كلّ ما معه، وقتل خلقا، وسلم أسد والمسلمون [88] . ذكر الخبر عن هذه الوقعة لمّا دخل أسد الختل كتب ابن السّائجى [1] إلى خاقان يعلمه دخول أسد الختّل، وتفرّق جنده، وأنّه بحال مضيعة. وكان ابن السّائجى هذا استخلفه السّيل عند موته وأوصى إليه. وسيجيء خبره إن شاء الله. فلمّا أتاه كتابه تجهّز، وكان لخاقان مرج وجبل حمى لا يقربها أحد. فصاد ما فى المرج ثلاثة أيام وما فى الجبل ثلاثة أيام. فتجهّزوا ودبغوا جلود الصّيد، واتّخذوا أوعية، واتّخذوا القسّى والنّشّاب، ودعا خاقان ببرذون مسرّج ملجم، وأمر بشاة فقطّعت، ثمّ علّقها فى معاليق سرجه، وأخذ شيئا من ملح، فصيّره فى كيس وجعله فى منطقته، وأمر كلّ تركىّ أن يفعل مثل ذلك وقال: - «هذا زادكم حتّى تلقوا العرب بالختّل.» فلمّا أحسّ ابن السّائجى بخاقان قد أقبل، بعث إلى أسد: - «أخرج عن الختّل، فإنّ خاقان قد أظلّك.» فشتم أسد رسوله ولم يصدّقه. فبعث صاحب الختّل:   [1] . السائجى: ما فى الأصل وآ، مهمل وغير مهموز. فى مط: السانحى. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1593) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 - «إنّى لم أكذبك، وأنا الّذى أعلمته دخولك وتفرّق جندك. وأعلمته أنّها فرصة [89] له، وسألته المدد. غير أنّى نظرت فرأيت أنّك قد أمعرت [1] البلاد وأصبت الغنائم. فإن لقيك على هذه الحالة ظفر بك، وعادتنى العرب أيضا ما بقيت، واستطال علىّ خاقان، واشتدّت مؤنته، وأمتنّ علىّ يقول: أخرجت العرب من بلادك ورددت عليك ملك.» فعرف أسد أنّه صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدّم، وولّى عليها إبراهيم بن عاصم العقيلىّ، وهو الّذى ولى سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة. فسارت الأثقال. وكتب أسد إلى داود بن شعيب والأصبغ بن ذؤالة [2] الكلبي وقد كان وجّهها فى وجه أنّ خاقان قد أقبل. فانضمّا إلى الأثقال مع إبراهيم بن عاصم. ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسى، فأشاع أنّ خاقان قد هزم المسلمين وقتل أسدا. فقال الأصبغ: - «إن كان أسد ومن معه أصيبوا، فإنّ فيئتنا [3] هشام ننحاز إليه، فإنّ الله حىّ قيّوم وجنود المسلمين كثير.» قال داود: - « [أ] فلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم؟» قال: «بلى.» فسارا حتّى شارفا عسكر إبراهيم. فإذا هما بالنّيران. فقال داود: «هذه نيران المسلمين، لأنّها متقاربة، ونيران الأتراك متفرّقة.»   [1] . قد أمعرت: كذا فى الأصل والطبري (9: 1594) : قد أمعرت. فى مط: أمغرت. فى آ: أفقرت. [2] . ذؤالة: كذا فى الأصل: ذؤالة. فى الطبري (9: 1594) : ذواله. فى مط وآ: دواله. [3] . فيئتنا: كذا فى الأصل: فيئتنا. فى آ. فيئنا. فى مط والطبري (9: 1595) : فينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فقال الأصبغ: [90]- «هم فى مضيق.» ثمّ دنوا، فسمعوا نهيق الحمير. فقال داود: - «أما علمت أنّ التّرك ليس لهم حمير؟» فقال الأصبغ: - «أصابوها بالأمس، ولم يستطيعوا أكلها فى يوم ولا اثنين.» فقال داود: - «نسرّح فارسيّين فيكبّران.» فبعثا إلى العسكر بهما. فلمّا دنوا منهم كبّرا، فأجابهما أهل العسكر بالتكّبير. فأقبلوا إلى العسكر الّذى فيه الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصّغانيان وصاغان [1] خذاه. فضامّا إبراهيم بن عاصم. وأقبل أسد يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد كان إبراهيم قطعه بالسّبى وجميع ما أصاب. فلمّا أشرف أسد على النّهر، وقد أتاه أنّ خاقان قد سار من الشومان [2] سبع عشرة ليلة، قام إليه أبو نميلة [3] بن بحر وعبد الرّحمن بن حيفر [4] الأزديان، فقالا: - «أصلح الله الأمير، إنّ الله قد أحسن بلاءك فى هذه الغزوة، فغنمت و   [1] . صاغان خذاه: كذا فى الأصل ومط وآ: صاغان خذاه. فى الطبري (9: 1596) : صغان خذاه. [2] . الشومان: كذا فى الأصل وآ: الشومان. فى مط: السوسات (مهملة) . فى الطبري (9: 1596) : سويات. [3] . أبو نميلة بن بحر: كذا فى الأصل. فى الطبري: ابو تمّام بن زحر. [4] . حيفر: ما فى الأصل ومط مهمل. والإعجام من آ. فى الطبري: خنفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 سلمت، فاقطع هذه النّطفة واجعلها وراء ظهرك.» فأمر بهما، فوجئت رقابهما وأخرجا من العسكر، وأقام يومه. فلمّا كان من الغد ارتحل وفى النّهر ثلاثة وعشرون موضعا يخوضه النّاس، وموضع فيه مجتمع ماء يبلغ دفّتى السّرج. فخاضه النّاس. وأمر أن يحمل كلّ رجل شاة، وحمل هو نفسه شاة. وقال له غسّان بن عبيد الله [91] بن مطرّف بن الشّخّير [1] : - «أيها الأمير، إنّ الّذى أنت فيه من حمل الشّاء، ليس له خطر، وقد فرّقت النّاس، وشغلتهم وأظلّك عدوّك، فدع هذه الشّاء لعنة الله عليها ومر النّاس بالاستعداد.» فقال أسد: - «والله، لا يعبر رجل ليس معه شاة حتّى تفنى هذه الغنم، الفارس يحملها بين يديه، والرّاجل على عنقه.» وخاض النّاس. فلمّا حفرت سنابك الخيل النّهر، صار بعض المواضع مخائض يقع فيها الرجل. فأمر أسد بالشّاء أن تقذف ويخوضوا. فما استتمّ النّاس العبور حتّى طلعت عليهم التّرك بالدّهم، فقتلوا من لم يقطع النّهر، وجعل النّاس يقتحمون، وركب أسد إلى النّهر، وأمر بالإبل أن يقطع بها النّهر حتّى يحمل عليها الأثقال. وأقبل رهج من ناحية الختّل، فإذا خاقان. فلمّا توافى معه صدر من جنده حمل على الأزد وبنى تميم، وكانوا على مسلحة خلّفهم أسد على الضّعفة من النّاس. فلمّا حمل عليهم خاقان انكشفوا، وركض أسد حتّى انصرف إلى عسكره، و   [1] . الشخير: كذا فى الأصل: الشخير. فى الطبري (9: 1597) : الشّخّير. فى مط: السحر. فى آ: الشخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 بعث إلى أصحاب الأثقال الّذين كان قد سرّحهم أمامه أن: - «انزلوا وخندقوا مكانكم فى بطن الوادي.» وأقبل خاقان، [92] فظنّ المسلمون أنّه لا يقطع النّهر إليهم. فلمّا نظر خاقان إلى النّهر أمر الإسكند [1] ، وهو يومئذ اصبهبذ، أن يسير فى الصّفّ. وسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب: - «هل يطاق قطع النّهر والحملة على أسد؟» وكلّهم يقول: - «لا يطاق.» حتّى انتهى إلى استجن [2] فقال: - «بلى يطاق، لأنّنا خمسون ألف فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة ردّ بعضنا عن بعض الماء، فذهبت جريته.» قال: فضربوا بكوساتهم. فظنّ أسد ومن معه أنّه منهم وعيد، فأقحموا دوابّهم، فجعلت تنخر أشدّ النّخير. فلمّا رأى المسلمون إقحام التّرك ولّوا إلى العسكر، وعبرت التّرك، فسطع رهج شديد لا يبصر الرّجل دابّته ولا يعرف بعضهم بعضا، ودخل المسلمون عسكرهم وحوى التّرك ما كان خارجا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه التّرك، فأدبروا. وبات أسد وعبّأ من الليل تخوّفا من غدوّ [3] خاخان. فلمّا أصبح لم ير شيئا، ودعا وجوه النّاس واستشارهم.   [1] . الاسكند: كذا فى الأصل: الاسكند. فى الطبري (9: 1597) الاشكند. فى مط وآ: الإسكندر. [2] . استجن. كذا فى الأصل: استجن. فى مط: سحر. فى الطبري: اشتيخن. [3] . من غدوّ: كذا فى الأصل وآ: من غدّو. فى مط: من غدر. فى الطبري (9: 1598) : من غدر خاقان ومن غدوّه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 فقالوا له: - «اقبل العافية.» قال: - «ما هذه عافية، بل هذه بليّة، لقينا خاقان أمس، فظفر وأصاب من الجند والسّرح [1] ، فما منعه اليوم منّا إلّا أنّه قد وقع فى يده أسرى [93] فأخبروه بموضع الأثقال.» فكان هذا رأيا جيّدا وحديثا صوابا من أسد، وقد علم العدوّ أنّ الثقل أمامنا، فترك لقاءنا طمعا فيها [2] . ثمّ ارتحل أسد وبعث أمامه الطّلائع. فرجع بعضهم فأخبره أنّه عاين طوقات الأتراك وأعلاما من أعلام اسكند [3] ، فسار [والدوابّ] [4] مثقلة. فقيل له: - «انزل أيّها الأمير واقبل العافية.» فقال: - «واين العافية فأقبلها، إنّما هي بليّة ذهاب الأموال والأنفس.» فلمّا صار الى منزل وأمسى، استشار النّاس: - «أتنزلون أم تسيرون؟» فقال النّاس: - «اقبل العافية، وما عسى أن يكون من ذهاب الأثقال بعافيتنا وعافية أهل خراسان» ونصر بن سيّار مطرق. فقال أسد: - «مالك يا بن سيّار لا تتكلّم؟»   [1] . والسرح: كذا فى الأصل ومط وآ. فى الطبري: والسلاح. [2] . الكلام للراوي. [3] . اسكند: فى الطبري: الاشكند. فى مط: بيكند (بإهمال الاول والثاني) . [4] . والدّوابّ: ليست الكلمة لا فى الأصل ولا فى مط: ولا فى آ. أضفناها من الطبري (9: 1598) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 فقال: «أصلح الله الأمير، خلّتان كلتاهما لك: إن تسر تغث الأثقال وتخلّصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا، فقد قطعت قحمة لا بدّ من قطعها.» فقبل رأيه وسار يومه كلّه. قال: ودعا أسد قبل أن يسير سعيدا الصّغير، وكان عالما بطريق الختّل فارسا، وكتب معه كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد ويعلمه أنّ خاقان طواه وتوجّه إلى ما قبلك. ثم قال له: - «سر [94] بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك، وأنت لحقت بالحارث هربا منّى، فعلىّ مثل الّذى حلفت. إنّى أبيع أمرأتك دلال فى سوق بلخ، وجميع أهل بيتك.» قال سعيد: - «فادفع إلىّ فرسك الكميت الذّنوب.» قال: - «لعمري، لئن جدت بدمك وبخلت عليك بالفرس، إنّى للئيم.» فدفعه إليه وسار على دابّة من جنائبه وغلامه على فرس معه فرس أسد يجنبه. فلمّا حاذى غبرة طلائع التّرك تحوّل إلى فرس أسد، فطلبته الطّلائع، فركض ولم يلحقوه. وأتى إبراهيم بالكتاب وتبعه بعض الطّلائع حتّى وافوا عسكر إبراهيم والأثقال. فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان اليوم الثّانى على الأثقال وقد خندق إبراهيم خندقا والنّاس قيام عليه. فأمر خاقان أهل السّغد بقتالهم. فلمّا دنوا من مسلحة المسلمين، ثاروا فى وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلا. فقال خاقان: - «اركبوا.» وصعد تلّا مشرفا، وجعل ينظر العورة، ووجّه المقاتلة وكذا كان يفعل ينفرد فى رجلين [95] أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 ذكر ظفر خاقان ثمّ انهزامه باتّفاق حسن مع تدبير جيّد وجدّ فى المسير من أسد حتّى رجع كيد العدوّ عليه وسلم المسلمون وأثقالهم ولمّا صعد خاقان التّلّ رأى خلف العسكر جزيرة ودونها مخاضة. فدعا بعض قوّاد التّرك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر فى مقطع وصفه، ثمّ ينحدروا، فى الجزيرة، حتى يأتوا عسكر المسلمين من ورائهم، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصّغانيان وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم. وقال لهم: - «إن أقام القوم فى خندقهم وأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم، وإن ثبتوا لنا، فادخلوا من دبره عليهم.» ففعلوا، ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صاغان خذاه، ودخلوا عسكر إبراهيم، فأخذوا عامّة ما فيه، وترك المسلمون التّعبئة، واجتمعوا فى موضع وأحسّوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء، وإذا أسد فى جنده قد أتاهم، فجعلت التّرك ترتفع عنهم إلى الموضع الّذى فيه خاقان وإبراهيم [96] يتعجّب من كفّهم، وقد ظفروا، وقتلوا من قتلوا، بعد [1] إصابتهم الغنيمة، وهو لا يطمع فى أسد. وكان أسد قد أغذّ السّير، فأقبل أسد حتّى وقف على التّلّ الّذى عليه خاقان، وتنحّى خاقان إلى ناحية الختّل، وخرج إلى أسد من كان بقي من أصحاب إبراهيم وقد قتل منهم بشر كثير ومشيخة من خزاعة. وخرجت امرأة صاغان خذاه إلى أسد فبكت زوجها، وبكى أسد معها حتّى علا صوته. وانصرف خاقان على طريق طخارستان وهناك الحارث بن سريج، فانضمّ الحارث إلى خاقان، وسار معه فى أصحابه، ومضى أسد إلى بلخ، فعسكر فى   [1] . بعد: فى الأصل: وبعد (بزيادة «و» ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 مرجها حتّى الشّتاء، وكان الحارث يقول لخاقان: - «إنّه لا نهوض بأسد، وقد تفرّق عنه العسكر.» فبثّ خاقان جنده فى الغارات على النّواحى وأقبل حتّى نزل جزّة، فأمر بالنّيران، فرفعت على أعلى المدينة. فجاء النّاس من الرّساتيق إلى مدينة بلخ. فأصبح أسد وصلّى، وخطب النّاس وقال: - «إن عدوّ الله الحارث بن سريج [1] استجلب طاغية التّرك ليطفئ نور الله ويبدّل دينه، وإنّ عدوّكم قد أصاب من إخوانكم ما أصاب، فإن يرد الله نصركم لم يضرركم [97] قلّتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله.» ثمّ وضع جبهته لله عزّ وجلّ، ودعا، فأمّنوا عليه، ثمّ رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكّون فى الفتح. ثمّ نزل عن المنبر وضحّى، وكان يوم الأضحى، وشاور النّاس فى المسير إلى خاقان. فقال قوم: - «أنت شاب [2] لا تتخوّف من غارة على دابّة ولا شاة إلّا ما لا خطر فيه لخروجك [3] .» فقال: - «والله لأخرجنّ، فإمّا ظفر وإمّا شهادة.» ثمّ أخذ من جبلة بن أبى داود مائة وعشرين ألف درهم، وأمر النّاس بعشرين عشرين، ومعه من جنود خراسان وأهل الشّام سبعة آلاف رجل. فاستخلف على بلخ الكرمانىّ، وأمره أن لا يدع أحدا يخرج من مدينتها وإن   [1] . سريج: فى مط: شريح. [2] . شابّ: كذا فى الأصل: شات. فى مط وآ والطبري (9: 1603) : شابّ. [3] . إلّا ما لا خطر فيه لخروجك: كذا فى الأصل ومط وآ. فى الطبري (9: 1603) : ... تخاطر بخروجك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ضرب التّرك باب المدينة. فقال نصر بن سيّار الليثي والقاسم بن بخيت وجماعة أمثالهم وسعيد الصّغير: - «أصلح الله الأمير، ائذن لنا فى الخروج ولا تهجّن [1] طاعتنا.» فأذن لهم وخرج فنزل بابا من أبواب بلخ، وصلّى بالنّاس ركعتين طوّلهما، ونادى فى النّاس: - «ادعوا الله.» وأطال الدّعاء بالنّصر وأمّن النّاس على دعائه. ثمّ انتقل من دعائه فقال: - «نصرتم وربّ الكعبة إن شاء الله.» ثلاث مرّات. ثمّ نادى مناديه: [98]- «بريت الذّمّة من رجل حمل امرأة.» وسار، فلمّا كان عند قنطرة عطاء، قال لمسعود بن عمرو: - «أبغنى خمسين رجلا وراية أخلّفهم على هذه القنطرة، فلا يدع أحدا ممّن جازها أن يرجع.» وكان مسعود هذا يخلف الكرمانىّ بحضرته. فقال مسعود: - «من أين أجد خمسين رجلا؟» فأمر به فصرع عن دابّته وضرب. ثمّ أمر بضرب عنقه. فتكلّم فيه قوم، فكفّ عنه. وسار منزلا وأقام حتّى أصبح، فقال له بعضهم: - «ليتمّ الأمير على المقام يومه حتّى يتلاحق النّاس.»   [1] . ولا تهجّن: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1603) : لا تهجّن. فى مط: لا نهجن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 فأمر بالرّحيل وقال: - «لا حاجة لنا فى المتخلّفين [1] .» ثمّ جعل على مقدّمته سالم بن منصور تفألا باسمه. فلقى ثلاثمائة من التّرك طليعة لخاقان. فأسر [2] قائدهم وسبعة معه وهرب بقيّتهم، فأتى به أسدا، فبكى التّركىّ. فقال أسد: - «ما يبكيك؟» فقال: - «لست أبكى لنفسي، وإنّما أبكى لهلاك خاقان.» قال: - «وكيف؟» قال: - «لأنّه فرّق خيله فى ما بينه وبين مرو.» وسار أسد حتّى إذا شارف العين الحارّة استقبله بشر بن رزين، فقال: - «ما وراءك؟» قال: - «إن لم تلحقنا [3] غلبنا على مدينتنا.» فقال: - «قل للمقدام بن عبد الرّحمن يطاول نزّ رمحي [4] .» وسار فنزل مدينة [99] الجوزجان وقد استباحها خاقان. فأتاه المقدام بن عبد الرّحمن فى مقاتلته وأهل الجوزجان، وانصرفت طلائع الخاقان إليه، فأخبرته أنّ رهجا ساطعا من قبل بلخ طلع.   [1] . المتخلّفين: كذا فى الأصل وآ. فى مط: المخلفين. [2] . فأسر: كذا فى الأصل ومط. فى آ: فأسّر: (بتشديد السين) . [3] . لم تلحقنا: كذا فى الأصل وآ. لم تلحقنا. فى مط: لم تحلفنا. فى الطبري (9: 1606) : لم تغثنا. [4] . نزّ رمحي: كذا فى الأصل وآ. وما فى مط: بطول بز رمحى. فى الطبري (9: 1607) يطاول برمحي. والتشديد فى «نزّ» منّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 فدعا خاقان الحارث فقال: - «ألم تزعم أنّ أسدا ليس به نهوض؟ وهذا رهج من ناحية بلخ.» فقال الحارث: - «هذا هو اللصّ الّذى كنت أخبرتك أنّه من أصحابى.» فبعث خاقان طليعة وقال: - «أنظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسىّ» فجاءته الطلائع، فأخبرته أنّهم عاينوها. فقال خاقان: «اللصوص لا يحملون الأسرّة والكراسىّ. هذا أسد قد أتاك.» فسار أسد غلوة، فلقيه سالم بن منصور فقال: - «أبشر أيّها الأمير، حزرتهم [1] فلا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله.» وسار أسد على تعبئة، ميمنة وميسرة وقلبا، وعبّى خاقان مثل ذلك وجعل على ميمنته الحارث بن سريج وأصحابه وملك السّغد وصاحب الشّاش وصاحب الختّل والتّرك كلّهم معه. فلمّا التقوا حمل الحارث ومن معه على الميسرة، وفيها ربيعة وأهل الشّام، فما ثبت له أحد، وانهزموا، فلم يردّهم شيء دون رواق أسد، ثمّ شدّت عليهم ميمنة أسد وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان، [100] فانهزم الحارث والأتراك، فحمل النّاس جميعا. فقال أسد: - «اللهمّ إنّهم عصوني فانصرهم.»   [1] . حزرتهم: كذا فى الأصل: حزرتهم. فى آوالطبري (9: 1608) : حزرتهم. وما فى مط مهمل. حزره: قدّره بالحدس وخمّنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وذهب التّرك عباديد لا يلوى بعضهم على، بعض، وتبعهم النّاس يقتلون من لحقوا منهم، حتّى انتهوا إلى أغنامهم، فاستاقوا أكثر من خمسين ومائة ألف رأس، ودوابّ كثيرة، وأخذ خاقان غير طريق الجادّة فى الجبل، والحارث بن سريج يحميه، وهاجت ريح الحرب الّتى تسمّى الهفّافة، فهزمهم الله تعالى. فقال الجوزجان لعثمان بن عبد الله بن الشّخّير: - «إنّى أعلم ببلادي وطرقها، فهل لك فى أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ فقال: - «وما هو؟» قال: - «تتبعني.» قال: - «نعم.» فأخذ به طريقا يسمّى ورادك، فأشرفوا على طوقات [1] خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف وقد شبّت الحرب، فلم يقدر التّرك على الانصراف ثمّ ضربت الثّانية، فلم يقدروا لاشتغالهم. فحمل ابن الشّخّير والجوزجان على الطوقات، وولىّ خاقان مدبرا، فحوى المسلمون عسكرهم، وتركوا قدورهم تغلى ونساءهم مع نساء العرب كنّ معهم، ووحل بخاقان دابّته، فحماه الحارث بن سريج، وأراد خصّى لخاقان أن يحمل امرأة خاقان، [101] فأعجلوه عن ذلك، فطعنها [2] بخنجر، فلحقوها وهي تتحرّك، فأخذوا خفّها وهو من لبود مضرّب، ووجد عسكر التّرك مشحونا من كلّ شيء من آنية الفضّة وصنّاجاتهم وأمتعتهم. وبعث أسد بجوارى التّرك إلى دهاقين خراسان، فاستنقذ من كان فى أيديهم من المسلمين، وانصرف أسد إلى   [1] . طوقات: كذا فى الأصل وآ. والطبري (9: 1611) . فى مط: طرقات. [2] . فطعنها: كذا فى آ. والطبري (9: 1611) . ما فى الأصل ومط: فطعنوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 بلخ اليوم التّاسع من خروجه، فقال ابن السّجف المشاجعى: لو سرت فى الأرض تقيس الأرضا ... تقيس منها طولها والعرضا لم تلق خيرا مرّة ونقضا ... من الأمير أسد وأمضى أفضى إلينا الخير حين أفضى ... وجمع الشّمل وكان رفضا [1] ما فاته خاقان إلّا ركضا ... قد فضّ من جموعه ما فضّا يا ابن سريج قد لقيت حمضا ... حمضا به يشفى صداع المرضى وأصاب أسد أربعة آلاف درع، وكان أسد يوجّه النّاس فى السّرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون جماعة من التّرك. ومضى خاقان إلى بلاده، فلمّا ورد سروشنه، تلّقاه [102] خرّابغره جدّ كاوس أبى الأفشين باللعّابين، وأعدّ له هدايا عظيمة ودوّاب له ولجنده. وكان الّذى بينهما متباعدا، ولكنّه لمّا رجع منكوبا، أحبّ أن يتّخذ عنده يدا، فأتاه بكلّ ما يقدر عليه. فلمّا رجع خاقان إلى بلاده أخذ فى الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند. وحمل الحارث بن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرّق فى أصحابه مثلها. ثمّ إنّه لاعب يومّا كورصول بالنّرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الرقشى [2] ، فطلب منه التدرجة، فقال أحدهما: أنثى، وقال الآخر: ذكر. وتأدّى التّنازع إلى أن رفع يده فضرب يد خاقان، فأوهنه، فحلف خاقان ليكسرنّ يد كورصول، فتنحّى كورصول من بين يديه، وجمع جمعا، ثمّ بيّت خاقان فقتله، وتفرّق عنه التّرك، فتركوه مجرّدا، حتّى أتاه عظماء التّرك، ودفنوه، وصنع به   [1] . رفضا: كذا فى الأصل ومط وآ: رفضا. فى الطبري: فضّا. [2] . الرقشى: كذا فى الأصل وآ. فى مط: الرفشى. وما فى الطبري (9: 1613) : الترقشى وفى حواشيه عن ابن خرداد به: التركشى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 ما يصنع بمثله، وتفرّقت التّرك فى الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشّاش. فعند ذلك طمع أهل السّغد فى الرّجعة إليها، فلم يسلم من خيل التّرك الّتى تفرّقت فى الغارات إلّا زرابر [1] الكسّى، فإنّه سلم حين صار إلى طخارستان. [103] ذكر اتّفاق حسن اتّفق لمقاتل بن حيّان من غير قصد منه كان أسد بعث من مدينة بلخ رجلا يعرف بسيف بن وصّاف إلى هشام يخبره بما أظلّه من الخطب العظيم، ويستمدّه. فلمّا وصل إليه أخبره، فلم يصدّقه هشام، وقال لحاجبه: - «ويحك، إنّ هذا الشيخ قد أتانا بالطّامّة الكبرى إن كان صادقا، ولا أظنّه صادقا، اذهب به، فغدّه [2] ، ثمّ سله، وأتنى بما يقول.» ففعل، ثمّ سأله فأخبره بما أخبر به هشاما، فدخل عليه أمر عظيم، وصرفه. ثمّ دعاه بعد أيّام بسيرة، وقال له: - «من القاسم [3] بن بخيت منكم؟» قال: - «ذاك، صاحب العسكر.» قال: - «فإنّه قد أقبل.» قال: - «فإن كان قد أقبل، فقد فتح الله عزّ وجلّ على أمير المؤمنين.» وكان أسد وجّهه حين فتح عليه، فأقبل القاسم بن بخيت، فكبّر على الباب، ثمّ دخل يكبّر وهشام يكبّر معه حتّى انتهى إليه. فقال: - «الفتح يا أمير المؤمنين.»   [1] . زرابر: كذا فى الأصل. فى آ: درنزا. فى مط: زرابرابر. فى الطبري (9: 1614) : زرابن. [2] . فغدّه: كذا فى الأصل وآ ومط: فغدّه. فى الطبري (9: 1614) : فعده. [3] . القاسم: فى الأصل ومط وآ: القسم. وما أثبتناه يؤيده الطبري (9: 1614) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وأخبره الخبر. فنزل هشام عن سريره، فسجد سجدة الشّكر، وهي واحدة عندهم. فحسدت القيسيّة أسدا وخالدا، وقالوا لهشام: - «اكتب إلى خالد فليأمر أخاه أن يوجّه مقاتل بن حيّان.» فكتب إليه، فدعا [104] أسد مقاتل بن حيّان على رؤوس النّاس وقال له: - «سر إلى أمير المؤمنين، فأخبره بما عاينت، وقل الحقّ، وأنت لا تقول غير الحق إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك.» فقال النّاس: - «إنّه لا يأخذ شيئا، أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا.» وجهّزه. فسار حتّى قدم على هشام وهو والأبرش جالسان. فسأله، فقال: كان من أمرنا كيت وكيت. إلى أن قال: - «قصدنا خاقان، فساق من الذّرارىّ وأهل البلدان بعد أن قاتلناه كذا يوما، ثمّ واقعناه وهو لا ينتظر، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم، ثمّ حملت ميمنتنا فهزمناهم، ثمّ تبعناهم حتّى استبحنا عسكر خاقان بما فيه من النّساء والذّرارىّ والآلات.» وكان هشام متكئا، فاستوى جالسا عند ذكر خاقان، وقال ثلاثا: - «أنتم استبحتم عسكر خاقان؟» قال: - «بلى» قال: - «حاجتك.» قال: - «إنّ يزيد بن المهلّب أخذ من أبى حيّان من غير حقّ مائة ألف.» فقال هشام: - «لا أكلّفك شاهدا، أحلف بالله، إنّه لكما قلت.» فحلف، فردّها عليه من بيت مال خراسان، وكتب إلى خالد أن يكتب إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 أسد فيها. فكتب إليه، فأعطاه مائة ألف، فقسمها بين [105] ورثة حيّان على فرائض الله. خروج المغيرة بن سعيد على خالد بن عبد الله وفى هذه السّنة خرج على خالد بن عبد الله المغيرة بن سعيد وبيان [1] فى نفر، فأخذهم وقتلهم. ذكر السّبب فى ذلك أمّا المغيرة بن سعيد، فكان يتشيّع، ثمّ نسبت إليه أمور شنيعة فيها تزيّد وإسراف. فأحدها ما حكاه صاحب التّاريخ على ما أخبرنا به القاضي عن محمّد بن جرير الطّبرى، قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا جرير عن الأعمش، قال سمعت المغيرة بن سعيد يقول: - «لو أراد [2] علىّ أن يحيى عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا، لأحياهم.» قال الأعمش: - «كان المغيرة يخرج إلى المقبرة، فيتكلّم فيرى مثل الجراء على القبور.» ونحو هذا من الكلام. وحكيت عنه حكايات عظيمة. فلمّا أخذ خالد المغيرة وأصحابه أتى بهم، وهم سبعة، وأمر بسريره،   [1] . بيان: فى الأصل والطبري (9: 1619) : بيان. ما فى مط مهمل. وما فى آ: وسار. [2] . فى الطبري (9: 1619) : لو أردت أن أحيى ... » ومخطوطات تجارب الأمم متوافقة فى ذلك، كما أنّ فى حواشي الطبري (نفس الصفحة) أيضا ما يوافق المخطوطات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط، فأحضر، ثمّ أمر المغيرة أن يتناول طنّا، فكعّ وتأنّى، فصبّت السّياط على رأسه، فتناول طنّا فاحتضنه، فشدّ عليه، ثمّ صبّ عليه وعلى الطّنّ نفط، [106] ثمّ ألهبت النّار، فاحترقا، ثمّ فعل بالرّهط مثل ذلك. ثمّ أمر بيانا آخرهم، فتقدّم إلى الطّنّ مبادرا، فاحتضنه، فقال خالد: - «ويلكم، فى كلّ أمركم تحمقون، هلّا رأستم هذا إلّا المغيرة [1] .» ثمّ أحرقه. وكان هؤلاء يسمّون الوصفاء، وكان ظهورهم وخروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: - «أطعمونى ماء [2] .» وقيل فيه: أخالد لا جزاك الله خيرا ... وأير فى حر أمّك من أمير وقلت من المخافة أطعمونى ... شرابا، ثمّ بلت على السّرير ولمّا قتل خالد المغيرة، أرسل إلى مالك بن أعين الجهني، فسأله، فصدّقه عن نفسه، فأطلقه. فلمّا خلا مالك بمن يثق به وكان فيهم أبو مسلم صاحب الدّعوة قال لهم: ضربت لهم بين الطريقين لاحبا ... وطنت عليه الشّمس فى من يطينها وألقيته فى شبهة حين سألنى ... كما اشتبها فى الخطّ سين وشينها   [1] . والعبارة فى الطبري (9: 1620) : «هلّا رأيتم هذا المغيرة» بدل: «هلّا رأستم هذا إلّا المغيرة ونسخ التجارب متوافقة فى ذلك. [2] . ماء: كذا فى الأصل. ما فى مط: شرابا، كما فى الطبري (9: 1621) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وكان يقول أبو مسلم حين ظهر أمره: - «لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه. [107] وفى هذه السّنة حكّم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله كان بهلول يتألّه [1] ، وكان بدابق، وهو مشهور بالبأس والنّجدة عند هشام بن عبد الملك، فخرج يريد الحجّ. فلمّا كان بسواد الكوفة أمر غلامه أن يبتاع له خلّا بدرهم. فجاء غلامه إليه بخمر، فردّه وقال: - «استرجع الدّرهم.» فلمّا رجع الغلام لم يجبه البائع إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية، فكلّمه، فقال العامل: - «الخمر خير منك [2] ومن قومك.» فمضى البهلول فى حجّه حتّى فرغ منه. ثمّ عزم على الخروج على السّلطان، فلقى بمكة من كان على مثل رأيه، فاتّعدوا قرية من قرى الموصل، واجتمع إليه أربعون رجلا، وأمّروا عليهم بهلول، وأجمعوا على أن لا يمرّوا بأحد إلّا أخبروا أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، وجّههم إلى خالد لينفذهم فى أعمالهم. فجعلوا لا يمرّون بعامل إلّا أخبروه بذلك وأخذوا منه دوابّ من [108] دوّاب البريد. فلمّا انتهوا إلى القرية الّتى كان ابتاع الغلام فيها الخلّ فأعطى خمرا، قال له أصحابه: - «نحن نريد قتل خالد، فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره، ولعلّ   [1] . تجد الرواية عند الطبري أيضا بتصحيف فى بعض ألفاظها (9: 1622) . [2] . كذا فى آومط. ما فى الأصل غير واضح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 خالدا يفلت، وهو الّذى يهدم المساجد ويبنى البيع والكنائس، ويولّى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذّمّة المسلمات.» قال: - «لا والله، إن [1] تركت هذا وأتيت خالدا لعلّى لا أظفر منه بما أريد ويفوتني هذا، والله يقول: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكُفَّارِ.» 9: 123 قالوا: - «أنت ورأيك.» فأتاه، فقتله، فنذر بهم النّاس، وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطّريق هرّابا، وخرجت البرد إلى خالد، فأعلموه أنّ خارجة خرجت وهم لا يدرون من رئيسهم. فخرج خالد من واسط حتّى أتى الحيرة فى خلق كثير، وكان قدم فى تلك الأيّام قائد من أهل الشّام من بنى القين، قد وجّهوهم مددا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة. فقصدها خالد ودعا رئيسهم وقال له: - «قاتل هؤلاء المارقة، فإنّى أعطى من قتل منهم واحدا عطاء سوى ما قبض بالشّام وأعفيه من الخروج إلى أرض الهند.» وكان الخروج إلى أرض الهند شاقّا عليهم، فسارعوا إلى ذلك وقالوا: - «نقتل هؤلاء النّفر ونرجع إلى بلادنا.» فتوجّه [109] القينىّ إليهم فى ستّمائة، وضمّ إليهم خالد مائتين من شرط الكوفه. وقال القائد: - «لا تكونوا معنا.» وإنّما يريد [2] فى نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم، فيكون الظّفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد.   [1] . فى مط: لا تركت. بدل: إن تركت. [2] . يريد: كذا فى الأصل وآ: يريد. ما فى مط: يكون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتّى عرف مكانه، ثمّ حمل عليه، فطعنه فى فرج درعه فأنفذه، فقال: - «قتلتني، قتلك الله.» فقال بهلول: - «إلى النّار أبعدك الله.» وولّى أهل الشّام مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتّى بلغوا الكوفة وبهلول وأصحابه يقتلونهم. فأمّا الشّاميّون، فمن كان منهم على خيول جياد فأتوه. وأمّا الشرط فإنّه لحقهم، فقالوا: - «اتّق الله فينا فإنّا مكرهون مقهورون.» فجعل يقرع رؤوسهم برمحه ويقول: - «الحقوا، النّجا النّجا.» وأصاب البهلول مع القيني بدرة. وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأى البهلول، فخرجوا يريدونه، فقتلوا. وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال: - «من قتل هؤلاء النّفر حتّى أعطيه هذه الدّراهم؟» فجعل هذا يقول، أنا، وهذا يقول: أنا. حتّى عرفهم، وهم يرون أنّه [1] من قبل خالد جاء ليعطيهم ثواب ما فعلوا. فقال بهلول لأهل القرية. - «أصدق هؤلاء، هم قتلوا هؤلاء النّفر؟» قالوا: - «نعم.» وكان خشي بهلول [110] أن يكونوا ادّعوا ذلك طمعا فى المال.   [1] . أنّه: كذا فى آ، والطبري (9: 1625) . فى الأصل ومط أنّهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 فقال لأهل القرية: - «انصرفوا أنتم.» وأمر بأولئك، فقتلوا. وبلغ هزيمة القوم خالدا، فأنفذ إليهم جيشا مع قائد من بنى شيبان، فلقيهم بين الموصل والكوفة، فشدّ عليه البهلول، فقال: - «نشدتك الله والرّحم، فإنّى جانح [1] مستجير.» فكفّ عنه وانهزم أصحابه. فأتى خالدا وهو بالحيرة، فلم يرعه إلّا الفلّ قد هجم عليه، وارتحل البهلول يريد الموصل، فكتب عامل الموصل إلى هشام أنّ خارجة خرجت وأنّه يخافهم ويسأله جندا يقاتلهم به. فكتب إليه هشام: - «وجّه إليه كثارة بن بشر.» وكان هشام لا يعرف البهلول إلّا بلقبه. فكتب إليه العامل: - «إن الخارج هو كثارة!» وكان البهلول قال لأصحابه: - «ما نصنع بابن النّصرانية؟ يعنى خالدا وإنّما خرجت لله، فلم لا نطلب الرّأس الّذى يسلّط خالدا وأشباهه؟» فتوجّه إلى الشّام يريد هشاما، فخاف عمّال هشام موجدته، إن تركوه يجوز بلادهم إليه. فجنّد له خالد جندا من العراق، وجنّد له عامل الجزيرة جندا من الجزيرة، ووجّه إليه هشام جندا من الشّام. فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول [111] حتّى انتهى إليهم، فنزل على باب [2] الدير، فقالوا له:   [1] . جانح: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1625) . فى آ: جامح. [2] . باب الدير. كذا فى الأصل ومط. والطبري (9: 1626) . فى آ: أهل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 - «تزحزح عن باب الدّير حتّى نخرج إليك.» فتنحّى وخرجوا. فلمّا رأى كثرتهم وهو فى سبعين، جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثمّ أقبل على أعدائه، فقال: - «أكلّكم يرجو أن يقتلنا ويسلم فيأتى أهله سالما؟» قالوا: - «نعم، إنّا نرجو ذلك، إن شاء الله.» فشدّ على رجل عظيم من عظمائهم فقتله، وقال: - «أمّا هذا، فلا يأتى أهله أبدا.» ولم يزل هذا ديدنه حتّى قتل ستّة، فانهزموا ودخلوا الدّير، وحاصرهم حتّى جاءتهم الأمداد، وكانوا عشرين ألفا. فقال له أصحابه: - «ألا نعقر دوابّنا ثمّ نشدّ عليهم شدّة واحدة؟» فقال: - «لا، حتّى نبلى [1] عذرا ما استمسكنا على دوابّنا.» فقاتلوهم عامّة نهارهم حتّى فشا فيهم القتل والجراح. ثمّ إنّ بهلولا نزل هو وأصحابه، فعقروا دوابّهم وترجّلوا لهم، وأصلتوا السّيوف [2] وقتل عامة أصحاب البهلول، وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، إلى أن حمل عليه رجل يكنّى أبا الموت، فصرعه، فارتثّه من بقي من أصحابه، وقالوا له: - «ولّ أمرنا من بعدك من يقوم به.» فقال: - «إن هلكت، فأمير المؤمنين دعامة الشّيبانى.» ومات البهلول [112] فى ليلته، وهرب دعامة قبل الصّبح.   [1] . نبلى عذرا: كذا فى الأصل ومط وآ. وما فى الطبري (9: 1626) : نبلى الله عذرا. [2] . فى الأصل ومط: بالسيوف. فى آوالطبري: وأصلتوا السيوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 ثمّ دخلت سنة عشرين ومائة وفيها هلك أسد بن عبد الله من دبيلة كانت فى جوفه، فاستخلف جعفر بن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيّار فى رجب سنة احدى وعشرين. وفى هذه السنّة وجّهت شيعة بنى العبّاس بخراسان إلى محمد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس سليمان بن كثير، ليعلمه أمرهم وما هم عليه. سبب توجيههم سليمان إلى محمّد والسّبب فى ذلك موجدة كانت من محمّد بن على، على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم كانت لخداش [1] الّذى ذكرنا خبره وقبولهم منه الكذب الّذى رواه لهم عنه. فلمّا أبطأ كتابه اجتمعوا، فذكروا ذلك منهم، فأجمعوا على الرّضا بسليمان بن كثير ليلقاه بأمرهم ويخبره عنهم ويرجع إليه بما يرد عليه. فقدم سليمان بن كثير على محمّد بن علىّ وهو متنكّر، فأخبره عنهم بطاعة وخير، فعنّفهم وقال: - «لعن الله خداشا ومن كان على رأيه ومن سمع مقالته فأجابه إليها.» ثمّ صرف سليمان إلى أهل خراسان [113] فسأله أن يكتب إليهم معه كتابا، فكتب كتابا وختمه. فلمّا قدم عليهم سليمان فضّوا خاتم الكتاب، فلم يجدوا فيه إلّا «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، فغلظ ذلك عليهم وعلموا أنّ ما كان من خداش أتاهم به مخالف لأمره. ثمّ أنفذ محمّد بن علىّ بكير بن ماهان إلى شيعته بخراسان وبعث معه بعصىّ مضبّبة [2] بعضها بالحديد وبعضها بالشّبّة [3] . فقدم بها بكير وجمع النّقباء والشّيعة ودفع إلى كلّ رجل منهم عصا، فعلموا   [1] . خداش: كذا فى الأصل وآ. ما فى مط: حداس. [2] . مضبّبة: كذا فى الأصل وآ. والطبري (9: 1640) : مضّبّبة. فى مط: مضبة. [3] . فى حواشي الطبري: النحاس، بدل الشبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 أنهم عصاة، فرجعوا، وتابوا واعتذروا إلى بكير. وفى هذه السّنة عزل هشام خالد بن عبد الله عن أعماله كلّها ذكر السّبب فى عزل خالد بن عبد الله القسري ونكبته كان السّبب فى ذلك سكرة عرضت لخالد من طول الولاية وعزّ الإمرة وكثرة ما اجتمع عنده من الأموال. فمن ذلك أنّ كاتبا كان لابنه خلا به يوما فقال له: - «كم غلّة ابني؟» فقال: - «قد زاد على عشرة آلاف ألف درهم.» فقال: - «ابني مظلوم. ما تحت قدمي من شيء إلّا وهو له.» يعنى أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه جعل لبجيلة ربع [1] السّواد. [114] وكان خالد قد اتخذ بالعراق أموالا، وحفر أنها را حتّى بلغت غلّته عشرين ألف ألف درهم، وكان كثيرا ما يقول فى خلواته عند من يأنس به: - «هذا ابن الحمقاء.» يعنى هشاما. وكانت أمّ هشام مستحمقة، فتكلّم فيه أولاد هشام وحسدوه وسبعوه [2] هم [3] وأهل بيت مروان، وكان أحد الأسباب الّذى غاظ هشاما أنّه دخل على خالد رجل من قريش من أولاد سعيد بن العاص، أو عمرو بن العاص، فتبسّط عنده، فاستخفّ به خالد وعضّه بلسانه. فكتب إلى هشام يشكوه.   [1] . ربع السواد: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1655) : ربع السواد. فى آ: رفع السّواد. [2] . سبعوه: كذا فى الأصل وآ. ما فى مط: شنّعوه. سبعوه: شتموه. [3] . هم: كذا فى آ. وما فى الأصل ومط: وهم (بزيادة الواو) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فكتب هشام إلى خالد: كتاب هشام إلى خالد القسري - «أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين، وإن كان أطلق يدك ورأيك فى من استرعاك أمره واستحفظك عليه للّذى من كفايتك ووثق به من حسن تدبيرك، لم يفرشك غرّة أهل بيته لتطأه بقدمك ولا تحدّ إليه بصرك، فكيف بك وقد بسطت عليه لسانك تريد بذلك تصغير خطره واحتقار قدره. زعمت بالنّصفة منه حتّى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ له فى اللفظ بمحضر العامّة غير متحلحل [1] له حين رأيته مقذّا [2] من صدر مهادك الّذى مهّدك [115] الله فيه، وفى قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوّليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصّة، مساورين [3] بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين، حتّى حللت هضبته صرت تنحو بها عليهم مفتخرا. هذا إن لم تدهده بك قلّة شكرك متحطّما وقيذا. - «فهلا يا ابن محرّشة [4] قومه، أعظمت رجلهم داخلا عليك وخارجا، ووسّعت مجلسه إذا رأيته مقبلا إليك، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرما، ثمّ فاوضته مقبلا عليه ببشرك، إكراما لأمير   [1] . متحلحل: كذا فى الأصل: متحلحل. فى مط: متخلّل. فى آ: متحلخل (متخلخل؟) . والأصل يوافق الطبري (9: 1643) . [2] . مقذّا. فى مط وآ والطبري: مقبلا. [3] . مساورين. كذا فى الأصل ومط وآ: فى الطبري: مساوين. [4] . محرّشة: كذا فى الأصل ومط وآ: محرشة ما فى الطبري (9: 1643) : مجرشه (بالجيم المعجمة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 المؤمنين، فإذا اطمأنّ به مجلسه نازعته نجّى [1] السّرار. معظّما لقرابته، عارفا بحقّه. فهو سنّ البيتين ونابهم وابن شيخ آل أبى العاص وحرب وغرّتهم. - «وبالله يقسم أمير المؤمنين لولا ما تقدّم من حرمتك، وما يكره من شماتة عدوّك بك، لوضع ما رفع من قدرك، حتى [يردّك إلى حال [2]] تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك، وما أقربنى من أن أجعلك تابعا لمن كان لك تبعا. - «فانهض على أىّ حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه من ليل أو نهار ماشيا على [116] قدميك بمن معك من حولك، حتّى تقف بباب ابن عمرو صاغرا مستأذنا عليه، متنصّلا إليه، إذن لك أو منعك، فإن حرّكته عواطف رحمه [3] احتملك، وإن احتملته [4] حميّته وأنفته من دخولك عليه، فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل، ثمّ أمرك إليه بعد: عزل أو ولّى، انتصر أو عفا. - «فلعنك الله من متّكل عليه بالثّقة، ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشّرف ألفاظك الّتى لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصرى العراق وأقدم وأقوم، وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمّه بما كتب به إليك من إنكاره عليك ليرى فى العفو عنك والسّخط عليك رأيه، مفّوضا   [1] . نجّى: كذا فى الأصل ومط. فى آ: بحى السرار. فى الطبري: بحيى السرار. [2] . ما بين [] تكملة من الطبري (9: 1643) . [3] . رحمه: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1644) : رحمة. [4] . احتملته: كذا فى الأصل والطبري. فى مط: احتمله. وفى آ: احتمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 ذلك إليه، مبسوطة فيه يده، محمودا عند أمير المؤمنين على أيّها [1] أتى إليك موفّقا إن شاء الله.» وكتابه إلى ابن عمرو: - «أمّا بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه فى مجلس العامّة، محتقرا لقدرك، مستصغرا لقرابتك بأمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك، وإمساكك عنه [117] تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه، وتمسّكا بوثائق عصم طاعته، على مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه، وشرارة منطقه، وإكبابه [2] عليك عند إطراقك عنه مروّيا فى ما أطلق أمير المؤمنين من لسانه، وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوّه من خموله. كذلك أنتم آل سعيد فى مثلها عند هذر الذّنابى، وطائشة أحلامها، صمت غير [3] ما إفحام، بل بأحلام تخفّ [4] بالجبال، وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إيّاه، وتوقيرك سلطانه وسكره [5] ، وقد جعل أمر خالد إليك فى عزله وإقراره، فإن عزلته أمضى عزلك إيّاه، وإن أقررته فتلك منّة لك عليه لا يشركك أمير المؤمنين فيها.   [1] . أيها أتى: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري: على أيّهما آتى. [2] . إكبابه: كذا فى الأصل ومط وآ: إكبابه. فى الطبري (9: 1645) : إكثابه. [3] . فى الأصل: عن ما إفحام. فى آ: غير ما افحام. فى مط: عن ما اتحام. فى الطبري (9: 1645) : من غير افحام. [4] . فى الطبري تخفّ بالجبال وزنا. [5] . سكره: كذا فى الأصل وآ: سكره. فى الطبري (9: 1645) ومط: شكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 - «وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله له، يأمره بإتيانك، راجلا على أيّة حالة صادفه كتاب أمير المؤمنين وألفاه رسوله الموجّه إليك من ليلة أو نهاره، حتّى يقف ببابك، أذنت له أو حجبته، أقررته أو عزلته. - «وتقدّم أمير المؤمنين إلى رسوله فى ضربه بين يديك عشرين سوطا على رأسه، إلّا أن تكره أن يناله ذلك بسببك [118] لحرمة خدمته، فأيّهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين فى برّه لك وتعظيمه حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقا وإليه حبيبا فى ما ينوي من قضاء حقّ آل أبى العاص وسعيد. - «فكاتب أمير المؤمنين مبتدئا ومجيبا ومحادثا وطالبا، ما عسى أن ينزل بك أهلك من حوائجهم التي تقعد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلّة إمكان الخروج لإنزالها به غير محتشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه على قدر قرابتهم وأديانهم وأسنانهم [1] ، مستميحا ومسترفدا ومطالبا مستزيدا، تجد إليك أمير المؤمنين سريعا بالبرّ لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم. - «وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب فى العون على قضاء حقوق قرابته، وعليه يتوكّل، وبه يثق، والله وليّه ومولاه، والسّلام.» جناية خالد على نفسه وممّا جناه خالد على نفسه، أنّ رجلا يقال له: فرّوخ كان قد تقبّل من ضياع   [1] . أسنانهم: كذا فى الأصل. فى الطبري (9: 1646) : أنسباهم. فى مط: لسانهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 هشام بن عبد الملك بموضع يقال له: نهر الرّمان فكان يدعى لذلك: فرّوخ الرمّانى فثقل مكانه على خالد. فقال خالد لحسّان [119] النّبطى: - «ويحك، اخرج إلى أمير المؤمنين، وزد على فرّوخ.» فخرج حسّان، فزاد عليه ألف ألف، فبعث معه هشام رجلين من صلحاء أهل الشّام [1] ، فحاز الضياع، فصار حسّان أثقل على خالد من فرّوخ، فجعل يضرّبه ويوذيه، فيقول حسّان له: - «لا تفسدنى وأنا صنيعتك.» فأبى إلّا الإضرار به حتّى بثق عليه البثوق. فخرج حسّان إلى هشام، فقال: - إنّ خالدا بثق البثوق على ضياعك.» فوجّه هشام رجلا، فنظر إليها، ثمّ رجع فأخبره. وأقام حسّان يفسد أمر خالد حتّى قال يوما لخادم من خدم هشام: - «إن تكلّمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار.» قال: - «فعجّل لى الألف، وأقول ما شئت.» فعجّلها له وقال له: - «بكّ صبيّا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت والله لكأنّك ابن خالد القسري الّذى غلّته ثلاثة عشر ألف ألف.» ففعل. فسمعها هشام، ودارت فى نفسه. فلمّا دخل عليه حسّان، قال: - «أدن منّى.» فقال: - «كم غلّة خالد؟» قال:   [1] . اهل الشام: سقطت الكلمتان من مط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 - «عشرون ألف ألف.» قال. - «فكم غلّة ابنه؟» قال: - «ثلاثة عشر ألف ألف.» قال: - «فكيف لم تخبرني [120] بهذا؟» فقال: - «وهل سألتنى؟» فوقرت [1] فى نفس هشام، حتّى عزله. وممّا كتب به هشام إلى خالد: - «قد بلغني يا ابن أمّ خالد أنّك تقول: ما ولاية العراق لى بشرف. فيابن اللخناء، كيف وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ أما والله، إنّى لأظنّ أن أوّل ما يأتيك صفر [2] من قريش يشدّ يديك إلى عنقك.» وكان من أسباب موجدته أيضا، أنّ رجلا قدم عليه، فقال: - «إنّى سمعت خالدا ذكر أمير المؤمنين بما لا يلتقى به الشفتان، قال: قال الأحول! قال لا، بل أشدّ من ذلك.» قال: - «فما هو؟» قال: - «لا أقوله أبدا.» ولمّا صحّ عزم هشام على عزل خالد، أحب أن يكتم ذلك حتّى يتمّمه. فاختار لمكانه يوسف بن عمر، وكان يومئذ والى اليمن. فكاتبه، فقدم عليه جندب مولى يوسف بكتاب له. فقرأه، ثمّ قال لكاتبه: - «أجبه على لسانك.» وكتب هو بخطّه كتابا صغيرا. ثمّ قال لى [3] :   [1] . فوقرت. كذا فى الأصل وآ: فوقرت. وقر فلانا: جرّحه. [2] . صقرّ: كذا فى الأصل ومط وآ: صقر. فى الطبري (9: 1646) : صغير. [3] . لى: كذا فى الأصل والطبري (9: 1649) : لى. فى مط: له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 - «ايتنى بكتاب سالم.» وكان سالم على الدّيوان، فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصّغير، ثمّ قال: - «اختمه.» ففعلت. ثمّ دعا برسول يوسف، فقال: - «إنّ صاحبك لمتعدّ طوره، ويسأل فوق قدره.» [121] ثمّ قال لى: - «مزّق ثيابه.» ثمّ أمر بضربه. فضربه أسواطا، وقال: - «أخرجه عنّى، وادفع إليه كتابه.» فدفعت إليه الكتاب وقلت له: - «ويلك، النّجا.» فارتاب بشير بن أبى ثلجة [1] بذلك وكان خليفة سالم وقال: - «هذه حيلة والله.» وقد ولى يوسف العراق. فكتب إلى عياض، وهو صاحب طارق بن أبى زناد، وطارق هذا خليفة خالد على الخراج. وكان كتابه إلى عياض: - «إنّ أهلك قد بعثوا إليك بالثّوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه، واحمد الله، وأعلم ذلك طارقا.» فبعث عياض إلى طارق بالكتاب، وندم بشير على كتابه، فكتب إلى عياض: - «إن أهلك قد بدا لهم فى إمساك الثّوب، فلا تتّكل عليه.» فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق. فقال طارق:   [1] . ثلجة: ما فى الأصل مهمل فى الحرف الأول. ما فى مط مهمل فى الأول أيضا. وما فى آ. يشبه أن يكون: ملحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 - «الخبر فى الكتاب الأوّل، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الكتاب [1] . فكتب بهذا.» ثمّ ركب طارق من الكوفة إلى خالد، وهو بواسط، فسار يوما وليلة، فصبّحهم، فرءاه داود البربري وكان على حجابة خالد وحرسه وديوان الرّسائل فأعلم خالدا قدومه، فغضب وقال: - «قدم بغير إذن!» ثمّ أذن له. [122] فلمّا رءاه قال: - «ما أقدمك؟» [2] قال: - «أمر كنت أخطأت فيه.» قال: - «وما هو؟» قال: - «وفاة أسد. رحمه الله كتبت إلى أمير أعزّيه عنه، وإنّما كان ينبغي أن آتيه ماشيا.» فرقّ خالد، ودمعت عيناه وقال: - «ارجع إلى عملك.» فقال: - «أردت أن أذكر للأمير أمرا أسرّه إليه.» قال: - «ما دون داود سرّ.» قال: - «أمر من أمرى.» فغضب داود وخرج، فأخبر طارق خالدا. قال: - «فما الرأى؟» قال:   [1] . الكتاب: كذا فى الأصل ومط وآ: الكتاب. ما فى الطبري (9: 1650) : الخبر. [2] . ما أقدمك: كذا فى الأصل وآ: ما أقدمك. فى مط: «ما أقدم لك!» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 ذكر آراء أشير بها على خالد فلم يقبلها - «تركب إلى أمير المؤمنين، فتعتذر [1] إليه من شيء إن كان بلغه عنك.» قال خالد: - «ما أركب إليه بغير إذنه.» قال: - «فشيء آخر.» قال: - «وما هو؟» قال: - «تسير فى عملك وأتقدّمك إلى الشّام، فأستاذنه لك. فإنّك لا تبلغ أقصر عملك حتّى يأتيك إذنه.» قال: - «ولا هذا.» قال: - «فأذهب، واضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر فى هذه السّنين، وآتيك بعهدك مستقبلا.» قال: - «وما مبلغ ذلك؟.» قال: - «مائة ألف ألف.» قال: - «ومن أين أجد [2] هذا؟ والله ما أجد عشرة آلاف ألف [3] درهم.» قال: - «أتحمّل أنا وسعيد بن راشد [123] أربعين ألف ألف درهم، وتفرّق الباقي على العمّال [والزينبي وأبان بن الوليد عشرين ألف ألف درهم [4]] قال: - «إنّى إذن للئيم إن كنت سوّغت قوما شيئا ثمّ أرجع فيه.» فقال طارق: - «إنّا نقيك ونقى أنفسنا بأموالنا، ونستأنف الدّنيا، ونبقّى النّعمة عليك و   [1] . فتعتذر: كذا فى الأصل وآ، والطبري (1650) : فتعتذر. فى مط: فتعذر. [2] . أجد: كذا فى الأصل ومط وآ: أجد. فى الطبري (9: 1650) : آخذ. [3] . فى الأصل وآ: عشرة ألف ألف. فى مط والطبري: عشرة آلاف. [4] . ما بين [] ساقط من الأصل ومط، وهو موجود فى آ، والطبري (9: 1651) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 علينا، خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال، وهي عند تجّار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربّصون بنا، فنقتل نحن ويأكلون تلك الأموال.» فأبى خالد فودّعه طارق وبكى وقال: - «هذا آخر ما نلتقي فى الدّنيا.» [مواساة من بلال بن أبى برده لخالد] وتحدّث ابن عيّاش أنّ بلال بن أبى بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتّب هشام عليه: - «إنّه حدث أمر لا أجد بدّا من مشافهتك به. فإن رأيت أن تأذن لى، فإنّما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفا.» فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت. فركب هو وموليان، له الجمّازات. فسار يوما وليلة حتّى صلّى المغرب بالكوفة وهي ثمانون فرسخا. فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصّب. فقال: - «أبا عمرو، أتعبت نفسك.» قال: - «أجل.» قال: - «متى عهدك بالبصرة؟» قال: - «أمس.» قال: - «أحقّ ما تقول؟» قال: - «هو والله ما قلت.» قال: - «فما أنصبك؟» قال: - «بلغني من تعتّب أمير المؤمنين وقوله [124] وما بغاك [1] به ولده وأهل   [1] . بغاك: كذا فى الأصل بغاك. الباء فى آ: مهملة. فى مط: بغاك الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 بيته. فإن رأيت أن تعرض عليه بعض أموالنا ثمّ تدعوه منها إلى أحبّ، فأنفسنا به طيّبة. ثمّ اعرض على مالك، فما أخذ منه فعلينا [1] العوض منه بعد.» قال: - «ما أتّهمك، وحتّى أنظر.» قال: - «إنّى أخاف أن تعاجل.» قال: - «كلّا.» قال: - «إنّ قريشا من عرفت [2] ولا سيّما سرعتهم إليك.» قال: - «يا بلال، إنّى والله ما أعطى شيئا قسرا أبدا.» قال: - «أيّها الأمير، أتكلّم؟» قال: - «نعم.» قال: - «إنّ هشاما أعذر [3] منك. يقول: استعملتك وليس لك شيء، فلم تر من الحقّ عليك أن تعرض علىّ بعض ما صار إليك، وأخاف أن يزيّن له حسّان النّبطى ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة.» قال: - «أنا ناظر فى ذلك، فانصرف راشدا.» فانصرف بلال وقد يئس منه. هشام يولّى يوسف بن عمر العراق وكان رسول يوسف بن عمر لمّا قدم عليه قال له: - «ما وراءك؟» قال: - «الشّرّ. أمير المؤمنين ساخط عليك، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الدّيوان.» ففضّ الكتاب وقرأه. فلمّا انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطّه أن:   [1] . فعلينا: كذا فى الأصل. فى آ: لعلينا. [2] . من عرفت: كذا فى الأصل. فى آ: قد عرفت. [3] . أعذر: كذا فى الأصل: أعذر. فى آ: أغدر. ما فى مط: مهمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 - «سر إلى العراق، فقد ولّيتكه، وإيّاك أن يعلم بذلك أحد، وخذ ابن النّصرانيّة [125] وعمّاله، فاشفني منهم.» فاستخلف يوسف ابنه على عمله، واختار دليلا عالما بالطّرق [1] وسار. فسأله ابنه: - «أين تريد؟» قال له: - «يا بن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقرّ بى منزل» ثمّ سار. فكان إذا أتى طريقين سأل. فإذا قيل: هذا إلى العراق، قال: أعرف، حتّى أتى الكوفة. فقال لغلامه كيسان: - «انطلق، فأتنى بطارق، فإن كان قد أقبل، فأحمله على أكاف، وإن لم يكن قد أقبل، فأت به سحبا.» قال: فأتيت الحيرة دار عبد المسيح وهو سيّد أهل الحيرة. فقلت له: - «إنّ يوسف قد قدم على العراق، وهو يأمرك أن تشدّ طارقا وتأتيه به [2] .» فخرج هو وولده وغلمانه حتّى أتوا منزل طارق. وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعان، لهم سلاح وعدّة. فقال لطارق: - «إن أذنت لى خرجت إلى هؤلاء فى من معى فقتلتهم، ثمّ طرت على وجهك حيث شئت.» فقال: «لا.» وأذن لكيسان. فلمّا دخل قال: - «أخبرنى عن الأمير ما يريد؟» قال: - «المال.» قال:   [1] . فى آ، والطبري (9: 1652) : الطريق. [2] . وتأتيه به. كذا فى الأصل ومط وآ والطبري (9: 1653) : وتأتيه به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 - «فأنا أعطيه ما سأل.» ثمّ أقبلوا إلى يوسف، فتوافوا بالحيرة. فلمّا عاينه ضربه ضربا مبرّحا، يقال: خمسمائة، [126] ودخل المدينة- يعنى الكوفة- فخطب بها وتوعّد أهل العراق وقال: - «والله لأقتلنّ منافقيكم بالسّيف وجناتكم بالعذاب، وفسّاقكم بالسّوط.» ثمّ نزل، ومضى إلى واسط وأتى بخالد وهو بها، فحبسه. فتوسّط بينهما النّاس حتّى صالحه آبان [1] بن الوليد على تسعة آلاف ألف درهم. فندّم [2] يوسف وقيل له: - «لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم.» قال: - «ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء.» وأخبر خالد، فقال: - «أسأتم حين أعطيتموه عند أوّل وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثمّ يعود عليكم، فارجعوا عليه.» فجاؤوه، وقالوا: - «إنّ خالدا ليس يرضى بما ضمنّا وأخبرنا أنّ الملك لا يمكنه.» فقال: - «أنتم أعلم وصاحبكم. أما أنا فلا أرجع عليكم. فإن رجعتم لم أمنعكم.» قالوا: - «فإنّا قد رجعنا.» قال: - « [أ] [3] فقد فعلتم؟» قالوا: - «نعم.» قال:   [1] . آبان: كذا فى الأصل: آبان. فى آومط والطبري (9: 1654) : أبان. [2] . فندّم: كذا فى الأصل فندّم. فى آ: فندم. فى الطبري: ثمّ ندم. فى مط: فتقدّم. [3] . [أ] : الهمزة: ليست فى الأصل ومط وأضفناها من آ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 - «فمنكم أتى النّقص. فو الله لا أرضى بتسعة آلاف ألف، ولا أضعافها.» فأخذ مائة ألف ألف. كتاب يوسف بن عمر إلى جديع بولاية خراسان ثمّ كتب يوسف بن عمر إلى جديع بن على الكرماني بولاية خراسان. فأتاه الكتاب بمرو، فخرج إلى النّاس، فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسدا وما صنع [127] الله للنّاس على يده بعد ما كانوا فيه من الشّدة والجهد. ثمّ ذكر أخاه خالدا بالجميل، وأثنى عليه، وذكر قدوم يوسف بن عمر إلى العراق، وحثّ النّاس على الطّاعة ولزوم الجماعة، ثمّ قال: - «غفر الله للميّت- يعنى أسدا- وعافى المعزول، وبارك للقادم.» ثمّ نزل. وفى هذه السّنة عزل جديع الكرماني عن خراسان وولّيها نصر بن سيّار ذكر السّبب فى ذلك لمّا انتهت وفاة أسد إلى هشام استشار أصحابه فى من يصلح لخراسان. فأشير عليه بقوم. فقال: - «اكتبوا أسماءهم.» فكان ممّن كتب له: عثمان بن عبد الله بن الشّخير، ويحيى بن الحصين بن المنذر، ونصر بن سيّار، والمجشّر بن مزاحم السّلمى، وغيرهم. - فسأل عن عثمان، فقيل: «هو صاحب شراب.» وسأل عن المجشّر، فقيل: «هو شيخ همّ.» وسأل عن ابن حصين، فقيل: «فيه تيه وعظمة.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وسأل عن قطن بن قتيبة، فقيل: «هو موتور.» فاختار نصر بن سيّار. فقيل: - «ليست له بها عشيرة.» فقال: - «أنا عشيرته.» فولّاه، وبعث بعهده. وكان هشام سأل عبد الكريم [128]- وكان أتاه من خراسان من أخبره بموت أسد: - « [من ترى أن نولّى خراسان؟] [1] بلغني أنّ لك بها وبأهلها علما.» فقال: - «يا أمير المؤمنين، أمّا رجل خراسان حزما ونجدة فالكرمانى.» فأعرض بوجهه وتطّير من اسمه: «جديع.» وقال: - «سمّ لى غيره.» قال: قلت: - «اللّسن المحرب يحيى بن نعيم بن هيبرة الشّيبانى.» قال: - «ربيعة لا تسدّ بها الثّغور.» فقال عبد الكريم: فقلت فى نفسي، قد كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر. فقلت: - «عقيل بن معقل الليثي إن اغتفرت هنة.» قال: - «ما هي؟» قلت: - «ليس بالعفيف.» قال: - «فلا حاجة لى به.» قال: قلت: - «المجشّر بن مزاحم، عاقل شجاع له رأى.» قال: - «فيه كذب، ولا خير فى الكذب.»   [1] . ما بين [] تكملة أضفناها من الطبري (9: 1661) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 قال عبد الكريم: وأخّرت نصرا وهو أرجل القوم [1] وأعرفهم بالسّياسة. ثمّ قلت: «نصر بن سيّار الليثي.» فقال: - «نصر بن سيّار هو لها.» قلت: - «فإنّ عشيرته بها قليلة.» قال [2] : - «لا أبا لك، أكثر منّى؟ أنا عشيرته.» فولّى نصرا، وأمره بمكاتبة يوسف بن عمر. وكان يوسف قد أسمى لخراسان جماعة، وأوفد فى ذلك وفدا، فأبى عليه هشام فيهم. وكان خرج بعهد نصر إلى خراسان عبد الكريم الحنفي، أنفذه هشام مع كاتبه أبى المهنّد، فوصل عبد الكريم بعشرة آلاف درهم. [129] واستعمل نصر خلفاءه على كور خراسان، وعمر خراسان عمارة لم تعمر قطّ مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية، ومدحه الشّعراء، وكان نصر شاعرا خطيبا، فخطب النّاس، وقال فى خطبته: استمسكوا أصحابنا يحد بكم [3] ... فقد عرفنا خيركم من شرّكم ثمّ دخلت سنة احدى وعشرين ومائة وفيها غزا مروان بن محمّد بلاد صاحب السّرير الذّهب، ففتح قلاعه، وخرّب أرضه، فأذعن له بالجزية فى كل سنة ألف رأس يؤدّيه، وأخذ رهائنه، وملّكه [4] على أرضه.   [1] . أرجل القوم: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1662) . ما فى آ: أرجلهم. [2] . قال: فى الأصل: قلت وهو خطأ. والصواب هو ما أثبتناه كما فى مط وآ. [3] . يحدبكم: الضبط فى الأصل. ما فى آ. مهمل. فى مط يجدكم. وفى الطبري (9: 1666) : بجدّتكم. وفى حواشيه: بحدبكم. أى بسيوفكم. وحدا بالإبل: ساقها. [4] . وملّكه: كذا فى النسخ الثلاث. فى الطبري (9: 1667) : وملّك مروان على أرضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 قتل زيد بن علىّ بن الحسين (ع) وفيها قتل زيد بن على بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب- صلوات الله عليهم [1]- فى قول الواقدي. وفى قول هشام بن محمّد: قتل فى سنة اثنتين وعشرين ومائة. ذكر السّبب فى مقتله والسّبب فى خروجه كان بين أولاد الحسين والحسن- عليهم السلام [2]- خصومة فى صدقة رسول الله [3]- صلّى الله عليه- وكانوا يتنازعون إلى والى المدينة، وكان واليها يومئذ إبراهيم بن هشام. وانتهت الخصومة إلى زيد بن على، وإلى جعفر بن حسن. فلمّا هلك جعفر قال عبد الله بن حسن بن حسن [130]- «من لزيد؟» [4] قال حسن بن حسن بن حسن: - «أنا.» قال: - «إنّا نخاف لسانك ويدك. ولكنّى [أنا أكفيكه [5] .] » قال: - «إذن لا تبلغ حاجتك [وحجتك [6]] ولكن أبلغ حجّتى.»   [1] . صلوات الله عليهم. كذا فى الأصل. والتصلية مشطوبة فى آوقد كتب مكانها: رضى الله عنهم. فى مط أيضا: رضى الله عنهم. [2] . عليهم السّلام. كذا فى الأصل. فى مط: رضى الله عنهم. فى آ: عليهما السلام والرضوان. [3] . صدقة رسول الله: كذا فى الأصل ومط وآ: صدقة رسول الله. وزاد فى هامش الأصل: هو صدقة على، عليه السلام. [4] . من لزيد؟: فى الطبري (9: 1672) : من يكفينا زيدا؟ [5] . أنا أكفيكه: تكملة من الطبري (9: 1672) . [6] . وحجّتك. تكملة من الطبري أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 فتنازعا يوما، فأغلظ عبد الله لزيد وقال: - «يا ابن العندكية [1] .» فتضاحك زيد وقال: - «فعلتها يا با محمد.» ثمّ ذكر أمّه بشيء. وكانت ولاية المدينة يومئذ لخالد بن عبد الملك وهذه الخصومة كانت عنده. فقال خالد: - «اغدوا علينا غدا. فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما.» فباتت المدينة تغلى كالمرجل، يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد الله كذا. فلمّا كان الغد، جلس خالد فى المسجد واجتمع النّاس. فمن شامت ومن مهموم. فدعا بهما خالد وهو يحبّ أن يتشاتما فيتبيّن ذلك لهما. وذهب عبد الله يتكلّم. فقال زيد: - «لا تعجل يا با محمّد، أعتق زيد ما يملك، إن خاصمك إلى خالد أبدا [2] .» ثمّ قال: - «يا خالد، لقد جمعت ذرّيّة رسول الله صلّى الله عليه لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر. [3] » فقال خالد: - «ما لهذا السّفيه أحد.» فتكلّم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال:   [1] . العندكيه (الغدكية؟) : كذا فى الأصل. فى مط: العذكية. فى الطبري (9: 1673) : يا بن الهندكية. وفى حواشيه عن بعض الأصول: السندية. [2] . انظر الطبري (9: 1674) . [3] . زاد فى مط: رضى الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 - «يا بن أبى تراب وابن حسين السّفيه [1] ، أما ترى للوالي عليك حقّا ولا طاعة! فقال زيد: - «أسكت أيّها القحطانىّ، فإنّا لا نجيب مثلك.» فقال: - «ولم؟ أترغب عنّى؟ فو الله، إنّى لخير منك وأبى [131] خير من أبيك، وأمى خير من أمّك.» فتضاحك زيد، ثمّ قال: - «يا معشر قريش، هذا الدّين قد ذهب، أذهبت الأحساب؟ فو الله، إنّه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم.» فتكلّم عبيد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، فقال: - «كذبت والله يا قحطانىّ، فهو لخير منك نفسا وأبا وأمّا ومحتدا.» وتناوله بكلام كثير. فقال القحطانىّ: - «دعنا منك، يا ابن واقد.» فأخذ ابن واقد كفا من حصباء المسجد، فضرب بها الأرض، ثمّ قال: - «أف! والله ما لنا على هذا صبر.» وقام فشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك. فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص. فكلّما قرأ قصّة له كتب هشام فى أسفلها: - «إرجع إلى أميرك.» فيقول زيد: - «إنّى والله ما أرجع إلى خالد أبدا، وما أسأل مالا، وإنّما أنا رجل مخاصم.»   [1] . لعن القائل فى هامش آ، بخط آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 إذن هشام لزيد ومحاجّة جرت بينهما ثم إنّ هشاما أذن له يوما بعد طول حبس، وجلس فى عليّة له رفيعة، وأمر خادما له أن يتبعه ويتسمّع عليه، فقال له: - «أنظر لا يرينّك [واسمع ما يقول] [1] » قال: فأتعبته الدّرجة وكان بادنا فوقف فى بعضها وقال: - «والله ما أحبّ الدنيا أحد إلّا ذلّ.» فلمّا أعيد ذلك على هشام، علم أنّه خارج عليه. فيقال: إنّ هشاما قال له يوما: - «لقد بلغني يا زيد، أنّك تذكر الخلافة وتتمنّاها ولست [132] هناك [2] ، فإنّك ابن أمّة.» فقال زيد: - «إنّ لك يا أمير المؤمنين جوابا.» قال: - «فتكلّم به.» قال: - «إنّه ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع عنده منزلة من نبىّ ابتعثه، وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء وولد خيرهم محمّدا صلّى الله عليه وكان ابن أمة، وأخوه ابن صريحة مثلك، فاختاره الله عليه، فأخرج منه خير البشر، وما على أحد [من ذلك] [3] جدّه رسول الله- صلّى الله عليه ما كانت أمّه.» [4] فقال له هشام: - «أخرج عنّى.» قال:   [1] . واسمع ما يقول: تكملة من الطبري (9: 1675) . [2] . لست هناك: كذا فى النسخ وفى الطبري (9: 1676) [3] . تكملة من الطبري. [4] . ما كانت أمّه: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1676) . فى آ: ما كانت أمّه أمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 - «إن خرجت لا تراني إلّا حيث تكره.» فقال له سالم: «لا يظهرنّ منك هذا.» بين خالد بن عبد الله القسري وزيد بن على ثمّ إنّ خالد بن عبد الله القسري ادّعى مالا له قبل زيد بن علىّ، ومحمّد بن عمر بن أبى طالب، وداود بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس وإبراهيم بن سعد بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهرى، وأيّوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي. فقدمت كتب يوسف بن عمر على هشام بذلك، فبعث إليهم يخبرهم بما ادّعى عليهم خالد، فأنكروا. فقال لهم هشام: - «فاخرجوا إليه يجمع بينكم وبينه.» فقال له زيد بن علىّ: - «أنشدك الله والرّحم، أن تبعث بى إلى يوسف بن عمر.» قال: - «وما الّذى تخاف منه؟» قال: - «أخاف أن يعتدى علىّ.» قال هشام: - «ليس له ذاك.» ودعا كاتبه وقال له: أكتب إلى يوسف بن عمر: - «أمّا بعد، فإذا قدم [133] عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين خالد القسري وابنه يزيد. فإن هم أقرّوا بما ادّعى عليهم، فسرّح بهم إلىّ، وإنّ هم أنكروا، فسله بيّنة، فإن لم يقمها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 فاستحلهم بالله الّذى لا إله إلا هو: ما استودعكم خالد ولا ابنه يزيد وديعة، ولا لهما قبلكم شيء. ثمّ خلّ سبيلهم.» فقالوا لهشام: - «إنّا نخاف تعدّيه لكتابك.» قال: - «كلّا، إنّى قد صدّقتكم، ولكن لا بدّ من أن تكذّبوا خالدا فى وجهه، وأنا باعث معكم رجلا من الحرس بذلك، حتّى يعجّل الفراغ منه، ويردّكم إلىّ.» قالوا: - «جزاك الله خيرا.» فوصلهم هشام، وسرّح بهم إلى يوسف. فلمّا قدموا عليه أجلس زيد بن علىّ قريبا منه، وألطفه فى المسألة. ثمّ سألهم عن المال، فأنكروا جميعا، فأخرج يوسف خالدا إليهم فى عباءة، وجمع بينه وبينهم، وقال: - «هذا زيد بن علىّ وهذا داود بن على، وهذا فلان وفلان الّذين ادّعيت عليهم ما ادّعيت، وقد أمر أمير المؤمنين بكيت وكيت، وهذا الكتاب. فهل عندك بيّنة بما ادّعيت؟» فلم تكن له بيّنة. فقال يوسف للقوم: - «أتحلفون أنّ خالدا ما أودعكم ما لا ولا له قبلكم حقّ [134] فقال زيد: - «أنّى [1] يودعنى هذا مالا وهو يشتم آبائي على منبره؟» وسكت القوم. ثمّ التفتوا بأجمعهم إلى خالد وقالوا:   [1] . أنّى: كذا فى الأصل وآ. وما نفى مط: ان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 - «ما دعاك إلى ما صنعت؟» قال: - «إنّه أغلظ علىّ فى العذاب، فادّعيت ما ادّعيت، وأمّلت أن يأتى الله بفرج قبل قدومكم.» فأطلقهم يوسف، فمضوا، وتخلّف بالكوفة زيد بن علىّ وداود. إقبال الشّيعة إليه وأقبلت الشّيعة تختلف إلى زيد ويوسف يأمره بالخروج، وهو يعتلّ عليه. وبلغ ذلك هشاما. فكتب إلى يوسف: - «إنّه بلغني أنّ زيدا يحتجّ عليك فى مقامه بخصومة بينه وبين بعض آل طلحة فى مال بينه وبينهم بالمدينة، فليقم جريّا [1] يقوم مقامه.» وأزعجه، وقد كان بايعه سلمة بن كهل، ونصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق الأنصارى وناس من وجوه أهل الكوفة. فلمّا رأى ذلك داود بن علىّ قال: - «يا ابن عمّ، لا يغرّنك هؤلاء من نفسك. ففي أهل بيتك لك عبرة.» وذكّره بأيّام علىّ وأيّام الحسن والحسين، ولم يزل به حتّى أخرجه معه، فشخصا حتّى بلغا القادسيّة. فاتبعه شيعته حتّى بلغوا الثعلبية، وقالوا له: نحن أربعون ألفا، وإن رجعت إلى الكوفة لم يتخلّف عنك أحد.» فجعل يقول: - «إنّى أخاف أن تخذلوني [135] وتسلّمونى كما فعلتم بأبى وجدّى.»   [1] . فليقم جريّا: كذا فى الأصل. فى مط: حربا. ما فى آمهمل. وفى الطبري (9: 1679) : فليجّر جريّا. بدل: فليقم جريا. الجرىّ: الوكيل. الضامن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فيحلفون له ويعطونه المواثيق والأيمان المغلّظة، ويقول له داود: - «يا بن عمّ، هكذا قالوا لأبيك وجدّك، ثمّ لم يفوا.» فقال لزيد: - «إنّ هذا لا يحبّ أن تظهر أنت، ويزعم [1] أنّه وأهل بيته أحقّ بهذا الأمر منكم.» رجوع زيد إلى المدينة ولم يزالوا عليه بهذا الكلام ونحوه حتّى انصرف معهم إلى الكوفة. فأتاه سلمة بن كهل، فاستأذن عليه، فأذن له. فذكر قرابته برسول الله صلى الله عليه وحقّه، فأحسن. ثمّ تكلّم زيد فأحسن. فقال سلمة: - «اجعل لى الأمان حتّى أقول.» قال: - «سبحان الله! ومثلك يسأل مثلي الأمان؟» وإنّما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه. ذكر رأى أشار به سلمة على زيد، فلم يقبله فقال: - «نشدتك الله، كم بايعك [2] ؟» قال: - «أربعون ألفا.» قال: - «فكم بايع جدّك؟» قال: - «ثمانون ألفا.» قال:   [1] . ويزعم: كذا فى الأصل ومط: ويزعم. ما فى آ: وزعم. [2] . بايعك: كذا فى الأصل وآ: بايعك. فى مط: تابعك. وكذلك فى قوله: «فكم بايع جدّك» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 - «فكم حصل معه؟» قال: - «ثلاثمائة.» قال: - «نشدتك الله، أأنت خير أم جدّك؟» قال: - «بل جدّى.» قال: - «أفقرنك الّذين خرجت فيهم خير، أم القرن [1] الّذين خرج فيهم جدّك؟» قال: - «بل القرن الّذين خرج فيهم جدّى.» قال: - «أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك [136] بجدّك؟» قال: - «إنّهم بايعوني، ووثّقوا لى.» قال: - «فتأذن لى أن أخرج من البلد؟» قال: - «ولم؟» قال: - «آمن أن يحدث فى أمرك حدث، فلا أملك نفسي.» قال: - «وقد أذنت لك.» فخرج إلى اليمامة. كتاب عبد الله بن الحسن إلى زيد وكتب عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب إلى زيد: - «يا بن عمّ، إنّ أهل الكوفة نفج [2] العلانية، خوز السّريرة، تقدّمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم. ولقد تواترت إلىّ كتبهم، فصممت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسا منهم، واطّراحا لهم، وما لهم مثل إلّا ما قال على بن أبى طالب»   [1] . القرن: قرن القائد: هم الّذين يتّبعونه ويعاونونه. [2] . نفج: كذا فى الأصل وآ. نفج. فى مط: نفح. فى الطبري (9: 1681) : نفخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وذكّره بأشياء قالها فى أهل العراق. [كيف كانت بيعة زيد] واستخفى زيد بالكوفة وبثّ دعاته، وأخذ يتنقّل من موضع إلى موضع ويبايع من استجاب له. وكانت بيعته: - «إنّى أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وجهاد الظّالمين، والدّفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسّواء، وردّ المظالم، وإقفال المجمّر [1] ، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا. أتبايعون على ذلك؟» فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثمّ يقول: - «عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله صلّى الله عليه- لتفينّ ببيعتي، ولتقاتلنّ معى عدوّى، ولتنصحنّ لى فى السّر [137] والعلانية.» فإذا قال: نعم، مسح يده على يده، ثمّ قال: - «اللهمّ اشهد.» فمكث بذلك عشر شهرا، وبلغ هشاما خبر رجوعه إلى الكوفة بعد خروجه منها. ولم يبلغ ذلك يوسف بن عمر، وظنّ أنّه استمرّ فى خروجه إلى المدينة.   [1] . إقفال المجمّر: كذا فى الأصل والطبري (9: 1687) . فى مط: أفعال المحمر. فى آ: إنقال المحمر (المجمر) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 كتاب هشام إلى يوسف بن عمر فى أمر زيد بن على ّ فكتب هشام إلى يوسف بن عمر فى أمر زيد كتابا نسخته: - «أمّا بعد، فقد علمت حال الكوفة فى حبّهم أهل هذا البيت، ووضعهم إيّاهم فى غير مواضعهم، لأنّهم افترضوا طاعتهم على أنفسهم، وضيّقوا [1] عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن، حتّى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفّوهم فيها إلى الخروج، وقد كان قدم زيد بن علىّ على أمير المؤمنين فى خصومة له، فرأى رجلا جدلا لسنا خليقا بتمويه الكلام وصوغه واجترار الرّجال بحلاوة لسانه وكثرة مخارجه فى حججه، وما يدلى به عند لدد الخصام من السّطوة على الخصم بالقوّة الحادّة لنيل الفلج. فعجّل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تخلّه والمقام قبلك، فإنّه إن أعاره القوم أسماعهم فحشّاها من لين لفظه وحلاوة منطقه مع ما يدلى به من القرابة برسول الله- صلّى الله عليه- وجدّهم [غير متئدة قلوبهم، ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم] [2] ، ميّلا إليه، وبعض التحامل عليه [138] فى أذى له [وإخراجه وتركه] [3] مع السّلامة للجميع، والحقن للدماء، والأمن للفرقة، أحبّ إلىّ من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم، وقطع سبلهم، والجماعة حبل الله المتين، ودين   [1] . وضيّقوا: كذا فى الأصل. فى الطبري (9: 168) : ووظّفوا. [2] . [غير متئدة ... ] تكلمة من الطبري (9: 1683) . [3] . [وإخراجه ... ] تكملة من الطبري، إلّا أنّ فى متن الطبري: «مع السلامة» وفى حواشيه: «معه السلامة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 الله القويم، وعروته الوثقى. فادع إليك اشراف أهل المصر، فأوعدهم العقوبة فى الأبشار، واستصفاء الأموال. فإنّ من له عقد أو عهد منهم سيبطئ عنه، ولا يخفّ معه إلّا الرّعاع وأهل السّواد ومن تنهضه الحاجة استلذاذا للفتنة، [وأولئك ممّن يستعبد إبليس وهو يستعبدهم] [1] فبادهم بالوعيد، واعضضهم بسوطك، وجرّد منهم سيفك، وأخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السّفلة. واعلم أنّك قائم على باب ألفة، وداع إلى طاعة، وحاضّ على جماعة، ومشمّر لدين الله، فلا تستوحش لكثرتهم، واجعل معقلك الّذى تأوى إليه، وصغوك الّذى تخرج به، الثّقة بربّك والغضب لدينك والمحاماة على الجماعة ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الّذى أمرهم الله، عزّ وجلّ، بالدّخول فيه، والتشاحّ، عليه، فإنّ أمير المؤمنين قد أعذر إليه، وقضى من ذمامه، فليس له منزى [2] إلى ادّعاء حقّ هو له، ظلمه [3] من نصبه فى فيء أوصله لذي قربى، إلّا ما [137] خاف أمير المؤمنين من حمل مدرة السّوء له [4] ، على الّذى عسى أن يكونوا به أشقى وبه أضلّ، ولهم أمرّ، ولأمير المؤمنين أعزّ وأسهل، إلى حياطة الدّين والذبّ عنه، فإنّه لا يحبّ أن يرى فى أمّته حالا متفاوتا، نكالا لهم مفتنا [5] . فهو   [1] . [وأولئك ... ] تكلمة من الطبري. [2] . منزى: كذا فى الأصل: منزى. فى مط: مبرى. فى آ: مرى. [3] . ظلمه قربى: والعبارة فى الطبري (9: 1684) : ظلمه من نصيبه نفسه أو فيء، أو صلة لذي قربى. [4] . فى آ: فى حمل مدده وفى أخرى مدرة السوء له. [5] . فى الطبري: مفنيا. بدل: مفتنا. وفى حواشيه: مقيتا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 يستديم النّظر، ويتأتّى للرّشاد، ويجتبيهم [1] ، على المخاوف، ويستجرّهم إلى المراشد، ويعدل بهم عن المهالك، فعل الوالد المشفق على ولده، والرّاعى الحدب على رعيّته. واعلم أنّ من حجّتك عليهم، واستحقاق نصر الله لك عند معاندتهم، توفيتك أطماعهم وأعطية ذرّيّتهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم. فانتهز رضا الله فى ما أنت بسبيله، فإنّه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغى، وقد أوقعهم الشّيطان، ودلّاهم فيه، ودلّهم عليه، والعصمة بتارك البغي أولى. فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيّته ويسأل إليه ومولاه ووليّه أن يصلح منهم ما كان فاسدا، وأن يسرع بهم إلى النّجاة والفوز، إنّه سميع قريب.» فبعث يوسف فى طلب زيد، فأرشد إلى من يعرف خبره، وجاءه سليمان بن سراقة البارقي، فأخبره أنّه يختلف إلى [140] ابن أخت له، فطلبه يوسف هناك، فلم يوجد عنده، وجاء بالرّجل. فلمّا كلّمه استبان له أمر زيد وأصحابه، وتخوّف زيد أن يؤخذ، فأخذ فى التّعجيل. نكث بيعة زيد ولمّا رأى أصحاب زيد أنّ يوسف بن عمر قد بلغه أمر زيد وأصحابه، وأنّه يستبحث [2] عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من رؤساء من بايعه، فقالوا:   [1] . ويجتبيهم: كذا فى الأصل. فى الطبري يجتنبهم. فى مط: ويجتنهم عن. ما فى آ: مهمل. [2] . يستبحث: كذا فى آ. والطبري (9: 1699) ونقطة الباء غير موجودة فى الأصل. فى مط: يستحثّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 - «رحمك الله، ما قولك فى أبى بكر وعمر؟» [1] قال زيد: «رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت من أهل بيتي أحدا يتبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلّا خيرا.» قالوا: «فلم تطلب إذا بدم أهل هذا البيت، إلّا أنّ هذين وثبا على سلطانكم. فنزعاه من أيديكم؟» فقال زيد: - «إنّ أشدّ ما نقول فى ما ذكرتم أنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه من النّاس أجمعين، وأنّ القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك بهم عندنا كفرا. قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب واتّبعوا السّنّة.» قالوا له: - «فلم يظلمك إذا هؤلاء، فلم تدعونا إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين؟» فقال لهم: - «إنّهم ليسوا كأولئك. لأنّ هؤلاء ظالمون لأنفسهم، وإنّما ندعوهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، وإلى السّنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ. فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن [141] أنتم أبيتم، فلست عليكم بوكيل.» ففارقوه ونكثوا بيعته وقالوا: - «سبق الإمام.» وقد كان هلك محمد بن علىّ بن الحسين يومئذ، وكان ابنه جعفر حيّا، فقالوا: - «جعفر إمامنا وهو أحقّ بالأمر بعد أبيه وليس زيد بإمام.» فسمّاهم زيد الرّافضة. وهم اليوم يزعمون أنّ الّذى سمّاهم الرّافضة المغيرة، وذلك أنّهم فارقوه بالكوفة وتركوه حتّى قتل، وقد حكينا أمره.   [1] . أنظر الطبري (9: 1699) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 استتباب الخروج لزيد واستتبّ لزيد الخروج. فواعد أصحابه ليلة الأربعاء، وهي اوّل ليلة من صفر. يقال سنة اثنتين وعشرين، ويقال سنة احدى وعشرين. وبلغ يوسف بن عمر أنّ زيدا قد أزمع الخروج. فبعث حكم بن أبى الصّلت [1] ، وأمره أن يجمع أهل الكوفة فى المسجد الأعظم، ثمّ يحصرهم فيه. فبعث الحكم إلى العرفاء، وإلى الشّرطة، والمناكب، والمقاتلة، فأدخلهم المسجد. ثمّ نادى مناديه أنّ الأمير يقول: - «من أدركناه فى رحله فقد برئت منه الذمّة. ادخلوا المسجد الأعظم.» فأتى النّاس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلبوا زيدا فى المواضع الّتى كان يتنقّل فيها. فخرج ليلة الأربعاء وكانت ليلة شديدة البرد- من دار معاوية بن إسحاق، [142] وكان قد طلب فيها. فرفعوا هرادىّ النّيران من القصب ونادوا بشعارهم: - «يا منصور أمت» وكلّما أكلت النّار هرديا رفعوا آخر. فما زالوا بذلك حتّى طلع الفجر. فلمّا أصبحوا، بعث زيد القاسم [2] التّبعى ورجلا آخر من أصحابه يناديان بشعارهم. فلقيهما جعفر بن العبّاس الكندي فى أصحابه. فشدّوا عليهما وقتل الرّجل الّذى كان مع القاسم التّبعى، وارتثّ القاسم، فأتى به الحكم بن أبى الصّلت، فكلّمه، فلم يرد عليه شيئا، فضربت عنقه على باب القصر. فكان هذان أوّل من قتل من أصحاب زيد.   [1] . حكم بن أبى الصلت: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1701) : بدون «أبى» . [2] . القاسم: فى الأصل: القسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وأمر الحكم به أبى الصّلت بدروب السّوق، فغلّقت، وغلّقت أبواب المسجد الأعظم على أهل الكوفة، وأمر أصحاب الأرباع بالكوفة أن يصيروا إليه، وبعث إلى يوسف بن عمر، فأخبره الخبر، فبعث يوسف جعفر بن العبّاس الكندي فركب فى خمسين فارسا، ثم قال: - «اذهب فأتنى بخبرهم.» فلمّا استقبل [1] الرّجلين وكان ما كان من أمرهما، رجع إلى يوسف، فأخبره. فلمّا أصبح خرج إلى تلّ قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه قريش وأشراف النّاس، وعلى شرطته العبّاس بن سعيد المرّى [2] . فبعث زياد بن سلمة فى ألفين وثلاثمائة من الرّجال معهم النشّاب وأصبح زيد، [143] فكان جميع من وافاه تلك اللّيلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلا فقال زيد: - «سبحان الله! أين النّاس؟» فقيل: - «هم فى المسجد الأعظم محصورون.» فقال: - «لا والله، ما هذا بعذر لمن بايعنا.» وسمع نصر بن خزيمة النّداء، فأقبل إليه، فلقى عمرو بن عبد الرّحمن صاحب شرطة الحكم بن أبى الصّلت فى أصحابه. فقال نصر بن خزيمة: - «يا منصور أمت.» فشدّ عليه نصر وأصحابه، فقتل عبد الرّحمن، وانهزم من كان معه. وأقبل زيد الى جبّانة الصّيّادين، وبها خمسمائة من أهل الشّام، فحمل عليهم زيد فى من معه، فهزمهم. وكان تحت زيد يومئذ برذون أدهم بهيم، وسار حتّى انتهى إلى دار رجل من الأزد يقال له: أنس بن عمرو، وكان فى من   [1] . كذا فى النسخ: استقبل. [2] . المرّى: كذا فى الأصل ومط: المري. فى آ. والطبري (9: 1702) : المزني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 بايعه، فنودي وهو فى داره، فلم يجب. فناداه زيد: - «يا أنس، اخرج. فقد جاء الحقّ وزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقا [1] .» فلم يخرج إليه. فقال زيد: - «قد فعلتموها، الله حسيبكم.» ثمّ مضى زيد إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشّام، فهزمهم. ثمّ خرج حتّى ظهر إلى الجبّانة، ويوسف بن عمر على التّلّ ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه نحو من مائتي رجل، وناس من الأشراف لا يبلغ عشرة. فلو أقبل على يوسف لقتله [144] وتمّم أمره. ثمّ إن زيد أخذ ذات اليمين على مصلّى خالد بن عبد الله حتّى دخل الكوفة، فأقبل على نصر بن خزيمة وقال: - «أما ترى خذلان النّاس إيّانا قد جعلوها حسينيّة.» فقال له: - «جعلني الله فداءك. أمّا أنا، فو الله لأضربنّ معك بسيفي هذا حتّى أموت.» ثمّ إنّ نصرا قال لزيد: - «جعلني الله فداءك. إنّ النّاس فى المسجد الأعظم محصورون، فاذهب بنا نحوهم.» فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمرّ على دار خالد بن عرفطة، وبلغ عبيد الله بن العبّاس الكندي إقباله، فخرج فى أهل الشّام، وأقبل زيد، فالتقوا على باب عمرو بن سعد بن أبى وقّاص، فكعّ [2] صاحب لواء عبيد الله فقال له: - «احمل يا ابن الخبيثة.» فحمل حتّى خضب لواءه بالدّم.   [1] . س 17 أسراء: 81. [2] . كعّ: ضعف وجبن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 ثمّ إنّ عبيد الله برز، فخرج إليه واصل الحنّاط، فاضطربا بسيفيهما فقال واصل: - «خذها منّى وأنا الغلام الحنّاط.» فقال: - «قطع الله يدي إن كلت [1] بقفيز أبدا.» ثمّ ضربه، فلم يصنع شيئا، وانهزم عبيد الله وأصحابه، وبلغ زيد وأصحابه باب المسجد، وجعلوا يدخلون راياتهم من فوق الأبواب ويقولون: - «يا أهل المسجد، اخرجوا.» وجعل نصر بن خزيمة يناديهم ويقول: - «يا أهل الكوفة اخرجوا من الذّلّ والصّغار إلى العزّ، اخرجوا الى الدّين والدّنيا.» فأشرف عليهم [145] أهل الشّام، فجعلوا يرمونهم بالحجارة. وانصرف عنهم زيد بن علىّ، فنزل دار الرزق، وخرج اليه ناس من أهل الكوفة، فأتاه ريّان بن سلمه، فقاتله عند دار الرزق قتالا شديدا، فخرج أهل الشّام وقتل منهم وانهزموا، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزق حتّى انتهوا الى المسجد، فرجع أهل الشّام مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنّا. فلمّا كان من الغد يوم الخميس دعا يوسف الرّيّان بن سلمه وليس عليه سلاحه فأفّف به وقال: - «أفّ لك من صاحب خيل، اجلس.» ودعا العبّاس بن سعد المرّى [2] صاحب شرطته، فبعثه فى أهل الشّام، فسار حتّى انتهى الى زيد فى دار الرّزق، وخرج زيد فى أصحابه، وعلى مجنّبته نصر بن خزيمة العبسي، ومعاوية بن إسحاق الأنصارى. فلمّا رءاهم العبّاس و   [1] . كلت. الضبط فى الطبري (9: 1706) : كلت. وفى حواشيه: كلت. [2] . سعد المرّى: كذا فى الأصل: وآ ومط: سعد المرّى. فى الطبري (9: 1707) : سعيد المزني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 لم يكن معه رجّالة، نادى أهل الشّام: - «الأرض، الأرض.» فنزل معه ناس كثير، فاقتتلوا قتالا شديدا فى المعركة، فقتل نصر بن خزيمة. ثمّ اشتدّ القتال، فهزمهم زيد وقتل من أهل الشام نحوا من سبعين رجلا، فانصرفوا وهم بشرّ حال. فلمّا كان العشىّ عبّاهم يوسف بن عمر ثمّ وجّههم. فأقبلوا حتّى التقوا مع زيد وأصحابه، فحمل عليهم زيد [146] وأصحابه، فكشفهم. ثمّ تبعهم حتّى أخرجهم إلى بنى سليم، ثمّ تبعهم حتّى أخذوا على المسنّاة. ثمّ ظهر لهم زيد فى ما بين بارق ورؤاس [1] ، فقاتلهم هناك قتالا شديدا، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ولا رجالهم لرجاله. فبعث العبّاس إلى يوسف يعلمه ذلك وقال له: - «ابعث الىّ النّاشبة.» فبعث إليهم القيقانيّة والبخاريّة، وهم ناشبة، فرموا زيدا وأصحابه، وحرص زيد على أن يصرف أصحابه، فأبوا عليه. فقاتل إسحاق بن معاوية بن إسحاق الأنصارى بين يديه قتالا شديدا حتّى قتل بين يدي زيد وثبت زيد ومن معه، حتّى جنح الليل، فرمى حينئذ بسهم أصاب جبهته اليسرى، فثبت فى الدّماغ، فرجع ورجع أصحابه، ولا يظنّ أهل الشّام أنّهم رجعوا إلّا للمساء والليل. وحمل زيد حتى أدخل بعض دور أرحب وشاكر، وجاءوه بطبيب يقال له: شقّر، فانتزع السّهم، وجعل يضجّ، ولم يلبث أن قضى رحمه الله. ماذا فعلوا برأسه وجثّته فتشاور أصحابه: أين يوارى؟ فقال بعضهم:   [1] . الرّؤاس: فى الأصل: الرواس. والهمزة من الطبري (9: 1708) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 - «نحتزّ رأسه ونطرحه بين القتلى، فهو أجدر أن لا يعرف، وندفن رأسه حيث يخفى.» فقال ابنه: - «لا والله، لا تأكل لحم أبى الكلاب.» فقال بعضهم: - «فننطلق به إلى الحفرة الّتى يؤخذ منها الطّين.» فانطلقوا به. فحفروا له ودفنوه، ثمّ أجروا عليه [147] الماء وتصدّع عنه النّاس، وخرج ابنه نحو النّهرين يعنى نهري كربلاء. ثمّ بعث يوسف بن عمر لمّا علم بقتل زيد. فأمر أن يطلبوه فى الجرحى فى دور أهل الكوفة. فكانوا يخرجون النّساء إلى صحن الدار ويدخلون جوف البيوت، يلتمسون الجرحى، حتى دلّهم غلام سندىّ كان لزيد حضر دفنه. وقيل: بل أبصرهم قصّار كان هناك، فدلّ عليه، فاستخرج. فأمر يوسف بن عمر بحزّ رأسه، وبعث به إلى هشام، وصلب جثّته بالكناسة مع جثّة نصر بن خزيمة، ومعاوية بن إسحاق الأنصارى وزياد النّهدى. فبقى زمانا طويلا يحرس بالكناسة لئلّا ينزل. وأمّا رأسه فإنّ هشاما أمر بنصبه على باب مدينة دمشق. ثمّ أرسل به إلى المدينة. ولم يزل بدنه منصوبا حتّى مات هشام، فأمر به الوليد، فأنزل وأحرق. كلام يوسف بن عمر بعد قتل زيد بن على ولمّا قتل زيد بن على أقبل يوسف بن عمر حتّى دخل الكوفة، وجاء إلى المسجد، فصعد المنبر، وقال: - «يا أهل الكوفة، يا أهل المدرة الخبيثة، إنّى والله ما تقرّن بى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 الصّعبة، ولا تقعقع لى بالسّنان، ولا أخشى [1] بالذئب. هيهات، [حبيت] [2] بالسّاعد الأشدّ. أبشروا يا أهل الكوفة بالصّغار والهوان [148] فلا عطاء لكم عندنا ولا رزق. لأخربنّ بلادكم، ولأحربنّكم أموالكم. أما والله، ما أطلت منبري إلّا لأسمعكم عليه ما تكرهون، فإنّكم أهل بغى وخلاف، ما منكم إلّا من حارب الله ورسوله. ولقد سألت أمير المؤمنين فيكم. ولو أذن لى لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريّكم.» ما كان من غزوات نصر بن سيّار وفى هذه السّنة قتل البطّال بن الحسين، واسمه عبد الله، فى جماعة من المسلمين بأرض الرّوم. وقد حكينا ما جرى فى سنة اثنتين [3] ومائة إلّا ما كان من غزوات نصر بن سيّار، فإنى كرهت أن أقطع حديث زيد بحديثه. وكان من حديث نصر بن سيّار أنّه غزا من بلخ ما وراء النّهر، ثم قفل فخطب النّاس وقال: - «ألا إنّ فلانا كان مانح [4] المجوس، وفلان مانح اليهود، وفلان مانح النّصارى يحملون أثقال المشركين على المسلمين. ألا، إنّى مانح المسلمين أحمل أثقالهم على المشركين. ألا إنّه لا يقبل منّى إلّا توفير الخراج على ما كتب ورفع، وقد استعملت عليكم منصور بن عمار بن أبى الحرّ، وأمرته   [1] . أخشى: كذا فى الأصل ومط وآ، فى الطبري (9: 1716) : أخوّف. [2] . حبيت: ما فى الأصل: حشت. فى مط: خشت (بإهمال الأخير) . فى آ: حست. وما أثبتناه هو من الطبري (9: 1716) . حبيت: أعطيت. [3] . اثنتين ومائة: كذا فى الأصل وآ. ما فى مط: اثنتين وعشرين ومائة. [4] . مانح: الكلمة مهملة فى الأصل (فى المواضع الثلاثة) . فى آ: ماتح، مانح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 بالعدل عليكم. فأيّما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقّل عليه فى خراجه وخفّف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك [149] إلى منصور بن عمر [1] يحوّله عن المسلم إلى المشرك.» قال: فما كانت الجمعة الثّانية حتّى أتاه ثلاثون ألفا من المسلمين كانوا يؤدّون الجزية عن رؤوسهم، وثلاثون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم فحوّل، ذلك إليهم وألقاه عن المسلمين. ثمّ غزا من مرو الشّاش، فحال بينه وبين قطوع النّهر كورصول فى خمسة عشر ألفا استأجر كلّ رجل منهم كلّ شهر بشقّه حرير، والشّقة يومئذ بخمسة وعشرين درهما. فكانت بينهم مراماة، فمنع نصرا من القطوع إلى الشّاش. وكان الحارث بن سريج يومئذ بأرض التّرك، فأقبل معهم، وكان بإزاء نصر، فرمى نصرا وهو على سريره على شاطئ النّهر بحسبان، [2] فوقع السّهم فى شدق وصيف لنصر يوضّئه، فتحوّل نصر عن سريره ورمى فرس لرجل من أهل الشّام، فنفق وعبر كورصول فى أربعين رجلا، فبيّت أهل العسكر، وساق شاء أهل بخارى وكانوا فى السّاقة، وأطاف بالعسكر فى ليلة مظلمة، ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكسّ وسروشنة وهم عشرون ألفا. فنادى نصر فى الأخماس: - «لا يخرجنّ أحد من بنائه، واثبتوا على مواضعكم.» فخرج عاصم بن عميرة [3] [150] وهو على جند سمرقند، حتّى مرّت خيل   [1] . عمر: فى الأصل: عمر. وفى مط: عمار. وفى آ: عمر عمار (كذا) . [2] . بحسبان: كذا فى الأصل. فى آ: بجبعار (مهملة) وهي ساقطة فى مط. فى الطبري (9: 1689) ايضا: بحسبان. [3] . عميرة: كذا فى الأصل ومط: عميرة. ما فى آ، والطبري (9: 1690) : عمير. فى حواشي الطبري: عمرو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 كورصول، فحمل على آخرهم، فأسر رجلا. فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبّة. فجاؤوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبرا، وعليه رانا ديباج فيهما حلق وقباء فرند مكفّف بالدّيباج. فقال له نصر: - «من أنت؟» قال: - «كورصول. فما ترجو من قتل شيخ؟ وأنا أعطيك ألف بعير من إبل التّرك، وألف برذون تقوّى به جندك [1] وخلّ سبيلي.» فقال نصر لمن حوله من أهل الشام وأهل خراسان: - «ما تقولون؟» قالوا: - «خلّ سبيله.» فسأله عن سنّة. قال: - «لا أدرى.» قال: - «كم غزوة غزوت؟» قال: - «اثنتين وسبعين غزوة.» قال: - «أشهدت يوم العطش؟» قال: - «نعم.» قال: - «لو أعطيتنى ما طلعت عليه الشمس ما انفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك. [2] » وقالوا لعاصم بن عمير السّعدى: - «قم إلى سلبه فخذه.»   [1] . به جندك: كذا فى الأصل والطبري وآ: به جندك. فى مط: به على جندك. [2] . مشاهدك. كذا فى الأصل ومط وآ. ما فى الطبري (9: 1691) : مشاهدتك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 فلمّا أيقن بالقتل قال: - «من أسرنى؟» فقال نصر وهو يضحك: - «يزيد بن قرّان الحنظلي.» وأشار إليه. قال: - «هذا لا يقدر أن يغسل استه، فكيف يأسرنى؟ فأخبرنى من أسرنى؟ فإنّى أهل أن أقتل سبع قتلات.» قيل له: - «عاصم بن عمير.» قال: - «الآن لست أجد مسّ القتل إذ كان أسرنى فارس من فرسان العرب.» فقتله [151] وصلبه على شاطئ النّهر. وعاصم بن عمير هذا هو الهزارمرد الّذى قتل بنهاوند أيّام قحطبة. ولمّا قتل كورصول تجرّدت التّرك، وجاءوا بأبنية له، فحرّقوها، وقطعوا آذانهم، وخدّدوا [1] وجوههم، وتعرّوا يبكون عليه. فلمّا أمسى نصر وأراد الرّحلة بعث إليه بقارورة نفط فصبّها عليه، ثمّ أشعل فيه النّار لئلّا يحملوا عظامه. فكان ذلك أشدّ عليهم من قتله. فارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس. مسير نصر إلى الشّاش ثمّ إنّ يوسف بن عمر كتب إلى نصر أن: - «سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشّاش. يعنى الحارث بن سريج فإن أظفرك الله به وبأهل الشّاش، فخرّب بلادهم واسب ذراريّهم، وإيّاك وورطة المسلمين.»   [1] . خدّدوا: كذا فى الأصل ومط وآ: خدّدوا. ما فى الطبري (9: 1691) : جرّدوا. فى حواشي الطبري: خدّدوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 فدعا نصر النّاس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال: - «ما ترون؟» فقال يحيى بن حضين: - «امض لأمر الأمير.» فقال نصر: - «يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد فى عطائك، وفرض لأهل بيتك وبلغت الدّرجة الرّفيعة. فقلت أقول مثلها. سرّ يا يحيى، فقد ولّيتك مقدّمتى.» فأقبل النّاس على يحيى يلومونه. فسار إلى الشّاش، فأتاه الحارث بن سريج، فنصب عرّادتين تلقاء بنى تميم. فقيل له: - «هؤلاء بنو تميم.» فنقلها ونصبها على الأزد [152] وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترّك، فقتله المسلمون وأسروا سبعة من أصحابه. فأمر نصر برأس الأخرم، فرمى به إلى عسكرهم فى منجنيق. فلمّا رأوه ضجّوا ضجّة ثم ارتحلوا منهزمين. ورجع نصر وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك. فأقبل نصر حتّى نزل سمرقند. ثمّ سار إلى الشّاش. فلمّا وافاها تلقّاه نذر ملكها بالصّلح والفدية والرّهن، واشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلدانه. فأخرجه إلى فاراب [1] واستعمل على الشّاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص. وكان نصر بعث سليمان بن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصّلح بينهما يعنى ملك الشّاش. قال سليمان: فقدمت عليه، فقال لى: - «من أنت؟» قلت:   [1] . فاراب: كذا فى الأصل. مط والطبري (9: 1694) . ما فى آ: فارياب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 - «شاكري خليفة كاتب الأمير.» فقال: - «أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددناه.» قال: فأدخلت خزائنه، فقلت فى نفسي يا سليمان، شمت بك حسّادك، ليس هذا إلّا لكراهية الصّلح، وسأنصرف بخفّى حنين. قال: فرجعت إليه فقال لى: - «كيف رأيت الطّرق فى ما بيننا وبينكم؟» قلت: - «سهلا كثير الماء والرّعى.» فقال: - «ما علمك؟» قلت: - «غزوت غرشستان [1] ، والختّل وطبرستان. فكيف لا اعلم؟» قال: - «فكيف رأيت ما أعددنا؟» قلت: - «رأيت عدّة حسنة [153] ولكنّى أعلم أنّ صاحب الحصار لا يسلم من خصال.» قال: - «وما هنّ؟» قلت: - «لا يأمن أقرب النّاس إليه وأحبّهم له وأوثقهم فى نفسه أن يثب عليه، ويتقرّب به، أو يفنى ما جمع بطول المدّة، فيسلّم، برمّته، أو تصيبه الأدواء الّتى لا يجد أدويتها ومعالجها فيموت.» فقطب وقال لى: - «انصرف إلى منزلك.» فانصرفت وأنا لا أشكّ فى تركه الصّلح. فدعاني بعد يومين، فحملت كتاب الصّلح ومعى غلامي، وقلت له: - «إن أتاك رسولي فطلب الكتاب فقل: إنّى خلّفته فى منزلي.»   [1] . فى الطبري (9: 1696) : غرشستان وغور، وطبرستان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 فدخلت إليه. فسألنى عن الكتاب، فقلت: - «خلّفته فى منزلي.» فبعثت إلى الغلام أن اذهب فجئنى بالكتاب، وقبل الصّلح وأحسن جائزتي، وسرّح معى أمّه وكانت صاحبة أمره ومدبّرته. فلمّا قدمت على نصر قال: - «مثلك ما قال الأوّل: أرسل [1] حكيما ولا توصه.» ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة وفى هذه السنة سعى يوسف بن عمر للحكم بن أبى الصّلت فى ضمّ خراسان إلى عمله وعزل نصر بن سيّار وذلك أنّ أيّام نصر طالت بخراسان ودانت له، فحسده يوسف فكتب [154] إلى هشام يسأله أن يضمّها إلى العراق، ليعمرها ويستغرز دخلها. وأنفذ إليه الحكم بن أبى الصّلت وقال: - «هو لبيب وله نصيحة ومودّة لأمير لمؤمنين، وقد كان مع الجنيد [2] ، وولى جسام أعمالها [3] . وقد سرّحته إلى باب أمير المؤمنين ليراه.» فلمّا أتاه وقرأ كتاب يوسف بعث إلى دار الضّيافة، فوجد فيها مقاتل بن على السّغدى، فأتوه به، فقال: - «ابن خراسان أنت؟» قال: - «نعم، وأنا صاحب الترّك.» وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من التّرك. فقال:   [1] . فى الطبري (9: 1696) : فأرسل. [2] . الجنيد: كذا فى الأصل وآ: الجنيد. فى مط: الجند. [3] . أعمالها: كذا فى الأصل وآ ومط: أعمالها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 - «هل تعرف الحكم بن أبى الصّلت؟» قال: - «نعم.» قال: - «فما ولى بخراسان؟» قال: - «ولى قرية يقال لها: الفاراب، خراجها سبعون ألفا، فأسره الحارث بن سريج.» قال: - «ويحك! فكيف أفلت من يده؟» قال: - «عرك أذنه وقفده [1] وخلّى سبيله.» فلمّا قدم الحكم عليه وشاهده رأى جمالا وبيانا. فكتب إلى يوسف: - «إنّ الحكم قدم، وهو على ما وصفت وفى ما قبلك سعة، فخلّ الكنانىّ وعمله.» ثم أوفد نصر بن سيّار مغراء [2] بن أحمر إلى العراق لمّا غزا فرغانة غزوته الثّانية. فقال له يوسف بن عمر: - «يا مغراء، أيغلبكم ابن الأقطع على سلطانكم معشر قيس!» فقال: - «قد كان ذلك أصلح الله [155] الأمير.» قال: - «فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه.» فلمّا قدموا على هشام وسألهم عن أمور خراسان، تكلّم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بخير. فقال: - «ويحك، أخبرنى عن خراسان.» فقال:   [1] . فقده: الحرف الثاني مهمل فى الأصل. فى آ: فقده. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1719) والكلمة ساقطة فى مط. [2] . مغراء: كذا فى الطبري أيضا (9: 1719) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 - «يا أمير المؤمنين، ليس لك جند أعدّت ولا أحدّ [1] منهم، من سرادق [2] فى السّماء وقراسية [3] مثل الفيل، وعدة [4] وعدد من قوم ليس لهم قائد.» قال: - «ويحك، فما فعل الكناني؟» قال: - «لا يعرف ولده من الكبر.» فردّ هشام عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتى بشبيل بن عبد الرّحمن المازني. فقال له هشام: - «أخبرنى عن نصر.» قال: - «ليس بالشيخ يخشى خرفه ولا الشابّ يخشى سفهه، المحرب المجرّب، قد ولى عامّة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته.» فكتب إلى يوسف بذلك. فوضع يوسف الأرصاد. فلمّا انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وقد بلغ نصرا قول شبيل، وكان ابراهيم بن يسّار فى الوفد، فمكر به يوسف ونعى إليه نصرا، وأخبره أنّه قد ولّى الحكم بن أبى الصلت خراسان. ففسّر له أمر خراسان كلّه، حتّى قدم ابراهيم بن زياد رسول نصر، فعرف أنّ يوسف قد مكر به، وقال: - «أهلكنى [156] يوسف، أهلكه الله.» وكان بعد ذلك إذا ذكر انسان نصرا بين يدي هشام، قال:   [1] . أعدّ ولا أحدّ: كذا فى الأصل وآ ومط: أعدّ وأحدّ. وفى الطبري (9: 1720) : أغدّ ولا أنجد. [2] . سرادق: كذا فى الأصل وآ ومط: سرادق. وما فى الطبري (9: 1720) : سوادق. [3] . قراسية: كذا فى الأصل. فى مط: فراسة. فى آ: فراسة؟ فى الطبري: فراسية. القراسية: الضخم الشديد. يقال: لهم ملك قراسية وعزّ قراسية، اى شديد. [4] . وعدّة: مجرور فى الأصل ومرفوع فى الطبري (9: 1720) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 - «معلّم وهذا من جهة يوسف.» ويقال: إنّ مغراء لمّا كلّفه يوسف الوقيعة فى نصر، قال له مغراء: - «كيف أعيب نصرا مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومي.» فلم يزل به حتّى قال: - «فبأىّ شيء أعيبه؟ أعيبه تجربته، أو طاعته، أمّ يمن نقيبته، أم حسن سياسته؟» قال: - «بواحدة من هذه. عبه بالكبر.» فلمّا قدم مغراء وكان منه ما كان، قال ليوسف: - «قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت. فليس لى فى صحبته خير، ولا لى بخراسان مقام.» فأمره بالمقام. وكتب إلى نصر: - «إنّى قد حوّلت اسمه، فأشخص إلىّ من كان قبلك من أهله.» ثمّ دخلت سنة أربع وعشرين ومائة ولم يجر على ما بلغنا، فيها ما تستفاد منه تجربة. ثمّ دخلت سنة خمس وعشرين ومائة وفاة هشام بن عبد الملك وفيها كانت وفاة هشام بن عبد الملك. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، [157] وسنّة خمس وخمسون سنة. فتحدّث سالم قال: - «خرج علينا هشام بن عبد الملك يوما وهو كئيب، يعرف ذلك فى وجهه، مسترخ ثيابه، قد أرخى عنان دابّته. فلمّا سار ساعة انتبه، فجمع ثيابه وأخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 بعنان دابّته، وقال للرّبيع: - «أدع الأبرش.» فسار بيني وبين الأبرش فقال له الأبرش: - «يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك اليوم ما غمّنى.» قال: - «وما هو؟» فوصف حاله. قال: - «وكيف لا أكون كذلك وقد زعم أهل العلم أنّى ميّت إلى ثلاثة وثلاثين يوما؟» قال سالم: فلمّا عدت إلى منزلي كتبته فى قرطاس: زعم أمير المؤمنين يوم كذا أنّه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يوما. فمات فى اليوم الثّالث والثّلاثين. قال: فأغلق الخزّان الأبواب لما سنذكره. فطلبوا قمقما يسخن فيه الماء لغسله. فما وجد، حتّى استعاروه من بعض الجيران. فقال الحاضرون: - «إنّ فى هذا لمعتبرا لمن اعتبر.» وكانت وفاته بالذّبحة. ذكر بعض سيرة هشام حكى عقّال بن شبّة [1] قال: دخلت على هشام حين وجّهنى إلى خراسان وعليه قباء [158] أخضر عليه فنك. فجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء وأتأمّله. ففطن وقال: - «مالك؟» قلت:   [1] . شبّة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1730) : شبّة. فى آ: شبيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 - «إنّى رأيت عليك قبل أن تلى الخلافة قباء فنك أخضر، فأنا أتأمّل هل هو ذاك.» قال: - «هو- والله الّذى لا إله غيره- ذاك. ما لي قباء غيره وما ترون من جمعى هذا المال وصونه إلّا لكم.» وكان عقّال يقول: دخلت على هشام، فرأيت رجلا محشوّا عقلا. ولم يكن يسير أيّام هشام أحد فى موكب إلّا مسلمة بن عبد الملك. ورأى هشام يوما سالما فى موكب. فزجره وقال: - «لا أعلمنّ [1] متى سرت فى موكب!» فكان بعد ذلك إذا قدم الرّجل الغريب، فسار مع سالم، وقف له سالم ويقول: حاجتك؟ ويمنعه أن يسير معه. هذا وسالم يرى كأنّه هو أمرّ هشاما. ولم يكن أحد يأخذ العطاء إلّا ألزمه الغزو، فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بديلا. وولّى هشام بعض مواليه ضيعة، فعمرها، فجاءت بغلّة كثيرة، ثمّ عمرها أيضا، فأضعفت الغلّة، وبعث بها مع ابنه فجزاه خيرا ووجد ابن هذا المولى منه انبساطا، فقال: - «يا أمير المؤمنين، إنّ لى حاجة.» قال: - «ما هي؟» قال: - «زيادة عشرة دنانير فى العطاء.» فقال: - «ما يخيّل إلى أحدكم [160] عشرة دنانير زيادة إلّا بقدر الجوز [2] . لا لعمري، لا أفعل.»   [1] . لا أعلمنّ: كذا فى الأصل ومط وآ: لا أعلمنّ. فى الطبري (9: 1731) : لأعلمنّ متى سرت فى موكب. [2] . فى الأصل. وآ، ومط. الجود. ما فى الطبري (9: 1732) : الجوز، وهو الصحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وقال غسّان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بنى مروان أشدّ نظرا، ولا أشدّ مبالغة فى الفحص عن أمور أصحابه ودواوينه من هشام. وكان أقطع هشام قبل الخلافة أرضا يقال لها: دورين. فلمّا أرسل فى قبضها، وجدها خرابا. فقال لكاتب كان بالشّام يقال له. دويد: [1]- «ويحك! كيف الحيلة؟» قال: - «ما تجعل لى؟» قال: - «خمسمائة دينار.» فكتب دويد دورين وقراها. ثمّ أمضاها فى الدّواوين، فأخذ شيئا كثيرا. فلمّا ولى هشام دخل عليه دويد. فقال: - «يا دويد، دورين وقراها لا والله، لا تلى لى ولاية أبدا.» فأخرجه من الشّام. وقال له بعض آل مروان يوما: - «أتطمع فى الخلافة وأنت بخيل جبان؟» قال: - «ولم لا أطمع، وأنا عليم عفيف سائس؟» وأتى هشاما محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب فقال: - «مالك عندي شيء.» ثم قال: - «إيّاك أن يغرّك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين. أنت محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب. فلا تقيمنّ وتنفق ما معك. فليس عندي صلة. فبادر، والحق بأهلك!» [160] وحجّ هشام، فأخذ الأبرش مخنّثين معهم برابط. فقال هشام:   [1] . دويد: كذا فى الأصل وآ ومط: دويد. بالدال المهملة. فى الطبري (9: 1735) : ذويد بالذال المعجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 - «احبسوهم وبيعوا متاعهم هذا وما أدرى ما هو، وصيّروا ثمنه فى بيت المال، فإذا صلحوا فردّوا الثّمن عليهم.» وكان هشام ينزل الرّصافة. وكان سبب ذلك أنّ الخلفاء وأبناءهم كانوا يهربون من الطاعون، فينزلون البرّيّة. فعزم هشام على نزول الرّصافة. فقيل له: - «لا تخرج، فإنّ الخلفاء لا يطعنون، لم نر خليفة طعن!» فقال: - «أفتريدون أن تجرّبوا بى؟» فخرج إلى الرّصافة، وهي برّيّة. فابتنى بها قصرين. والرّصافة كانت مدينة روميّة بنتها الرّوم فى القديم، ثمّ خربت. وبعث يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفّ القابض، وحبّة لؤلؤ أعظم ما يكون الحبّ على يد كاتبه قحذم. قال: فدخلت عليه، ودنوت منه، فلم أر وجهه من طول السّرير وكثرة الفرش. فتناول الحجر والحيّة فقال: - «أكتب معك وزنهما.» قلت: - «يا أمير المؤمنين، هما أجلّ من أن يكتب بوزنهما ومن أين يوجد مثلهما؟» قال: - «صدقت.» وكانت الياقوتة لجارية خالد بن عبد الله القسري [161] ويقال لها: رائقة، اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار. [1]   [1] . انظر الطبري 9: 1739. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك [1] وفى هذه السّنة ولى الخلافة بعد موت هشام، الوليد بن يزيد بن عبد الملك. وكان يزيد بن عبد الملك عقد له الخلافة بعد أخيه هشام. وذاك أنّ ابنه هذا كان صغيرا يوم عقد لهشام. ثمّ لم يمت يزيد حتّى بلغ ابنه خمس عشرة سنة، فندم على استخلافه هشاما. وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد يقول: - «الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك.» وولى هشام وهو للوليد مكرم معظّم مقرّب، ولم يزل ذلك من أمرهما حتّى ظهر من الوليد مجون وشرب الشّراب، حمله على ذلك عبد الصّمد بن عبد الأعلى، وكان مؤدّبه. واتخذ الوليد ندما، فأراد هشام أن يقطعهم عنه، فولّاه الحجّ سنة ستّ عشرة ومائة. فحمل معه كلابا فى صناديق، فسقط صندوق منها، فأحالوا [2] على الكرىّ السّياط فأوجعوه ضربا. وكان حمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها فوق الكعبة، وحمل معه خمرا. وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويجلس فيها للشّرب. فخوّفه أصحابه وقالوا:   [1] . العنوان زدناه من الطبري (9: 1740) . [2] . أحالوا: كذا فى الأصل، وآ، ومط: أحالوا. ما فى الطبري (9: 1741) : أجالوا (بالجيم المعجمة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 - «لا نأمن النّاس [162] عليك وعلينا.» فلم يحرّكها. وظهر للنّاس تهاون بالدّين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشاما فطمع فى خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فأراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة، فأبى. فقال له: - «فأجعلها له من بعدك.» فأبى فتنكّر له هشام وأضرّ به، وعمل سرّا فى البيعة لابنه. فأجابه جماعة فيهم خالاه محمد وإبراهيم. وتمادى الوليد فى شرب الشّراب وطلب اللذّات، فأفرط. فقال له هشام يوما: - «ويحك يا وليد، والله ما أدرى أعلى الإسلام أنت، أم لا؟ لا تدع شيئا من المنكر إلّا أتيته غير متحاش ولا مستتر به. قال: فكتب إليه الوليد: يا أيّها السّائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر نشربها صرفا وممزوجة ... بالسّخن أحيانا وبالفاتر يعنى بأبى شاكر، مسلمة بن هشام، وكان يكنّى أبا شاكر. فغضب هشام على ابنه وقال: - «يعيّرنى بك الوليد، وأنا أرشّحك للخلافة، فالزم الأدب، واحضر الجماعة.» وولّاه الموسم سنة تسع عشرة، وأظهر النّسك والوقار [163] واللين والجود. وقسم بالمدينة ومكّة أموالا. فقال الشّاعر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 يا أيّها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبى شاكر الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا كافر يعرّض بالوليد. وأخذ هشام يعيب الوليد ويتنقّصه، وزاد حتى قصد أصحابه. فخرج الوليد لمّا رأى ذلك مع خاصّته حتّى نزل بالأزرق على ماء يقال له: الأعدف، وخلّف كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك بن مروان بالرّصافة، ووصّاه أن يكاتبه بما يحدث، وأخرج معه عبد الصّمد بن عبد الأعلى. فقطع هشام عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكتب إليه: - «بلغني أنّك اتّخذت عبد الصّمد خدنا ونديما، وقد حقّق ذلك عندي أشياء بلغتني عنك، ولم أبرّئك من سوء، فأخرج عبد الصّمد مذموما مدحورا.» فأخرجه إليه، وكتب إليه: - «إنّى قد أخرجت إليك عبد الصّمد.» واعتذر إليه ممّا بلغه. وبلغ هشاما أنّ عياض بن مسلم يكاتب الوليد بالأخبار، فأخذه، وضربه ضربا مبرّحا، والبسه المسوح. [164] فبلغ الوليد، فقال: - «من يثق بالنّاس ويصطنع المعروف؟ هذا الأحول المشؤوم قدّمه أبى على أهل بيته، ثمّ صيّره ولىّ عهده، ويصنع بى ما ترون! اللهمّ أجزنى منه. وقال: أنا النذير لمسدى نعمة أبدا ... إلى المقاريف ما لم تخبر [1] الدخلا إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرا ... وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا   [1] . لم تخبر: كذا فى الأصل. ومط. وفى الطبري (9: 1745) : لم تخبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 أتشمخون ومنّا رأس نعمتكم ... ستعلمون إذا صارت لنا دولا أنظر، فإن أنت لم تقدر على مثل ... له سوى الكلب، فاضربه له مثلا بينا يسمّنه للصّيد صاحبه ... حتّى إذا ما نوى من بعد ما هزلا عدا عليه، فلم تضرره عدوته ... ولو أطاق له أكلا لقد أكلا وكتب إلى هشام: - «قد بلغني الّذى أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عنّى ومحو من [1] محا من أصحابى وحرمتي وأهلى، ولم أكن أخاف أن يبتلى الله أمير المؤمنين بذلك، ولا إيّاى [2] منه. فان يكن منّى ذنب [3] ، فيحسب الغير أن يكون على قدر الذّنب، وإن يكن ذلك لشيء فى نفس أمير المؤمنين علىّ فقد سبّب الله لى من العهد وكتب لى من العمر وقسم لى من الرّزق ما لا يقدر أحد [165] على قطع شيء منه دون مدّته، ولا صرف شيء عن مواقعه، فأمر الله يجرى بمقاديره فى ما أحبّ النّاس أو كرهوا. فالنّاس بين ذلك يقترفون الآثام على أنفسهم من الله، أو يستوجبون الأجور عليه، وأمير المؤمنين أحقّ أمّته بالبصر لذلك [4] والتحفّظ به، والله الموفّق لأمير المؤمنين.»   [1] . من محا: كذا فى الأصل وآ ومط: من محا. فى الطبري: ما محى. [2] . ولا إيّاى: فى الأصل وآ ومط: ولا إيّاى. وما فى الطبري (9: 1746) : ولا أبالى به منه. [3] . والعبارة فى الطبري (9: 1746) : فإن يكن ابن سهيل كان منه ما كان فيحسب العير أن يكون قدر الذّئب. [4] . فى الطبري: بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 فكتب هشام فى الجواب إلى الوليد: - «قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به فى قطع ما قطع عنك وغير ذلك، وأمير المؤمنين يستغفر الله من إجرائه ما كان يجرى عليك، وأمير المؤمنين أخوف على نفسه فى اقتراف المآثم حيث أجرى عليك ممّا أحدثه فى قطع ما قطع ومحو من محا من صاحبتك لأمرين: أحدهما إيثار أمير المؤمنين ايّاك بما كان يصل إليك وهو يعلم وضعك له فى غير موضعه، والآخر اثبات أصحابك وإدرار أرزاقهم، وهم لا ينالهم ما ينال المسلمين فى كلّ عام من مكروه الغزو، وهم معك تجول بهم فى سفهك، ولأمير المؤمنين أخرى بالتّقصير فى الغير عليك، منه فى الاعتداء عليك، مع أنّ الله قد بصّر أمير المؤمنين فى قطع ما قطع عنك من ذلك ما يرجوا به تكفير ما يتخوّف مما سلف فيه. وأمّا ما ذكرت ممّا [166] سبّب الله لك، فإنّ الله ابتدأ أمير المؤمنين بذلك واصطفاه له، والله بالغ أمره. فقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من ربّه، لا يملك لنفسه فى ما أعطاه الله من كرامته ضرّا ولا نفعا، وأنّ الله ولىّ ذلك منه، وأنّه لا بدّ له من مزايلته، والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولّى أمرهم غير الرّضا له منهم، وأنّ أمير المؤمنين من حسن ظنّه بربّه- لعلى أحسن الرّجاء أن يولّيه من هو أهله، فإنّ بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره أو يؤدّيه شكره إلّا بعون منه له [1] . ولعمري، إنّ كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به، لغير مستنكر من سفهك و   [1] . منه له: كذا فى الأصل وآ: منه له. فى مط والطبري: منه. (بدون «له» ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 حمقك. فاربع على نفسك من غلوائها، وارق على ظلعك، فإنّ لله سطوات يصيب بها من يشاء، ويأذن فيها لمن يشاء، وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتّوفيق.» فكتب الوليد إلى هشام رأيتك تبنى جاهدا فى قطيعتي ... ولو كنت ذا إرب لهدّمت ما تبنى تثير على الباقين مجنى ضغينتى ... فويل لهم إن متّ من شرّ ما تجنى [167] كأنّى بهم واللّيت أفضل قولهم ... ألا ليتنا كنّا إذ اللّيت لا يغنى ولم يزل الوليد مقيما فى تلك البرّيّة حتّى مات هشام. ولما كان صبيحة اليوم الّذى جاءته فيه الخلافة دعا أبا الزّبير المنذر بن أبى عمرو. فقال له: - «يا أبا الزّبير، ما أتت علىّ ليلة، منذ عقلت، أطول من هذه الليلة، عرضت لى هموم وحدّثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرّجل الّذى قد أولع بمكروهى يعنى هشاما فاركب بنا نتنفّس.» فركبا وسارا ميلين. فبينا هو يشكو حاله إذا برهج [1] . فقال: - «أسأل الله خير الأمور. هؤلاء رسل هشام.» فلمّا دنا القوم نزل موليان يعدوان حتّى دنوا. فسلّما عليه بالخلافة، فوجم، وجعلا يكرّران عليه ذلك. فقال: - «ويحكما! أمات هشام؟» قالا:   [1] . برهج: كذا الأصل ومط: برهج. فى آ: ترهج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 - «نعم.» قال: - «فممّن كتابكما؟» قالا: - «من مولاك، سالم بن عبد الرّحمن صاحب ديوان الرّسائل.» ثمّ سأل عن كاتبه عياض بن مسلم. فقالا: - «يا أمير المؤمنين. لم يزل محبوسا» حتّى نزل بهشام أمر الله، فلمّا صار فى حدّ لا يرجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزّان: احتفظوا بما فى أيديكم، فلا يصلنّ أحد منه إلى شيء. فمنعوه بعض ما التمسه. [168] فقال: أرءانا كنّا خزّانا للوليد. فمات من ساعته. فخرج عياض من السّجن وختم أبواب الخزائن وأمر بهشام، فأنزل عن فرشه. فما وجدوا قمقما يسخّن له فيه الماء حتّى استعاروه، ولا وجدوا كفنا من الخزائن، فكفّنه غالب مولى هشام. استعمال الوليد العمّال واستعمل الوليد العمّال، وجاءته بيعته من الآفاق، وكتب إليه العمّال، وجاءته الوفود، وجاءه كتاب من مروان بن محمّد وكان إليه ارمينية وآذربايجان بليغ يثنى عليه، ويذكر أنّه قد بايع له من قبله ويستأذنه فى المصير إليه لمشاهدته. إجراء على الزّمنى والعميان وأجرى الوليد على الزّمنى والعميان، وأمر لكلّ إنسان منهم بخادم، وأخرج لعيالات النّاس الطّبيب والكسوة، وزاد النّاس جميعا فى العطاء عشرات، ثمّ زاد أهل الشّام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة، وأضعف جوائز أهل بيته ولم يقل قطّ فى شيء سئله: لا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 عقد الوليد بن اليزيد للخلافة بعده لابنيه: الحكم وعثمان وفى هذه السنة عقد الوليد لابنيه: الحكم وعثمان، بعده وجعلهما وليّى عهده، أحدهما بعد الآخر، وكتب بذلك إلى الأمصار، إلى يوسف بن عمر بالعراق، وإلى نصر بن سيّار بخراسان. ونسخة البيعة: [169]- «تبايع [1] لعبد الله [2] بن الوليد أمير المؤمنين وللحكم بن أمير المؤمنين إن كان بعده، وعثمان بن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم، على السّمع والطّاعة. فإن حدث بواحد منهما حدّث، فأمير المؤمنين أملك فى ولده ورعيّته، يقدّم من أحبّ ويؤخّر من أحبّ. عليك بذلك عهد الله وميثاقه.» وفى هذه السنّة ولّى الوليد نصر بن سيّار خراسان كلّها وأفرده بها. وفيها كتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار يأمره بالقدوم عليه، وبحمل ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وبعياله أجمعين. فلمّا أتى نصرا كتابه قسم على أهل خراسان الهدايا وعلى عمّاله، ولم يدع بخراسان جارية، ولا عبدا: ولا برذونا فارها، إلّا أعدّه، واشترى ألف مملوك وأعطاهم السّلاح، وحملهم على الخيل، وأعدّ خمسمائة وصيفة، وأمر بصنعة أباريق الذّهب والفضة، وتماثيل الظباء، ورؤوس السباع والأيائل، وغير ذلك. فلمّا فرع من جميع ذلك كتب الوليد يستحثّه، فسرّح   [1] . تبايع: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1756) : تبايع. فى مط يبايع. [2] . لعبد الله الوليد: فى الأصل ومط وآ: لعبد الله بن الوليد (بزيادة ابن) وما أثبتناه يوافق الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 أوائلها حتّى بلغ ذلك بيهق، وكتب الوليد إليه يأمره أن يبعث إليه برابط وطنابير، وأن يجمع له كلّ صنّاجة بخراسان يقدر عليها [170] وكلّ باز هناك، ثمّ يسير بذلك كلّه بنفسه، مع ما أعدّه، وبوجوه أهل خراسان. وكان المنجّمون يخبرون نصرا بفتنة تكون. فبعث نصر إلى صدقة بن وثّاب، وكان منجّما محذقا [1] ببلخ فأحضره فكان مقيما عنده، وألحّت عليه الكتب. فلم يزل يتباطأ حتّى وجّه إليه يوسف رسولا وأمره بلزومه واستحثاثه، فإن أبطأ، أشاع فى الناس أنّه خلع. فلمّا جاء الرسول أجازه وأرضاه، وتحوّل إلى قصره الذي هو دار الإمارة اليوم. فلم يأت لذلك إلّا يسير، حتّى وقعت الفتنة، فحوّل نصر إلى قصره بماجان، واستخلف عصمة بن عبد الله الأسرى على خراسان، وولّى كلّ كورة ثقة له، وأمرهم، إذا بلغهم خروجه من مرو، أن يستجلبوا [2] الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر لينصرف بعد خروجه، يعتلّ بذلك. فبينا هو يسير يوما إلى العراق طرقه ليلا مولى لبنى ليث وناجاه [3] . فلمّا أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسل الوليد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: - «قد كان من مسيري ما رأيتم، وبعثني بالهدايا ما علمتم، فطرقنى فلان ليلا وأخبرنى أنّ الوليد قد قتل، ووقعت الفتنة بالشام، وقدم منصور بن جمهور العراق، [171] وقد هرب يوسف بن عمر منه، ونحن فى بلاد قد علمتم حالها وكثرة عدوّها.»   [1] . محذقا: كذا فى الأصل: محذقا. فى مط وآ: محدقا. فى الطبري (9: 1766) : وكان منجّما. (بدون «محذقا» ) [2] . فى الطبري (9: 1767) : يستحلبوا. (بالحاء المهملة) . [3] . ناجاه: كذا فى الأصل ومط: ناجاه. فى آ: فاجاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 ثمّ دعا بالقادم، فأحلفه أنّ ما جاء به حقّ. فحلف. فقال سلم بن أحوز [1] : - «أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقا أنّه بعض مكايد قريش، أرادوا تهجين طاعتك. فسر ولا تهجّنّا.» فقال: - «يا سلم، أنت رجل لك علم بالحروب، ولك مع ذلك حسن طاعته لبنى أميّة. فأمّا مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأى أمة هتماء.» ثم قال لمن حضر: إنّى لم أشهد بعد ابن خازم أمرا مفظعا إلّا كنت المفرع [2] فى الرأى.» فقال الناس: - «قد علمنا ذلك، فالرأى رأيك.» يوسف الثقفي يولّى المدينة ومكّة وفى هذه السنة وجّه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي واليا على المدينة ومكّة، ودفع إليه إبراهيم ومحمّدا ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثقين فى عباءتين. فقدم بهما المدينة وأقامهما للناس ثمّ بعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو يومئذ عامله على العراق فعذّبهما حتّى قتلهما وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنّهما أخذا مالا كثيرا.   [1] . احوز: كذا فى الأصل: أحوز. فى مط. وآ: أحوز. [2] . المفرع: كذا فى الأصل وآ، ومط والطبري (9: 1768) : المفرع (بالراء المهملة.) المفرع: المصلح بين الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 ذكر أبى مسلم وفى هذه السنة قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب مكّة على محمّد بن علىّ وأخبروه [172] بقصّة أبى مسلم وما رأوا منه. فقال لهم: - «أحرّ هو أم عبد؟» قالوا: - «أمّا عيسى فيزعم أنّه عبد وأمّا هو فيزعم أنّه حرّ.» قال: - «فاشتروه وأعتقوه وأعطوا محمّد بن علىّ مائتي ألف درهم.» وكسى بثلاثين ألف درهم. فقال لهم: - «ما أظنّكم تلقوني بعد عامي هذا فإن حدث بى حدث فصاحبكم إبراهيم بن محمّد فانّه مأمون وأنا أثق به لكم وأوصيكم به خيرا وقد أوصيته بكم.» فصدروا من عنده. وفى هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن علىّ بخراسان. ذكر مقتل يحيى بن زيد والسبب فيه أقام يحيى بن زيد ببلخ عند الحريش بن عمر بن داود حتّى هلك هشام وولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار بمسير يحيى بن زيد وبمنزله [1] ببلخ حتّى قال أنّه عند الحريش وقال له: - «ابعث إليه فخذه أشدّ الأخذ.»   [1] . بمنزله: كذا فى الأصل والطبري (9: 770) . فى آ: مزله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 فبعث نصر إلى عقيل بن معقل يأمره أن يأخذ الحريش فلا يفارقه حتّى يزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد، فبعث إليه عقيل فسأله عنه فقال: - «لا علم لى به.» فجلده ستمائة سوط. فقال له الحريش: - «والله لو أنّه كان تحت قدمي ما رفعتها لك عنه.» فلمّا رأى ذلك قريش بن الحريش [173] أتى عقيلا فقال له: - «لا تقتل أبى وأنا أدلّك عليه.» فأرسل معه فدلّه عليه وهو فى بيت جوف بيت فأخذه فأتى به نصر بن سيّار فحبسه وكتب إلى يوسف بن عمر يخبره بذلك فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بن يزيد فكتب الوليد إلى نصر بن سيّار يأمره أن يؤمنه ويخلّى سبيله وسبيل أصحابه وكان معه نفر خرجوا معهم [1] من الكوفة فظفر بهم فدعاه نصر بن سيّار وأمره بتقوى الله وحذّره الفتنة وأمره أن يلحق بالوليد بن يزيد وأمر له بألفي درهم وبغلين فخرج هو وأصحابه إلى سرخس وأقام بها فكتب نصر إلى عامله بسرخس أن يشخصه منه وكتب إلى عامله بطوس: - «انظر يحيى بن زيد إذا مرّ بك فلا تدعه يقيم بطوس.» وأمرهما إذا مرّ بهما أن لا يفارقاه حتّى يدفعاه إلى عمرو بن زرارة بأبرشهر ففعل به ذلك ووكّل به سرحان بن فرّوخ بن مجاهد بن بلعاء العنبري. قال سرحان: فدخلت يوما عليه فذكر نصر بن سيّار وما أعطاه وإذا هو يستقلّه وذكر الوليد فأثنى عليه ثمّ اعتذر من مجيئه بأصحابه. وأنّه لم يأت بهم إلّا مخافة أن يسمّ أو يغمّ ثمّ عرض [174] بيوسف وذكر أنّه يتخوّفه وهمّ   [1] . معهم: كذا فى الأصل وفى آ: معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 بالوقوع فيه ثمّ أمسك فبسطته وقلت: - «قل ما أحببت يرحمك الله، فليس عليك منّى عين.» ثمّ اعتذرت إليه من مسيري معه وكنت أسير معه على رأس فرسخ حتى تلقّانا عمرو بن زرارة فدفعنا إليه فأشخاصه إلى بيهق وهي أقصى خراسان وأدناه من قومس فأقبل فى سبعين رجلا وكان يخاف اغتيال يوسف إيّاه ومرّ به قوم تجّار فأخذ دوابّهم وقال: - «علينا أثمانها.» وكتب عمرو بن زرارة إلى نصر: أنّ يحيى قد أقبل وفعل كيت وكيت. فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس وإلى الحسن بن زيد أن يمضيا إلى عمرو بن زرارة فهو عليهم ثمّ يقاتلوا يحيى بن زيد حتّى يقتلوه أو يأخذوه أسيرا فانتهوا إلى عمرو بن زرارة وكانوا عشرة آلاف وأتاهم يحيى وليس معه إلّا سبعون رجلا فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة وأصاب دوابّ ومتاعا كثيرا. وأقبل يحيى بن زيد حتى مرّ بهراة، وعليها مغلّى بن زياد فلم يعرض له ولا عرض هو [1] لمغلّى وقطع هراة فسرّح نصر بن سيّار سلم بن أحوز فى طلب يحيى فتبعه حتّى لحقه بالجوزجان بقرية منها [2] وقد لحق [175] بيحيى نفر من الشيعة فصافّه سلم بن أحوز وأمر سلم جماعة بتعبئة الناس فتباطؤوا عليه حتّى عبّأهم سورة بن محمد بن عزير [3] الكندي واقتتلوا فقتل أصحاب يحيى من عند آخرهم ومرّ سورة بيحيى صريعا فأخذ رأسه وبعث به إلى يوسف بن عمر فنصبه فكتب الوليد بن يزيد إليه أن أحرقه ثمّ انسفه فى اليمّ نسفا. فأمر   [1] . ولا عرض هو: كذا فى الأصل. وفى آ: ولا عرض له. [2] . منها: كذا فى الأصل، والطبري (9: 1773) . وفى آ: فيها. [3] . عزيز: كذا فى الأصل: عزيز، وما فى الطبري (9: 1773) : عزيز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 يوسف بإنزاله من جذعه وأحرقه بالنار ثمّ رضّه وجعله فى قوصرة وأمر بأن يذّر فى الفرات. ودخلت سنة ستّ وعشرين ومائة وفيها قتل الوليد بن يزيد قتله يزيد بن الوليد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 خلافة يزيد الناقص ذكر السبب فى قتل الوليد وخلافة يزيد الناقص كان سبب اضطراب أمره وفساد نيّات الناس له اشتغاله بالمجون والخلاعة وتهاونه بأمر الدين واستخفافه به وقد حكى عنه ما لا يلفظ به ولا فائدة فى ذكره وكان من أعظم ما جنى على نفسه إفساده بنى عمّيه: ولد هشام وولد الوليد ابني [1] عبد الملك بن مروان وأفسد أيضا على نفسه اليمانية [2] [176] وهم عظم أهل الشام. وكان قد اشتدّ على الجند وعلى بنى هشام [3] ضربه سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغرّبه إلى عمان وكان يتعرّض لجوارى أبيه وأولادهم وأراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه فأبى فقال له أهله: - «ويحك أبيت على أمير المؤمنين.» قال: - «ويحكم كيف أبايع من لا أصلّى خلفه ولا أقبل شهادته وهم صبيان [4] .» قالوا:   [1] . ابني: كذا فى الأصل وفى الطبري (9: 1775) . وفى آ: بنى. [2] . اليمانية: فى الأصل مهملة فى الاول. فى آ: الثمانية. فى الطبري (9: 1775) : اليمانية. [3] . هشام: كذا فى الأصل والطبري (9: 1776) ومط. وفى آ: هاشم. [4] . وهم صبيان. كذا فى الأصل وآ. والعبارة ليست فى الطبري (9: 1776) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 - «فالوليد تقبل شهادته مع فسقه؟» قال: - «أمر الوليد مغيّب عنّى ولا أعلمه يقينا إنّما هي أخبار الناس.» فغضب الوليد على خالد وحبسه ثمّ رمى الناس الوليد بكلّ [1] فاحشة واتهموه بالزندقة وكان أشدّ الناس عليه يزيد بن الوليد الذي لقّب فيما بعد بالناقص وكان الناس يميلون إليه لأنّه كان يظهر النسك ويتواضع فكان يحمل الناس على الفتك به وأجمع قوم من اليمانية وقضاعة من أهل [2] دمشق خاصّة على قتل الوليد فاجتمع رؤساؤهم إلى خالد بن عبد الله فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم فسألوه أن يكتم عليهم قال: - «لا أسمّى أحدا منكم.» وأراد الوليد الحجّ فخاف خالد أن يفتكوا به فى الطريق، فأتاه فقال: - «يا أمير المؤمنين أخّر الحجّ العام.» قال: - «ولم؟» فلم يخبره فأمر [177] بحبسه وأن يستأدى ما عليه من بقايا أموال العراق. وهمّ الوليد بعزل يوسف عن العراق فكتب إليه: - «إنّك كنت [3] كتبت إلى أمير المؤمنين بتخريب ابن النصرانية البلاد وقد كنت تحمل إلى هشام ما تحمل وقد ينبغي أن تكون عمرت البلاد ووفّرت الدخل فاشخص إلى أمير المؤمنين وصدّق ظنّه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك، فانّك خاله وأحقّ الناس بالتوفير [4] وقد علمت ما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشام وغيرهم من الزيادة   [1] . بكل: كذا فى الأصل. وفى مط: على. [2] . من أهل دمشق: كذا فى الأصل. فى آ: من دمشق. [3] . إنّك كنت كتبت: كذا فى الأصل. وفى آ. والطبري (9: 1778) : إنّك كتبت. [4] . التوفير: كذا فى الأصل والطبري (9: 1779) . وفى آومط: التوفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 فى أعطياتهم [1] وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إيّاهم حتّى أضرّ ذلك ببيوت الأموال.» فخرج يوسف واستخلف عمّه يوسف بن محمد وحمل من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل من العراق مثله، فقدم يوسف وخالد بن عبد الله محبوس فلقيه حسّان النبطي ليلا فأخبره أنّ الوليد عازم على تولية عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف. وقال له: - «لا بدّ لك من إصلاح أمر وزرائه.» فقال: - «ليس عندي فضل درهم.» قال: - «فعندي خمسمائة ألف درهم إن شئت فهي لك وإن شئت فارددها إذا تيسّرت.» قال: - «فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من [178] الخليفة منّى ففرّقها على قدر علمك [2] فيهم.» ففعل. فقدم يوسف والقوم يعظّمونه. فقال له حسّان: - «لا تغد إلى أمير المؤمنين ولكن رح إليه رواحا واكتب على لسان خليفتك كتابا إليك: إنّى كتبت ولا أملك إلّا القصر ثمّ ادخل على الوليد والكتاب معك متحازنا فأقرئه الكتاب وأمر ابان بن عبد الرحمن أن يشترى منه خالدا بأربعين ألف ألف.» ففعل يوسف فقال له الوليد: - «إرجع إلى عملك.» فقال ابان بن عبد الرحمن: - «ادفع إلىّ خالدا وأحمل إليك أربعين ألف ألف.» قال:   [1] . أعطياتهم: كذا فى الأصل وآ. فى مط: إعطائهم. [2] . علمك: كذا فى الأصل. فى آ: عملك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 - «ومن يضمن عنك؟» قال: - «يوسف.» فقال: - «أتضمن عنه؟» قال: - «بل ادفعه إلىّ فأنا أستأديه خمسين ألف ألف.» فدفعه إليه فحمله فى غير وطاء فى محمل مكشوف وقدم به الكوفة فقتله بالعذاب. وكانت اليمانية أتت يزيد بن الوليد فأرادوه على البيعة فشاور فقيل: - «لا يبايعك الناس فشاور أخاك العبّاس بن الوليد فإنّه سيّد بنى مروان فإن بايعك لن [1] يخالفك أحد وإن أبى كان الناس أطوع له [2] ، فإن أبيت إلّا المضىّ على رأيك فأظهر أنّ العبّاس قد بايعك.» وكانت الشام وبيئة تخرج الملوك منها إلى البوادي [179] وكان يزيد بن الوليد بن عبد الملك متبدّيا وكذلك العبّاس بن الوليد وبينهما أميال يسيرة فأتى يزيد أخاه العبّاس فشاوره وعاب الوليد. فقال له العبّاس: - «مهلا يا يزيد فإنّ فى نقض عهد الله فساد الدين والدنيا.» فرجع يزيد إلى منزله ودبّ فى الناس فبايعوه سرّا، وبثّ ثقاته يدعون إليه ويلعنون الوليد وبلغ العبّاس أخاه، فقال له: - «لئن عاودت لما يبلغني لأشدّنّك وثاقا ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين.» فلم ينته يزيد وبلغ معاوية بن عمرو بن عتبة خوض الناس فأتى الوليد فقال:   [1] . لن: كذا فى الأصل. فى آ، ومط: لم. [2] . أطوع له: كذا فى الأصل. فى آ: له أطوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 - «يا أمير المؤمنين إنّك تبسط لساني بالأنس بك وأكفّه بالهيبة لك وأنا أسمع ما لا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن. أفأتكلّم ناصحا أم أسكت مطيعا؟» قال: - «كلّ مقبول منك ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، ولو علم بنو مروان أنّ ما يوقدون علىّ رضف [1] يلقونه فى أجوافهم ما فعلوا، ونعود فأسمع منك.» وبلغ مروان بن محمد بأرمينية أنّ يزيد يؤلّب الناس ويدعوا إلى خلع الوليد فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يأمره أن ينهى الناس ويكفّهم وكان سعيد يتألّه، فقال: - «إنّ الله جعل لكلّ أهل بيت أركانا يعتمدون عليها [180] ويتّقون بها المخاوف وأنت بحمد [2] ربّك ركن من أركان أهل بيتك وقد بلغني أنّ قوما من سفهاء أهل بيتك قد أسّسوا [3] أمرا إن تمّت لهم رؤيّتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم، استفتحوا بابا لن يغلقه الله عنهم حتّى يسفك دماء كثير منهم، وأنا مشغول بأعظم الثغور فرجا، ولو جمعتني وإيّاهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله فى ترك ذلك لعلمي بما فى عواقب الفرقة وأنّه لن ينتقل سلطان قوم إلّا بتشتت كلمتهم وأنّ كلمتهم إذا تشتّتت طمع فيهم عدوّهم وأنت أقرب إليهم منّى فاحتل لعلم ذلك بإظهار المتابعة لهم فإذا صرت إلى علم ذلك   [1] . علىّ رضف: كذا فى الأصل: رضف. فى الطبري (9: 1785) : على رضف. [2] . بحمد: كذا فى الأصل: بحمد. فى آ: محمد. [3] . أسّسوا: كذا فى الأصل: أسّسوا. ما فى الطبري (9: 1786) استنّوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 فتهدّدهم بإظهار إسرارهم وخذهم بلسانك وخوّفهم العواقب لعل الله أن يرد عليهم ما قد عزب [1] من أحلامهم فإنّ فيما سعوا فيه تغيّر النعم وذهاب الدولة فعاجل الأمر وحبل الألفة مشدود والناس سكون والثغور محفوظة وقد أمّل القوم فى الفتنة أملا لعلّ أنفسهم تهلك دون ما أمّلوا ولكلّ أهل بيت مشائيم يغيّر الله بهم النعمة فأعاذك الله من ذلك وحفظ عليك دينك.» فأعظم سعيد ذلك وبعث بكتابه إلى العبّاس فأعاد العبّاس موعظة يزيد [181] وتهديده وقال: - «يا أخى أخاف أن يكون بعض من حسدنا على هذه النعمة أراد أن يغرى بيننا.» وحلف له أنّه لم يفعل. فصدّقه. فلمّا اجتمع ليزيد أمره وهو متبدّ أقبل إلى دمشق وبينه وبينها أربع ليال متنكّرا فى سبعة على حمر وكان أهل دمشق قد بايعوا ليزيد سرّا، إلّا معاوية بن مصاد وكان سيّد أهل المزّة، وبين المزّه وبين دمشق ميل. فمضى يزيد من ليلته ما شاء فى نفير من أصحابه إلى مزّة فأصابهم مطر شديد فأتوا منزل معاوية فضربوا بابه ففتح لهم فلمّا رأى يزيد قال: - «إلى الفراش أصلحك الله.» قال: - «إنّ فى رجلي طينا وأكره أن أفسد بساطك.» قال: - «إنّ الذي تريدنا عليه أفسد.» وكلّمه يزيد، فبايعه، ورجع يزيد إلى دمشق ونزل دار سليمان بن سعيد   [1] . عزب من أحلامهم: كذا فى الأصل. فى آ: عزب من أخلاقهم. فى الطبري (9: 1786) : عزب من دينهم وعقولهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 الجشمي [1] وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف فخاف الوباء وخرج واستخلف ابنه وكان على شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السّلمى، فأجمع يزيد على الظهور. وقيل للعامل: إنّ يزيد خارج. فلم يصدّق، وأرسل يزيد أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ستّ وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتّى سمعوا أذان العتمة، فدخلوا المسجد وصلّوا وللمسجد [182] حرس قد وكّلوا بإخراج الناس من المسجد باليل. فلما صلّى الناس صاح الحرس وتباطأ أصحاب يزيد وجعلوا يخرجون من باب ويدخلون من باب حتّى لم يبق إلّا الحرس وأصحاب يزيد. فأخذوا الحرس ومضى ابن عنبسة إلى يزيد بن الوليد وقال: - «قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله تعالى وعونه.» فقام وقال: - «اللهم إن كان هذا لك رضا فأعنّى عليه وإن كان غير رضا فاصرفه عنّى بموت.» وأقبل فى اثنى عشر رجلا فلمّا كانوا عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلا من أصحابهم. فلمّا كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم فمضوا إلى المسجد ودخلوه فضربوا باب المقصورة وقال [2] رسل الوليد: ففتح لهم خادم الباب فأخذوه ودخلوا فأخذوا أبا العاج وهو سكران وأخذوا خزّان بيت المال وصاحب البريد. وأرسل إلى كلّ من يحذره، فأخذوه [3] . وتوجّه رسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيد وهو   [1] . الجشمي: كذا فى الأصل: الجشمي. فى الطبري (9: 1789) : الخشني. [2] . وقال: كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (9: 1790) ، وآ: وقالوا. [3] . آ: فأخذوا رسل يزيد من ليلته. والعبارة فى الطبري (9: 1790) : «وأرسل إلى كلّ من كان يحذره، فأخذ وأرسل يزيد.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 على بعلبك فأخذه وأرسل من ليلته إلى محمد بن عبد الملك بن الحجّاج بن يوسف، فأخذه وقال: - «استدعوا أصحابنا من النواحي.» وقال للبوّابين: - «لا تفتحوا الباب غدوة إلّا لمن أخبركم بشعارنا.» فتركو الأبواب [183] بالسلاسل فلمّا أصبحوا جاء أهل المزّة وغيرهم فما انتصف النهار حتّى تتابع الناس وكان فى المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة فلم يكن الخزّان قد قبضوه فأصابوا سلاحا كثيرا عتيدا وتتابع الناس من كلّ ناحية وأرسل يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك وأمره أن يقف بباب الجابية [1] وقال: - «من كان له عطاء فليأت إلى عطاءه ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة.» وقال لبنى الوليد بن عبد الملك وكان معه منهم ثلاثة عشر: - «تفرقوا فى الناس يروكم، وحضّوهم.» ونادى مناديه: - «من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟» فانتدب ألف رجل. ثمّ نادى مناديه: - «من ينتدب وله ألف وخمسمائة؟» فانتدب نحو من ألفين. فعقد لجماعة. وجعل عليهم جميعا عبد العزيز بن الحجّاج عبد الملك. فخرج عبد العزيز حتّى عسكر بالحيرة. وبلغ الخبر الوليد فأنفذ أبا محمّد ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية وأجازه وجهّزه ووجهه إلى   [1] . الجابية: كذا فى الأصل والطبري (9: 1791) : الجابية. فى آ، ومط: الحابية (بالحاء المهملة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 دمشق. فخرج أبو محمّد. فلمّا انتهى إلى ذنبة [1] أقام فوجّه إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد [2] فسالمه أبو محمّد وبايع ليزيد بن الوليد وأتى الوليد الخبر وهو بالأعدف [3] . [184] ذكر آراء أشير بها على الوليد فساقه الحين إلى أحدهما فقال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: - «يا أمير المؤمنين سر حتّى تنزل حمص فإنّها حصينة ووجّه الجنود إلى يزيد فإنّه يقتل أو يؤسر.» فقال عبد الله [4] بن عنبسة بن سعد [5] بن العاص: - «ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيّد أمير المؤمنين وناصره.» فقال يزيد بن خالد: - «وماذا تخاف على حرمه؟» وإنّما أتاه عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك وهو ابن عمّهنّ. فأخذ بقول ابن عنبسة. فقال له الأبرش:   [1] . ذنبة: الضبط من الطبري (9: 1795) . فى آ: مهملة فى كل الحروف. [2] . مصاد: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1795) . وفى آ: معاد. [3] . بالأعدف: كذا فى الأصل وآ: بالأعدف. فى مط: الأغدف. فى الطبري (9: 1795) : بالأغدف. [4] . عبد الله: فى الأصل مطموس، كذا فى آ، ومط، والطبري (9: 1795) : عبد الله. [5] . سعد: كذا فى الأصل. فى آ، ومط، والطبري (9: 1795) : سعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 - «يا أمير المؤمنين تدمر حصينة وبها قومي يمنعونك.» فقال: - «أهلها بنو عامر وهم الذين خرجوا علىّ ولكن دلّنى على منزل حصين.» قال: - «أنزل القرية.» قال- «أكرهها.» قال: - «فهذا الهريم [1] قال: - «أكره اسمه.» قال: - «فهذا البخراء [2] قصر النعمان بن بشير.» قال: - «ويحك ما أقبح أسماء مياهكم.» وأقبل فى طريق السماوة فقال له بيهس بن زميل: - «أمّا إذ أبيت أن تمضى إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء وهو حصين وهو من بناء العجم فأنزله.» فنزله. وندب يزيد بن الوليد الناس إلى الوليد ونادى مناديه: - «من سار فله ألفان.» فانتدب [185] ألفا رجل فأعطاهم ألفين ألفين وقال: موعدكم بذنبة وسار فوافاه بذنبة ألف ومائتان ثمّ سار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه ونزلوا قريبا من الوليد وأرسل العبّاس إلى الوليد: - «إنّى آتيك، فاختر بين أن آتيك، أو آتى يزيد فأكفّه.»   [1] . الهريم: كذا فى الأصل وآ، وفى مط مهملة. فى الطبري (9: 1796) : الهزيم. وفى هامش الطبري: الهريم، الحزيم. [2] . البخراء: الضبط من الطبري (9: 1796) . فى الأصل ومط غموض وإهمال. فى آوحواشي الطبري: النجراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 فاتهمه وقال: - «بل ائتني.» فبلغ عبد العزيز مسير العبّاس بن الوليد فأرسل إليه منصور بن جمهور فى خيل وقال: - «إنّكم ستلقون العبّاس بن الوليد فى الشّعب ومعه بنوه فخذوهم وجيئوني بهم.» فخرج منصور فى خيل فلمّا صاروا فى الشّعب إذا هم بالعبّاس فى ثلاثين من أهل بيته. فقالوا له: - «اعدل إلى عبد العزيز.» فشتمهم. فقال له منصور: - «والله لئن تقدّمت لأنفذنّ حصينك [1] .» - «ويقال بل الذي لقيه، يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم وقال له: - «والله لئن أبيت لأضربنّ ما فيه عيناك.» ولم يكن مع العبّاس أصحابه، لأنّه تقدّمهم وكان معه بنوه فقال: - «إنّا لله.» وأتوا به عبد العزيز. فقال: - «بايع لأخيك يزيد بن الوليد.» فبايع. وكان عبد العزيز قد أخرج أصحابه وعبّأهم فقاتل أصحاب الوليد وقد قتل من أصحابه جماعة. وحملت رؤوسهم إلى الوليد والوليد على باب البخراء جالس [285] ينتظر العبّاس فلمّا بايع الناس على الكره وعلى سبيل   [1] . أو حضنيك. وفى مط: حصبتك. وفى الطبري (9: 1798) : «حصينك يعنى درعك» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 المكر به، قال: - «إنّا لله، خدعة من خدع الشيطان هلك بنو مروان ونصب عبد العزيز راية.» وقالوا: - «هذه راية العبّاس بن الوليد وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد.» فتفرّق الناس عن الوليد، ودخلوا فى الأمان إلى عبد العزيز والعبّاس. وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسين: السندي والذائد [1] . فقاتلهم، فناداهم رجل: - «اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة.» فلمّا سمع ذلك دخل القصر وتبعه الناس يطلبونه. فدنا الوليد من الباب. فقال: - «أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه؟» فقال له يزيد بن عنبسة السّكسكىّ: - «كلّمنى.» قال: - «من أنت؟» قال: - «يزيد بن عنبسة.» قال [2] : - «يا أخا السكاسك، ألم أزد فى أعطياتكم، ألم أرفع المؤن عنكم، ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم؟» - «فأجابه وقال: - «ما ننقم عليك فى أنفسنا، ولكن ننقم عليك فى انتهاك ما حرّم الله، و   [1] . الذائذ: كذا فى الأصل. فى الطبري (9: 1799) : الزائد، وفى حواشيه: الزابد. الرابد الذائد. [2] . نجد الحوار فى الطبري (9: 1799) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 شرب الخمر، ونكاح أمّهات أولاد أبيك، واستخفافك بالدين.» قال: - «حسبك يا أخا السكاسك، فلعمرى لقد أكثرت وأغرقت. فإنّ فيما أحلّ الله لسعة عمّا ذكرت وو الله [187] لا اجتمعت [1] كلمتكم بعدي.» ورجع إلى القصر. وأخذ مصحفا فنشره وجلس يقرأ. وقال: - «يوم كيوم عثمان.» وكان أول من علا الحائط يزيد بن عنبسة. فتحدّث المثنى بن معاوية قال: دخلت القصر فإذا الوليد قائم فى قميص قصب وسروايل وشى ومعه سيف فى غمد والناس يشتمونه. ثمّ كثر الناس عليه وتعاوروه بأسيافهم فقتل. رأس الوليد وما فعل به وكان جعل يزيد بن الوليد فى رأس الوليد مائة ألف فانتهب الناس عسكر الوليد وخزائنه وأمر يزيد بنصب الرأس على رمح وطيف به فى مدينة دمشق ثمّ قال: - «ادفعوه إلى سليمان [2] أخى الوليد.» وكان سليمان أخو الوليد ممّن سعى على أخيه. فغسل الرأس ووضع فى سفط وأتى به سليمان فنظر إليه ثمّ قال: - «بعدا له وسحقا أشهد أنّه كان شروبا للخمر فاسقا ماجنا ولقد أرادنى الفاسق على نفسي.» فخرج حامل الرأس وهو ابن فروة من الدار فتلقّته مولاة للوليد. فقال لها:   [1] . لا تجتمع: فى الأصل وآ: لا اجتمعت. فى مط: ما اجتمعت. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1801) [2] . سليمان: كذا فى الأصل وآ: سليمان. فى مط: سلمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 - «ويحك ما أشدّ ما شتمه [1] زعم أنّه أراده على نفسه.» قالت: - «كذب الخبيث ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل. ما كان ليقدر على الامتناع منه.» هرب المغنّين وكان مع الوليد مالك بن أبى السمح المغنّى وعمر الوادي [2] . [188] فلمّا تفرّق الوليد عن أصحابه وحصر قال مالك لعمر: - «اذهب بنا.» فقال عمر: - «ليس هذا من الوفاء ونحن لا يعرض لنا لأنّا لسنا ممّن يقاتل.» فقال مالك: - «ويلك والله لئن ظفروا بنا لا يقتل قبلي وقبلك أحد فيوضع رأسه بين رأسينا ويقال للناس: انظروا من كان معه فى هذه الحال فلا يعيبونه [3] بشيء أشدّ من هذا.» فهربا، وكان معهما أبو كامل العزيل المغنّى، وكان سبقهما إلى الهرب. من صفات الوليد وكان قتل الوليد يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ستّ وعشرين ومائة وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وكان له من السنين نيّف   [1] . شتمه. كذا فى الأصل وآ، ومط والطبري (9: 1808) : ما شتمه. (بصيغة الغائب) . [2] . عمر الوادي: كذا فى الأصل: عمر الوادي. فى آ، والطبري (9: 1809) عمرو الوادي. وزاد فى هامش الأصل بخطّ المتن: «عمر الوادي مغنّ، ومالك مله.» [3] . يعيبونه: كذا فى الأصل والطبري (9: 1810) : يعيبونه. فى مط وآ: يعنونه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وأربعون سنة وقد اختلف فى النيّف. وكان شديد البطش طويل أصابع الرجلين وكان يوتد له سكة حديد فيها خيط قوى فيشدّ الخيط فى رجله ثمّ يثب على الدّابّة فينتزع السكّة ويركب ما يمسّ الدابّة بيده. وكان شاعرا شروبا للخمر، أحصى عليه فى ليلة سبعون قدحا، وكان صاحب صيد، ولمّا أفضت إليه الخلافة انهمك وأولع بالصيد، وكره الجلوس للناس وحجبهم وفعل تلك الأمور التي زادته بغضا إلى الناس حتّى قتل ولم يتمتّع بملكه. [189] مقتل خالد بن عبد الله القسري فى العذاب وفى هذه السنة قتل خالد بن عبد الله القسري. وقد كنّا ذكرنا عزل هشام له وأنّه استعمل يوسف بن عمر وطالبه واستخرج منه مالا وعذّبه. ولكن كان مع ذلك يحامى عليه هشام ويوصّى به. ولم يزل يوسف يكثر ويعتلّ بانكسار الخراج وذهاب الأموال حتّى أذن له وبعث حرسيّا يشهد أمره، وحلف لئن أتى على خالد أجله وهو فى يده ليقتلنّه. وكان يوسف يطالبه ويبقى عليه بعض الإبقاء إلى أن بسط عليه يوما بحضرته فلم يكلّمه خالد [1] حتّى شتمه يوسف وقال: - «يا ابن الكاهن» يعنى، شق بن صعب الكاهن فقال له خالد: - «إنّك لأحمق تعيّرنى بشر فى ولكنّك ابن سبّاء [2] ، إنّما كان أبوك يبيع الخمر.»   [1] . خالد: كذا فى الأصل ومط: خالد. فى آ: أحد. فى الطبري (9: 1813) واحدة. [2] . السبّاء: بتشديد الباء: بائع الخمر. والسباء: بتخفيف الباء: الخمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فردّ إلى محبسه ثمّ كتب إليه هشام بتخلية سبيله. فخرج حتّى ورد دمشق. وكان يقصد بها ويؤذى من جهة أعداء كانوا له، نصبهم يوسف عليه، حتّى قال يوما: - «والله ليكفّنّ عنّى هشام أو لأدعونّ إلى عراقىّ الهوى، شامىّ الدار، حجازىّ الأصل، يعنى محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس وقد أذنت لكم أن تبلّغوا هشاما.» فلمّا بلغه ما قال. قال: - «خرف أبو الهيثم.» [190] وأقام خالد بدمشق حتّى هلك هشام، وقام الوليد، وقدم عليه يوسف بن عمر بمال العراق، وتكلّم أبان بن عبد الله النمري [1] فى خالده فقال يوسف: - «أنا أشتريه بخمسين ألف ألف.» [2] فقال الوليد لخالد: - «إن كنت تضمنها، والّا دفعتك يا خالد إليه.» فقال خالد: - «ما عهدت العرب تباع والله لو سألتنى أن أضمن هذا. ورفع عودا من الأرض ما ضمنته، فرأيك.» فدفعه إلى يوسف فنزع ثيابه ودرّعه عباءة ولحفه أخرى وحمله فى محمل بغير وطاء ثمّ دعا به وذكر أمّه. فقال: - «ما ذكر الأمّهات لعنك الله، والله لا أكلّمك كلمة أبدا.»   [1] . النمري: كذا فى الأصل: النمري. فى مط: التمري. فى آ، والطبري (9: 1821) : النميري. [2] . فى آ: ألف ألف درهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 فبسط عليه العذاب وعذّبه عذابا شديدا لا يكلّمه كلمة ومكث خالد يوما فى العذاب. فحدّث أبو نعيم قال: شهدت خالدا حين أتى به يوسف فدعا بعود يعرف بالمضرّسة فوضعه على قدميه ثمّ قامت عليه الرجال حتّى كسر قدماه فو الله ما تكلّم ولا عبس، ثمّ على ساقيه حتّى كسرتا، ثمّ على فخذيه، ثمّ على حقويه، ثمّ على صدره حتّى مات. فو الله ما تكلّم ولا عبس، وو الله ما نصره طول أيّام حبسه أحد من عشيرته ولا من صنائعه، بيد ولا لسان، إلّا رجل من [191] بنى عبس فإنّه قال [1] : ألا أنّ بحر الجود أصبح ثاويا أسير ثقيف موثقا فى السّلاسل فإن تسجنوا القسرىّ لا تسجنوا اسمه ولا تسجنوا معروفه فى القبائل   [1] . انظر الطبري (9: 1817) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك اضطراب حبل بنى مروان وفى هذه السنة بويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقال له: الناقص، وإنّما قيل له الناقص لنقصه الناس الزيادة التي زادهموها الوليد بن يزيد فى أعطياتهم وذلك عشرة عشرة. وفى هذه السنة اضطرب حبل بنى مروان [1] وهاجت الفتنة. ذكر الفتن وأسبابها كان سبب ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعمان- وكان محبوسا بها فأخذ ما كان بعمان من الأموال وأقبل إلى دمشق يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر- ووثوب أهل حمص بأسباب العبّاس بن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بن يزيد. وأمّا أهل حمص فكان وإليهم مروان بن عبد الله من قبل الوليد. وكان نبيلا فاضلا كريما له جمال وروعة [192] فلمّا قتل الوليد أغلق أهل حمص أبوابها وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله. فقال بعض من   [1] . انظر الطبري 9: 1825. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 حضر الأمر: - «ما زلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم حتّى جاء العبّاس بن الوليد فمال إلى عبد العزيز بن الحجّاج بن الوليد فوثب أهل حمص إلى دار العبّاس، فانتهبوها وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه وحبسوهم، وطلبوه فخرج إلى يزيد بن الوليد.» وبلغ ذلك مروان بن عبد الله بن عبد الملك فوافقه ذلك وتابعهم وكتب أهل حمص بينهم كتابا وتواثقوا فيه على ألّا يدخلوا فى طاعة يزيد وكاتبوا رؤساء الأجناد [1] ودعوا إلى وليّى العهد وكانا صبيّين بعد، فلمّا بلغ يزيد بن الوليد خبرهم وجّه إليهم رسلا فيهم يعقوب بن هاني وكتب معه: - «إنّه ليس يدعو إلى نفسه، ولكن يدعوهم إلى الشّورى.» فقال عمرو بن قيس السّكونى: - «قد رضينا بولىّ عهدنا.» يعنى ابن الوليد. فأخذ يعقوب بلحيته. فقال: - «أيّها الغشمة، إنّك قد خرفت وذهب عقلك. إنّ الذي تعنى لو كان يتيما فى حجرك لم يحلّ لك أن تدفع إليه ماله فكيف أمر الأمة؟» فوثب [193] أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم. ثمّ أقبل أهل حمص، فنزلوا قرية كانت لخالد بن يزيد بن معاوية، وأمرهم إلى رجل يعرف بأبى محمّد السفياني. فتكلّم مروان بن محمّد بشيء اتّهموه فيه، فوثبوا عليه وقتلوه. ولمّا بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بن الحجّاج، فوجّهه فى ألف وخمسمائة ووعده أن يمدّه وكان سليمان بن هشام قد بادرهم فنزلوا بالسليمانية وكان أهل حمص قد نزلوها قبلهم وأراحوا دوابّهم   [1] . الأجناد: كذا فى الأصل. ما فى مط: الأخبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وجعلوا الزيتون عن أيمانهم والجبل عن شمائلهم والجباب [1] خلفهم وليس لهم مأتى إلّا من وجه واحد. قال من حضر: ودفعنا إليهم ونحن معيون قد كلّت دوّابنا وثقل علينا الحديد فحاربناهم فهزموا ميمنتنا وميسرتنا أكثر من غلوتين وسليمان كان فى القلب فثبت وحمل عليهم حتّى ردّهم إلى مواضعهم. فبينا نحن نحمل مع سليمان ويحملون علينا إذا طلع عبد العزيز من الثنيّة فشدّ عليهم حتّى دخل عسكرهم وقتل ثمّ نفذ إلينا فلمّا تشتتوا واستحرّ فيهم القتل نادوا يزيد بن خالد بن عبد الله القسري: - «الله الله فى قومك.» فكفّ الناس عنهم على أن [194] يبايعوا ليزيد بن الوليد فلمّا خرجوا إلى دمشق أعطاهم يزيد وأجاز الأشراف. ووثب فى هذه السنة أهل فلسطين والأردن على عاملهم فطروده. ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أن سعيد بن عبد الملك كان عاملا للوليد على فلسطين وكان حسن السيرة وكان يزيد بن سليمان سيّد ولد أبيه وكان ولد سليمان بن عبد الملك ينزلون فلسطين وكان أهل فلسطين يحبّونهم لجوارهم فلمّا ورد قتل الوليد ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بن روح بن زنباع [2] فكتب إلى يزيد بن سليمان: - «انّ الخليفة قد قتل فاقدم علينا نولّك أمرنا.»   [1] . الحباب: كذا فى الأصل. فى آ: الجبات. فى مط: الجناب. فى الطبري (9: 1828) : الجبات. [2] . زنباع: الضبط فى الطبري (9: 1831) : كذا، زنباع، بكسر الزّاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 فقدم فجمع له سعيد قومه وكتب إلى سعيد بن عبد الملك وهو نازل بالسبع: - «ارتحل عنّا فإنّ الأمر قد اضطرب وقد ولّينا أمرنا رجلا قد رضيناه.» فخرج إلى يزيد بن الوليد. ودعا يزيد بن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بن الوليد وبلغ أهل الأردن أمرهم فولّوا عليهم محمّد بن عبد الملك وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بن روح بن زنباع [1] وضبعان بن روح وبلغ يزيد أمرهم فوجّه إليهم [195] سليمان بن هشام فى أهل دمشق. فقال محمّد بن راشد: كان سليمان بن هشام يرسلني إلى سعيد وضبعان ابني روح وإلى الحكم وهاشم [2] ابنى حرو [3] من بلقين فأعدهم وأمنّيهم على الدخول فى طاعة يزيد بن الوليد. وقال عثمان بن داود الخولاني: أنفذنى يزيد بن الوليد ومعى حذيفة بن سعيد إلى محمّد بن عبد الملك ويزيد بن سليمان يدعوهما إلى طاعته ويعدهما ويمنّيهما فبدأنا بأهل الأردن ومحمّد بن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة وقال بعضهم: - «أصلح الله الأمير، أقتل [4] هذا القدرىّ الخبيث، فكفّهم عنّى الحكم بن جرو [5] القينى. وأقيمت الصلاة فخلوت به وقلت:   [1] . روح بن زنباع: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (9: 1831) : روح، دون «بن زبناع» . [2] . هاشم: كذا فى الأصل وآ ومط: هشام. فى الطبري (9: 1832) : راشد. [3] . فى الطبري (9: 1832) : جرو من بلقين، بالجيم المعجمة. فى حواشيه: حرو، مهملة. فى. آ: حرو بن بلقيس. [4] . اقتل هذا القدرىّ الخبيث: كذا فى الأصل (بالضبط) فى آومط: أقبل. فى الطبري: «أقبل هذا الفتى» [5] . جرو القينى: كذا فى الأصل: حرو (مهملة) . فى آومط: حرو القينى، بالحاء المهملة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 - «إنّى رسول يزيد إليك والله ما تركت ورائي راية تعقد إلّا على رأس رجل من قومك، ولا درهما يخرج من بيت المال إلّا فى يد رجل منهم وهو يجعل [1] لك كذا وكذا.» فقال: - «أنت بذاك.» قلت: «نعم.» ثمّ خرجت فأتيت ضبعان بن روح فقلت له مثل ذلك وقلت: - «يولّيك فلسطين ما بقي.» فأجابنى فما أصبحت حتّى رحل بأهل فلسطين. فلمّا أتيت يزيد قال: - «أخبرنى كيف قلت لضبعان بن روح؟» فأخبرته. قال: - «فما صنع؟» قلت: - «ارتحل.» قال: - «فليسا [2] بأحقّ [196] بالوفاء منّى، ارجع.» فأمره ألّا ينصرف حتّى ينزل الرملة فيبايع أهلها. وقد استعملت إبراهيم بن الوليد على الأردن وضبعان بن روح على فلسطين ومسرور بن الوليد على قنّسرين وابن الحصين على حمص. خطبة خطبها يزيد استمال بها الناس خطب يزيد بن الوليد الناس بعد قتل الوليد فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:   [1] . يجعل: كذا فى الأصل ومط وآ: يجعل. فى الطبري (9: 1832) : يحمل. [2] . فليسا: كذا فى الأصل وآ ومط: فليسا. فى الطبري (9: 1833) : فليس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 - «أيّها الناس إنّى والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة فى الملك وما بى إطراء لنفسي. إنى لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربّى ولكنّى خرجت غضبا لله ورسوله ودينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنّة نبيّه لمّا هدمت معالم الهدى وأطفئ نور أهل التقوى وظهر الجبّار العنيد المستحلّ لكلّ حرمة والراكب كلّ بدعة مع أنّه والله ما كان يصدّق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب وأنّه لابن عمّى فى النسب [1] وكفئى فى الحسب [2] . فلمّا رأيت ذلك استخرت الله فى أمره وسألته ألّا يكلني إلى نفسي ودعوت إلى ذلك من أجابنى من أهل ولايتي وسعيت فيه [197] حتّى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوّته لا بحولي وقوّتى. «أيّها الناس إنّ لكم علىّ ألّا أضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا، ولا أكنز مالا ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد حتّى أسدّ ثغر ذلك البلد، وخصاصة أهله بما يغنيهم [3] فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممّن هو أحوج إليه ولا أجمركم على ثغوركم فأفتنكم وأفتن عليكم أهليكم ولا أغلق بابى دونكم، فيأكل قوّيكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم، وإنّ لكم أعطياتكم عندي فى كل سنة وأرزاقكم فى كل شهر،   [1] . فى النسب. كذا فى الأصل ومط وآ: فى النسب. فى الطبري (9: 1834) : فى النسب. [2] . فى الطبري: فى النسب. [3] . يغنيهم: كذا فى الأصل ومط: يغنيهم (بالغين المعجمة) . وما فى آوالطبري (9: 1835) : يعنيهم (بالعين المهملة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 حتّى تستدرّ المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم. فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة وإن أنا لم أف لكم أن تخلعونى إلّا أن تستتيبونى فإن تبت قبلتم منّى وإن علمتم أحدا ممّن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أوّل من يبايعه ويدخل فى طاعته» [1] [198] «أيّها الناس، إنّه لا طاعة للمخلوق فى معصية الخالق ولا وفاء له بنقض عهد. إنّما الطاعة طاعة الله فمن أطاع فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى معصيته، فهو أهل أن يعصى ويقتل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم.» [2] ثمّ دعا إلى تجديد البيعة له فكان أوّل من بايعه الأفقم يزيد بن هشام وبايعه قيس بن هانئ فقال: - «يا أمير المؤمنين، اتّق الله ودم على ما أنت عليه فما قام مقامك أحد من أهل بيتك، وإن قالوا: عمر بن عبد العزيز، فأنت أخذتها بحبل صالح وإنّ عمر أخذها بحبل سوء.» فلمّا بلغ قوله مروان بن محمّد قال: - «ما له قاتله الله ذمّنا جميعا وذمّ عمر وحقدها [3] .»   [1] . تجد الخطبة فى الطبري أيضا (9: 35- 1833) . [2] . تجد النصّ فى الطبري أيضا (9: 1835) . [3] . وحقدها: كذا فى الأصل وآ ومط: حقدها. والعبارة ليست فى الطبري (9: 1836) ، ولعلّ الصحيح: حقده أو: حقدنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 فلمّا ولى [1] بعث رجلا وقال له: - «إذا دخلت مسجد دمشق فانظر قيس بن هانئ فإنّه طالما صلّى فيه فاقتله.» - «فانطلق الرجل، فدخل المسجد، فرأى قيسا يصلّى، فقتله. عزل يزيد يوسف بن عمر عن العراق وتولية منصور بن جمهور وفى هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق وولّاها منصور بن جمهور. [2] ولمّا استوسق أهل الشام ليزيد بن الوليد على الطاعة عزل يوسف عن العراق وولّاها منصور بن جمهور، [199] فسار وهو سابع سبعة. فبلغ خبره يوسف بن عمر، فهرب وقدم منصور بن جمهور الحيرة فى رجب، وكان منصور أعرابيّا جافيا غيلانىّ الرأى [3] وإنّما صار مع يزيد لرأيه فى الغيلانيّة وحميه لقتل يوسف خالدا فلمّا ولّاه يزيد، وصّاه وقال: - «اتق الله وسر وأنت تستشعر التقوى، وأعلم إنّى إنّما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور، فلا تركب مثل ما قتلناه عليه.» فلمّا صار بالحيرة، كتب إلى سليمان بن سليم بن كيسان: - «أمّا بعد، فإن الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا 13: 11   [1] . ولى: كذا فى الأصل وآ ومط: ولى. فى الطبري: (9: 1836) : ولى مروان [2] . السطران الأخيران ليسا في آ، وهما موجودان فى الطبري (9: 1836) . [3] . غيلانى الرأى: وزاد فى الطبري (9: 1837) : ولم يكن من أهل الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 أَرادَ الله بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ. 13: 11 [1] وإنّ الوليد بدّل نعمة الله كفرا، فسفك الله دمه وعجّله إلى النار وولّى خلافته من هو خير منه وأحسن هديا وقد بايعه الناس. وولّى على العراق الحارث بن العبّاس بن الوليد وجّهنى العبّاس لأخذ يوسف وعمّاله، وقد [2] نزل الأبيض وهو ورائي. فخذ يوسف وعمّاله ولا يفوتنّك منهم أحد فاحبسهم قبلك، وإيّاك أن تخالف فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك ولهم به. فاختر لنفسك أو دع.» فلمّا ورد الكتاب على سليمان بن سليم مع كتب كتبها إلى جماعة [200] من قوّاد الشام، أوصلت الكتب كلّها سليمان بن سليم وسئل أن يفرّقها فى الجند. فدخل سليمان على يوسف بن عمر، وأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل [3] به وقال: - «ما الرأى؟» فقال: - «ليس لك إمام تقاتل معه ولا تقاتل أهل الشام، الحارث بن العبّاس معك، ولا آمن من منصور إن قدر عليك لما فى نفسه من أجل خالد، وما الرأى إلّا أن تلحق بشامك.» قال: - «هو رأيى. فكيف الحيلة؟» قال: - «تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له فى خطبتك، فإذا قرب منصور بن جمهور وجّهت معك من أثق به.»   [1] . س 13 الرعد: 11. [2] . فى آ، سقط من «وقد» إلى «عمّاله» . [3] . فبعل به: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1838) : فبعل. بعل: دهش وتحيّر. فى مط: فتعديه! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 ففعل. فلمّا نزل منصور بحيث يصبّح البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان فأقام أيّاما ثمّ وجّه معه من أخذ به طريق السماوة حتّى صار إلى البلقاء. وكان يوسف وجّه رجلا من بنى كلاب فى خمسمائة وقال لهم: - «إن مرّ بكم يزيد بن الوليد نفسه فلا تدعنّه يجوز.» فأتاهم منصور بن جمهور فى سبعة فلم يهيجّوه فانتزع سلاحهم منهم وأدخلهم الكوفة. ولمّا بلغ يوسف البلقاء رفع خبره إلى يزيد بن الوليد فوجّه قائدا فى خمسين رجلا وقال له: - «ائتني بيوسف.» فأتى البلقاء وطلبه فى منزله فلم يجده ورأى ابنا فرهّبه. [1] فقال: - «أنا أدلّك عليه.» وذهب [201] به إلى مزرعة فوجدوه فى ثياب النساء جالسا مع نسوة، فألقين عليه قطيفة خزّ، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله وأقبلوا به إلى يزيد، فلقيه عامل ليزيد على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته وهزّها ونتف بعضها- وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة- فلمّا دخل على يزيد قبض على لحيته وكانت حينئذ تجوز سرّته وجعل يقول: - «نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي فما بقّى فيها شعرة.» فأمر يزيد بحبسه فى الخضراء، فدخل عليه محمّد بن راشد فقال له: - «أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت فيلقى عليك حجرا فيقتلك؟» قال: - «لا والله ما فطنت لهذا فنشدتك الله إلّا كلّمت أمير المؤمنين فى تحويلي   [1] . فى الطبري (9: 1842) : فرهّبا ابنا له، بدل «فرهّبه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 إلى محبس [1] غير هذا وإن كان أضيق منه.» - «ما غاب عنك من حمقه أكثر [2] ، وما حبسته إلّا لأردّه إلى العراق فيقام للناس وتؤخذ منه المظالم من ماله ودمه.» فأخبرت يزيد. فقال وأمّا منصور بن جمهور فإنّه فتح الخزائن وفرّق فى الناس استحقاتهم وأحسن إلى جميعهم. امتناع نصر بن سيّار لعامل منصور بن جمهور وفى هذه السنة امتنع نصر بن سيّار بخراسان لعامل منصور بن جمهور وكان يزيد بن الوليد [202] قد ولّاها منصورا مع العراق. ذكر الخبر عن ذلك كنّا ذكرنا ما أعدّه نصر من الهدايا وشخوصه متوجّها إلى يوسف بن عمر بالعراق وتباطئه فى سفره حتّى ورد عليه الخبر بقتل الوليد. فحكى بشير بن نافع وكان على سكك العراق قال: لمّا أقبل منصور بن جمهور أميرا على العراق هرب يوسف بن عمر، فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الرىّ، فأقبلت مع منظور إلى الرىّ وقلت: اقدم على نصر فأخبره. لمّا وردت على نصر وأخبرته كان الخبر عنده، فأمر حميدا مولاه أن يحملني إلى عنده، وأكرمنى وأمر لى بجارية [3] . ثمّ دخل إلى نصر قوم فيهم يونس بن عبد الله وعبيد الله بن هشام وسلم بن أحوز، فأرسل إلىّ وقال: أخبرهم.   [1] . محبس: كذا فى الأصل ومط: محبس. فى آ، والطبري (9: 1843) : مجلس. [2] . أكثر: كذا فى آ، ومط والطبري (9: 1843) : أكثر. [3] . بجارية: كذا فى الأصل: بجارية. ما فى آ، ومط والطبري (9: 1846) بجائزة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 فلمّا أخبرتهم كذّبونى فقلت: أستوثق من هولاء. فلمّا مضت ثلاث وكّل بى ثمانين رجلا من الحرس، فأبطأ الخبر إلى الليلة التاسعة، ثمّ جاءهم الخبر ليلة النيروز على ما وصفت، فصرف عامّة تلك الهدايا إلى أربابها وأعتق الرقيق وقسّم روقة [1] الجواري فى ولده [203] وخاصّته، وقسّم تلك الأوانى فى الناس ووجّه العمّال وأمرهم بحسن السيرة. وأرجفت الأزد بخراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان. فخطب نصر وقال فى خطبته: - «إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه.» ثمّ باح به بعد وقال: عدوّ الله المخذول المتبور.» وولّى نصر [2] ربيعة واليمن وولّى كلّ من ظنّ عنده خيرا وأمرهم بحسن السيرة ودعا الناس إلى البيعة وكان نصر ولىّ عبد الملك بن عبد الله السلمى خوارزم فخطبهم وقال فى خطبته: - «والله ما أنا بالأعرابىّ الجلف، ولا القروىّ [3] المستنبط، ولقد كدمتنى الأمور وكدمتها. [4] أما والله لأضعنّ السيف موضعه، و   [1] . روقة الجواري: الروقة: الجميل جدّا من الغلمان والجواري. للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنّى والجمع. روقة الناس: خيارهم وسراتهم. [2] . وولّى نصر ربيعة: كذا فى الأصل ومط والطبري (9: 1847) : وولّى نصر. فى آ: نصر بن ربيعة. [3] . القروىّ: كذا فى الأصل وآ: القروىّ. فى الطبري (9: 1849) : الفزارىّ. [4] . كدمتنى الأمور وكدمتها: كذا فى الأصل. كدمه: عضّه. ما فى الطبري (9: 1849) : كرّمتنى الأمور وكرّمتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 السوط مضربه، والسجن مدخله. ثمّ لتجدنّى غشمشما أعشبى [1] الشجر ولتستقيمنّ لى على الطريقة رقص [2] البكارة فى السّنن الأعظم، ولأصكّنّكم صكّ القطامىّ القطا القارب. [3] » وقوع اختلاف بخراسان وفى هذه السنة وقع الاختلاف بخراسان بين اليمانية والنزارية. وأظهر فيها الكرمانىّ الخلاف لنصر بن سيّار واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته. وفيها [204] أظهر مروان بن محمّد الخلاف وكتب إلى الغمر بن يزيد أخى الوليد بن يزيد كتابا بليغا يأمره بالطلب بدم أخيه الوليد. تولية عبد الله بن عمر العراق وفيها عزل يزيد منصور بن جمهور عن العراق وولّاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان. وكان عبد الله بن عمر هذا متألّها فدعاه يزيد بن الوليد وقال: - «إنّ أهل العراق يميلون [4] إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها.» فلمّا شخص قدّم بين يديه رسلا وكتب إلى قوّاد الشام الّذين بالعراق، وخاف إلّا يسلّم منصور بن جمهور العمل، فانقاد له الكلّ، وسلّم منصور بن   [1] . أعشى الشجر: كذا فى الأصل: أعشى الشجر. فى الطبري (9: 1849) : أغشى الشجر. [2] . رقص البكاره: كذا فى الأصل والطبري (9: 1849) : رقص البكارة. فى آ: بعض البكارة. [3] . وزاد فى الطبري (9: 1849) : يصكّهنّ جانبا فجانبا. [4] . يميلون: كذا فى الأصل. وزاد فى آ: إليك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 جمهور، وانصرف إلى الشام وفرّق عبد الله بن عمر عمّاله وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم. وكتب إلى نصر بعهده على خراسان. وكان المنجّمون ذكروا لنصر أنّ خراسان ستكون بها فتنة. فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقا وذهبا من الآنية التي كان اتّخذها للوليد [1] بن يزيد. وكان أوّل من تكلّم رجل من كندة أفوه طوال فقال: - «العطاء، العطاء.» فلمّا كانت الجمعة، أمر نصر رجلا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم فى المسجد مخافة أن يتكلّم متكلّم، فقام الكندىّ فقال: - «العطاء، العطاء.» وقام مولى للأزد [205] يلقّب أبا الشياطين فتكلّم، وقام آخرون فقالوا: - «العطاء، العطاء.» فقال نصر: - «عليكم بالطاعة والجماعة، اتّقوا الله واسمعوا ما توعظون.» فصعد سلم بن أحوز وهو على المنبر فكلّمه فقالوا: - «ما يغنى كلامك هذا شيئا.» ووثب أهل السوق إلى أسواقهم، فغضب نصر وقال: - «إيّاى والعصبيّة [2] ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا.» ثمّ قال:   [1] . اتخذها للوليد بن يزيد: فى الأصل يشبه أن يكون: للوليد من يزيد. فى الطبري (9: 1856) : للوليد بن- يزيد. فى آ: اتخذها الوليد بن يزيد. [2] . والعصبيّة: وزاد فى آ: وحميّة الجاهليّة، فإنّهما يورثان النفاق، ويعقبان الشقاق، ولا تظالموا فتمقتوا ولا تنازعوا فتفشلوا ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 - «كأنّى بالرجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمّه، فلطم وجهه فى حمل يهدى له، وثوب يكساه، ويقول مولاي وظئرى فأذلّوا هذه السفلة، وكأنّى بهم قد نبغ الشر من تحت أرجلهم. وكأنّى بكم مطرّحين فى الأسواق كالجزر المنحورة، إنّه لم تطل ولاية رجل قطّ إلّا ملّوه. وأنتم يا أهل خراسان مسلحة فى نحر العدوّ، فإيّاكم أن يختلف فيكم سيفان.» فقال الكرماني: - «أنتم فى فتنة، فانظروا لأموركم رجلا.» وإنّما سمّى الكرمانىّ لأنّه ولد بكرمان واسمه جديع بن علىّ بن شبيب المعنىّ. [1] فقالوا: «أنت لنا.» فاجتمعت المضريّة إلى نصر وقالوا له: - «إنّ الكرمانىّ يفسد الناس عليك، فأرسل إليه فاقتله أو فاحبسه.» فقال: «لا، ولكنّ لى ولدا ذكورا وإناثا، وله ولد فأزوّج بنىّ ببناته، وبنيه ببناتى.» [206] قالوا: «ليس ينفع ذلك شيئا.» - «فابعث إليه بمائة ألف فإنّه بخيل ولا يعطى أصحابه شيئا ويعلمون بها فيتفرّقون عنه.» قالوا: «لا، هذه تصير قوّة له.» قال: «فدعوه على حاله يتّقينا ونتّقيه.»   [1] . المعنىّ: كذا فى الأصل والطبري (9: 1858) : المعنىّ. فى آ: المغني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 قالوا: «لا.» [1] وبلغ نصر بأنّ الكرمانىّ يقول: كانت غايتي فى طاعة بنى مروان أن يتقلّد ولدي [2] السيوف فأطلب بثأر بنى المهلّب معما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيّانا بما كان من صنيع أسد إليه. فقال عصمة بن عبد الله الأسدى لنصر: - «إنّها بدئ فتنة، فتجنّ عليه، واحبسه، وأظهر أنّه مخالف، ثمّ اضرب عنقه، وعنق سباع بن النعمان الأزدى، والفرافصة [3] بن ظهير البكرىّ، فانّه لم يزل غضبان على الله، عزّ وجلّ، بتفضيله مضر على ربيعة.» وكثر على نصر الكلام فى أمر الكرمانىّ، حتّى قال له أصرم بن قبيصة: لو أنّ جديعا لم يقدر على السلطان والملك إلّا بالنصرانيّة واليهوديّة، لتنصّر أو لتهوّد.» وكان نصر والكرماني متصافين وكان الكرماني أحسن إلى نصر فى ولاية أسد بن عبد الله، فلمّا ولى نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة، وصيّرها لحرب بن عامر الواشجى. ثمّ مات حرب، فأعاد الكرمانىّ عليها، ولم يلبث إلّا يسيرا حتّى عزله [207] وصيّرها لجميل بن النعمان، فتباعد ما بين نصر والكرمانىّ، فحبس نصر الكرمانىّ فى القهندز، وكان على القهندز مقاتل بن علىّ المرّى [4] ولمّا همّ نصر بحبس الكرمانىّ تكلّم قوم فخاف نصر الفتنة لأنّ الأزد تعصّب له فقال نصر:   [1] . انظر الطبري (9: 1858) حيث فيه بعض الاختلاف فى عبارات الحوار هنا. [2] . فى الطبري (9: 1858) : أن تقلّدنى السيوف. [3] . فى الأصل: فرافصة، بضمّ الفاء وفى الطبري بفتحها. فى آ: مهملة تماما. [4] . المرّى: كذا فى الأصل: المرّى. فى الطبري (9: 1859) : المراءىّ، ويقال: المرّىّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 - «أحلف بالله أنّى أحبسه ثمّ لا ينداه [1] منّى مكروه فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه.» فاختاروا يزيد النحوي وكان معه فى القهندز وصيّر حرسه بنى ناجية. فبيناهم كذلك إذا جاءهم رجل من أهل نسف فقال لغلام الكرمانىّ، يقال له جعفر: - «ما تجعلون لى إن أنا أخرجته؟» قالوا: - «لك ما سألت» . فأتى مجرى الماء فى القهندز، فدخله ووسّعه، وأتى ولد الكرماني وقال لهم: - «أكتبوا إلى أبيكم يستعدّ للخروج الليلة.» فكتبوا إليه وأدخلوا الكتاب مع الطعام فدعا الكرمانىّ يزيد النحوىّ وحصين بن حكيم، فتعشّيا معه وخرجا. ودخل الكرمانىّ السرب، وأخذوا بضبعه [2] فيقال: إنّه انطوت على بطنه حيّة فلم تضرّه، وانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، ثمّ خرج. وكان الكرمانىّ أرسل إلى محمّد بن المثنّى وعبد الملك بن حرملة: [208]- «إنّى خارج الليلة فاجتمعوا بعلطان [3] .» - «فتوافوا على باب الرّيان بن سنان اليحمدى بنوس فى المرج، وكان مصلّاهم فى العيد، وخرج إليهم الناس من قراهم، فصلى بهم الغداة وهم زهاء ألف رجل. فما ترجّلت الشمس حتّى صاروا ثلاثة آلاف، فسار وأتاهم أهل   [1] . لا ينداه: كذا فى الأصل: لا ينداه. فى الطبري (9: 1859) : ينداه. [2] . بضبعه: كذا فى الأصل: بضبعه. فى الطبري: بعضده. الضّبع: الإبط. [3] . بعطلان (بالعين المهملة) : كذا في الأصل. ما في الطبري (9: 1862) : بغلطان (بالغين المعجمة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 السقاذم فأتوا حوزان. وكان الأزد اجتمعوا إلى عبد الملك بن حرملة فبايعوه على الكتاب والسنة قبل خروج الكرمانىّ بليلة. فلمّا اجتمعوا فى مرج نوس أقيمت الصلاة فاختلف عبد الملك والكرمانىّ فى التقدّم ساعة، ثمّ قدّمه عبد الملك وصيّر الأمر له، فصلّى بهم الكرمانىّ. ولمّا أتى نصرا هرب الكرمانىّ استخلف عصمة بن عبد الله الأسدى، وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الرود وخطب الناس، فنال من الكرمانىّ، وذكره بالقبيح [1] ، ثمّ ذكر الأزد فقال: - «إن يستوسقوا فأذلّ قوم وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل: ضفادع فى ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر.» ثمّ ندم على ما فرط منه فقال: - «اذكروا الله فإنّ ذكر الله شفا، ذكر الله خير لا شرّ فيه، [209] ذكر الله براءة من النفاق.» واجتمع إلى نصر بشر كثير فوجّه سلم بن أحوز [2] إلى الكرمانىّ فى المجفّفة وهم خلق كثير فسفر الناس بين نصر والكرمانىّ وسألوا نصرا أن يؤمنه ولا يحبسه. وضمن قومه ألّا يخالفه وأتاه القاسم [3] بن بخيت [4] فكلّمه فيه فآمنه وقال له:   [1] . آ: القبح. وما فى مط كالأصل. [2] . مط: الأحور (بالراء المهملة) . [3] . ضبط الأصل: القسم. وضبطنا يوافق الطبري (9: 1863) . [4] . كذا فى الأصل. فى مط: بخيب. فى الطبري (9: 1863) : نجيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 - «إنّ شئت خرج لك عن خراسان وإن شئت أقام فى داره.» وكان رأى نصر إخراجه فقال له سلم: - «إن أخرجته نوّهت باسمه وقال الناس: أخرجه إنّه هابه.» فقال نصر: - «إنّ الذي أتخوّفه منه إذا خرج أيسر ممّا أتخوّفه منه إذا أقام والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره.» فأبوا عليه، فكفّ عنه وأعطى من كان معه عشرة عشرة. وأتى الكرمانىّ نصرا، فدخل سرادقه فآمنه ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج [1] وهو بالترك. وأتى نصرا عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز. فخطب الناس وذكر ابن جمهور بسوء وقال: - «قد علمت أنّه لم يكن من عمّال العراق وقد عزله الله واستعمل الطّيب بن الطيّب.» فغضب الكرمانىّ لابن جمهور فعاد فى جمع الرجال واتخاذ السلاح، وكان يحضر الجمعة فى ألف وخمسمائة وأكثر [210] وأقلّ، فيصلّى خارجا من المقصورة ثمّ يدخل على نصر، فيسلّم عليه ولا يجلس. ثمّ ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف. فأرسل إليه نصر سلم بن أحوز وقال: - «إنّى والله ما أردت بك فى حبسك سوءا، ولكنّى خفت أن تفسد أمر الناس فأتنى.» فقال الكرمانىّ لسلم: - «لولا أنّك فى منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك لأحسنت أدبك.   [1] . مط وآ: شريح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 فارجع إلى ابن الأقطع فأعلمه ما شئت من خير وشر.» فرجع إلى نصر فأخبره. قال: - «عد إليه.» قال: - «لا وما بى هيبة له، ولكن [أكره] [1] أن يسمعني فيك ما أكره.» فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسدىّ فقال: - «يا با علىّ، إنّى أخاف عليك خصالا فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك وما يريد بذلك إلّا الإعذار إليك.» فقال الكرمانىّ: - «إنّى أعلم أنّ نصرا لم يقل هذا لك ولكنّك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلّمك كلمة بعد انقضاء كلامي حتّى ترجع إلى أميرك [2] فيرسل من أحبّ غيرك.» فرجع عصمة فقال: - «ما رأيت علجا أعدى لطوره من الكرمانىّ، وما أعجب منه ولكنّى أعجب من يحيى بن حصين وأصحابه لعنهم الله والله لهم أشدّ تعظيما له من أصحابه.» فقال سلم بن أحوز لنصر: - «إنّى أخاف فساد [211] هذا الثغر والناس.» فأرسل إليه قديدا فقال نصر لقديد بن منيع: - «انطلق إليه.» فأتاه فقال:   [1] . زدناها من آ، والطبري (9: 1864) . [2] . فى الطبري (9: 1865) : إلى منزلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 - «يا با علىّ قد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعا وتشمت بنا هذه الأعاجم.» قال: - «يا قديد، إنّى لا أتّهمك، وقد جاء من لا أثق معه بنصر. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه: البكرىّ أخوك ولا تثق به.» قال: - «أما وقد وقع هذا فى نفسك فأعطه رهنا.» قال: - «أعطيه عليّا وعثمان فمن يعطيني ولا خير فيه؟» فقال: - «يا با علىّ نشدتك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك.» ورجع إلى نصر. فقال نصر لعقيل بن معقل الليثي: - «ما أخوفنى أن يقع بهذا الثغر بلاء فكلّم ابن عمّك.» فقال عقيل لنصر: - «أيّها الأمير. أنشدك الله أن تشأم عشيرتك. إنّ مروان بالشام تقاتله الخوارج والناس فى فتنة، والأزد أخفّاء سفهاء، وهم جيرانك.» قال: - «فما أصنع إن علمت أمرا يصلح الناس فدونك وقد زعم أنّه لا يثق بى.» قال: فأتى عقيل الكرمانىّ فقال: - «يا با علىّ قد سننت للسفهاء سنّة تطلب بعدك من الأمراء. إنّى أرى أمرا أخاف أن تذهب فيه العقول.» قال الكرمانىّ: - «إنّ نصرا يريد أن آتيه ولا آمنه، وأريد أن يعتزل [212] ونعتزل، و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 نختار رجلا من بكر بن وائل نرضاه جميعا، فيلي أمرنا حتّى يأتى أمر الخليفة وهو يأبى هذا.» قال: - «يا با علىّ إنّى أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر فأت أميرك وقل ما شئت تجب إليه ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوا فيه.» فقال الكرمانىّ: - «إنّى لا أتّهمك فى نصيحة ولا عقل ولكنّى لا أثق بنصر، فليحمل من المال ما شاء وليشخص.» قال: - «فهل لك فى أمر يجمع الأمر بينكما، تتزوّج إليه ويتزوّج إليك؟.» قال: - «لا آمنه على حال.» قال: - «ما بعد هذا خير وإنّى لخائف أن يهلك غدا بمضبعة.» قال: - «لا حول ولا قوّة إلّا بالله.» فقال له عقيل: - «أعود إليك؟» قال: - «لا ولكن أبلغه عنّى وقل له لا آمن أن يحملك قوم من أمرى على غير ما تريد فتركب منّا ما لا بقيّة [1] بعده. فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة وأسفك الدماء.» وتهيّأ ليخرج إلى جرجان.   [1] . بقية: فى الأصل غموض، وما أثبتنا من الطبري (9: 1866) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وفى هذه السنة آمن يزيد بن الوليد الحراث بن سريج وكتب له بذلك وكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره بردّ ما كان أخذ منه من ماله وولده. [213] ذكر السبب فى ذلك إنّ الفتنة لمّا وقعت بخراسان بين نصر والكرمانىّ خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك فيكون أمره أشدّ عليه من الكرمانىّ وغيره وطمع أن يناصحه فأرسل إليه مقاتل بن حيّان النبطي وثعلبة بن صفوان البنانىّ وجماعة ليردّه من بلاد الترك. وقيل: إنّ قوما خرجوا إلى يزيد بن الوليد فطلبوا منه أمانا للحارث بن سريج فكتب له أمانا ولمن معه وأمر نصرا بردّ ما كان أخذ له ولأصحابه. ثمّ نفذ القوم إلى الحارث فلقوا مقاتل بن حيّان وأصحابه الذين وجّههم نصر إلى الحارث وأقبل الحارث يريد مرو وكان مقامه بأرض الترك اثنتى عشرة سنة. فيقال: إنّ نصرا كتب إلى الحراث من غير إذن الخليفة فكتب إليه ابن عمر: - «إنّك آمنت الحارث بغير إذنى ولا إذن الخليفة. [1] » فسقط فى يديه فبعث يزيد بن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه فى السفينة. وفى هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمّد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان وبعث معه [214] بالسيرة والوصيّة فقدم بمرو وجمع النقباء ومن بها من الدعاة. فنعى إليهم الإمام محمّد بن علىّ، ودعاهم إلى إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة.   [1] . فى مط: ولا أمن الخليفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 ولاية عهد ابراهيم الوليد وفى هذه السنة أخذ يزيد بن الوليد البيعة لأخيه إبراهيم بن الوليد وجعله ولّى عهده ولعبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك من بعد إبراهيم بن الوليد. ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أنّ يزيد مرض فاجتمع إليه القدريّة وكان يرى رأيهم وأشاروا عليه بذلك وقالوا: - «لا يحلّ لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك.» حتّى بايع لإبراهيم وعبد العزيز من بعده. وفى هذه السنة أظهر مروان بن محمّد بن مروان الخلاف على يزيد بن الوليد وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة مظهرا أنّه طالب بدم الوليد بن يزيد. فلمّا صار بحرّان [1] بايع ليزيد. ذكر السبب فى خلاف مروان ثمّ دخوله فى الطاعة ومبايعته لمّا بلغ مروان قتل الوليد أقبل يريد الجزيرة وكان ابنه عبد الملك بن مروان بن محمّد [215] قد وثب على حرّان [2] ومدائن الجزيرة فضبطها وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم. فتهيّأ مروان للمسير وأظهر أنّه يطلب بدم الوليد وكره أن يدع الثغر معطّلا فوجّه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيلي وهو رأس قيس وثابت بن نعيم الجذامىّ وهو   [1] . فى مط: بخراسان. [2] . فى مط: خراسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 رأس اليمن وكان سبب صحبة ثابت إيّاه أنّ مروان كان خلّصه من حبس هشام وأحسن إليه وحباه. فلمّا كتب مروان إلى أهل الباب على أيديهما وحمل معهما إليهم أعطياتهم ورغّبهم فى الجهاد، ثبتوا. ثمّ بلغه أنّ ثابتا كان يدسّ إلى قوّاده بالانصراف إلى ثغرهم واللحاق بأجنادهم فلمّا انصرف [1] إليه تهيّأ مروان للمسير وعرض جنده فدسّ ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشام بالانخزال عن مروان والانضمام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم فتولّى أمرهم فانخزلوا عن عسكر مروان ليلا وعسكروا على حدة، فبات ليلته ومن معه فى السلاح يتحارسون حتّى أصبح. ثمّ خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون من مع مروان. فصافّوهم ليقاتلوهم فأمر مروان مناديين فبرزا بين الصفّين [216] فنادوهم [2] : - «يا أهل الشام ما دعاكم إلى الاعتزال وما الذي نقمتم علىّ ألم ألكم بما تحبّون وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم؟» فأجابوه ب [قولهم] : - «إنّا إنّما كنّا نطيعك بطاعة خليفتنا فقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشام يزيد بن الوليد فرضينا بولاية ثابت ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتّى نردّ أجنادنا.» فأمر مناديه فنادى: - «أن قد كذبتم وليس تريدون الذي قلتم وإنّما أردتم أن تركبوا رؤوسكم فتغصبوا من مررتم به من أهل الذّمة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم. وما بيني و   [1] . فى آوالطبري (9: 1872) : انصرفا [2] . كذا فى الأصل ومط: فنادوهم (بصيغة الجمع) . فى آ: فناداهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 بينكم إلّا السيف حتّى تنقادوا إلىّ، فأسير بكم حتّى أوردكن الفرات، ثمّ أخلّى عن كلّ قائد وجنده حتّى يلحقوا بأجنادهم. [1] » فلمّا الجدّ منه انقادوا له، ومالوا إليه، وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده وهم أربعة رجال [2] فأمر بهم، فأنزلوا عن فيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع فى أرجلهم السلاسل، ووكّل بهم عدّة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة الجند من أهل الشام والجزيرة، وضمّهم إلى عسكره، وضبطهم فى مسيره، فلم يقدر أحد منهم على أن يشذّ ولا أن يظلم [217] أحدا من أهل القرى ولا يرزأه [3] شيئا إلّا بثمن حتّى ورد حرّان. ثمّ أمرهم باللحاق بأجنادهم وحبس ثابتا معه ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض ففرض لستّة [4] وعشرين ألفا من أهل الجلد منهم وتهيّأ للمسير إلى يزيد. فكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليّه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمّد بن مروان من الجزيرة وأرمينية والموصل وآذربيجان. فبايع له بحرّان [5] ووجّه إليه بنفر من وجوه الجزيرة. موت يزيد بن الوليد وفى هذه السنة مات يزيد بن الوليد وكانت وفاته سلخ ذى القعدة [6] سنة ست وعشرين ومائة. فكانت خلافته ستّة أشهر. واختلف فى مبلغ سنّه فقيل نيّف وثلاثون [7] وقيل نيّف وأربعون [8] . وكان أسمر طويلا صغير الرأس   [1] . فى الطبري (9: 1873) : فتلحقون بأجنادكم. [2] . وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران (الطبري 9: 1873) . [3] . رزأ الرجل ماله: أصاب منه شيئا مهمّا. [4] . فى الطبري (9: 1873) : لنيّف. [5] . فى الطبري (9: 1873) : مروان [6] . فى الطبري (9: 1873) : ذى الحجّة. [7] . فى الأصل: ثلاثين. [8] . فى الأصل: أربعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 جميلا وإنّما سمّى الناقص فى قول أكثر الناس لأنّه نقصهم أعطياتهم التي كان الوليد زادها الناس. وقال بعضهم إنّما سمّى الناقص لأنّ مروان بن محمّد سبّه فقال: الناقص بن الوليد. فسمّى الناقص. ثمّ كان إبراهيم غير أنّه لم يتمّ له أمر وسلّم عليه جمعة [9] بالخلافة. وجمعة بالإمرة وجمعة لا بالخلافة ولا بالأمرة. فكان على ذلك [أمره] حتى قدم مروان بن محمّد [218] فخلعه وقتل عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك. ودخلت سنة سبع وعشرين ومائة مسير مروان إلى الشام فسار مروان بن محمّد إلى الشام فى جند الجزيرة وخلف ابنه عبد الملك فى أربعة آلاف بالرقّة. فلمّا انتهى إلى قنّسرين وبها أخ ليزيد بن الوليد يقال له بشر، كان ولّاه قنّسرين، فخرج إليه وصافة، وتنادى الناس، ودعاهم مروان إلى بيعته. فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة فى القيسيّة، وأسلموا بشرا وأخا له يقال له مسرور، فأخذهما مروان وحبسهما وسار متوجّها إلى حمص وكان أهل حمص قد امتنعوا حين مات يزيد أن يبايعوا إبراهيم. فوجّه إليهم إبراهيم [10] عبد العزيز بن الحجّاج فى جند أهل دمشق فحاصرهم فى مدينتهم وأغذّ مروان السير، فلمّا دنا من مدينة حمص رحل عبد العزيز عنهم وخرجوا إلى مروان فبايعوه وساروا بأجمعهم معه. ووجّه إبراهيم بن الوليد الجيوش مع سليمان بن هشام فسار بهم حتّى نزل عين الجرّ فى عشرين ومائة ألف وأتاه مروان فى نحو من ثمانين ألفا فدعاهم   [9] . جمعه: زيادة من آوالطبري (9: 1875) . [10] . آ: ابراهيم بن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 مروان إلى الكفّ عن قتاله والتخلية عن ابني الوليد [219] الحكم وعثمان وكانا فى سجن دمشق وضمن لهم عنهما ألّا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما ولا يطلبا أحدا ممّن ولى قتله. فأبوا عليه وجدّوا فى قتاله، فاقتتلوا ما بين ضحوة النهار إلى العصر واستحرّ القتل وكثر فى الفريقين. وكان محربا [1] مكايدا، فدعا ثلاثة نفر من قوّاده أحدهم أخ لإسحاق بن مسلم، فأمرهم بالمسير خلف صفّه فى خيلهم وهم ثلاثة آلاف، ووجّه معهم فعلة بالفؤوس وقد ملأ الصفّان من أصحابه وأصحاب سليمان ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر خرّار. وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر فيعقدوا جسورا فيجيزوا إلى عسكر سليمان ويغيروا فيه فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلّا بالخيل والبارقة [2] والتكبير فى عسكرهم من خلفهم فلمّا رأوا ذلك انكسروا وكانت هزيمتهم. ووضع أهل حمص السلاح فيهم، فقتلوا منهم نحوا من سبعة عشر ألفا، وكفّ أهل الجزيرة وأهل قنّسرين عن قتلهم، وأتوا مروان من أسراهم بمثل عدّة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم فأخذ مروان عليهم العهد للغلامين: الحكم وعثمان، وخلّى عنهم بعد أن قوّاهم بدينار [220] دينار وألحقهم بأهاليهم. ومضى سليمان ومن معه من الفلّ حتّى صبّحوا دمشق واجتمع إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بن الحجّاج رؤوس [من] [3] معهم فقال بعضهم لبعض: - «إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتّى يقدم مروان فيخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدا من قتلة أبيهما والرأى أن نقتلهما.»   [1] . فى الطبري (9: 1877) : فجرّبا. [2] . البارقة: السيوف. [3] . من: زيادة من الطبري ليست لا فى الأصل ولا فى مط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 فولّوا ذلك يزيد بن خالد ومعهما فى الحبس أبو محمّد السفياني ويوسف بن عمر. فأرسل يزيد مولى لخالد يكنّى أبا الأسد فى عدّة من أصحابه فدخل السجن، فشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه وأرادوا أبا محمّد ليقتلوه فدخل بيتا من بيوت السجن فأغلقه وألقى خلفه المتاع [1] واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه ودعوا بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها حتّى قيل قد دخلت خيل مروان المدينة. وهرب إبراهيم بن الوليد وتغيّب، ونهب سليمان ما كان فى بيت المال من المال وقسمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة. وفى هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بن [221] معاوية بن عبد الله بن جعفر بن ابى طالب بالكوفة وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان فهزمه عبد الله بن عمر فلحق بالجبال وتغلّب عليها. ذكر سبب خروج عبد الله بن معاوية وطمعه فى الخلافة كان سبب خروجه أنّه قدم الكوفة زائرا لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز يلتمس صلته ولا يطمع فى غيرها. فلمّا وقعت العصبيّة قال له أهل الكوفة: - «أدع إلى نفسك فبنو هاشم أولى بالأمر من بنى مروان لا سيّما وقد اختلفوا.» فدعا سرّا بالكوفة وابن عمر بالحيرة وبايعه قوم وكان فيهم ابن ضمره: الخزاعي فدسّ إليه ابن عمر فأرضاه. فأرسل إليه:   [1] . الفرش والوسائد (الطبري 9: 1879) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 - «إذا نحن التقينا انهزمت بالناس.» وبلغ ابن معاوية فلمّا التقى الناس قال ابن معاوية: - «إنّ ابن ضمرة قد غدر ووعد ابن عمر أن ينهزم بالناس فلا يهولنّكم انهزامه فإنّه عن غدر ما يفعل.» فلمّا اقتتلوا [1] انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق مع ابن معاوية أحد فرجع ابن معاوية إلى الكوفة [222] ثمّ خرج ومعه نفر، فغلب على حلوان، ثمّ على همذان والرىّ وإصفهان.   [1] . فى الطبري (9: 1880) : التقوا. بدل: اقتتلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 خلافة مروان بن محمد وفى هذه السنة بويع لمروان بن محمّد بدمشق بالخلافة. وقد ذكرنا ما كان من هرب إبراهيم وأنّ سليمان انتهب ما كان فى بيت المال وفرّقه فى جنده ودخل مروان دمشق وأتى بالغلامين مقتولين وبيوسف [1] بن عمر فأمر بهم فدفنوا وأتى بأبى محمّد فى كبوله فسلّم عليه بالخلافة ومروان يسلّم عليه يومئذ بالإمرة فقال له: «مه» فقال أبو محمد: - «إنّهما جعلاها لك بعدهما.» وكانا قد بلغا أبا الحكم. وهو أكبرهما، وكان قد ولد له وأمّا الآخر فكان قد احتلم قبل ذلك بسنتين فأنشده شعرا قاله الحكم: ألا من مبلغ مروان عنّى ... وعمّى الغمر، [2] من كبدي حنينا بأنّى قد ظلمت وصار قومي ... على قتل الوليد متابعينا أيذهب كلبهم بدمى ومالي ... فلا غثّا أصبت ولا سمينا   [1] . فى الأصل وآ، ومط: ويوسف. [2] . الغمر: بتثليث الغين: من لم يجرّب الأمور. الجاهل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 ومروان بأرض بنى نزار ... كليث الغاب مفترشا عرينا ألم يحزنك قتل فتى قريش ... وشقّهم عصا للمسلمينا [223] ألا فاقرا السّلام على قريش ... وقيس بالجزيرة أجمعينا وسار الناقص القدرىّ فينا ... وألقى الحرب بين بنى أبينا فلو شهد الفوارس من سليم ... وكعب، لم أكن لهم رهينا ولو شهدت ليوث بنى تميم ... لما بعنا [1] تراث بنى أبينا أينكث بيعتي من أجل أمّى ... فقد بايعتم بعدي هجينا فليت خؤولتى فى غير كلب ... وكانت فى ولادة آخرينا فإن أهلك أنا ووليّى عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا ثمّ قال: - «ابسط يدك أبايعك.» وسمعه من تبع مروان من أهل الشام. فكان أوّل من نهض معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير، وتبعه الناس فبايعوه. فلمّا استوت لمروان بن محمّد الشام انصرف إلى منزله من حرّان [2] وطلب منه الأمان إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فآمنهما. فقدم عليه سليمان وكان يتذمّر فى إخوته وأهل بيته ومواليه فبايعوا مروان. وفى هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشام. [224] ذكر السبب فى ذلك كان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، كان يراسلهم، ويكاتبهم ومروان   [1] . فى الأصل غموض. وفى آومط إهمال. وما أثبتناه يوافق الطبري (9: 1891) . [2] . فى الطبري (9: 1892) : بحرّان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 بحماة [1] ليس بينه وبين مدينة حمص إلّا ثلاثون ميلا. فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجدّ فى السير، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع وسليمان بن هشام. كان آمنهما وكان يكرمهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه ويسيران معه فى موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين وقد ردم القوم أبوابها من داخل، فأحدقت خيله بالمدينة ووقف حذاء باب [2] منها، فأشرفت عليه جماعة من الحائط. فناداهم مناديه: - «ما دعاكم إلى النكث؟» قالوا: - «فإنّا على طاعتك لم ننكث.» فقال لهم: - «إن كنتم على ما تذكرون فافتحوا.» ففتحوا له الباب فاقتحم عمرو بن الوضّاح فى الوضّاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف. فقاتلوهم داخل المدينة. ثمّ كثرتهم خيل مروان، فخرجوا من باب من أبواب المدينة فقاتلهم داخل المدينة من كان عليه، فقتل عامّتهم وأسر منهم قوم، فأتى بهم مروان فقتلهم. ثمّ أمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستّمائة فصلبوا حول المدينة [225] وهدم من حائط مدينتها نحو غلوة، [3] وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسرىّ. وثبت زامل مع أهل المدينة، فوجّه إليهم مروان بن حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث وعمرو بن الوضّاح فى عشرة آلاف. فلمّا دنوا من المدينة حملوا عليهم وخرج من فى المدينة فحملوا عليهم فهزموهم واستباحوا عساكرهم ولجأ يزيد بن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من   [1] . فى الأصل وآ، ومط: بحمه، فضبطناها حسب الطبري (9: 1893) . [2] . فى آ: «مات» بدل: «باب» . [3] . الغلوة: أقصى الغاية لرمي السهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 أهل مزّة فدلّ عليهما زامل فأرسل إليهما فقتلا وبعث برأسيهما إلى مروان بحمص. وخرج ثابت بن نعيم فى أهل فلسطين حتّى أتى طبرية، فحاصر أهلها فقاتلوه [1] أيّاما. وكتب مروان إلى أبن الورد أن يشخص إليهم، ورحل من حمص إلى دمشق بعد أيّام. فلمّا بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم وانصرف ثابت منهزما إلى فلسطين. فجمع قومه وجنده ومضى إليه أبو الورد، فهزمه ثانية وتفرّق من معه، وأسر ثلاثة من ولده وهم نعيم وبكر وعمران. فبعث بهم إلى مروان، فقدم بهم عليهم وهو بدير أيّوب جرحى، فأمر بمداواتهم. وتغيّب ثابت وأفلت [226] من ولده رفاعة بن ثابت وكان أخبثهم، فلحق بمنصور بن جمهور بالسند فأكرمه وولّاه وخلّفه مع أخ له يقال له منظور بن جمهور فوثب عليه فقتله فبلغ منصورا وهو متوجّه إلى الملتان وكان أخوه بالمنصورة فرجع إليه وظفر به فبنى له أسطوانة من آجرّ مجوّفة، وأدخله فيها وسمّره إليها وبنى عليه. وكتب مروان إلى واليه على فلسطين وهو الرماحس [2] فى طلب ثابت والتلطّف له. فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر فأتى به مروان بعد شهرين فأمر به وببنيه الذين كانوا فى يديه فقطعت أيديهم وأرجلهم. ثمّ حملوا إلى دمشق وأقيموا على باب مسجدها، لأنّهم كانوا يرجفون بثابت ويقولون: أتى مصر فغلب عليها وقتل عامل مروان بها. وأقام مروان بدير أيّوب حتّى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله واستقامت له   [1] . آ: فقاتلهم. [2] . آ: رماجس. والأصل والطبري متفقان (9: 1895) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 الشام كلّها ما خلا تدمر. وأمر بثابت وبنيه الذين قطعوا، فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق. وسار حتّى نزل القسطل من أرض حمص ممّا يلي تدمر وبينهما مسيرة ثلاثة أيّام وبلغه أنّهم عوّروا ما بينه وبينها من الآبار وطمّوها [227] بالصخر، فهيّأ المزاد والقرب والعلف والإبل له ولمن معه. فكلّمه الأبرش بن الوليد وسليمان بن هشام وغيرهما، وسألوه أن يعذر إليهم. فأجابه، ووجّه الأبرش إليهم أخاه، وكتب إليهم يحذّرهم ويعلمهم أنّه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه. فسأله الأبرش أن يأذن له فى التوجّه إليهم ويؤجّله أيّاما ففعل وأتاهم وكلّمهم وأعلمهم أنّهم حمقى ولا طاقة لهم به وبمن معه. فأجابه عامّتهم وهرب من لم يثق به منهم. فكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان أن: - «اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلىّ بمن تابعك.» [1] ففعل وقدم عليه بالرصافة. ثمّ شخص إلى الرقّة ومضى حتّى نزل عند واسط على شاطئ الفرات فأقام ثلاثا. ثمّ مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها ليقدّمه إلى العراق لمحاربة الضحّاك بن قيس الشيبانى الحروري وكان خرج محكّما. وأقبل جماعة نحو عشرة آلاف ممّن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيّوب لغزو العراق مع قوّادهم، حتّى حلّوا بالرّصافة. فدعوا [228] سليمان إلى خلع مروان ومحاربته. وفى هذه السنة دخل الضّحك بن قيس الشيبانى الكوفة. ذكر السبب فى خروج الضحّاك وقوّته [1] حتّى دخل الكوفة   [1] . تابعك: كذا فى الأصل وآ، ومط. ما فى الطبري (9: 1896) : بايعك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 يقال: إنّ سبب خروج الضحّاك أنّه كان خرج بالجزيرة حرورىّ يقال له: سعيد بن بهدل الشيبانى، فى مائتين من أهل الجزيرة فيهم الضحّاك، وقتل الوليد فى تلك الأيّام فاغتنم ذلك واشتغال مروان بالشام، فخرج فى أرض بكفرتوثا وخرج بسطام البيهسى وهو مفارق لرأيه فى مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه. فلمّا تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبري وهو أحد قوّاده وهو الذي هزم مروان فى نحو من مائة وخمسين فارسا ليبّيته، فانتهى إلى عسكره وهم غارّون وقد أمر كلّ رجل منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلّل به دابّته [2] ليعرف بعضهم بعضا فكبّروا فى عسكره وقتلوا بسطاما وجميع من معه إلّا أربعة عشر رجلا ثمّ مضى فلحقوا بمروان فكانوا معه وأثبتهم وولّى [229] عليهم رجلا منهم يكنّى أبا النعثل. ثمّ مضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتت الأمر بها واختلاف أهل الشام وقتال بعضهم بعضا مع عبد الله بن عمر والنضر [3] بن سعيد الحرشي. وكانت اليمانية من أهل الشام مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضريّة مع ابن الحرشي بالكوفة، فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشية. فمات سعيد بن بهدل فى وجهه ذلك من طاعون أصابه. واستخلف الضحّاك بن قيس من بعده، فاجتمع مع الضحّاك نحو من ألف. ثمّ توجّه إلى الكوفة ومرّ بأرض الموصل فاتّبعه منها ومن السواد نحو من ثلاثة آلاف وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشي ومعه المضريّة وبالحيرة   [1] . فى آ، ومط: قومه. [2] . دابّته. ما فى الطبري (9: 1898) : رأسه. [3] . سقطت من آ: «النضر» إلى «بن عمر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 عبد الله بن عمر فى اليمانية فهم متعصّبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة. وكان سبب قتال عبد الله بن عمر النضر بن سعيد الحرشي أنّ مروان ولّى النضر العراق وعزل عبد الله بن عمر فأبى عبد الله أن يسلّم وقاتل النضر ووجد أعوانا من اليمانية للعصبيّة التي بينهم وبين المضريّة. فلمّا دنا الضحّاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر [230] والحرشىّ وصار أمرهما واحدا ويدا على قتال الضحّاك، وخندقا ومعهما يومئذ من أهل الشام نحو من ثلاثين ألفا لهم قوّة وعدّة ومعهم قائد من أهل قنّسرين يقال له، عبّاد بن العزيل، [1] فى ألف فارس قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشي فبرزوا لهم فقاتلوهم فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن عبّاس الكندي وهزموهم أقبح هزيمة. ولحق عبد الله بن عمر فى جماعتهم بواسط، وتوجّه ابن الحرشىّ، وجماعته المضريّة، وإسماعيل بن عبد الله القسرىّ، إلى مروان واستولى الضحّاك بن قيس والحروريّة على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد. ثمّ استخلف الضّحاك رجلا من أصحابه يقال له: ملحان، على الكوفة فى مائتي فارس ومضى فى أصحابه إلى عبد الله بن عمر بواسط، فحاصره بها، وكان عبد الله بن عمر يأمل أن يقتل مروان لحديث سمعه وهو: - «إنّ عين بن عين بن عين، يقتل ميم بن ميم بن ميم.» فكان يروى هذا الحديث ويظنّه هو حتّى تبيّن بعد ذلك فقتله عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب [2] . فذكر أنّ أصحاب ابن عمر لمّا انهزموا فلحقوا بواسط، [231] قالوا لابن عمر:   [1] . فى الطبري (9: 1899) : الغزيل (بالغين المعجمة) . [2] . فأصبحت العينات خمسا وهي فى هذا الحديث ثلاث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 - «علام تقيم، قد هرب الناس؟» قال: - «أتلوّم وأنظر.» فأقام يوما أو يومين لا يرى إلّا هاربا قد امتلأت قلوبهم رعبا من الخوارج. فأمر عند ذلك بالرحيل إلى واسط وجمع خالد بن العزيل أصحابه، فلحق بمروان وهو بالجزيرة مقيم. ونظر عبيد الله بن العبّاس الكندي إلى ما لقي الناس فلم يأمن على نفسه فجنح إلى الضحّاك فبايعه وكان فى عسكره. فقال أبو عطاء السندي يعيّره باتباعه الضحّاك وقد قتل أخاه: فقل [1] لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحىّ لم يجنح وأنت قتيل ولم يتبع المرّاق والثّار فيهم ... وفى كفّه عضب الذّباب صقيل إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ... أباك فماذا بعد ذاك تقول فلمّا بلغ عبيد الله هذا البيت قال: - «أقول: أعضّك الله ببظر أمّك.» وأقام عبد الله بن عمر يقاتل الضحّاك أيّاما فاقتتلوا فى بعض الأيّام واشتدّ قتالهم. فشدّ منصور بن جمهور على قائد من قوّاد الضحّاك عظيم القدر فى الشراة يقال له: عكرمة، من بنى شيبان فضرب فقطّه باثنين، فقتله. ثمّ إنّ [232] منصورا قال بعد ذلك وقد لقى جهدا لابن عمر: - «ما رأيت فى الناس مثل هولاء قطّ- يعنى الشراة- فلم تحاربهم أنت وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا واجعلهم بينك وبين مروان. فإنّك إن   [1] . فى الأصل: قل. وما أثبتناه يوافق مط والطبري (9: 1904) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 أعطيتهم الرضا خلّوا عنك ومضوا إلى مروان فكان حدّهم وبأسهم به وأقمت أنت مستريحا بموضعك هذا فإن ظفروا به كان ما أردت، وكنت عندهم آمنا، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته جامّا مستريحا مع أنّ أمره معهم سيطول.» فقال ابن عمر: - «لا تعجل حتّى نتلوّم وننظر.» فقال: - «أىّ شيء ننتظر؟ فو الله ما نستطيع أن نطلع معهم ولا نستقرّ. فإن خرجنا إليهم لم نقم لهم فواقا فما الذي ننتظر ومروان فى راحة وقد كفيناه حدّهم وشغلناهم عنه وهو يتربّص بنا وبهم. أمّا أنا فخارج إليهم ولا حق بهم ومعطيهم الرضا.» قال: فخرج فواقف حيال صفّهم وناداهم: - «إنّى خارج أريد أن أسلم وأسمع كلام الله.» قال: وهي محنتهم فلحق بهم وبايعهم وقال لهم: - «قد أسلمت.» فدعوا لهم بغذاء فتغذّى معهم وتحرّم. ثمّ خرج إليهم [233] عبد الله بن عمر أيضا فى شوّال فبايعهم. خلع مروان بن محمد وفى هذه السنة خلع سليمان بن هشام بن عبد الملك، مروان بن محمّد بن مروان، ونصب له الحرب. [1]   [1] . فى آ: «الحرث» بدل: الحرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 لمّا شخص مروان من الرصافة إلى الرقّة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحّاك بن قيس الشيبانى استأذنه سليمان بن هشام فى المقام أيّاما لإجمام ظهره وإصلاح أمره. فأذن له ومضى مروان، فجاء إلى سليمان نحو من عشرة آلاف ممّن كان مروان قطع عليهم البعث لغزو العراق مع قوّادهم حتّى حلّوا بالرّصافة، ودعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته وقالوا: - «أنت أرضى عند أهل الشام منه وأولى بالخلافة.» فاستزلّه الهوى فأجابهم، وخرج إليهم بإخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم، وسار بجميعهم إلى قنّسرين، وكاتب أهل الشام فانقضّوا إليه من كلّ وجه وجند. فعاد [1] مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفا إليه وكتب إلى ابن هبيرة يأمره بالثبوت فى عسكره واجتمع من كان بالهنيء من موالي سليمان [234] وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريهم وغلقوا الأبواب دونه. فأرسل إليهم: - «لم خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتمونى من العهود ومن المواثيق؟» فردّوا على رسله: - «إنّا مع سليمان كنّا ومع سليمان نحن.» فردّ إليهم: - «فإنّى أنذركم أن تعرضوا لأحد ممّن يتبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فاحذروا ألّا تحلّوا [2] بأنفسكم، فلا أمان لكم حينئذ عندي.»   [1] . فى الطبري: «غادر» بدل «عاد» . [2] . آ: تخلّوا. (بالخاء المعجمة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 فأرسلوا إليه: - «إنّا سنكفّ.» ومضى مروان [1] ، وجعلوا يخرجون من حصنهم فيغيرون على من اتّبعه من أخريات الناس وشذّان [2] الجند فيسلبونهم خيولهم وسلاحهم. وبلغه ذلك فتحرّق عليهم غيظا، فاجتمع إلى سليمان نحو من سبعين ألفا. فلمّا دنا منه مروان قدّم إليه السكسكي فى سبعة آلاف، ووجّه مروان عيسى بن مسلم فى نحو من عدّتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين واقتتلوا قتالا شديدا، ثمّ التقى السكسكي وعيسى وكلّ واحد منهما فارس بطل، فاطّعنا حتّى تقصّفت الرماح، ثمّ صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي عيسى على مقدم فرسه فسقط لجامه وجال به فرسه فاعترضه السكسكي فضربه بالعمود [235] فصرعه ثمّ نزل إليه فأسره، وبارز [3] غيره فأسره، وانهزمت مقدمة مروان، وبلغه الخبر وهو فى مسيره فمضى وطوى على تعبئة ولم ينزل حتّى انتهى إلى سليمان وقد تعبّأ وتهيّأ لقتاله فلم يناظره حتّى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه واتبعتهم خيوله يقتلهم ويأسرهم حتّى انتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه. ووقف مروان موقفا، وأمر ابنيه حتّى وقفا موقفين آخرين، وأمر كوثرا صاحب شرطته فوقف فى موضع آخر، ثمّ أمرهم ألّا يؤتوا بأسير إلّا قتلوه، إلّا أن يكون عبدا مملوكا. فأحصى قتلاهم يومئذ فزاد على ثلاثين ألفا. قتل ابن لسليمان يقال له إبراهيم وهو أكبر ولده. وأتى بخال لهشام بن عبد الملك يقال له خالد وكان بادنا كثير اللحم فأدنى إليه وهو كالّ متعب يلهث فقال:   [1] . آ: مروان بن محمد. [2] . شذّان الجند: متفرّقوهم. [3] . آ: بارزه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 - «أى [1] فاسق، أما كان لك فى خمر المدينة وقيانها ما يكفّك عن الخروج مع الحرّاء [2] تقاتلني؟» قال: - «يا أمير المؤمنين، أكرهنى فأنشدك الله والرحمن.» قال: - «وتكذب أيضا. كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك فى عسكره؟» صمّ أمر به فقتل. وادّعى كثير من الأسراء أنّهم [236] رقيق، فكفّ عن قتلهم وأمر ببيعهم مع ما بيع ممّا أصيب فى معسكرهم. ومضى سليمان مفلولا حتّى انتهى إلى حمص، فانضمّ إليه من أفلت، فعسكر بها وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من سورها، ووجّه مروان يوم هزمه خيلا إلى الكامل جريدة ووصّاهم أن يسبقوا كلّ خبر حتّى يحدقوا به. ثمّ أقبل مروان نحوهم حتّى نزل معسكره من واسط ثمّ راسلهم بأن: - «انزلوا على حكمى.» فقالوا: - «لا حتّى تؤمننا بأجمعنا.» فنصب عليهم المجانيق، [3] فلمّا تتابعت عليهم نزلوا على حكمه فمثل بهم. وكانت عدّتهم نحو ثلاثمائة. ثمّ عاد إلى ناحية سليمان بحمص فلمّا دنا منهم اجتمعوا إلى سليمان وقال بعضهم لبعض بحضرته: - «حتّى متى ننهزم من مروان؟ هلموا، فلنبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتّى نقتله أو نموت جميعا.»   [1] . الضبط فى الأصل «أى» بكسر الهمزة مع أنّ «أى» هنا للنداء لا للجواب. [2] . فى الطبري (9: 1910) : الخرّاء (بالخاء المروحمة) . [3] . فى الطبري (9: 1911) : «مناجيق» بدل: «مجانيق» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 فوطّن على الموت نفسه قوم، وولّى سليمان السكسكي على شطرهم وعلى الشطر الباقي. ثبيتا [1] البهراني فتوجّهوا إليه مجتمعين على أن يبيّتوه فإن أصابوا منه غرّة، فوجدوه متحرزا فى الخنادق يسير على تعبئة. فتهيّبوا [2] وكمنوا فى زيتون على طريقه، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبئة، فوضعوا السلاح [237] فيمن معه وانتبذ، ثمّ فنادى فى خيوله، فثابت إليه من المقدمة والمجنّبتين والساقة فقاتلوهم. والتقى السكسكي وفارس من فرسانه من بنى سليم، فصرعه السلمى عن فرسه وأسره وأتى به إلى مروان فقال: - «الحمد لربّ أمكن منك فطال ما بلغت منّا.» قال: - «استبقني فإنّى فارس العرب.» قال: - «كذبت، الذي جاء بك أفرس منك.» فأمر به فأوثق، وقتل ممّن صبر معه نحو من سبعة آلاف. [3] وأفلت ثبيت ومن انهزم معه فلمّا أتوا سليمان خلّف أخاه سعيد بن هشام فى مدينة حمص، وعلم أنّه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر ونزل مروان بحمص فحاصرهم عشرة أشهر، ونصب عليها نيّفا وثمانين منجنيقا تخطر عليهم حجارتها ليلا ونهارا، وهم فى ذلك يخرجون إليه كلّ يوم فيقاتلونه، وربّما بيّتوا نواحي عسكره. ولمّا تتابع عليهم البلاء ولزمهم الذّل سألوه الأمان على أن يمكّنوه من سعيد أخى سليمان وابنيه عثمان ومروان ومن قوم كانوا يغيرون على عسكره ويشتمونه من السور. فآمنهم واستوثق من سعيد وابنيه ومثل بالباقين، ثمّ أقبل متوجّها إلى الضحّاك؟   [1] . فى آ: «نبيتا» . [2] . فى آ: فتهيّبوا. والطبري كالأصل. [3] . فى الطبري (9: 1911) : ستة آلاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وقد روى أيضا أنّ سليمان لمّا انهزم من مروان أقبل إلى ابن عمر، [238] ثمّ خرج معه إلى الضحّاك وبايعه. وفى ذلك يقول شاعرهم: [1] ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وصلّت قريش خلف بكر بن وائل ولمّا استقام لمروان الشام ونفى عنها من كان يخالفه وقتل بها تلك المقتلة العظيمة أقبل حتّى نزل نهر سعيد بن عبد الملك، وبلغ ذلك ابن عمر فأعلم ذلك الضحّاك، فارتحل الضحّاك وأقام ابن عمر بواسط، وبلغ خبر مروان ملحان الشيبانى وكان عامل الضحّاك على الكوفة، فخرج إليه يقاتله وهو فى قلّة من الشراة، فلقى النضر وكان النضر قد توجّه إليه وبلغ القادسيّة وصبر فى المعركة حتّى قتله النضر. وبلغ الضحّاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنّى بن عمران من بنى عائذة. وسار الضحّاك، فأخذ على الموصل، لأنّ أهل الموصل كاتبوه ودعوه ليمكّنوه منها. فسار فى جماعة جنوده حتّى انتهى إليها وعليها يومئذ عامل لمروان من بنى شيبان يقال له: القطران بن أكمة [2] ففتح أهل الموصل المدينة للضحّاك، وقاتلهم القطران فى قومه وجماعة يسيرة من أهل بيته وثبتوا حتّى قتلوا واستولى الضحّاك على الموصل. [239] وبلغ خبره مروان فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته على الجزيرة يأمره أن يسير فيمن معه ومن قدر على جمعه، إلى نصيبين ليشتغل الضحّاك عن توسط البلاد. فشخص عبد الله إلى نصيبين فى جماعة روابطه [3] وهو نحو من سبعة آلاف   [1] . هو شبيل بن عزرة الضّبعىّ (الطبري 9: 1913) . [2] . القطران بن أكمة: كذا فى الأصل والطبري (9: 1938) . [3] . كذا فى الأصل والطبري (9: 1939) : فى جماعة روابطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 أو ثمانية آلاف. وسار الضحّاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين فقاتله فلم يطقه لكثرة من مع الضحّاك، وذاك أنّ عدّتهم بلغت عشرين ومائة ألف يرزق الفارس مائة وخمسين والراجل والبغّال مائة وما دونها إلى السبعين فى كلّ شهر. وأقام الضحّاك على نصيبين محاصرا لها ووجّه بخيل له إلى الرقّة وكان بها خيل لمروان، ولمّا بلغ مروان نزولهم بالرقّة وجّه خيلا إليها، فلمّا دنوا منها انقشع أصحاب الضحّاك منصرفين إليه واتبعتهم خيل مروان فاستسقطوا من ساقتهم نيّفا وثلاثين رجلا فقطع مروان أيديهم ومضى صامدا إلى الضحّاك فى جموعه حتّى التقيا بموضع يقال له: الغذّ، من أرض كفرتوثا، فقاتله عامّة نهاره. فلمّا كان عند المساء ترجّل الضحّاك وترجّل معه من ذوى النيّات نحو من ستة آلاف، وأهل عسكره [240] لكثرتهم لا يعلمون بما كان منه. فأحدقت بهم خيل مروان وألحّوا عليهم حتّى قتلوهم عند المعتمة، وقتل فيهم الضحّاك، وانصرف من بقي من أصحاب الضحّاك إلى عسكرهم، وكذلك أصحاب مروان ولا يعلم مروان ولا أصحاب الضحّاك بمقتل الضحّاك حتّى فقدوه فى منتصف الليل وجاءهم بعض من عاينه حين ترجّل، فأخبرهم بمقتله فبكوا عليه وناحوا وخرج عبد الملك وهو القائد الذي كان وجّهه إلى الرّقة من عسكرهم حتّى دخل عسكر مروان وتقرّب إليه بقتل الضحّاك فأرسل معه رسلا من حرسه معهم النيران والشموع إلى موضع المعركة، فقلّبوا القتلى حتّى استخرجوه وأتوا به مروان وفى وجهه ورأسه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحّاك أنّهم قد علموا بذلك. وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة يطاف به فيها. ولمّا قتل الضحّاك بايع أهل عسكره الخيبرىّ وعاودوا مروان القتال من الغد وصافّهم وسليمان بن هشام يومئذ وأهل بيته ومواليه مع الخيبرىّ- وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 كان قدم على الضحّاك فى أكثر من ثلاثة آلاف [241] من أهل بيته ومواليه، وتزوّج إليهم أخت شيبان الحرورىّ وهو الذي بايعوه بعد الخيبري. فحمل الخيبرىّ على مروان فى نحو من أربعمائة فارس من الشّراة فهزم مروان وهو فى القلب وخرج مروان من العسكر منهزما ودخل الخيبري فيمن معه عسكره، وجعلوا ينادون بشعارهم: - «يا خيبرى، يا خيبرى.» ويقتلون من أدركوا حتّى انتهوا إلى حجرة مروان فقطعوا أطنابها. وجلس الخيبري على فرسه [1] وميمنة مروان على حيالها وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضا ثابتة، عليها مسلم بن عقيل، [2] فلمّا رأى أهل عسكر مروان قلّة من مع الخيبري ثار إليه عبيد أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبرىّ وأصحابه جميعا فى حجرة مروان وحولها. وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بنحو ستة أميال منهزما فانصرف إلى عسكره، وردّ خيوله عن مواقفها، وبات تلك الليلة فى عسكره، وانصرف أيضا عسكر الخيبري. فولّوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل تعبئه الصفّ منذ يومئذ. توجيه يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب الخوارج وفى هذه السنة وجّه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج. [249] وكان بالعراق عمّال الضحّاك وفيهم عبد الله بن عمر، كما حكينا من أمره، ومضى ابن هبيرة، فأخذ على الموصل وانحطّ على غزّة   [1] . آ، والأصل: فرسه. مط والطبري (9: 1941) : فرشه. [2] . كذا فى الأصل وآ: مسلم بن عقيل. وما فى الطبري (9: 1941) : إسحاق بن مسلم العقيلىّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 من عين التمر، وبلغ ذلك المثنّى بن عمران [1] عامل الضحّاك على الكوفة، فسار إليه فيمن كان معه من الشّراة ومعه منصور بن جمهور وقد كان صار إليه حين بايع الضحّاك. فالتقوا بغزّة، واقتتلوا قتالا شديدا أيّاما متوالية، فقتل المثنّى مع عدّة من رؤساء أصحاب الضحّاك وهرب منصور بن جمهور وانهزمت الخوارج. وأقبل منصور بن جمهور حتّى دخل الكوفة فجمع بها جمعا من اليمانية والصفرّية ومن كان تفرّق منهم يوم قتل ملحان [2] ومن تخلّف منهم عن الضحّاك فجمعهم منصور جميعا ثمّ سار بهم حتّى نزل الروحاء. وأقبل ابن هبيرة فى أجناده حتّى لقيهم بها فقاتلهم أيّاما ثمّ هزمهم وقتل خلق من أصحاب الضحّاك وهرب منصور بن جمهور، وأقبل ابن هبيرة حتّى نزل الكوفة ونفى الخوارج عنها. وفى هذه السنة وافى الحارث بن سريج مرو من بلاد الترك بأمان الخليفة فصار إلى نصر، ثمّ خالفه وتابعه خلق. ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بن سيّار [243] إنّ الحارث سار إلى مرو ومخرجه من بلاد الترك فقدمها يوم الأحد سنة سبع وعشرين ومائة، ويقال ثمان وعشرين ومائة، فتلقّاه سلم بن أحوز والناس بكسماهن [3] فقال له محمّد بن عطية العبسي:   [1] . فى الطبري (9: 1914) : عمران العائذىّ. [2] . الضبط من الطبري (9: 1915) . [3] . كسماهن: كذا فى الأصل. فى آ: كشماهن. وتسمى: كش ميهن أيضا. كانت دون مرو بمنزل، على طريق بخارا، واشتهرت بزبيبها حسب اليعقوبي (لى سترنغ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 - «الحمد لله الذي أقرّ عيوننا بقدومك وردّك إلى قبّة الإسلام وإلى الجماعة.» قال: - «يا بنىّ، أما علمت أنّ الكثير إذا كانوا على معصية الله لم يكونوا جماعة، وأنّ القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا جماعة؟ وما قرّت عيني منذ خرجت إلى [1] يومى هذا وما قرّة عيني إلّا أن يطاع الله.» فلمّا دخل مرو قال: - «اللهم إنّى لم أنو قطّ فى شيء بيني وبينهم إلّا الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهم.» وتلقّاه نصر وأجرى عليه نزلا [2] خمسين درهما فى كلّ يوم، فكان يقتصر على لون واحد وأطلق له نصر من كان عنده من أهله، فلمّا أتاه ابنه محمّد قال: - «اللهم اجعله برّا تقيّا.» وكان قدم الوضّاح بن حبيب بن بديل على نصر من عند عبد الله بن عمر. فأتى الحارث وعنده جماعة من أصحابه فقال: - «إنّا بالعراق نشهر عظم [3] عمودك وثقله وإنّى أحبّ أن أراه.» قال: - «ما هو إلّا كبعض ما ترى- وأشار إلى عمده مع قوم وقوف على رأسه-[244] ولكنّى إذا ضربت به شهرت ضربتي.» وكان فى عموده ثمانية عشر رطلا. وعرض نصر على الحارث أن يولّيه ويعطيه مائة ألف فلم يقبل وقال:   [1] . كتب فى الأصل تحت «إلّا» وبخط آخر: إلى. [2] . النّزل: العطاء. [3] . فى آ: شهر عظيم! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 - «إنّى لست من [أهل] [1] هذه اللذّات ومن [أهل] تزويج عقائل العرب فى شيء أنا أسأل كتاب الله والعمل بالسنّة واستعمال أهل الخير، فإن فعلت ساعدتك على عدوّك.» ثمّ قال لنصر: - «خرجت من هذه البلاد منذ ثلاث عشرة سنة إنكارا للجور، وأنت تريدني عليه» وأرسل الحارث إلى الكرماني: - «إن أعطانى نصر العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت بك عليه وتضمن لى ما أريد من القيام بالعدل والسنّة.» وكان كلّما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه قوم من رؤساءهم وانضمّ إلى الحارث ثلاثة آلاف. ودخلت سنة ثمانية وعشرين ومائة وفيها قتل الحارث بن سريج ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك [245] لمّا ولى ابن هبيرة العراق، كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان. وقال الحارث: - «إنّما آمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز [2] أمان يزيد فلا آمنه.» فلمّا دعا الحارث قوما إلى مبايعته أتاه سلم بن أحوز وخالد بن هريم و   [1] . مزيدة من آ، فى كلا الموضعين. [2] . ما فى الأصل مهمل فى الأخير، والإعجام من الطبري (9: 1917) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 قطن بن محمّد وأمثالهم فكلموه وقالوا: - «ألم يصيّر نصر سلطانه وولايته فى أيدى قومك، ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان،- وعدّدوا عليه ما اصطنعه إليه- أتخالفه فتفرّق أمر عشيرتك وتطمع فيهم عدوّهم؟ فنذكّرك الله أن تفرّق جماعتنا.» فقال الحارث: - «إنّى لا أرى فى عشيرتي شيئا من الولاية.» ولم يجبهم بما أرادوا. وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر يسأله أن يجعل الأمر شورى. فأبى نصر، وخرج الحارث، فأتى منازل آل يعقوب بن داود. وكان الحارث يظهر أنّه صاحب الرايات السود. فأرسل إليه نصر: - «إن كنت كما تزعم وإنّكم تهدمون سور دمشق وتزيلون أمر [1] بنى أميّه فخذ منّى خمسمائة رأس من الدوابّ ومائتي بعير واحمل إليك من الأموال ما شئت ومن آلة الحرب وسر، فلعمرى لئن كنت الإمام صاحب الأمر إنّى لفى يدك، وإن كنت لست ذلك [246] فقد أهلكت عشيرتك.» فقال الحارث: - «قد علمت أنّ هذا حقّ، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني.» فقال نصر: - «فقد استبان لك أنّهم ليسوا على رأيك ولا لهم مثل بصيرتك وأنّهم فسّاق ورعاع فأذكّرك الله فى عشرين ألفا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم.» وعرض نصر على الحارث أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل. فقال له نصر:   [1] . فى مط: أثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 - «إن شئت فابدأ بالكرمانىّ فإن قتلته فأنا فى طاعتك وإن شئت فخلّ بيني وبينه فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر بأصحابك، فإذا جزت الرّىّ فأنا فى طاعتك.» فخالفه الحارث وأبى إلّا أن يجعل الأمر شورى فأخذ نصر فى التأهّب وصيّر سلما فى المدينة وضمّ إليه الرابطة مع فرسان ضمّهم إلى هدبة بن عامر وحوّل السلاح والدواوين إلى القهندز، وجلس للناس. وكان اتهم قوما من أصحابه أنّهم كاتبوا الحارث بن سريج، فأجلس عن يساره من اتّهم منهم وأجلس الذين اصطنعهم عن يمينه ثمّ تكلّم وذكر بنى مروان ومن خرج عليهم كيف أظفر الله به ثمّ قال لمن عن يمينه: - «إنّى أحمد الله وأذمّ من عن يساري [247] وليت خراسان ففعلت وصنعت- وذكر حسن بلائه- وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم لمّا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقلّ وفرددتها عليكم ثمّ فعلت وفعلت فكان جزائي أن مالأتم [1] الحارث علىّ، فهلّا نظرتم إلى هولاء الأحرار- وأومأ إلى من عن يمينه- الذين لزمونى مواسين [2] لى على غير بلاء.» واعتذر إليه الناس فقبل عذرهم وصرفهم. ولمّا انتشر فى كور خراسان أمر الفتنة قدم على نصر جماعة من رؤساء الناس ووجوههم وكتب الحارث بن سريج سيرته فكانت تقرأ فى طرق مرو وفى المساجد. فأجابه قوم كثير وأمر نصر [الحسن بن سعد مولى قريش] [3] فنادى فى المدينة. - «إنّ الحارث عدوّ الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا الله، ولا حول ولا قوّة   [1] . الممالأة: المعاونة، المساعدة. [2] . فى الطبري (9: 1920) : موأسير (كذا) ، بدل: المواسين. [3] . تكملة من الطبري (9: 1920) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 إلّا بالله.» فأرسل نصر من ليلته إلى جماعة أصحابه: - «تهيّئوا للقتال.» فقال له أصحابه: - «ما نجعل شعارنا؟» فقال مقاتل بن سليمان: - «شعارنا شعار رسول الله صلّى الله عليه: حم [1] لا ينصرون.» وعلامتهم على الرماح الصوف.» وكان الذي هاج القتال أنّ غلاما للنضر بن محمّد الفقيه يقال له: عطيّة، صار إلى أصحاب سلم [248] فقال أصحاب الحارث: - «ردّوه علينا.» فأبوا فاقتتلوا فهزمهم أصحاب سلم فانتهوا إلى الحارث وهو يصلّى الغداة، فلمّا قضى الصلاة دنا منهم فرجعوا. ثمّ دنا من الحارث رجلان فناداهما عاصم. - «عرقبا [2] برذونه.» فبادر الحارث أحدهما بعموده فقتله ورجع الحارث فأتبعه حمّاد بن عامر ومحمّد بن زرعة وهو فى سكّة أبى عصمة فكسر رمحيهما بعموده وحمل على مرزوق مولى سلم، فلمّا دنا منه رمى بنفسه عن فرسه ودخل حانوتا وضرب برذونه على مؤخّره فنفق. [3] وركب سلم حين أصبح وأمر بالخندق فخندقوا وأمر مناديا فنادى: - «من جاء برأس فله ثلاثمائة.»   [1] . ضبط ما فى الطبري هكذا: حم. [2] . عرقب الدّابة: قطع عرقوبها، والعرقوب عصب غليظ فوق العقب. [3] . نفق الرجل أو الدابة: خرجت روحهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 فلم تطلع الشمس حتّى انهزم أصحاب الحارث ومضى سلم حتّى انتهى إلى عسكر الحارث ووجد فيه قوما فقتلهم وفيهم كاتب الحارث واسمه يزيد بن داود فقتل. ومضى سلم إلى باب بيق [1] ففتحه وقتل رجلا كان دلّ الحارث على نقب فى الحائط دخل منه. وأرسل نصر إلى الكرمانىّ فأتاه على عهد جرى بينهما على يد القاضي محمّد بن ثابت وحضر القاضي ومقدام ونعيم وسلم بن أحوز فدعا نصر إلى الجماعة. فقال الكرمانىّ: [249]- «أنت أسعد الناس بذلك.» فوقع بين سلم بن أحوز وبين المقدام كلام فأغلظ له سلم فأعانه أخوه وغضب لهم عبد الرحمن الجرمي السغدى فقال له سلم: - «لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف.» فقال السغدى: - «لو مسست السيف لم ترجع إليك يدك.» فخاف الكرمانىّ أن يكون مكرا من نصر. فقام فتعلّقوا به، فلم يجلس، ومضى إلى باب المقصورة قال: فتلقّوه بفرسه، فركب فى المسجد. وقال: - «أراد نصر الغدر بى.» فأرسل الحارث إلى نصر: - «إنّا لا نرضى بك إماما.» فأرسل إليه نصر: - «كيف يكون لك عقل وقد أفنيت عمرك فى أرض الشرك، وغزوت   [1] . الضبط من الطبري (9: 1922) ، وفى حواشيه: ينق، وما فى الأصل مهمل فى الوسط. فى مط: نيو (؟) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 المسلمين بالمشركين، أترانى أتضرّع إليك أكثر ممّا تضرّعت؟» وأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهمية فقال لسلم: - «إنّ لى عقدا [1] من ابنك حارث.» قال: - «ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما آمنتك ولو ملأت لى هذه الملاءة كواكب والله لو كنت فى بطني لشققت بطني حتّى أقتلك لا والله لا تقوم علينا مع اليمانية أكثر ممّا قمت.» وأمر عبد ربّه بن سيسن [2] فقتله. ولمّا هزم نصر الحارث أتى الحارث فازة [3] الكرماني حتّى دخلها [250] ومع الكرماني داود بن شعيب الحدانى، ومحمد بن المثنّى، فأقيمت الصلوة، فصلّى بهم الكرماني. فلمّا كان من الغد سار الكرماني إلى ناحية باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل جماعة، وأخذوا علم عثمانى الكرماني وتقاتلوا يوم الأربعاء، ثمّ تحاجزوا ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال، والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد حتّى وصلوا إلى الكرمانىّ فأخذ اللواء بيده فقاتل به. وحمل خضر [4] بن تميم فرموه بالنشّاب وحمل عليه خنيس [5] مولى نصر فطعنه فى حلقه. فأخذ الخضر السنان بيده اليسرى فشبّ به فرسه وطعن خنيسا فأذراه [6] عن برذونه وقتلته رجّالة الكرمانىّ بالعصىّ وانهزم أصحاب   [1] . فى الطبري (9: 1924) : وليا. بدل «عقدا» . الولي: القرب. [2] . الضبط من الطبري. [3] . الفازة: مظلّة بعمودين. يقال: «ضرب الفازة بالمفازة» . [4] . آ: حصين. [5] . فى الطبري (9: 1925) : حبيش. [6] . أذراه: أطاره. فى مط: أرداه. أى: أسقطه وأهلكه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 نصر وصرع تميم بن نصر وأخذوا له برذونين أخذ أحدهما السغدى والآخر الخضر. ولحق الخضر سلم بن أحوز فتناول من ابن أخيه عمودا فضربه وصرعه. فحمل عليه رجلان من تميم فهرب فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع [1] عشرة ضربة على بيضته [2] فسقط فحمله رجل إلى عسكر نصر وانصرفوا. فلمّا كان فى بعض الليل خرج نصر عن مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدى [251] وكان يحمى أصحاب نصر. ولمّا هزمت اليمانية المضريّة أرسل الحارث إلى نصر: - «إنّ اليمانية يعيّروننى بانهزامكم وأنا كافّ، فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرمانىّ.» فبعث إليه نصر يزيد النحوىّ أو خالدا [3] يتوثّق منه أن يفي بما بذله من الكفّ. وإنّما كفّ الحارث عن قتال نصر لأنّ عمر بن الفضل الأزدى وأهل بيته وعبد الجبّار بن العدوى وخالد بن عبيد الله وعامّة أصحابه كانوا نقموا على الكرمانىّ ما فعله أهل التبوشكان. وذلك أنّ أسدا كان وجّه إليهم فنزلوا إليه على حكم أسد فبقر بطون جماعة وألقاهم فى نهر بلخ وقطع أيدى ثلاثمائة منهم وأرجلهم وقتل ثلثا وصلب ثلثا وباع أثقالهم فيمن يزيد. فنقموا على الحارث معاونته الكرمانىّ وقتاله نصرا. فأقام نصر بمرو أربعة أيّام ثمّ خرج إلى نيسابور ومعه سلم بن أحوز وسلم بن عبد الرحمن وقال نصر لنسائه: - «إنّ الحارث سيخلفنى فيكنّ ويحميكنّ.»   [1] . فى الأصل: بضعة عشر. [2] . كذا فى الطبري (9: 1926) . [3] . فى الأصل وآ، ومط: خالد. والمضبوط فى الطبري (9: 1928) : أو خالدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 فلمّا قرب من نيسابور أرسل إليه أهلها: - «ما أقدمك، وقد أظهرت العصبية وكان أمرا قد أطفأه الله؟» وكان عامل نصر على نيسابور ضرار بن [252] عيسى العامرىّ فأرسل إليهم نصر بن سيّار سنانا الأعرابىّ ومسلم بن عبد الرحمن وسلم بن أحوز فكلّموهم حتّى خرجوا وتلقّوا نصرا بالمواكب والهدايا والجواري. وقدم من مكّة على نصر عبد الحكم [1] بن سعد وأبو جعفر عيس. فقال نصر لعبد الحكم: - «أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟» فقال عبد الحكم: - «بل سفهاء قومك، طالت ولايتك وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفى ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب سفهاؤهم حلماءهم.» فقال عبّاد: - «أتستقبل الأمير بهذا الكلام؟» فقال: - «دعه فقد صدق.» فقال أبو جعفر عيسى لنصر: - «أيّها الأمير حسبك من الولاية، فإنّه قد أظلّ أمر عظيم سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد ويدعوا إلى دولة لا محالة ستكون فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون.» فقال نصر: - «ما أشبه أن يكون ما تقول لقلّة الوفاء وسوء ذات البين. وجّهت إلى   [1] . فى الطبري (9: 1929) : الحليم، وفى حواشيه: الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 الحارث وهو بأرض الترك فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى إلّا الشغب [1] ثمّ ظاهر علىّ.» فقال أبو جعفر عيسى: - «إنّ الحارث مقتول مصلوب، وما الكرمانىّ من ذلك [253] ببعيد.» ولمّا خرج نصر من مرو وغلب الكرمانىّ عليها. قال الحارث: - «إنّما أريد كتاب الله.» فقال مقاتل بن حيّان: - «فى كتاب الله هدم الدور وإنهاب الأموال.» فبلغ الكرمانىّ فحبسه فى خيمة فى العسكر فكلّمه معمر بن مقاتل بن حيّان أو معمر بن حيّان أخوه فخلّاه. وأتى الكرمانىّ المسجد ووقف الحارث فخطب الكرمانىّ الناس وآمنهم. وعسكر الكرمانىّ فى مصلّى أسد. ومضى الحارث إلى باب دروازق [2] سرخس فبعث إلى الحارث فأتاه فأنكر الحارث هدم الدور والإنهاب، فهمّ به الكرمانىّ ثمّ كفّ عنه. وخرج بشر بن جرموز الضبّى بخرقان [3] فدعا إلى كتاب الله والسنّة وقال للحارث: - «إنّما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذ كنت مع الكرمانىّ فقد علمت أنّك إنّما تقاتل ليقال: غلب الحارث. وهذه عصبيّة وليست مقاتلا معك.»   [1] . فى الطبري (9: 1930) : فأبى وشعّث. [2] . فى الطبري (9: 1930) : باب دوران وسرخس. والصواب باب دروازق سرخس. دروازق: معرب الأصل الفارسي: دروازه، أى: الباب. [3] . بخرقان: الضبط بالإعجام من الطبري (9: 1931) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 واعتزل فى خمسة آلاف [1] وقال: - «نحن الفئة العادلة ندعو إلى الحق ولا نقاتل إلّا من قاتلنا.» وأتى الحارث مسجد عياض فأرسل إلى الكرمانىّ يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى. فأبى الكرمانىّ. وكتب أصحاب الحارث إلى الكرمانىّ وأصحابه: - «نوصيكم بتقوى الله [254] وطاعته وتحريم ما حرّم الله عزّ وجلّ من دمائكم أمّا بعد، فإنّ اجتماعنا كان إلى الحارث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحة لله فى عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب، ودماءنا للسفك، وأموالنا للتلف، وصغر ذلك كلّه عندنا فى جنب ما نرجو من ثواب الله ونحن وأنتم إخوان فى الدين وأنصار على العدوّ، فاتّقوا الله وارجعوا إلى الحقّ فإنّا لا نريد سفك الدماء بغير حقّها.» وأقاموا أيّاما. فأتى الحارث بن سريج ثلمة فى الحائط فوسّعها عند دور آل هشام بن أبى الهيثم فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقال: «غدرت.» وأقام معه نفر ودخل الكرمانىّ من باب سرخس فحاذى بالحارث ومرّ به المنخّل الأزدى فقتله السّميدع ونادى: - «يا لثارات لقيط.» واقتتلوا وعبّى الكرمانىّ ميمنته وميسرته واشتدّ الأمر بينهما فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث وكان الحارث على بغل فنزل عنه وركب فرسا فحرن [2] وانهزم. صحابه فبقى فى مائة فقتل وقتل أخوه سوادة وجماعة معه نحو مائة. وكفّ الكرمانىّ وكان قد قتل من أصحاب الكرمانىّ أيضا مائة. [255] و   [1] . فى الطبري (9: 1931) : خمسة آلاف وخمس مائة. [2] . فى الطبري (9: 1932) : فضربه فجرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 صلب الحارث عند باب مدينة مرو بغير رأس وكان قتله بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يوما. قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب. وأصاب الكرمانىّ صفائح ذهب للحارث، فأخذها وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم: - «بأىّ شيء تستحلّ ماله؟» فقال صالح من آل الوضّاح: - «اسقني دمه.» فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان وأتى به منزله. وكان الحارث قبل مكاشفته الكرمانىّ ندم على اتباعه إيّاه. فلمّا همّ الكرمانىّ بقتال بشر بن جرموز، وكان عسكره خارجا عن المدينة، قال له الحارث: - «لا تعجل إلى قتالهم، فإنّى أردّهم إليك.» فخرج من العسكر فى عشرة فوارس حتّى أتى عسكر بشر وهو فى خمسة آلاف. فأقام معهم وقال: - «ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية.» وجعل المضريّون يتسلّلون من عسكر الكرمانىّ إلى الحارث حتّى لم يبق مع الكرمانىّ مضرىّ إلّا سلمة بن أبى عبد الله مولى بنى سليم فإنّه قال: - «لا أتبع الحارث أبدا فإنّى لم أره إلّا غادرا والمهلّب بن إياس.» وقال: - «لا أتبعه فإنّى لم أره قطّ إلّا فى خيل تطرد.» فقاتلهم الكرمانىّ مرارا يقتتلون [256] ثمّ يرجعون إلى خنادقهم فمرّة تكون لهولاء ومرّة لهولاء . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 برذون الحارث فالتقوا يوما وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعي فخرج سكران على برذون للحارث فطعن فصرع وحماه فوارس تميم حتّى تخلّص وعار البرذون. فلمّا رجعوا لامه الحارث وقال: - «كدت تقتل نفسك.» فقال للحارث: - «إنّما تقول هذا لمكان برذونك، امرأته [1] طالق إن لم آتك بأفره برذون فى عسكرهم.» فالتقوا من غد فقال مرثد: - «أىّ برذون فى عسكرهم أفره؟» قال: برذون عبد [2] الله بن ديسم الغنوي.» وأشاروا له إلى موقفه فقاتل حتّى وصل إليه فلمّا غشيه رمى ابن ديسم بنفسه عن برذونه وعلّق مرثد عنان البرذون فى رمحه وقاده حتّى أتى به الحارث وقال: - «هذا مكان برذونك.» فلقى مخلّد بن الحسن مرثدا فقال له يمازحه: - «ما أهيأ برذون بن ديسم تحتك!» فنزل عنه فقال: - «خذه.» قال [3] : - «أردت أن تفضحني، أخذته منّا فى الحرب وآخذه منك فى السلم.»   [1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (3: 1934) : امرأته. [2] . كذا فى الأصل والطبري (9: 1933) : عبد. فى آ: عبيد. [3] . فى الأصل: «وقال» بزيادة الواو. فى آوالطبري (9: 1934) : بدون الواو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 ويقال: إنّ الحارث لمّا أتى حائط مرو ليلا فنقب فيه بابا ودخله، وأصبح الكرمانىّ فى أثره داخلا من الباب، قالت المضريّة للحارث: - «قد تركنا الخنادق فهو يومنا وقد فررت غير مرّة.» فترجّل، فقال: - «أنا فارسا [257] خير لكم منّى راجلا.» قالوا: - «لا نرضى إلّا أن تترجّل فترجّل، فقتل هو وأخوه بشر بن جرموز، وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن. فهدموا دور المضريّة. فقالت أمّ كثير الضبّيّة: لا بارك [1] الله فى أنثى وعذّبها ... تزوّجت مضريّا آخر الدهر أبلغ رجال تميم قول موجعة ... أحللتموها بدار الذّلّ والفقر إن أنتم لم تكرّوا بعد جولتكم ... حتّى تعيدوا رجال الأزد فى الطمر إنّى استحيت لكم من بذل طاعتكم ... هذا المزونىّ [2] يحبيكم على قهر توجيه أبى مسلم إلى خراسان وفى هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمّد أبا مسلم إلى خراسان. وكتب إلى أصحابه: - «إنّى قد أمرته بأمرى، فاسمعوا منه واقبلوا قوله. فإنّى قد أمّرته على   [1] . الأبيات تجدها فى الطبري (9: 1935) . [2] . فى مط: المروذى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 خراسان وما غلب عليه بعد ذلك.» فأتاهم فلم يقبلوا قوله ولا كتابه حتّى خرجوا من قابل فالتقوا بمكّة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنّهم لم ينفذوا كتابه ولا أمره. فقال إبراهيم: - «إنّى عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علىّ فأجمعت رأيى على هذا.» وأشار عليه، وأمرهم بالسمع [258] والطاعة له. وكان إبراهيم عرض ذلك على سليمان بن كثير فقال: - «لا إلى أمر اثنين أبدا.» ثمّ عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى. ثمّ قال إبراهيم لأبى مسلم: - «يا عبد الرحمن، إنّك رجل منّا أهل البيت، فاحفظ وصيّتى: انظر هذا الحىّ من اليمن، فأكرمهم وحلّ بين أظهرهم فإنّ الله عزّ وجلّ لا يتمّم هذا الأمر إلّا بهم. وانظر هذا الحىّ من ربيعة، فاتهمهم فى أمرهم. وانظر هذا الحىّ من ربيعة، فاتهمهم فى أمرهم. وانظر هذا الحىّ من مضر، فإنّهم العدوّ القريب الدار، واقتل من شككت فى أمره ومن كان فى أمره شبهة ومن وقع فى نفسك منه شيء. وإن استطعت ألّا تدع بخراسان لسانا عربيّا فافعل. وأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتّهمه فاقتله. ولا تخالف هذا الشيخ يعنى سليمان بن كثير ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به منّى.» أبو حمزة الخارجي يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد وفى هذه السنة لقى أبو حمزة الخارجي عبد الله بن يحيى طالب الحقّ فدعاه إلى مذهبه. وكان أبو حمزة واسمه المختار بن عوف الأزدى من أهل البصرة يوافى الموسم كلّ سنة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمّد وآل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 مرون، حتّى وافى عبد الله بن يحيى فى آخر سنة. فقال لعبد الله بن يحيى: - «يا رجل، [259] إنّى أسمع كلاما حسنا وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معى فإنّى رجل مطاع فى قومي.» فخرج به حتّى ورد به حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة ودعا إليه. وكان أبو حمزة مرّ بمعدن سليم [1] وكثير بن عبد الرحمن عامل على المعدن فسمع بعض كلامه فأمر به فجلد أربعين سوطا، ثمّ مضى إلى مكّة فلمّا قدم أبو حمزة المدينة وافتتحها تغيّب كثير حتّى كان من أمرهم ما كان. ثمّ دخلت سنة تسع وعشرين ومائة وفيها كان هلاك شيبان بن عبد العزيز [2] ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ الناس الخوارج لمّا قتل الضحّاك بن قيس الشيبانى رئيسهم ثمّ الخيبري بعده، ولّوا أمرهم شيبان وبايعوه. فكان مروان يقاتلهم. فقال سليمان بن هشام بن عبد الملك للخوارج وهو يومئذ معهم فى عسكرهم: - «إنّ الذي تفعلون ليس برأى فإن أخذتم، برأيى وإلّا انصرفت عنكم.» قالوا: «وما الرأى؟» قال: «إنّ أحدكم يظفر ثمّ يستقتل فيقتل. فأرى أن تنصرف على حاميتك حتّى تنزل [260] الموصل وتخندق.» فقبل منه وارتحل واتّبعه مروان فكان إذا رحل عن منزل نزل موضعه حتّى أتى الموصل فنزل شيبان بشرقىّ دجلة من الموصل وخندق ونزل مروان   [1] . فى الطبري (9: 1943) : بنى سليم. فى مط: بعدن سليم [2] . العنوان غير موجود فى مط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 بإزائه من غربيّها وخندق. فأقام سنة يقاتلهم بكرة وعشية. فبرز يوما ابن أخى سليمان بن هشام، وكان مع عمّه سليمان فى عسكر شيبان، فبارزه رجل من فرسان مروان، فأسره الرجل، وأتى به مروان فقال: - «أنشدك الله والرحم يا عمّ.» فقال: «ما بيني وبينك اليوم رحم.» فأمر به، وعمّه سليمان وأخوته ينظرون، فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه. وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بن سوّار خليفة الضحّاك بالعراق فلقى خيوله بعين التمر. فقاتلهم فهزمهم وعليهم يومئذ المثنى بن عمران. ثمّ تجمّعوا له بالنخيلة من الكوفة فهزمهم، ثمّ تجمّعوا له بالصراة، ومعهم عبيدة فقتل عبيدة، وهزم أصحابه واستباح عسكرهم. فلم تكن لهم بقية بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها. وكان منصور بن جمهور معهم فمضى حتّى غلب على الماهين والجبل وسار سليمان بن هشام حتّى لحق بابن معاوية الجعفري بفارس. وبقي ابن عمر [261] بواسط حتى سار إليه ابن هبيرة فأخذه وحبسه. فكتب مروان إلى ابن هبيرة لمّا صفت له العراق أن: أمدّنى بعامر بن ضبارة فى أهل الشام. فأمدّه به فسار فى أهل الشام حتّى انتهى إلى السنّ [1] ، فلقيه بها الجون بن كلاب الخارجي، فهزم ابن ضبارة [2] حتّى أدخله السن فتحصّن وجعل مروان يمدّه بالجنود من طريق البرّ حتّى ينتهوا إلى السنّ، ثمّ يقطعوا دجلة إلى ابن ضبارة،   [1] . السّنّ: مدينة على دجلة فوق تكريت عند مصبّ الزاب الأسفل (مراصد الإطلاع) . [2] . كذا ضبط فى الأصل: ضبارة (بالفتح) فى الطبري (9: 1947) : ضبارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 حتّى كثروا. فنهض إلى الجون فقتله. وسار ابن ضبارة مصعدا إلى الموصل. فلمّا انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر انخزل، وكان شيبان لمّا بلغه مسير ابن ضبارة خاف أن يأتيه من ورائه. فأرسل الجون مع عدّة وافرة ليشغله فحصره حتّى كان من أمره ما كان. ولحق أصحاب الجون بشيبان وابن ضبارة فى آثارهم. فكان شيبان والخوارج يقاتلون من وجهين. نزل ابن ضباره من ورائهم ممّا يلي العراق ومروان أمامهم ممّا يلي الشام فقطع عنهم المادّة والميرة وغلت أسعارهم حتّى بلغ الرغيف درهما. ثمّ ذهب الرغيف فلا شيء يشترى بغال ولا رخيص. فانتقل إلى شهرزور [262] من أرض الموصل فعاب عليه ذلك أصحابه واختلفت كلمتهم وارتحل شيبان ومن معه وأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس ووجّه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة من قواده فى ثلاثة آلاف من رابطته [1] . أحدهم مصعب والآخر شقيق وعطيف. وكتب إليه يأمرهم بأتّباعهم وألّا يقلع عنهم حتّى يبيرهم ويستأصلهم، فلم يزل يتبعهم حتّى وردوا فارس وخرجوا منها وهو فى ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم حتّى تفرّقوا، وأخذ شيبان فى فرقة إلى البحرين فقتل بها. وأقبل عامر بن ضبارة حتّى نزل بإزاء ابن معاوية، وناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية ولحق بهراة. وسار سليمان إلى جيرفت فركب السفن فيمن معه من مواليه وأهل بيته إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حرّان وأقام بها إلى أن شخص منها إلى الزاب.   [1] . آ: من روابطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 إبراهيم بن محمد يأمر أبا مسلم بإظهار الدعوة والتسويد بخراسان وفى هذه السنة أمر إبراهيم بن محمد أبا مسلم وكان شخص من خراسان يريده حتّى بلغ قومس، بالانصراف إلى شيعته بخراسان وأمره بإظهار الدعوة إليهم والتسويد. ذكر الخبر عن ذلك وعن مبدأ أمرهم لم يزل أبو مسلم [1] يختلف إلى خراسان حتّى وقعت العصبيّة بها. فلمّا اضطرب الحبل كتب سليمان بن كثير إلى أبى سلمة الخلّال يسأله أن يكتب إلى الإمام حتّى يوجّه رجلا من أهل بيته فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم. فبعث أبا مسلم، وقد كتبنا خبره فيما تقدّم، ثمّ كتب إبراهيم إلى أبى مسلم يأمره بالقدوم عليه، يسأله عن أخبار الناس. فخرج فى النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفرا من النقباء بالدّندانقان [2] من أرض خراسان. فعرض له كامل أو ابن كامل فقال: - «أين تريدون؟» قالوا: - «الحجّ.» ثم خلا به أبو مسلم فدعاه فأجابه وكفّ عنه. ومضى أبو مسلم إلى بيرود [3] فأقام بها. ثمّ سار إلى نسا [4] وعليها سليمان بن قيس السلمى عاملا لنصر بن   [1] . انظر الطبري (9: 1949) . [2] . فى الأصل: بانداندانقان (بالإهمال والتصحيف) . ولعلّ الصواب ما أثبتناه، وهو من الطبري (9: 1950) . [3] . بيرود: مهملة فى الأصل. وقد تكررّت فى ص [265] فصاعدا. وما فى الطبري (9: 1950) : بيرود. [4] . فى الأصل: «نسّاء» بكسر الأول وتشديد الثاني والمدّ هنا او فى المواضع الآنية بالقصر. وفى الطبري (9: 1950) والمعجم والمراصد: «نسا» بالفتح والتخفيف والقصر. فوحّدنا الضبط حسب الطبري والمعجم والمراصد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 سيّار، وكان قد تعرّض قبل ورود أبى مسلم لقوم من الشيعة فأخذهم. وبلغ أبا مسلم فتنكّب الطريق وأخذ فى أسفل القرى حتّى أتى قومس وعليها بيهس بن بديل العجلى فأتاهم بيهس فقال: - «أين تريدون؟» قالوا: - «نريد الحجّ.» قال: - «معكم فضل برذون تبيعونه؟» قال أبو مسلم: - «أمّا بيعا فلا ولكن خذ أىّ دوابّ شئت.» قال: - «أعرضوها علىّ.» فعرضوها عليه فأعجبه برذون [264] منها سمند. فقال أبو مسلم: - «هو لك.» قال: - «لا أقبله إلّا بثمن.» قال: - «احتكم.» قال: - «سبعمائة.» قال: - «هو لك.» فأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام وكتاب إلى سليمان بن كثير. فكان فى كتاب أبى مسلم: - «إنّى قد بعثت إليك براية النصر، فارجع من حيث لقيك كتابي ووجّه قحطبة بما معك يوافنى به بالمواسم.» فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجّه قحطبة إلى الإمام فلمّا كانوا بنسإ. عرض لهم صاحب مسلحة فى قرية من قرى نسا فقال لهم: - «من أنتم؟» قالوا: - «أردنا الحجّ. فبلغنا عن الطريق شيء خفناه.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 فرفعهم إلى عاصم بن قيس الشامي، فسألهم عن خبرهم فأخبروه فقال: - «ارتحلوا.» وأمر المفضّل وكان على شرطته أن يزعجهم فخلا أبو مسلم بالمفضّل، فأجابه، وقال: - «ارتحلوا على مهل ولا تعجلوا.» وأقام عندهم حتّى ارتحلوا. فقدم أبو مسلم مرو فى أوّل يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة. فدفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير. وكان فيه أن: - «أظهر دعوتك ولا تربّص.» فنصبوا أبا مسلم وقالوا: - «رجل من أهل البيت.» ودعوا إلى طاعة بنى العبّاس، وأرسلوا إلى من قرب منهم ومن بعد [265] ممّن أجابهم فأمروهم بإظهار أمرهم والدعاء. فنزل أبو مسلم قرية من قرى خزاعة يقال لها سيكيذنج [1] وشيبان وابن الكرماني يقاتلان نصر بن سيّار. فبثّ أبو مسلم دعاته فى الناس وظهر أمره وقال الناس: - «قدم رجل من بنى هاشم.» فاتوه من كلّ وجه، وظهر يوم الفطر فى قرية خالد بن إبراهيم. فصلّى بالناس يوم الفطر القاسم بن مجاشع المري ثمّ ارتحل فنزل باللين وهي قرية لخزاعة فوافاه فى يوم واحد أهل ستين قرية. فأقام إثنين وأربعين يوما. وكان أوّل فتح أتى أبا مسلم من قبل موسى بن   [1] . كذا فى الأصل: سيكيذنج (بالإهمال) . فى الطبري (9: 19529: سفيذنج، وفى حواشيه صور كثيرة من الضّبط والتصحيف ولعلّ الصواب ما فى الطبري حيث تكرّر الاسم فى مواضع آتية فيه وفى هذا النّص أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 كعب فى بيرود [1] وتشاغل بقتل عاصم بن قيس ثمّ جاء فتح من قبل مرو الرود. وكان أبو مسلم وجّه أبا الجهم ابن عطيّة إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة فى شهر رمضان لخمس تبقى [2] من الشهر، فإن أعجلهم عدوّهم دون الوقت فعرضوا لهم بالأذى والمكروه، فقد حلّ لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجرّدوها من أغمادها ويجاهدوا أعداء الله، وإن شغلهم عدوّهم عن الوقت فلا حرج عليهم [266] أن يظهروا بعد الوقت. الظلّ والسحاب فلمّا كان ليلة الخميس لخمس تبقى من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة اعتقد [3] اللواء الذي بعث به الإمام الذي يدعى: الظلّ، على رمح طوله أربع عشرة ذراعا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام التي تدعى: السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا وهو يتلو: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.» 22: 39 [4] ولبس السواد هو وسليمان بن كثير وأخوه سليم ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل إسفيدنج [5] وأوقد النيران ليلته للشيعة وكانت العلامة، فتجمّعوا له حين أصبحوا معدّين. وتأويل هذين الإسمين: الظلّ والسحاب، أنّ السحاب   [1] . انظر التعليق الذي مرّ. [2] . فى الطبري (9: 1953) : تبقين. [3] . فى مط: عقد. [4] . س 22 الحجّ: 39. [5] . كذا فى الطبري (9: 1953) بالضبط وما فى الأصل كان مهملا فأعجمناه حسب الطبري. والهمزة تحذف فى المواضع الآتية من النّص. وسقيذنج من قرى مرو (مراصد الإطلاع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 يطبّق الأرض فكذلك دعوة ولد العبّاس تطبّق الأرض، وتأويل الظلّ أنّ الأرض لا تخلو من الظلّ أبدا، فكذلك لا تخلو الأرض من خليفة عبّاسىّ أبد الدهر. وقدمت على أبى مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة فكان أوّل من قدم عليه أهل التقاذم مع أبى الوضّاح فى تسع مائة راجل وأربعة فرسان. وقدم أهل السقاذم مع أبى القاسم محرز بن إبراهيم فى ألف وثلاثمائة راجل وستّة عشر فارسا، فجعل أهل التقاذم [1] يكبّرون من ناحيتهم [267] وأهل السقاذم يجيبونهم بالتكبير. فلم يزالوا كذلك حتّى دخلوا عسكر أبى مسلم بسيفيذنج [2] وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبى مسلم بيومين. وأمر أبو مسلم أن يرمّ حصن سيفيذنج وتحصّن وتدرّب سيفيذنج بالدروب. فلمّا حضر العيد من يوم الفطر بسيفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلّى به وبالشيعة، ونصب له منبرا فى العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة. وكانت يومئذ تبدأ بالخطبة بأذان ثمّ الصلاة بإقامة على رسم صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوسا فى الجمع والأعياد. وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير فى الركعة الأولى أن يكبّر ستّ تكبيرات تباعا. ثمّ يقرأ ويركع السادسة [3] ويفتتح الخطبة بالتكبير ثمّ يختمها بالقرآن، وكانت بنو أميّة تكبّر فى الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفى الثانية ثلاث تكبيرات. فلمّا قضى سليمان بن كثير الخطبة والصلاة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعدّه لهم أبو مسلم فطعموا مستبشرين.   [1] . فى مط والطبري (9: 1955) : السقادم (فى كلا الموضعين) . وفى حواشي الطبري: التقادم. [2] . ضبط الاسم فى الأصل بالذال وبالدال كليهما. فوحّدنا الضبط على الذال المعجمة. [3] . فى آ: ويركع بالسابعة. ويكبّر فى الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعا، ثم يركع بالسادسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وكان أبو مسلم وهو فى الخندق، إذا كتب إلى نصر بن سيّار، يكتب: «للأمير نصر» فلمّا قوى بمن اجتمع إليه [268] فى خندقه من الشيعة بدأ بنفسه. وكتب إلى نصر: - «أمّا بعد، فإنّ الله، تباركت أسماؤه وتعالى ذكره، عيّر قوما فقال: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى من إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً، اسْتِكْباراً في الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلًا.» 35: 42- 43 [1] فتعاظم نصر الكتاب، وأنّه بدأ بنفسه وكسر له إحدى عينيه [2] وأطال الفكرة ثمّ قال: - «هذا كتاب له أخوات.» ولمّا استقرّ بأبى مسلم معسكره بالماخوان [3] أمر محرز بن إبراهيم أن يخندق خندقا بجيرنج، [4] ويجمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة فيقطع مادّة نصر بن سيّار من مرو الرود ومن بلخ من كور طخارستان. ففعل ذلك محرز واجتمع إليه فى خندقه نحو من ألف رجل. فأمر أبو مسلم كامل بن مظفّر   [1] . س 35 الفاطر: 42- 42. [2] . لعلّه من قولهم: كسر من طرفه وعلى طرفه: غضّ منه شيئا. [3] . الماخوان: كذا فى الأصل بفتح الخاء المعجمة. وفى الطبري (9: 1956) بضمها. وفى حواشيه: المارخوان. فى آ: ماجوان. [4] . كذا فى الطبري أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 أن يوجّه رجلا إلى خندق محرز بن إبراهيم لعرض من فيه وإحصاءهم فى دفتر بأسمائهم وأسماء آباءهم وقراهم. فوجّه كامل حميدا الأرزق الكاتب، فأحصى فى خندق محرز ثمانمائة رجل وأربعة رجال [269] وأسماء آباءهم وقراهم، فوجّه من أهل الكفّ، فكان يجلب له الغنم من هراة إلى مرو، ومن ربع خرفان [1] ومن ربع [2] السقاذم. ظم يزل محرز مقيما فى خندقه حتّى دخل أبو مسلم حائط مرو وعطّل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بباب سرخس يريد نيسابور فضمّ إليه محرزا وأصحابه. نصر يوجّه يزيد لمحاربة أبى مسلم أوّل حرب وقعت بين العباسية وبنى مروان ثمّ إنّ نصر بن سيّار وجّه مولى له يقال له: يزيد [3] ، فى خيل عظيمة لمحاربة أبى مسلم، وذلك بعد ثمانية عشر شهرا من ظهوره. فوجّه إليه أبو مسلم أبا نصر مالك بن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بن قيس. فالتقوا بقرية تدعى: آلين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله صلّى الله عليه، فاستكبروا عن ذلك. فصافّهم مالك وهو فى نحو من مائتين من أوّل النهار إلى وقت العصر. وقدم على أبى مسلم، صالح بن سليمان الضبّى، وإبراهيم بن يزيد، وزياد بن عيسى، فوجّههم إلى مالك بن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوى بهم. فقال يزيد مولى نصر بن سيّار لأصحابه: - «إن تركنا هولاء الليلة، أتتهم الأمداد، فاحملوا على القوم.» ففعلوا، فترجّل أبو نصر، وحضّ أصحابه، فاجتلدوا جلادا صادقا، وصبر   [1] . فى مط والطبري (9: 1957) 2: طرقان. فى آ: خروان. [2] . الضبط من الأصل وفى الطبري غير مضبوط. [3] . انظر الطبري 9: 1957. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 الفريقان فقتل من شيعة [270] بنى مروان نفر وأسر جماعة. وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر وهو عميد القوم، فأسره، وانهزم أصحابه. فوجّه أبو نصر بالأسير مع عبد الله الطائي وعدّة من أصحابه ومعهم الأسرى والرؤوس. وأقام أبو نصر فى معسكره، فقدم الوفد على أبى مسلم فى معسكره بسيفيذنج. فأمر أبو مسلم بالرؤوس فنصبت على باب الحائط الذي فى معسكره، ودفع يزيد والأسرى إلى أبى إسحاق خالد بن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به ويحسن تعهّده. وكتب إلى أبى نصر مالك بالقدوم عليه. فلمّا اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم فقال: - «إن شئت أن تقيم معنا وتدخل فى دعوتنا، فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالما وأعطنا عهدك بالله ألّا تحاربنا أبدا، ولا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت.» فاختار الرجوع إلى مولاه. فخلّى له الطريق وقال أبو مسلم لأصحابه: - «إنّ هذا سيردّ عنكم الورع والصلاح فإنّا عندهم على غير الإسلام.» وكذلك كانوا عندهم يرجفون عليهم بعبادة الأوثان واستحلال الدماء والأموال [271] والفروج. فلمّا قدم يزيد على نصر قال له: - «لا مرحبا بك، والله ما استبقاك القوم إلّا ليتّخذوك حجّة علينا.» قال يزيد: - «فهو والله ما ظننت. وقد استحلفونى الّا أكذب عليهم. وأشهد: لقد رأيتهم يصلّون الصلاة الخمس لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون القرآن ويذكرون الله كثيرا ويدعون إلى ولاية آل رسول الله صلّى الله عليه، وما أحسب أمرهم إلّا سيعلوا ويظهر.» فهذه أوّل حرب كانت بين الشيعة العبّاسية وشيعة بنى مروان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وقد روى فى مبدأ خبر أبى مسلم رواية أخرى، وهي أنّ أبا مسلم لمّا قدم خراسان كان حديث السنّ، فلم يقبله سليمان بن كثير وتخوّف ألّا يقوى على أمرهم وخاف على نفسه وأصحابه فردّه. احتجاج أبى داود وكان أبو داود خالد بن إبراهيم غائبا وراء نهر بلخ. فلمّا انصرف وقدم مرو أقرأوه [1] كتاب الإمام فسأل عن الرجل الذي وجّهه فأخبروه أنّ سليمان بن كثير ردّه. فأرسل إلى جميع النقباء فاجتمعوا فى منزل عمران بن إسماعيل. فقال لهم أبو داود: - «أتاكم كتاب الإمام إبراهيم فيمن وجهّه إليكم فرددتموه، فما حجّتكم فى ردّه؟» فقال سليمان بن كثير: - «لحداثة سنّه، وتخوّفنا ألّا [272] يقدر على القيام بهذا الأمر وأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا.» فقال أبو داود: - «هل فيكم من يشكّ أنّ الله، عزّ وجلّ، اختار محمدا صلّى الله عليه، وانتخبه واجتباه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟» قالوا: - «لا.» قال: - «أفتشكّون أنّ الله أنزل عليه كتابه فأتاه به الروح الأمين، أحلّ فيه حلاله، و   [1] . فى الأصل: أقرؤه. طبطناها هكذا مع أن رسم «أقرؤوه» متّبع أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 حرّم فيه حرامه وشرع [فيه] [1] شرائعه وسنّ فيه سننه وأنبأه فيه بما كان قبله وما هو كان كائن بعده إلى يوم القيامة؟» قالوا: «لا.» قال: - «أفتشكّون أنّ الله قبضه إليه بعد ما أدّى ما [2] عليه من رسالة ربّه؟» قالوا: «لا.» قال: - «أفتظنّون أنّ ذلك العلم الذي أنزله عليه ليقوّمنا به رفع مع أو خلّفه؟» قالوا: «بل خلّفه.» قال: - «أفتظنّونه خلّفه عند غير عترته وأهل بيته الأقرب فالأقرب؟» قالوا: «لا.» قال: - «فهل فيكم من إذا رأى من هذا الأمر إقبالا ورأى الناس مجيبين إليه، بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟» قالوا: «اللهم لا، وكيف يكون ذلك؟» قال: - «لست أقول إنّكم فعلتم، ولكن الشيطان ربّما نزغ النزغة فيما يكون وفيما لا يكون.» قال: - «فهل فيكم أحد بدا له [273] أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عترة النبىّ صلّى الله عليه؟» قالوا: «لا.» قال: - «أفتشكون فى أنّهم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله صلّى الله عليه؟» قالوا: - «اللهم لا» قال:   [1] . فيه: زيادة من نصّ الطبري (9: 1961) . [2] . فى مط: عمّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 - «فأراكم قد شككّتم فى أمركم، ورددتم عليهم علمهم، ولو لم يعلموا أنّ هذا الرجل هو الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم لم يبعثوه إليكم وهو لا يتّهم فى موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقّهم.» ردّ أبى مسلم من قومس وتولية الأمر إيّاه فبعثوا إلى أبى مسلم [1] وردّوه من قومس بقول أبى داود، وولّوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا. فلم تزل تلك فى نفس أبى مسلم على سليمان بن كثير ولم يزل يعرفها لأبى داود. وأطاعت الشيعة من النقباء وغير هم أمر أبى مسلم. فبثّ الدعاة فى أقطار خراسان ودخل الناس أفواجا. وكتب إليه إبراهيم فى إظهار دعوته وأن يوجّه إليه [2] بقحطبة بن شبيب ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال، فكان اجتمع عنده ثلاثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بها متاع التجار من القوهىّ والمروىّ والحرير والفرند، وجعلها بعضها سبائك ذهب وفضّة وجعلها فى الأقبية المحشوّة وأشباهها. فبعث [274] جميع ذلك مع قحطبة حين اجتمعت القوافل وأمن على ما أنفذه. تحالف عامّة قبائل العرب فى خراسان على قتال أبى مسلم وفى هذه السنة تحالفت عامّة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبى مسلم وذلك حين كثر أتباع أبى مسلم وقوى أمره.   [1] . فى الطبري (9: 1962) : فبعثوا آل أبى مسلم. [2] . فى مط: إليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 ذكر السبب فى ذلك لمّا ظهر أبو مسلم، سارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه لا يعرض لهم أحد، وكان الكرمانىّ وشيبان لا يكرهان أمر أبى مسلم لأنّه دعا إلى خلع بنى مروان وأبو مسلم فى آلين فى خباء ليس له حرس ولا حجّاب. فعظم أمره عند الناس وقالوا: - «ظهر رجل من بنى هاشم له حلم ووقار وعليه سكينة.» فانطلق عند ذلك فتية من أهل مرو نسّاك، كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم فى عسكره. فسألوه عن نسبه فقال: - «خبري خير لكم من نسبي.» وسألوه عن أشياء من الفقه فقال: - «إنّ أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا ونحن فى شغل [1] فاعفونا لنتوفّر [2] على ما أنتم أحوج ونحن إليه.» قالوا: - «والله ما نعرف لك نسبا ولا نظنّك تبقى إلّا قليلا حتى تقتل [275] وما بينك وبين ذلك إلّا أن يتفرّغ لك أحد هذين الأميرين.» قال أبو مسلم: - «بل أنا أقتلهما إن شاء الله.» ورجع الفتية فأتوا نصرا فحدّثوه. فقال: - «جزاكم الله خيرا مثلكم تفقّد هذا وعرفه.» وأتوا شيبان فأعلموه. فقال:   [1] . ونحن إلى عونكم أحوج منّا إلى مسألتكم فاعفونا. (الطبري 9: 1965) . [2] . فى مط: ليتوفى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 - «نحن قد أشجى بعضنا بعضا.» فأرسل إليه نصر: - «إن شئت فكفّ عنّى حتّى أقاتله وإن شئت فجامعنى [1] على حربه حتّى أقتله أو أنفيه، ثمّ نعود لأمرنا.» فهمّ شيبان أن يفعل ذلك وظهر فى العسكر، [2] وأتت عيون أبى مسلم أبا مسلم فأخبروه. فقال سليمان لأبى مسلم: - «ما هذا الأمر الذي بلغهم تكلّمت عند أحد بشيء؟» فأخبره بخبر الفتية فقال: - «هذا إذا لذاك.» فكتبوا إلى على بن الكرمانىّ: إنّك موتور. قتل أبوك ونحن نعلم أنّك لست على رأى شيبان، وإنّما تقاتل لثأرك، فامنع شيبان من صلح نصر. فدخل على شيبان فكلّمه وثناه عن رأيه. فأرسل نصر إلى شيبان: - «إنّك مغرور، وأيم الله إنّى أرى هذا الأمر يتفاقم حتّى تستصغرنى فى جنبه.» فبينا هم فى أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبّى إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي، فطرده من هراة. فقدم عيسى بن علىّ على نصر منهزما، [276] وغلب النضر على هراة، وغلب خازم بن خزيمة على مرو الروّد، وقتل عامل نصر بن سيّار، وكتب بالفتح إلى أبى مسلم مع ابنه خزيمة بن خازم. فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيبانى:   [1] . فى مط: فجيء معى، بدل «جامعني» . والطبري (9: 1966) كالأصل. [2] . والعبارة فى الطبري: فهمّ شيبان أن يفعل، فظهر ذلك فى العسكر (نفس الصحفة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 - «اختاروا إمّا أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو تهلك مضر قبلكم.» قالوا: - «وكيف ذلك؟» قال: - «إنّ هذا الرجل إنّما ظهر منذ شهر وقد صار فى عسكره مثل عسكركم.» قالوا: «فما الرأى؟» قال: - «صالحوا نصرا فإنّكم إن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم، لأنّ الأمر فى مضر، وإن لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم ثمّ عادوا عليكم.» قالوا: «فما الرأى؟» قال: - «قدّموهم قبلكم ولو بساعة. فتقرّ أعينكم بقتلهم.» فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه. وأرسل إليه سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتابا وأتى به شيبان وعن يمينه ابن الكرمانىّ وعن يساره يحيى بن نعيم. فقال سلم لابن الكرمانىّ: - «يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن هلاك مضر يكون على يده.» ثمّ توادعوا سنة، وكتبوا بينهم كتابا، فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: - «إنّا نوادعك أشهرا.» فتوادعا ثلاثة أشهر. فقال ابن الكرماني: - «فانّى والله ما صالحت نصرا وإنّما صالحه [277] شيبان وأنا لذلك كاره وأنا موتور ولا أدع قتاله.» فعاوده القتال وأبى شيبان أن يعينه وقال: - «لا يحلّ الغدر.» فأرسل ابن الكرماني إلى أبى مسلم يستنصره على نصر بن سيّار، فأقبل أبو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 مسلم حتّى نزل الماخوان [1] . فأرسل إلى ابن الكرماني شبل بن طهمان يعرّفه أنّى قد أقبلت وأنّى معك على نصر. فقال ابن الكرماني لشبل: - «إنّى أحبّ أن يلقاني أبو مسلم.» فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يوما، ثمّ سار إلى ابن الكرماني وخلّف عسكره بالماخوان، فتلقّاه عثمان الكرماني فى خيل وسار معه حتّى دخل العسكر وأتى حجرة علىّ، فوقف حتّى أذن له. فدخل وسلّم على علىّ بالإمرة وقد اتّخذ علىّ له منزلا فى قصر لمخلد بن الحسن الأزدى فأقام يومين ثمّ انصرف إلى عسكره بالماخوان وكان احتفر بها خندقا وجعل له بابين ووكلّ بكل باب ثقة واستعمل على الشّرط أبا نصر مالك بن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل بن مظفّر ويكنى أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب. فكان القاسم بن مجاشع يصلّى بأبى مسلم فى الخندق [278] الصلوات ويقصّ القصص بعد العصر. فيذكر فضل بنى هاشم ومعايب بنى أميّة. ولم يزل أبو مسلم كرجل من الشيعة فى الهيئة حتّى أتاه عبد الله بن بسّام بالأروقة والفساطيط وبآلة المطابخ [2] والمعالف للدوابّ وحياض الأدم للماء. فاستعمل أبو مسلم داود بن كرّاز على العبيد وأفردهم عن عسكره واحتفر لهم خندقا ثمّ أمر أبو مسلم كامل بن مظفّر أن يعرض الجند فى الخندق بأسمائهم وأسماء آباءهم وحلاهم وأن ينسبهم إلى القرى ويجعل ذلك فى دفتر. ففعل، وبلغت عدّتهم سبعة آلاف رجل. فأعطى كل رجل ثلاثة دراهم. ثمّ   [1] . الخاء مشكولة بالضمّ فى الطبري (9: 1967) وهي مفتوحة فى الأصل فى أغلب المواضع. فى آ: ماجوان. [2] . المطابخ: هذه الكلمة تكررت فى الأصل ومط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 أعطاهم بعد ذلك أربعة أربعة على يدي أبى صالح كامل [1] القبائل يضعون الحروب ويتّفقون على محاربة أبى مسلم ثمّ إنّ القبائل من مضر وربيعة وقحطان تواعدوا على وضع الحروب وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبى مسلم. فإذا نفوه عن مرو نظروا فى أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه وكتبوا على أنفسهم بذلك كتابا وثيقا. وبلغ أبا مسلم الخبر فأفظعه ذلك وأعظمه. فنظر أبو مسلم فى أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء. فتخرّف أن يقطع نصر بن سيّار عنه الماء. فتحوّل إلى آلين قرية أبى منصور [279] طلحة بن زريق النقيب، وخندق بآلين خندقا وجعل شربه وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان [2] لا يمكن قطعه عنهم. وخرج [3] نصر بن سيّار إليه فعسكر على نهر عياض وفرّق قوادّه حول أبى مسلم ليواقعه. فكان أحد قوادّه أبو الذيّال فأنزل جنده بطوسان وكان عامّة أهلها مع أبى مسلم فى الخندق فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا بقرهم ودجاجهم وحمامهم، وكلّفوهم الطعام والعلف. فشكت الشيعة ذلك إلى أبى مسلم، فوجّه معهم خيلا، فلقوا أبا الذيّال فهزموه وأصحابه وأسروا منهم جماعة، فكساهم أبو مسلم وداوى جرحاهم وخلّى سبيلهم. فى هذه السنة قتل جديع بن علىّ الكرماني وصلب. ذكر مقتل جديع الكرماني وصلبه قد ذكرنا مقتل الحارث بن سريج وأنّ الكرماني هو الذي قتله. ولمّا قتله   [1] . فى آ: كامل بن مظفّر. [2] . فى آ: الخرفان، بدل: الخرقان. [3] . فى آ: وخرج إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 خلصت له مرو وتنحّى نصر بن سيّار عنها إلى أبر شهر وقوى أمر الكرماني فوجّه نصر إليه سلم بن أحوز، فسار فى رابطة نصر وفرسانه حتّى لقى الكرماني، فوجد يحيى بن نعيم واقفا [280] فى ألف رجل من ربيعة ومحمّد بين المثنّى فى سبعمائة من فرسان الأزد وجماعة أخرى فى ألف من فتيانهم والصغرى فى ألف من أبناء اليمن. فلمّا تواقفوا قال سلم بن أحوز لمحمّد بن المثنّى: - «يا محمّد، مر هذا الملّاح بالخروج إلينا.» فقال محمد لسلم: - «يا بن الفاعلة، لأبى علىّ تقول هذا؟» ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، وانهزم سلم بن أحوز، وقتل من أصحابه خلق وقدم أصحاب نصر عليه فلولا. فقال له عقيل: - «يا نصر، شأمت العرب. فأمّا إذ صنعت ما صنعت فشمّر عن ساق وجدّ.» فوجّه عصمة بن عبد الله فوقف سلم بن أحوز فنادى: - «يا محمّد، لتعلمنّ أنّ السمك لا يغلب اللخم [1] .» فقال محمد: - «لتعلمن، فقف لنا إذا.» وأمر محمّد الصغرى فخرج إليه فى أهل اليمن. فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم عصمة حتّى أتى نصرا وقد قتل من أصحابه أربعمائة. ثمّ أرسل نصر مالك بن عمرو التميم فأقبل فى أصحابه فنادى: - «يا ابن المثنّى، ابرز لى إن كنت رجلا.»   [1] . فى الأصل وآ: اللحم (بالحاء المهملة) وما أثبتناه هو من الطبري (9: 1971) . وجاء فى حواشيه: واللخم دابّة من دوابّ الماء تشبه السبع يأكل السمك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 فبرز له فضربه التميمي على حبل عاتقه فلم يصنع شيئا وضربه محمّد بن المثنّى بعمود فشدخ رأسه. والتحم القتال فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم أصحاب نصر وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقد قتل [281] من أصحاب الكرمانىّ ثلاثمائة رجل. فلم يزل الشرّ بينهم حتّى خرجوا جميعا إلى الخندقين فاقتتلوا قتالا شديدا. حيلة لأبى مسلم تمّت له فلمّا علم أبو مسلم أنّ كلا الفريقين قد أثخن صاحبه وأنّه لا مدد لهم جعل يكتب الكتاب إلى شيبان، ثمّ يقول للرسول: - «انطلق، فاجعل طريقك على المضريّة، فانّهم سيعرضون لك ويأخذون كتبك.» فكانوا يأخذونها فيجدون فيها: إنّى رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم فلا تثقنّ بهم ولا تطمئنّ إليهم فإنّى أرجوا أن يريك الله فى اليمانية ما تحبّ، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرا.» ويرسل رسولا آخر فى طريق آخر فيه ذكر المضريّة بمثل ذلك حتّى صار هوى الفريقين جميعا معه. وجعل يكتب إلى نصر بن سيّار وإلى الكرماني: - «إنّ الإمام قد وصّانى بكم، ولست أعدوا رأيه فيكم.» وكتب إلى الكور بإظهار الأمر، فكان أوّل من سوّد أسيد [1] بن عبد الله الخزاعي بنسّا ونادى: - «يا محمد، يا منصور.» وسوّد معه مقاتل بن الحكم وغيره، وسوّد أهل أبيورد وأهل مرو الرود.   [1] . أسيد: الضبط من الطبري (9: 1972) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وأقبل أبو مسلم حتّى نزل بين خندق نصر بن سيّار وخندق جديع الكرماني وهابه الفريقان وكثر [282] أصحابه. وكتب نصر بن سيّار إلى مروان يعلمه حال أبى مسلم، وكثرة من معه، وإظهاره أمره، وأنّه يدعو إلى إبراهيم بن محمّد. وكتب بأبيات شعر: أرى خلل [1] الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها [2] الكلام فقلت من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام فإن يك قومنا أمسوا رقودا ... فقل هبّوا، فقد حان القيام وكتب إليه مروان: - «الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فأحسم الثؤلول قبلك.» فقال نصر: - «أمّا صاحبكم فقد أعلمكم أن لا نصر عنده.» فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمدّه وكتب إليه: أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبيّنت أن لا خير فى الكذب إنّ خراسان أرض قد أصبت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدّثت بالعجب فراخ عامين إلّا أنّها كثرت ... لمّا يطرن وقد سربلن بالزّغب   [1] . فى الطبري (9: 1973) : بين الرماد: بدل: خلل: بين. [2] . فى الطبري: مبدأها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وإن [1] يطرن ولم يحتل لهنّ بها ... يلهبن نيران حرب أيّما لهب [283] فقال يزيد: - «لا غلبة إلّا بكثرة، [2] فليس عندي رجل.» ولمّا كتب نصر إلى مروان بخبره وخبر أبى مسلم وظهوره وقوّته، وأنّه يدعو إلى إبراهيم بن محمّد، ألقى [3] ورود كتاب نصر على مروان وقدوم رسول لأبى مسلم كان أرسله إلى إبراهيم بن محمّد ومعه جواب إبراهيم عن كتاب لأبى مسلم إليه يلومه ألّا يكون واثب نصرا والكرمانىّ إذ أمكناه، ويأمره ألّا يدع بخراسان متكلّما بالعربية إلّا قتله. فدفع الرسول الكتاب إلى مروان فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك، وهو على دمشق، أن يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كراد والحميمة، [4] فليأخذ إبراهيم بن محمّد، فيشدّه وثاقا ويبعث به فى حبل. [5] فوجّه الوليد إلى عامل البلقاء فأتى إبراهيم وهو فى مسجد القرية فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد، محمله الوليد إلى مروان فحبسه فى السجن. رجع الحديث إلى قصّة نصر والكرمانىّ وما كان من قتل نصر الكرمانىّ وصلبه إيّاه وأظهر أبو مسلم، لمّا تفاقم الأمر بين الكرماني وبين نصر، أنّه مع الكرمانىّ،   [1] . هذا البيت ليس فى الطبري. [2] . فى الأصل وآ: لا عليه إلّا يكثر. والظاهر أنّه تصحيف لما فى الطبري (9: 1974) : لا غلبة إلّا بكثرة. [3] . فى الطبري (9: 1974) : فألفى الكتاب مروان. [4] . فى الطبري (9: 1975) . كزر الحميمه. وفى حواشيه: كرار والحميمه. آ، كالأصل. [5] . كذا فى الأصل: فى حبل. وما فى الطبري (9: 1975) : فى خيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 فقبل ذلك الكرماني، وانضمّ إليه أبو مسلم. فاشتدّ ذلك على نصر وأرسل إلى الكرمانىّ: [284]- «ويلك لا تغترّ، فو الله إنّى لخائف عليك وعلى أصحابك منه، ولكن هلمّ إلى الموادعة فندخل مرو ونكتب بيننا كتابا بالصلح.» وهو يريد أن يفرّق بينه وبين أبى مسلم. فدخل الكرماني منزله وأقام أبو مسلم فى العسكر وخرج الكرمانىّ حتّى وقف فى الرحبة فى مائة فارس وعليه قرطق [1] خشكشويه [2] ثمّ أرسل إلى نصر: - «أخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب.» فأبصر نصر منه غرّة، فوجّه إليه ابن الحارث بن سريج فى نحو ثلاثمائة فارس، فالتقوا فى الرحبة فاقتتلوا بها طويلا. ثمّ إنّ الكرمانىّ طعن فى خاصرته فخرّ عن دابّته وحماه أصحابه حتّى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرمانىّ وصلبه وصلب معه سمكة. [3] فأقبل ابنه علىّ وقد كان صار إلى أبى مسلم، فقاتله حتّى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، فأقبل أبو مسلم حتّى دخل مرو، وأتاه علىّ بن جديع فسلّم عليه بالإمرة وأعلمه أنّه معه على ما يريد من مساعدته وقال: - «مرني بأمرك.» قال:   [1] . قرطق: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1975) . القرطق والقرطق: هو تعريب «كرته» : القباء. (لسان العرب) [2] . خشكشويه: كذا فى الأصل. وما فى آمهمل فى ما قبل الأخير: وفى الطبري (9: 1975) : خشكشونه. [3] . انظر الطبري (9: 1975) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 - «أقم على ما أنت عليه حتّى آمرك بأمرى.» وفى هذه السنة غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب على [285] فارس. ذكر السبب فى ذلك. لمّا هزم عبد الله بن معاوية بالكوفة، شخص إلى المدائن فبايعه أهلها وقصده قوم من الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها وعلى حلوان وقومس والرىّ وإصبهان. وكان محارب بن موسى مولى يشكر عظيم القدر بفارس قد تمكّنت له منزلة ورئاسة جليلة. فجاء يمشى فى نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل الذي كان بها من جهة ابن عمر، وقال لبعض الرؤساء يقال له عمارة: - «بايع الناس.» فقال أهل إصطخر: - «على ما تبايع؟» قال: - «على ما أحببتم وكرهتم.» فبايعوه لابن معاوية. وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليهم وأصاب فى غارته إبلا لثعلبة بن حسّان المازني فاستاقها ورجع. فخرج ثعلبة فى طلب إبله ومع ثعلبة مولى له. فقال له مولاه: - «هل لك أن تفتك بمحارب فإن شئت ضربته وكفيتني الناس. وإن شئت ضربته وكفيتك الناس.» قال: «ويحك، أردت أن نقتل وتذهب الإبل؟» ولم يلق الرجل. ثمّ دخل على محارب، فرحّب به وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 - «حاجك» قال: «أبلى.» قال: «نعم، لقد أخذت وما أعرفها وقد عزلتها [286] فدونك إبلك.» فأخذها وقال لمولاه: - «هذا خير أم ما أردت؟» قال: «هذا خير، وذاك كان أشقى.» فقال: «بمثل رأيك تزول النعم وتزول النفوس.» ثمّ إنّ عبد الله بن معاوية قوى بفارس وأتاه الناس، بنو هاشم وغيرهم، وجبى المال. وكان معه منصور بن جمهور، وسليمان بن هشام بن عبد الملك، وشيبان بن عبد العزيز الخارجي. وذلك قبل أن يصير إلى خراسان. ولم يزل عبد الله بن معاوية بإصطخر حتّى أتاه ابن ضبارة وقد حكينا أمره وما كان من هزيمة ابن معاوية وهرب شيبان ومنصور بن جمهور وغيرهما. موافاة أبى حمزة الخارجي وفى هذه السنة وافى الموسم أبو حمزة الخارجي من قبل عبد الله بن يحيى طالب الحقّ محكّما مظهرا الخلاف على مروان بن محمّد. ذكر الخبر عن ذلك لمّا كان تمام سنة تسع وعشرين ومائة لم يكن عند الناس خبر بعرفة [1] حتّى طلعت أعلام وعمائم سود فى رؤوس الرماح وهم سبعمائة ففزع الناس منهم وقالوا لهم:   [1] . انظر الطبري (9: 1981) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 - «ما لكم، ما حالكم؟» فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرّؤ منهم. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ على مكّة والمدينة، فى الهدنة. فقالوا: - «نحن [287] أضنّ بحجّنا.» وصالحهم على أنّهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتّى ينفر الناس النفر الآخر ويصبحوا من الغد. فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد. فلمّا كانوا بمنى ندّموا عبد الواحد وقالوا له: - «أخطأت لو حملت الحاجّ عليهم ما كانوا إلّا أكلة رأس.» ولمّا كان فى النفر الأوّل نفر عبد الواحد وخلّى مكّة لأبى حمزة فدخلها بغير قتال وهجا الشعراء عبد الواحد ومضى إلى المدينة فضرب على الناس البعث وزادهم فى العطاء عشرة عشرة. [1] ثمّ دخلت سنة ثلاثين ومائة وفيها دخل أبو مسلم حائط مرو ونزل دار الإمارة ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك مصير علىّ بن جديع الكرماني إليه وسبب مصير علىّ معه أنّ سليمان بن كثير كان يقول لعلىّ بن الكرماني: - «يقول لك أبو مسلم، أما تأنف من مصالحة نصر بن سيّار وقد قتل أباك بالأمس وصلبه، وما كانت أحسبك تصلّى مع نصر فى مسجد واحد؟» [288] فأدرك عليّا الحفيظة، فرجع عن رأيه، وانتقض صلح العرب.   [1] . انظر الطبري (9: 1983) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 فبعث نصر بن سيّار إلى أبى مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعث ربيعة وقحطان إليه بمثل ذلك. فتراسلوا أيامّا. فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتّى يختار أحدهما. ففعلوا وأمر أبو مسلم الشيعة أن تختار ربيعة وقحطان، فإنّ السلطان فى مضر وهم عمّال مروان وهم قتلة [1] يحيى بن زيد، فقدم الوفدان. فكان فى وفد مضر عقيل بن معقل، وعبيد الله بن عبد ربّه، فى رجال منهم. وكان فى وفد قحطان عثمان بن الكرمانىّ ومحمّد بن المثنّى فى رجال منهم. فلمّا دخلوا إلى أبى مسلم كان معه فى البيت سبعون رجلا من الشيعة وكان أبو مسلم كتب كتابا يقرأ على الشيعة ليختاروا أحد الفريقين. فلمّا فرغ من قراءة الكتاب، قام سليمان بن كثير فتكلّم وكان خطيبا مفوّها فاختار علىّ بن الكرماني وأصحابه ثمّ قام رجل بعد رجل من وجوه الشيعة فتكلّموا نحو كلام سليمان. ثمّ قام مزيد بن شقيق فقال: - «مضر قتلة آل النبىّ وأعوان بنى أميّة وشيعة مروان، ودماؤنا فى أعناقهم، وأموالنا فى أيديهم، ونصر بن سيّار عامل مروان على [289] خراسان ينفذ أموره ويدعو له على منبره، ويسمّيه أمير المؤمنين، ونحن من ذلك براء، وقد اخترنا علىّ بن الكرمانىّ وأصحابه من قحطان وربيعة.» فضجّ من كان فى البيت بأنّ: - «القول ما قال مزيد بن شقيق.» فنهض وفد مضر عليهم الكآبة والذلّة. ووجّه معهم أبو مسلم القاسم بن مجاشع فى خيل حتّى بلغوا مأمنهم، ورجع وفد علىّ بن الكرمانىّ مسرورين منصورين.   [1] . فى مط: قتلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وقال أبو مسلم للشيعة: - «استعدّوا للشتاء. فقد أعفاكم الله من اجتماع كلمة العرب وصيّرهم إلى افتراق، وكان ذلك من الله قدرا مقدورا. ذكر السبب فى دخوله حائط مرو كان حائط مرو فى يد نصر، لأنّه عامل خراسان. فأرسل علىّ بن الكرمانىّ إلى أبى مسلم أن: - «ادخل الحائط من قبلك وأنّا أدخل مع عشيرتي من قبلي فتغلب على الحائط.» فأرسل إليه أبو مسلم: - «إنّى لست آمن أن تجتمع يدك ويد نصر على محاربتى ولكن ادخل أنت فأنشب [1] الحرب بينك وبين أصحاب نصر بن سيّار.» فدخل علىّ بن الكرماني [290] فأنشب الحرب. وبعث أبو مسلم. أبا علىّ شبل بن طهمان النقيب فى خيل، فدخلوا الحائط، وبعثوا إلى أبى مسلم. أن: ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان وعلى مقدّمته أسيد بن عبد الله، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع. حتّى دخل الحائط والفريقان يقتتلان. فأمرهما بالكفّ وهو يتلو من كتاب الله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا من شِيعَتِهِ وَهذا من عَدُوِّهِ» 28: 15 [2] ومضى أبو مسلم حتّى نزل قصر الإمارة الذي ينزله عمّال خراسان، وهرب نصر بن سيّار وصفت مرو لأبى مسلم. فأمر أبا منصور   [1] . آ: وأشب الحرب. [2] . س 28 القصص: 15 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 طلحة بن زريق أن يأخذ البيعة على الناس من الهاشميّه خاصّة. وأبو منصور هذا أحد النقباء الاثني عشر الذين اختارهم محمّد بن علىّ من السبعين الذين استجابوا له سنة ثلاث ومائة. وكان مفوّها، نبيلا، فصيحا، عالما بحجج الهاشميّة وكان أبوه حيّا، يكنّى أبا زينب، وكان شهد حرب عبد الرحمن بن الأشعث وصحب المهلّب بن أبى صفرة، فكان أبو مسلم يشاوره فى الأمور، ويدعوه بالكنية: - «يا با طلحة ما تقول، وما رأيك؟» وكانت بيعته [291] : - «أبايعكم على كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه، والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله عزّ وجلّ وعلى ألّا تسألوا رزقا ولا طعما [1] حتّى يبدأكم به ولاتكم وإن كان عدوّ أحدكم تحت قدمه ألّا يهيّجوه إلّا بأمر ولاتكم.» ولمّا حبس أبو مسلم سلم بن أحوز، ويونس بن عبد ربّه، وعقيل بن معقل، وأصحابهم، وشاور أبا طلحة فيهم، فقال له: - «اجعل سوطك السيف وسجنك القبور.» فأقدم عليهم أبو مسلم فقتلهم. وكانت عدّتهم أربعة وعشرين رجلا صناديد. ويقال: إنّ أبا مسلم لمّا دخل دار الإمارة بمرو، أرسل إلى نصر مع لاهز بن   [1] . طعما: فى الأصل وآ ومط والطبري (9: 1989) : «طمعا» . ولعلّ الصواب ما فى حواشي الطبري: «طعما» كما أثبتناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 قريظ، وقريش بن شقيق، وعبد الله بن البختري [1] ، يدعوه إلى كتاب الله والطاعة للرضا من آل محمّد. فلمّا رأى نصر ما جاءه من اليمانية والربعيّة والعجم، وأنّه لا طاقة له بهم، أظهر قبول ما بعث به إليه على أن يأتيه فيبايعه. فجعل يريّثهم لما همّ به من الغدر والهرب، إلى أن أمسى، فأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم فلم يتيسّر لهم الخروج فى تلك الليلة. [292] وقال له سلم بن أحوز- «إنّه لا يتيسّر لنا الخروج الليلة ولكن [نخرج] [2] القابلة.» فلمّا كان صبح تلك الليلة، عبّأ أبو مسلم كتائبه، فلم يزل فى تعبئتها إلى بعد الظهر. وأرسل إلى نصر لاهز بن قريظ، وقريش بن شقيق، وعبد الله بن البختري، وعدّة من أعاجم الشيعة فدخلوا على نصر فقال لهم: - «ما أسرع ما عدتم؟» فقال له لاهز بن قريظ: «لا بدّ من ذلك.» فقال نصر: «أمّا إذا كان لا بدّ منه، فإنى أتوضّأ وأخرج إليه، وأرسل إلى أبى مسلم، فإن كان هذا رأيه أتيته ونعمى عين [3] وكرامة وأنا أتهيّأ إلى أن يجيء رسولي.» فقام نصر كأنّه يتوضّأ. فلمّا قام، قرأ لاهز هذه الآية: «يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ من النَّاصِحِينَ.» 28: 20 [4] فدخل نصر حجرته ومعه تميم ابنه والحكم بن نميلة وحاجبه فخرج من   [1] . البختري: فى الأصل وآ ومط فى هذا الموضع: البختري (بالحاء المهملة) وفى موضع آت: البختري (بالخاء المعجمة) فرجّحنا الإعجام وفقأ للطبري (9: 1993) . [2] . نخرج: تكملة زدناها عن الطبري (9: 1993) . [3] . فى الطبري (9: 1994) : لعينه. [4] . س 28 القصص: 20. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 خلف حجرته عند دخول وقت الصلاة حين أظلم الوقت وانطلقوا هرّابا. فلمّا استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله، فوجدوه قد هرب. فلمّا بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر فأخذ ثقات أصحابه وصنادير مضر الذين كانوا فى عسكر نصر فكتفهم، وكان فيمن أخذ سلم بن أحوز [293] وغيره، واستوثق منهم بالحديد ووكّل بهم حتّى قتلهم كما حكينا قبيل. ومضى نصر حتّى نزل سرخس فيمن اتّبعه، وكانوا ثلاثة آلاف. ومضى أبو مسلم وعلىّ بن جديع فى طلبه. فركضا ليلتهما حتّى أصبحا فى قرية تدعى: نصرانيّة، فوجدا نصرا قد خلّف امرأته المرزبانة فيها ونجا بنفسه. فرجع أبو مسلم وعلىّ بن جديع إلى مرو، فقال أبو مسلم للقوم الذين كان وجّههم إلى نصر: - «ما الذي ارتاب به منكم؟» قالوا: «لا ندري.» قال: «فهل تكلّم أحد منكم؟» قالوا: «لا ندري.» قال بعضهم: - «تلا لاهز: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج. [1] » قال: «هذا الذي [2] دعاه إلى الهرب.» ثمّ قال: - «يا لاهز، أتدغل فى الدين؟» ثمّ قدّمه فضرب عنقه.   [1] . س 28 القصص: 20 [2] . الذي: كذا فى آومط والطبري. ما فى الأصل يشبه أن يكون: الذائى، الزاني؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 وفى هذه السنة قتل شيبان الحرورىّ ذكر الخبر عن مقتله وسببه كان علىّ بن جديع وشيبان مجتمعين على قتال نصر بن سيّار، لمخالفة شيبان نصرا. لأنّ شيبان خارجى وعلىّ بن جديع يخالف نصرا، لأنّه يمان ونصر مضرىّ، ولأنّ نصرا قتل أباه وصلبه. فلمّا صالح علىّ بن الكرماني أبا مسلم وفارق شيبان تنّحى شيبان [294] عن مرو لأنّه علم أن لا طاقة له بأبى مسلم وعلىّ بن جديع مع تآلفهما واجتماعهما على خلافه، وقد هرب نصر من مرو. فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه إلى بيعته، فأرسل إليه شيبان: - «بل أنا أدعوك إلى بيعتي.» فأرسل إليه أبو مسلم: - «إن لم تدخل فى أمرنا، فارتحل عن منزلك.» فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره فأبى. فسار شيبان إلى سرخس، واجتمع إليه جمع من بكر بن وائل. فبعث إليه أبو مسلم تسعة من الأزد فيهم المنتجع بن الزبير، يدعوه إلى المسالمة. فأرسل شيبان إلى رسل أبى مسلم فحبسهم. فكتب أبو مسلم إلى بسّام بن إبراهيم مولى بنى ليث ببيورد يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله، ففعل، فهزمه بسّام واتّبعه حتّى دخل المدينة، فقتل شيبان وعدّة من بكر بن وائل. فقيل لأبى مسلم: - «إنّ بسّام ثائر بأبيه وهو يقتل البريء والسقيم.» فكتب إليه أبو مسلم، فقدم واستخلف على عسكره. ولمّا قتل شيبان مرّ رجل من بكر بن وائل يقال له: خفاف، [1] برسل أبى مسلم الذين كان حبسهم شيبان، فأخرجهم وقتلهم.   [1] . الضبط فى الطبري: خفاف (بفتح الخاء) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 أبو مسلم يقتل ابني جديع الكرماني وفى هذه السنة قتل أبو مسلم عليّا وعثمان ابني جديع الكرماني. [295] ذكر السبب فى قتله إيّاهما كان السبب فى ذلك أنّ أبا مسلم وجّه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري فلمّا بلغه قصد أبى داود بلخ، خرج فى أهل بلخ وغيرها من كور طخارستان إلى الجوزجان، فلمّا دنا أبو داود منهم انصرفوا منهزمين إلى التّرمذ. ودخل أبو داود مدينة بلخ بمن معه، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه مكانه يحيى بن نعيم. فخرج أبو داود وكاتب زياد بن عبد الرحمن يحيى بن نعيم بما دهم العرب من أبى مسلم وسأله أن تصير أيديهم واحدة فأجابه. فرجع زياد بن عبد الرحمن القشيري، ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي، وأهل بلخ والتّرمذ، وملوك طخارستان وما خلف النهر ودونه. فنزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ، وخرج إليه يحيى بن نعيم ومن معه حتّى اجتمعوا، فصارت كلمتهم واحدة مضريّهم يمانيّهم وربعيّهم ومن معهم من العجم على قتال المسوّدة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيّان النبطي كراهة أن تكون لواحد من الفرق الثلاث. وكتب أبو مسلم إلى أبى داود [296] يأمره بالانصراف. فانصرف أبو داود بمن كان معه حتّى اجتمعوا على نهر السّرخيان [1] .   [1] . هنا فى الأصل: الشرخيان وفى الموضع الآتي: السرخيان. مط: السرجان. فى الطبري (9: 1998) : السرجنان وفى حواشيه عن بعض الأصول: السرخان فرجّعنا السين على الشين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 وكان زياد بن عبد الرحمن وأصحابه قد وجّهوا أبا سعيد القرشىّ مسلحة فيما بين الفود [1] وبين قرية يقال لها: بامديان، [2] لئلا يأتيهم أصحاب أبى داود من خلفهم. ذكر اتفاق عجيب وقع على أصحاب زياد حتّى انهزموا وقتلهم أبو داود لمّا اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما واصطفّوا للقتال أمن أبو سعيد القرشي أن يؤتى زياد وأصحابه من خلفهم، فرجع وكانت أعلام أبى سعيد وراياته سودا. فلمّا خرج عليهم من سك الفود من وراءهم نظروا إلى الرايات السود، فظنّوها كمينا لأبى داود، وكان القتال قد نشب بين الفريقين، فانهزم زياد وأصحابه واتبعهم أبو داود، فوقع عامّه أصحاب زياد فى نهر السّرخيان، وقتل عامّة رجالهم المتخلّفين، ونزل أبو داود عسكرهم، [3] وحوى ما فيه ولم يتبعهم. وأقام أبو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل بلخ واستصفى أموال من قتل بالسّرختان ومن هرب من العرب وغيرهم واستقامت بلخ لأبى داود. ثمّ كتب إليه أبو مسلم [297] يأمره بالقدوم عليه، ووجّه النضر بن صبيح المرّىّ على بلخ، وقدم أبو داود، فاجتمع رأى أبى داود ورأى أبى مسلم على أن يفرّق بين علىّ وعثمان ابني الكرماني. فبعث أبو مسلم عثمان عاملا على بلخ فلمّا توجّه إليها استخلف الفرافصة [4] بن ظهير على مدينة بلخ. وأقبلت   [1] . فى الطبري (9: 1998) : العود [2] . فى الطبري (9: 1998) : امديان. [3] . فى الأصل: وعسكرهم. (بزياد الواو) وما فى آ، والطبري من دون واو. [4] . الفرافصة: كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 1999) . فى مط: الفراقصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 المضريّة من الترمذ عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي. فالتقوا مع أصحاب عثمان بن جديع، فهزموا أصحاب عثمان وغلب على بلخ المضريّة، وأخرجوا الفرافصة، وبلغ الخبر عثمان بن جديع والنضر بن صبيح وهما بمرو الرود فأقبلا نحوهم. وبلغ أصحاب زياد بن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، فقصّر النضر فى طلبهم رجاء أن يفوتوا، وجدّ أصحاب عثمان حتّى لقوهم. فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم أصحاب عثمان وأكثر فيهم القتل ومضت المضريّة إلى أصحابهم، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علىّ بن جديع إلى نيسابور، واتّفق رأى أبى مسلم ورأى أبى داود على أن يقتل أبو مسلم عليّا ويقتل أبو داود عثمان فى يوم واحد. فلمّا قدم أبو داود بلخ، بعث عثمان إلى الختّل فيمن معه [298] من أهل مرو ويمانية أهل بلخ وربعيّهم. فلمّا خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الأثر فلحقه على شاطئ نهر بوخش [1] من أرض الختّل فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم، ثمّ ضرب أعناقهم جميعا. وقتل أبو مسلم فى ذلك اليوم علىّ بن جديع، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمّى له خاصّته ليولّيهم ويأمر لهم بجوائز، فسمّاهم له فقتلهم جميعا. قدوم قحطبة بن شبيب على أبى مسلم وفى هذه السنة قدم قحطبة بن شبيب على أبى مسلم خراسان منصرفا من عند إبراهيم بن محمّد، ومعه لواء عقده له إبراهيم. فوجّهه أبو مسلم على مقدّمته، وضمّ إليه الجيوش، وجعل إليه العزل والولاية، وكتب إلى الجنود بالسمع له والطاعة.   [1] . فى مط: بوخس. ومكان العبارة فى الطبري (9: 2000) بياض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 فتوجّه قحطبة إلى نيسابور للقاء نصر. وكان أصحاب شيبان الحرورىّ بعد قتله لحقوا بنصر وهو بنيسابور، وتوجّه قحطبة فى قوّاده، فأخذ جهور بن مرّار وهو أحد القوّاد على ناحية بيورد، وأخذ القاسم بن مجاشع وهو أحد القوّاد على ناحية سرخس، وتوجّه قحطبة نحو طوس ومعه وجوه القوّاد كأبي عون وخالد بن برمك وخازم بن خزيمة [299] وعثمان بن نهيك وأمثالهم. فلقى من بطوس، فانهزموا، ودفعوا إلى مضيق، فكان من مات منهم فى الزحام أكثر ممّن قتل وبلغ عدّة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفا. وتوجّه قحطبة إلى السودقان وهو معسكر تميم بن نصر والنابى. وكان قحطبة قد وجّه على مقدّمته أسيد بن عبد الله الخزاعي فى ثلاثة آلاف رجل فسار إليه وتعبّأ تميم والنابى لقتاله. وكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما أجمعوا عليه من قتاله وأنّه إن لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله، وأعلمه أنّهما فى ثلاثين ألفا من صناديد أهل خراسان وفرسانهم. فوجّه قحطبة مقاتل بن حكيم العكىّ فى ألف وخالد بن برمك فى ألف. فقدما عليه وقوى أسيد بهما، وبلغ ذلك تميما النابى فكسرهما. ثمّ قدم عليهم قحطبة بمن معه وعبّأ ميمنته وميسرته ثمّ زحف إليهم ودعاهم إلى كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه وإلى الرضا من آل محمّد صلّى الله عليه، فلم يجيبوه. فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا. فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل تميم بن نصر فى المعركة، وقتل منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم [300] وانهزم النابى فتحصّن فى المدينة وأحاطت به الجنود، فنقبوا المدينة ودخلوها، فقتلوا النابى ومن كان معه، وهرب عاصم بن عمير وسالم بن راوية إلى نصر بن سيّار بنيسابور، فأخبراه بقتل تميم والنابى ومن كان معهما. فصيّر قحطبة قبض ما فى العسكر المهزوم إلى خالد بن برمك. وارتحل نصر هاربا فى أهل أبرشهر حتّى نزل قومس وتفرّق عنه أصحابه فسار إلى جرجان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 وبها نباتة بن حنظلة من قبل يزيد بن عمر بن هبيرة. ذكر مقتل نباتة بن حنظلة كان يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة الكلابي إلى نصر مددا له فى خيل وعدّة وعتاد. فسار إلى إصبهان، ثمّ سار إلى الرىّ، ومضى إلى جرجان، ولم ينضمّ إلى نصر. وخندق نباتة، وكان إذا وقع الخندق فى دار قوم رشوه فأخّره [1] حتّى صار خندقه نحوا من فرسخ. وأقبل [2] قحطبة إلى جرجان فى سنة ثلاثين ومائة وذلك فى ذى القعدة منها. وقد تعبّأ وجعل على مقدّمته الحسن بن قحطبة. [301] وقال قحطبة: - «يا أهل خراسان، استبصروا فإنّكم تسيرون إلى بقية قوم حرّقوا بيت الله.» وأقبل الحسن بن قحطبة حتّى نزل على تخوم خراسان، وأنفذ قوما إلى مسلحة نباتة وعليها رجل يقال له: ذويب، فبيّتوهم وقتلوا ذويبا وسبعين من أصحابه. ثمّ رجعوا إلى عسكر الحسن. وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة، وكان أهل الشام فى عدّة لم ير الناس مثلها. فلمّا رآهم أهل خراسان هابوهم حتّى تكلّموا بذلك، وبلغ ذلك قحطبة فقام خطيبا. خطبة لقحطبة قوّت قلوب أصحابه قام فقال: - «يا أهل خراسان، إنّ هذه البلاد كانت لآباءكم الأوّلين، وكانوا   [1] . انظر الطبري (9: 2004) فهو كالأصل. [2] . فى الأصل ومط: أرسل. وتحتها بخطّ ناعم: أقبل. فى آوالطبري (9: 2004) : أقبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 ينصرون على أعداءهم، لعدلهم وحسن سيرتهم. فلمّا بدّلوا وظلموا سخط الله عليهم، فانتزع سلطانهم وسلّط عليهم أذلّ أمّة كانت فى الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم واستنكحوا نساءهم، واسترقّوا أولادهم، وقتلوا آباءهم. فكانوا على ذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد وينصرون المظلوم. ثمّ بدّلوا وغيّروا وجاروا فى الحكم وأخافوا أهل البرّ والدين من عترة رسول الله صلّى الله عليه. فسلّطكم الله عليهم لينتقم منهم بكم ليكونوا أشدّ عقوبة لأنّكم طلبتموهم بالثأر. وقد عهد إلىّ الإمام عليه السلام أنّكم تلقونهم فى مثل هذه العدّة فينصركم الله عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم.» وكان قرئ على قحطبة كتاب من أبى مسلم: - «أمّا بعد فناهض عدوّك بجدّ، فإنّ الله ناصرك. فإذا ظهرت عليهم فأثخن فى القتل.» فالتقوا فى متسهل ذى الحجّة واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض. فقتل نباتة وانهزم أهل الشام فقتل منهم أكثر من عشرة آلاف وبعث إلى ابى مسلم برأس نباتة وابنه حيّة [1] . وكان من عجيب [2] ما شوهد فى تلك الحرب أمر سالم بن راوية التميمي، وكان ممّن هرب من أبى مسلم وخرج مع نصر، ثمّ صار مع نباتة فقاتل قحطبة بجرجان فى هذه الوقعة، فلمّا انهزم الناس بقي فثبت وقاتل وحده، فحمل عليه   [1] . كذا فى الطبري (9: 2006) : حيّة. وفى مط: حبة. [2] . فى مط: عظيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 عبد الله الطائىّ وهو من الفرسان، فضربه سالم بن راوية على وجهه فأندر [303] عينه. ثمّ قاتلهم حتّى اضطرّ إلى مسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشدّ فى ناحية إلّا كشفهم. فعطش فجعل ينادى- «شربة، فو الله لأنقعنّ لهم شرا يومى هذا.» فلم يقدر عليه أحد، حتّى حرقوا عليه سقف المسجد، ورموه بالحجارة، حتّى قتلوه، وجاءوا برأسه إلى قحطبة، وليس فى وجهه ولا رأسه مصحّ. فقال قحطبة والناس: - «ما رأينا مثل هذا قطّ.» وقعة قديد وفى هذه السنة كانت الوقعة بقديد بين أبى حمزة الخارجي وأهل المدينة. ذكر الخبر عن ذلك كنّا حكينا أنّ عبد الواحد بن سليمان رجع إلى المدينة، وضرب على البعوث، واستعمل عبد العزيز بن عمرو بن عثمان على الناس، فخرجوا حتّى نزلوا قديد وكانت الحياض هناك وهم قوم مغترّون ليسوا بأصحاب حرب فلم يرعهم إلّا القوم قد خرجوا عليهم فقتلوهم، وكانت المقتلة على قريش، كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة. ودخل أبو حمزة مدينة رسول الله صلّى الله عليه، وهرب عبد الواحد [304] إلى الشام، فأحسن السيرة وخطب فذكر جور بنى مروان وآل أميّة، واستمال الناس حتّى سمعوه يقول فى خطبته: - «يا أهل المدينة، من زنا فهو كافر ومن سرق فهو كافر.» ثمّ إنّ مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف واستعمل عليهم ابن عطيّة و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 أمره بالجدّ فى المسير وأعطى كلّ رجل منهم مائة دينار، وفرسا عربيّا وبغلا لثقله، وأمرهم أن يقاتلهم فإذا ظفر مضى حتّى يبلغ اليمن، ويقاتل عبد الله بن يحيى، ومن تبعه. فخرج حتّى نزل بالمعلّى. [1] ثمّ سار إلى وادي القرى فلقيهم حمزة فقال حمزة: - «لا تقاتلوهم حتّى تختبروهم.» قال: فصاحوا بهم: - «ما تقولون فى القرآن والعمل به؟» فصاح ابن عطيّة: - «وما عليك يا فاجر؟» قالوا [2] : «نحن مسلمون ولا نقاتلكم إلّا ببيان، فأخبرونا عن القرآن وفرائضه.» فصاحوا: «نضعه فى بيوتنا ثمّ نقاتلكم.» ثمّ سألوهم عن أشياء أجابوهم عنها بقبائح، إلى أن قالوا: - «فما تقولون فى مال اليتيم؟» فصاح صائح: - «نأكل ماله ونفجر بأمّه.» فحينئذ قاتلوهم حتّى أمسوا. ثمّ صاحوا: - «ويحك يا ابن عطيّة، إنّ الله جعل [305] الليل سكنا فاسكن نسكن.» فأبى. وقال لأصحابه: - «هذا وهن منهم فجدّوا.»   [1] . المعلّى: كذا فى الأصل ومط وآ. ما فى الطبري (9: 2013) بالعلا، وفى حواشيه: العلاء، العراء. [2] . فى الأصل ومط: قال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 ففعلوا حتّى قتلهم، وانهزم من انهزم منهم. فلمّا رجعوا إلى المدينة منهزمين تلقّاهم أهلها فقتلوهم. مضىّ ابن عطيّة إلى مكّة واليمن ومضى ابن عطيّة إلى مكّة واستخلف على المدينة عروة بن الوليد [1] بن محمّد بن عطيّة، ثمّ مضى من مكّة إلى اليمن واستخلف على مكّة ابن ماعز- رجل من أهل الشام- وبلغ عبد الله بن يحيى وهو بصنعاء مسيره فأقبل إليه بمن معه وقاتله فقتل عبد الله بن معاوية، وتفرّق أصحابه. ودخل ابن عطية صنعاء وبعث برأس عبد الله بن يحيى بن معاوية إلى مروان. قتل قحطبة أهل جرجان وفى هذه السنة قتل قحطبة من أهل جرجان زهاء ثلاثين ألف رجل وذلك أنّ أهل جرجان كان أجمع رأيهم بعد مقتل نباتة بن حنظلة على الخروج على قحطبة فبلغه ذلك. فدخل فاستعرضهم [2] فقتل منهم من ذكرت. رجع الحديث إلى قصّة نصر مع أبى مسلم وقحطبة ولمّا بلغ نصر بن سيّار، قتل نباتة ومن قتل من أهل جرجان وهو بقومس. ارتحل [3] [306] حتّى نزل خوار الرىّ [4] . وكتب أبو مسلم إلى زياد بن زرارة   [1] . فى الطبري (9: 2014) : الوليد بن عروة. [2] . كذا فى الأصل وآ والطبري (9: 2016) . فى مط: فاستصغرهم. [3] . تكرّرت «ارتحل» فى الأصل. [4] . خوار: مدينة كبيرة من أعمال الرىّ، بينها وبين سمنان، تجوز القوافل فى وسطها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 القشيري بعهده على نيسابور، وكتب إلى قحطبة يأمره أن يتبع نصرا فوجّه قحطبة العكّى على مقدّمته وسار حتّى نزل نيسابور فأقام قحطبة بها شهر رمضان وشوّالا، ونصر نازل بقرية من قومس. فكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمدّه ويعظّم الأمر عليه، فحبس ابن هبيرة رسله. فكتب نصر إلى مروان: - «إنّى وجّهت إلى ابن هبيرة بوجوه أهل خراسان ليعلموه شدّة الأمر عندنا وسألته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدّنى بأحد، وإنّما أنا بمنزلة من أخرج من حجرته إلى داره، ثمّ أخرج من داره إلى فناء داره، فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره، وإن أخرج إلى الطريق فلا بقيّة له.» فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمدّ نصرا، وأجاب نصرا يعلمه ذلك. فكتب نصر إلى ابن هبيرة يسأله أن يعجّل إليه الجند، فإنّى قد كذبت أهل خراسان حتّى ما يصدّق أحد منهم لى قولا فأمدّنى بعشرة آلاف [1] قبل أن تمدّنى بمائة ألف ثمّ لا تغنى شيئا. [307] ثمّ دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة وارتحل نصر من قومس حتّى نزل الخوار وأميرها أبو بكر العقيلي وكان قحطبة وجّه ابنه الحسن إلى قومس ثمّ وجّه قحطبة أبا كامل وأبا القاسم بن محرز بن إبراهيم وأبا العبّاس المروزي إلى الحسن فى سبعمائة، فلمّا كانوا قريبا منه انحاز أبو كامل وترك عسكره وأتى نصرا فصار معه، وأعلمه مكان الجند الذين خلفهم، فوجّه نصر إليهم جندا، فأتوهم وهم فى حائط، فحصروهم   [ () ] بينها وبين الرىّ نحو عشرين فرسخا وقد خرب أكثرها (مراصد الإطلاع) . [1] . فى الأصل: بعشر ألف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 فنقّب عليهم فهرب القوم وخلّفوا متاعهم، فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة. وكان ابن هبيرة قد أمدّ بغطيف فى ثلاثة آلاف وقد بلغ الرىّ فعرض غطيف لمّا أنفذه نصر وأخذ الكتاب من رسول نصر والمتاع وبعث به مع صاحبه إلى ابن هبيرة، فغضب نصر وقال: - «أبى يتلعّب ابن هبيرة؟ أيشغب علىّ بضغابيس [1] قيس؟ أما والله لأدعنّه، فليعرفنّ أنّه ليس بشيء ولا ابنه الذي تربّض [2] له الأشياء.» وسار نصر نحو الرىّ وعلى الرىّ حبيب بن بديل النهشلي، فلمّا بلغ غطيفا قرب نصر من الرىّ خرج متوجّها إلى همذان، وفيها مالك بن أدهم بن محرز الباهلي، فلمّا رأى غطيف مالكا فى همذان عدل منها إلى إصبهان، إلى عامر بن ضبارة. [308] ولم يلتق نصر مع غطيف، ثمّ مرض نصر، وكان يحمل حملا وتوجّه إلى همذان فمات فى الطريق. وبلغ الحسن موت نصر، فبعث خزيمة بن خازم إلى سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان، وقدّم أمامه زياد بن زرارة القشيري وكان زياد ندم على اتباع أبى مسلم، فانخزل عن قحطبة وأخذ طريق إصبهان يريد عامر بن ضبارة. فوجّه قحطبة خلفه المسيّب بن زهير، فلحقه من غد العصر، فقاتله وانهزم زياد، وقتل عامّة من صحبه، ورجع المسيّب إلى قحطبة. ثمّ سار قحطبة إلى قومس، وبها ابنه الحسن، وقدم خزيمة بن خازم من الوجه الذي كان وجّهه فيه الحسن، وقدّم قحطبة ابنه الحسن إلى الرىّ، وبلغ حبيب بن بديل النهشلي و   [1] . الضّغبوس: ولد الثعلب. الرجل الضعيف. [2] . فى الأصل وآ: تربّض. فى مط والطبري (10: 2) تربّص. تربّض: تربّص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 من معه من أهل الشام مسير الحسن فخرجوا عن الرىّ، فقدمها الحسن وأقام حتّى قدم أبوه، وكتب قحطبة إلى أبى مسلم بنزوله الرىّ. تحوّل أبى مسلم من مرو إلى نيسابور وفى هذه السنة تحوّل أبو مسلم من مرو إلى نيسابور، وذلك لما ورد عليه كتاب قحطبة بنزوله الرىّ، ووجّه قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله [309] الرىّ بثلاث إلى همدان، فلمّا توجّه إليها خرج منها مالك بن أدهم فترك قوم من أصحاب مالك دواوينهم بعد أن بذلها لهم. وسار مالك إلى نهاوند فيمن تبعه، وسار الحسن فنزل على أربعة فراسخ من المدينة، فأمدّه أبوه قحطبة بأبى الجهم بن عطية مولى باهلة فى سبعمائة ووصّاه أن يحاصر المدينة. فذهب حتّى حاصرها. وفى هذه السنة قتل عامر بن ضبارة واستبيح عسكره. ذكر الخبر عن ذلك وسببه كان سبب ذلك أنّ ضبارة لمّا هزم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، تبعه إلى كرمان ليلحقه، وورد على يزيد بن عمر بن هبيرة مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان فكتب إلى عامر بن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسيرا إلى قحطبة وكان بكرمان، فسار فى خمسين ألفا حتّى نزلوا إصبهان بمدينة جىّ، فكان يقال لعسكر ابن ضبارة: عسكر العساكر. فبعث قحطبة مقاتلا وأبا حفص المهلّبى وموسى بن عقيل ومالك بن طريف فى جماعة أمثالهم وعليهم [310] جميعا العكّىّ، فسار حتّى نزل قم. وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن على أهل نهاوند فأراد أن يأتيهم مغيثا لهم، وبلغ الخبر العكّى فبعث إلى قحطبة يعلمه ووجّه زهير بن محمّد إلى قاسان. و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 خرج العكّى من قم وخلّف بها طريف بن عجلان فكتب إليه يأمره أن يلبث بقم متلوّما حتّى يقدم عليه. وأقبل قحطبة من الرّى وبلغه تلاقى طلائع العسكرين، فلمّا لحق قحطبة بمقاتل بن حكيم العكّى، ضمّه مع عسكره إلى عسكره وسار عامر بن ضبارة إليهم و [بينه وبين] [1] وعسكر قحطبة فرسخ. ثمّ نهد إليه فالتقوا وكان قحطبة فى عشرين ألفا وابن ضبارة [2] فى مائة وخمسين ألفا، فأمر قحطبة بمصحف، فنصب على رمح ثمّ نادى: - «يا أهل الشام، ندعوكم إلى ما فى هذا المصحف.» فشتموه وأفحشوا له فى القول. فقال قحطبة: - «احملوا على اسم الله.» فحمل عليهم العكي، فلم يكن بينهم كثير قتال حتّى انهزم أهل الشام وقتلوا قتلا ذريعا، وحووا عسكرهم فأصابوا شيئا لا يدرى ما عدده من السلاح والمتاع والرقيق، وبعث بالفتح إلى ابنه الحسن. [311] ذكر السبب فى ذلك وكان السبب فى هزيمة ابن ضبارة أنّه كان فى خيل لا رجّالة، معه، وكان قحطبة معه خيل ورجّالة فلمّا رمى الرجّالة الخيل بالنّشاب، انهزم أصحاب ابن ضبارة، فنزل ابن ضبارة [3] فى العسكر ونادى: - «إلىّ، إلىّ.» فمضى أصحابه وطووه وقحطبة فى أثرهم حتّى انتهوا إلى ابن ضبارة فقتله.   [1] . تكملة من الطبري (10: 5) لا يستقيم المعنى بدونها. [2] . زاد فى آ: على ما حكى. [3] . ضباره: الضبط فى الطبري بضمّ الضاد وفى الأصل بفتحها فى كلّ المواضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 وكان داود بن يزيد بن عمر بن هبيرة فيمن انهزم. فسأل عامر عنه، فقيل: انهزم. فقال: - «لعن الله شرّنا منقلبا.» فقاتل حتّى قتل. وقعة قحطبة بنهاوند وفى هذه السنة كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بن محمّد. ذكر الخبر عن هذه الوقعة لمّا قتل ابن ضبارة، وورد خبره على الحسن بن قحطبة، كبّر وكبّر جنده. فقال عاصم بن عمير: - «ما صاح هولاء إلّا بقتل ابن ضبارة، فافرجوا [1] عن الحسن بن قحطبة قبل أن يأتيه أبوه أو مدد من قبله.» فلا تقومون [2] له. فقال الرّجالة: - «تخرجون وأنتم فرسان على خيول فتذهبون وتخلّوننا.» فقال لهم مالك بن أدهم الباهلي [312] : - «كتب إلىّ ابن هبيرة ولا أبرح حتّى يقدم علىّ.» فأقاموا وأقام قحطبة بإصبهان عشرين يوما، ثمّ سار حتّى قدم على الحسن بنهاوند، فحصرهم ودعاهم إلى الأمان فأبوا، فوضع عليهم المجانيق. فلمّا اشتدّ   [1] . فى الأصل وآ: فافرحوا (بالحاء المهملة) . فى مط: فافرجوا. وما فى الطبري (10: 6) : فاخرجوا. [2] . فى الأصل: يقومون. ما فى آمهمل فى الأول. فى مط والطبري (10: 6) : تقومون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 عليهم الأمر، طلب مالك الأمان لنفسه ولأهل الشام، وأهل خراسان لا يعلمون. فأعطاه الأمان فوفى لهم قحطبة ولم يقتل منهم أحدا وقتل من كان بنهاوند من أهل خراسان إلّا الحكم بن ثابت بن أبى مسعر. وقتل من أهل خراسان أبا كامل، وحاتم بن الحارث بن سريج، وابن نصر بن سيّار، وعاصم بن عمير، وعلىّ بن عقيل، وبيهس بن بديل، ورجلا من ولد عمر بن الخطّاب يقال له: البخترىّ. ويقال إنّ قحطبة كان أرسل إلى أهل خراسان بنهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه وأعطاهم الأمان. فأبوا ذلك. ثمّ أرسل إلى أهل الشام بمثل ذلك، فقبلوا الأمان وبعثوا إلى قحطبة أن: - «اشغل أهل المدينة حتّى نفتح الباب وهم لا يشعرون.» ففعلوا ذلك.» وشغل قحطبة أهل المدينة بالقتال ففتح أهل الشام الباب الذي كانوا عليه، فلمّا رأى أهل خراسان الذين فى المدينة خروج أهل الشام [313] سألوهم عن سبب خروجهم فقالوا: - «أخذنا الأمان لنا ولكم.» فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كل رجل منهم إلى رجل من قوّاد أهل خراسان، ثمّ أمر مناديه أن ينادى: - «من كان فى يده أسير ممّن خرج إلينا من المدينة فليضرب عنقه وليأتنا برأسه.» ففعلوا فلم يبق أحد من الذين كانوا هربوا من أبى مسلم وصاروا فى ذلك الحصن إلّا قتل ما خلا أهل الشام، فإنّه خلّى سبيلهم وحلّفهم ألّا يمالئوا عليه عدوّا. ووجّه قحطبة الحسن ابنه إلى مرج القلعة فقدّم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان وعليها عبيد الله بن العلاء الكندي، فهرب من حلوان وخلّاها. ووجّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني، ومالك بن طواف [1] الخراساني فى أربعة آلاف إلى شهرزور وبها عثمان بن سفيان على مقدّمته عبد الله بن مروان، فقدم ابن عون وقاتل عثمان قتالا شديدا ثمّ هرب عثمان واستباح ابن عون عسكره. ولمّا بلغ مروان خبر ابن عون وهو بحرّان ارتحل ومعه جنود الشام والجزيرة والموصل وحشرت معه بنو أميّة أبناءهم، وسار مقبلا حتّى انتهى إلى الموصل. [314] ثمّ أخذ فى حفر الخنادق من خندق إلى خندق حتى نزل الزاب الأكبر. وأقام ابن عون بشهرزور وفرض بها لخمسة آلاف رجل. مسير قحطبة نحو ابن هبيرة وفى هذه السنة سار قحطبة نحو ابن هبيرة. ولمّا قدم على ابن هبيرة ابنه منهزما من حلوان، خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى قتال قحطبة فى عدد كثير لا يحصى وكان مروان أمدّ ابن هبيرة بحوثرة بن سهيل الباهلي، فسار ابن هبيرة حتّى نزل جلولا [2] الوقيعة وخندق، فيقال: إنّه احتفر [الخندق] [3] الذي كانت العجم الحتفرته أيام وقعة جلولا فأقام وأقبل قحطبة فارتفع إلى عكبرا [4] ، وأجاز قحطبة دجلة ومضى حتّى نزل دمّما دون الأنبار وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفا يبادر قحطبة إلى الكوفة حتّى نزل فم الفرات فى شرقيّة وقدّم حوثرة فى خمسة عشر ألفا إلى الكوفة وقطع قحطبة الفرات من دممّا حتّى   [1] . طواف: كذا فى الأصل ومط. فى آ: طران. فى الطبري (10: 9) : طريف. فى حواشيه: طراف، طرافة. [2] . فى الطبري (10: 10) : بالمدّ: جلولاء. [3] . زيادة فى آوالطبري (10: 10) . [4] . فى الطبري: بالمدّ: عكبراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 صار فى غربيّه، ثمّ سار يريد الكوفة حتّى انتهى إلى الموضع الذي فيه ابن هبيرة. فيقال: إنّ حوثرة بن سهيل أشار على ابن هبيرة وقال له: - «إنّ قحطبة قد مضى إلى الكوفة، فاقصد أنت لخراسان ودعه ومروان، فإنّك [315] تكسره وبالحرىّ أن يتبعك.» فأبى وقال: - «ما كنت لأدعه والكوفة بل أبادره إليها.» وقال قحطبة لأصحابه: - «هل تعلمون طريقا يخرجنا إلى الكوفة لا يمرّ بابن هبيرة؟» فقال بعضهم: - «نعم، تعبر تامرّا من روستقباد وتلزم الجادّة إلى برزج سابور وعكبرا ثمّ تعبر دجلة إلى أوانا.» ويقال: إنّه لمّا بلغ الفرات سأل: - «هل هناك مخاضة؟» فدّلوه عليها. فنزل قحطبة الجازية [1] وقال: - «صدقنى الإمام، أخبرنى أنّ النصر بهذا المكان.» وأعطى الجند أرزاقهم، فردّ عليه كاتبه ستّة عشر ألف درهم من فضل الدرهم والدرهمين وأقل وأكثر فقال: - «لا تزالون بخير ما كنتم على هذا.» ووافته [2] مقدّمة خيول ابن هبيرة فلمّا انتهى ابن هبيرة إلى المخاضمة اقتحم فى عدّة، فحملوا على أصحاب ابن هبيرة حتّى انهزموا ومضى حوثرة حتّى   [1] . فى مط: الحازنة. [2] . فى آ: ووافقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 نزل قصر ابن هبيرة، وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم فألقوا بأيديهم، وعلى الناس الحسن بن قحطبة. واختلف الناس فى هلاك قحطبة، فزعم بعضهم أنّه غرق، وادّعى قتله غير واحد ممّن كان وتره، زعم [1] كلّ واحد أنّه أصاب [316] فرصته منه فى الماء فقتله. فقال الناس: - «أيّها الناس، من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به.» فقال مقاتل بن مالك العكّىّ: - «سمعت قحطبة يقول: إن حدث بى حدث فالحسن أمير الناس.» فبايع الناس حميد بن قحطبة للحسن أخيه، وأرسلوا إلى الحسن، فلحقه الرسول دون قرية شاها [2] فرجع الحسن فأعطاه أبو الجهم خاتم أبيه، وبايعه الناس. فقال الحسن: - «إن كان قحطبة قد مات فأنا ابن قحطبة.» وكان أحد من ادّعى قتل قحطبة معن بن زائدة ويحيى بن حصين. وقال قوم: وجد قحطبة قتيلا فى جدول، وحرب بن سلم بن أحوز قتيل إلى جنبه. فظنّوا أنّ كلّ واحد منها قتل صاحبه. وحكى عن قحطبة أنّه قال: - «إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة، فسلّموا الأمر إليه.» ورجع ابن هبيرة إلى واسط بعد أن انهزم حوثرة. وأمر الحسن بن قحطبة بإحصاء ما وجد فى عسكر ابن هبيرة، وأمر بحمل الغنائم فى السفن إلى الكوفة.   [1] . فى آ: وزعم. (بزيادة الواو) . [2] . كذا فى الأصل ومط وآ: شاها. وما فى الطبري (10: 15) شاهي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وخرج محمّد بن خالد بن يزيد السرى بالكوفة وسوّد قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وضبطها. [317] ذكر الخبر عمّا كان من أمره وضبطه الكوفة إلى أن وصل الحسن ظهر محمّد بن خالد بالكوفة وسوّد وسار إلى القصر وعلى الكوفة يومئذ زياد بن صالح الحارثي. فارتحل زياد ومن معه من أهل الشام وخلّوا القصر، فدخله محمّد بن خالد فلمّا أصبح يوم الجمعة من غد يوم دخوله- وهو اليوم الثاني من مهلك قحطبة- بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنّه تهيّأ للمسير إليه. فتفّرق عن محمّد عامّة من معه حيث بلغهم ذلك، إلّا فرسانا من أهل الشام من اليمن كانوا هربوا من مروان ومواليه. وراسله [1] أبو سلمة الخلّال من غير أن يظهر له يأمره بالخروج من القصر واللحاق بأسفل الفرات وأنّه يخاف عليه لقلّة من معه وكثرة من مع حوثرة ولم يبلغ واحدا منهما هلاك قحطبة، فأبى محمّد بن خالد أن يفعل وتعالى النهار فتهيّأ حوثرة للمسير إلى محمّد بن خالد حيث بلغه قلّة من معه وخذلان العامّة إيّاه. فبينا محمّد فى القصر إذ أتاه بعض طلائعه وقال: - «خيل قد جاءت من أهل الشام.» فوجّه إليهم عدّة من مواليه، فأقاموا بباب دار عمر بن سعد [318] إذ طلعت رايات أهل الشام فتهيّأوا لقتالهم فنادى أهل الشام: - «نحن بجيلة وفينا مليح بن خلف البجلي جئنا لندخل فى طاعة الأمير محمّد.»   [1] . فى آ. وأرسله. والعبارة فى الطبري (10: 19) : وأرسل إليه أبو سلمة الخلّال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 فتركوهم ودخلوا ثمّ جاءت خيل أعظم من تلك فيها جهم بن الأصفح الكلبي. ثمّ جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل [1] فلمّا رأى ذلك حوثرة من صنيع أصحابه ارتحل نحو واسط بمن معه. وكتب محمّد بن خالد من ليلته إلى قحطبة وهو لا يعلم بهلاكه يعلمه أن قد ظفر بالكوفة، وعجّل به مع فارس، فقدم على الحسن بن قحطبة فقرأه على الناس. ثمّ ارتحل إلى الكوفة، وأقام محمّد بالكوفة الجمعه والسبت والأحد، وصبّحه الحسن يوم الإثنين، فأتوا أبا سلمة وهو فى بنى مسلمة [2] فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين، ثمّ ارتحل إلى حمّام أعين. ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة. وكان أبو سلمة يعرف بوزير آل محمّد حتّى اتّهم. حسن بن قحطبة يوجّه إلى قتال ابن هبيرة ولمّا وجّه الحسن بن قحطبة إلى قتال ابن هبيرة ضمّ إليه ستّة عشر قائدا منهم خازم بن خزيمة ومقاتل العكّى، وخفاف بن منصور، وأشباههم من الوجوه ووجّه حميد بن قحطبة إلى المدائن فى قوّاد، وبعث خالد بن برمك [319] إلى دير قنّى، [3] وبعث شراجيل إلى عين التمر، ووجّه بسّام بن إبراهيم بن بسّام إلى الأهواز- وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة- وبعث مع حفص بن سبيع إلى سفيان بن معاوية بعهده على البصرة وتقدّم إليهم بإظهار دعوة بنى العبّاس ويدعو إلى الإمام القائم منهم.   [1] . فى مط: مجدل. فى آ: محدل (بالإهمال) . فى الأصل والطبري (19: 10) : بحدل. [2] . فى الطبري: سلمة. وفى حواشيه: مسلمة. [3] . قنّى: الضبط من الطبري (10: 21) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 فأمّا بسّام فإنّه لمّا أتى الأهواز خرج منها عبد الواحد إلى البصرة. وأمّا سفيان فإنّه لمّا قدم عليه الكتاب والعهد قاتله سلم بن قتيبة ولم يسلّم له، وكان مبدأ قتاله إيّاه أنّ سفيان كتب إليه يأمره بالتحوّل عن دار الإمارة ويخبره بما أتاه من رأى أبى سلمة، فامتنع سلم وحشد إليه سفيان [1] اليمانيّة وحلفاءهم من ربيعة وغيرها، وجنح إليه قائد من قوّاد ابن هبيرة كان بعثه مددا لسلم فى ألفى رجل فأجمع السير إلى سلم بن قتيبة فاستعدّ سلم له وحشد من قدر عليه من قيس ومضر وموالي بنى أميّة وأشياعهم. وسارت بنو أميّة الذين بالبصرة إلى نصره فقدم- سفيان فى صفر، فأتى المربد سلم، فوقف منه فى سوق الإبل، ووجّه الخيول فى سكك البصرة للقاء [320] من وجّه إليه سفيان. ونادى: - «من جاء برأس فله خمسمائة، ومن جاء بأسير فله ألف درهم.» ومضى ابن سفيان واسمه معاوية فى ربيعة خاصّة، فلقيه خيل [2] من تميم فى سكّة فطعن رجل [منهم] فرس معاوية، فشبّ به وصرعه. ونزل إليه آخر فقتله وحمل رأسه إلى سلم بن قتيبة فأعطاه عشرة آلاف درهم فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه وخرج من فوره هو وأهل بيته حتّى أتوا القصر الأبيض فنزلوه، ثمّ ارتحلوا منه إلى كسكر. وتغلّب على البصرة سلم، ثمّ أتاه كتاب ابن هبيرة أن يصير إلى الأهواز، وتغلّب بالبصرة جماعة بقوا فيها أيّاما يسيرة. وقام أبو العبّاس السفّاح فولّاها سفيان بن معاوية.   [1] . فى مط: ابنه سفيان اليمانية. [2] . خيل: كذا فى الأصل. فى مط: فى خيل. فى الطبري (10: 22) : رجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 تجارب العصر العبّاسىّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 خلافة أبى العباس السفّاح وفى هذه السنة [1] بويع لأبى العبّاس عبد الله بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلب، ليلة الجمعة لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر. وقيل كان ذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر الخبر عن خلافة أبى العباس وسببها كان بدء ذلك- فيما ذكر- أنّ [2] رسول الله صلّى الله عليه أعلم العبّاس عمّه أنّ الخلافة [321] تؤول إلى ولده. فلم يزل ولده يتوقّعون ذلك ويتداولون أخبارا بينهم ويسمون محمّد بن على: أبا الأملاك. ولمّا خالف ابن الأشعث وكتب الحجّاج إلى عبد الملك أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد فأخبره فقال: أمّا إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس. إنّما كنّا نتخوّف لو كان من خراسان. وكان محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس ينتظر أوقاتا معلومة عنده وينتظر الأمر لولده ولا يسمّى أحدا وكنّا أخبرنا خبر محمّد بن علىّ وخبر   [1] . سنة 132. [2] . فى الطبري (10: 23) : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 الدعاة الذين وجّههم إلى خراسان. ثمّ مات محمّد بن علىّ وجعل وصيّه من بعده إبراهيم بن محمّد [1] ابنه، فبعث إبراهيم أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السّبيع وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه إلى أن قام بأمرهم أبو مسلم. ثمّ كان من وقوع كتاب إبراهيم إلى أبى مسلم فى يد مروان ما كان، وقد ذكرناه. فوجّه إليه مروان وهو بالحميمة، فأخذه وحبسه. فحكى أنّ عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان قال لمروان بن محمّد: - «هل تتّهمنى؟» قال: «لا.» قال: «أيحطّك مصاهرة إبراهيم بن محمّد بن علىّ؟» قال: «لا.» قال: «فإنّى أرى أمره تبيّغ [2] فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر [322] كنت أعلقت بينك وبينه سببا لا يريبك [3] معه وإن كفيته لم يشنك صهره.» فقال: «ويحك لو علمته صاحب ذاك سبقت إليه ولكن ليس بصاحبه.» فذكر أنّ إبراهيم حين أخذ ليمضى به إلى مروان نعى نفسه إلى أهل بيته حين شيّعوه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبى العبّاس عبد الله بن محمّد بن علىّ وأوصى إلى أبى العبّاس أخيه، وجعله الخليفة من بعده، وتقدّم إلى الباقين بالسمع له والطاعة. فشخص أبو العبّاس عند ذلك ومن معه من أهل بيته حتّى قدموا الكوفة فى صفر. فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بنى هاشم فى بنى أود. وكتم أمرهم من جميع القوّاد والشيعة نحوا من أربعين ليلة.   [1] . سقط من آ: بن محمد. [2] . آ: قد نبغ. مط: ينبع. فى الطبري (10: 26) : تبيّغ. تبّغ: هاج. [3] . فى الأصل ومط: لا يريبك. آ: مهملة لا تقرأ. فى الطبري (10: 26) : لا ترتبك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وأراد أبو سلمة فيما ذكر تحويل الأمر إلى آل أبى طالب لمّا بلغه موت إبراهيم بن محمّد. فأتى أبا سلمة أبو الجهم وقال له: - «ما فعل الإمام؟» قال: «لم يقدم بعد.» ثمّ عاوده أبو الجهم وألحّ عليه فى السؤال. قال: - «قد أكثرت وليس هذا زمان خروجه.» فلقى أبو حميد خادما لأبى العبّاس يقال له: سابق الخوارزمي. فسأله عن أصحابه [323] فأخبره أنّهم بالكوفة. وإنّ أبا سلمة أمرهم أن يختفوا. فجاء به إلى أبى الجهم فأخبروه خبرهم فسّرح أبو الجهم أبا حميد مع سابق، حتّى عرف منزلهم بالكوفة ثمّ رجع ومعه إبراهيم بن سلمة فأخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الإمام فى بنى أود، وشكا أنّه أرسل الإمام حين قدموا إلى أبى سلمة يسأله مائة دينار لأجرة الحمّالين، فلم يفعل. فحمل أبو الجهم وأبو حميد على يد إبراهيم مائتي دينار إلى الإمام، ثمّ مضوا إلى أبى سلمة وسألوه عن الإمام فقال: - «ليس هذا وقت خروجه، واسط بعد ما فتحت.» فاجتمع الشيعة على أن يلقوا الإمام وائتمروا بينهم وقالوا: - «قد شاع فى العسكر أنّ مروان قد قتل إبراهيم وأنّ أخاه أبا العبّاس هو الخليفة من بعده.» ومشى القوّاد والشيعة تلك الليلة ثمّ تسلّلوا من الغد، فمضى جماعة منهم إلى الإمام وبلغ أبا سلمة وأتى القوم أبا العبّاس فقالوا: - «أيّكم عبد الله بن محمّد بن الحارثيّة؟ قالوا: «هذا.» فسلّموا عليه بالخلافة، ورجع أبو الجهم وموسى بن كعب وأقام الباقون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 عند الإمام. فأرسل أبو سلمة [324] إلى أبى الجهم: - «أين كنت ركبت؟» قال: «ركبت إلى إمامى.» فحينئذ ركب أبو سلمة إليهم. فأرسل أبو الجهم إلى أبى حميد: أنّ أبا سلمة قد أتاكم فلا يدخلنّ على الإمام إلّا وحده. فلمّا انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد. فدخل وحده وسلّم بالخلافة على أبى العبّاس. وخرج أبو العبّاس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلّى بالناس. فيقال: إنّ أبا سلمة لمّا سلّم على أبى العبّاس بالخلافة قال له أبو حميد: - «على رغم أنفك، يا ماصّ بظر أمّه [1] .» فقال أبو العبّاس: - «مه.» أبو العباس يريد أن يجعلها شورى بين ولد علىّ والعباس وروى من عدّة وجوه أنّ أبا العبّاس السفّاح قدم هو وأهله سرّا على أبى سلمة الخلّال بالكوفة فستر أمرهم وعزم على أن يجعلها شورى بين ولد علىّ والعبّاس حتّى يختاروا منهم من أرادوا. ثمّ قال: - «أخاف ألّا يتفقوا.» فعزم أن يعدل بالأمر إلى ولد الحسين أو الحسن عليهم السلام. فكتب إلى ثلاثة نفر [2] منهم جعفر بن محمّد بن علىّ بن الحسين وعمر بن علىّ بن   [1] . انظر الطبري (10: 28) . [2] . كذا فى الأصل. فى آ: مائة نفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 الحسين بن علىّ وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ عليهم السلام. ووجّه بكتبهم مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة. فبدأ بجعفر بن محمّد فلقيه ليلا فأعلمه أنّه رسول [325] أبى سلمة وأنّ معه كتابا إليه. فقال: - «وما أنا وأبو سلمة؟ هو شيعة لغيري.» فقال الرسول: «تقرأ الكتاب وتجيب بما رأيت.» فقال جعفر لخادمه: «قرّب السراج منّى.» فقرّبه فوضع عليه كتاب أبى سلمة فأحرقه. قال: «ألا تجيبه؟» قال «قد رأيت الجواب.» ثمّ أتى عبد الله بن الحسن، فقرأ كتابه وركب إلى جعفر بن محمّد. فقال له جعفر: - «أمر جاء بك يا با محمّد؟ لو أعلمتنى لجئتك.» قال: «وأىّ أمر؟ هو ممّا يجلّ عن الوصف.» قال: «وما هو؟» قال: «هذا كتاب أبى سلمة يدعوني إلى الخلافة ويراني أحقّ الناس به. وقد جاء به شيعتنا من خراسان.» فقال له جعفر عليه السلام: - «ومتى صاروا شيعتك؟ أنت وجّهت أبا مسلم إلى خراسان وأمرته بلبس السواد. هل تعرف أحدا منهم باسمه ونسبه؟ كيف يكونون شيعتك وأنت لا تعرف أحدا منهم ولا يعرفونك؟» فقال عبد الله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 - «ما هذا الكلام منك إلّا لشيء.» فقال له جعفر: - «قد علم الله أنّى أوجب النصح على نفسي لكلّ مسلم وكيف أدّخره عنك فلا تمنّينّ نفسك إلّا الأباطيل فإنّ هذه الدولة تتمّ لهم وما هي لأحد من ولد أبى طالب. وقد جاءني ما جاءك، فلم أجبّ إلّا [326] بما ستعرف خبره.» فانصرف غير راض بما قاله. وأمّا عمر بن علىّ بن الحسين فإنّه ردّ الكتاب وقال: - «ما أعرف كاتبه. [1] » وأبطأ أمر أبى سلمة على أبى العبّاس ومن معه. فخرج أصحاب له يطوفون بالكوفة فلقى حميد بن قحطبة ومحمد بن صول رجلا من مواليهم فعرفاه. إنّه كان يحمل كتب محمّد بن علىّ وإبراهيم بن محمّد إليهما. فسألاه عن الخبر وأعلمهما أنّ القوم قد قدموا منذ أيّام وأنّهم فى سرداب يعرف ببني أود، فصار إلى الموضع وسلّما عليهم وقالا: - «أيّكما عبد الله؟» فقال أبو العبّاس وأبو جعفر: - «كلانا عبد الله.» فقالا: - «أيّكما ابن الحارثية؟» فقال أبو العبّاس: «أنا.» فقالا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين.» ودنوا منه فبايعاه، وأخرجاهم إلى المسجد الجامع فصعد أبو العبّاس المنبر،   [1] . زاد فى آ: فأجيبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 فحصر، فصعد عمّه داود بن علىّ، وقام دونه بمرقاة، وخطب [1] خطبته المشهورة. أوّل خطبة خطبها أبو العبّاس السفّاح ولمّا صعد أبو العبّاس المنبر حين بويع له بالخلافة قام فى أعلاه، فقال: - «الحمد الله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرّمه وشرّفه واختاره لنا، وأيّدنا به، وجعلنا [327] أهله وكهفه وحصنه، والقوّام به والذابّين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحقّ بها وأهلها، خصّنا برحم رسول الله صلّى الله عليه وقرابته، وأنشأنا من آباءه وأنبتنا من شجرته واشتقّنا من نبعته وجعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا حريصا علينا بالمؤمنين رؤوفا رحيما وأنزلنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع وأنزل بذلك كتابا يتلى فقال تبارك وتعالى: إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً 33: 33 [2] . وقال: [قُلْ] لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبى 42: 23 [3] . وقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ 26: 214 [4] . وقال:   [1] . فى آ: فقال: «إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله ... [غير مقروء] حسبكم بكتاب الله فيكم وابن عم نبيكم خليفة عليكم، قسما برا ما أريد به غير الله، ما قام هذا المقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق به من على بن أبى طالب ومنه فليظن ظانكم وليهمس هامسكم، والسلام.» [2] . س 33 الأحزاب: 33. [3] . س 42 السورى: 23. [4] . س 26 الشعراء: 214. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 ما أَفاءَ الله عَلى رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى 59: 7 [1] . فأعلمهم جلّ وعزّ فضلنّا، وأوجب عليهم حقّنا ومودّتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا، تكرمة علينا وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم.» ثمّ ذكر جور بنى أميّه وظلمهم ووعد الناس من نفسه خيرا وقال فى آخر كلامه: - «وقد زدتكم فى أعطياتكم مائة درهم فاستعدّوا فإنّى أنا السفّاح المبيح والثائر المبير. وكان موعوكا فاشتدّ به الوعك، فجلس على المنبر. [328] وصعد داود بن علىّ، فقام دونه على مراقى وقال: - «الحمد لله شكرا شكرا، الذي أهلك عدوّنا وأصار إلينا ميراثنا من نبيّنا محمّد صلّى الله عليه. - «أيّها الناس، الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها وعاد السهم إلى منزعه ورجع الحقّ فى نصابه فى أهل بيته أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم.   [1] . س 59 الحشر: 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 «أيها الناس، إنّا والله ما خرجنا فى هذا الأمر لنكنز لجينا ولا ذهبا ولا لنحفر نهرا أو نبنى قصرا وإنّما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقّنا، والغضب لبنى عمّنا وما كرثنا من أمورنا وبهظنا [1] من شؤونكم. [2] » ثمّ وعد الناس خيرا وقال: - «أيها الناس، إنّ أمير المؤمنين- نصره الله نصرا عزيزا- إنّما قطعه عن استتمام الكلام شدّة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية.» فعجّ له الناس بالدعاء. ثمّ قال: - «أيها الناس، إنّه ما صعد منبركم هذا خليفة [3] بعد رسول الله صلّى الله عليه إلّا أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب وأمير المؤمنين هذا- وأشار بيده إلى أبى العبّاس [4]- واعلموا أنّ هذا الأمر فينا   [1] . الضبط فى كلا الفعلين من الأصل ويؤيّده الطبري (10: 31) . [2] . وزاد فى آ: « ... يظنّ عدوّ الله أن لن يقدر عليه حين أرخى له فى زمامه، حتى عثر فى خطامه. فالآن عاد الحقّ إلى مقرّه، ورجع إلى أهل بيت نبيّكم. إنّا والله ما زلنا مظلومين مقهورين حتّى أناخ الله [كذا. ولعله: أتاح الله] لنا ولموالينا وشيعتنا من أهل خراسان، وربّ هذه البينة لا يظلم منكم أحد. [3] . من هنا إلى «وأمير المؤمنين هذا» ساقط من آ. [4] . وزاد فى آ: وانّ الكلام بعد الإفحام كالإشراق بعد الظلام وقد يغرب البيان ويعتقم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 [329] ليس بخارج منّا حتّى نسلّمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام.» ثمّ نزل داود بن علىّ، ونزل أبو العباس حتّى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر أخاه يأخذ البيعة على الناس فى المسجد، فلم يزل يأخذها حتّى صلّى بهم العصر، ثمّ صلّى بهم المغرب وجهنّم الليل، فدخل. وذكر [1] أنّ داود بن علىّ وابنه كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة، فلقيهما أبو العبّاس ومعه أخوه أبو جعفر ومعهما عبد الله بن علىّ، وعيسى بن موسى، وصالح وعبد الصمد، وإسماعيل، وعبد الله بنو علىّ، ويحيى بن محمّد، وعبد الوهّاب ومحمّد ابنا إبراهيم، وموسى بن داود، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العبّاس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل. فقال لهم داود: - «أين تريدون وما قصّتكم؟» فقصّ عليه أبو العبّاس فصّتهم وأنّهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم. فقال له داود: - «يا با العبّاس، تأتى الكوفة وشيخ بنى مروان بحرّان- يعنى مروان بن محمّد- وهو مظلّ [2] على العراق فى أهل الشام والجزيرة وشيخ العرب   [ () ] الصواب، وانّما اللسان بضعة من الإنسان، يعز بفتوره (؟) إذا بكل، ويثوب بانبساط إذا ارتجل، إنّا لا ننطق أشرّا، ولا نسكت حصرا، بل ننطق مرشدين، ونسكت معتبرين. وبعد فإنّا أمراء القول، فينا وشحت اعراقه، وإلينا تعطفت أغصانه، وعلينا تهرّأت ثمرته، فنجني منها ما احلولى وعذب، ونترك منه ما أملح وخبث، ومن بجد مقامنا مقام، وأيامنا أيّامنا أيّام ... [1] . انظر الطبري (10: 33) [2] . مظلّ: كذا فى الأصل ومط. فى آوالطبري (10: 33) مطل (بالطاء المهملة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق فى حلبة العرب. فقال له أبو العباس: - «يا عمّ، من أحبّ الحياة ذلّ.» ثمّ تمثّل بقول الأعشى. [330] فما ميتة إن متّها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: - «صدق والله ابن عمّك، ارجع بنا معه نعش أعزّاء أو نموت كراما.» فرجعوا معه. وكان عيسى بن موسى إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول: - «إنّ ركبا أربعة عشر خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا [1] لعظيمة هممهم، كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم.» وخرج [2] أبو العبّاس بحمّام أعين فى عسكر أبى سلمة فنزل معه فى حجرته وحاجب أبى العبّاس عبيد الله بن بسّام واستخلف على الكوفة وأرضيها داود بن علىّ وبعث عمّه عبد الله بن علىّ إلى أبى عون وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمّام بن العبّاس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمّد بن عمّار بن ياسر إلى بسّام بن إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن طوّاف [3] .   [1] . فى الطبري (10: 34) : مطالبنا ويعظم همّهم. [2] . انظر الطبري (10: 37) . [3] . فى الطبري (10: 37) : طريف. فى آ: طوّاف. فى مط: طوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 وأقام أبو العبّاس فى العسكر أشهرا، ثمّ ارتحل فنزل المدينة الهاشميّة فى قصر الإمارة [1] ، وقد كان تنكّر لأبى سلمة قبل [331] تحوّله حتّى عرف بذلك. وفى هذه السنة هزم مروان بن محمّد. هزيمة مروان بن محمد ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها كان أبو عون وجّهه قحطبة إلى شهرزور وبها عثمان بن سعيد من قبل مروان فقتله أبو عون وأقام بناحية الموصل وبلغ ذلك مروان، فأقبل من حرّان حتّى سار إلى الموصل فنزل على الزاب وحفر خندقا، فسار إليه أبو عون، فنزل الزاب، ووجّه أبو سلمة إليه مددا وعدّة من القوّاد. فلمّا ظهر أبو العبّاس، بعث إليه أيضا عدّة من القوّاد ومددا آخرين. ثمّ قال أبو العبّاس: - «من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟» فقال عبد الله بن علىّ: - «أنا.» فقال: - «سر على بركة الله.» فسار عبد الله بن علىّ حتّى قدم على أبى عون فتحوّل له أبو عون عن سرادقه وخلّاه له بما فيه. فسأل عبد الله بن علىّ عن مخاضة فدلّ عليها بالزاب، فأمر عيينة بن موسى فعبر فى خمسة آلاف، وانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتّى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، فرجع عيينة إلى عسكر عبد الله بن علىّ، فأصبح مروان فعقد جسرا، وسرّح ابنه عبد الله وقال له:   [1] . فى الطبري (10: 37) : قصر الكوفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 - «امض [332] حتّى تكون أسفل من عسكر ابن علّى.» وبعث إليه من ورائه من يشغله، ففعل ذلك وبعث عبد الله بن علىّ المخارق بن عفّان فى أربعة آلاف حتّى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بن مروان. فبعت عبد الله بن مروان الوليد بن معاوية، وسار إليه مروان فقال مروان لمّا التقى العسكران لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: - «إن زالت الشمس اليوم فلم يقاتلونا، كنّا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.» وأرسل مروان إلى عبد الله بن علىّ يسأله المواعدة فقال عبد الله: - «كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتّى أوطئه الخيل إن شاء الله.» فقال مروان لأهل الشام: - «لا تبدأوهم.» وجعل ينظر إلى الشمس. فحمل الوليد بن معاوية بن مروان وهو ختن [1] مروان على ابنته. فغضب وشتمه وتمّم الوليد حملته، فهزم أبا عون فانحاز إلى عبد الله بن علىّ. فقال موسى بن كعب: - «مر الناس أن ينزلوا.» فنودي: - «الأرض، الأرض.» فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فحمل أهل الشام كأنهم جبال حديد، ومالوا على أصحاب عبد الله بن علىّ كأنّهم سحابة فصبروا لهم على حالهم. [333] فقال [2] :   [1] . ختنه: تزوّج إليه وصاهره. [2] . كذا فى الأصل. فى آ: فيقال. فى مط: فقيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 - «إنّ مروان كان لا يدبّر شيئا إلّا عرض فيه خلل وفساد.» حتّى قال: - «أخرجوا إلى الناس الأموال.» فأخرجت وقال للناس: - «اصبروا وقاتلوا، وهذه الأموال لكم.» فجعل ناس يصيبون من ذلك المال، فأرسل إليه: - «إنّ الناس قد مالوا إلى هذا المال، ولا نأمنهم أن يذهبوا به.» فأرسل إلى ابنه عبد الله أن: - «سر إلى مؤخّر عسكرك، فمن مرّ بك ومعه شيء من المال فاقتله وامنعهم.» فمال عبد الله برايته وتبعه أصحابه. فقال الناس: - «الهزيمة.» فانهزموا. قتل ابراهيم محمد وما قالوه فى سبب قتله وفى هذه السنة كان قتل إبراهيم بن محمّد بن عبد الله بن علىّ بن العبّاس. وقد اختلف الناس فيه فقال بعضهم: لم يقتل ولكن مات فى السجن بالطاعون. وقيل: لمّا انهزم مروان بالزاب عاد إلى حرّان، فاستعرض أهل السجن، فوجدهم قد هلكوا وقتل خليفة مروان بعضهم. فأطلق مروان من بقي منهم، وكان إبراهيم الإمام ممّن هلك. ويقال: بل هدم مروان عليه بيتا فقتله. وحكى بعض خدم إبراهيم ممّن كان يخدمه فى محبسه قال: كان معه فى الحبس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وشراحيل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك [334] فخصّ بين إبراهيم وشراحيل، وكانا يتزاوران، فأتاه رسول من شراحيل يوما بلبن فقال: - «يقول لك أخوك إنّى شربت من هذا اللبن فاستطبته، فأحببت أن تشرب منه.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 فتناوله، فشرب منه فتوصّب من ساعته وتكسّر جسده. وكان يوما يأتى فيه شراحيل، فأبطأ عليه. فأرسل إليه: «جعلت فداك قد أبطأت فما حبسك؟» فأرسل إليه: «إنّى لمّا شربت اللبن الذي أرسلت به إلىّ أخلفنى.» فأتاه شراحيل مذعورا وقال: - «لا والله الذي لا اله إلّا هو، ما شربت اليوم لبنا ولا أرسلت به إليك فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، أحتيل لك والله.» قال: فما بات إلّا ليلته وأصبح من الغد ميّتا. [1] وفى هذه السنة قتل مروان بن محمّد. ذكر الخبر عن مقتل مروان وما عومل به فى طريقه وهو هارب وما لقي من أصحابه حكى أبو هاشم مخلّد بن محمّد قال: لمّا هزم مروان من الزاب كنت فى عسكره، وكان معه مائة وعشرون ألفا، وكان عبد الله بن علىّ فى عشرين ألفا، فلمّا انهزم مروان سار إلى الموصل وعليها هشام بن عمرو وبشر بن خزيمة، فقطعا الجسر ومنعاه. فناداهم [335] أهل الشام: - «هذا مروان.» قالوا: «كذبتم، أمير المؤمنين لا يفرّ.» فسار إلى بلد فعبر دجلة، ثمّ أتى دمشق وخلّف بها الوليد بن معاوية، وقال: - «قاتلهم حتّى يجتمع أهل الشام.»   [1] . انظر الطبري (10: 44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 ومضى مروان إلى فلسطين فنزل نهر أبى فطرس وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي وسوّد. فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع فأجازه وكتب أبو العبّاس إلى عبد الله بن علىّ يأمره باتباع مروان. فسار عبد الله إلى الموصل فتلقّاه هشام بن عمرو، وبشر بن خزيمة قد سوّد فى أهل الموصل، وفتحوا له المدينة، وولّى الموصل ابن صول. ثمّ سار إلى حرّان، فهدم الدار التي حبس فيها إبراهيم بن محمد. ثمّ سار من حرّان إلى منبج وقد سوّدوا، فنزل مدينة منبج وقدم عليه أبو حميد المروروذى، وبعث إليه أهل قنّسرين ببيعتهم كما أتاه به عنهم أبو أميّة. وقدم عليه عبد الصمد بن علىّ أمدّه به أبو العبّاس فى أربعة آلاف فأقام يومين بعد قدوم عبد الصمد. ثمّ سار إلى قنّسرين فأتاها وقد سوّد سار إلى بعلبك فأقام يومين ثمّ ارتحل [336] فنزل مزّة قرية من قرى دمشق، وقدم عليه صالح بن علىّ مددا فنزل مرج عكبراء فى ثمانية آلاف، وفرّق أصحابه على أبواب دمشق وحاصروها والبلقاء، وتعصّب الناس بالمدينة وقتل بعضهم بعضا، وقتلوا الوليد، وفتحوا المدينة سنة إثنتين وثلاثين ومائة. وكان أوّل من صعد السور من باب الشرقي عبد الله الطائي ومن قبل باب الصغير بسّام بن إبراهيم فقتل بها ثلاث ساعات. ثمّ أمر بالكفّ. وأقام عبد الله بن علىّ بدمشق ثمانية عشر يوما. ثمّ سار يريد فلسطين فنزل بهم الكسوة [1] ، ووجّه منها يحيى بن جعفر الهاشمي إلى المدينة ثمّ ارتحل إلى الأردن، فأتوه وقد سوّدوا. ثمّ سار إلى مرج الروم ثمّ أتى نهر أبى فطرس. وقد هرب مروان فأقام بفلسطين وجاءه كتاب أبى العبّاس أن وجّه صالح   [1] . فى الطبري (10: 48) : نهر الكسوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 بن علىّ فى طلب مروان. فسار صالح بن علىّ من نهر أبى فطرس ومعه ابن قنّان وعامر بن إسماعيل وأبو عون. فقدّم أبا عون وعلى [1] مقدّمته وسار فنزل الرملة، ثمّ سار فنزل ساحل البحر وجمع صالح بن علىّ السفن وتجهّز يريد مروان وهو بالفرما، فسار [337] على الساحل والسفن حذاءه فى البحر، حتّى نزل العريش، وبلغ مروان، فأحرق ما كان حوله من علف وطعام، وهرب. ومضى صالح بن علىّ، فنزل النيل، ثمّ سار حتّى نزل الصعيد. وبلغه أن خيلا لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجّه إليهم قوّادا فأخذوا رجالا وقدموا بهم على صالح وهو بالفسطاط، فعبر مروان النيل وقطع الجسر وحرق ما حوله. ومضى صالح يتبعه فالتقى هو وخيل لمروان على النيل، فاقتتلوا، فهزمهم صالح، ثمّ مضى إلى خليج فصادف عليه خيلا لمروان فأصاب منهم طرفا وهزمهم ثمّ ارتحل فنزل موضعا يقال له ذات الساحل. وقدّم أبا عون ومعه شعبة بن كثير المازني، فلقوا خيلا لمروان فهزموهم فأسروا منهم رجالا، فقتلوا بعضهم واستحيوا بعضا وسألوهم عن مروان، فقالوا: - «إن آمنتمونا دللناكم على مكانه.» فآمنوهم، فأخبروهم به. وساروا فوجدوه نازلا فى كنيسة بوصير، ووافوه فى آخر الليل، فهرب الجند وخرج إليهم مروان فى نفر يسير، فأحاطوا به فقتلوه. اتفاق عجيب ومن عجيب الأمور التي جرت [338] هناك أنّ أبا عون عامر بن إسماعيل   [1] . فى الأصل: وعلى. وفى مط: على (بدون الواو) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 تحدّث فقال: لقينا مروان ببوصير ونحن فى جماعة يسيرة، فشدّوا علينا فانضوينا إلى نخيل، ولو يعلمون بقلّتنا لأهلكونا، فقلت لأصحابى: - «إن أصبحنا فرأونا ونحن نفر يسير لم ينج منّا أحد.» وذكرت قول بكير بن ماهان: - «أنت والله تقتل مروان، كأنّى أسمعك تقول: دهيذ يا جوانكان [1] .» فكسرت جفن سيفي وكسر أصحابى جفون سيوفهم وقلت: دهيذ يا جوانكان، فكأنّها نار صبّت عليهم، فانهزموا.» وحمل رجل على مروان فضربه بسيفه فقتله. وكتب عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علىّ فكتب صالح بن علىّ إلى أمير المؤمنين أبى العبّاس: - «إنّا اتّبعنا عدوّ الله الجعدىّ حتّى ألجأناه إلى أرض عدوّ الله شبيهه فرعون، فقتله [2] بأرضه.» وبعث صالح برأسه مع يزيد بن هانئ، وكان على شرطة أبى العبّاس يوم الأحد لثلاث بقين من ذى الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ورجع صالح إلى الفسطاط ثمّ انصرف إلى الشام فدفع الغنائم إلى أبى عون، والسلاح والأموال والرقيق إلى أبى الفضل ابن دينار، وخلّف أبا عون على مصر. وقتل مروان وهو ابن نيّف وستين سنة واختلف [339] الناس فى النيّف، فلذلك لم أثبته. فكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستّة عشر يوما.   [1] . انظر الطبري (10: 50) . [2] . فى الأصل ومط: فقتله. وما صححناه يؤيّده الطبري (10: 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 وكانت أمّه أمّة لإبراهيم بن الأشتر، أصابها محمد بن مروان بن الحكم يوم قتل ابن الأشتر، فأخذها من ثقله وهي نس، [1] فولدت مروان على فراشه. ولمّا بويع أبو العبّاس دخل عليه ابن عياش المنتوف فقال: - «الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع، ابن عمّ رسول الله وابن عبد المطلب.» وفى هذه السنة خلع أبو الورد أبا العبّاس بقنّسرين، فبيض وبيّضوا معه. ذكر الخبر فى تبييض أبى الورد وانتقاض تلك النواحي كلّها وما آل إليه أمرهم كان سبب ذلك أنّ أبا الورد واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي كان من أصحاب مروان وفرسانه وقوادّه، فلمّا هزم مروان وأبو الورد بقنّسرين قدمها عبد الله بن علىّ، فبايعه فدخل فيما دخل فيه الناس من الطاعة وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قوّاد عبد الله بن علىّ [340] من الأزاذ مرديّة [2] فى مائة وخمسين فارسا، فتعرّض لنساء مسلمة بن عبد الملك وعبث بولد مسلمة، فشكا بعضهم ذلك إلى أبى الورد وذكّره الحقّ والحرمة فخرج من مزرعة له تعرف بخساف فى عدّة من أهل بيته حتّى هجم على ذلك القائد وهو نازل حصن مسلمة، فقاتله حتّى قتله ومن معه، وأظهر التبييض والخلع، ودعا أهل قنّسرين إلى ذلك، فتسارعوا إليه، وبيّضوا بأجمعهم وعبد الله بن علىّ مشغول. بحرب ابن حبيب   [1] . فى الأصل وآ: نس. فى مط: نسر. فى الطبري (10: 51) : وهي تتنيّق. [2] . كذا فى الأصل وآ: أزاذمرديّة. فى الطبري (10: 52) : أزار مردين. وفى حواشي الطبري عن المقدسي: إزار: هزار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 بن مرّة فى أيلة بأرض البلقاء والبثنيّة [1] وحوران. وكان قد لقيه عبد الله بن علىّ فى جموعه فقاتله، وكان بينه وبينهم وقعات وكان من قوّاد مروان وفرسانه، وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه فبايعته قيس وغيرهم ممّن يليهم من أهل تلك الكور. فلمّا بلغ عبد الله بن علىّ تبييض أهل قنّسرين دعا حبيب بن مرّه إلى الصلح فصالحه وآمنه ومن معه، وخرج متوجّها نحو قنّسرين للقاء أبى الورد، فمّر بدمشق، فخلّف عليها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي فى أربعة آلاف رجل من جنده، وكان بدمشق يومئذ امرأة عبد الله بن علىّ أمّ البنين بنت محمّد بن عبد المطلّب النوفلية وأمّهات الأولاد [341] لعبد الله بن علىّ وثقل له، فلمّا قدم حمص فى وجهه انتقض عليه بعده أهل دمشق، فبيّضوا ونهضوا مع عثمان بن عبد الله بن سراقة الأزدى، فنهضوا إلى أبى غانم ومن معه فقاتلوه وهزموه، وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما كان عبد الله بن علىّ خلّفه من ثقله ومتاعه ولم يعرضوا لأهله، وبيّض أهل دمشق واستجمعوا على الخلاف. ومضى عبد الله بن علىّ وقد كان تجمّع مع أبى الورد جماعة من أهل قنّسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف وعليهم أبو محمّد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، فرأسوا عليهم أبا محمّد ودعوا إليه وقالوا: - «هو السفياني الذي كان يذكر.» وهم نحو من أربعين ألفا. فلمّا دنا منهم عبد الله بن علىّ، وأبو محمد معسكر [2] بجماعتهم فى مرج   [1] . كذا فى الأصل والطبري (10: 52) . [2] . فى الأصل ومط والطبري (10: 53) : فعسكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 يقال له: مرج الأخرم، وأبو الورد المتولّى لأمر العسكر وهو صاحب القتال والوقائع، وجّه عبد الله بن علىّ أخاه عبد الصمد بن علىّ فى زهاء عشرة آلاف فارس، فناهضهم أبو الورد ولقيهم بين العسكرين واستحرّ القتل فى الفريقين، وثبت القوم حتّى انهزم [342] عبد الصمد ومن معه. وقتل منهم يومئذ ألوف. وأقبل عبد الله حيث أتاه عبد الصمد ومعه حميد بن قحطبة وجماعة من معه من القوّاد، فالتقوا واقتتلوا ثانية بمرج الأخرم قتالا شديدا فانكشف منهم جماعة ممّن كان مع عبد الله، ثمّ ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بن قحطبة فهزموهم وثبت أبو الورد فى نحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه فقتلوا جميعا، وهرب أبو محمّد ومن معه حتّى لحقوا بتدمر. وآمن عبد الله أهل قنّسرين، وسوّدوا وبايعوا. ثمّ انصرف راجعا إلى أهل دمشق لما كان من تبييضهم عليه وتوثّبهم على أبى غانم. فلمّا دنا من دمشق، هرب الناس وتفرّقوا ولم يكن بينهم وقعة فآمن عبد الله أهلها وبايعوه، ولم يأخذهم بما كان منهم [1] . وأمّا أبو محمّد فلم يزل متغيّبا، ولحق بأرض الحجاز وبلغ زياد بن عبيد الله الحارثي عامل أبى جعفر على المدينة مكانه الذي تغيّب فيه، فوجّه إليه خيلا فقاتلوه حتّى قتل وأخذوا ابنين له، فبعث بهما إلى أبى جعفر، وهو يومئذ أمير المؤمنين فأمر بتخلية سبيلهما وآمنهما. وفى هذه السنة بيّض [2] أهل الجزيرة وخلعوا أبا العبّاس [343] ذكر الخبر عن ذلك كان الناس يظنّون ببيعة المسوّدة أنّها تردّ عليهم سنّة الصدر الأوّل، فلمّا رأوا   [1] . فى آ: بينهم. [2] . فى مط: نهض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 سيرتهم شبيهة بسيرة من تقدّمهم، ثمّ هجم عليهم عسكر غريب منهم، لهم معرّات وأطماع فيهم تبرّموا بهم، فلمّا خرج أبو الورد لما ذكرنا، غيرة وحميّة على نساء مسلمة، انتقض الناس من كل ناحية، وكان بحرّان يومئذ موسى بن كعب فى ثلاثة آلاف من الجند، صاحب عبد الله بن علىّ، وسار إليه الناس مبيّضين من كل وجه، فحاصروه ومن معه، وأمرهم متشتت ليس عليهم رأس يجمعهم وقدم على بقيّة [1] ذلك إسحاق بن مسلم من أرمينيه كان شخص عنها حين بلغته هزيمة مروان فرأسته جنود الجزيرة حتّى حاصر موسى بن كعب. فوجّه أبو العبّاس أخاه أبا جعفر بمن معه من الجنود التي كانت بواسط محاصرة ابن هبيرة، فمضى حتّى مرّ بقرقيسيا وأهلها مبيّضون قد غلّقوا أبوابها دونهم، ثمّ قدم مدينة الرقّة وهم على مثل ذلك، وبها بكّار بن مسلم، فمضى نحو حرّان، ورحل إسحاق بن مسلم إلى الرها [2] فى سنة ثلاث وثلاثين [344] ومائة، وخرج موسى بن كعب فيمن معه من مدينة حرّان فلقوا أبا جعفر، وقدم بكّار على أخيه [إسحاق [3]] مسلم بن عقيل. فوجّهه إلى رجل من الحروريّة يقال له: بريكة، وهو فى جماعة ربيعة، فصمد له أبو جعفر، فقاتلوه قتالا شديدا وقتل بريكة، وانصرف بكّار إلى أخيه بالرّها فخلفه إسحاق بها، ومضى شميشاط [4] ، فخندق على عسكره، وأقبل أبو جعفر حتّى قاتله بكّار بالرها فكانت بينهم وقعات. وكتب أبو العبّاس إلى عبد الله بن علىّ فى المسير بجنوده إلى إسحاق بشميشاط، فأقبل حتّى نزل عليه وهم في ستّين ألفا من أهل الجزيرة جميعا. و   [1] . بقية: كذا فى آومط. وهي مهملة فى الأصل. فى الطبري (10: 56) : تفيئة. [2] . الكلمة مقصورة فى الأصل وممدودة فى الطبري (10: 57) وبضمّ الرّاء فى كليهما. [3] . إسحاق: أضفناه من الطبري (10: 57) وهو غير موجود فى الأصل وآ ومط. [4] . فى الأصل: شميشاط. فى الطبري (10: 75) : سميساط (بالإهمال) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 بينهما الفرات وأقبل أبو جعفر من الرها، فكاتبهم إسحاق وطلب الصلح فأبوا، فطلب الأمان فأجابوه. وكتبوا إلى أبى العبّاس فأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، فكتبوا بينهم كتابا ووثّقوا له فيه، فخرج أبو إسحاق إلى أبى جعفر وتمّ الصلح، وكان مع أبى جعفر، ينزل معه منزلة كبيرة، وآثره على جميع أصحابه. وكان إسحاق بن مسلم العقيلي حيث حاصره أبو جعفر يقول: - «فى عنقي بيعة ولست أدعها حتّى أعلم أن صاحبها قد مات أو قتل.» فأرسل إليه أبو جعفر: - «إنّ مروان قد قتل.» فقال: - «حتّى أتيقّن.» [345] ثمّ لمّا طلب الصلح قال: - «قد أيقنت أنّ مروان قد قتل.» وولّى أبو العبّاس أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وآذربيجان، ولم يزل عليها حتّى استخلف. وفى هذه السنة شخص أبو جعفر إلى خراسان لاستطلاع رأى أبى مسلم فى قتل أبى سلمة حفص بن سليمان الذي يقال له: وزير آل محمّد. ذكر السبب فى مسير أبى جعفر وما كان من أمره وأمر أبى مسلم قد ذكرنا تنكّر أبى العبّاس لأبى سلمة وما كان همّ به. فحكى أبو جعفر قال: لمّا ظهر أبو العبّاس سمرنا ذات ليلة فذكرنا صنيع أبى سلمة فقال رجل منّا: - «ما يدريكم لعّل ما صنع أبو سلمة كان عن رأى أبى مسلم؟» فلم ينطق منّا أحد. فقال أمير المؤمنين أبو العبّاس: - «لئن كان هذا عن رأى أبى مسلم إنّا بعرض [1] بلاء، إلّا أن يدفعه الله عنّا.»   [1] . كذا فى الأصل. فى الطبري (10: 58) : لبغرض البلاء (بالغين المعجمة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 فأشار عليه داود بن علىّ بأن يكتب إلى أبى مسلم ما همّ به من الغشّ وما عامله به من القبيح وما يتخوّفه منه، ففعل فأجاب أبو مسلم: - «إن كان أمير المؤمنين قد اطلع على ذلك منه فليقتله.» - «فقال داود بن علىّ لأبن العبّاس: - «لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنّ [346] أبا مسلم يحتّج بها وكذلك أهل خراسان الذين معك وحاله فيهم حاله، ولكن ابعث إلى أبى مسلم من يعرف نيّته ويطّلع على سريرته، ثمّ تكلّفه أن يبعث هو إلى أبى سلمة من يقتله.» قال أبو جعفر: فأرسل إلىّ أبو العبّاس وقال: - «ما ترى؟.» فقلت: - «الرأى رأيك.» قال: - «إنّه ليس أحد أخصّ بأبى مسلم منك. فاخرج إليه حتّى تعلم ما رأيه فليس يخفى عليك لو قد لقيته، فإن كان عن رأيه صدر أبو سلمة احتلنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.» فخرجت على وجل شديد، فلمّا انتهيت إلى الرىّ إذا صاحب أبى سلمة قد أتاه كتاب أبى مسلم: - «إنّه بلغني أن عبد الله بن محمّد قد توجّه إليك، فإذا قدم فأشخصه ساعة يقدم عليك.» فأقرأنى كتابه وأمرنى بالرحيل. فازددت وجلا وخرجت من الرىّ وأنا خائف حذر، فسرت، فلمّا كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتانى بكتاب أبى مسلم: - «إذا قدم عليك أبو جعفر [1] فأشخصه، ولا تدعه يقيم، فإنّ أرضك أرض خوارج ولا آمن عليه.»   [1] . فى آ: عبد الله بن محمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 فطابت نفسي وقلت: أراه يعنى بأمرى، فسرت. فلمّا كنت من مرو على فرسخين، تلقّانى أبو مسلم فى الناس، فلمّا دنا منّى نزل وأقبل يمشى إلىّ حتّى قبّل [347] يدي فقلت: - «اركب.» فركب ودخلت مرو فنزلت دارا أفردها لى، ومكثت ثلاثة أيّام لا يسألنى عن شيء، ثمّ قال لى فى اليوم الرابع: - «ما أقدمك؟» فأخبرته. قال: - «فإنّى قد كاتبت أمير المؤمنين فى ذلك.» فقلت: - «إنّ أمير المؤمنين يحبّ أن تلى منه ما ترى.» فقال: - «سمعا وطاعة.» ثمّ دعا مرار بن أنس الضبّى فقال: - «انطلق إلى الكوفة فاقتل أبا سلمة حيث لقيته وانته [1] فى ذلك إلى رأى الإمام.» فقدم الكوفة، وكان أبو سلمة يسمر عند أبى العبّاس، فقعد له فى طريقه، فلمّا خرج قتله، وقالوا: قتلته الخوارج. فقال سليمان بن المهاجر: إنّ الوزير وزير آل محمّد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا وكان يقال لأبى سلمة: وزير آل محمّد، ولأبى مسلم: أمين آل محمّد.   [1] . كذا فى الأصل والطبري (10: 59) . فى مط: دابته. فى آ: وآيته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 فحكى عن سالم قال: صحبت أبا جعفر من الرىّ إلى خراسان، وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على الباب ويجلس فى الدهليز ويقول لى: - «استأذن لى عليه.» فغضب أبو جعفر علىّ وقال: - «ويلك إذا رأيته، فافتح له الباب وقل له يدخل على دابّته.» فلمّا رأيته [348] مقبلا قلت لأبى مسلم: إنّه قال كذا وكذا، وفتحت له الباب. قال: - «نعم وإن قال، أعلمه واستأذن لى عليه.» وفى هذه السنة وجّه أبو العبّاس أخاه أبا جعفر لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة بواسط. ذكر آراء أشير بها على ابن هبيرة فخالفها لمّا انهزم ابن هبيرة وتفرّق عنه الناس، خلّف على أثقاله قوما، فذهبوا بتلك الأموال. فقال له حوثرة: - «أين تذهب وقد قتل صاحبهم- يعنى قحطبة- امض إلى الكوفة فمعك جند كثير، فقاتلهم حتّى تقتل أو تظفر.» فقال: «بل آتى واسطا فأنظر وأستعدّ.» فقال له: «إنّك ما تزيد على أن تمكّنه من نفسك حتّى تضعف وتقتل.» وقال له يحيى بن حسن: - «إنّك لا تأتى مروان بشيء أحبّ إليه من هذه الجنود، فالزم الفرات حتّى تقدم عليه، وإيّاك وواسطا فتصير فى حصار، فليس بعد الحصار إلّا القتل.» فأبى، لأنّه كان يخاف مروان وذاك أنّه كان يكتب إليه فى الأمر فخالفه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 فخافه، فأتى واسطا [1] وتحصّن وسرّح إليه أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق [349] الحسن، ونزل بين الفرات ودجلة، فكانت بينهم وقائع. ثمّ وجّه أبو العبّاس أخاه أبا جعفر لحرب ابن هبيرة، وكتب إلى الحسن: - «إنّ أمر الجند إليك ولكنّى أحببت أن يكون أخى حاضرا.» فلمّا قدم أبو جعفر واسطا تحوّل له الحسن عن حجرته فقاتلهم أبو نصر مالك الخزاعي يوما، فخرج إليه أهل واسط وحاربوه، ثمّ انهزم أهل الشام وقد أكمنوا معن بن زايدة وغيره، فلمّا جازهم أهل خراسان خرجوا عليهم، فقتلوا منهم. فترجّل أبو نصر، واقتتلوا عند الخنادق ورفعت لهم النيران وابن هبيرة على برج باب الخلّالين، فبقوا يقتتلون ما شاء الله من الليل. وسرّح ابن هبيرة إلى معن: أن انصرف، فانصرف. فلمّا طال عليهم الحصار جاءهم قتل مروان فطلبوا الصلح. وكان ابن هبيرة قد همّ أن يدعو إلى محمّد بن عبد الله بن حسن بن حسن، فكتب إليه، وأبطأ عليه الجواب. وجرت السفراء بينه وبين أبى جعفر فى الصلح حتّى جعل له أمانا وكتب به كتابا مكث يشاور فيه العلماء أربعين يوما حتّى رضيه، ثمّ أنفذه إلى أبى جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى أبى العبّاس فأمره بإمضائه. وكان أبو العبّاس لا يقطع أمرا دون أبى مسلم. وكان أبو الجهم عينا لأبى مسلم على أبى العبّاس يكتب إليه بأخباره. فكتب أبو مسلم إلى أبى العبّاس: - «إنّ الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، ولا والله، ما صلح ملك فيه ابن هبيرة.» وخرج ابن هبيرة إلى أبى جعفر فى ألف وثلاثمائة من البخاريّة [2] ، فأراد   [1] . فى الطبري (10: 62) : واسط. [2] . فى مط: النجارية. والطبري (10: 67) مثل الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 أن يدخل الحجرة بدابّته، فقام إليه سلّام بن سليم فقال: - «مرحبا بك أبا خالد، انزل راشدا.» وقد أطاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان. فنزل، وأجلسه على وسادة، ثمّ دعا له بالقوّاد فدخلوا. ثمّ قال سلّام: - «ادخل أبا خالد.» فقال: «أنا ومن معى؟» فقال: «إنّما استأذنت لك وحدك.» فقام ودخل، فوضعت له وسادة فجلس عليها وحدّثه ساعة، ثمّ قام. ثمّ مكث يقيم عنه يوما ويأتيه يوما فى خمسائة فارس وثلاثمائة راجل. فقال يزيد بن حاتم: - «أيها الأمير، إنّ ابن هبيرة ليأتى فيتضعضع له العسكر، وما نقص من سلطانه شيء.» فقال أبو جعفر لسلّام: - «قل لا بن هيبرة يدع هذه الجماعة ويأتينا فى حاشيته.» فقال له ذلك سلّام، فتغيّر وجهه وجاء فى نحو من ثلاثين من حاشيته. فقال [351] له سلّام: - «كأنك تأتينا مباهيا!» فقال: «إن أمرتمونا أن نمشي إليكم مشينا.» فقال: «ما أردنا بك استخفافا، ولكن نظرا لك.» فكان بعد ذلك يأتى فى ثلاثة نفر. فقال: إن ابن هبيرة كلّم يوما أبا جعفر فقال: - «يا هناه.» [1] ثم قال:   [1] . وزاد فى الطبري (10: 68) : «أويا أيّها المرء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 - «ايه لله أنت.» ثمّ رجع فقال: «أيها الأمير، إنّ عهدي بكلام الناس مثل ما خاطبتك به قريب فسبقني لساني إلى العادة ولم أرده.» - «فتبسّم أبو جعفر وقال: - «صدقت.» وألحّ أبو العبّاس على أبى جعفر فى قتل ابن هبيرة وهو يراجعه حتّى كتب إليه: - «والله لتقتلنّه أو لأرسلنّ إليه من يخرجه من حجرك [1] ويتولّى قتله.» فتقدّم أبو جعفر بختم بيوت الأموال، ثمّ بعث إلى وجوه من معه، فلمّا حضروا نزعت سيوفهم وكتفوا. ثمّ أرسل إلى ابن هبيرة: - «إنّا نريد حمل المال.» فقال ابن هبيرة لحاجبه: - «يا با عثمان، انطلق فدلّهم عليه.» فوكلّوا بكل بيت نفرا ثمّ جعلوا ينظرون فى نواحي الدار ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه وحاجبه وعدّة من مواليه وبنّى له صغير فى حجره، فجعل ينكر نظرهم، وقال: - «أقسم بالله، إنّ فى وجوه القوم لشرّا.» فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه فى وجوههم [352] فقال: - «وراءكم!» فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه وقاتل ابنه داود، فقتل وقتل مواليه، ونجّى ابن هبيرة الصبىّ من حجره وقال: - «دونكم هذا الصبىّ.»   [1] . كذا فى الأصل. ما فى آ: مهمل. فى مط: حجر له. فى الطبري (10: 68) : من حجر ك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وخرّ ساجدا، فقتل وهو ساجد. ومضوا برؤوسهم إلى أبى جعفر، فنادى بالأمان للناس. وقال أبو عطاء السندىّ يرثيه: ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود عشيّة قام النائحات وشقّقت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود فإن تمس [1] مهجور الفناء فربّما ... أقام به بعد الوفود وفود وإنّك لم تبعد على متعهّد ... بلى كلّ من تحت التراب بعيد وقال منقذ بن عبد الرحمن الهلالي يرثيه: منع العزاء حرارة الصدر ... والحزن عقد عزيمة الصبر أفنى الحماة الغرّ أن عرضت ... دون الوفاء حبائل الغدر مالت حمائل أمرهم بفتى ... مثل النجوم حففن بالبدر عالى بنعيهم فقلت له ... مهلا [2] أتيت بصيحة الحشر [353] من للمنابر بعد هلكهم ... أو من يشدّ [3] مكارم الفخر قتلى بدجلة ما يجنّهم ... إلّا عباب زواخر البحر وفى هذه السنة وجّه أبو العبّاس عمّه عيسى بن علىّ على فارس، وكان عليها محمّد بن الأشعث من قبل أبى مسلم، فهمّ بعيسى فحذّره ثقاته وقالوا له:   [1] . فى الأصل: نمس. والتصحيح من آوالطبري (10: 70) . فى مط: يمس. [2] . فى آوالطبري: هلّا. [3] . فى الطبري: يسدّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 - «هذا لا يسوغ لك.» فقال: - «بلى، أمرنى أبو مسلم ألّا يقدم علىّ أحد يدّعى الولاية من غيره إلّا ضربت عنقه.» ثمّ ارتدع عن ذلك، واستدعى عيسى فاستحلفه بالأيمان المحرّجة، ألّا يعلو منبرا ولا يتقلّد سيفا إلّا فى جهاد. فلم يل عيسى بعد ذلك عملا ولا تقلّد سيفا إلّا فى غزوة. ثمّ استعمل بعد ذلك أبو العبّاس إسماعيل بن علىّ واليا على فارس. ثمّ دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة وفيها قتل داود بن علىّ من وجد من بنى أميّة بمكة والمدينة. وفيها مات داود بن علىّ بالمدينة. وفيها خرج شريك بن شيخ المهري على أبى مسلم بخراسان ببخارى وقال: - «ما على هذا اتبعنا آل محمّد، على أن تسفك الدماء، ويعمل بغير الحقّ.» وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفا. [354] فوجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح فقاتله وقتله. وخرج جماعة على أبى مسلم فقتلهم. ولم يجر فى حروبهم ما تستفاد منه تجربة، بل كان جميع ذلك يجرى بحسب الجدّ [1] والإقبال فتركنا ذكرها إذ كانت أسمارا فقط. ثمّ دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة وفيها خالف بسّام بن إبراهيم بن بسّام وخلع، وكان من فرسان أهل   [1] . الجدّ: الحظّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 خراسان، فوجّه إليه أبو العبّاس خازم بن خزيمة فناجزه القتال، وانهزم بسّام، واستبيح عسكره وطلبهم خازم إلى أن قتل أكثرهم، ثمّ انصرف من وجهه، فمرّ فى قرية فيها قوم من أخوال أبى العبّاس عدد هم خمسة وثلاثون رجلا من بنى عبد المدان، وهناك مواليهم وغيرهم، فلم يسلّم عليهم، فلمّا جاز شتموه لشيء كان فى قلوبهم عليه، فكّر راجعا، فسألهم عمّا بلغه من نزول المغيرة بهم، وكان من قوّاد بسّام. فقالوا: - «مرّ بنا رجل مجتاز لا نعرفه، فأقام فى قريتنا ليلة ثمّ خرج عنها.» فقال لهم: - «أنتم أخوال أمير المؤمنين، ويأتيكم عدوّه فيأمن فى قريتكم فهلّا اجتمعتم فأخذتموه؟» فأغلظوا له الجواب، فأمر بهم، فضربت أعناقهم جميعا، وهدمت دورهم ونهبت أموالهم. [355] ثمّ انصرف إلى أبى العبّاس، وبلغ ما كان من فعل خازم اليمانية، فأعظموا ذلك واجتمعت كلمتهم. فدخل زياد بن عبد الله الحارثي على أبى العبّاس مع عبيد الله بن الربيع الحارثي وعثمان ببن نهيك وأمثالهم فقالوا: - «يا أمير المؤمنين، إنّ خازما اجترأ عليك بأمر لم يكن أقرب ولد أبيك ليجترئ عليك به من قتل أخوالك الذين قطعوا البلاد إليك معتزّين بك، طالبين معروفك، حتّى إذا صاروا إلى جوارك ودارك وثب عليهم خازم، فضرب أعناقهم، وهدم دورهم، ونهب أموالهم، وأخرب ضياعهم، بلا حدث أحدثوه.» فهمّ بقتل خازم، فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة، فدخلا عليه وفثأه [1] عن رأيه. قالا:   [1] . فثأ القدر: سكّن غليانها. فثأ الغضب: سكّن حدّته. ما فى الأصل: وفثاآه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 - «نعيذك بالله يا أمير المؤمنين من الإصغاء إلى من يحملك على قتل خازم مع طاعته وسابقته وغنائه وهو يحتمل لك ما صنع لكيت وكيت، فإن كنت لا بدّ مجمعا على قتله فلا تتولّ ذلك بنفسك، وعرّضه من المباعث لما إن قتل فيه كنت قد بلغت منه الذي أردت، وإن ظفر كان ظفره لك.» وأشاروا عليه بأن يوجّهه إلى عمان وبها الجلندى [1] والخوارج معه وإلى الخوارج الذين [356] بجزيرة ابن كاوان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكرىّ فأمر أبو العبّاس بتوجيهه مع سبعمائة رجل، وكتب إلى سليمان بن علىّ وهو على البصرة، بحملهم فى السفن إلى جزيرة ابن كاوان وعمان. فشخص إلى هناك مع ابنه خزيمة، فأوقع بمن فيها من الخوارج وغلب على ما قرب منها من البلدان وقتل شيبان الخارجىّ. ذكر السبب فى ذلك والحيلة التي تمّت له عليهم أمّا فى أوّل مقدمه، فإنّه لمّا أرسى إلى ساحل عمان لقيهم الجلندى وأصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا وكثر القتل فى أصحاب خازم، وقتل أخ له من أمّه مع تسعين رجلا. ثمّ أشار عليه رجل ممّن كان وقع إلى تلك الناحية أن يجعلوا على أطراف أسنّتهم المشاقة ويروّوها النفط ويشعلوا فيها النيران، ثمّ يمشوا بها حتّى يضرموها فى بيوت أصحاب الجلندى، وكانت من خشب. فلمّا فعل ذلك، وأضرمت بيوتهم بالنيران وشغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم، شدّ عليهم خازم وأصحابه، فوضعوا فيهم السيوف وهم غير ممتنعين، وقتل [357] الجلندى فيمن قتل، وبلغ عدّة من قتل عشرة آلاف. وبعث خازم برؤوسهم إلى البصرة، وبعث منها إلى أبى العبّاس، وأقام خازم   [1] . الجلندى: والضبط من الطبري. (10: 77) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 شهرا حتّى أتاه كتاب أبى العبّاس بإقفاله، فقفلوا. وفى هذه السنة وجّه أبو العبّاس موسى بن كعب إلى الهند [1] لقتال منصور بن جمهور وفرض له ثلاثة آلاف رجل من العرب فشخص حتّى ورد السند، فلقى منصور بن جمهور فى اثنى عشر ألفا، فهزمه، فمضى ومات عطشا فى الرمال. وفى هذه السنة تحوّل أبو العبّاس من الجزيرة إلى الأنبار، وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكّة والأميال. ثمّ دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة ولم يجر فيها شيء يستفاد منه تجربة فى جملة ما انتهى إلينا. ثمّ دخلت سنة ستّ وثلاثين ومائة قدوم أبى مسلم العراق من خراسان وفيها قدم أبو مسلم العراق من خراسان. وكان استأذن أبا العبّاس فى القدوم عليه وفى الحجّ بعد ذلك. فأذن له، وتوجّه إلى أبى العبّاس [358] فى جماعة عظيمة من أهل خراسان ومن معه من غيرهم، فكتب إليه أن: - «اقدم فى خمسمائة من الجند.» فكتب إليه أبو مسلم: - «إنّى قد وترت الناس ولست آمن على نفسي.» فكتب إليه أن: - «أقبل فى ألف، فإنّما أنت فى سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكّة لا يحتمل العسكر.»   [1] . انظر الطبري (10: 80) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 وكان فى ثمانية آلاف، ففرّقهم بالرّى، وقدم بالأموال والخزائن، فتركها بالرىّ، وجمع أموال الجبل، وشخص منها فى ألف. فلمّا قرب تلقّاه القوّاد والناس حتّى دخل على أبى العبّاس، فأعظمه وأكرمه ثمّ استأذن فى الحجّ، فقال: - «لولا أنّ أبا جعفر يحجّ لاستعملناك على الموسم.» وكان ما بين أبى جعفر وأبى مسلم متباعدا، لإنّ أبا العبّاس لمّا صفت له الأمور، بعث أبا جعفر إلى خراسان بعهد أبى مسلم على خراسان وبالبيعة لأبى العبّاس ولأبى جعفر من بعده. فبايع له أبو مسلم وأهل خراسان، فأقام أبو جعفر إلى أن أحكم أمره، فجرى عليه من أبى مسلم استخفاف، فلمّا عاد شكاه إلى أخيه، فلمّا قدم أبو مسلم هذه القدمة للحجّ قال أبو جعفر لأبى العبّاس: - «يا أمير المؤمنين، أطعنى واقتل أبا مسلم، فو الله إنّ [359] فى [1] رأسه لغدرة.» قال: «يا أخى [2] ، قد عرفت بلاءه وما كان منه.» فقال أبو جعفر: «يا أمير المؤمنين، إنّما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنّورا لقام مقامه وبلغ ما بلغ.» فقال أبو العبّاس: «كيف نقتله؟» قال: «إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليك، دخلت فتغفّلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه.» فقال أبو العبّاس: «فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟» قال: «يؤول ذلك كلّه إلى ما تريد وعلىّ إصلاحه.»   [1] . فى الأصل: لفى. (بلام التأكيد) . [2] . ما فى الأصل: يا خى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 قال: «عزمت عليك إلّا كففت عن هذا الحديث.» قال: «أخاف والله إن لم تتغدّه اليوم أن يتعشّاك غدا.» قال: «دونكه.» [1] فلمّا دخل أبو مسلم على أبى العبّاس، بعث أبو العبّاس خصيا له، فقال له: - «اذهب فانظر ما يصنع أبو جعفر.» فأتاه فوجده محتبيا بسيفه. فقال للخصىّ: «أجالس أمير المؤمنين؟» قال: «إنّه قد تهيّأ للجلوس.» ثمّ رجع الخصىّ إلى أبى العبّاس فأخبره بما رأى منه فردّه إلى أبى جعفر وقال: - «قل له: الأمر الذي عزمت عليه لا تنفذه.» فكفّ أبو جعفر. وفى هذه السنة حجّ بالناس أبو جعفر المنصور وحجّ معه أبو مسلم. وفيها توفّى أبو العبّاس أمير المؤمنين بالأنبار لثلاث عشرة [360] خلت من ذى الحجة، وكانت وفاته فيما قيل بالجدرىّ. وكانت سنّه ثلاثا [2] وثلاثين سنة، وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفّى أربع سنين، ومن لدن بويع بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثمانية أشهر. وكان طويلا أبيض أقنى الأنف حسن الوجه واللحية ذا شعرة جعدة وأمّه ريطة بنت عبد الله [3] بن عبد المدان بن الحارثي وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة.   [1] . فى الطبري (10: 86) فدونكه، أنت أعلم. [2] . فى الأصل: ثلاث. [3] . فى الطبري (10: 88) : عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الديّان الحارثي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 خلافة أبى جعفر المنصور بيعة الناس لأبى جعفر بأمر من أبى العبّاس حين حضرته الوفاة ولمّا حضرته الوفاة أمر الناس بالبيعة لعبد الله بن محمّد أبى جعفر، فبايع الناس بالأنبار، وقام بأمر الناس عيسى بن موسى وأرسل عيسى بن موسى إلى أبى جعفر وهو بمكّة رسولا بموت أبى العبّاس وبالبيعة له، فلمّا أتاه الكتاب كتب إلى أبى مسلم: - «العجل العجل فقد حدث أمر.» وكان بينه وبن أبى مسلم منزل أبدا، فجاءه أبو مسلم، فلمّا جلس إليه ألقى إليه الكتاب فبكى واسترجع، ثمّ نظر أبو مسلم إلى أبى جعفر وقد جزع جزعا شديدا، فقال: - «ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟» قال: - «أتخوّف شرّ عبد الله بن علىّ وشيعته.» قال: - «لا تخفه فأنا أكفيك أمره إن شاء الله. إنّما عامّة جنده ومن معه أهل خراسان [361] وهم لا يعصوننى.» فسرّى عن أبى جعفر، وبايع له أبو مسلم وبايع الناس. وأقبلا حتّى وردا الكوفة. وفى هذه السنة بعث عيسى بن علىّ وأبو الجهم إلى عبد الله بن علىّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 ببيعته [1] المنصور فبايع لنفسه وأبى بيعة المنصور. ثمّ دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة عبد الله بن علىّ يدعو إلى نفسه كان نفذ إلى عبد الله بن علىّ أبو غسّان واسمه يزيد بن زياد، وهو حاجب أبى العبّاس بأمر أبى العبّاس قبيل موته ليبايع أبا جعفر، وكان عبد الله قد أدرب متوجّها إلى الروم، فلمّا قدم عليه أبو غسّان جمع أصحابه ونادى مناديه: - «الصلاة جامعة.» واجتمع إليه القوّاد والجند فقرأ عليهم الكتاب بوفاة أبى العبّاس ودعا الناس إلى نفسه وأخبرهم أنّ أبا العبّاس حين أراد أن يوجّه الجنود إلى مروان بن محمّد دعا بنى أبيه وأرادهم على المسير إلى مروان وقال: - «من انتدب منكم فسار إليه فهو ولىّ عهدي فلم ينتدب له غيرى.» وعلى هذا خرجت من عنده وقتلت من قتلت. فقام أبو غانم الطائىّ وخفاف المروروذى فى عدّة قوّاد فشهدوا [362] له بذلك، فبايعه أبو غانم وخفاف [2] وأبو الأصبغ وتتابع القوّاد عليه فيهم حميد بن قحطبة وغيره من أهل خراسان والشام والجزيرة، فلمّا فرغ من البيعة ارتحل فنزل حرّان وفيها مقاتل العكّى، وكان أبو جعفر استخلفه لمّا قدم على أبى العبّاس، فلم يجبه فتحصّن منه فأقام عليه حتّى استنزله من حصنه فقتله. وسرّح أبو جعفر لقتال عبد الله بن علىّ أبا مسلم، فلمّا بلغ عبد الله إقبال أبى مسلم أقام بحرّان، وجمع إليه الجنود والسلاح، وخندق، وأعدّ الطعام و   [1] . كذا فى الأصل: ببيعته. فى آوالطبري (10: 91) : ببيعة. [2] . فى الطبري (10: 93) : خفاف الجرجاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 الأعلاف وما يصلحه. ومضى أبو مسلم لم يتخلّف عنه أحد من القوّاد، وبعث على مقدّمته مالك بن الهيثم الخزاعي وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة، وكان حميد فارق عبد الله بن علىّ لأنّه أخافه وأراد قتله. وكان أبو مسلم استخلف على خراسان خالد بن إبراهيم أبا داود، وكان عبد الله بن علىّ خشي ألّا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا ضروب القتل. وكتب لحميد بن قحطبة كتابا وجّهه إلى حلب وعليها زفر بن عاصم وفى الكتاب: - «إذا ورد عليك حميد بن قحطبة فاضرب عنقه.» فسار حميد، ثمّ فكّر فى كتابه فلم ير من الصواب [363] له أن يوصله ولم يقرأه، ففكّ الطومار وقرأه، فلمّا عرف ما فيه دعا قومه من خاصّته، فأفشى إليهم أمره وشاورهم وقال: - «من أراد أن ينجو ويهرب فليسر معى فإنّى أريد أن آخذ طريق العراق، ومن لم يحمل نفسه على السير فلا يفشينّ سرّى وليذهب حيث أحبّ.» واتّبعه قوم وفوّز بهم ونجا. ولمّا وافى أبو مسلم مكان عبد الله بن علىّ وهو بنصيبين يخندق لم يعرض له وأخذ طريق الشام وكتب إلى عبد الله: - «إنّى لم أومر بقتالك ولم أوجّه له ولكن أمير المؤمنين ولّانى الشام وأنا أريدها.» فقال من كان مع عبد الله: - «كيف نقيم معك وهذا يأتى بلادنا وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبى ذراريّنا؟ ولكنّا نخرج إلى بلادنا فنمنعه ونقاتله إن قاتلنا.» فقال لهم عبد الله بن علىّ: - «إنّه والله ما يريد الشام، وما وجّه إلّا إلى قتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 فلم تطب أنفسهم. فأبوا إلّا المسير إلى الشام. وكان أبو مسلم قد عسكر قريبا منه فارتحل عبد الله بن علىّ متوجّها نحو الشام. وتحوّل أبو مسلم حتّى نزل فى معسكر عبد الله بن علىّ [364] فى موضعه وعوّر ما كان حوله من المياه وألقى فيها الجيف، وبلغ عبد الله بن علىّ ذلك فقال لأصحابه: - «ألم أقل لكم؟» ثمّ أقبل عبد الله فلم يجد غير موضع عسكر أبى مسلم الذي كان به فاقتتلوا ستّة أشهر. فحكى من شهد مع أبى مسلم هذه الحرب: أنّه لمّا كان بعد ستّة أشهر التقينا فحمل علينا أصحاب عبد الله، فصدمونا صدمة أزالونا عن مواقفنا وانصرفوا. وشدّ علينا عبد الصمد فى خيل مجرّدة فقتلوا منّا قوما، ثمّ رجعوا، ثمّ تجمّعوا ورموا بأنفسهم علينا، فأزالوا صفّنا، وجلنا جولة، فقلت لأبى مسلم: - «لو حرّكت دابّتى حتّى أشرف على هذا التلّ فأصيح بالناس، فقد انهزموا.» قال: «افعل.» قال، قلت: «وأنت أيضا، لو حرّكت دابّتك معى.» فقال: «إنّ أهل الحجى لا يعطفون دوابّهم فى مثل هذه الحال. ناد: يا أهل خراسان، ارجعوا، فإنّ العاقبة للمتّقين.» ففعلت، فتراجع الناس وارتجز أبو مسلم: من كان ينوي أهله فلا رجع ... فرّ من الموت وفى الموت وقع وقد كان عمل لأبى مسلم عريش، فكان يجلس فيه [1] إذا التقى الناس   [1] . فى الطبري (10: 97) : عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 فينظر إلى القتال، فإن رأى خللا فى الميمنة والميسرة، أرسل إلى صاحبها: - «إنّ فى ناحيتك انتشارا فاتّق [1] الله لا نؤتى [365] من قبلك، افعل كذا، قدّم خيلك إلى موضع كذا، تأخّر إلى موضع كذا.» فإنّما رسله تختلف برأيه إليهم حتّى ينصرف بعضهم عن بعض. فلمّا كان يوم التقوا، فاقتتلوا قتالا. فلمّا رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بن قحطبة، وكان على ميمنته، أن: - «أعر ميمنتك وضمّ أكثرها إلى الميسرة، وليكن فى الميمنة حماة أصحابك وأشدّاؤهم.» فلمّا رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضمّوا إلى ميمنتهم بازاء ميسرة أبى مسلم. ثمّ أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن: - «مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي فى الميمنة على ميسرة أهل الشام.» قال: فحملوا عليهم فحطّموهم. وجال أهل القلب والميمنة وركبهم أهل خراسان فكانت الهزيمة. فحكى ابن سراقة الأزدى قال: كنت مع عبد الله بن علىّ، فقال لى: - «يا سراقة ما ترى؟» قلت: «أرى أن تصير وتقاتل فإنّ الفرار قبيح بمثلك حتّى تقتل وقد [2] عبته على مروان.» قلت: «قبّح الله مروان، جزع من الموت ففرّ.»   [1] . فى آ: بدون «الله» . فى الطبري (10: 97) : فاتّق ألّا توتى. [2] . كذا فى الأصل: وقد. فى الطبري (10: 98) : وقبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 فقال: «بل آتى العراق.» قلت: «فإنّى معك.» فانهزم مع الناس وتركوا عسكرهم فاحتواه أبو مسلم، وكتب إلى أبى جعفر بالفتح. فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا فى [366] عسكر عبد الله بن علىّ، فغضب من ذلك أبو مسلم، ولم يظهر غضبه. فأمّا عبد الله بن علىّ فإنّه أتى سليمان بن علىّ بالبصرة، وأمّا عبد الصمد فقدم الكوفة، فاستأمن له عيسى بن موسى، فآمنه أبو جعفر وأمر أبو مسلم الناس بالكفّ، فلم يقتل أحدا بعد الهزيمة، وبقي عبد الله بن علىّ متواريا عند سليمان زمانا. وفى هذه السنة قتل أبو مسلم حكى مسلم بن المغيرة: أنّه كان مع الحسن بن قحطبة بأرمينية، فلمّا وجّه أبو مسلم إلى الشام، كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه. فقدمنا [1] على أبى مسلم وهو بالموصل، فأقام أيّاما، فلمّا أراد أن يسير استأذنته فى المصير إلى العراق وقلت: - «أنتم تسيرون إلى القتال، وليس بك إلىّ حاجة.» قال: «نعم، لكن أعلمنى إذا أردت الخروج.» قلت: «نعم.» فتهيّأت، فلمّا فرغت أعلمته وقلت: - «أتيتك مودّعا.» قال: «قف بالباب حتّى أخرج إليك.»   [1] . انظر الطبري (10: 99: 10: 101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 فخرجت فوقفت، فخرج وقال: - «أريد أن ألقى إليك شيئا لتبلغه أبا أيّوب، ولولا ثقتي بك [1] لم أخبرك، فأبلغ أبا أيّوب أنّى قد ارتبت بأبى مسلم منذ قدمت عليه. إنّه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرأه ثمّ يلوى شدقه ويرمى بالكتاب إلى أبى نصر مالك بن الهيثم فيقرأه [367] ثمّ يضحكان ويستهزئان به.» قلت: «نعم.» ومضيت عنه، فلمّا لقيت أبا أيّوب وأنا أرى أنّى قد أتيته بشيء أخبرته، [2] ضحك وقال: - «نحن لأبى مسلم أشدّ تهمة منّا لعبد الله بن علىّ، إلّا أنّا نرجو واحدة: نعلم أنّ أهل خراسان لا يحبّون عبد الله وقد قتل منهم من قتل.» ذكر مقتل أبى مسلم صاحب الدولة وسبب ذلك لمّا ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بن علىّ، بعث أبو جعفر يقطين بن موسى وأمره بإحصاء ما فى العسكر، فلمّا قدم عليه، وكان يسمّيه: يك دين، قال له أبو مسلم: - «يا يك دين، أمين على الدماء خائن فى الأموال.» وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين ذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعا على الخلاف، وخرج من وجهه معارضا يريد خراسان. وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبى مسلم فى المصير إليه.   [1] . فى مط: ولولا تقرّبك. [2] . انظر الطبري (10: 101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 فكتب أبو مسلم وهو على الرواح إلى طريق حلوان: - «إنّه لم يبق لأمير المؤمنين- أكرمه الله عدوّ إلّا مكّنه الله منه. وقد كنّا نروى عن ملوك آل ساسان أنّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك حريصون على [368] الوفاء بعدك ما وفيت، حريّون بالسمع والطاعة لك، غير أنّها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإنّ أرضاك ذلك فإنّا كأخسّ [1] عبيدك، وإن أبيت إلّا أن تعطى نفسك إرادتها، نقضت ما أبرمت من عهدك ضنّا بنفسي.» فلمّا وصل الكتاب إلى المنصور، كتب إلى أبى مسلم: «قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنّون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنّما راحتهم فى انتشار نظام الجماعة. فلم سوّيت نفسك بهم وأنت فى طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حمّلت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوحشت [2] منك سمع ولا طاعة. وقد حمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزعاته وبينك، فإنّه لم يجد بابا يفسد به نيّتك أوكد عنده وأقرب   [1] . فى الطبري (10: 104) : كأحسن. [2] . فى الطبري (10: 104) : أوجبت، بدل «أوحشت» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 من ظنّه [1] من الباب الذي فتحه عليك.» وأمر أبو جعفر عيسى بن موسى ومن حضره: - «اكتبوا إليه تعظمون أمره وتشكرون ما كان منه وتسألونه أن يتمّ ما كان [369] منه وعليه من الطاعة وتحذّرونه عاقبة الغدر وتأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين وأن يلتمس رضاه.» ودعا أبا حميد ثمّ قال له: - «كلّم أبا مسلم بالين ما تكلّم به أحدا، ومنّه، وأعلمه أنّى رافعه وصانع به ما لم يصنعه أحد بأحد إن هو راجع [2] ما أحبّ فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين نفيت من العبّاس، وأنا بريء من محمّد صلّى الله عليه إن مضيت مشاقا ولم تأتنى إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك إلّا بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها، حتّى أقتلك أو أموت قبل ذلك. ولا تقولّن هذا الكلام حتّى تأيس من رجوعه، ولا تطمع منه فى خير.» فسار أبو حميد فى ناس من أصحابه ممّن يثق بهم حتّى دخل على أبى مسلم، فدفع إليه الكتاب، ثمّ قال: - «إنّ الناس يبلّغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه   [1] . فى الطبري (10: 104) : من طبّه. فى حواشيه عن الأصول: من ظنّه. [2] . الضبط من الطبري (10: 105) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 فيك، حسدا وبغيا. يريدون إزالة هذه النعمة وتغييرها فلا تفسد ما كان منك. وكلّمه بأشباه هذا وقال له: - «يا أبا مسلم، إنّك لم تزل أمين آل محمّد، يعرفك بذلك الناس [370] وما ذخر الله لك من الأجر عنده أعظم ممّا أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينّك الشيطان.» قال له أبو مسلم: - «متى كنت تكلّمنى بهذا الكلام.» وأقبل على أبى نصر مالك بن الهيثم. فقال: - «يا مالك، ألا تسمع؟» . ذكر آراء أشير بها على أبى مسلم فخالفها قال: «لا تسمع قوله ولا يهولنّك هذا منه فلعمرى لقد صدقت ما هذا بكلامه فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لقد وقع فى نفسه منك شيء لا يأمنك معه أبدا.» فقال للرسل: «قوموا.» فنهضوا. فأرسل أبو مسلم إلى نيزك وقال: - «يا نيزك، إنّى والله ما رأيت طويلا أعقل منك، فما ترى؟ فقد جاءت هذه الكتب وقد قال القوم ما قالوا.» قال: - «لا أرى أن تأتيه وأرى أن تأتى الرىّ فتقيم بها فتصير ما بين خراسان والرىّ لك وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت وإن أبى كنت فى جندك، وكانت خراسان من وراءك، فرأيت رأيك.» فدعا أبا حميد فقال: - «ارجع إلى صاحبك، فليس من رأيى أن آتيه.» قال: «قد اعتزمت على خلافه.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 قال: «نعم.» قال: «لا تفعل.» قال: «ما أريد أن ألقاه.» فلمّا آيسه من الرجوع [371] قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلا ثمّ قال: - «قم.» فكسره ذلك القول ورعّبه. وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبى داود وهو خليفة أبى مسلم على خراسان حين أتّهم أبا مسلم: - «إنّ لك إمرة خراسان ما بقيت.» فكتب أبو داود إلى أبى مسلم: - «إنّك لم تخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّنا صلّى الله عليه، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجعنّ إلّا بإذنه.» فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعبا وهمّا. وأرسل إلى أبى حميد وأبى مالك فقال لهما: - «إنّى قد كنت معتزما على المضىّ إلى خراسان ثمّ رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتينى برأيه فإنّه ممّن أثق به» فوجّه، فلمّا قدم أبو إسحاق تلقّاه بنو هاشم بكل ما يحبّ، وقال له أبو جعفر: - «اصرفه عن وجهه، ولك ولاية خراسان.» وأجازه، فرجع أبو إسحاق إلى أبى مسلم فقال له: - «ما أنكرت شيئا، رأيتهم معظّمين لحقّك، يرون لك ما يرون لأنفسهم.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 ثمّ أشار عليه بأن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه ممّا كان منه [1] . فأجمع أبو مسلم على ذلك، فقال له نيزك: - «قد أجمعت على الرجوع؟» قال: «نعم.» وتمثّل: ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام [379] وقال: «أمّا إذا عزمت على هذا، فاحفظ عنّى واحدة خار الله لك، إذا دخلت عليه فاقتله، ثمّ بايع لمن شئت، فإنّ الناس لا يخالفونك.» وكتب أبو مسلم إلى أبى جعفر يخبره أنّه ينصرف إليه. قالوا: فقال أبو أيّوب: فدخلت على أبى جعفر وهو فى خباء شعر بالروميّة جالسا على مصلّى بعد العصر، وبين يديه كتاب أبى مسلم، فرمى به إلىّ، فقرأته، ثمّ قال: - «والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه.» فقلت فى نفسي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 طلبت الكتابة حتّى إذا بلغت غايتها، فصرت كاتبا للخليفة وقع هذا بين الناس، والله ما أرى أنّه إن قتل يرضى أصحابه بقتله، ولا يدعون هذا حيّا ولا أحدا ممن يتّصل بهم. وامتنع منّى النوم. ثمّ قلت: لعلّ الرجل يقدم وهو آمن، فإن كان آمنا فعسى أن تناول [2] ما تريد وإن قدم وهو حذر لم تقدر عليه. فلو التمست حيلة.»   [1] . فى الأصل: منك. وما أثبتناه يؤيّده السياق والطبري (10: 108) . [2] . فى الطبري (10: 108) : ينال. وكذلك باقى الأفعال، فى هذه العبارة، فهي كلّها بصيغة الغائب، وآ كالأصل: تنال. المتكلم يخاطب نفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 ذكر حيلة احتال بها أبو أيّوب المورياني على أبى مسلم حتّى ترك التحرّز قال أبو أيوب: فأرسلت إلى سلمة بن سعيد بن جابر وكان يأنس به أبو مسلم فقلت: - «هل عندك شكر؟» قال: «نعم.» قلت: «إن ولّيتك ولاية تصيب منها ما يصيب صاحب العراق [373] تدخل معك أخى حاتم بن أبى سليمان؟» قال: «نعم.» قلت- وأردت أن يطمع ولا ينكر منه شيئا-: وتجعل له النصف؟» قال: «نعم.» قلت: «إنّ كسكر كالت عاما أوّل كذا وكذا، وفيها العام أضعاف ما كان عام أوّل، [1] فإن دفعت إليك بقبالتها التي كانت عاما أوّل أو بالأمانة أصبت ما تضيق به ذرعا؟» قال: «فكيف لى بهذا؟» قلت: «تأتى أبا مسلم فتلقاه وتكلّمه وتسأله أن يجعل فيما يرفع من حوائجه أن تولّاها أنت بما كانت فى العام الأوّل، فإنّ أمير المؤمنين يريد أن يولّيه إذا قدم ما وراء بابه ويريّح نفسه.» قال: «فكيف لى فى لقاءه ومن لى به؟» قلت: «أنا.» ودخلت على أبى جعفر، فحدّثته الحديث كلّه فلم أخرم منه شيئا. قال:   [1] . كذا فى الأصل والطبري (10: 109) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 - «فادع سلمة.» فدعوته. فقال له أبو جعفر: - «إنّ أبا أيّوب استأذن لك أفتحبّ أن تلقى أبا مسلم؟» قال: «نعم» قال: «فقد أذنت لك فأقرئه السلام وأعلمه تشوّقنا إليه.» قال: فخرج سلمة حتّى لقى أبا مسلم. فقال له: - «إنّ لى حاجة.» ثمّ قصّ عليه حديث كسكر، وقال له،- «أمير المؤمنين أحسن الناس فيك رأيا.» فطابت نفسه وكان قبل ذلك كئيبا، فلمّا قدم عليه من سلمة ما قدم، سرّى عنه وصدّقه. [374] فلمّا دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس، فتلقّوه. فلمّا كان عشيّة قدم، دخلت على أمير المؤمنين فقلت: - «هذا الرجل يدخل العشيّة، فما تريد أن تصنع؟» قال: «أريد أن أقتله حين أنظر إليه.» قلت: - «أنشدك الله، إنّه يدخل معه الناس، وقد علموا ما صنع، فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخل عليك، فأذن له حتّى ينصرف، فإذا غدا عليك رأيت رأيك.» وما أردت إلّا دفعه بها، وما ذاك إلّا من خوفي عليه وعلينا جميعا من أصحاب أبى مسلم. فدخل عليه من عشيّته، وسلّم وقام قائما بين يديه، فقال: - «انصرف يا عبد الرحمن، فأرح نفسك وادخل الحمّام فإنّ للسفر قشفا، ثمّ أغد علىّ.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 فانصرف أبو مسلم، وانصرف الناس، فافترى [1] علىّ أمير المؤمنين حين خرج أبو مسلم وقال: - «متى أقدر على مثل هذه الحال منه التي رأيته قائما على رجليه ولا أدرى ما يحدث فى ليلتي.» فانصرف، فلمّا أصبحت غدوت عليه، فلمّا رآني قال: - «يا بن اللخناء، لا مرحبا بك، والله ما غمّضت الليلة.» ثمّ شتمني حتّى خفت أن يقتلني. ثمّ قال: - «ادع لى عثمان بن نهيك.» فدعوته. فقال: - «يا عثمان، كيف [375] بلاء أمير المؤمنين عندك؟» قال: «يا أمير المؤمنين، إنّما أنا عبدك، والله لو أمرتنى أن أتّكىء على سيفي حتّى يخرج من ظهري، لفعلت.» قال: «كيف أنت إن أمرتك بقتل أبى مسلم؟» فوجم ساعة لا يتكلّم. فقلت: - «مالك لا تتكلّم؟» فقال قولة ضعيفة: «أقتله.» قال: «انطلق، فجئنى بأربعة من وجوه الحرس جلداء [2] .» فمضى. فلمّا كان عند الرواق ناداه: - «يا عثمان، ارجع.» فرجع. قال: «اجلس.» فجلس.   [1] . كذا فى الطبري (10: 110) فافترى. [2] . فى الطبري (10: 110) جلد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 قال: «أرسل إلى من تثق به من الحرس، فليحضر منهم أربعة.» فقال لوصيف له: - «انطلق، فادع شبيب بن واج، وادع أبا حنيفة.» حتّى عدّد أربعة، فدخلوا فقال لهم أمير المؤمنين نحو ما قال لعثمان، فقالوا: - «نقتله.» قال: «كونوا خلف الرواق، فإذا صفّقت، فاخرجوا إليه، فاقتلوه.» ثمّ أرسل إلى أبى مسلم رسلا، بعضهم على إثر بعض، فقالوا: - «قد ركب.» وأتاه وصيف فقال له: - «إنّه أتى عيسى بن موسى.» فقلت: «يا أمير المؤمنين، ألا أخرج فأطوف العسكر فأنظر ما يقول الناس، هل ظنّ أحد ظنّا أو تكلّم أحد بشيء.» قال: «بلى.» فخرجت، وتلقّانى أبو مسلم داخلا، فتبسّم، وسلّمت عليه، ودخل، ورجعت، فإذا هو منبطح لم ينتظر به رجوعي [1] . ودخل أبو الجهم، فلمّا راه مقتولا قال: - «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا [376] إِلَيْهِ راجِعُونَ.» 2: 156 فأقبلت على أبى الجهم فقلت له: - «أمرته بقتله حين خالف، حتّى إذا قتل قلت هذه المقالة.» فنبّهت رجلا عاقلا [2] فتكلّم بكلام أصلح ما كان منه.   [1] . كذا فى الأصل انظر الطبري (10: 111) . [2] . كذا فى الأصل وآ: عاقلا. فى مط: غافرا. فى الطبري (10: 111) : غافلا. وفى حواشيه: عاقلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 قال: «يا أمير المؤمنين، ألا أردّ الناس؟» قال: «بلى.» قال: «فأمر بمتاع يحوّل لك إلى رواق آخر من أرواقك هذه.» فأمر بفرش، فأخرجت كأنّه يريد أن يهيّأ له رواق آخر. فخرج أبو الجهم وقال: - «انصرفوا فإنّ الأمير يريد أن يقيل عند أمير المؤمنين.» ورأوا المتاع ينقل، فظنّوه صادقا، فانصرفوا، ولمّا دخل أبو مسلم قال له: - «أخبرنى عن نصلين [1] أصبتهما فى متاع عبد الله بن علىّ.» قال: «هذا أحد هما الذي علىّ.» قال: «أرنيه.» فانتضاه، فناوله، فهزّه أبو جعفر، ثمّ وضعه تحت فراشه، وأقبل عليه يعاتبه ويعدّد ذنوبه. فقال: - «أخبرنى عن كتابك إلى أبى العبّاس تنهاه عن الموات [2] ، أردت أن تعلّمنا الدين؟» قال: «ظننت أنّه لا يحلّ، وكان كتب إلىّ فيه، فأجبته بما عندي.» قال: «فأخبرنى عن تقدمك إيّاى فى طريق مكّة.» قال: «كرهت أن نجتمع على الماء، فيضرّ ذلك بالناس، فتقدّمت توطئه والتماس المرفق.» فقال: «فقولك حين أتاك الخبر بموت أبى العبّاس لمن أشار عليك أن تنصرف [377] إلى أن نقدم فنرى رأينا فمضيت، فلا أنت أقمت حتّى ألحقك،   [1] . النصل فى أحد معانيه: السيف. [2] . انظر الطبري (10: 113) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 ولا أنت رجعت إلىّ.» قال: «منعني من ذلك ما أخبرتك به من طلب المرفق للناس، وقلت يقدم الكوفة وليس عليه منّى خلاف.» قال: «فجارية عبد الله بن علىّ، أردت أن تتّخذها؟» قال: «لا، ولكنّى خفت ضياعها فحملتها فى قبّة ووكلّت بها من يحفظها.» قال: «فمراغمتك إيّاى والخروج إلى خراسان.» قال: «خفت أن يكون قد دخلك شيء منّى، فقلت آتى خراسان وأكتب بعذري وإلى ذاك ما قد ذهب ما فى نفسك علىّ.» قال: «فلم قتلت سليمان بن كثير مع أثره فى دعوتنا وهو أحد نقباءنا [1] .» قال: «إنّما أراد الخلاف فقتلته.» قال: «تقتله وحاله عندنا حاله بتهمة لم تتحقّقها؟» ثمّ قال: «ألست الكاتب إلىّ تبدأ بنفسك، والكاتب إلّى تخطب أمينة بنت علىّ وتزعم أنّك ابن سليط بن عبد الله بن عبّاس؟» فقال أبو مسلم: «يا أمير المؤمنين، لا تتحفّظ علىّ أمثال هذه بعد بلائي وما كان منّى.» وكان أبو مسلم قتل فى دولته وحروبه ستمائة ألف انسان صبرا.» فقال له: - «يا بن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنّما عملت ما عملت بريحنا وفى دولتنا، ولو كان ذلك إليك [378] ما قطعت فتيلا.» ثمّ قال أبو جعفر: - «إنّك لتزيدني بكلامك واحتجاجك غيظا.»   [1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (10، 114) : نقباءنا. فى مط: ثقاتنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وصفّق بيده، وكانت العلامة بينه وبين الحرس [1] ، فخرجوا عليه وضربوه حتّى قتلوه وأدرج فى بساط وأمر أبو جعفر لأصحابه بمال، ونثر دراهم لبقية جنده فاشتغلوا بها، ورمى إليهم برأسه. ثمّ دعا أبو جعفر بأبى إسحاق صاحب حرس أبى مسلم، فقال: - «أقسم بالله لئن قطعوا طنبا من أطنابى لأضربنّ عنقك ثمّ لأجاهدنّهم.» فخرج إليهم أبو إسحاق وهم يشغّبون فقال: - «انصرفوا يا كلاب.» وكان أبو مسلم خلّف أبا نصر فى ثقله وقال: - «أقم حتّى يأتيك كتابي.» قال: - «فاجعل بيني وبينك علامة أعرفها وأثق بكتابك معها.» قال: - «إن أتاك كتابي مختوما بنصف خاتمي، فإنا كتبته وإن أتاك بختمى كلّه فلم أكتبه، ولم أختمه.» فلمّا دنا من المدائن، تلقّاه رجل من قوّاده، فسلّم عليه وقال: - «أطعنى وارجع، فإنّه إن قدر عليك قتلك.» قال: «أمّا وقد قربت من القوم، فإنّى أكره الرجوع.» وكتب أبو جعفر كتابا عن لسان أبى مسلم إلى أبى نصر يأمره بحمل ثقله وما خلّف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبى مسلم، فلمّا رأى أبو نصر نقش الخاتم تامّا علم [379] أنّ أبا مسلم لم يكتب به. قال: - «أفعلتموها؟»   [1] . فى مط: الحرث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان. فكتب أبو جعفر بعهده على شهرزور، ووجّه إليه رسولا بالعهد، فأتاه خبره بعد نفوذ الرسول بالعهد انّه قد توجّه إلى خراسان. وكتب إلى زهير بن التركيّ وهو على همذان: - «إن مرّ بك أبو نصر، فاحبسه.» ثمّ كتب إليه كتابا آخر: - «إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله.» وقدم صاحب العهد بالكتاب فوصلت الكتب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فأخذه وحبسه، ثمّ خلّاه لهواه فيه، واحتجّ بأنّ كتاب العهد سبق إلىّ فخلّيت سبيله. وفى هذه السنة ولّى أبو جعفر أبا داود خالد بن إبراهيم خراسان، وكتب إليه بعهده. خروج سنباذ طلبا بثأر أبى مسلم وفيها خرج سنباذ بخراسان يطلب بدم أبى مسلم وكان هذا الرجل مجوسيّا، وأظهر غضبا لقتل أبى مسلم، فطلب بثأره، وكثر أتباعه فتسمّى: بفيروز اصبهبذ، وغلب على نيسابور، وقومس، والرىّ، وقبض خزائن أبى مسلم التي خلّفها، فوجّه إليه أبو جعفر، جهور بن مرّار [1] العجلى فى عشرة آلاف، فالتقوا بين همذان والرىّ، فهزم سنباذ وقتل من أصحابه نحو من ستين. ألفا [380] وسبيت ذراريّهم ونساؤهم، ثمّ قتل سنباذ بين طبرستان وقومس. فكان بين خروجه إلى يوم قتل سبعون ليلة.   [1] . فى مط: مران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 خروج ملبّد وفى هذه السنة خرج ملبّد بن حرملة الشيبانى فحكّم بناحية الجزيرة فخرج إليه ألف رجل من روابط الجزيرة، فقتلهم ملبّد وهزمهم، ثمّ سار إليه روابط الموصل فهزمهم، ثمّ سار إليه يزيد بن حاتم المهلّبى فهزمه ملبّد بعد قتال شديد وقتل ذريع. ثمّ وجّه إليه أبو جعفر المهلهل بن صفوان فى نخب الجند فهزمهم ملبّد، واستباح عسكرهم ثمّ خرج إليه نزار فى عدّة من قوّاد خراسان، فقتله ملبّد وهزم أصحابه، ثمّ وجّه إليه زياد بن مشكان فى جمع كثير فهزمهم ملبّد. ثمّ وجّه صالح بن صبيح فى عسكر كثيف وعدّة من صناديد فهزمهم الملبّد. ثمّ سار إليه حميد بن قحطبة فلقيه الملبّد فهزمه، وتحصّن حميد منه وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكفّ عنه. ثمّ دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة حوادث عدة وفيها دخل قسطنطين ملك الروم ملطية عنوة فقهر أهلها وملك سورها [381] وهدمه ثمّ عفى عمّن فيها. وفيها غزا العبّاس بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس مع صالح بن علىّ، فوصله صالح بأربعين ألف دينار وخرج معهم عيسى بن علىّ، فوصله أيضا بأربعين ألف دينار فبنى صالح بن علىّ ما كان صاحب الروم هدم من ملطية. وفى هذه السنة خلع جهور بن مرّار [1] العجلى المنصور وكان سبب ذلك أنّ جهورا لمّا هزم سنباذ وحوى ما فى عسكره وفى جملته خزائن أبى مسلم،   [1] . فى مط: مران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 خاف فخلع، فأنفذ إليه المنصور محمّد بن الأشعث الخزاعىّ، فلقيه فقاتله قتالا شديدا، فهزم جهور وقتل من أصحابه خلق كثير وهرب جهور [1] إلى آذربيجان فأخذ بعد ذلك باسفيدروا. وفى هذه السنة قتل الملبّد الخارجي قتله خازم بن خزيمة بعد قتال شديد وحروب كثيرة لا تستفاد من ذكرها تجربة. ثمّ دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة [2] عبد الرحمن يصير إلى الأندلس وفى هذه السنة صار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس فملّكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها إلى اليوم. وفيها عزل سليمان بن علىّ [382] عن البصرة، وولّى سفيان بن معاوية، فتوارى عبد الله بن علىّ وأصحابه فبعث أبو جعفر إلى سليمان وعيسى ابني علىّ وكتب إليهما فى إشخاص عبد الله بن علىّ وعزم عليهما أن يفعلا ذلك ولا يؤخّراه، وأعطاهما من الأمان لعبد الله ما رضياه ووثقا به، وجرى فى ذلك ما سنذكره إن شاء الله. ثمّ استحثّهما بالخروج بعبد الله وبعامّة قوّاده وخواصّ أصحابه فخرجا بعبد الله والجماعة التي التمسها حتّى قدموا على المنصور فلمّا دخل سليمان وعيسى على المنصور سألاه فى عبد الله بن علىّ وأعلماه حضوره، فأنعم لهما وشغلهما بالحديث. وقد كان هيّأ لعبد الله محبسا فى قصره، وأمر أن يصرف إليه بعد دخول   [1] . كذا فى الطبري (10: 122) أيضا: جهور. فى مط: جمهور. [2] . فى آ: تسع وستّين ومائة. وهو سهو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 سليمان وعيسى، ففعل ذلك به، ثمّ نهض أبو جعفر من مجلسه وقال لسليمان وعيسى: - «سارعا بعبد الله.» فلمّا خرجا، افتقدا عبد الله بن علىّ من المجلس الذي خلّفاه فيه، فعلما أن قد حبس، فانصرفا راجعين إلى أبى جعفر، فحيل بينهما وبين الوصول إليه، وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحاب عبد الله بن علىّ من عواتقهم وحبسوا. [383] ثمّ دخلت سنة أربعين ومائة هلاك أبى داود عامل خراسان فمما جرى فيها هلاك أبى داود خالد بن إبراهيم عامل خراسان لخطيئة أخطأها على نفسه، وذلك أنّ ناسا من جنده ثاروا به ليلا وهو نازل بباب كشمهان [1] من مدينة مرو حتّى وصلوا إلى المنزل الذي هو فيه فأشرف أبو داود من الحائط، وجعل ينادى أصحابه ليعرفوا صوته، ووطئ حرف آجرّة خارجة عن الحائط، فانكسرت الآجرّة ووقع على سترة أمامها فانكسر ظهره ومات. وقام عصام صاحب شرطة أبى داود بخلافته حتّى قدم عبد الجبّار بن عبد الرحمن الأزدى. ثمّ دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة فمّا جرى فى هذه السنة أمر الرونديّة وما كان من أبى جعفر فى أمرهم.   [1] . فى الطبري (10: 128) : كشماهن. فى آ: كشميهن. وكشميهن قرية كانت عظيمة من قرى مرو فى آخر عملها على طرف البرية لمن يقصد آمل جيحون، خرّبها الرمل (مرا صد الاطلاع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 ذكر أخبار الرونديّة وخروجهم ومقتلهم الرونديّة قوم كانوا من أهل خراسان على رأى أبى مسلم صاحب دعوة بنى هاشم، يقولون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أنّ روح آدم فى عثمان بن نهيك وأنّ جبريل هو الهيثم بن معاوية. [384] وأنّ ربّهم الذي يطمعهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، ويعدّدون أرواح قوم مضوا فيدّعون أنّها الآن منتقلة فى أجساد أخرين [1] هم فلان وفلان، ولا تزال تنتقل فى كلّ زمان إلى أجساد قوم فتعاقب فيها أو تثاب. وكانوا أتوا قصر المنصور فجعلوا يطوفون به ويقولون: - «هذا قصر ربّنا.» فحكى أبو بكر الهذلي قال: إنّى لواقف بباب أمير المؤمنين إذ طلع فقال لى رجل إلى جانبي: - «هذا ربّ العزّة، هذا الذي يرزقنا ويطعمنا ويسقينا.» فلمّا رجع أمير المؤمنين ودخل الناس ودخلت وخلا وجهه قلت له: - «سمعت اليوم عجبا.» وحدّثته، فنكت فى الأرض وقال: - «يا هذلي، يدخلهم الله عزّ وجلّ النار فى طاعتنا ويقتلهم أحبّ إلينا من أن يدخلهم الجنّة بمعصيتنا.» قال: وأتوا قصر المنصور للطواف حتى شاع خبرهم فأرسل المنصور إلى رؤساء هم فحبس منهم مائتين فغضب أصحابهم وقالوا: - «علام حبسوا؟» وأمر المنصور ألّا يجتمعوا، فأعدّوا نعشا وحملوا السرير وليس فى النعش   [1] . فى الأصل: أجساد آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 أحد. ثمّ مرّوا فى المدينة الهاشمية بالكوفة حتّى صاروا على باب السجن، فأخرجوا أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور يريدونه [385] وهم يومئذ ستمائة رجل، فتنادى الناس، وغلّقت أبواب المدينة، فلم يدخل أحد فخرج المنصور من القصر ماشيا ولم يكن فى القصر دابّة، فجعل بعد ذلك يرتبط فرسا يكون فى دار الخليفة معه فى قصره. ولمّا خرج المنصور أتى بدابّة فركبها وهو يريدهم. وجاء معن بن زايدة وانتهى إلى المنصور وقال: - «أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلّا رجعت فانّك تكفى.» وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب القصر وقال: - «أنا اليوم بوّاب.» ونودى فى السوق، فرموهم وقاتلوهم حتّى أثخنوهم وفتح بابا المدينة فدخل الناس وجاء خازم بن خزيمة على فرس محذوف فقال: - «يا أمير المؤمنين، أقتلهم؟» قال: «نعم.» فحمل عليهم حتّى ألجأهم إلى حائط، ثمّ كرّوا على خازم، حتّى كشفوه وأصحابه ثمّ كرّ عليهم فاضطرّوهم إلى حائط المدينة وقال للهيثم بن شعبة: - «إذا كرّوا علينا فاسبقهم إلى الحائط، وإذا رجعوا فاقتلهم.» فحملوا على خازم فاطّرد لهم وصار الهيثم بن شعبة من وراءهم فقتلوا جميعا. وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك وكلّمهم، فرموه، فرجع، فرموه بنشّابة وقعت بين كتفيه فمرض أيّاما ومات. وأبلى يومئذ برزين [1] بن المصمغان ملك [386] دنباوند. وكان خالف أخاه   [1] . فى آ: برزين الجمعان وهو تصحيف. فى الطبري (10: 130) : أبرويز المصغان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وقدم على أبى جعفر، فأكرمه وأجرى عليه رزقا، فلمّا كان يومئذ أتى المنصور فكفّر له ثمّ قال: - «أقاتل هولاء؟» قال له: «نعم.» فقاتلهم. فكان إذا ضرب رجلا فصرعه تأخّر عنه، فلمّا قتلوا وصلّى المنصور دعا بالعشاء وقال: - «اطلبوا معن بن زايدة.» وأمسك عن الطعام حتّى جاء معن، فقال لقثم: - «تحوّل إلى هذا الموضع.» وأجلس معنا مكان قثم.» فلمّا فرغوا من العشاء قال لعيسى بن علىّ: - «يا با العبّاس، أسمعت بأسد الرجال؟» قال: «نعم.» قال: «لو رأيت معنا علمت أنّه من تلك الآساد.» قال معن: «والله يا أمير المؤمنين، لقد أتيتك وإنّى لوجل القلب، فلمّا رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدّة الإقدام عليهم، ورأيت أمرا لم أره من خلق فى حرب، شدّ ذلك من قلبي وحملني على ما رأيت منّى.» قال الفضل بن الربيع: حدّثنى أبى قال: سمعت المنصور يقول: المنصور يتحدّث عن ثلاث خطيئات- «أخطأت ثلاثة خطيئات وقى الله شرّها: قتلت أبا مسلم وأنا فى خرق ومن حولي يقدّم طاعته على طاعتي ويؤثرها، ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعا، وخرجت يوم الرونديّة، ولو أصابنى سهم غرب لذهبت ضياعا، و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 خرجت إلى الشام ولو اختلف سيفان [387] بالعراق ذهبت الخلاقة ضياعا.» وفى هذه السنة خلع عبد الجبّار بن عبد الرحمن عامل أبى جعفر على خراسان. ذكر الخبر عن خلع عبد الجبّار وما آل إليه أمره بلغ المنصور أنّ عبد الجبّار يقتل رؤساء أهل خراسان وكاتبه بعض قوّاده بكتاب فيه: قد نغل الأديم [1] . فقال لكاتبه أبى أيّوب الخورىّ: - «إنّ عبد الجبّار قد أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلّا وهو يريد أن يخلع.» فقال له: - «ما أيسر حيلته؟ اكتب إليه: إنّك تريد غزو الروم فيوجّه إليك الجنود من خراسان وعليهم فرسانهم ووجوههم، فإذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فليس به امتناع.» فكتب إليه بذلك، فأجابه: - «إنّ الترك قد جاشت، وإن فرّقت الجنود ذهبت خراسان.» فألقى الكتاب إلى أبى أيوّب وقال له: - «ما ترى؟» قال: - «قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: أنّ خراسان أهمّ إلىّ من غيرها، وأنا موجّه إليك الجنود من قبلي. ثمّ وجّه إليه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن همّ بخلع، أخذوا بعنقه.» فلمّا ورد على عبد الجبّار هذا الكتاب، كتب إليه: - «إن خراسان [388] لم تكن قطّ أسوأ حالا منها فى هذا العام، وإن دخلها   [1] . قد نغل الاديمة: انظر الطبري (10: 134) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر.» فلمّا أتاه الكتاب ألقاه إلى أبى أيّوب فقال له: - «قد أبدى صفحته، وقد خلع، فلا تناظره.» فوجّه إليه محمّدا ابنه وقدّم لحربه خازم بن خزيمة، ثمّ شخص محمّد المهدىّ، فنزل نيسابور وتوجّه خزيمة بن خازم إلى عبد الجبّار، وبلغ ذلك أهل مرو الروذ فقاتلوه وجاهدوا فيه حتّى هرب وتوارى. ثمّ طلبوه حتّى أخذوه أسيرا. فلمّا قدم خازم أتاه [به] [1] فألبسه خازم مدرعة صوف وحمله على بعير وجعل وجهه من قبل عجز البعير حتّى انتهى به إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب حتّى استخرج منه ما قدر عليه من الأموال. ثمّ أمر المسيّب بقطع يدي عبد الجبّار ورجليه وضرب عنقه، ففعل المسيّب وأمر المنصور بتسيير ولده إلى دهلك وهي جزيرة بناحية اليمن. فتح طبرستان ولمّا وجّه المنصور محمّدا المهدىّ إلى قتال عبد الجبّار بن عبد الرحمن، فكفى المهدىّ أمر عبد الجبّار بمن حاربه كره المنصور أن تبطل نفقاته التي أنفقت على المهدىّ [389] وجنوده. فكتب إليه: أن يغزو طبرستان وينزل الرىّ ويوجّه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الإصبهبذ، والإصبهبذ كان يومئذ محاربا للمصمغان ملك دنباوند معسكرا بإزاءه. فبلغه أنّ الجنود دخلت بلاده وأنّ أبا الخصيب دخل سارية، فساء المصمغان ذلك، وقال للإصبهبذ: - «متى صاروا إليك، صاروا إلىّ.»   [1] . به: الزيادة من الطبري (10: 135) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 فأجمعا على محاربة المسلمين. وانصرف الإصبهبذ إلى بلاده. فحارب المسلمين وطالت الحروب. فأشار برزين [1] أخو المصمغان على المنصور بتوجيه عمر بن العلاء، وكان برزين قد عرف عمر أيّام رستقباذ [2] وأيّام الرونديّة وقال: - «يا أمير المؤمنين، إنّ عمر أعلم الناس ببلاد طبرستان فوجّهه.» وعمر بن العلاء هو الذي يقول فيه بشّار: فقل للخليفة إن جئته ... نصيحا ولا خير فى المتّهم إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم فتى لا ينام على دمنة ... ولا يشرب الماء إلّا بدم فوجّهه المنصور وضمّ إليه خزيمة بن خازم [3] فدخل الرويان وفتحها وأخذ [390] قلعة الطاق وما فيها. وطالت الحرب وألحّ خزيمة على القتال، ففتح طبرستان وقتل منهم فأكثر. وصار الإصبهبذ إلى قلعته وطلب الأمان على أن يسلّم القلعة بما فيها من ذخائره. فكتب بذلك المهدىّ إلى أبى جعفر، فوجّه أبو جعفر بصالح صاحب المصلّى وعدّة معه، فأحصوا ما فى الحصن ثمّ انصرفوا. وبدا للإصبهبذ، فدخل بلاد جيلان من الديلم، فمات بها، وأخذت ابنته، فهي أمّ إبراهيم بن العبّاس بن محمّد، وصمدت الجيوش للمصمغان، فظفروا به وبالبحتريّة أمّ منصور بن   [1] . فى الطبري (1: 136) : فى الطبري: أبر. [2] . فى الطبري: (10: 137) : سنباذ، بدل رستقباذ. فى حواشيه: رستقباذ. [3] . كذا فى الأصل ومط وآ: خزيم بن خازم. فى الطبري (10: 137) : خازم بن خزيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 المهدىّ وبصمير [1] أمّ علىّ بن ريطة بنت المصمغان فهذا فتح طبرستان الأوّل. ثمّ دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة وفيها نقض إصبهبذ طبرستان، العهد بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده من المسلمين فبلغ ذلك المنصور، فوجّه خازم بن خزيمة وروح بن حاتم، وأبا الخصيب مولى أبى جعفر فقاتلوهم حتّى طال عليهم. فاحتال أبو الخصيب فى ذلك وقال لأصحابه: - «اضربونى واحلقوا رأسى ولحيتي.» ففعلوا ذلك به، ولحق بالإصبهبذ صاحب [391] الحصن وقال: - «إنّه ركب منّى ما ترى بتهمة ألحقوها بى وظنّوا أنّ هواى معك.» وأخبره أنّه اليوم معه وأنّه يدلّه على عورة العسكر. فقبل منه الإصبهبذ ذلك وجعله فى خاصّته وألطفه ووكّل به من يتعرّف أخباره فصبر، ولم يزل يظهر طاعته ونصيحته حتّى وثق به وتمكّن ممّا أراد. فراسل أصحابه بل كاتبهم فى نشّابة وواعدهم أن يفتح لهم الباب يوما بعينه. ففعل، فدخلوا وقتلوا من فيها وسبوا الذرارىّ وظفروا ببيت الإصبهبذ وبشكلة [2] أمّ إبراهيم بن المهدىّ وهي بنت كاتب المصمغان، ومصّ الإصبهبذ خاتما له فيه سمّ، فقتل نفسه. ودخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة ولم يجر فيها ما تستفاد منه تجربة.   [1] . فى الأصل: صمير: فى مط: قمصير. وما فى آ: مهمل. فى الطبري (10: 137) : صمر. [2] . الضبط من الطبري (10: 140) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 ودخلت سنة أربع وأربعين ومائة محمد وإبراهيم يهمّان المنصور وفيها أهمّ أبا جعفر المنصور أمر محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام. وكانا قد تخلّفا عنه عام حجّ فى حياة أخيه ولم يحضرا مع من حضر من بنى هاشم. وكان يقال: إنّ أبا جعفر كان بايع محمّد بن عبد الله ليلة تشاور بنو هاشم [392] بمكّة فيمن يعقدون له الخلافة وذلك حين اضطرب أمر بنى مروان. فلمّا كان بعد ذلك، واستخلف أبو جعفر لم تكن له همّة إلّا طلب محمّد، والمسألة عنه وعن أخيه فسأل عنهما بنى هاشم رجلا رجلا يخليهم، فيسألهم، فيقولون: - «يا أمير المؤمنين، قد علم أنّك عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم. فهو يخافك على نفسه وهو لا يريد لك خلافا ولا يحبّ لك معصية وما أشبه هذا من الكلام، إلّا حسن بن زيد فإنّه أخبره خبره وقال: والله ما آمن وثوبه عليك، فإنّه ممّن لا يغفل عنك، فر رأيك.» فأيقظ من لا ينام، وأخذ فى تتبّعه، ودعا بزياد بن عبيد الله وكان خليفة محمّد بن خالد القسرىّ على المدينة، فبحث عن أمر محمّد، وسأل عنه وعن أخيه فقال زياد: - «ما يهمّك من أمرهما، أنا آتيك بهما.» فرّده وضمّنه محمّد بن إبراهيم. وكان يحيى بن خالد بن برمك يقول: اشترى أبو جعفر رقيقا من رقيق الأعراب، ثمّ أعطى الرجل البعير والبعيرين، وربّما أعطى الرجل الذود وفرّقهم فى طلب محمّد فى ظهر المدينة، فكان الرجل منهم يرد الماء كالمارّ وكالضالّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وينقّرون [1] عنه ويتحسسون. [393] وممّا احتال به أبو جعفر حتّى وقف على أخبارهم كان عمر بن حفص أوفد وفدا من السند منهم عقبة بن سلم، فدخلوا على أبى جعفر، فلمّا قضوا حوائجهم فأرادوا النهوض ونهضوا، استردّ عقبة، فأجلسه ثمّ قال: - «من أنت؟» قال: «رجل من جند أمير المؤمنين وخدمه، صحبت عمر بن حفص.» قال: «ما اسمك؟» قال: «عقبة بن سلم بن نافع.» قال: «ممّن أنت؟» قال: «من الأزد، من بنى هناة [2] .» قال: «إنّى لأرى لك هيئة وموضعا وإنّى لأريدك لأمر أنا به معنىّ لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكونه إن كفيتنيه رفعتك.» فقال: «أرجو أن أصدّق ظنّ أمير المؤمنين فىّ.» قال: «فأخف شخصك واستر أمرك، وأتنى فى يوم كذا وكذا، فى وقت كذا وكذا.» فأتاه فى ذلك الوقت، فقال له: - «إنّ بنى عمّنا هولاء قد أبوا إلّا كيدا لملكنا واغتيالا له، ولهم شيعة   [1] . فى آ: فينقرون عنه ويتجسسون. فى مط: فينفرون. فى الطبري (10: 145) فيفرّون عنه وو يتجسسون. وما فى الأصل بالحاء المهملة. [2] . فى الأصل وآ: هناة (من دون مدّ) فى الطبري (10: 146) : هناءة (: هنآة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم، ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف بلادهم، فاخرج بكتبي [1] مع ألطاف وعين حتّى تأتيهم متنكّرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثمّ تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم [394] فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر فاشخص حتّى تلقى عبد الله بن حسن متقشّفا فإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده، فإن عاد فاصبر حتّى يأنس بك ويلين لك ناحيته فإذا ظهر لك ما قبله [2] فأعجل علىّ.» فشخص. حتّى قدم على عبد الله بن حسن فلقيه بالكتاب فأنكره ونهره وقال: - «ما أعرف هولاء القوم.» فلم ينصرف ويعود إليه حتّى قبل كتابه [3] وألطافه وأنس به، فسأله عقبة الجواب، فقال: - «أمّا الكتاب، فإنّى لا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أنّ ابنيّ خارجان لوقت كذا وكذا.» قال: فشخص عقبة حتّى قدم على أبى جعفر فأخبره الخبر وبأشياء كان ينتظرها منه. فقال له أبو جعفر: - «إنّى أريد الحجّ فإذا صرت بمكان كذا وكذا لقيني بنو حسن فيهم عبد الله فأنا مبجّله ورافع [4] مجلسه وداع بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا، فلحظتك فامثل بين يديه، فإنّه سيصرف بصره عنك، فدر حتّى تغمز ظهره بإبهام رجلك   [1] . بكتبي: كذا فى الأصل وآ. ومط. فى الطبري (10: 146) : بكسى. [2] . فى الطبري (1: 146) : ما فى قلبه. [3] . كذا فى الطبري (10: 146) أيضا: كتابه. [4] . فى الأصل: وأرفع. فى آ: ورافع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 حتّى تملأ عينه منك ثمّ حسبك وإيّاك أن يراك ما دام يأكل.» فخرج حتّى إذا ترفّع فى البلاد لقيه بنو حسن فأجلس عبد الله [395] إلى جانبه ثمّ دعا بالغداء فأصابوا منه ثمّ أمر به فرفع فأقبل على عبد الله فقال: - «يا با محمّد قد علمت ما أعطيتنى من العقود والمواثيق ألّا تبغيني سوءا ولا تكيد لى سلطانا.» قال: «فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين.» قال: فلحظ أبو جعفر عقبة، فاستدار حتّى قام بين يدي عبد الله فأعرض عنه، ثمّ استدار حتّى قام من وراء ظهره، فغمزه بإصبعه فرفع رأسه فملأ عينه منه، ثمّ وثب حتّى جثا بين يدي أبى جعفر فقال: - «أقلنى يا أمير المؤمنين أقالك الله.» قال: «لا أقالنى الله إن أقلتك.» وأمر بحبسه. فحكى أبو حنين قال: دخلت على عبد الله بن حسن وهو محبوس، فقال: - «هل حدث اليوم خبر؟» قلت: - «نعم، قد أمر ببيع متاعك ورقيقك، ولا أرى أحدا يقدم على شرائه.» فقال: «ويحك يا با حنين، والله لو خرج بى وببناتى مسترقّين لاشترينا.» فشخص أبو جعفر، وبقي عبد الله بن الحسن فى الحبس ثلاث سنين. وكان أخوه محمّد وأصحابه أجمعوا على اغتيال أبى جعفر فى سنة أربعين لمّا حجّ، وقال لهم الأشتر عبد الله بن محمّد بن عبد الله: - «أنّا أكفيكموه.» فقال: محمّد: «لا والله لا أقتله أبدا غيلة حتّى أدعوه.» فنقض أمرهم ذلك، [396] وما كانوا أجمعوا عليه. وكان دخل معهم قائد من قوّاد أبى جعفر من أهل خراسان، فنمّ بهم إسماعيل بن جعفر بن محمّد الأعرج، فأرسل المنصور فى طلب القائد فلم يظفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 به وأفلت مع غلام له بمال فأتى محمّدا به فقسّمه بين أصحابه. وكان السبب فى ذلك أنّ أبا جعفر أنفذ عينا له وكتب معه كتبا على ألسن الشيعة بعلامات لهم وقف عليها يذكرون موالاتهم وحسن طاعتهم ومعه مال، فقدم الرجل المدينة، فدخل على عبد الله بن حسن بن حسن فسأله عن محمّد وأعطاه العلامات، فذكر له أنّه فى جبل جهينة وقال: - «امرر فى طريقك بعلىّ بن الحسن، الرجل الصالح الذي يدعى الأغرّ، فإنّه يرشدك.» فأتاه فأرشده. وكان لأبى جعفر كاتب على سرّه، وكان متشّيعا، فكتب إلى عبد الله بن الحسن بأمر ذلك العين وما بعث له. فقدم الكتاب على عبد الله بن الحسن، فارتاع وبعث أبا هيّار [1] إلى علىّ بن الحسن وإلى محمّد يحذّرهما الرجل، فخرج أبو هيّار حتّى نزل بعلىّ بن الحسن، فسأله عن الرجل فأخبره: أن قد أرشده. قال أبو هيّار: فجئت محمّدا فى موضعه [397] الذي هو به فإذا هو جالس فى كهف معه قوم، والرجل معهم أعلاهم صوتا وأشدّهم انبساطا، فلمّا رآني ظهر عليه بعض التكرّه، وجلست مع القوم، فتحدّثت مليّا، ثمّ أصغيت إلى محمّد فقلت: - «إنّ لى حاجة.» فنهض، ونهضت معه، فأخبرته خبر الرجل. فاسترجع وقال: - «فما الرأى؟»   [1] . فى الطبري (10: 157) : هبار (بالباء الموحدة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 فقلت: «إحدى ثلاث أيّها شئت فافعل.» قال: «وما هي؟» قلت: «تدعني حتّى أقتل الرجل.» قال: «سبحان الله، ما أقرب دما إلّا وأنا مكره، أو ماذا؟» قلت: «توقّره حديدا أو تنقله حيث انتقلت.» قال: «وهل بنا فراغ له مع الخوف والإعجال؟ أو ماذا؟» قلت: «تشدّه وتضعه عند بعض أهل ثقتك من جهينة.» قال: «هذا إذا.» فرجعنا وقد نذر الرجل، فهرب فقلت: - «فأين الرجل؟» قالوا: «قام بركوة فاصطبّ ماء، ثمّ توارى بهذا الظرب [1] يتوضّأ.» قال: فجلنا فى الجبل وما حوله، فكأنّ الأرض التأمت عليه. وكان سعى على قدميه حتّى شرع على الطريق، فمّر به أعراب معهم حمول إلى المدينة، فقال لبعضهم: - «فرّغ هذه الغرارة فأدخلنيها أكن عدلا لصاحبها ولك كذا وكذا.» قال: «نعم.» ففرّغها، وحمله إلى المدينة. ثمّ قدم [398] على أبى جعفر فأخبره الخبر كلّه وعمى عن اسم أبى هيّار وكنيته وعلّق وبرا. فكتب أبو جعفر فى طلب وبر المزني فحمل إليه رجل يدعى وبرا فسأله عن قصّة محمّد وما حكى عنه العين، فحلف أنّه ما يعرف من ذلك شيئا فأمر به، فضرب سبعمائة سوط وحبس حتّى مات.   [1] . كذا فى الطبري (10: 157) . فى آ: الطرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 من غريب الحكايات فمن الحكايات الغريبة فى ذلك الوقت أنّ المنصور كان عنده قوم يتكهّنون فيخبرونه بموضع محمّد. فكتب بعض أصحاب محمّد ممّن كان يتشيّع ويصحب أبا جعفر: - «لا تقيمنّ فى موضعك إلّا قدر ما يسير إليك البريد من العراق. فكان يقال لأبى جعفر: نرى محمّدا ببلاد فيها الأترج والأعناب. فيكون بالمدينة وينتقل، ثمّ يرونه بالبيضاء وهي من وراء الغابة على عشرين ميلا وهي لأشجع، فيكتب إليها، فيقال له: قد خرج. ثمّ يقال له: إنّه ببلاد الجبال والقلات [1] ، فيطلبه فيقال: خرج، ثمّ يقال له: هو ببلاد الحبّ والقطران، فيقول: هذه بلاد رضوى، فيطلبه ولا يجده. وكان الناس يقولون: عند أبى جعفر مرآة ينظر فيها فيعلم الغيب منها، ويكثرون من الأحاديث، [399] ولا يشكّون فى أنّ أبا جعفر يطّلع الغيب ويعلمون لذلك خرافات مختلفه من أخبار الجنّ والمرآة التي ذكرتها. ولمّا طلب محمّد فى شعاب رضوى من جبل جهينة بخيل ورجال، فزع محمّد وكان هناك، فأحضر شدّا فأفلت. وكان له ابن صغير ولد فى خوفه ذلك وكان مع جارية له فهوى من الجبل فتقطّع. فقال محمّد: منخرق السربال يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد قد كان فى الموت له راحة ... والموت حتم فى رقاب العباد وقال محمّد: لمّا ظهر، بينا أنّا بالحرّة مصعدا ومنحدرا، إذا أنا بخيل أبى   [1] . جمع قلت، وهو النقرة تكون فى الجبل يستنقع فيه الماء. (مراصد الإطلاع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 جعفر ورجاله وعليهم رياح بن عثمان يطلبني فعدلت إلى بئر فوقفت بين قرنيها أستقى، فلقيني رياح صفحا فقال: - «قاتله الله أعرابيا، ما أحسن ذراعه.» وحكى بعضى أصحاب محمّد قال: غدوت يوما مع محمّد وعليه قميص غليظ ورداء قرقبي مفتول، فخرجنا من موضع كان فيه، وذكره، حتّى إذا كان قريبا التفت فإذا رياح فى جماعة أصحابه ركبان فقلت: - «إِنَّا لِلَّهِ [400] وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156. هذا رياح.» فقال غير مكترث: - «امضه.» فمضيت وما تقلّنى رجلاي، وتنحّى هو عن الطريق، فجلس وجعل ظهره ممّا يلي الطريق وسدل هدب رداءه على وجهه وكان جسيما، فلمّا حاذاه رياح قال لأصحابه: - «امرأة رأتنا فاستحيت.» فأعرض ومضى. أخذ جماعة بنى حسن بن حسن ولمّا أعيا المنصور محمّد وإبراهيم تقدّم بأخذ جماعة بنى حسن بن حسن فأخذ رياح، وكان والى المدينة، حسن بن حسن بن حسن [1] ، وإبراهيم أخاه، وحسن بن جعفر بن حسن، وسليمان بن عبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، وعبّاس بن حسن بن حسن بن حسن، وكان صغيرا، فقالت أمّه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر:   [1] . انظر الطبري (10: 170- 169) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 - «دعوني أشمّه.» وكان أخذ من باب داره. قالوا: - «لا والله ما كنت حيّة.» وحبس معهم موسى بن عبد الله وعلىّ بن محمّد بن عبد الله، وحملوا إلى أبى جعفر، وكان محمّد أتى أمّه هند وقال: - «إنّى قد حملّت أبى وعمومتي ما لا طاقة لهم به، وقد هممت أن أضع يدىّ فى أيديهم، فعسى أن يخلّى عنهم.» فتنكّرت ولبست أطمارا، ثمّ جاءت السجن، فعرفها بعضهم فقام إليها فأخبرته عن محمّد فقالوا: - «كلّا بل نصبر فإنّا نرجو أن يفتح الله له خيرا، قولي له ليدع إلى أمره، وليجدّ فيه فإنّ فرجنا بيد الله.» فانصرفت وتمّ محمّد على بغيته. وكان [401] محمّد وإبراهيم يراسلان أباهما ويستأذنانه فى الخروج فيقول: - «لا تعجلا إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلن يمنعكما أن تموتا كريمين.» رأس محمد بن عبد الله يبعث إلى خراسان ووردت على المنصور كتب عمّاله بخراسان أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا عنّا وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله فأمر أبو جعفر بمحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فضربت عنقه، وبعث برأسه إلى خراسان، وحلف أنّه رأس محمّد بن عبد الله. وكان المنصور قد ضربه بالسوط قبل ذلك وعذّبه. وكان جميلا وضيئا، فأمر المنصور أن يدخل عليه حين قدم به، وكان عليه قميص و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 إزار وثوب رقيق تحت قميصه، فلمّا وقف قال: - «إيّها يا ديّوث!» قال محمّد: «سبحان الله، والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرا وكبيرا.» قال: «فمّمن حملت ابنتك وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وقد أعطيتنى الأيمان بالطلاق والعتاق ألّا تغشّنى ولا تمالئ علىّ عدوّى ثمّ أنت تدخل على ابنتك مختضبة متعطّرة ثمّ تراها حاملا يعجبك حملها، فأنت بين أن تكون حانثا أو ديّوثا، وأيم الله إنّى لأهمّ برجمها.» فقال محمّد: - «أمّا أيمانى فهي علىّ إن كنت دخلت لك فى أمر غشّ علمته. وأمّا ما رميت به هذه الجارية فإنّ الله قد أكرمها عن ذلك بولادة [402] رسول الله صلّى الله عليه إيّاها، ولكنّى قد ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين غفلة منّا.» فأحفظ المنصور كلامه وأمر بشقّ ثيابه فشقّ قميصه عن إزاره فأشفّ عن عورته ثمّ أمر به فضرب خمسين ومائة سوط فبلغت منه كلّ مبلغ وأبو جعفر يفترى عليه ولا يكنى فأصاب سوط منها وجهه فقال: - «ويحك، اكفف عن وجهى فإنّ له حرمة برسول الله صلّى الله عليه.» قال: فأغرى أبو جعفر بأن يقول للجلّاد: - «الرأس، الرأس.» فضرب على رأسه نحو من ثلاثين فكان السوط ينثني فيصيب وجهه فأصاب بعضها إحدى عينيه فندرت ثمّ أخرج فى ساجور [1] شدّ فى عنقه وقيود فى رجليه حتّى ردّ إلى أصحابه.   [1] . فى الطبري (10: 176) : فى ساجور من خشب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 وكان أوّل ما حصل فى قلب أبى جعفر منه أنّ رياحا قال له يوما: - «يا أمير المؤمنين، أمّا أهل خراسان فشيعتك وأنصارك وأمّا أهل العراق فشيعة آل أبى طالب، وأمّا أهل الشام فو الله ما علىّ عندهم إلّا كافر وما يعتّدون بأحد من ولده ولكن أخاهم محمّد بن عبد الله بن عمرو لو دعا أهل الشام ما تخلّف عنه منهم أحد.» فوقعت فى نفس أبى جعفر إلى أن حجّ، فكان من أمره ما كان. بنى على الديباج وهو حى ّ وكان [403] محمّد بن إبراهيم بن حسن بن حسن يقال له الديباج. فلمّا أدخل على أبى جعفر، نظر إليه وقال: - «أنت الديباج؟» قال: «نعم.» قال: «أما والله لأقتلنّك قتلة ما قتلها أحد من أهل بيتك.» ثمّ أمر باسطوانة مبنيّة فعرقبت وأمر حتّى أدخل فيها ثمّ بنى عليه وهو حىّ. وكان محمّد هذا ممّن يختلف إليه الناس ينظرون إلى حسنه. ثمّ إنّ أبا جعفر المنصور كان يسقى واحدا بعد واحد فماتوا جميعا إلّا ثلاثة نفر: فأمّا عبد الله بن حسن فاختلف فيه فقال قوم قتل وقال آخرون بل دسّ إليه المنصور من أخبره أنّ محمّدا ابنه قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه فمات. ودخلت سنة خمس وأربعين ومائة ظهور محمد بن عبد الله من المذار وفيها ظهر محمّد بن عبد الله من المذار فى مائتين وخمسين رجلا، وجاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 حتّى استبطن السوق وأتى السجن فدقّه وأخرج من كان فيه. وقيل إنّ عبيد الله بن عمر، وابن أبى ذيب وعبد الحميد بن جعفر دخلوا على محمّد قبل خروجه وقالوا: - «ما تنظر بالخروج، والله ما نجد فى هذه الأمّة أشأم [1] عليها [404] منك، ما يمنعك أن تخرج وحدك.» فلمّا خرج أقبل إلى الدار فامتنعت عليه فجعل يقول لأصحابه: - «لا تقتلوا واقصدوا [2] باب المقصورة.» فأتوها وحرّقوا الباب، فلم يستطع أحد أن يجتاز فوضع رزام مولى القسرىّ ترسه على النار، ثمّ تخطّى عليه، فصنع الناس ما صنع، ودخلوا فأفلت قوم وأخذ قوم وتعلّق رياح فى مشرفة [3] فى دار مروان وأمر بدرجها فهدمت فصعدوا إليه فأنزلوه وحبسوه فى دار مروان مع أخيه عبّاس بن عثمان. وكان محمّد بن خالد القسريّ وابن أخيه النذير بن يزيد ورزام فى الحبس فأخرجهم محمّد وأمر النذير بالاستيثاق من رياح وأصحابه فقال رزام للنذير: - «دعني وإيّاه فقد رأيت عذابه له.» قال: «شأنك به.» وقام ليخرج، فتعلّق بثوبه رياح وضرع إليه وقال له: - «يا با قيس، قد كنت أفعل بكم ما أفعل وأنا بسؤددكم عالم.» فقال له النذير: - «فعلت ما كنت أهله، ونفعل ما نحن أهله.» وخرج فتناوله رزام فلم يزل [405] رياح يطلب إليه حتّى كفّ وقال:   [1] . فى مط: أشار، بدل «أشأم» . [2] . فى مط: لا تقصدوا واطلبوا. [3] . فى آ: مشرفة. فى الطبري (10: 196) : مشربة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 - «والله إن كنت لبطرا عند القدرة لئيما عند البليّة.» ولمّا صعد محمّد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: - «أمّا بعد، أيها الناس، فإنّه كان من أمر هذه الطاغية عدوّ الله أبى جعفر ما لم يخف عليكم من بنائه القبّة الخضراء التي بناها معاندة لله فى ملكه وتصغيرا لكعبة الله الحرام، وإنّ أحقّ الناس بالقيام فى هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين. - «اللهم إنّهم قد أحلّوا حرامك وحرّموا حلالك وآمنوا من أخفت وأخافوا من آمنت. - «اللهم فأحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا. - «أيّها الناس، إنّى والله ما خرجت بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوّة ولا شدّة، ولكنّى اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه وفى الأرض مصر يعبد الله فيه إلّا وقد أخذ لى [1] .» ونزل ثمّ استعمل على المدينة عثمان بن محمّد بن خالد بن الزبير وعلى قضاءها عبد العزيز بن المطلّب المخزومي [406] وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة وعلى الشرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب. وأرسل محمّد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، وكان قد بلغ عمرا طويلا، فدعاه إلى البيعة له، فقال: - «يا بن أخى، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك؟» فارتدع الناس قليلا.   [1] . زاد فى الطبري (10: 197) : فيه البيعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 وحكى عن محمد بن خالد القسرىّ، قال: - «لمّا ظهر محمّد وأنا محبوس أطلقنى، ولمّا سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر قلت: هذه دعوة حقّ والله لأبلينّ فيها بلاء حسنا. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّك قد خرجت بهذا البلد وو الله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعا وعطشا فانهض معى فإنّما هي عشر حتّى أضربه بمائة ألف سيف.» فأبى علىّ. فإنّى لعنده يوما إذ قال: - «ما وجدنا من حرّ المتاع أجود من شيء وجدناه عند ابن أبى فروة ختن أبى الخصيب وكان انتهبه.» قال: فقلت فى نفسي: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع؟ فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلّة من معه، فعطف علىّ فحبسني حتّى أطلقنى عيسى بن موسى بعد قتله إيّاه. وكان محمّد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيما عظيما، وكان يلقّب القاري [407] من أدمته حتّى كان يسميه أبو جعفر محمما. وقال إبراهيم بن زياد بن عنبسة: كان محمّد عظيم الخلق ما رأيته رقا المنبر قطّ إلّا سمعت تقعقعه من تحته وإنّى لبمكانى ذلك. وتحدّث جماعة حضروه: أنّ محمّدا خطب يوما فاعترض فى حلقه بلغم. فتنحنح، فذهب ثمّ عاد فتنحنح فذهب، ثمّ عاد فتنحنح، ونظر فلم ير موضعا فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به. ولمّا خرج محمّد جزع أبو جعفر وأشفق منه فجعل الحارثىّ المنجم يقول له: - «يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه؟ فو الله لو ملك الأرض ما لبث إلّا تسعين يوما.» ولمّا ظهر محمّد وإبراهيم ابنا عبد الله أرسل أبو جعفر إلى عمّه عبد الله بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 علىّ وهو محبوس، وقال: إنّه لذو رأى، فاستشاره. وقال: - «إنّ هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأى فأشربه.» فقال: - «إنّ المحبوس محبوس الرأى، فأخرجنى يخرج رأيى.» فأرسل إليه أبو جعفر: - «لو جاءني حتّى يضرب بابى ما أخرجتك، فأنا خير لك منه وهو ملك أهل بيتك.» فأرسل إليه عبد الله: - «ارتحل الساعة حتّى تأتى الكوفة فاجثم على أكبادهم [408] فإنّهم شيعة هذا البيت وأنصارهم. ثمّ احففها بالمسالح فمن خرج منها أو أتاها فاضرب عنقه، ثمّ ابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر عليك- وكان بالرّى- واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يوجّهوا إليك أهل البأس والنجدة ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجّههم مع سلم.» ثمّ قال لرسل أبى جعفر وهم أخوته: - «ويحكم إنّ البخل قد قتله فمروه فليخرج الأموال وليعط الأجناد فإن غلب فما أوشك ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم.» رسائل بين محمد بن عبد الله وأبى جعفر وتحدّث محمّد بن يحيى قال: نسخت هذه الرسائل من محمّد بن بشير، وكان يصححها، وحدّثنيها غير واحد من كتّاب العراق، وكانوا يصححونها. قالوا: وردت رسالة لمحمّد على أبى جعفر، فقال أبو أيّوب الخوزىّ كاتبه: - «دعني أجبه عنها.» فقال: «لا، إذا تقارعنا على الأحساب فدعني وإيّاه.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 وكتب إليه: [1] بسم الله الرحمن الرحيم رسالة أبى جعفر المنصور إلى محمد بن عبد الله «من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمّد بن عبد الله. إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ [409] فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ. [2] 5: 33- 34- «ولك علىّ الله وعهده وميثاقه وذمّته وذمة رسوله عليه السلام، إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أومنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعكم على دماءكم وأموالكم وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من فى حبسي من أهل بيتك وأن أؤمن كلّ من جاءك أو بايعك واتبعك، أو دخل فى شيء من أمرك، ثمّ لا أتبع أحدا منهم بشيء كان منه أبدا فإن أردت أن توثق لنفسك فوجّه إلىّ بمن أحببت يأخذ لك منّى الأمان والعهد والميثاق وما تثق به.»   [1] . انظر الطبري 208: 10. [2] . س 5 المائدة: 33. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 وكتب على العنوان من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمّد بن عبد الله. فكتب إليه محمّد بن عبد الله: جواب محمد بن عبد الله - «من عبد الله المهدى [410] محمّد بن عبد الله إنى عبد الله بن محمّد: طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ 28: 1- 4- إلى قوله- وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 6 [1] وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علىّ، فإنّ الحقّ حقّنا، وإنّما ادّعيتم هذا بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا، وإنّ أبانا عليّا كان الوصىّ وكان الإمام وكيف ورثتم ولايته وولده أحياء. - «ثمّ قد علمت أنّه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آباءنا. لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء وليس يمتّ أحد من بنى هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، فإنّا بنو أمّ رسول الله صلّى الله عليه فاطمة بنت عمرو فى الجاهلية وبنو ابنته فاطمة فى الإسلام دونكم. إنّ الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيّين محمّد صلّى الله عليه وسلّم أفضلهم ومن السلف أوّلهم إسلاما علىّ ومن الأزواج أفضلهن [411] خديجة الطاهرة وأوّل من صلّى القبلة ومن البنات خيرهن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ومن المولودين   [1] . س 28 القصص: 3 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 فى الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنّة وإنّ هاشما ولد عليّا مرّتين، وإنّ عبد المطلب ولد حسنا مرتين وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، فانّى أوسط بنى هاشم نسبا، وأصرحهم أبا، لم تعرق فىّ العجم، ولم تنازع فىّ أمّهات الأولاد، فما زال الله يختار لى الآباء والأمّهات فى الجاهلية والإسلام، حتّى اختار لى فى النار. فأنا ابن أرفع الناس درجة فى الجنّة، وابن أهونهم عذابا فى النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنّة وابن خير أهل النار. - «ولك الله، إن دخلت فى طاعتي وأجبت دعوتي، أن أومنك على نفسك ومالك وعلى كلّ أمر أحدثته إلّا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك من ذلك وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد لأنّك أعطيتنى من العهد [412] والأمان ما أعطيته رجالا قبلي، فأىّ الأمانات تعطيني أمان ابن هبيرة، أم أمان عمّك عبد الله بن علىّ، أم أمان أبى مسلم!» فكتب إليه أبو جعفر - «بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء لتضلّ به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبية والأولياء لأنّ الله جعل العمّ أبا وبدأ به فى كتابه على الوالدة الدنيا ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة أقربهنّ رحما وأعظمهنّ حقّا أوّل من يدخل الجنّة غدا، ولكن اختيار الله لخلقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 على علمه الماضي فيهم واصطفائه لهم. «وأمّا ما ذكرت من فاطمة أمّ [1] أبى طالب وولادتها، فإنّ الله لم يرزق أحدا من ولدها الإسلام لا ابنة ولا ابنا، ولو أنّ أحدا من ولدها رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكلّ خير فى الدنيا والآخرة، ولكنّ الأمر إلى الله [413] يختار لدينه من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ولقد بعث الله محمّدا صلّى الله عليه وله عمومة أربعة، فأنزل الله: وأنذر عشيرتك الأقربين [2] ، فدعاهم وأنذرهم، فأجاب اثنان أحدهما أبى، وأبى اثنان أحدهما أبوك فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينه وبينهما إلّا ولا ذمّة ولا ميراثا. - «وزعمت أنّك ابن خير أهل النار، وأنّك ابن خير الأشرار، وابن أخفّ أهل النار عذابا وليس فى الكفر بالله صغير ولا فى عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس فى الشرّ خيار ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار. وسترد فتعلم وسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون [3] . - «وأمّا ما فخرت به من فاطمة أمّ علىّ، فإنّ هاشما ولده مرتين ومن فاطمة أمّ حسن وأنّ عبد المطلب ولده مرتين، وأنّ النّبى صلّى الله عليه وسلّم ولدك مرتين، فخير الأوّلين والآخرين رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لم يلده هاشم إلّا مرة واحدة ولا عبد المطلب إلّا مرّة.   [1] . فى آ: بنت أبى طالب [2] . س 26 الشعراء: 214 [3] . س 26 الشعراء. آيه: 227 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 - «وزعمت أنّك أوسط [414] بنى هاشم نسبا وأصرحهم أبا وأنّه لم تلدك العجم، ولا تعرق فيك أمّهات الأولاد فقد رأيتك فخرت على بنى هاشم طرّا، فانظر ويحك أين أنت من الله غدا، فإنّك قد تعدّيت طورك وفخرت على من هو خير منك نفسا وأبا وأولا وآخرا إبراهيم بن رسول الله، صلّى الله عليه وعلى والده، وما خيار بنى أبيك خاصّة وأهل الفضل منهم إلّا بنو أمّهات الأولاد ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله، صلّى الله عليه، أفضل من علىّ بن الحسين وهو لأمّ ولد، ولهو خير من جدّك حسن بن حسن وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمّد بن علىّ وجدّته أمّ ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر، وجدّته أم ولد، ولهو خير منك. - «وأمّا قولك إنّكم بنو رسول الله، صلّى الله عليه، فإنّ الله عزّ وجلّ قال فى كتابه: ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم [1] ولكنّكم بنو ابنته وإنّها لقرابة قريبة ولكنّها لا تحوز الميراث ولا ترث الولاية ولا تجوز لها الإمامة وكيف تورث بها ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرجها جهارا ومرّضها سرّا ودفنها ليلا، فأبى الناس إلا [415] الشيخين وتفضيلهما. ولقد جاءت السنّة التي لا خلاف فيها بين المسلمين أنّ الجدّ أبا الأمّ والخال والخالة لا يرثون ولا يورثون. - «وأمّا ما فخرت به من علىّ وسابقته، فقد حضرت رسول الله، صلّى الله، عليه الوفاة فأمر غيره بالصلاة، ثمّ أخذ الناس رجلا   [1] . س 33 الأحزاب: 40 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 بعد رجل ولم يأخذوه، وكان فى الستّة، فتركوه كلّهم دفعا له عنها، ولم يروا له حقّا. - «أمّا عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهوله متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته، وأغلق دونه بابه. ثمّ بايع معاوية بعده، ثمّ طلبها بكلّ وجه فقاتل عليها وتفرّق عنه أصحابه وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة. ثمّ حكّم حكمين رضى بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه. - «ثمّ كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز، وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالا من غير ولاته ولا حلّه، فإن كان لكم فيه شيء فقد بعتموه، وأخذتم ثمنه. - «ثمّ خرج [416] عمّك حسين بن علىّ على ابن مرجانة فكان الناس معه عليه حتّى قتلوه، وأتوا برأسه. ثمّ خرجتم على بنى أميّة فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان، حتّى قتل يحيى بن زيد بخراسان، ثمّ قتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء فى المحامل، كالسبي المجلوب إلى الشام، حتّى خرجنا عليهم وطلبنا ثاركم، وأدركنا بدمائكم فأورثناكم أرضهم وديارهم، فاتخذت ذلك علينا حجّة، وظننت أنّا إنّما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له على حمزه والعبّاس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين متسلّما منهم مجتمعا عليهم بالفضل وابتلى أبوك بالقتال والحرب فكانت بنو أميّه تلعنه كما يلعن الكفرة فى الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكّرناهم فضله، وعنّفناهم، و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 ظلّمناهم فيما نالوا منه. - «ولقد علمت أنّ مكرمتنا فى الجاهليّة سقاية الحجيج الأعظم [417] وولاية بئر زمزم، فصارت للعبّاس من بين أخوته فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها فى الجاهلية والإسلام. ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسّل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلّا بأبينا حتّى نعشهم الله وسقاهم الغيث به، وأبوك حاضر لم يتوسل به. ولقد علمت أنّه لم يبق أحد من بنى عبد المطلب بعد النبىّ، صلّى الله عليه، غيره وكان وارثه من عمومته، ثمّ طلب هذا الأمر غير واحد من بنى هاشم فلم ينله إلّا ولده فالسقاية سقايته، وميراث النبىّ صلّى الله عليه، له والخلافة فى ولده فلم يبق شرف ولا فضل فى جاهليّة ولا إسلام فى دنيا ولا آخرة إلّا والعبّاس وارثه ومورثه. - «وأمّا ما ذكرت من بدر، فإنّ الإسلام جاء والعبّاس يمون آل أبى طالب وعياله وينفق عليهم للأزمة الّتى أصابته ولولا أنّ العبّاس أخرج إلى بدر كارها لمات طالب وعقيل جوعا وللحسا [1] جفان عتبة وشيبة، ولكنّه كان من المطعمين، فأذهب الله عنهم [418] العار والسبّة، وكفاكم المؤونة والنفقة. ثمّ فدى عقيلا يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم فى الكفر، وفديناكم من الأسر، وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم، وأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوه لأنفسكم، والسلام عليك ورحمة الله.»   [1] . كذا فى الطبري (214: 10) : للحسا جفان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 عيس بن موسى يندب لقتال محمد وندب أبو جعفر عيسى بن موسى لقتال محمّد وقال: - «لا أبالى أيّهما قتل صاحبه.» وضمّ إليه أربعة آلاف من الجند. وكان أبو جعفر دعا جعفر بن حنظلة البهرائى [1] وكان أبرص طوالا أعلم الناس بالحروب، وقد شهد مع مروان حروبه. فقال له: - «يا جعفر، قد ظهر محمّد فما عندك؟» قال: «وأين ظهر؟» قال: «بالمدينة.» قال: «فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع. ابعث مولى لك تثق به حتّى ينزل بوادي القرى فيمنعه ميرة الشام فيموت مكانه جوعا.» ففعل ولمّا دنا عيسى بن موسى حفر محمد خندق النبىّ، صلّى الله عليه، الذي كان حفره للأحزاب، وركب إليه وعليه قباء أبيض ومنطقة [419] وركب معه الناس، فلمّا أتى الموضع نزل فيه، فبدأ هو فحفر بيده فأخرج لبنة من خندق رسول الله، صلّى الله عليه، فكبّر وكبّر الناس معه وقالوا: - «أبشروا بالنصر، هذا خندق جدك رسول الله صلّى الله عليه.» ويقال: إنّه اجتمع مع محمّد جمع لم ير أكثر منه، حتّى قال عثمان بن محمّد الزبيري: - «إنّى لأحسبنا كنّا مائة ألف.» فلمّا قرب عيسى خطبنا فقال:   [1] . كذا فى الأصل: البهرائى. فى الطبري (10: 223) وآ: الطبراني، ومهمل ما فى مط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 - «أيّها الناس، إنّ هذا الرجل قد قرب منكم فى عدد وعدّة، وقد حللتكم من بيعتي، فمن أحبّ المقام فليقم ومن أحبّ الانصراف فلينصرف.» فتسلّلوا حتّى بقي فى شرذمة ليست بالكثيرة. وحكى أنّ محمدا دعا الغاضرىّ فقال له: - «أنا أعطيك سلاحا فهل تقاتل معى به؟» قال: «نعم، إن أعطيتنى [1] رمحا أطعنهم به وهم بالأعوص.» قال الغاضري: ثمّ قال لى: - «ما تنتظر؟» قلت: «ما أهون عليك، أبقاك الله، أن أقتل ويمروّا بى فيقال والله كان لبادنا.» قال: «ويحك، قد بيّض أهل الشام وأهل العراق وأهل خراسان.» قلت: «اجعل الدنيا زبدة وأنا فى مثل صوفة الدواة ما ينفعني، [420] هذا عيسى بن موسى بالأعوص.» وكان وجّه أبو جعفر مع عيسى بن موسى بابن الأصمّ ينزّله المنازل، فلمّا قدموا نزلوا على ميل من مسجد رسول الله، صلّى الله عليه، فقال ابن الأصمّ: - «إنّ الخيل لا عمل لها مع الرجّالة، وإنّى أخاف إن كشفوكم أن يدخلوا عسكركم.» فرفعهم إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف وهي على أربعة أميال من المدينة وقال: - «لا يهرول الرجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتّى تأخذه الخيل.» فتحدّث محمّد بن أبى الكرام بن عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن جعفر قال: أرسلنى عيسى لمّا قرب من المدينة بأمانه إلى محمّد. فقال محمّد:   [1] . فى مط: أطعنى، بدل «أعطيتنى» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 - «علام تقاتلوننى وتستحلّون دمى؟ وإنّما أنا رجل فرّ من أن يقتل.» قال: فقلت: - «القوم يدعونكم إلى الأمان، فإن أبيت إلّا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آباءك علىّ طلحة والزبير على نكث بيعتهم وكيد ملكهم والسعى عليهم.» فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لى: - «بعد والله ما سرّنى أنّك قلت له غير ذلك وأنّ لى ملك كذا.» وبقي عيسى ثلاثة أيّام [421] يبرز بنفسه ويدعو أهل المدينة إلى الأمان ويقول: - «نحن إخوانكم مسلمون فلا تهريقوا بيننا الدماء، ادخلوا فى الأمان واخرجوا من المدينة وأنتم آمنون، وخلّوا بيننا وبين صاحبنا.» فيشتمونه الشتيمة القبيحة حتّى حارب اليوم الثالث. فلقى أبو القلمّس محمّد بن عثمان أخا أسد بن المرزبان بسوق الحطّابين، فاجتلدا بسيفيهما حتّى تقطّعا، ثمّ تراجعا إلى مواقفهما وأخذ أخو أسد سيفا وأخذ أبو القلمّس أثفيّة، فوضعها على قربوس سرجه وسترها بدروعه، ثمّ تعاودا، فلمّا تدانيا قام أبو القلمّس فى ركابيه، ثمّ ضرب بها صدره وصرعه ونزل فاحتزّ رأسه. وبدر رجل من أهل المدينة مولى لآل الزبير يدعى القاسم بن وائل، فدعا للبراز فبرز له رجل لم أر أكمل عدّة منه، فلمّا رآه ابن وائل انصرف عنه. قال: فوجد أصحاب محمّد من ذلك وجدا شديدا. فإنّا لعلى ذلك إذ [1] سمعت حفيف رجل ورائي، فالتفتّ فإذا أبو القلمّس، فسمعته يقول: - «لعن الله أمّ السفهاء إن ترك هذا اجترأ علينا وإن خرج [422] رجل خرج   [1] . فى مط: أن، بدل «إذ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 إلى أمر عسى ألّا يكون من شأنه.» ثمّ برز له فقتله وكان الرجل هزار مرد، وضربه أبو القلمّس على حبل عاتقه وقال: - «خذها وأنا ابن الفاروق.» فسمعت رجلا من أصحاب عيسى يصيح به: - «قتلت خيرا من ألف فاروق.» ثمّ قال عيسى لحميد بن قحطبة: - «تقدّم.» فتقدّم فى مائة كلّهم راجل غيره معهم القسّى والنشّاب والترسة، فلم يلبثوا أن زحفوا إلى جدار دون الخندق عليه أناس من أصحاب محمّد، فكشفوهم ووقفوا عند الجدار، وأرسل حميد إلى عيسى أن يهدم الجدار. قال: - «فأرسل إلىّ فعلة.» فأرسلهم فهدموه وانتهوا إلى الخندق، فأرسل إلى عيسى: - «إنّا قد انتهينا إلى الخندق.» فأرسل إليه عيسى أن: - «اطرح حقائب الإبل فى الخندق.» وأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي فى الثنيّة فطرحا على الخندق فجازت الخيل، فالتقوا عند منابح [1] خشرم واقتتلوا إلى العصر، وانصرف محمّد يومئذ قبل الظهر حتّى جاء إلى دار مروان فاغتسل وتحنّط ثمّ خرج، [423] فدنا منه عبد الله بن جعفر فقال له: - «بأبى أنت، إنّه والله ما لك بما رأيت طاقة، وما معك أحد يصدق القتال،   [1] . الرابع مهمل فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (10: 240) : مفاتح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 فاخرج الساعة حتّى تلحق بمكّة فإنّ بها الحسن بن معاوية ومعه جلد [1] أصحابك.» فقال: - «يا أبا جعفر، والله لو خرجت لقتل أهل المدينة حتّى لا يبقى بها صافر، ولست أرجع حتّى أقتل أو أغلب، وأنت فى حلّ منّى وسعة، فاذهب حيث شئت.» قال: فخرجت معه حتّى جاء إلى دار ابن مسعود فى سوق الظهر، وركضت فأخذت على الزياتين، ومضى إلى الثنيّة وقتل أصحابه بالنّشاب، وجاءت العصر فصلّى. قال: فرأيت محمّدا راكبا وإلى جانبه ابن حضير يناشده الله إلّا مضى إلى البصرة أو غيرها ومحمّد يقول: - «والله لا يبتلون بى مرّتين، ولكن اذهب حيث شئت فأنت فى حلّ.» قال ابن حضير: - «وأين المذهب عنك؟» ثمّ مضى، فأحرق الديوان وقتل رياحا ثمّ لحقه بالثنيّة وقاتل بين يديه حتّى قتل. وكان ابن حضير ذبح رياحا ولم يجهز عليه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى مات [424] أقبح ميتة. ثمّ صلّى محمّد العصر، ونزل عن دابّته وكسر غمد سيفه، ولم يبق معه أحد إلّا وكسروا أغماد سيوفهم، ثمّ أقبل على ابن حضير فقال: - «أحرقت الديوان؟»   [1] . كذا فى الأصل وآ: جلد. فى مط: جلّة. فى الطبري (10: 241) : جلّة، وفى حواشيه: جلد، جلّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 قلت: «نعم. خفت أن يؤخذ الناس عليه.» قال: «أصبت.» ثمّ حمل. قال أزهر: فحدّثنى أخواى قالا: هزمنا يومئذ أصحاب عيسى مرّتين أو ثلاثا، ولكنّا لم نكن نعرف الهزيمة. ولقد سمعنا يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يقول: - «وقد هزمناهم، ويل أمّه فتحا لو كان له رجال.» فبينا هم كذلك، إذ صعد رجل إلى ظهر سلع ومعه رمح قد نصب عليه رأس رجل متّصلا بحلقومه وكبده وأعفاج بطنه، فرأيت منظرا هائلا وذعر منه الناس والأعاريب فأجفلت هاربة حتّى أسهلت وعلا الرجل الجبل، ونادى أصحابه رطانة لهم بالفارسيّة: كوهبان [1] ، فصعد إليه أصحابه حتّى علوا سلعا فنصبوا عليه راية سوداء، ثمّ انصبّوا إلى المدينة فدخلوها. وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله [425] بن عبّاس بن عبد المطلّب، وكانت تحت عبيد الله بن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العبّاس بخمار أسود فنصب على منارة مسجد رسول الله، صلّى الله عليه، فلمّا رأى ذلك أصحاب محمّد تنادوا: - «دخلت المدينة، دخلت المدينة.» وهربوا. وبلغ الناس الذين تنادوا [2] دخول الناس من ناحية سلع. فقال. الناس الذين مع محمّد: - «لكلّ قوم جبل يعصمهم ولنا جبل لا نؤتى إلّا منه.»   [1] . كذا فى الأصل. كوهبان. ما فى آومط: مهمل. فى الطبري (10: 244) : كوهبان أيضا. وفى حواشيه: كوهيان. [2] . فى الأصل ومط: تدوا. والتصحيح اقتراح منّا، والعبارة لا توجد فى الطبري (244: 10) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 وكان ابن حضير يحمل راجلا، ويخالط العدوّ، فكانت الخراسانية إذا نظروا إلى ابن حضير تنادوا بينهم: - «خضير آمذ، خضير آمذ.» فيتضعضعون إلى أن خالد الناس مرّة فضرب ضارب على أليته فحلّها، فرجع إلى أصحابه فشقّ ثوبا، ثمّ عصبها بظره، ورجع فضارب حتّى ضرب على حجاج عينه وخرّ، فابتدره القوم فحزّوا رأسه. وأقبل محمّد راجلا فجعل يقاتل على جيفته فضربه رجل على أذنه اليمنى فبرك لركبته وتعاودا عليه وصاح حميد بن قحطبة: - «لا تقتلوه.» فكفّوا. وجاء حميد فاحتزّ رأسه. وحكى [426] أخو الفضل بن سليمان النميري قال: كنّا مع محمّد قد أطفنا به وكان قد أطاف بنا أربعون ألفا أو أكثر، وكانوا حولنا كالحرّة السوداء، فقلنا له: - «لو حملت لانفرجوا عنك.» فقال: «إنّ أمير القوم لا يحمل، إنّه إن حمل لم تكن بقيّة.» حتّى أصاب ابن حضير ما أصابه فحمل والتقوا عليه فقتلوه. قال أبو الحجّاج الحمّال: كنت يوما قائما على رأس أبى جعفر وهو يسائلني عن مخرج محمّد إذ أتاه الخبر أنّ عيسى هزم، وكان متّكئا، فجلس فضرب بقضيب معه مصلّاه وقال: - «كلّا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ما أنى لذلك بعد.» [1]   [1] . انظر الطبري (10: 250) . وفى حواشي الطبري عن الأصول: «ما أتى كذلك بعد» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 ولمّا قتل محمّد هجم الناس على دور المدينة فقتل خلق كثير إلى أن قتل أبو الشدائد وجيء برأسه فاستعظم من كان عند عيسى ذلك واسترجعوا، ثمّ قالوا: - «ما بقي بالمدينة أحد بعد قتل هذا.» فأمر عيسى بألوية ففرّقها على باب باب من أبواب العبّاسيين وأهل الفقه ممّن عرفهم وقال: ليناد المنادى: - «من دخل تحت لواء منها أو دخل دارا من هذه الدور فهو آمن.» - «من جاءنا برأس ضربنا رأسه.» [427] فتحدّث عيسى قال: حدّثتنى أمّ حسين بنت عبد الله بن محمّد بن علىّ بن الحسين قالت: قلت لعمّى جعفر بن محمّد: - «أبى [1] فديتك ما أمر محمّد هذا؟» قال: «فتنة يقتل محمّد [2] بن عبد الله عند بيت رومىّ ويقتل أخوه إبراهيم بالعراق وحوافر فرسه فى ماء.» وحمل رأس محمّد إلى أبى جعفر وهو بالكوفة، فأمر فطيف به فى طبق أبيض. وتحدّث الحسن بن زيد قال: غدوت يوما على أبى جعفر فإذا هو قد أمر بعمل دكّان ثمّ أقام عليه جلّادا وأتى بعلّى بن المطّلب بن عبد الله بن حنطب [3] فأمر به فضرب خمسمائة سوط، ثمّ أتى بعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، فأمر به فجلد خمسمائة سوط، فما تحرّك واحد منهما فأقبل علّى وقال لى:   [1] . كذا فى الأصل: أبى. فى آ: أنى. فى الطبري (10: 254) : أنى [2] . والعبارة فى الطبري (10: 254) : «قال: فتنته يقتل فيها محمد ... » . [3] . الحرف الثاني مهمل فى الأصل ومط. والتصحيح يوافق الطبري (10: 264) وفى حواشي الطبري: جنطب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 - «هل رأيت أصبر من هذين قطّ؟ والله إنّا لنؤتى بالذين قاسوا غلظ المعيشة وكدّها فما يصبرون هذا الصبر وهولاء أهل الخفض والكنّ والنعمة.» قال: فقلت: - «يا أمير المؤمنين، هولاء قومك أهل الشرف والقدر.» فأعرض عنّى وقال: - «أبيت إلّا العصبيّة.» فلمّا كان بعد أيّام أعاد عبد العزيز بن إبراهيم ليضربه، فقال: - «يا أمير المؤمنين، الله، الله، فينا، فو الله إنّى لمكبّ على وجهى منذ [428] أربعين ليلة، ما صلّيت لله صلاة.» - «أنتم صنعتم ذلك بأنفسكم.» قال: - «فأين العفو يا أمير المؤمنين؟» قال: - «فالعفو إذا.» ثمّ خلّى سبيله. وفى هذه السنة ثارت السودان بالمدينة وكان وإليها عبد الله بن الربيع. ذكر خبر وثوب السودان بالمدينة والسبب الذي هيّج ذلك وكان رياح بن عثمان استعمل أبا بكر بن أبى سبرة على صدقة قوم، فلمّا خرج محمّد صار إليه أبو بكر بما كان جبى وشمّر معه، فلمّا قدم عيسى وهزم محمّدا استخلف كثير بن حصين على المدينة، فأخذ كثير أبا بكر بن أبى سبرة، فضربه سبعين سوطا وقيّده وحبسه، ثمّ قدم عبد الله بن الربيع واليا من قبل أبى جعفر المنصور، فكان الجند ينازعون التّجار ويتعدّون عليهم، فاجتمعوا إلى أميرهم ابن الربيع، فشكوا ذلك إليه، فنهرهم وشتمهم، فطمع فيهم الجند إلى أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 صاروا يأخذون من بين أيديهم الشيء فلا يعطونهم الثمن، ولا ينكر عبد الله بن الربيع ذلك، فجاء يوما رجل من الجند، فاشترى من جزّار لحما يوم جمعة ثمّ أبى أن [429] يعطيه ثمنه وشهر عليه السيف، فخرج عليه الجزّار من تحت الوضم بشفرة فطعن بها خاصرته فخّر عن دابّته واعتوره الجزّارون فقتلوه. وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد فى كل ناحية، ولم يزالوا على ذلك حتّى أمسوا، فلمّا كان الغد هرب ابن الربيع، ونفخ السودان فى بوق لهم. فذكر أهل المدينة أنّه كان الأسود فى بعض عمله يسمع نفخ البوق، فيصغى له حتّى يتيقّنه، ثمّ يوحش بما فى يده ويؤمّ نحو الصوت حتّى يأتيه، فلمّا اجتمعوا غدوا على ابن الربيع، فخرج إليهم والناس فى الجمعة فأعجلوه عن الصلاة واستطردوا له حتّى أتى السوق، فمرّ بخمسة من المساكين يسألون فى الطريق، فحمل عليهم بمن معه حتّى قتلوهم، ثمّ مرّ بأصيبية [1] على سطح فاستنزلهم وآمنهم، فلمّا نزلوا ضرب أعنا قهم، ثمّ وقف عند الحنّاطين وحمل عليه السودان فأجلى هاربا واتبعوه حتّى صاروا إلى البقيع ورهقوه، فنثر لهم دراهم فشغلوا بها، ومضى على وجهه حتّى نزل ببطن نخل على [430] ليلتين من المدينة ورؤساء السودان ويتوا [2] وحذيا وعنقود، ولمّا هزموا ابن الربيع وقع السودان فى طعام وأمتعة لأبى جعفر المنصور، فانتهبوه وأغاروا على دار مروان وفيها طعام وأشياء للجند، فانتهبوه وباعوا الحمل من الدقيق بدرهمين وراوية الزيت بأربعة دراهم، وقتلوا الجند فهابوهم حتّى إن كان الفارس ليلقى الأسود وما على الأسود إلّا خرقتان على عورته فيولّى الفارس دبره احتقارا له، ثمّ ما يلبث أن يعود بعمود من عمد السوق التي بقرب منه   [1] . انظر الطبري (10: 267) . [2] . مهمل ما فى الأصل هنا ومعجم فى الموطن الآتي. وما فى الطبري (10: 267) : وثيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 فيقتله به. فكانوا يقولون: - «ما هولاء إلّا شياطين.» يعنون السودان. ثمّ مضى السودان حتّى أخرجوا أبا بكر بن أبى سبرة، فخطب الناس ودعاهم إلى الطاعة وصلّى بالناس، ثمّ أرسل إلى محمّد بن عمران ومحمّد بن عبد العزيز فاجتمعوا عنده فقال: - «أنشدكم الله وهذه البليّة التي وقعت، فو الله لئن ثبتت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنّه لاصطلام البلد وأهله، وهولاء العبيد فى السوق بأجمعهم، فأنشدكم الله إلّا ذهبتم إليهم وكلّمتوهم فى الرجعة والفيئة إلى طاعتكم، فإنّهم لا نظام [431] لهم ولم يقوموا بدعوة وإنّما هم قوم أخرجتهم الحميّة.» فذهبوا إلى العبيد وكلّموهم فقالوا: - «مرحبا بكم يا موالينا، والله ما قمنا إلّا أنفا لكم ممّا عمل بكم، فأيدينا فى أيديكم وأمرنا إليكم.» فأقبلوا بهم إلى المسجد، فقالوا: - «أيها الناس، إنّه قد وقع الأمر بما ترون، ونعلم أنّهم لا يبقون علينا، فدعونا نشفيكم وأنفسنا.» فأبينا. ولم نزل بهم حتّى تفرّقوا، وقيل لويتوا [1] وخليفته يعقل [2] الجزّار: - «إلى من تعهدنا ويتوا؟ قال: «إلى أربعة من بنى هاشم وأربعة من قريش وأربعة من الأنصار وأربعة من الموالي. ثمّ الأمر شورى.»   [1] . ما فى آومط: لوثبوا. فى الطبري (10: 267) : وثيق [2] . يعقل: اسم الخليفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 فقال ابن عمران: - «اسأل الذي ولّاك أمرنا أن يرزقنا عدلك ويعطف بقلبك علينا.» قال: «فقد ولّانيه الله.» فلمّا حضرت العشاء الآخرة، وقد ثاب الناس واجتمع القرشيّون فى المقصورة، وأقام الصلاة المؤذّن. قال المؤذّن للقرشيّين: - «من يصلّى منكم بالناس؟» فلم يجبه أحد، فقال: - «ألا تسمعون؟» فلم يجيبوه، فقال: - «يا بن عمران، ويا فلان.» فلم يجبه أحد، فقام الأصبغ [1] بن سفيان [432] بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، فقال: - «أنا أصلّى.» فقام فى المقام، فقال للناس: - «استووا.» فلمّا استوت الصفوف، أقبل عليهم بوجهه ونادى بأعلى صوته: - «ألا تسمعون، أنا أصبغ [2] بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، أصلّى بالناس على طاعة أبى جعفر.» فردّد ذلك مرّتين أو ثلاثا، ثمّ كبّر فصلّى، ثمّ اجتمع القرشيّون، فركبوا إلى ابن الربيع، وهو بنخل، فناشدوه الله إلّا رجع إلى عمله فيأبى، فخلا به عبد العزيز   [1] . ما فى الأصل مهمل فى الأخير. ما فى آ، والطبري (10: 270) : الأصبغ (بالغين المعجمة) . [2] . كذا فى الأصل. ما فى آ: الا صبغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 ولم يزل به حتّى سكن ورجع فهدأ الناس. وفى هذه السنة أسّست مدينة بغداد وهي التي تدعى مدينة المنصور. ذكر السبب فى بناء أبى جعفر بغداذ لمّا ثارت الرونديّة بأبى جعفر فى مدينته التي تسمّى الهاشميّة التي بناها إلى جنب الكوفة والمدينة التي سمّاها الرّصافة، كره سكانها ولم يأمن أهلها، فأراد أن يبعد، فتردّد بين الموصل وجرجرايا، واختار موضع بغداذ، وقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة، ليس بيننا وبين الصين شيء [433] يأتينا فيها كلّ ما فى البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك [1] ، فنزل وضرب عسكره على الصراة وخطّ المدينة، ووكّل بكلّ ربع قائدا. وكان الناس أشاروا عليه بموضع قريب من بارمّا، وذكروا له عنه غذاء وطيبا فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه فرآه موضعا طيبا. فدعا جماعة من أصحابه وقال لهم: - «ما رأيكم فى هذا الموضع؟» فقالوا: «ما رأينا مثله، وهو طيب صالح موافق.» فقال: «صدقتم، هو كذا ولكنّه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وإنّما أريد موضعا يرتفق به الناس ويوافقهم مع موافقته لى، ولا تغلو [2] عليهم الأسعار، فإنّى إن أقمت فى موضع لا يجلب إليه فى البرّ والبحر غلت الأسعار وقلّت المادّة، فاشتدّت المؤونة وشقّ ذلك على الناس.» ثم عاد إلى موضع بغداذ، وأحضر جماعة من سكان القرى التي حواليها و   [1] . هنا زيادة فى مط كالآتى: وهذا الفرات يجيء فيه كلّ شيء بالشام والرقّة وما حول ذلك. [2] . فى الأصل: لا تغلوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 صاحب بغداذ فيهم فسألهم عن مواضعهم وكيف هي فى الحرّ والبرد والأمطار والوحول والبقّ والهوامّ [434] فأخبره كلّ واحد بما عنده. فوجّه من قبله رجالا حصفاء فبات كلّ رجل منهم فى قرية منها، ثمّ تنحّر [1] أخبارهم واختيارهم فاجتمعوا على صاحب بغداذ. فيحكى أنّ الراهب الذي كان قريبا من بغداذ قال لأبى جعفر: - «إنّ الذي يبنى هاهنا مدينة اسمه مقلاص.» فقال أبو جعفر: - «فأنا والله كنت أدعى فى حداثتي مقلاصا ثمّ انقطعت عنّى.» ووجّه المنصور فى حشر الصنّاع والفعلة من الشام والموصل وأهل الجبل ومن الكوفة والبصرة وسائر المدن وأمر باختيار قوم من أهل الأمانة والعدالة والفقه والمعرفة، فكان ممّن أحضر الحجّاج بن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأمر بخطّ المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللبن وطبخ الآجر، فبدئ بذلك سنة خمس وأربعين ومائة ثمّ خطّت له بالرماد، فدار عليها وعلى سورها وسككها وخنادقها، فلمّا فعل ذلك مرارا، أمر أن يجعل على تلك الخطوط من الرماد [435] حبّ القطن ويصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل فيها، ففهمها وعرف رسمها وأمر بحفر أساسها وبناءها وإحكام الأساس. وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا وقدّر أعلاه عشرين ذراعا، وجعل فى البناء حوائر [2] قصب مكان الخشب فى كلّ طوفة فلمّا بلغ الحائط مقدار قامة أتاه خروج محمّد فقطع البناء. وكان المنصور قد أرضى أصحاب القرى والمزارع، أمّا مدينته وهي بغداذ فكانت لستين رجلا، فأعطاهم العوض عنها وأرضاهم. وأمّا ما كانت حواليها،   [1] . انظر الطبري (10: 274) . [2] . الحائرة: الهزيلة. ما فى الطبري (10: 278) : جوائز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 فكانت قرى متّصلة فأقطعها قوّاده واشتروها، ثمّ اشترى الناس. وقال المنصور: يكتب إلى مصر بقطع المادّة عن الحرمين ما دام بها محمّد، فإنّما هم فى مثل حرجة إذا انقطعت عنهم المير، وأمر بالكتاب إلى الجزيرة وغيرها أن يمدّ الكوفة بالرجال، وكتب إلى العبّاس بن محمّد، وكان على الجزيرة، أن يمدّه فى كلّ يوم بما قدر عليه من الرجال، وكذلك كتب إلى أمراء الشام وقال: - «لو ورد [436] علىّ فى كلّ يوم رجل واحد من كل واحد منكم لكثّرت به من معى وإن بلغ الخبر الكذّاب كسره ذلك.» وفى هذه السنة ظهر [1] إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن أخو محمّد بالبصرة فحارب المنصور. ذكر الخبر عن مخرجه وسبب ذلك وعن مقتله لمّا قبض أبو جعفر على عبد الله بن حسن أشفق محمّد وإبراهيم فافترقا وتواريا وتقلّب إبراهيم فى البلدان. فحكى إبراهيم لبعض أصحابه قال: - «اشتدّ الطلب لى وأنا بالموصل، فاضطرّنى الزمان حتّى دخلت وجلست على موائد أبى جعفر وذاك أنّه كان قدمها وطلبنى فتحيّرت ولفظتني الأرض وجعلت لا أجد مساغا، ودعى الناس إلى غدائه، ودخلت فيمن دخل، والطرق مشحونة بمن تطلبنى، فجلست وأكلت، ثمّ خرجت وقد كفّ الطلب.   [1] . فى مط: خرج. انظر الطبري (10: 282) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 وتحدّث عبد الله بن محمّد البوّاب قال: أمر أبو جعفر ببناء، قنطرة الصراة العتيقة ثمّ خرج ينظر إليها، فوقعت عينه على إبراهيم وخنس إبراهيم فذهب [437] فى الناس، فأتى فاميا [1] فلجأ إليه، فأصعده غرفة له، وجدّ أبو جعفر فى طلبه، ووضع المراصد، فنشب إبراهيم بمكانه وطلبه أبو جعفر أشدّ ما يكون من الطلب، وكان مع إبراهيم رجل من بنى العمّ، فتحدّث العّمّى هذا قال: قلت لإبراهيم: - «قد نزل ما ترى ولا بدّ من التغرير والدخول تحت المخاطرة.» قال: «فأنت وذلك.» قال: فأقبلت إلى الربيع فسألته الإذن، قال: - «ومن أنت» قال: «سفيان العمّى.» فأدخله على أبى جعفر، وكان أبو جعفر يعرفه بصحبة إبراهيم، فلمّا راه شتمه فقال: - «يا أمير المؤمنين، أنا أهل لما تقول، غير أنّى أتيتك نازعا تائبا ولك عندي كلّ ما تحبّ إن أعطيتنى ما أسألك.» قال: «وما لي عندك؟» قال: «آتيك بإبراهيم، إنّى قد بلوته وأهل بيته فلم أجد فيهم خيرا، فما لى عندك إن فعلت؟» قال: «كلّ ما تشاء، فأين إبراهيم؟» قال: «دخل بغداذ أو هو داخلها عن قريب، فإنّى تركته بعبدسىّ [2] فاكتب لى   [1] . فى الطبري (10: 285) : فاميّا (بالتشديد) . [2] . فى مط: بعد شيء، وما فى الطبري (10: 286) : يوافق الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 جوازا ولغلام لى وقرانق واحملنى على البريد.» فكتب له جوازا وضمّ إليه جندا وقال: - «هذا ألف دينار فاستعن به.» قال: «لا حاجة لى فيه كلّه.» فأخذ ثلاثمائة دينار. وأقبل [438] حتّى أتى إبراهيم وهو فى غرفة عليه مدرعة صوف زىّ العبيد، فصاح به: - «قم يا فلان.» فوثب كالفزع، وجعل يأمره وينهاه حتّى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة فدفع إليه جوازه. قال: «فأين غلامك؟» قال: «هذا.» فلمّا نظر فى وجهه قال: - «والله ما هذا بغلام وإنّه لإبراهيم، ولكن اذهب راشدا.» فأطلقهما وهرب [1] وركبا سفينة حتّى قدما البصرة فجعل يأتى بهم الدار لها بابان فيقعد العشرة منهم على أحد البابين ويقول: - «لا تبرحوا حتّى آتيكم.» ثمّ يدخل الدار فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتّى فرّق الجند عن نفسه وبقي وحده واختفى حتّى بلغ سفيان بن معاوية، وهو على البصرة، خبر الجند، فأرسل إليهم فجمعهم فطلب العمّى فأعجزه. وحكى الحسن بن حبيب الديلي [2] قال: كان إبراهيم مختفيا عندي على   [1] . انظر الطبري (10: 286) . [2] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: الديلمي. والكلمة غير موجودة فى الطبري (10: 288) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 شاطئ دجيل فى ناحية مدينة الأهواز وكان محمّد بن حصين يطلبه فقال يوما: إنّ أمير المؤمنين كتب إلىّ يخبرني أنّ المنجمين يخبرونه أنّ إبراهيم نازل فى جزيرة بين نهرين [439] وقد اعتزمت أن أطلبه غدا فى المدينة لعلّ أمير المؤمنين يعنى بين دجيل والمسرقان. قال: فأتيت إبراهيم وقلت: - «أنت غدا مطلوب فى هذه الناحية.» قال: فأقمت معه يومى، فلمّا غشيني الليل خرجت به حتّى أنزلته فى دشت أربك دون الكثّ ورجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمّدا أن يغدو فى طلبه فلم يفعل، فتصرّم النهار كلّه وطفّلت الشمس فخرجت حتّى جئت إبراهيم فأقبلت به فوافينا المدينة مع العشاء الآخرة، ونحن على حمارين، فلمّا دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد وجلس يبول، وطوتنى الخيل فلم يعرّج علىّ أحد منهم حتّى صرت إلى ابن حصين، فقال لى: - «أبا محمّد، من أين فى هذا الوقت؟» قلت: «إنّى تمسّيت عند بعض أهلى.» فقال: «ألا أرسل معك من يبلّغك؟» قلت: «لا، قد قربت من أهلى.» فمضى يطلب، وتوجّهت على سنني حتّى انقطع آخر أصحابه، ثمّ كررت راجعا إلى إبراهيم، والتمست [440] حماره حتّى وجدته فركب وانطلقنا فبتنا فى أهلنا فقال إبراهيم: - «تعلم والله لقد بلت البارحة دما، فأرسل من ينظر.» فأتيت الموضع فوجدته قد بال دما. وقال أبو جعفر: ما زال يظهر أمر إبراهيم لى حتّى اشتملت عليه طفوف البصرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 وحصل إبراهيم بالبصرة، فدعا الناس، واستجاب له خلق، واستتر فى بنى راسب. وكان سفيان بن معاوية عامل المنصور يومئذ على البصرة قد مالأ إبراهيم بن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه. فتحدّث جماعة من أشياخ البصرة أنّهم شهدوا دفيف بن أسد [1] مولى يزيد بن حاتم أتى سفيان بن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة فقال: - «ادفع إلىّ فوارس، آتك بإبراهيم وبرأسه.» قال: «أو ما لك عمل؟ اذهب إلى عملك.» فخرج دفيف من ليلته، فلحق بيزيد بن حاتم بمصر. وقال عدّة من الأزد: إنّ جابر بن حمّاد كان على شرطة سفيان، فأتاه قبل خروج سفيان بيوم وقال: - «إنّى مررت فى مقبرة بنى يشكر، فصيّحوا بى ورموني بالحجارة.» فقال له: - «أما كان لك طريق آخر؟» فمرّ سفيان بعد [441] قتل إبراهيم وانقضاء تلك الأيّام بأبى جعفر المنصور فى سفينة له وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال: - «إنّ هذا سفيان؟» قالوا: «نعم.» قال: «والله للعجب كيف يفلتنى [2] هذا ابن الفاعلة؟» وكان المنصور أنفذ قائدين كبيرين مع أصحابهما إلى سفيان مددا له، فلمّا قدما عليه صيّرهما بالقرب منه، فلمّا واعده إبراهيم الخروج أرسل إليهما   [1] . فى الطبري (10: 297) : دفيف بن راشد. [2] . كذا فى الأصل: يفلتنى. فى آ: يقتلني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتّى خرج، فأحاط به وبهما فأخذهم وقيّد سفيان وحبسه فى القصر يرى أبا جعفر أنّه بريء من التهم. وكان أبو جعفر المنصور يبعث إلى سفيان كلّ يوم قوما إلى البصرة فجعلوا يتزيدون ويردون، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها، فظهر وبلغ جعفرا ومحمّدا ابني سليمان بن علىّ، وكانا يومئذ بالبصرة، مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا فيما قال غير واحد فى ستمائة من الرّجالة والفرسان يريدانه [1] فوجّه إليهما المضاء بن القاسم فى ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزمهم المضاء ولحق محمّدا رجل من [442] أصحاب المضاء فطعنه فى فخذه ونادى منادى إبراهيم: - «لا تتبعوا مدبرا.» وأصاب إبراهيم فى بيت المال ألفى ألف درهم، فقوى بذلك وفرض لكلّ رجل خمسين خمسين ووجّه إبراهيم بن المغيرة إلى الأهواز فى نحو مائتي رجل، وعامل الأهواز يومئذ من قبل أبى جعفر محمّد بن الحصين، فلمّا بلغه دنّو المغيرة خرج إليه فى أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز بموضع يقال له: دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز. ويقال إنّ أصحاب ابن حصين قد كانوا واطأوا إبراهيم. ووجّه إبراهيم إلى فارس [2] عمرو بن شدّاد عاملا عليها. فلمّا قرب من فارس بلغ إسماعيل بن علىّ، وكان عاملا عليها من قبل أبى جعفر [3] ومعه أخوه عبد الصمد بن علىّ إقبال عمرو بن شدّاد فبادرا إلى دارا بجرد فتحصّنا بها وكانا بإصطخر وصارت فارس والأهواز والبصرة فى   [1] . فى آ: يريد ابنه. [2] . فى مط وآ: فارس بن عمرو. وهو خطأ. [3] . فى آ: ابى جعفر المنصور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 سلطان إبراهيم. ولمّا ظهر محمّد بالمدينة، أرسل أبو جعفر إلى جعفر بن حنظلة، وكان ذا رأى، فقال: - «هات رأيك.» قال: «وجّه الأجناد إلى البصرة.» فقال: «انصرف حتّى أرسل إليك.» وقال أبو جعفر: - «اختبل والله [443] جعفر، أسأله عن المدينة فيجيبني عن البصرة.» فلمّا صار إبراهيم إلى البصرة قال [1] : - «إيّاها خفت، بادره بالجنود.» قال: - «وكيف خفت البصرة؟» قال: «لأنّ محمّدا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبى طالب، فلم يبق إلّا البصرة.» ولمّا [2] شخص جعفر ومحمّد ابنا سليمان من البصرة، أرسلا إلى أبى جعفر وأخبراه خبرهما فقال أبو جعفر: - «والله ما أدرى كيف أصنع، والله ما فى عسكري إلّا ألفا رجل، فرّقت جندي، فمع المهدى بالرىّ ثلاثون ألفا، ومع محمّد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفا، والباقون مع عيسى بن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفا.   [1] . والعبارة فى آ: فلمّا صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه وقال: صار إبراهيم إلى البصرة وقال: [2] . انظر الطبري (10: 304) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وقال عبد الله بن راشد: ما كان فى عسكر أبى جعفر كبير أحد، ما هم إلّا سودان وناس يسير. وكان يأمر بالحطب فيحزم، ثمّ يوقد بالليل فيراه الرائي فيحسب هناك ناسا، وما هي إلّا نار تضرم، وليس عندها أحد. وكتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى وهو بالمدينة: - «إذا قرأت كتابي فأقبل ودع [444] ما أنت فيه.» فلم ينشب أن قدم، فوجّهه على الناس، وكتب إلى سلم بن قتيبة، فقدم عليه من الرىّ، فضمّه إلى جعفر بن سليمان. فحكى سلم بن قتيبة قال: لمّا دخلت على أبى جعفر قال لى: - «خرج ابنا عبد الله بن حسن، فاعمد لإبراهيم ولا يروعنّك جمعه، فو الله إنّهما لجملا بنى هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك.» قال: فو الله ما هو إلّا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكّر مقالته فأعجب. وكتب المنصور إلى المهدى وهو يومئذ بالرىّ يأمره بتوجيه خازم بن خزيمة إلى الأهواز، فوجّهه المهدى فى أربعة آلاف من الجند، فصار إليها وحارب بها المغيرة بن الفزر، فهزم المغيرة وانصرف المغيرة إلى البصرة ودخل خازم الأهواز فأباحها ثلاثا. وحكى السندىّ قال: كنت وصيفا أيّام حرب محمّد، فكنت أقوم على رأس المنصور بالمدينة، فرأيته لمّا كثف أمر إبراهيم وغلظ، أقام على مصلّى نيّفا وخمسين ليلة، ينام عليه، ويجلس عليه، وعليه جبّة ملوّنة قد اتّسخ جيبها وما تحت لحيته منها ما غيّر الجبّة ولا هجر [445] المصلّى حتّى فتح الله عليه، إلّا أنّه كان إذا ظهر للناس علىّ الجبّة بالسواد وقعد على فراشه، فإذا بطن عاد إلى هيئته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 قال: فأتته ريسانة [1] فى تلك الأيّام وقد أهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمّد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، والأخرى أمة الكريم [2] بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد بن أبى العيص فلم ينظر إليهما، فقالت: - «يا أمير المؤمنين، إنّ هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك بهما.» فانتهرها وقال: - «ليست هذه الأيّام من أيّام النساء، لا سبيل إليهما حتّى أعلم: رأس إبراهيم لى، أو رأسى لإبراهيم.» فهذه كانت عزيمة أبى جعفر. فأمّا إبراهيم فذكر أبو عبيدة أنّ يونس الحرمي كان يقول: قدم هذا يريد إبراهيم وهو يقصد إزالة ملك، فألهته بنت عمرو بن سلمة عمّا جاء له، وكان إبراهيم تزوّج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بن سلمة. وكانت تأتيه فى مصبّغاتها وألوان ثيابها. وورد كتاب من جعفر ومحمّد ابني سليمان يعلمانه خروجهما عن البصرة، وكان كتابهما فى قطعة جراب، ولم يقدرا [446] على شيء يكتبان فيه غير ذلك، فلمّا وصل الكتاب إليه، فرأى قطعة جراب بيد الرسول قال: - «خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم.» ثمّ قرأ الكتاب ودعا بعبد الرحمن الختلىّ وبأبى يعقوب ختن مالك بن الهيثم، فوجّههما فى خيل كثيفة إليهما وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما، و   [1] . كذا فى الطبري (10: 306) : ريسانة. وفى حواشيه: ربسانة. [2] . كذا فى الأصل. وفى الطبري (10: 306) ام الكريم، وفى حواشيه: ابنة العريم. فى آأيضا: أمة الكريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 أن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما. وكتب إليهما يعجزّهما ويضعفهما ويوبّخهما على طمع إبراهيم فى الخروج إلى مصرهما فيه واستتار خبره عنهما حتّى ظهر. وكتب فى آخر كتابه: أبلغ بنى هاشم عنّى مغلغلة ... فاستيقظوا إنّ هذا فعل نوّام تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقى مربض المستنفر الحامى قال جعفر بن ربيعة: قال الحجّاج: لقد دخلت على المنصور فى ذلك اليوم مسلّما، وما أظنّه يقدر على ردّ السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه، وللعساكر المحيطة به، ولمائة ألف سيف كامنة له بالكوفة بإزاء [447] عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون، فوجدته صقرا أحوزيّا مشمّرا قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ويمرسها، فقام بها ولم تقعد به نفسه. ذكر آراء أشير بها على إبراهيم بن عبد الله لمّا وجّه أبو جعفر عيسى بن موسى إلى إبراهيم، كان معه خمسة عشر ألفا، وجعل على مقدّمته حميد بن قحطبة فى ثلاثة آلاف. فأراد إبراهيم الشخوص نحو أبى جعفر، فدخل إليه جماعة من قوّاده، فقالوا له: - «إنّك قد ظهرت على أهل البصرة والأهواز وفارس وواسط، فأقم بمكانك ووجّه الأجناد، فإن هزم لك جند أمددتهم بجند، فخيف مكانك واتّقاك عدوّك وجبيت الأموال وثبتت، ثم [1] رأيك بعد.»   [1] . كذا فى آأيضا: ثمّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 فقال له المشائيم الكوفيّون: - «أصلحك الله، إنّ بالكوفة رجالا لو قد رأوك ماتوا دونك، وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتّى، والرأى أن تخرج.» فقال له آخر: - «إنّ هذه بلادي وبلاد [448] قومي وأنا أعلم بها، فلا تقصد عيسى بن موسى ومعه هذه العساكر التي ضمّت إليه، ولكن دعني أسلك بك طريقا لا يشعر بك أبو جعفر إلّا وأنت معه بالكوفة.» فأبى عليه. قال: - «فإنّا معشر ربيعة أصحاب بيات، فدعني أبيّت أصحاب عيسى.» قال: - «إنّى أكره البيات.» فقال له هريم: - «أصلحك الله، إنّك غير ظاهر على هذا الرجل حتّى تأخذ الكوفة، وإن صارت لك مع تحصّنه بها لم تقم له بعدها قائمة، ولى بعد بها أهيل، فدعني أسر إليها مختفيا فأدعو إليك فى السرّ، ثمّ أجهر، فإنّ القوم إن سمعوا داعيا أجابوه، وإن سمع أبو جعفر الهيعة بأرجاء الكوفة وليس معه رجال، لم يردّ وجهه شيء دون حلوان.» فأقبل على بشير الرحّال. فقال: - «ما ترى يا با محمّد؟» فقال: «إنّا لو وثقنا بالذي يصف لكان رأيا، ولكنّا لا نأمن أن يجيبك طائفة منهم فيرسل إليهم أبو جعفر خيلا فتطأ البريء والنّطف والصغير والكبير، فتكون قد تعرّضت لمأثم، ولم تبلغ منه ما أمّلت.» قال هريم: فقلت لبشير: - «أفخرجت حين [449] خرجت لقتال أبى جعفر وأصحابه وأنت تتوقّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 قتل الصغير والضعيف والمرأة والرجل، أو ليس قد كان رسول الله، صلّى الله عليه، يوجّه السريّة فيقاتل فيكون فى ذلك نحو ما كرهت؟» فقال: «إنّ أولئك كانوا مشركين، وإنّ هولاء أهل ملّتنا ودعوتنا وقبلتنا، حكمهم غير حكم أولئك.» فاتّبع إبراهيم رأيه، وسار حتّى نزل باخمرى [1] فلمّا نزلها أرسل إليه سلم بن قتيبة حكيم بن عبد الكريم: - «انّك قد أصحرت ومثلك أنفس به على الموت، فخندق على نفسك حتّى لا تؤتى إلّا من مأتى واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره فتخفف [2] فى طائفة حتّى تأتيه فتأخذ بقفاه.» فدعا إبراهيم أصحابه، فعرض ذلك عليهم فقالوا: - «نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم؟ لا والله لا نفعل.» قال: «فنأتيه.» قالوا: «ولم، وهو فى أيدنا متى ما أردناه؟» فقال لى إبراهيم: - «قد سمعت.» قال حكيم: فانصرفت وقد تحقّقت ضعفه باستسلامه لأصحابه. وحكى إبراهيم بن سلم عن أخيه قال: حدّثنى أبى قال: التقينا [450] مع عيسى بن موسى، فخرجت من بين صفّهم وقلت لإبراهيم: - «إن الصفّ إذا انهزم بعضه تداعى فلم يكن له نظام، فاجعلهم كراديس، فإن انهزم كردوس ثبت كردوس.»   [1] . فى الأصل هنا: با حمزى، وفى موطن آخر: با خمرى. فى مط والطبري (10: 311) : باخمرى. وما فى آمهمل. [2] . وما فى الأصل ومط مهمل فى الثالث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 فتنادوا [1] : - «لا، إلّا قتال أهل الإسلام، يريد قوله: إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون فى سبيله صفّا.» [2] وقال المضاء: لمّا نزلنا باخمرى أتيت إبراهيم فقلت: - «إنّ هولاء مصبّحوك بما يسدّ عليك مغرب الشمس من السلاح والكراع، وإنّما معك رجال عراة من أهل البصرة، فدعني أبيّته فو الله لأشتّتنّ جموعه.» فقال، «إنّى أكره القتل.» فقلت: «تريد الملك وتكره القتل!» فالتقوا بباخمرى [3] وهي على ستّة عشر فرسخا من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالا شديدا، وانهزم حميد بن قحطبة، وكان على مقدّمة عيسى، وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة، فلا يلوون ويمرّون منهزمين. وأقبل حميد بن قحطبة منهزما، فقال له عيسى بن موسى: - «يا حميد، الله، الله والطاعة.» قال: «لا طاعة فى الهزيمة.» [451] ومرّ الناس كلّهم، فلم يبق مع عيسى أحد، وثبت عيسى فلم ينهزم، وكان يحفظ وصيّة لأبى جعفر، وهو أنّه لمّا أراد توجيهه، قال عيسى: قال لى المنصور: إنّ هولاء الخبثاء يعنى المنجّمين يزعمون أنّك لاقى الرجل، وأنّ لك جولة حين تلقاه، ثمّ يفيء [4] إليك أصحابك وتكون العاقبة لك.   [1] . فى الأصل: فتنادى. فى آوالطبري (10: 312) : فتنادوا. [2] . 61 الصف: 4 [3] . باخمرا (بالراء) : موضع بين الكوفة وواسط، وهو إلى الكوفة أقرب، به قبر إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن، قتله بها أصحاب المنصور (مراصد الإطلاع) . [4] . ما فى الأصل مهمل وبدون همزة. فى مط: تفي. وفى آ: يفي وما فى الطبري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 فكان كما قال لم يبق معى إلّا ثلاثة. فأقبل علىّ مولى لى وقال: - «جعلت فداءك علام تقيم وقد ذهب أصحابك؟» فقلت: «لا والله، لا ينظر أهل بيتي إلى وجهى أبدا وقد انهزمت عن عدوّهم، فو الله ما كان عندي أكثر من أن أقول لمن مرّبى ممّن أعرف من المنهزمة: اقرأوا أهل بيتي منّى السلام وقولوا لهم: إنّى لم أجد فداء لكم أفديكم به أعزّ علىّ من نفسي وقد بذلتها دونكم.» قال: فو الله إنّا لعلى ذلك منهزمون ما يلوى أحد على أحد.» وكان إبراهيم قد مخر ماء ليكون قتاله من وجه واحد وقيل بل كان مخره آل طلحة. ذكر اتفاق غريب سيّء اتّفق على إبراهيم بعد أن ظفر حتّى هزم وقتل [452] حكى إسحاق بن عيسى بن علىّ قال: سمعت عيسى بن موسى يومئذ يقول لأبى: والله يا با العبّاس لولا ابنا سليمان يومئذ لافتضحنا، وذاك أنّ من صنع الله كان لنا أنّ أصحابنا لمّا انهزموا اعترض لهم نهر ذو ثنيّتين مرتفعتين، فحالتا بينهم وبين الوثوب ولم يجدوا مخاضة، فكرّوا راجعين بأجمعهم على عرض النهر، فظنّ القوم أنّها كرّة فانهزموا وتبعهم ابنا سليمان ومعها مواليه. ونظر إليه أصحابنا ورأوا هزيمة الأعداء بين يديه، فكرّوا بأجمعهم. وأقبل حميد بن قحطبة نحو إبراهيم لا يعرّج على شيء، حتّى خالط القوم وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى حتّى كثرت الرؤوس إلى أن أتى برأس معه   [ () ] (10: 313) هو الصحيح: «يفيء» بقرينة «إلى» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 جماعة كثيرة وضجّة وصياح فقالوا: - «رأس إبراهيم.» فدعا عيسى بن موسى ابن أبى الكرام الجعفري فأراه إيّاه، فقال: - «ليس به.» وجعلوا يقتتلون يومهم ذلك. فذكر عبد الحميد: أنّه سأل أبا صلاية: - «كيف قتل إبراهيم؟» فقال: أسمعه ممّن نظر إليه، وعاينه. كان واقفا على دابّته ينظر إلى أصحاب عيسى قد ولّوا وانهزموا بأجمعهم، ونكص عيسى دابّته القهقرّى وأصحابه يقتلونهم ولم يبق [453] لهم بقيّة، حتّى رأيت قوما ينصرفون ويكرّون ليسوا بشيء. وكان على إبراهيم قباء زرد فأذاه الحرّ، فحلّ أزرار قبائه، فسال الزرد حتّى حسر لبّته، وأتته نشّابة عائرة فأصابت لبّته فرأيته اعتنق فرسه وكرّ راجعا فأطافت به الزيديّة وأصحابه يحمونه، فرأى حميد بن قحطبة اجتماعهم، فأنكره وقال لأصحابه: - «شدّوا على تلك الجماعة حتّى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه.» فشدّوا عليهم وقاتلوهم أشدّ قتال حتّى أفرجوهم عن إبراهيم، فحزّوا رأسه وأتوا به عيسى، فأراه ابن أبى الكرام الجعفري فقال: - «نعم، هذا رأسه.» فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث به إلى أبى جعفر. وذكر أنّ أوائل المنهزمين من أصحاب عيسى دخلوا الكوفة وتأخّر أبو جعفر فقال لحاجبه: - «لا تكشفّن ذلك وأعدد على كلّ باب من أبواب المدينة إبلا ودوابّ، فإن أتينا من ناحية، صرنا إلى الناحية الأخرى.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 فسئل سلم بن فرقد حاجبه: - «إلى أين أراد أبو جعفر يذهب لو دهمه أمر؟» قال: «كان عزم على إتيان الرىّ.» [454] فبلغني [1] أنّ نيبخت المنجّم دخل على أبى جعفر، فقال له: - «يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وستقتل إبراهيم.» فلم يقبل ذلك منه. فقال له: - «احبسنى عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت فاقتلني.» فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثّل ببيت معمر [2] البارقىّ: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وأقطع نيبخت ألفى جريب بنهر جوبر. رأس إبراهيم بين يدي أبى جعفر وما جرى إذ ذاك ويقال: إنّ أبا جعفر لمّا أتى برأس إبراهيم فوضع بين يديه، بكى، ثمّ قال: - «أما والله لقد كنت كارها لهذا، ولكنّى ابتليت بك، وابتليت بى.» وحكى صالح، مولى المنصور: أنّ المنصور لمّا أتى برأس إبراهيم بن عبد الله وضعه [3] بين يديه، وجلس مجلسا عامّا، وأذن للناس، وكان الداخل يدخل فيسلّم ويتناول إبراهيم فيسيء فيه القول، ويذكر منه القبيح التماس رضى أبى جعفر، وأبو جعفر ممسك متغيّر لونه، حتّى دخل جعفر بن حنظلة   [1] . انظر الطبري (10: 317) [2] . فى الطبري (10: 317) المعقّر. وفى حواشيه: معمر. [3] . فى الأصل: ووضعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 البهرائى، فوقف فسلّم ثمّ قال: - «عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين فى ابن عمّك، وغفر له ما فرّط فيه من حقّك.» فأسفر [1] لون أبى جعفر فأقبل [455] عليه وقال: - «أبا خالد، ها هنا، مرحبا وأهلا.» فعلم الناس أنّ ذلك وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قال جعفر. ثمّ دخلت سنة ستّ وأربعين ومائة معاودة بناء بغداد لمّا فرغ المنصور من أمر إبراهيم ومحمّد، عاود بناء بغداد وإتمامه. وكان خالد بن برمك خطّ المدينة وأشار بها. واحتاج المنصور إلى الآلات والأنقاض لأنّ ما كان جمعه قبل ذلك من ساج وغيره أحرقه مولى له يقال له أسلم، وذلك حين بلغه أنّ إبراهيم هزم أبا جعفر. فقال أبو جعفر لخالد: - «ما ترى فى نقض بناء كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟» فقال له خالد: - «ما أرى ذلك يا أمير المؤمنين.» قال: «ولم؟» قال: «لأنّه علم من أعلام الإسلام يستدلّ به الناظر على أنّه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنّما هو أمر دين، ومع هذا، يا أمير المؤمنين، فإنّ   [1] . كذا فى الأصل وآ: فأسفر. فى مط والطبري (10: 318) : فاصفر. أسفر الوجه، حسن وأشرق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 فيه مصلّى علىّ بن أبى طالب عليه السلام.» قال: «هيهات يا خالد، أبيت إلّا الميل إلى أصحابك العجم.» وأمر أن ينقض القصر الأبيض. فنقض ناحية منه ونظر فى مقدار [456] ما يلزمهم من النفقة للنقض والحمل، فوجدوا ذلك أكثر من الجديد لو عمل، فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد، فأعلمه ذلك وقال: - «ما ترى؟» قال: «يا أمير المؤمنين، قد كنت أرى قبل ألّا تفعل، فأمّا إذ بدأت، فأرى أن تتمّم وتهدمه حتّى تلحق بقواعده لئلا يقال: عجزت عن هدم ما بناه غيرك.» فأعرض المنصور عنه، وأمر ألّا يهدم. وكان اللبن الذي لبنه المنصور اللبنة منها ذراع فى ذراع، وقد وزنت لبنة منها بعد ما تهدّم السور وكانت لبنة مكتوب عليها بمغرة [1] : وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فلمّا وزنت وجدت على ما كان مكتوبا عليها من الوزن. ولمّا استتمّ المنصور بناءها قدم عليه بطريق من البطارقة وافدا، فأمر الربيع أن يطوّف به فى المدينة وما حولها ليرى العمران والبناء، فطاف به الربيع، فلمّا انصرف قال: - «كيف رأيت؟» وقد كان أصعد إلى السور وقباب الأبواب، فقال: «رأيت بناء حسنا، إلّا أنّى رأيت أعداءك معك فى مدينتك.» قال: «فمن هم؟» قال: «السوقة.» فأضبّ عليها أبو جعفر، فلمّا انصرف البطريق أمر بإخراج السوق من   [1] . انظر الطبري (10: 322) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 المدينة. ويقال: إنّ السبب كان [457] فى إخراج التّجار من المدينة إلى الكرخ وما قرب منها أنّه قيل لأبى جعفر: إنّ الغرباء وغيرهم يبيتون فيها ولا يؤمن أن تكون فيهم جواسيس أو تفتح أبواب المدينة ليلا لموضع السوق، فأمر بإخراج السوق من المدينة وجعلها للشرط والحرس. وبنى للتجّار باب الكرخ، وباب الشام، وطاق الحرّانى، وباب الشعير، وباب المحوّل. ولمّا طاف أبو جعفر مدينته وأبنيتها استحسن الجميع واستنظفه، غير أنّه استكثر النفقة، وكان مبلغ ذلك على ما وجد فى خزائن المنصور ودواوينه أنّه أنفق على مدينة السلام ومسجد جامعها [1] وقصر الذهب والأسواق والفصلان والخنادق وقبابها وأبوابها أربعة ألف [2] درهم وثمانمائة درهم وثلاثة وثلاثون درهما، ومبلغها من الفلوس مائة ألف [3] فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أنّ الأستاذين البنّائين كان الرجل منهم يعمل يومه بقيراط فضّة، والروز جارين [4] بحبّتين إلى الثلاث حبّات، وذلك لرخص الأسعار وعوز الفضّة، لأنّ المنصور حصّل الأموال فى خزائنه. [458] ثمّ دخلت سنة سبع وأربعين ومائة وفى هذه السنة، كان مهلك عبد الله بن علىّ عمّ أبى جعفر. ذكر السبب فى ذلك حجّ أبو جعفر سنة سبع، بعد تقدمته المهدىّ على عيسى بن موسى وسنذكر   [1] . كذا فى الأصل وآ: ومسجد جامعها. فى الطبري (10: 326) : وجامعها. [2] . فى الطبري: آلاف ألف. [3] . فى الطبري: ألف ألف. آومط والأصل فى كلا الموضعين: أربعة آلاف درهم. [4] . فى الطبري: والروز كارى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 ذلك فيما بعد، وكان عزل عيسى بن موسى عن الكوفة وأرضها، وولّى مكانه محمّد بن سليمان بن علىّ، واستدعاه ودفع إليه عبد الله بن علىّ سرّا فى جوف الليل ثمّ قال له: - «يا عيسى، إنّ هذا أراد أن يزيل النعمة عنّى وعنك، وأنت ولىّ عهدي بعد المهدىّ والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك واقتله، وإيّاك أن تخور أو تضعف فتنقض علىّ أمرى الذي دبّرت.» ثمّ مضى لوجهه من الحجّ، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله ما فعل فى الأمر الذي أوعز إليه، فكان يكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به. فلم يشكّ أبو جعفر فى أنّه قتل عبد الله بن علىّ. وكان عيسى حين دفعه إليه، ستره، ودعا كاتبه يونس بن فروة، فقال له: - «إنّ هذا الرجل دفع إلىّ عمّه، وأمرنى فيه بكذا.» فقال [459] له: - «أراد أن يقتلك ويقتله، إنّه أمرك بقتله سرّا، ثمّ يدّعيه عليك علانية، ثمّ يقيدك به.» قال: «فما الرأى؟» قال: «أن تستره فى منزلك ولا تطلع على أمره أحدا فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية ولا تدفعه إليه سرّا أبدا.» ففعل ذلك عيسى، وقدم المنصور ودسّ على عمومته من يحرّكهم على مسألته هبة عبد الله بن علىّ لهم، وأطمعهم فى أنّه سيفعل. فجاؤوا إليه وكلّموه ورفقوا وذكروا له الرحم، فقال: - «نعم، علىّ بعيسى بن موسى.» فأتاه، فقال: - «يا عيسى، قد علمت أنّى دفعت إليك عمّى وعمّك عبد الله بن علىّ قبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 خروجي إلى الحجّ وأمرتك أن يكون فى منزلك.» قال: «قد فعلت ذلك.» قال: «فقد كلّمنى فيه عمومتك، فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله، فأتنا به.» قال: «يا أمير المؤمنين، ألم تأمرنى بقتله؟ فقتلته.» قال: «لا، ما أمرتك بقتله، إنّما أمرتك بحبسه عندك.» قال: «قد أمرتنى بقتله.» فقال له المنصور: - «كذبت.» ثمّ قال لعمومته: - «إنّ هذا قد أقرّ لكم بقتل أخيكم، وادّعى أنّى أمرته بذلك [460] وقد كذب.» قالوا: «فادفعه إلينا فإنّا نقيده به.» قال: «شأنكم به.» فأخرجوه إلى الرحبة. فاجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه وتقدّم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى: - «أفاعل أنت؟» قال: «إى والله.» قال: «فلا تعجلوا، فإنّ عمّى حىّ، ردّونى إلى أمير المؤمنين.» فردّوه إليه. فقال: - «إنّما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمّك حىّ سوىّ، إن أمرتنى بدفعه إليك دفعته.» قال: «ائتنا به.» فأتاه به، فجعله فى بيت، وكان من أمره ما كان من سقوط البيت عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 فمات وهو ابن اثنتين وخمسين سنة. حوار بين المنصور وابن عياش فحكى أنّ المنصور ركب يوما بعد موت عبد الله بن علىّ، ومعه ابن عيّاش المنتوف، [1] فقال له وهو يحادثه: - «هل تعرف ثلاثة خلفاء مبدأ أسمائهم العين قتلوا ثلاثة ادّعوا الخلافة مبدأ أسمائهم العين؟» قال: - «لا أعرف إلّا ما تقول العامّة أنّ عليّا قتل عثمان وكذبوا، وعبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الأشعث، وسقط البيت على عبد الله بن علىّ.» فقال له المنصور: - «فسقط البيت على عبد الله بن علىّ، فأنا ما ذنبي؟» قال: «ما قلت إنّ لك ذنبا.» وفى هذه السنة خلع [461] المنصور عيسى بن موسى وبايع لابنه المهدىّ وجعله ولىّ عهده بعد المهدىّ ذكر الخبر عن ذلك والحيلة فيه كان أبو جعفر أقرّ عيسى على ما كان أبو العبّاس ولّاه، وكان له مكرما مبجّلا إلى أن عزم على تقديم المهدىّ فى الخلافة عليه فلمّا عزم المنصور على   [1] . ما فى الأصل مهمل. فى آ: المنتوف. فى مط: ابن عباس المنتوق. فى الطبري (10: 331) : ابن عياش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 ذلك كلّم عيسى بن موسى فى تقديم ابنه المهدىّ عليه برقيق الكلام ولطيفه فقال عيسى: - «يا أمير المؤمنين، فكيف بالأيمان والمواثيق التي علىّ وعلى المسلمين لى من الطلاق والعتق وغير ذلك من مؤكّد الأيمان، ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين.» فلمّا رأى أبو جعفر ذلك باعده بعض المباعدة، وقصّر به فى منزلته، فكان يؤذن لعيسى بعد جماعة، ويجلس دون منزلته، وكان مرتبته عن يمين أبى جعفر. ثمّ يخلّط عليه فى أمثال هذه الأشياء، وعيسى صامت لا يتشكّى ولا يستغيث [1] . ثمّ صار إلى أغلظ من ذلك فكان يكون فى المجلس ومعه بعض ولده فيسمع الحفر فى أصل الحائط ويخاف أن يخرّ عليه، وينتثر عليه التراب وربّما [462] نظر إلى الخشبة من سقف المجلس الذي يجلس فيه قد حفر عن أحد طرفيها فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحوّل ويقوم هو إلى الصلاة، ثمّ يأتيه الإذن فيقوم بهيئته والتراب عليه لا ينفضه، فإذا رآه المنصور قال له: - «يا عيسى، ما يدخل علىّ أحد بمثل هيأتك من كثرة الغبار والتراب عليك، أفكلّ هذا من الشارع؟» فيقول: - «أحسب ذاك يا أمير المؤمنين.» وإنّما يكلّمه بذلك يستطمعه أن يشكو إليه شيئا، فلا يشكو. وكان المنصور قد أرسل إليه فى بعض أحواله بعض ما يتلفه من السموم، أو دسّه إليه بحضرته، فنهض من المجلس، فقال له المنصور:   [1] . فى الطبري (10: 332) : لا يسعتب. فى حواشيه: لا يستغيث (كالأصل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 - «إلى أين؟» قال: «أجد غمزا.» قال: «ففي الدار إذا.» قال: «الذي أجده أشدّ من أن أقيم معه فى الدار.» ونهض فصار إلى حرّاقته، [1] ونهض المنصور فى أثره متفزّعا إلى الحرّاقة، فاستأذنه عيسى فى المصير إلى الكوفة، فقال: - «بل تقيم، فتعالج ها هنا.» فأبى وألحّ حتّى أذن له وكان الذي حداه على ذلك طبيبه بختيشوع فإنّه قال له: - «أنت مسموم، وو الله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة.» [463] فاستأذنه، فأذن له، وبلغت العلّة بعيسى كلّ مبلغ حتّى تمعّط [2] شعره، ثمّ أفاق. ويقال إنّ عيسى إنّما كان يمتنع على أبى جعفر لأنّه كان يريّض الأمر لابنه موسى، فبعث أبو جعفر إلى موسى من يخوّفه على نفسه وعلى أبيه، فقال موسى: - «إنّى قد أرى ما يسام أبى من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدىّ، وقد نصبت عليه وجوه الحتوف من السمّ مرّة، وبهدم الحيطان مرّة، وبضروب الإهانات، وليس يعطى على هذا شيئا، ولكن ها هنا وجه واحد لعلّه يعطى عليه إن أعطى، وإلّا فلا.» قال له الواسطة بينه وبين أبى جعفر: - «وما هو؟» قال: «إنّما أقوله إذا أمنت على نفسي، وإنّما هو روحي اجعله فى يده، ولا بدّ   [1] . الحرّاقة: السفينة فيها مرامي نيران يرمى بها العدوّ. [2] . تمعّط الشعر: سمط من داء عرض له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 لى ممّا أثق به وأطمئنّ إليه.» فأعطاه كلّ ما أحبّ من ذلك، فقال: - «يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهده، فيقول له: يا عيسى، إنّى قد علمت أنّك لست تضنّ بهذا الأمر عن المهدىّ لنفسك لتعالى سنّك، وإنّما تضنّ به لمكان ابنك، أفترى أنّى أدع ابنك يبقى بعدك؟ كلّا والله، ولآتينّ عليه وأنت تنظر إليه حتّى تيأس [464] منه ثمّ يأمر بى، فإمّا خنقت، وإمّا شهر علىّ سيف، فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل فى ذلك الوقت، وإلّا فلا.» فقال له: - «جزاك الله خيرا، فديت أباك بنفسك، نعم الرأى رأيت، ونعم المسلك سلكت.» ثمّ أتى أبا جعفر فأخبره، فجزّى موسى خيرا وقال: - «قد والله أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به، ويسّره الله بعاقبة ذلك إن شاء الله.» فلمّا اجتمعوا أقبل المنصور على عيسى بن موسى وقال: - «يا عيسى إنّى لا أجهل مذهبك الذي تضمره ولا مداك الذي تجرى إليه فى الأمر الذي سألتك، إنّما تريد [1] هذا الأمر لا بنك هذا المشؤوم عليك وعلى نفسه، أما والله لأعجلّن لك فيه ما يسوءك. يا ربيع، اخنق موسى بحمائله حتّى تأتى على نفسه.» وقد كان واطأ الربيع على الرفق به. فضمّ الربيع حمائله على عنقه فجعل يخنقه خنقا رويدا وموسى يصيح: - «الله، الله فىّ يا أمير المؤمنين وفى دمى، فو الله إنّى لبعيد ممّا تظنّ بى، وما   [1] . فى الأصل: يريد. فى آ: تريد، وهو الصحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 يبالى عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكرا كلّهم عنده [1] مثلي أو يتقدمني.» وهو يقول: - «اشدد يا ربيع ائت على نفسه.» والربيع يوهم [465] أنّه يريد تلفه وهو يراخى خناقه وموسى يصيح صياح من بلغت نفسه التراقي. فلمّا رأى عيسى ذلك قال: - «يا أمير المؤمنين، والله ما ظننت الأمر يبلغ منك هذا كلّه، فمر بالكفّ عنه، فإنّى لم أكن لأرجع إلى أهلى وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بولدي، فها أنا ذا أشهدك أنّ نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك فى سبيل الله، يصرف ذلك فيمن رأيته يا أمير المؤمنين وهذه يدي بالبيعة للمهدىّ.» فأخذ بيعته على ما أحبّ ثمّ قال له: - «يا با موسى، إنّك قد قضيت حاجتي هذه كارها، ولى حاجة أحبّ أن تقضيها فتغسل بها ما فى نفسي من الحاجة الأولى.» قال: «وما هي يا أمير المؤمنين؟» قال: «تجعل الأمر من بعد المهدىّ لنفسك.» قال: «ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها.» فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتّى قال: - «وأمير المؤمنين أعلم.» فقال بعض أهل الكوفة وقد مرّ به [2] عيسى فى مواكبه:   [1] . فى الأصل: عندي. فى آوالطبري (10: 337) : عنده وهو صحيح. [2] . فى الأصل: بى. فى آ: به. وفى الطبري (10: 338) : عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 - «هذا الذي كان غدا فصار بعد غد.» قول آخر فى وجه خلع المنصور عيسى وقد قيل فى وجه خلع المنصور عيسى قول آخر [1] . وذلك أنّهم ذكروا [466] أنّ عيسى لمّا امتنع أن يجيب المنصور إلى ما أراد وأعياه الأمر، بعث إلى خالد بن برمك فقال له: - «كلّمه يا خالد، فقد اشتدّ امتناعه وإن كانت عندك حيلة فيه فاذكرها، فقد ضلّ عنّا وجه الرأى فيه.» قال: «نعم، يا أمير المؤمنين، تضمّ إلىّ ثلاثين رجلا من كبار الشيعة ممّن تختاره.» فركب خالد وركبوا معه، فصاروا إلى عيسى، فأبلغوه رسالة أبى جعفر، فقال: - «ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله لى الأمر.» فأداره خالد بكلّ وجه من وجوه الطمع والحذر، فأبى عليه، فخرج خالد عنه وخرج الشيعة بعده، فقال [لهم] [2] خالد: - «ما عندكم فى أمره؟» قالوا: «نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره ما كان منك ومنه.» قال: «لا، ولكنّا نخبر أمير المؤمنين أنّه أجاب ونشهد عليه إن أنكره.» فقالوا: «نفعل.» فقال لهم:   [1] . انظر الطبري (10: 345) . [2] . زيادة من آ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 - «ذا هو الصواب، وأبلغ لأمير المؤمنين فيما حاول وأراد.» قال: فصاروا إلى أبى جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنّه قد أجاب فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدىّ. وكتب بذلك إلى الآفاق. قال: وأتى عيسى بن [467] موسى لمّا بلغه الخبر أبا جعفر منكرا لما ادّعى عليه من الإجابة إلى تقديم المهدىّ على نفسه وذكّره الله فيما همّ به، فدعاهم أبو جعفر، فسألهم، فقالوا: - «نشهد عليه أنّه قد أجاب وليس له أن يراجع [1] .» فأمضى أبو جعفر الأمر وشكر لخالد ما كان منه. وكان المهدىّ يعرف ذلك ويصف جزالة الرأى منه فيه. ولمّا رأى عيسى الأمر يتمّ، راسل المنصور وقال: - «يا أمير المؤمنين، أما وقد أبيت، فاجعل لرضاي فيه نصيبا.» فوجّه إليه خالد بن برمك فقرّر أمره على عشرة آلاف ألف درهم له، وثلاثمائة ألف درهم بين أولاده، وسبعمائة ألف لنسائه. وحضر عيسى مجلس المنصور، وحضر معه جماعة الوجوه والأشراف والجند فتكلّم عيسى وقال: - «اشهدوا أنّى خلعت نفسي ممّا كان إلىّ من ولاية العهد، وسلّمته للمهدىّ محمّد بن أمير المؤمنين، وقدّمته على نفسي.» فقال له أبو عبد الله كاتب المهدىّ: - «ليس هكذا أعزّ الله الأمير، ولكن قل ذلك بحقّه وصدقه وأخبر بما رغبت فيه وأعطيته.» قال: «نعم، بعت نصيبي من ولاية العهد [468] من عبد الله أمير المؤمنين،   [1] . كذا فى الأصل وآ: يراجع. فى الطبري (10: 346) : يرجع. وفى حواشيه: يراجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 لابنه محمّد المهدىّ بن أمير المؤمنين، بعشرة آلاف ألف وثلاثمائة ألف لولدي وسبعمائة ألف لنسائي- وسمّاهم واحدا واحدا- بطيب من نفسي وحبّ لتصييرها إليه، لأنّه أولى بها وليس لى يحقّ [1] التقدمة قليل ولا كثير فما ادّعيته بعد يومى هذا منها فإنّى مبطل لا حقّ لى فيه، ولا دعوى ولا طلبة.» وكان ربما ترك الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله حتى كتب الكتاب وختم وشهد عليه الشهود. ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائة ولم يجر فيها شيء ممّا بلغنا تستفاد منه تجربة. ودخلت سنة تسع وأربعين ومائة ولم يجر فيها شيء يكتب وتستفاد منه تجربة. ودخلت سنة خمسين ومائة فممّا جرى فيها [2] خروج اشتادسيس فى أهل هرات وبادغيس وسجستان وغيرها من الكور بخراسان. فكان فيما ذكر، فى زهاء ثلاثمائة ألف مقاتل، فغلبوا على عامّة خراسان. وخرج إليهم جماعة أهل بلدان وأمراء فهزمهم [469] وقتلهم. فوجّه المنصور خازم بن خزيمة إلى المهدىّ، فولّاه المهدىّ محاربة اشتادسيس وضمّ إليه القّواد. وكان المهدىّ يومئذ بنيسابور وكان كاتب المهدىّ أبو عبيد الله ووزيره   [1] . فى الأصل: بحقّ وما فى آومط مهمل. والعبارة فى الطبري (10: 351) : وليس فيها حقّ التقدمة. [2] . انظر الطبري (10: 354) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 يوهن أمر خازم، ويخرج الكتب إلى خازم وغيره من القوّاد بالأمر والنهى. حيلة خازم فى ذلك فاعتلّ خازم وهو فى عسكره يشرب الدواء، ثمّ ركب البريد حتّى قدم على المهدىّ، وأبو عبيد الله يظنّه فى المعسكر ولا يعرف خبره. فلمّا قدم خازم نيسابور ودخل على المهدىّ، استخلاه، فدخل أبو عبيد الله، فأمسك خازم فقال المهدىّ: - «لا عيق [1] عليك من معاوية، فقل ما بدا لك.» فأبى خازم أن يخبره أو يكلّمه، حتّى قام أبو عبيد الله. فلمّا خلا به شكا إليه [2] أبا عبيد الله معاوية وأخبره بعصبيته وتحامله وما كانت ترد من كتبه عليه وعلى من قبله من القوّاد، وما صاروا إليه بذلك من الفساد والتأمّر بأنفسهم والاستبداد بآرائهم وقلّة السمع والطاعة، وأنّ أمر الحرب لا يستقيم إلّا برأس ولا يكون [470] فى عسكره لواء يخفق على رأس أحد إلّا لواؤه أو لواء هو عقده. وأعلمه أنّه غير راجع إلى قتال استادسيس [3] إلّا بتفويض الأمر إليه وإعفائه من معاوية أبى عبيد الله، وأن يسمع منه أو يداخله فيما يدبّره، وأن يكتب إليهم بالسمع والطاعة له. فأجابه المهدىّ إلى كلّ ما سأل، فانصرف خازم إلى عسكره، فعمل برأيه وحلّ لواء من رأى حلّ لوائه من القوّاد، وعقد لمن أراد، وضمّ إليه من كان انهزم من الجند وجعلهم حشوا يكثّر بهم من معه فى أخريات الناس، ولم يقدّ   [1] . فى الأصل وآ ومط: لا عين. فى الطبري (10: 355) : لا عيق عليك من أبى عبيد الله ... وفى حواشيه: لا عين لا غبن. [2] . وفى الطبري (10: 355) : شكا إليه أمر معاوية بن عبيد الله. [3] . فى الطبري (10: 355) : استاذسيس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 مهم لما فى قلوبهم من روعة الهزيمة. وكان من ضمّ إليه من هذه الطبقة اثنين وعشرين ألفا، ثمّ انتخب ستّة آلاف من الجند فضمّهم إلى اثنى عشر ألفا كانوا معه متخيّرين، وكان بكّار بن مسلم العقيلي فيمن انتخب ثمّ تعبّأ للقتال وخندق وجعل بكّارا على مقدّمته، وسمّى لميمنته وميسرته وساقته من ارتضاهم. ثمّ سار إلى موضع اختاره، فنزله وخندق عليه، وأدخل خندقه جميع ما أراد، وأدخل إليه جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب وجعل على كلّ [471] باب منها من أصحابه الذين انتخب وهم أربعة آلاف وجعل مع صاحب مقدّمته، وهو بكّار، ألفين تكملة لثمانية عشر ألفا. فأقبل الأعداء معهم المرور والزبل [1] والفؤوس يريدون دفن الخندق ثمّ الهجوم عليهم. فأتوا الخندق من قبل بكّار بن مسلم، فشدّوا عليه شدّة لم تكن لأصحاب بكّار نهاية دون أن انهزموا، حتّى دخلوا عليهم الخندق، فلمّا رأى ذلك بكّار رمى بنفسه، فترجّل على باب الخندق، ثمّ نادى أصحابه: - «يا بنى الفواجر، أمن قبلي يؤتى المسلمون؟» فترجّل معه من عشيرته وأهله نحو من خمسين رجلا، فمنعوا بابهم حتّى أجلوا الناس عنه، وأقبل إلى الباب الذي كان عليه خازم رجل كان مع استاد سيس [2] من أهل سجستان يقال له الحريش وهو الذي كان يدبّر أمرهم. حيلة لخازم حتّى هزم عدوّه فلمّا رآه خازم مقبلا بعث إلى الهيثم بن شعبة وهو فى الميمنة أن: - «اخرج من بابك الذي أنت عليه، فخذ غير الطريق الذي يوصلك إلى الباب   [1] . فى آ: المروز والزمل. ما فى الطبري (10: 356) : كالأصل. [2] . ما فى الأصل: مهمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 الذي عليه [472] بكّار، فإنّ القوم قد شغلوا بالقتال وبالإقبال علينا، فإذا علوت فجزت مبلغ أبصارهم فأتهم من خلفهم.» وقد كانوا فى تلك الأيّام يتوقّعون قدوم أبى عون وعمر بن سلم بن قتيبة من طخارستان. وبعث خازم إلى بكّار بن مسلم: - «إذا رأيت رايات الهيثم بن شعبة قد جاءتك من خلف فكبّروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان.» ففعل ذلك الهيثم وخرج خازم فى القلب على الحريش السجستاني فاجتلدوا بالسيوف جلادا شديدا وصبر بعضهم لبعض فبينا هم على تلك الحال إذ نظروا إلى أعلام الهيثم وأصحابه فتنادوا فيما بينهم: - «جاء أهل طخارستان.» فلمّا نظر أصحاب الحريش إلى تلك الأعلام ونظر من كان بإزاء بكّار بن مسلم إليها شدّ عليهم [1] أصحاب خازم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم فطعنوهم بالرماح ورموهم بالنشّاب وخرج عليهم أصحاب الميسرة وبكّار بن مسلم وأصحابه من ناحيتهم، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف فقتلهم المسلمون وأكثروا. فكان من قتل منهم فى تلك المعركة نحوا من سبعين ألفا، وأسروا أربعة عشر ألفا ولجأ اشتادسيس [2] إلى جبل فى عدّة من أصحابه يسيرة. [473] فقدّم خازم الأربعة عشر الألف فضرب أعناقهم. وسار إلى المكان الذي لجأ إليه اشتادسيس من الجبل فحصره حتّى نزلوا على حكم أبى عون. وكان أبو عون قدم بعد الوقعة، وقالوا:   [1] . فى مط: عليه. [2] . اشتادسيس. مهمل فى الأصل فى كل الأمكنة إلّا هنا فهو هنا معجم فى الثاني وإعجام الياء من الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 - «لا نرضى إلّا بأبى عون.» فرضي خازم وأعطاهم النزول على حكم أبى عون، فلمّا نزلوا أمر أبو عون أن يوثق اشتادسيس وبنوه وأهل بيته بالحديد وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفا، فأنفذ ذلك خازم من حكم أبى عون. وكتب خازم بالفتح إلى المهدىّ، وكتب به المهدىّ إلى المنصور. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة وفيها بنى المنصور الرّصافة فى الجانب الشرقىّ من بغداذ [1] لابنه المهدىّ. ذكر السبب فى ذلك انصرف المهدىّ من خراسان إلى بغداد وشغّبت الروندية وحاربوه على باب الذهب، فدخل قثم بن العبّاس بن عبيد الله بن العبّاس، على المنصور وهو يومئذ شيخ كبير مقدّم عند القوم، فقال له أبو جعفر: - «أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا [474] قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر عنّا، فما ترى؟» قال: - «يا أمير المؤمنين، عندي فى هذا رأى إن أنا أظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيه صلحت لك خلافتك وهابك جندك.» قال له: «أفتمضي فى خلافتي أمرا لا تعلمني ما هو؟» فقال: «إن كنت عندك متّهما على دولتك فلا تشاورنى، وإن كنت مأمونا عليها فدعني أمضى رأيى.»   [1] . بغداذ: هو فى الأصل بالذال المعجمة حينا وبالمهملة أحيانا كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 قال له: «فأمضه.» قال: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاما له فقال: - «إذا كان غدا فتقدمني فاجلس فى دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتنى قد دخلت وتوسّطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، واستوقفنى واستحلفني بحقّ رسول الله صلّى الله عليه وحقّ العبّاس وحقّ أمير المؤمنين، لمّا وقفت لك، وسمعت مسألتك، وأجبت عنها، فإنّى أنتهرك وأغلّظ لك القول، فلا يهولنّك ذلك منّى، وعاودني بالمسألة، فإنّى سأشتمك فلا يهولنّك، وعاودني القول والمسألة، فإنّى سأضربك بالسوط فلا يشقّنّ ذلك عليك، وقل لى: - «أىّ الحيّين أشرف، اليمن أم مضر؟» فإذا أجبتك فخلّ عنان بغلتي وأنت حرّ.» قال: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره به مولاه [475] من دار الخليفة، فلمّا جاء الشيخ فعل الغلام ما أمره به، وفعل المولى ما كان قال له وقال: - «أىّ الحيّين أشرف، اليمن أم مضر؟» فقال له قثم: - «مضر، منها رسول الله صلّى الله عليه وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله.» قال: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيئا من شرفها. فقال قائد من قوّاد أهل اليمن لغلامه: - «قم، فخذ بعنان بغلة الشيخ فاكبحها كبحا عنيفا تطامن [1] منه.» ففعل الغلام ما أمر به مولاه حتّى كاد يقعيها [2] على عراقيبها فامتعضت من   [1] . فى الطبري (10: 366) تطامن به منه. [2] . كذا فى الأصل والطبري (10: 366) : يقعيها. فى مط: يعقبها (بتقديم العين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 ذلك مضر فقالت: - «أيفعل هذا بشيخنا؟» فأمر رجل منهم غلامه فقال: - «اقطع يد العبد.» فقام إلى غلام اليمانىّ فقطع يده فنفر الحيّان وضرب قثم بغلته، فدخل على أبى جعفر، وافترق الجند، وصارت مضر فرقة واليمن فرقة وربيعة فرقة والخراسانية فرقة. فقال قثم: - «قد فرّقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كلّ حزب منهم يخاف أن يحدث حدثا عليك فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك فى التدبير بقيّة.» قال: «وما هي؟» قال: «اعبر بابنك، فابن له فى ذلك الجانب قصرا، وحوّل معه من جيشك قوما، فيصير [476] ذلك بلدا، وهذا بلدا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب، ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسدت عليك مضر، ضربتها بمن أطاعك من اليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن، ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها.» فقبل رأيه ومشورته، فاستوى له ملكه، وكان [ذلك] [1] السبب فى بناء الجانب الشرقىّ وهي الرصافة أوّلا وإقطاع القوّاد هناك. ثمّ دخلت سنة اثنتين وخمسين [ومائة] [2] ولم يجر فيها ما تستفاد منه تجربة.   [1] . ما بين المعقوفتين اضفناها من الطبري (10: 367) . [2] . أضفناها عن آومط والطبري (10: 369) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 ودخلت سنتا ثلاث وأربع [وخمسين ومائة] : [1] ولم يجر فيها أيضا شيء تستفاد منه تجربة. ثمّ دخلت سنة خمس وخمسين ومائة وفيها بنى المنصور مدينة الرافقة، ووجّه ابنه المهدىّ لبنائها، فبناها على [بناء] [2] مدينة بغداد فى أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وخندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة. وجعل ما أنفق على ذلك من أموال أهلها. فيحكى: أنّه لمّا أراد بناء سور الكوفة وحفر الخندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم [3] خمسة دراهم على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم، فلمّا عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهما من كلّ إنسان، [477] فجبوا [4] . ثمّ أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر الخندق لها، فقال شاعرهم: يا لقوم [5] ما لقينا ... من أمير المؤمنينا قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا عزل أسيد عن الجزيرة وفيها عزل المنصور يزيد بن أسيد عن الجزيرة وولّاها أخاه العبّاس بن محمّد، فشكا يزيد إلى أبى العبّاس فقال:   [1] . أضفناها عن آومط والطبري (10: 367) [2] . تكلمة من الطبري (10: 373) [3] . فى الأصل وآ: درهم فى كلا الموضعين. [4] . الضبط من الأصل. [5] . فى الطبري (10: 374) : تقومى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 - «يا أمير المؤمنين، إنّ أخاك أساء عزلى وشتم عرضي.» فقال له المنصور: - «اجمع بين إحسانى إليك وإساءة أخى يعتدلا.» فقال يزيد: - «يا أمير المؤمنين، إذا كان إحسانكم جزاء بإساءتكم، كانت طاعتنا لكم تفّضلا منّا عليكم.» ودخلت سنتا ستّ وسبع وخمسين ومائة ولم يجر فيهما ما تستفاد منه تجربة. ثمّ دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة وفيها غضب المنصور على محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن علىّ وكان أمير مكّة. غضب المنصور على محمد بن ابراهيم وكان السبب فى ذلك أنّ المنصور كتب إليه يأمره بحبس رجل من آل أبى طالب وبحبس الثوري وابن جريح وعبّاد بن كثير، فحبسهم [1] وكان له سمّار بالليل فلمّا كان وقت سمره [478] أبلس وأكبّ على الأرض ينظر إليها ولم ينطق بحرف، حتّى تفرّقوا. قال: فدنوت منه فقلت: - «قد رأيت ما بك، فما لك؟» قال:   [1] . وزاد فى الطبري (10: 385) : فأطلقهم بغير إذن أبى جعفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 - «عمدت إلى ذى رحم برسول الله، صلّى الله عليه، فحبسته، وإلى عيون من عيون المسلمين فحبستهم ويقدم أمير المؤمنين السنة، فلا أدرى ما يكون، ولعلّه أن يأمر بقتلهم فيقوى سلطانه وأهلك ديني.» قال: فقلت: «فتصنع ماذا؟» قال: «أوثر الله، وأطلق القوم، اذهب إلى إبلى فخذ راحلة منها، وخذ خمسين دينارا، فأت بها الطالبي، فأقرئه السلام وقل له: ابن عمّك يسألك أن تحلّه من ترويعه إيّاك، وتركب هذه الراحلة وتأخذ هذه النفقة.» قال: فلمّا أحسّ بى، جعل يتعوّذ بالله من شرّى، فلمّا أبلغته الرسالة قال: - «هو فى حلّ ولا حاجة بى إلى النفقة ولا إلى الراحلة.» قال: فقلت له: - «إنّ أطيب لنفسه أن تأخذ.» ففعل. ثمّ جئت إلى ابن جريح وإلى سفيان وعبّاد فأبلغتهم ما قال، قالوا: - «هو فى حلّ.» قال: قلت لهم: - «لا يظهرنّ أحد منكم ما دام المنصور مقيما.» فلمّا قرب المنصور، وجّهنى محمّد بن إبراهيم بألطاف، فلمّا أخبر المنصور أنّ رسول محمّد بن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها. فلمّا صار إلى بئر ميمون لقيه محمّد بن إبراهيم [479] فلمّا أخبر بذلك أمر بدوابّه فضربت وجوهها، فعدل محمّد فكان يسير فى ناحية، وعدل بأبى جعفر عن الطريق فى الشقّ الأيسر فأنيخ به، ومحمّد واقف قبالته ومعه طبيب له، فلمّا ركب أبو جعفر وسار، أمر محمّد الطبيب، فمضى إلى مناخ أبى جعفر فرأى نجوه، فقال لمحمّد: - «رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 فلمّا دخل مكّة لم يلبث أن مات، وسلم محمّد. ولمّا مات المنصور، وكان ذلك لستّ خلون من ذى الحجّة، كتمه الربيع، وأحضر أهل بيته وذوى الأسنان منهم، ثمّ أحضر عامّتهم، وأخذ بيعتهم للمهدىّ، ثمّ لعيسى بن موسى من بعده. فلمّا فرغ من بيعتهم، دعا بالقوّاد حتّى بايعوا. ولم يتكلّم أحد إلّا علىّ بن عيسى بن ماهان، فإنّه أبى عند ذكر عيسى بن موسى أن يبايع، فلطمه محمّد بن سليمان وأمصّه [1] وقال: - «من هذا العلج؟» وهمّ بضرب عنقه، فبايع، ثمّ تتابع الناس بالبيعة. وتوفّى وله نيّف وستون سنة، واختلف فى النيّف، وكانت ولايته اثنتين وعشرين سنة. ذكر بعض سير المنصور [480] ذكر الفضل بن الربيع حكاية عن أبيه قال: بينا أنا قائم بين يدي المنصور إذ أتى بخارجى قد هزم له جيوشا، فأقامه ليضرب عنقه، ثمّ اقتحمته عينه فقال: - «يا بن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش؟» فقال له الخارجي: - «ويلك، سوءة لك، بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسبّ، ما كان يؤمنك أن أردّ عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها أبدا.» قال: فاستحيى منه المنصور فأطلقه، وما رأى أحد وجهه حولا. وحكى سلّام الأبرش قال: كنت وأنا وصيف [2] وغلام آخر نخدم المنصور، وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج للناس وأشدّهم احتمالا   [1] . فى آومط: وأمضه. والطبري (10: 389) كالأصل. [2] . فى آ: كنت أنا ووصيف وغلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثيابه تغيّر لونه وترّبد وجهه واحمرّت عيناه، فيخرج ويكون منه ما يكون، فإذا رجع، عاد لمثل ذلك فنستقبله فى ممشاه، فربّما عاتبنا، وقال لى يوما: - «يا بنىّ، إذا رأيتمونى قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي فلا يدنونّ أحد منكم منّى لا أعرّه بشرّ [1] .» وقال المنصور يوما: - «ما كان أحوجنى أن يكون على بابى أربعة نفر لا يكون أعفّ منهم.» قيل له: - «ومن هم يا أمير المؤمنين؟» [481] قال: «هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلّا بهم، كما أنّ السرير لا يصلح إلّا بأربع قوائم إن نقصت قائمة واحدة لم تستقم، أمّا أحدهم فقاض لا تأخذه فى الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة يأخذ للضعيف من القوىّ، والثالث، صاحب خراج يستقصى لى ولا يظلم الرعيّة، فإنّى غنّى عن ظلمهم.» ثمّ عضّ على إصبعه السبّابة وقال: - «آه، آه.» قيل له: «يا أمير المؤمنين، ومن هو [2] ؟» قال: «صاحب بريد يكتب إلىّ بخبر هولاء على الصّحة.» وقدّم إلى المنصور رجلان أحدهما شامىّ والآخر عراقىّ وقد ولّاهما خراج ناحيتهما، فقال للشامىّ بعد ما وصّاه وتقدّم إليه بما أراد: - «ما أعرفنى بما فى نفسك، كأنّى بك وقد خرجت من عندي فقلت الزم   [1] . فى الطبري (10: 393) : مخافة أن أعرّه بشيء. [2] . فى مط: ومن هو الرابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 الصحّة يلزمك العمل.» وقال للعراقىّ بعد ما وصّاه: - «ما أعرفنى بما فى نفسك كأنّى بك وقد خرجت من عندي فقلت: من عال بعدها فلا انجبر [1] اخرج عنّى وامض إلى عملك، وو الله لئن تعرّضت لذلك لأبلغنّ من عقوبتك ما تستحقّه.» قال: فولّيا جميعا وناصحا. وذكر إسحاق بن عيسى بن موسى أنّ المنصور ولّى [482] رجلا من العرب حضرموت، [2] فكتب إليه صاحب البريد: إنّه يكثر الخروج فى طلب الصيد وقد أعدّ بزاة وكلابا كثيرة. فكتب إليه: - «ثكلتك أمّك وعدمتك عشيرتك ما هذه العدّة التي جمعتها، للنكاية فى الوحش؟ إنّما استكفيناك أمور المسلمين ولم نستكفك أمور الوحش، سلّم ما كنت تلى من عملنا إلى فلان، والحق بأهلك ملوما مدحورا.» وذكر الهيثم بن عدىّ أنّ ابن عيّاش حدّثه أنّ ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط والمنصور بإزائه: - «إنّى خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغني تجبينك إيّاى.» فكتب إليه: - «يا بن هبيرة، إنّك متعدّ طورك، جار فى عنان غيّك، يعدك الشيطان ما الله مكذّبه، ويقرّب لك ما الله مباعده، فرويدا تتمّ الكلمة، ويبلغ الكتاب أجله، و   [1] . فى الطبري (10: 399) : اجتبر. وفى حواشيه: الخبر، انجبر. فى آ: انجبر [2] . كذا فى الأصل وآ والطبري (10: 399) : من العرب حضرموت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 قد ضربت لك مثلي ومثلك: بلغني أنّ أسدا لقى خنزيرا، فقال له الخنزير: قاتلني. فقال له الأسد: إنّما أنت خنزير، ولست لى بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل: قتل الأسد خنزيرا، [483] فلم أعتقد [1] بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان سبّة علىّ. فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع، فأعلمتها أنّك نكلت عنّى، وجبنت عن قتالي. فقال الأسد: احتمالي عار كذبك أيسر من لطخ شاربي بدمك.» وذكر لأبى جعفر تدبير هشام بن عبد الملك فى حرب كانت له، فبعث إلى رجل يصحبه قديما ينزل [2] رصافة هشام، يسأله عن تلك الحرب، فقدم عليه فقال: - «أنت صاحب هشام؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين.» قال: «فأخبرني كيف صنع فى حرب دبّرها فى سنة كذا؟» فقال: - «إنّه عمل فيها، رحمة الله عليه، كذا وكذا، ثمّ أتبع بأن فعل، رضى الله عنه، كذا وكذا.» فأحفظ ذلك المنصور فقال: - «قم، غضب الله عليك، تطأ بساطي وتترحّم على عدوّى.» فقام الشيخ وهو يقول: - «إنّ لعدوّك قلادة فى عنقي ومنّة فى رقبتي لا ينزعها عنّى إلّا غاسلى.» فأمر بردّه وقال:   [1] . كذا فى آوالطبري (10: 412) . [2] . فى الطبري (10: 412) : ينزل الرصافة، رصافة هشام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 - «اقعد، هيه، كيف قلت وما صنع بك؟» فقال: - «إنّه كفاني الطلب، وصان وجهى عن السؤال، فلم أقف على باب عربىّ ولا عجمىّ منذ رأيته، أفلا يجب علىّ أن أذكره بخير وأتبعه [484] بثنائى؟» قال: «بلى والله، لله أمّ نهضت عنك وليلة أدّتك، أشهد أنّك نهيض حرّة وغراس كريم.» ثمّ استمع منه، وأمر له ببرّ. فقال: - «يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلّا تشرّف بحبائك وتبّجح بصلتك.» وأخذ الصلة وخرج. فقال المنصور: - «لمثل هذا تحسن الصنيعة، ويوضع المعروف. ويجاد بالمصون، وأين فى عسكرنا مثله!» وأبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل وكثّرا. قال: فدخل الربيع عليه، فقال: - «يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء والناس يقولون ... » قال: «ما يقولون؟» قال: - «يقولون: عليل.» قال: فأطرق قليلا وقال: - «يا ربيع، مالنا وللعامّة، إنّما تحتاج العامّة إلى ثلاث خلال، فإذا فعل بهم فما حاجتهم إذا أقيم لهم من ينظر فى أحكامهم، وينصف بعضهم من بعض، ويؤمن سبلهم حتّى لا يخافوا ليلهم ونهارهم، ويسدّ ثغورهم وأطرافهم حتّى لا يجيئهم عدوّهم، وقد فعلنا ذلك بهم.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 ثمّ مكث أيّاما وقال: - «يا ربيع، اضرب الطبل.» فركب حتّى رأته [485] العامّة. وظفر المنصور برجل من كبراء بنى أميّة فقال: - «إنّى أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان.» قال: «نعم.» فقال له المنصور: - «من أين أتى بنو أميّة حتّى انتشر أمرهم؟» قال: «من تضييع الأخبار.» وكان المنصور يقول: ليس بإنسان من أسدى إليه معروف فنسيه قبل الموت. وكان يقول: العرب تقول: العرى القادح خير من الزّى الفاضح. ودخل على المنصور رجل من أهل العلم فازدراه واقتحمته عينه فجعل لا يسأله عن شيء إلّا وجده عنده. فقال له: - «أنّى لك هذا العلم.» قال: «لم أبخل بعلم علمته، ولم أستحى من علم أتعلّمه.» قال: «فمن هناك.» وكان المنصور كثيرا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال فى غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئا أو لاحيا. وكان المنصور يقول: الملوك تحتمل كلّ شيء من أصحابها إلّا ثلاثا: إفشاء السرّ، والتعرّض للحرمة، والقدح فى الملك. ولمّا حمل عبد الجبّار بن عبد الرّحمن الأزدى إلى المنصور بعد خروجه عليه، قال له: - «يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة.» [486] قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 - «تركتها وراءك يا بن الخناء» . وخطب يوما بمدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: - «لا تظالموا، فإنّها ظلمة يوم القيامة. والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم وأسواقكم، ولو علمت مكان من هو أحقّ منّى بهذا الأمر، لأتيته حتّى أدفعها إليه.» وقال يوما: «من علم أنّه إنّما صنع إلى نفسه، لم يستبطئ الناس فى شكرهم ولم يستزدهم فى مودّتهم، فلا تلتمس من غيرك شكر ما أتيته إلى نفسك ووقيت به عرضك، واعلم أنّ طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن ردّه. وخطب يوما فقال: - «الحمد لله أحمده واستعين به وأتوكلّ عليه، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له ... » فاعترض معترض عن يمينه فقال: - «أيها الإنسان، أذكّرك من ذكّرت به.» فقطع الخطبة وقال: - «سمعا، سمعا لمن حفظ عن الله، وذكّر به، وأعوذ بالله أن أكون جبّارا عنيدا، [1] وأن تأخذنى العزّة بالإثم، [2] لقد ضللت إذا وما [487] أنا من المهتدين. [3]   [1] . انظر، س 14 ابراهيم: 15. [2] . انظر، س 2 البقرة: 206. [3] . انظر، س 6 الانعام: 56. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 - «وأنت أيّها القائل، فو الله ما أردت بهذا صلاحا، ولكنّك حاولت أن يقال: قام، فقال، فعوقب فصبر، وأهون بها. ويلك لو هممت فاهتبلها إذ غفرت. وإيّاك وإيّاكم [1] أيّها الناس وأختها، فإنّ الحكمة علينا نزلت ومن عندنا فصلت فردّوا الأمر إلى أهله يوردوه موارده ويصدروه مصادره.» ثمّ عاد فى خطبته كأنّما يقرأها من راحته: - «و ... أشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ... » وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبى مسلم فقال: - «أيّها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسرّوا غشّ الأئمّة، فإنّه لم يسرّ أحد منكم قطّ منكرة إلّا ظهرت فى آثار يده أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه بإعزاز دينه وإعلاء حقّه. إنّا لم نبخسكم حقوقكم ولم نبخس الدين حقّه عليكم، إنّه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبئ [2] هذا الغمد، وإنّ أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنّه من نكث بنا فقد أباح دمه. ثمّ نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا [3] ولم نمنعنا رعاية الحقّ له من إقامة [488] الحقّ عليه.» وكتب صاحب أرمينية [4] إلى المنصور، إنّ الجند شغبوا عليه وكسروا أقفال بيت المال، فأخذوا ما فيه.» فوقّع فى كتابه: - «اعتزل عملنا مذموما، فلو عقلت لم يشغّبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.»   [1] . فى الأصل: تكرر «إيّاكم» وما أثبتناه يؤيده آوالطبري (10: 427) . [2] . فى الطبري (10: 433) : خبىّ. [3] . انظر الطبري (10: 433) . [4] . انظر الطبري (10: 436) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 خلافة المهدى وفى هذه السنة بويع للمهدىّ واسمه محمّد بن عبد الله بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس. ودخلت سنة تسع وخمسين ومائة وفيها أمر المهدىّ بإطلاق من كان فى سجن المنصور، إلّا من كان قبله تباعة فى دم أو قتل، أو من كان معروفا بالسعي فى الأرض بالفساد وكان لأحد قبله مظلمة أو حقّ، فأطلقوا. وكان ممّن أطلق من المطبق يعقوب بن داود مولى بنى سليم، وكان معه فى ذلك الحبس محبوسا الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام فلم يطلق. وارتفع يعقوب بن داود واختصّ بالمهدىّ حتّى سمّاه أخا فى الله. ذكر السبب فى ذلك لمّا أطلق يعقوب بن داود ولم يطلق الحسن بن إبراهيم ساء ظنّ الحسن وخاف على نفسه [489] فالتمس مخرجا لنفسه وخلاصا، فبعث إلى بعض ثقاته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 فحفر له سربا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس. وكان يعقوب بن داود بعد أن أطلق يطيف با بن علّاثة وهو قاضى المهدىّ بمدينة السلام ويلزمه حتّى أنس به، وعرف يعقوب ما عزم عليه الحسن بن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علّاثة فأخبره أنّ عنده نصيحة للمهدىّ، وسأله إيصاله إلى أبى عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره وحذّره فوتها، فانطلق ابن علّاثة إلى أبى عبيد الله، فأخبره خبر يعقوب وما جاءه به، فأمر بإدخاله عليه. فلمّا دخل سأله إيصاله إلى المهدى ليورد عليه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلمّا دخل على المهدىّ، شكر له بلاءه عنده فى إطلاقه إيّاه، ثمّ أخبره أنّ له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبى عبيد الله وابن علّاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدىّ ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتّى يقوما، فأقامهما، فأخلاه، فأخبره خبر الحسن بن إبراهيم وما أجمع به، وإنّ ذلك كائن من ليلته المستقبلة. فوجّه المهدىّ من وثق به ليأتيه بخبره فأتاه بتحقيق ما أخبره به [490] يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل فى حبسه إلى أن احتال أو أحتيل له، فخرج هاربا وافتقد فشاع هربه، فطلب فلم يظفر به، وتذكّر المهدىّ دلالة يعقوب إيّاه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه فى أمره، فسأل أبا عبيد الله عنه، فأخبره أنّه حاضر. وقد كان لزم أبا عبيد الله فدعا به المهدىّ خاليا فذكر له ما كان من فعله فى أمر الحسن بن إبراهيم أولّا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فأخبره يعقوب أنّه لا علم له بمكانه، وأنّه إن أعطاه أمانا [1] يثق به، ضمن له أن يأتيه به، على أن يتمّ له على أمانه ويصله ويحسن إليه. فأعطاه المهدىّ ذلك فى مجلسه وضمنه له.   [1] . أمانا: فى آ: ضمانا. والطبري (10: 463) كالأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 فقال له يعقوب: - «فاله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه، فإنّ ذلك يوحشه، ودعني وإيّاه حتّى أحتال له فآتيك به.» قال يعقوب: - «يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيّتك وأنصفتهم وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لم تدع [491] النظر فيها بمثل ما فعلت فى غيرها، وأشياء مع ذلك وخلف بابك يعمل بها لا تعلمها، فإن جعلت لى السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لى فى رفعها إليك، فعلت.» فأعطاه المهدىّ ذلك وجعله إليه وصيّر سليما الخادم الأسود خادم المنصور سببه [فى] [1] إعلام المهدىّ بمكانه كلّما أراد الدخول. فكان يعقوب يدخل على المهدىّ ليلا ويرفع إليه النصائح فى الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزّاب وفكاك الأسارى والمحبّسين والقضاء على الغارمين والصدقة على المتعفّفين. فحظى بذلك عنده وربما رجا أن ينال به من الظفر بالحسن بن إبراهيم، واتخذه أخا فى الله وأخرج بذلك توقيعا ثبت فى الدواوين ووصله بمائة ألف، وكانت أوّل صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدا إلى أن صيّر الحسن بن إبراهيم فى يد المهدىّ. تحرّك الشيعة ووجوه أهل خراسان وفى هذه السنة [2] تحرّك قوم من الشيعة ووجوه أهل خراسان، وسعوا فى   [1] . فى الأصل: واعلام. ولا يستقيم معه المعنى. وما بين المعقوفتين من الطبري (10: 464) . فى عح (271) : يعلم المهدىّ. [2] . سنته 159. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 خلع عيسى بن موسى وتصيير ولاية العهد [492] لموسى بن المهدىّ. فكتب المهدىّ إلى عيسى بن موسى وهو بالكوفة، فى القدوم عليه. فأحسّ عيسى بما يراد منه، فامتنع حتّى خشي من انتقاضه وألحّ المهدىّ عليه حتّى كتب إليه: - «إنّك إن امتنعت من المجيء استحللت منك لمعصيتك ما يستحلّ من العاصي، وإن أجبتنى وخلعت نفسك حتّى أبايع لموسى وهارون عوّضتك ما هو أجدى عليك وأعجل نفعا.» فأجابه فبايع لهما، وأمر له بعشرة آلاف ألف، [1] ويقال بعشرين ألف ألف وقطائع كثيرة. فامتنع وراوغ، فوجّه إليه محمّد بن فرّوخ وهو أبو هريرة القائد فى ألف رجل من أصحابه ذوى البصائر فى التشيّع، وجعل مع كلّ رجل منهم طبلا، وأمرهم أن يضربوا جميعا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلا فى وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بن موسى روعا شديدا. ثمّ دخل عليه أبو هريرة فأمره بالشخوص، فاعتلّ بالشكوى، فلم يقبل ذلك منه وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام. ودخلت سنة ستين ومائة قدوم عيسى بن موسى وفيها قدم عيسى بن موسى مع أبى هريرة لستّ خلون من المحرّم، وأقام أيّاما [493] يختلف إلى المهدىّ على رسمه لا يكلّم ولا يرى جفوة ولا مكروها حتّى أنس بعض الأنس. ثمّ حضر الدار يوما قبل جلوس المهدىّ، فدخل مجلسا كان يكون للربيع فى مقصورة صغيرة عليها باب، وقد اجتمع   [1] . وزاد فى مط: درهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 رؤساء الشيعة فى ذلك اليوم على خلعه والوثوب به، ففعلوا ذلك وضربوا الباب بجرزهم وعمدهم، فهشموا الباب وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح شتم، وأظهر المهدىّ إنكارا لذلك فلم يزعهم [1] ذلك، بل زادوا إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من قومه وأهل بيته بحضرة المهدىّ وأبوا إلّا خلعه وشتموه فى وجهه وكان أشدّهم عليه محمّد بن سليمان. فلمّا رأى المهدىّ ذلك من رأيهم، أمر عيسى بموافقتهم، ودعاه إلى الخروج ممّا له من العهد فى أعناق المسلمين وتحليلهم منه، فأبى، وذكر أنّ عليه أيمانا محرّجة فى ماله وأهله فأحضر له من الفقهاء والقضاة، منهم محمّد بن عبد الله بن علاثة [2] وغيره من أفتاه بأن يبتاع أمير المؤمنين ما له فى أعناق الناس بما له فيه رضاه ممّا يخرج منه من ما له لما يلزمه من الحنث فى يمينه، وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر، فقبل ذلك [494] عيسى وخلع نفسه على المنبر، وبويع لموسى بعد المهدىّ. وكتب عليه بذلك كتاب قرئ عليه بحضرة الأشراف والقضاة والعدول، فاعترف به، وبذل خطّه [3] فيه وشهد فيه أربعمائة وثلاثون رجلا من بنى هاشم والصحابة من قريش والموالي والوزراء والكتّاب والقضاة. حجّ المهدىّ وما كان منه فى مكّة والمدينة وفى هذه السنة حجّ المهدىّ بالناس وحجّ معه ابنه هارون وجماعة من أهل بيته. وكان ممّن شخص معه يعقوب بن داود على منزلته الرفيعة التي كانت   [1] . فى الأصل: يزعمهم. وهو خطأ. فى آومط: يزعهم. فى الطبري (10: 471) وعح (271) : يرعهم. [2] . لا شدّة عليه هنا فى الأصل وفى الطبري (10: 472) . [3] . انظر الطبري (10: 474) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 عنده، فأتاه حين وافى مكّة بالحسن بن إبراهيم بن عبد الله الذي كان استأمن له، فأحسن المهدىّ صلته وجائزته وأقطعه مالا من الصوافي بالحجاز. وفيها نزع المهدىّ كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة، وذلك أنّ حجبة الكعبة رفعوا إليه أنّهم يخافون أن تنهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر بتنحية ما عليها [1] حتّى بقيت مجرّدة ثمّ طلى البيت بالخلوق وكسى. وحكى أنّهم لمّا بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجا ثخينا جدا، ووجدوا كسوة من كان قبله عامّتها من متاع اليمن. وقسّم المهدىّ فى هذه السنة مالا عظيما فى أهل مكّة والمدينة. فذكر أنّه قسّم فى تلك السفرة [495] ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فوهب ذلك كلّه وفرّق من الثياب مائة ألف وخمسين ألف ثوب، ووسّع مسجد رسول الله، صلّى الله عليه، وأمر بنزع المقصورة التي فى المسجد فنزعت وأراد أن ينقض منبر رسول الله، صلّى الله عليه، فيعيده إلى ما كان عليه ويلقى منه ما كان معاوية زاد فيه، فشاور فى ذلك مالك بن أنس، فقيل له: - «إنّ المسامير قد سلكت فى الخشب الذي أحدثه معاوية فى الخشب الأوّل وهو عتيق ولا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن ينكسر، فتركه المهدىّ على ذلك. ثمّ دخلت سنة إحدى وستين ومائة خروج المقنّع بخراسان وفيها خرج حكيم المقنّع بخراسان، وكان يقول بتناسخ الأرواح، فاستغوى   [1] . «فأمر بتخية ما عليها.» غير موجودة لا فى الأصل ولا فى آ، زدناها من مط. فى الطبري: فأمر أن يكشف عنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 بشرا كثيرا، وقوى وسار إلى ما وراء النهر، فوجّه المهدىّ لقتاله عدّة من قوّاده فيهم معاذ بن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ثمّ أفرد المهدىّ لمحاربته سعيدا الحرشىّ، وضمّ إليه هولاء القوّاد. وابتدأ المقنّع بجمع الطعام فى قلعة [496] بكسّ [1] عدّة للحصار. ظفر بشر بعبد الله بن مروان وفيها ظفر بشر بن محمّد بن الأشعث الخزاعي بعبد الله بن مروان بالشام فقدم به على المهدىّ فجلس المهدىّ مجلسا عامّا فى الرصافة وقال: - «من يعرف هذا؟» فقام عبد العزيز بن مسلم العقيلي فصار معه قائما ثمّ قال له: - «أبا الحكم؟» قال: «نعم.» قال: «كيف كنت بعدي؟» ثمّ التفت إلى المهدىّ فقال: - «نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بن مروان.» فعجب الناس من جرأته ولم يعرض له المهدىّ بشيء. ثمّ جاء بعد ذلك بأيّام عمرو بن سهلة الأشعرى فادّعى أنّ عبد الله بن مروان قتل أباه وكثرت الحيل على عبد الله بن مروان. فقدّم عمرو بن سهلة عبد الله بن مروان إلى عافية القاضي وادّعى عليه، فتوجّه الحكم أن يقاد به، وأقام عليه البيّنة. فلمّا كاد الحكم يبرم، جاء عبد العزيز بن مسلم العقيلي إلى عافية القاضي يتخطّى رقاب الناس حتّى صار إليه فقال:   [1] . فى الطبري (10: 484) بالشين المعجمة: بكشّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 - «يزعم عمرو بن سهلة أنّ عبد الله بن مروان قتل أباه. كذب والله، ما قتل أباه غيرى أنا، قتلته بأمر مروان، وعبد الله بن مروان من دمه بريء.» فزالت عن عبد الله بن مروان [1] ولم يعرض المهدىّ لعبد العزيز بن مسلم، لأنّه قتله بأمر مروان. [497] وفيها أمر المهدىّ يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء من قبله إلى جميع الآفاق، ففعل. وكان لا ينفذ للمهدىّ كتاب إلى عامل فيجوز حتّى يكتب يعقوب إلى ثقته وأمينه بإنفاذ ذلك. واتّضعت منزلة أبى عبيد الله وزير المهدىّ ذكر السبب فى ذلك كان الربيع يخلف أبا عبيد الله عند المنصور بجميل أيّام مقامه بالرىّ مع المهدىّ وكان الموالي يسعون أبا عبيد الله عند المهدىّ، فكان أبو عبيد الله يخاف تغيّر رأى المهدىّ له، فيكتب إلى الربيع دائما ولا ينقطع رسله عنه، فلا يزال الربيع يذكره بجميل عند المنصور ويعلمه ثقته وكفايته ويتنجّز له الكتب من المنصور إلى المهدىّ بالوصاة به وترك قبول قول الموالي فيه. قال الفضل بن الربيع: فلمّا حجّ أبى مع المنصور فى السنة التي مات فيها، وقام أبى بما فام به [498] من أمر البيعة وتلافيه بنفسه تلك الأمور وتجديده البيعة للمهدىّ على أهل بيت أمير المؤمنين والقوّاد والموالي وقدم، تلقّيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتّى تجاوز منزله وترك دار أمير المؤمنين ومضى إلى أبى عبيد الله فقلت له:   [1] . فى مط: ... مروان الحكومة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 - «تترك أمير المؤمنين وتأتى أبا عبيد الله؟» فقال: «يا بنىّ هو وزير الرجل، وليس ينبغي أن نعامله بما كنّا نعامله به ولا نحاسبه بما كان منّا فى أمره ونصرتنا له.» قال: فمضينا حتّى أتينا باب أبى عبيد الله. فما زال واقفا حتّى صلّيت العتمة فخرج الحاجب فقال: - «ادخل.» فثنى رجله وثنيت رجلي فقال: - «إنّما استأذنت لك وحدك يا با الفضل.» قال: «فاذهب وأخبره أنّ الفضل معى ثمّ اقبل علىّ.» فقال: «وهذا أيضا من ذاك.» فخرج الحاجب فأذن لنا جميعا، فدخلنا وإذا أبو عبيد الله فى صدر مجلسه متكئ. فقلت: يقوم إلى أبى ويتلقّاه فلم يقم. فقلت: يستوى جالسا إذا دنا، فلم يفعل فقلت: يدعو له بمصلّى [1] فلم يفعل. قال: فقعد أبى بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره [499] وحاله، وجعل أبى يتوقّع أن يسأله عمّا كان منه فى أمر المهدىّ وتجديده بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبى يبتدئ بذكره فقال: - «قد بلغنا نبأكم.» قال: فذهب أبى لينهض، فقال له: - «لا أرى الدروب إلّا وقد غلّقت فلو أقمت.» فقال أبى: «إنّ الدروب لا تغلق دوني.»   [1] . فى آ: بالمصلّى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 فقال: «بلى، قد أغلقت.» قال: فظنّ أبى أنّه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره، ثمّ يسائله، فقال: - «يا غلام، اذهب، فهيّئ لأبى الفضل فى منزل محمّد بن أبى عبيد الله مبيتا.» فلمّا رأى أنّه يريد أن يخرج من الدار، قال: - «فليس تغلق الدروب دوني.» ثمّ قام، فلمّا خرجنا من الدار أقبل علىّ فقال: - «يا بنىّ، أنت أحمق.» قلت: «وما حمقى؟» قال: «تقول فى نفسك كان ينبغي ألّا تجيء وكان ينبغي إذ جئت فحجبنا ألّا تقيم حتّى صلّيت العتمة، وأن ترجع فتنصرف ولا تدخل، وكان ينبغي إذ دخلت فلم يقم لك، أن ترجع ولا تقيم عليه ولا تجلس بين يديه، ولم يكن الصواب إلّا ما عملته كلّه ولكن والله الذي لا إله إلّا هو- واستغلق فى اليمين- لأخلقنّ جاهي ولأنفقنّ مالي حتّى أبلغ مكروه أبى عبيد الله.» قال: ثمّ جعل [500] يضطرب بجهده فلا يجد مساغا إلى مكروهه ويحتال الحيل، حتّى ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجبه، وكان هذا الرجل فى مسامرى المهدىّ بنيسابور وبالرىّ وفيمن يأنس به، فعارض أبا عبيد الله يوما بين يدي المهدىّ فى أمر، فتقدّم أبو عبيد الله بأن يحجب عن المهدىّ، وأسقط اسمه، فأرسل إليه أبى فجاءه فقال: - «إنّك قد علمت ما ركبك به أبو عبيد الله، وقد بلغ منّى كلّ غاية من المكروه وقد أرغت أمره بجهدى فما وجدت عليه طريقا فعندك حيلة فى أمره؟» فقال: «إنّما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك. يقال: هو جاهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 بصناعته، فأبو عبيد الله أحذق الناس. أو يقال: هو ظنين فيما يتقلّده، فأبو عبيد الله أعفّ الناس لو أنّ بنات المهدىّ فى حجره كان لهنّ موضعا. أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فليس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك الّا أنّه يميل إلى القدر [1] . أو يقال: هو متّهم فى الله. فأبو عبيد الله ذو عقد وثيق ولكن هذا كلّه مجتمع لك فى ابنه.» قال: فتناوله الربيع، فقبّل بين عينيه، ثمّ دبّ [501] لابن أبى عبيد الله. فو الله ما زال يحتال ويدّس إلى المهدىّ ويتّهمه ببعض حرم المهدىّ، ويحقّق عليه الزندقة حتّى استحكم عند المهدىّ الظنّة بمحمّد بن أبى عبيد الله، فأمر فأحضر وأخرج أبو عبيد الله فقال: - «يا محمّد، اقرأ القرآن.» فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه، فقال: - «يا معاوية، ألم تعلمني أنّ ابنك جامع للقرآن؟» قال: «قد أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكنّه فارقنى منذ سنين، وفى هذا المدّة نسى القرآن.» قال: «قم، فتقرّب إلى الله تعالى بدمه.» قال: فذهب يقوم فوقع، فقال العبّاس بن محمّد: - «إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفى الشيخ، فإنّه يضعف عن ذلك.» قال: ففعل، وأمر به فأخرج وضربت عنقه. قال: واتهمه المهدىّ فى نفسه. فقال له الربيع: - «قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك ولا أن تثق به.» قال: فأوحش المهدىّ منه، وكان من أمره ما كان. وبلغ الربيع ما أراد و   [1] . انظر الطبري (10: 490) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 اشتفى وزاد. ودخلت سنة اثنين وستين ومائة [502] وتتابعت السنون إلى سنة ستّ وستين ومائة لم يجر فيها ما يكتب ويستفاد به شيء. غضب المهدى على يعقوب بن داود ولمّا كانت سنه ستّ وستّين ومائة، غضب المهدىّ على يعقوب بن داود. ذكر السبب فى ذلك كان يعقوب بن داود محبوسا فى المطبق حتّى من عليه المهدىّ. وسبب حبسه أنّ أباه داود بن طهمان وإخوته كانوا كتّابا لنصر بن سيّار، ولمّا كانت أيّام يحيى بن زيد، كان يدسّ إليه وإلى أصحابه ما يسمع من نصر ويحذّرهم. فلمّا خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه، أتاه داود بن طهمان مطمئنّا إليه لما كان يعلم ممّا جرى بينهما فأمنه أبو مسلم ولم يعرض له فى نفسه، لكنّه أخذ أمواله التي استفادها أيّام نصر، وترك له ضيعة كانت له قديمة. فلمّا مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيّام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليس لهم عند بنى العبّاس منزلة، فلم يطمعوا فى خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر. فأظهروا مقالة الزيدية ودنوا من [503] آل الحسن طمعا فى أن تكون لهم دولة فيعيشوا فيها. فكان يعقوب منفردا يجول البلاد، وكان مع إبراهيم بن عبد الله أحيانا فى طلب البيعة لمحمّد بن عبد الله. فلمّا ظهر إبراهيم بالبصرة كان معه، فلمّا قتل محمّد وإبراهيم تواروا، فأمر المنصور بطلبهم، فأخذ يعقوب وأخوه علىّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 فحبسهما فى المطبق، فبقوا أيّام حياة المنصور إلى أن من المهدىّ عليهما وأطلقهما. ثمّ لم تزل منزلته ترتفع عند المهدىّ حتّى استوزره وتجاوز مرتبة الوزارة، حتّى فوّض إليه أمر الخلافة، فأرسل إلى الزيديّة، فأتى بهم من كلّ أوب وولّاهم من أمور الخلافة فى الشرق والغرب كلّ عمل جليل نفيس والدنيا كلّها فى يده، فكثر حسّاده وسعى عليه الموالي حتّى قيل للمهدىّ: - «إنّ الشرق والغرب فى يد يعقوب وأصحابه، وقد كاتبهم وإنّما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا فى يوم واحد على ميعاد فيأخذوا الدنيا كلّها لمن شاء.» فكان ذلك ملأ قلب المهدىّ. وكان يعقوب بن داود قد عرف من المهدىّ [504] خلقا واستهتارا بذكر النساء والجماع. وكان يعقوب يصف له من نفسه شيئا كثيرا، وكذلك كان المهدىّ، فيقول خدم المهدىّ: - «هو على أن يصبح فيثور بيعقوب.» فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسّم فيقول: - «اقعد بحياتى فحدّثنى.» فيقول: - «خلوت بجاريتي فلانة، فكان فكان، وقالت وقلت.» فيضع لذلك حديثا، فيحدّث المهدىّ بمثل ذلك ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب فيتعجّب منه. ذكر السبب فى تمكّن السعاة على يعقوب مع حظوته خرج ليلة يعقوب من عند المهدىّ وقد ذهب من الليل أكثره، وعليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 طيلسان يتقعقع، فصادف غلاما آخذا بعنان دابّة معه أشهب وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوّى طيلسانه، فتقعقع، فنفر البرذون وسقط يعقوب ودنا منه يعقوب فاستدبره وضربه ضربة على ساقه فكسرها [1] . وسمع [505] المهدىّ [2] الوجبة، فخرج حافيا فلمّا رأى ما به أظهر الجزع والتفزّع، ثمّ أمر به فحمل فى محفّة إلى منزله، ثمّ غدا عليه المهدىّ مع الفجر، وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه فعادوه ثلاثة متتابعة مع أمير المؤمنين ثمّ قعد عن عيادته وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله، فلمّا فقد وجهه تمكّن السعادة من المهدىّ فلم يأت عاشره حتّى أظهر سخطه. وأمّا السبب الذي يحدّث به يعقوب نفسه بعد موت المهدىّ فهو ما حكاه ابنه علىّ بن يعقوب عن أبيه قال: بعث [3] المهدىّ إلىّ يوما، فدخلت عليه، فإذا هو فى مجلس مفروش بفرش مورّد متناه فى السرو على بستان فيه شجر رؤوس الشجر من صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفّاح وكلّ ذلك مورّد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئا أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها ولا أسد قواما ولا أحسن اعتدالا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك المجلس فقال لى: - «يا يعقوب، [506] كيف ترى مجلسنا هذا؟» فقلت: «على غاية الحسن، فمتّع الله أمير المؤمنين به وهنّأه إيّاه.» قال: «هو لك، أحمله بما فيه، وهذه الجارية ليتمّ سرورك.» قال: فدعوت له بما يحبّ.   [1] . انظر الطبري (10: 515) . [2] . تكرر «المهدى» فى الأصل. [3] . تجد الرواية عند الطبري (10: 510) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 قال: ثمّ قال لى: - «يا يعقوب، ولى إليك حاجة.» قال: فوثبت قائما، ثمّ [1] قلت: - «يا أمير المؤمنين، ما هذه إلّا لموجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين.» قال: «لا ولكن أحبّ أن تضمن لى قضاءها، فإنّى لم أسلكها من حيث تتوهّم، وإنّما قلت ذلك على الحقيقة، فأحبّ أن تضمن لى هذه الحاجة أن تقضيها لى.» قلت: «الأمر لأمير المؤمنين، وعلىّ السمع والطاعة.» قال: «والله؟» قلت: «والله ثلاثا» . قال: «وحياة رأسك.» قال: «فضع يدك عليه واحلف به.» قال: فوضعت يدي عليه وحلفت به لأعملنّ بما قال ولأقضيّن حاجته. فلمّا استوثق منّى فى نفسه قال: - «هذا فلان بن فلان من ولد علىّ أحبّ أن تكفيني مؤونته وتريحني منه وتعجّل ذلك.» فقلت: «أفعل.» قال: «فخذه إليك.» قال: فحوّلته إلىّ وحوّلت الجارية وجميع ما كان فى البيت والمجلس من   [1] . زيادة فى آوالطبري (10: 511) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 فرش وآلة وأمر لى بمائة ألف درهم. [507] قال: فحملت ذلك جملة ومضيت به، فلشدّة سروري بالجارية صيّرتها فى مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوىّ فأدخلته إلىّ وسألته عن حاله، فأخبرنى بها وإذا ألبّ الناس وأحسنهم إبانة. قال: وقال لى فى بعض ما يقول: - «ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدمى وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمّد، صلّى الله عليه؟» قال: قلت: لا والله، فهل فيك أنت خير» قال: «إن فعلت خيرا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار.» قال: قلت له: - «فإنّى أطلقك، فأىّ الطرق أحبّ إليك؟» قال: «طريق كذا.» قلت: «فمن هاهنا ممّن تأنس [1] به وتثق بموضعه.» قال: «فلان وفلان.» قلت: «فابعث إليهما، وخذ هذا المال وامض معهما مصاحبا فى ستر الله، وموعدك وموعد هما للخروج من دارى إلى موضع كذا وكذا الذي اتفقنا عليه فى وقت كذا وكذا من الليل.» فإذا الجارية قد حفظت علىّ قولي، فبعثت به مع خادم لها إلى المهدىّ وقالت: - «هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، صنع وفعل.» حتّى ساقت الحديث كلّه.   [1] . فى آ: ستأنس به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 قال: وبعث المهدىّ من وقته [508] فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوىّ برجال، فلم يلبث أن جاءوه بالعلوىّ بعينه وصاحبيه والمال على النسخة [1] التي حكتها الجارية. قال: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدىّ يستحضرني. قال: وكنت خالي الذرع غير ملق إلى أمر العلوىّ بالا حتّى أدخل على المهدىّ وأجده على كرسىّ فى يده مخصرة. فقال: «يا [2] يعقوب ما حال الرجل؟» قلت: «يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه.» قال: «مات؟» قلت: «نعم.» قال: «والله؟» قلت: «والله؟» قال: «فقم وضع يدك على رأسى.» قال: فوضعت يدي على رأسه وحلفت له به. قال: فقال: - «يا غلام، أخرج إلينا ما فى هذا البيت.» قال: ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه. قال: فبقيت متحيّرا وسقط فى يدي، وامتنع منّى الكلام، فما أدرى ما أقول. قال: فقال المهدىّ: - «لقد حلّ لى دمك لو آثرت إراقته، لكن احبسوه فى المطبق [3] .»   [1] . فى الطبري (10: 512) : على السجيّة. [2] . يا: ناقصة فى الأصل وآ، أضفنا عن الطبري (10: 513) . [3] . الضبط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 فأتّخذ لى فيه بئر، فدلّيت فيها فكنت كذاك طول مدّة لا أعرف عددها، وأصبت ببصرى وطال شعري واسترسل [509] كهيئة شعور البهائم. قال: فإنّى لكذلك إذ دعى بى، فمضيت [1] وحملت إلى حيث لا أعلم أين هو، فلم أعد أن قيل لى: - «سلّم على أمير المؤمنين.» فسلّمت. قال: - «أىّ أمير المؤمنين أنا؟» قلت: «المهدىّ.» قال: «رحم الله المهدىّ» قلت: «الهادي.» قال: «رحم الله الهادي.» قلت: «الرشيد.» قال: «نعم.» قلت: «ما أشكّ فى وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلّتى وما تناهت إليه حالي.» قال: «أجل، كلّ هذا قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك.» قال: قلت: «المقام بمكّة.» قال: «نفعل ذاك، فهل غير ذاك؟» قال: قلت: - «ما بقي فىّ مستمتع لشيء ولا بلاغ.» قال: «فراشدا.»   [1] . فى الطبري (10: 513) فمضى بى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 قال: فخرجت، فكان وجهى إلى مكّة. قال ابنه ولم يزل بمكّة ولم تطل أيّامه بها حتّى مات. ثمّ دخلت سنة سبع وستّين ومائة ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يستفاد منه تجربة. ثمّ دخلت سنة ثمان وستّين ومائة وتلك سبيلها ثمّ دخلت سنة تسع وستّين ومائة [510] وفيها كانت وفاة المهدىّ سبب وفاة المهدىّ وكان سبب ذلك [1] أنّه كان عزم على تقديم ابنه هارون على ابنه موسى، فبعث إليه وهو بجرجان يحارب ونداذهرمز وشروين صاحبي طبرستان. وكان وجّهه المهدىّ فى جيش كثيف لم ير مثله وهيئة لم ير أحسن منها، فلمّا استدعاه علم ما يريد منه، فأبى عليه، فبعث إليه رسولا من الموالي، فضربه موسى، فخرج المهدىّ بسبب موسى فتوفّى فى طريقه. واختلف فى سبب وفاته، فذكر عن واضح قهرمانه أنّه قال: خرج المهدىّ يتصيّد بماسبذان بقرية يقال لها: الرّذّ، فطردت الكلاب صيدا وأظنّه قال ظبيا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبى باب خربة واقتمحت الكلاب واقتحم الفرس خلف الكلاب فدقّ ظهره فى باب الخربة فمات من ساعته. وذكر غيره: أنّ المهدىّ كان جالسا فى علية قصر بما سبذان يشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة [2] قد عمدت إلى كمثّرى كبير   [1] . انظر الطبري (10: 523) . [2] . فى الأصل: حسنة. على أنّه وصف، وليس كذلك. وانما هو اسم الجارية كما يأتى فى الأسطر الآتية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 فجعلته فى صينية وسمّت واحدة منها وهي أحسنها [511] وأنضجها بأن نزعت فمعها الذي فى أسفلها وأدخلت فيه سمّا، ثمّ ردّت القمع فيه ووضعتها على أعلى الصينية. وكان المهدىّ يعجبه كمّثرى وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جارية للمهدىّ كان يتحظّاها، تريد بذلك قتلها، فلمّا مرّت الوصيفة بالصينيّة التي أرسلتها حسنة رآها المهدىّ من المنظرة فدعاها ومدّ يده إلى الكّمثراة التي فى أعلى الصينيّة وهي المسمومة، فأكلها فلمّا وصلت إلى الجوف صرخ: - «جوفي!» وسمعت حسنة الصوت وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكى وتقول: - «أردت أن أتفرّد بك، فقتلتك يا سيّدى.» فمات من يومه. وكانت خلافته عشر سنين وكسرا، ومات وهو ابن ثلاث وأربعين سنة ولم يوجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب ودفن تحت جوزة. ذكر بعض سيره كان المهدىّ إذا جلس للمظالم قال: - «أدخلوا علىّ القضاة، فلو لم يكن [512] ردّى المظالم [1] إلّا للحياء منهم [لكفى] [2] .» وجلس المهدىّ يوما يعطى جوائز تقسم بحضرته فى خاصّه من أهل بيته و   [1] . كذا فى الأصل وآ: المظالم. فى الطبري (10: 527) : للمظالم. [2] . زيادة من الطبري (نفس الصفحة) وليست لا فى الأصل ولا فى آولا فى مط. كما لم تكن فى أصل الطبري أيضا وانّما زادها مصحّحوه نقلا عن الفخرى (ص 212) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 قوّاده، فكان تقرأ عليه الأسماء فيأمر بزيادة عشرة آلاف وعشرين ألفا وما أشبه ذلك. فعرض عليه بعض القوّاد فقال: - «هذا يحطّ خمسمائة درهم.» قال: «لم حططتنى يا أمير المؤمنين؟» قال: «لأنّى وجّهتك إلى عدّو لنا فانهزمت.» قال: «كان يسرّك أن أقتل ولا ينفعك؟» قال: «لا.» قال: «فو الله الذي أكرمك بالخلافة لو ثبتّ لقتلت.» فاستحى منه المهدىّ و [1] قال: - «زده خمسمائة آلاف [2] درهم.» مسور والمهدى بين يدي القاضي وتحدّث مسور بن مساور قال: ظلمني وكيل للمهدىّ وغصبني ضيعة لى فأتيت سلّاما صاحب المظالم فتظلّمت، فأوصل لى رقعة إلى المهدىّ وعنده عمّه العبّاس بن محمّد، وابن علاثة القاضي وعافية القاضي. قال: فقال لى المهدىّ: - «ادن [3] .» فدنوت. فقال: «ما تقول؟» قلت: «ظلمتني.» قال: «فترضى بأحد هذين.»   [1] . لا واو فى الأصل وهي من آومط والطبري (10: 527) . [2] . آلاف: زيادة فى آوالطبري، وليت فى الأصل. [3] . ادن: فى آوالطبري (10: 529) : أدنه (بهاء السكت) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 قال: قلت: «نعم.» قال: «فادن منّى.» فدنوت منه حتّى التزقت بالفراش. قال [1] : «تكلّم.» قلت: «أصلح الله القاضي، إنّه ظلمني فى ضيعتي.» فقال القاضي: [513]- «ما تقول يا أمير المؤمنين؟» قال: «ضيعتي وفى يدي.» قال: قلت: «أصلح الله القاضي، سله، صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟» قال: فسأله «ما تقول يا أمير المؤمنين؟» قال: «صارت إلىّ بعد الخلاقة.» قال [2] : «فأطلقها له.» قال: «قد فعلت.» فقال العبّاس: «والله يا أمير المؤمنين، لهذا المجلس أحبّ إلىّ من عشرين ألف ألف درهم.» وصيّة عجيبة تعرض على المهدىّ وقال أبو الخطّاب: لمّا حضرت القاسم بن مجاشع التميميّ من أهل مرو الوفاة، أوصى إلى المهدىّ، فكتب: - «شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا 3: 18   [1] . والقائل هو القاضي. [2] . والقائل القاضي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلامُ ... » 3: 18- 19 [1] ثمّ كتب: - «والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه، وأنّ علىّ بن أبى طالب، عليه السلام، وصيّه ووارث الإمامة بعده.» قال: فعرضت الوصيّة على المهدىّ، فلمّا بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها. قال [2] : فلم يزل ذلك فى قلب أبى عبيد الله. فلمّا حضرته الوفاة كتب فى وصيّته هذه الآية. [3] وقال المهدىّ يوما: ما توسّل إلىّ أحد بوسيلة ولا تذرّع بذريعة هي أقرب من تذكيره إيّاى [514] يدا سلفت منّى إليه أتبعها أختها فأحسن ربّها [4] لأنّ منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.   [1] . س 3 آل عمران: 18. [2] . والقائل ابو الخطاب. [3] . انظر الطبري (10: 532) . [4] . وفى مط: وبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 خلافة موسى الهادي وفى هذه السنة بويع لموسى الهادي بما سبذان. [1] ذكر رأى سديد رآه خالد بن يحيى فى تلك الحال اجتمع القوّاد ووجوه الموالي إلى هرون يوم توفى المهدىّ، فقالوا له: - «إن علم الجند بوفاة المهدىّ لم نأمن الشغب، والرأى أن تتحرّك وتنادى فى الجند وبالقفل، حتّى تواريه ببغداد.» فقال هرون: - «ادعوا إلىّ أبى [2] يحيى بن خالد.» وكان المهدىّ ولّى هارون المغرب كلّه من الأنبار إلى افريقية، وأمر يحيى بن خالد أن يتولّى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه إلى أن توفّى. فصار يحيى بن خالد إلى هارون فقال له: - «يا أبه، ما تقول فيما يقول عمر بن بزيع ونصير والمفضّل؟. قال: «وما قالوا؟» فأخبره. قال:   [1] . انظر الطبري (10: 545) . [2] . أبى: لا فى مط. فى آ: ادعوا إلىّ باب يحيى بن خالد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 - «ما أرى ذلك.» قال: «ولم؟» قال: «لأنّ هذا لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلّقوا بمحمله ويقولوا لا نخلّيه حتّى نعطى لثلاث سنين ويتحكّموا ويشتطّوا، ولكن أرى أن يوارى [1] ، رضى الله عنه، هاهنا ويوجّه نصير إلى أمير المؤمنين الهادي [515] بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية، فإنّ البريد إلى نصير، فلا ينكر خروجه أحد إذا كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز مائتين مائتين وتنادى فيهم بالقفول، فإنّهم إذا قبضوا الدراهم لم يكن لهم همّة سوى أهاليهم وأوطانهم ولا عرجة على شيء دون بغداد.» قال: ففعل ذلك. وصاح الجند لمّا قبضوا الدراهم: - «بغداذ، بغداذ.» ينادون إليها ويبعثون على الخروج من ماسبذان. فلمّا وافوا بغداد وعلموا خبر الخليفة، صاروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق وضجّوا. قدوم هارون بغداد وقدم هارون بغداذ. فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تشاورهما فى ذلك، فأمّا الربيع، فدخل عليها، وأمّا يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدّة غيرة موسى. قال: وجمعت الأموال حتّى أعطى الجند لسنتين فسكنوا. وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابا يتوعّده فيه، وكتب إلى يحيى يجزّيه الخير ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به وأن يتولّى أموره وأعماله   [1] . الضبط من الأصل والطبري (10: 545) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 على [516] ما لم يزل يتولّاه. قال: فبعث الربيع إلى يحيى بن خالد، وكان يودّه ويثق به ويعتمد على رأيه: - «يا با علىّ، ما ترى، فإنّه لا صبر لى على جرّ الحديد.» قال: - «أرى ألّا تبرح موضعك وأن توجّه الفضل ابنك ليستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك، فإنّى لأرجو ألّا يرجع إلّا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله.» ولمّا قدم هارون كان الجند قد شغبوا على الربيع، وأخرجوا من كان فى حبسه. وكان العبّاس بن محمّد، وعبد الملك بن صالح، ومحرز بن إبراهيم، حضروا ورأوا أن يرضوا ويطيّب بأنفسهم وتفرّق جماعتهم بإعطاءهم أرزاقهم، فبذل ذلك لهم، فلم يرضوا ولم يثقوا بما ضمن لهم من ذلك حتّى ضمنه محرز بن إبراهيم، فقنعوا بضمانه فتفرّقوا. فوفى لهم وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرا. وأخذ هارون البيعة لموسى الهادي وله بولاية العهد من بعده وضبط أمر بغداذ. ثمّ قدم الهادي وكان فى نفسه على الربيع ما ذكرناه ومن إعطائه الجنود قبل قدومه. ولمّا وجّه الربيع ابنه الفضل فتلقّاه بما أعدّ له من الهدايا بهمذان، أدناه وقرّبه وقال: - «كيف [517] خلّفت مولاي؟» فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي، فاعتذر إليه وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، وولّاه الوزارة مكان عبد الله بن زياد بن أبى ليلى، وضمّ إليه ما كان عمر بن بزيع يتولّاه من الزمام. وهلك الربيع فى هذه السنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 ثمّ دخلت سنة سبعين ومائة [1] وفيها كانت وفاة موسى الهادي وكانت وفاته من قبل جوار لأمّه الخيزران كانت أمر تهنّ بقتله. ذكر السبب فى ذلك وما حملها على قتل ابنها لمّا صارت الخلافة إلى الهادي، كانت الخيزران تفتات عليه فى أموره وتسلك به مسلك أبيه من قبله فى الاستبداد بالأمر والنهى فأرسل إليها: - «لا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة [2] التبذّل، فإنّه ليس من قدر النساء الاعتراض فى أمر الملك، وعليك بصلاتك وسبحتك، ولك بعد هذا طاعة مثلك [518] فيما يجب لك.» وكانت كثيرا ما تكلّمه فى أمر الحوائج، فكان يجيبها إلى كلّ ما تسأل، حتّى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها. فكلّمته يوما فى أمر لم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا، فاعتلّ بعلّة. فقالت: «لا بدّ من إجابتى.» قال: «لا أفعل.» قالت: «فإنّى قد تضمّنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك.» قال: فغضب موسى وقال: - «ويلي على ابن الفاعلة، قد علمت أنّه صاحبها، والله لا قضيتها لك.»   [1] . بداية المجلد الرابع حسب تجزئة مخطوطة مط كما جاء فى هامش مط. [2] . فى مط: بلاده. وآكالأصل. بذّ فلان: ساءت حالته. رثّت هيئته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 قالت: «إذا والله لا أسألك حاجة أبدا.» قال: «إذا والله لا أبالى.» وحمى وغضب فقامت مغضبة، فقال: - «مكانك تستوعبى كلامي والله وإلّا فإنّى نفىّ من قرابتي من رسول الله، صلّى الله عليه، لئن بلغني أنّه وقف ببابك أحد من قوّادى أو أحد من خاصّتى وخدمي لأضربنّ عنقه ولأقبضنّ ماله، فمن شاء فليرم ذلك. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك فى كلّ يوم؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكّرك، أو بيت يصونك؟ إيّاك، ثمّ إيّاك، ما فتحت بابك لملّىّ أو ذمّىّ.» فانصرفت وهي [519] لا تعقل ما تطأ [1] ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرّة بعدها. فحكت خالصة: أنّه لمّا صارت الخلافة إلى الهادي، صرت إليه وقلت له: - «إنّ أمّك تستكسيك.» فأمر لها بخزانة مملوّة كسوة. قالت: ووجد للخيزران فى منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقرة. وحكى بعضهم: أنّه سمع خالصة تقول للعبّاس بن الفضل بن الربيع: بعث موسى إلى أمّه الخيزران بأرزّة وقال: - «استطبتها.» وذلك بعد سخطه عليها، وذكر أنّه أكل منها فتنغّص لها. قالت خالصة: فقلت لها: - «أمسكى حتّى تنظرى، فإنّى أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه.» فجاؤوا بكلب، فأكل منها فتساقط لحمه. فأرسل إليها بعد ذلك:   [1] . فى مط: ما تطأ عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 - «كيف رأيت الأرزّة؟» قالت: «وجدتها طيّبة.» فقال: «لم تأكلى، ولو أكلت كنت استرحت منك، متى أفلح خليفة له أمّ!» ثمّ إنّ الهادي جمع قوّاده يوما وذلك أعياه أمر الأمّ فقال لهم: - «أيّما خير: أنا أم أنتم؟» قالوا: «بل أنت يا أمير المؤمنين.» قال: «فأيمّا خير: أمّى أم أمّهاتكم؟» قالوا: «بل أمّك يا أمير المؤمنين.» قال: «فأيّكم يحبّ أن يتحدّث الرجال بخبر أمّه [520] فيقولوا فعلت أمّ فلان، وصنعت أمّ فلان، وقالت أمّ فلان؟» فقالوا: «ما أحد منّا يحبّ ذلك.» قال: «فما بال رجال يأتون أمّى فيتحدّثون إليها ثمّ ينقلون حديثها؟» فلمّا سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتّة. فشقّ ذلك عليها، فاعتزلته وحلفت ألّا تكلّمه، فما دخلت إليه حتّى حضرته الوفاة. موسى يهمّ بخلع أخيه هارون وهمّ موسى [1] بخلع أخيه هارون، ثمّ جدّ فيه. وكان يحيى بن خالد بن برمك يلي لهارون أعمال المغرب، فلمّا جدّ موسى الهادي فى البيعة لابنه جعفر بن موسى وتابعه القوّاد مثل يزيد بن مزيد، وعبد الله بن مالك، وعلى بن عيسى، ومن أشبههم، وخلعوا هارون ودسّوا إلى الشيعة، فتكلّموا فى أمره وتنقّصوه، وقالوا: لا نرضى به، وظهر ذلك، أمر [2] الهادي ألّا يسار قدام الرشيد   [1] . آ: موسى الهادي. [2] . جواب فلمّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 بحربة. فاجتنبه الناس وتركوه، فلم يكن يجترئ أحد أن يسلّم عليه ولا يقربه. وكان يحيى بن خالد يقوم بأنزال [1] الرشيد وينزل منه منزلة الوالد ويسّميه أبى. فكان يشير عليه بأن يدافع ولا يستجيب للخلع. فسعى بيحيى إلى الهادي، وقيل له: إنّه ليس عليك من هارون [521] خلاف، وإنّما يفسده يحيى، فابعث إليه وتهدّده بالقتل وارمه بالكفر. فبعث الهادي إلى يحيى ليلا، فيئس من نفسه، وودّع أهله وتحنّط وجدّد ثيابه ولم يشكّ أنّه يقتله. فلمّا أدخل عليه قال: - «يا يحيى ما لي ولك؟» قال: «أنا عبدك يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلّا طاعته!» قال: «لم تدخل بيني وبين أخى وتفسده علىّ؟» قال: «يا أمير المؤمنين، من أنا حتّى أدخل بينكما، إنّما صيّرنى المهدىّ معه وأمرنى بالقيام بأمره، ثمّ أمرتنى بذلك، فانتهيت إلى أمرك.» قال: «فما الذي صنع هارون؟» قال: «ما صنع شيئا ولا عنده شيء.» فسكن غضبه. وقد كان هارون طاب نفسا بالخلع. فقال له يحيى: - «لا تفعل.» قال هارون: «أليس تترك لى الهنيئة والمريئة فهما يسعاننى وأعيش. [2] فقال يحيى: - «وأين الهنيئة والمريئة من الخلافة، ولعلّك الا [3] يترك هذا فى يدك.» وكان يحيى ينادم الهادي بعد ذلك، فكلّمه الهادي فى أمر الرشيد وخلعه، فقال:   [1] . الضبط من الطبري (10: 572) . [2] . فى الطبري (10: 573) : وأعيش مع ابنة عمّى. [3] . فى الطبري: ألّا (بالضبط) آكالأصل. فى مط: الّا (بالضبط) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 - «يا أمير المؤمنين، إنّك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثمّ بايعت [522] لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته.» قال: «لقد صدقت ونصحت، ولى فى هذا الأمر تدبير.» وكان محمّد بن يحيى بن خالد يقول: كان أبى يقول: ما كلّمت أحدا من الخلفاء أعقل من موسى. وقال: كان حبسني موسى الهادي على ما أراده من خلع الرشيد، فرفعت إليه رقعة: إنّ عندي نصيحة. فدعاني، فقال لى: - «هات ما عندك.» فقلت: «أخلنى.» فأخلانى، فقلت: - «يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر الذي أسأل الله أن لا نبلغه وأن يقدّمنا قبله، أتظنّ أنّ الناس يسلّمون لجعفر وهو لم يبلغ الحنث [1] أو يرضون به لصلاتهم وحجّهم وغزوهم؟» قال: «والله ما أظنّ ذلك.» قلت: - «فتأمن يا أمير المؤمنين أن يسمو إليها أكابر أهلك وجلّتهم مثل فلان وفلان، ثمّ يطمع فيها غيرهم فيخرج من ولد أبيك؟» فأطرق ثمّ قال: - «نبّهتنى يا يحيى على أمر لم أكن أنتبه له.» قال: فقلت: - «لو أنّ هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحلّه وقد عقده المهدىّ، ولكن تقرّ الأمر يا أمير المؤمنين [523] على حاله،   [1] . فى الطبري (10: 574) : الحلم. الحنث: الإدراك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 فإذا بلّغ جعفر وبلغ الله به أتيته [1] بالرشيد، فخلع نفسه له، وكان أوّل من يبايعه ويعطيه صفقة يده.» فقبل الهادي قوله وأطلقه. فلمّا كان بعد أيّام، خرج موسى الهادي إلى الحديثة حديثة الموصل فمرض بها، فانصرف بعد ما كتب إلى جميع عمّاله شرقا وغربا بالقدوم عليه، فلمّا ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه فقالوا: - «إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا.» وتآمروا [2] على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي فيضرب عنقه. ثمّ قال بعضهم: - «فإنّ أمير المؤمنين ما بلغ حدّ اليأس منه، فلعلّه يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده؟» فأمسكوا. ثمّ بعثت الخيزران إلى جواريها بالجلوس على وجهه وغمّه حتّى يموت، لأنّها أشفقت أن يفيق فيخلع هارون، ففعلن ذلك. وبعثت إلى يحيى تعلمه أنّ الرجل لما به [3] فجدّ فى أمرك ولا تقصّر. فأمر يحيى بإحضار الكتّاب، فحضروا وجمعوا فى منزل الفضل بن يحيى، فكتبوا ليلتهم كتبا من الرشيد إلى العمّال بوفاة الهادي وأنّه قد ولّاهم الرشيد ما كانوا يلون. ولمّا أصبحوا [524] أنفذوها على البرد.   [1] . أتيته: الضبط فى الأصل بصيغة المتكلم وفى الطبري (10: 575) : بصيغة الخطاب. [2] . فى الأصل: توامروا. [3] . فى الأصل وآ ومط: لما به. والمدّ من الطبري (10: 578) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 رواية أخرى فى سبب قتل موسى الهادي وقد روى عن هرثمة [1] بن أعين فى موت الهادي ما رواه علىّ بن هشام المعروف بأبى قيراط عن محمّد بن أحمد بن الفضل الجرجرائى المعروف بقلنسوة، وكان وزير المتوكّل، قال: حدّثنى خالي الحسن بن رجاء بن أبى الضحّاك. قال: حدّثنى الحسن بن سهل قال: حدّثنى أبو خاتم هرثمة بن أعين بمرو قال: كنت اختصصت بموسى الهادي، وكنت مع ذلك شديد الحذر منه لإقدامه على الدماء، فاستدعاني فى نصف نهار يوم شديد الحرّ قبل أكلى، فارتعت وبادرت إليه فأدخلت من دار إلى دار حتّى قرّبت من دار حرمه. ثمّ نحّى عنّا جميع من كان بحضرته وقال لى: - «اخرج، فأغلق باب هذه الحجرة وعد إلىّ.» فازددت جزعا وفعلت وعدت، فقال: - «قد تأذيّت بهذا الكلب الملحد يحيى بن خالد، ليس له شغل إلّا تضريب الرجال علىّ واجتذابهم إلى صاحبه هارون. يريد أن يقتلني ويسوق الخلافة إليه، وأريد منك أن تمضى الليلة إلى هارون فتقبض عليه وتجيئني برأسه، إمّا أن تحتاط فى التدبير حتّى لا يفوتك وتفعل ذلك به فى دارك [525] أو تخرجه [2] من داره برسالة منّى تستدعيه فيها إلى حضرتى، ثمّ تعدل به إلى حيث تقتله فيه وتجيئني برأسه.» فورد علىّ أمر عظيم وقلت: - «يأذن أمير المؤمنين فى الكلام؟» قال: «قل.»   [1] . لم نجد الرواية فى الطبري. [2] . فى آ: اختلاف فى اللفظ كالآتى: إمّا أن تفعل ذاك فى داره وتحتاط فى التدبير حتى لا يفوتك، أو تخرجه ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 قلت: «يا أمير المؤمنين، أخوك وابن أمّك وأبيك وله عهد بعدك، فكيف يكون صورتنا عند الله أوّلا، ثمّ عند الناس؟» قال: «عليك أن تسمع لى وتطيع، وإلّا ضربت عنقك.» فقلت: «السمع والطاعة.» قال: «وإذا [1] فرغت من هذا أخرجت جميع الطالبيين من الحبس فضربت أعناقهم وغرّقت من يبقى إن كثر عددهم.» فقلت: «السمع والطاعة.» قال: «ثمّ ترحل إلى الكوفة بجميع من معك من الجيش وتضمّ إليهم من ترى من الجند المقيمين بالباب فتخرج من تجد فيها من العباسيّين وشيعتهم والعمّال المتصرفين معهم، ثمّ تنهب ما فيها من الأموال، وتضربها بالنار حتّى تحترق هي وجميع من فيها وتخرّبها حتّى لا يبقى لها أثر.» فقلت: «يا مولاي، هذا أمر عظيم، ففكّر فيه.» فقال: «لا بدّ من ذلك، فإنّ كلّ آفة ترد على ملكنا إنّما هي من هذه الجهة.» ثم قال: [526]- «لا تبرح من مكانك حتّى إذا انتصف الليل بدأت بهارون.» فقلت: «سمعا وطاعة.» ونهض من موضعه ودخل إلى دار النساء، وجلست مكاني ولم أشك أنّه قد قبض علىّ وأنّه سيقتلني ويدبّر هذا الأمر على يد غيرى لما ظهر له من جزعى فى كلّ باب والردّ عليه والتخطئة لرأيه، ثمّ إجابتى إيّاه كارها، وكنت- يعلم الله- قد عملت على أن أركب فرسي من حضرته وألحق بطرف من الأرض وأخرج من نعمتي وأكون بحيث لا يصل إلىّ، حتّى يموت أحدنا. فلمّا   [1] . سقط من آ: من «إذا» إلى والطاعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 دخل دار النساء، عرض لى أنّه قبض علىّ ليقتلني لئلا يفشو السرّ، فورد علىّ غمّ شديد وذهب علىّ أمرى، فلمّا انتصف الليل جاءني خادم وقال: - «أجب أمير المؤمنين.» فقمت وأنا أتشهّد، ومشيت مع الخادم إلى ممرّ سمعت فيه كلام النساء فقلت: عزم على قتلى بحجّة فهو يدخلني دور الحرم ثمّ يقول: من أذن لك فى الدخول على حرمي. فوقفت، فقال الخادم: - «ادخل.» فقلت: «لا أفعل.» فقال: «ويحك، ادخل.» فصحت وقلت: - «لا والله، ما أدخل حتّى أسمع كلام مولاي أمير المؤمنين بالإذن لى فى الدخول.» [527] فإذا بامرأة تصيح وتقول: - «ويلك يا هرثمة، أنا الخيزران، وقد حدث أمر عظيم استدعيتك له، فادخل.» فورد علىّ ما لم يكن فى حسابي، وتحيّرت ثمّ دخلت، فإذا بستارة ممدودة، فقالت لى من وراءها: - «إنّ موسى قد مات، وقد أراحك الله والمسلمين منه، فقم فانظر إليه.» فإذا هو مسجّى، فمست مجسّه وقلبه ومناخره فإذا هو ميت. ثمّ قالت الخيزران: - «إنّى كنت بحيث أسمع خطابه لك فى أمر ابني هارون وغيره، فلمّا دخل استعطفته، ثمّ سألته ألّا يفعل ما همّ به، فصاح علىّ، فكشفت له رأسى وبكيت وأقسمت عليه ألّا يفعل، فانتهرنى وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 - «إن أمسكت، وإلّا ضربت عنقك.» فخفته وقمت وصلّيت وضرعت إلى الله فى قبضه إليه، فما كان بأسرع ممّا شرق، فتداركناه بكوز ماء فازداد شرقه حتّى تلف. فقم إلى يحيى بن خالد وعرّفه ما كان خاطبك به والخبر كلّه، وعجّل بهارون قبل أن ينتشر الخبر وجدّدا له البيعة.» قال: فقمت، ففعلت ذلك. وما أصبحنا حتّى فرغنا من البيعة واستقام أمره [528] وكفاني الله والناس شرّ موسى. ولمّا [1] أتى الخيزران الخبر بوفاة موسى وجاءها به الرسول قالت: - «وما أصنع به؟» فقالت لها خالصة: - «قومي أملى، ستّى، [2] إلى ابنك، فليس هذا وقب تعتّب.» [3] فقالت: - «أعطونى ماء أتوضّأ للصلاة.» ثمّ قالت: - «أما إنّا كنّا نتحدّث أنّه يموت فى هذه الليلة خليفة ويملك فيها خليفة ويولد فيها خليفة، فمات موسى وملك هارون وولد المأمون.» فكانت ولايته أربعة عشر شهرا، ومات وهو ابن ستّ وعشرين سنة. [4] ذكر بعض سيره ما كان من أمر عبد الله بن مالك مع الهادي ذكر عن عبد الله بن مالك، أنّه قال: كنت على شرطة المهدىّ، وكان المهدىّ   [1] . وزاد هنا فى آ: وفى الرواية الأولى لمّا ... [2] . فى آ: قومي يا ستّى. فى مط: قومي امشى. فى الطبري (10: 578) : قومي ايّتها الحرّة. [3] . فى آ: تعنّت. والطبري كالأصل. [4] . انظر الطبري (10: 580) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 يبعث إلىّ فى ندماء الهادي ومغنّيه فى ضربهم وحبسهم صيانة له عنهم، فبعث إلىّ الهادي يسألنى الرفق بهم والترفيه لهم، فلا ألتفت إلى ذلك وأمضى لما يأمرنى به المهدىّ. قال: فلمّا ولى الهادي الخلافة أيقنت بالتلف، فبعث إلىّ يوما، فدخلت إليه متكفّنا متحنّطا وإذا هو على كرسىّ [529] والسيف والنطع بين يديه، فسلّمت، فقال: - «لا سلّم الله على الآخر، [1] تذكر يوم بعثت إليك فى أمر الحرّانى وما أمر به أمير المؤمنين رضى الله عنه، من ضربه وحبسه فلم تجبني، وفى فلان وفى فلان- فجعل يعدّد ندماءه- فلم تلتفت إلى قولي وأمرى؟» قلت: «نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن فى استيفاء الحجّة؟» قال: «نعم.» قلت: «نشدتك الله يا أمير المؤمنين، أيسرّك أنّك ولّيتني ما ولّانى أبوك فأمرتنى بأمر فبعث إلىّ بعض بنيك بأمر مخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟» قال: «لا.» قلت: «فكذلك أنا لك، وكذلك كنت لأبيك.» فاستدنانى، فقبّلت يده، فأمر بخلع، فصبّت علىّ، وقال: - «قد ولّيتك ما كنت تتولّاه، فامض راشدا.» فخرجت من عنده، فصرت إلى منزلي مفكّرا فى أمرى وأمره وقلت: حدث يشرب والقوم الذين عصيته فى أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتّابه وكأنّى بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوا رأيه فىّ وحملوه فى أمرى على ما كنت أتّخوفه.   [1] . كذا. فى آومسط والطبري أيضا (10: 583) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 قال: فإنّى لجالس [530] وبين يدىّ بنيّة لى فى وقتى ذلك والكانون بين يدىّ ورقاق [1] أشطره [2] بكامخ [3] وأسخّنه وأطعمه الصبيّة حتّى توهمت أنّ الدنيا قد اقتلعت وزلزلت لوقع الحوافر وكثرة الضوضاء فقلت: هاه، كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوّفت. فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار فى وسطهم، فلمّا رأيتهم وثبت من مجلسي مبادرا، فقبّلت يده ورجله وحافر حماره فقال لى: - «يا عبد الله، إنّى فكّرت فى أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك أنّى إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيى فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أنّ السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمنى ما كنت تأكل، وافعل فيه ما كنت تفعل، لتعلم أنّى قد تحرّمت بطعامك وأنست بمنزلك، فيزول خوفك ووحشتك.» فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسّكرّجة التي فيها الكامخ فأكل منها، ثمّ قال: - «هاتوا الزّلّة التي [531] أزللتها لعبد الله من مجلسي.» [4] فأدخل إلىّ أربعمائة بغل موقرة دراهم وقال: - «هذه زلّتك، فاستعن بها على أمرك واحفظ لى هذه البغال عندك لعلّى أحتاج إليها لبعض أسفارى.» ثمّ قال: «أظلّك الله بخير.» ثمّ انصرف راجعا.   [1] . الرّقاق: خبز رقيق، أو عجنه رقيقه. [2] . فى الأصل ومط: أشطره. فى آوالطبري (10: 584) : أسطره. شطره: جعله نصفين. سطره: قطعه نصفين. [3] . الكامخ: إدام يؤتدم به. [4] . الزّلة (بفتح الزاء وضمّها) : الصنيعة. الوليمة. العرس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 فذكر موسى بن عبد الله بن مالك: أنّ أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره ثمّ بنى حوله معالف لتلك البغال وكان هو يتولّى النظر إليها والقيام عليها أيّام حياة الهادي كلّها. وأتى موسى برجل، فجعل يقرّره [1] بذنوبه ويتهدّده، فقال الرجل: - «يا أمير المؤمنين، اعتذاري ممّا تقرّعنى به ردّ عليك وإقرارى يوجب علىّ ذنبا ولكنّى أقول: إذا كنت ترجو فى العقوبة رحمة ... فلا تزهدن عند المعافاة فى الأجر فأمر بإطلاقه. حقده على الربيع وسمّه وقد كنّا حكينا عن موسى الهادي ما حقده على الربيع من دخوله على أمّه. فلمّا تجاوز عنه وجد أعداء الربيع طريقا إليه من طريق غيرة الهادي. وكان الربيع أهدى إلى المهدى جارية حسناء [532] فائقة الجمال، حسنة القدّ والشعر ناهدة الثدي. فلمّا رآها المهدى قال: - «هذه تصلح لموسى.» فوهبها له فشعف بها الهادي واستولدها، فهي أمّ أكابر أولاده. فقال حسّاد الربيع: - «يا أمير المؤمنين، إنّ الربيع يتفوّه فى خلوته بما هو أعظم ممّا أنكرته.» قال: «وما هو؟»   [1] . فى الطبري (10: 585) : يقرّعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 قالوا: «إنّه يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض أطيب من فلانة- يعنى أمّ أولاد الهادي.» فالتهب الهادي وتركه حتّى إذا كان يوم أنسه دعا الربيع إلى مجالسته وسقاه بيده كأسا مسموما، فأحسّ الربيع بذلك وبما رقّى إليه من كلامه، فلم يقدر على الامتناع وخاف أن يمتنع فيضرب عنقه، فشرب الكأس، فتوصّب من ساعته وقام فأظهر الهادي شفقة عليه وعرض عليه المقام، فأبى وقال: - «ما أجده يا أمير المؤمنين أكبر من أن أقيم معه.» ثمّ بادر إلى منزله، فأوصى ومات من ليلته [1] .   [1] . انظر الطبري (10: 598) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 خلافة هارون الرشيد وفى هذه السنة استخلف هارون بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن علىّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلّب الرشيد فبويع له ليلة [1] الجمعة وهي الليلة التي توفّى [533] فيها الهادي وكانت سنّه يوم ولى اثنتين وعشرين سنة، وأمّه أمّ ولد يمانية ثمّ جرشيّة يقال لها خيزران، وولد بالرّى سنة تسع وأربعين ومائة. وكان هرثمة بن أعين هو الذي أخرج هارون الرشيد ليلا فأقعده للخلافة. ويقال: إنّ هارون لمّا جلس للخلافة حلف ألّا يصلّى الظهر إلّا ببغداذ وأنّه لا يصلّى بعيساباذ إلّا على المهدى، وأنّه لا يصلّى ببغداذ إلّا ورأس أبى عصمة بين يديه. ثمّ لبس ثيابه وخرج، فصلّى على أبيه، وقدّم أبا عصمة فضربت عنقه وشدّ جمّته [2] فى رأس قناة ودخل بها بغداذ وذاك أنّه كان مضى هو وجعفر بن موسى الهادي راكبين، فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ فالتفت أبو عصمة إلى هارون فقال له: - «مكانك حتّى يجوز ولىّ العهد.»   [1] . آ: يوم الجمعة، والطبري (10: 599) كالأصل. [2] . الجمّة: مجتمع شعر الرأس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 فقال هارون: - «السمع والطاعة للأمير.» فوقف حتّى جاز جعفر، فكان هذا سبب قتل أبى عصمة. ويقال: إنّه لمّا توفّى موسى، هجم خزيمة بن خازم فى تلك الليلة فأخذ جعفرا من قرابته، وكان خزيمة [534] فى خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح. فقال: «والله لأضربنّ عنقك أو تخلعها.» وذاك أنّ موسى قد كان أمر جماعة فبايعوه، فلمّا كان الصبح ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة فأقامه على باب الدار فى العلو والأبواب مغلّقة فأقبل جعفر ينادى: - «يا معشر الناس، من كانت لى فى عنقه بيعة فقد أحللته منها والخلافة لعمّى هارون ولا حقّ لى فيها.» فكانت سبب مشى عبد الله بن مالك الخزاعي إلى مكّة على اللبود، وحظى خزيمة بذلك عند الرشيد [1] . هارون يقلّد خالدا الوزارة وقلّد هارون يحيى بن خالد الوزارة وقال له: - «قد قلّدتك أمر الرعيّة وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم فى ذلك بما ترى من الصواب واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت وأمض الأمور على ما ترى.» ودفع إليه خاتمه، وكانت خيزران هي الناظرة فى الأمور، وكان يحيى   [1] . انظر الطبري (10: 603) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 يعرض عليها ويصور عن رأيها [1] . ثمّ دخلت سنتا إحدى واثنتين وسبعين ومائة ولم يجر فيهما ما يستفاد منه تجربة [535] . ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة وفيها كانت وفاة محمّد بن سليمان بالبصرة فوجّه الرشيد إلى كلّ ما خلّفه رجلا أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلّف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلا، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدوابّ والخيل والإبل وإلى الطيب والجواهر وكلّ آلة برجل من قبل الذي يتولّى كلّ صنف من الأصناف، فأخذوا جميع ما كان لمحمّد ممّا يصلح للخلافة ولم يتركوا شيئا إلّا الخرثىّ [2] الذي لا يصلح للخلفاء وأصابوا له فى خزانة لباسه أصناف الثياب منذ كان صبيّا فى الكتّاب إلى أن مات على مقادير السنين وكان من ذلك ما عليه آثار النقس [3] وأصابوا له ستين ألف ألف، فحملوها مع ما حمل، فلمّا صارت فى السفن، أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك، فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلّا المال، فإنّه أمر بصكاك فكتبت للندماء وكتبت للمغنين صكاك صغار لم تدوّن [536] فى الديوان ثمّ دفع إلى كلّ رجل صكّ بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم   [1] . فى آ: رأيهما. [2] . الخرثّى: أردأ المتاع وسقطه. [3] . كذا فى الأصل والطبري (10: 608) : النّقس. والنقّس المداد الذي يكتب به. وفى آ: النقش (بالشين الموجمة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 إلى السفن فأخذوا المال على ما أمر لهم به فى الصكاك أجمع لم يدخل بيت ماله منه درهم واحد واصطفى ضياعه. موت الخيزران وفيها ماتت الخيزران فخرج الرشيد وعليه جبّة سعيديّة وطيلسان خرق أزرق قد شدّ به وسطه وهو آخذ بقائمة السرير حافيا يمشى فى الطين حتّى أتى مقابر قريش، فغسل رجليه ودعا بخفّ وصلّى عليها ودخل قبرها، فلمّا خرج دعا الفضل بن الربيع وقال له: - «وحقّ المهدىّ- وكان لا يحلف به إلّا إذا اجتهد- إنّى لأهمّ لك من الليل بشيء من التولية وغيرها، فتمنعني هذه، رحمها الله، وأطيع أمرها.» وولّاه نفقات العامّة والخاصّة وبادوريا والكوفة ولم تزل حاله تنمى إلى سنة سبع وثمانين. ودخلت سنة أربع وسبعين [ومائة] ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يليق بهذا الكتاب إثباته. [537] ودخلت سنة خمس وسبعين ومائة محمد الأمين يصبح وليّا للعهد وفيها عقد الرشيد لابنه محمّد ولاية العهد من بعده وأخذ له بذلك بيعة القوّاد والجند وسمّاه الأمين، وله يومئذ خمس سنين. وكان جماعة من بنى العبّاس قد مدّوا أعناقهم للخلافة بعد الرشيد لأنّه لم يكن له ولىّ عهد، فلمّا بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنّه. ولمّا صار الفضل بن يحيى إلى خراسان فرّق هناك أموالا عظيمة وأعطى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 الجند أعطيات متتابعة، ثمّ أظهر البيعة لمحمّد بن الرشيد، فبايع له الناس وسمّاه الأمين، فلمّا تناهى إلى الرشيد خبره وأنّ أهل المشرق بايعوا لمحمّد، كتب إلى الآفاق فبويع له فى جميع الأمصار. ثمّ دخلت سنة ستّ وسبعين ومائة ظهور يحيى بن عبد الله وفيها ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن حسن بن علىّ بن أبى طالب، [1] فنزع إليه الناس من الأمصار، واشتدّت شوكته وقوى أمره، فاغتمّ لذلك الرشيد فندب إليه الفضل بن يحيى فى خمسين ألف رجل ومعه صنادد القوّاد [538] وولّاه كور الري، والجبل، وجرجان، وطبرستان، وقومس، ودنباوند، والرويان، وحملت معه الأموال، فشخص الفضل واستخلف منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين تجرى كتبه على يده وتنفذ الجوابات عنها إليه. وكانوا يثقون بمنصور وابنه فى جميع أمورهم لقديم صحبته لهم وحرمته بهم. ثمّ مضى من معسكره ولم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبرّ واللطف والجوائز والخلع، فكاتب يحيى ورفق به واستماله وناشده وحذّره وأشار عليه وبسط أمله، وكاتب صاحب الديلم وجعل له ألف ألف درهم على أن يسهّل خروج يحيى إلى ما قبله [2] ، وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطّه على نسخة يبعث بها إليه، فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه، وكتب يحيى أمانا وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلّة بنى هاشم ومشايخهم منهم: عبد الصمد بن   [1] . انظر الطبري (10: 612) . [2] . الظبط من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 علىّ، والعبّاس بن محمّد، وموسى بن عيسى، ومحمّد بن إبراهيم، ومن أشبههم، ووجّه معه جوائز وكرامات [539] وهدايا. فوجّه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بن عبد الله عليه وورد به الفضل بغداذ: فلقيه الرشيد بكلّ ما أحبّ، وأمر له بمال كثير وأجرى له أرزاقا سنيّة، وأنزله منزلا سريّا، بعد أن أقام فى منزل يحيى بن خالد أيّاما، وكان يتولّى أمره بنفسه ولا يكل ذلك إلى غيره. وبلغ الرشيد الغاية فى إكرام الفضل، ومدحه الشعراء فأكثروا. فمنها ما قاله مروان بن أبى حفصة: ظفرت فلا شلّت يد برمكيّة ... رتقت بها الفتق الذي بين هاشم على حين أعيا الراتقين التئامه ... فكفّوا وقالوا ليس بالمتلائم فأصبحت قد فازت يداك بخطّة ... من المجد باق ذكرها فى المواسم وما زال قدح الملك يخرج فائزا ... لكم كلّما ضمّت قداح المساهم وتركت ذكر غيره من المدائح لأنّها كثيرة ولا طائل فيها من جهة الاختيار. فحكى أحمد بن محمّد بن جعفر بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: لمّا قدم بيحيى من الديلم أتيته وهو فى دار علىّ بن أبى طالب عليه السلام [1] فقلت له: - «يا عمّ، ما بعدك [540] مخبر، ولا بعدي مخبر، فأعلمنى خبرك.» فقال:- «يا ابن أخى، والله إن كنت إلّا كما قال حيىّ بن أخطب: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنّه من يخذل الله يخذل   [1] . فى مط: رضى الله عنه. انظر الطبري (10: 615) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 لجاهد حتّى أبلغ النّفس عذرها ... وقلقل يبغى العزّ كلّ مقلقل ذكر عقوبة سريعة بعقب إقدام على يمين كاذبة وحكى [1] بعض المشايخ من النوفليين قال: وشى قوم بيحيى بن عبد الله، فحبسه الرشيد، قال: فدخلنا على عيسى بن جعفر وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض وهو قائم متّكئ عليها، وإذا هو يضحك من شيء فى نفسه متعجّبا منه فقلنا: - «ما الذي يضحك الأمير، أدام الله سروره؟» قال: «لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قطّ.» فقلنا: «تمّم الله للأمير سروره.» فقال: - «والله لا أحدّثكم [2] به إلّا قائما.» واتّكأ على فرش كانت هناك قائما، وهو قائم، فقال: كنت اليوم عند أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله فأخرج من السجن مكبّلا بالحديد وعنده بكّار بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير- وكان بكّار هذا شديد البغض لآل أبى طالب، وكان [541] يبلّغ هارون الرشيد عنهم ويشى بهم، وكان الرشيد ولّاه المدينة وأمره بالتضييق عليهم- فلمّا دعى بيحيى قال له الرشيد: - «هيه هيه- متضاحكا- وهذا أيضا يزعم أنّا سممناه.»   [1] . انظر الطبري (10: 616) . [2] . ضبط الكلمة من الطبري (10: 616) . ما فى الأصل لا حدّثتكم. وما فى آمهمل تماما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 فقال يحيى: «ما معنى يزعم، ها هو ذا لساني.» وأخرج لسانه أخضر مثل السلق. قال: فتربّد هارون، واشتدّ غضبه، فقال يحيى: - «يا أمير المؤمنين، إنّ لنا قرابة ورحما ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، إنّا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكّرك الله والقرابة والرحم برسول الله، صلّى الله عليه، علام تعذّبنى وتحبسني؟» قال: فرقّ له هارون الرشيد، وأقبل بكّار الزبيري على الرشيد، فقال: - «يا أمير المؤمنين، لا يغرّك كلامه، فإنّه شاقّ عاص، وهذا منه مكر وخبث، إنّ هذا أفسد علينا مدينتنا وأظهر فيها العصيان.» قال: فأقبل يحيى عليه، فو الله ما استأذن أمير المؤمنين فى الكلام حتّى قال: - «أفسدوا عليكم مدينتكم؟ ومن أنتم عافاكم الله؟» قال الزبيري: هذا كلامه قدّامك، فكيف إذا غاب عنك؟ يقول: ومن أنتم عافاكم الله، واستخفافا بنا.» قال: [542] فأقبل يحيى عليه، فقال: - «نعم، ومن أنتم عافاكم الله، المدينة كانت مهاجر عبد الله بن الزبير، أم مهاجر رسول الله صلّى الله عليه، ومن أنت حتّى تقول: أفسدوا علينا مدينتنا، وإنّما بآبائى وأباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة.» ثمّ قال: - «يا أمير المؤمنين، إنّما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا فوجدنا بذلك مقالا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله فيه بالفضل يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 على أهل بيتك يسعى بهم عندك. إنّه، والله، ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك وإنّه ليأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا يريد أن يباعد بيننا ويشتفى من بعض ببعض [1] والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إلىّ هذا حيث قتل أخى محمّد بن عبد الله،- فقال: لعن الله قاتله- وأنشدنى فيه مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا وقال: إن تحرّكت فى هذا الأمر فأنا أول من يبايعك وما يمنعك [543] أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك.» قال: فتغيّر وجه الزبيري واسودّ. وأقبل عليه هارون فقال: - «أىّ شيء يقول هذا؟» قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان ممّا قال حرف.» قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال: - «تروى القصيدة التي رثاه بها؟» قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله. فأنشدها إيّاه. فقال الزبيري: - «والله يا أمير المؤمنين، الذي لا إله إلّا هو- حتّى أتى على اليمين الغموس- ما كان ممّا قال شيء، ولقد تقوّل علىّ ما لم أقل.» قال: «فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال: - «قد حلف، فهل من بيّنة سمعوا هذه المرثية منه؟» قال: «لا يا أمير المؤمنين، ولكنّى استحلفه بما أريد.» قال: فاستحلفه. فقال: - «قل أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى حولي وقوّتى إن كنت قلته.»   [1] . آ. لبعض. والطبري (10: 617) كالأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 قال الزبيري: - «يا أمير المؤمنين، أىّ شيء هذا من الحلف [1] ؟ احلف بالله الذي لا إله إلّا هو، وتستحلفنى بشيء لا أدرى ما هو.» قال يحيى بن عبد الله: - «يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما عليه أن يحلف بما استحلفه به، فقال هارون: - «احلف له ويلك.» قال: فقال: «أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى [544] حولي وقوّتى.» قال: فاضطرب منها وأرعد، فقال: - «يا أمير المؤمنين، ما أدرى أىّ شيء هذا اليمين التي [2] يستحلفني بها، وقد حلفت بالله أعظم الأشياء.» قال: فقال هارون: - «لتحلفنّ له أو لأصدّقنّ قوله عليك ولأعاقبنّك.» قال: فقال: «أنا بريء من حول الله وقوّته موكّل إلى حولي وقوّتى إن كنت قلته.» قال: فخرج من عند هارون، فضربه الله بالفالج فمات من ساعته.» قال: فقال عيسى بن جعفر: - «وما يسرّنى أنّ يحيى [ما] [3] نقصه حرفا ممّا كان جرى بينهما ولا قصّر فى شيء من مخاطبته إيّاه.»   [1] . فى آ: من الخلاف. [2] . فى الأصل: الذي. آوالطبري (10: 618) : التي. [3] . ما بين المعقوفتين أضفناه من الطبري (10: 618) وما فى الأصل ومط وآ: «نقصه» من دون «ما» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 وذكر أبو يونس قال: سمعت عبد الله بن العبّاس بن علىّ الذي يعرف بالخطيب قال [1] : كنت يوما على باب الرشيد أنا وأبى، وحضر ذلك اليوم الجند والقوّاد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قطّ لا قبله ولا بعده، فخرج الفضل بن الربيع إلى أبى، فقال له: «ادخل.» ومكث ساعة، ثمّ خرج إلّى فقال: - «ادخل.» فدخلت فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلّمها، فأومأ إلى أبى أنّه لا يريد اليوم أن يدخل أحدا وإنّما استأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب، فإذا دخلت هذا [545] المدخل زادك ذلك نبلا عند الناس. فما مكثنا إلّا قليلا حتّى جاء الفضل بن الربيع فقال: - «إنّ عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن فى الدخول.» فقال: «إنّى لا أريد أن أدخل اليوم أحدا إلىّ.» فقال: إنّه يقول: «إنّ عندي شيئا أذكره.» فقال: «قل له يقله لك.» قال: «قد قلت له ذاك، فزعم أنّه لا يقوله إلّا لك.» قال: «أدخله.» وخرج ليدخله، وعادت المرأة، وشغل بكلامها وأقبل علىّ أبى فقال: - «إنّه ليس عنده شيء يذكره وإنّما أراد الفضل بهذا أن يوهم من على الباب أنّ أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصيّة خصصنا بها وإنّما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.» وطلع الزبيري فقال:   [1] . انظر الطبري (10: 620) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 - «يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره.» فقال: «قل.» فقال له: «إنّه سرّ.» فقال: «ما من العبّاس سرّ.» فنهضت. فقال: - «ولا منك يا حبيبي.» فجلست. فقال: - «قل.» قال: «إنّى والله قد خفت على أمير المؤمنين زوجته وابنته وجاريته التي تلى فراشه وخادمه الذي يلي ثيابه وأخصّ خلق الله به من قوّاده وأبعدهم منه.» قال: فرأيته قد تغيّر لونه وقال له: - «من ماذا.» قال: «جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله [546] بن الحسن فعلمت أنّه لم يبلغني مع العداوة بيننا وبينهم حتّى لم يبق على بابك أحد إلّا وقد أدخله فى الخلاف عليك.» فقال: «أتقول هذا فى وجهه؟» قال: «نعم.» قال الرشيد: «علىّ بيحيى.» فدخل فأعاد القول بحضرته. فقال يحيى: - «والله يا أمير المؤمنين، قد جاء بشيء لو قبل لمن هو دونك فيمن هو أكبر منّى وهو قادر عليه لما أفلت منه أبدا، ولكن لى رحم وقرابة فلو أخّرت هذا الأمر ولم تعجل لكفيت مؤونتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك وإنّى أباهله بين يديك وتصبر قليلا.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 فقال: «يا عبد الله، قم فصلّ إن رأيت ذاك.» وقام يحيى فاستقبل القبلة وصلّى ركعتين خفيفتين [1] ، وصلّى عبد الله ركعتين [1] . ثمّ برك يحيى وقال: - «ابرك.» ثمّ شبّك يمينه فى يمينه [2] ، ثمّ قال: - «اللهمّ إن كنت تعلم أنّى دعوت عبد الله بن مصعب إلى الخلاف على هذا- ووضع يده عليه وأشار إليه- فأسحتنى بعذاب من عندك ولكنى إلى حولي وقوّتى، وإلّا فكله إلى حوله وقوّته وأسحته بعذاب من عندك، آمين ربّ العالمين. فقال: «آمين ربّ العالمين.» فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: [547]- «قل كما قلت.» فقال عبد الله: - «اللهم إن كنت تعلم أنّ يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا، فكلنى إلى حولي وقوّتى وأسحتنى بعذاب من عندك، وإلّا فكله إلى حوله وقوّته وأسحته بعذاب من عندك، آمين ربّ العالمين.» وتفرّقا. فأمر الرشيد بيحيى بن عبد الله فحبس فى ناحية من الدار. فلمّا خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبى فعدّد عليه مننه على يحيى وأياديه عليه فكلّمه أبى بما لا يدفع به عن عصفور خوفا على نفسه، فأمرنا   [1] . 2. ناقص فى الأصل ومط. زدناه من آوالطبري (10: 622) . [2] . فى مط: ثمانية فى ثمانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 بالانصراف، فانصرفنا، فدخلت مع أبى أنزع عنه سواده، وكان ذلك من عادتي، فبينا أنا أحلّ منطقته إذ دخل عليه الغلام، فقال: - «رسول عبد الله بن مصعب. [1] » فقال: «أدخله.» فدخل. وقال: - «يقول لك مولاي: أنشدك الله إلّا بلغت إلىّ.» فقال أبى: «قل له أجد مسّ تعب، وقد وجّهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلى فألقه إليه.» فخرج الغلام. وقال لى [2] : - «إنّما دعاني ليستعين بى على الإفك، فإن أعنته قطعت رحم رسول الله صلّى الله عليه، وإن خالفته سعى بن، فاذهب إليه [548] فكلّ ما قال لك فليكن جوابك له: أخبر أبى.» وخرجت فى إثر الرسول. فلمّا صرت فى بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: - «ويحك، ما أمره وما أزعجه بالإرسال إلى أبى الفضل فى مثل هذا الوقت؟» فقال: «إنّه جاء من الدار فما هو إلّا أن نزل [3] عن الدابّة، حتى صاح: بطني، بطني.» قال:   [1] . وزاد فى آ: على الباب. [2] . لى. زيادة من آوالطبري (10: 623) . [3] . فى الأصل ومط فهو الذي نزل عن الدّابة: كذا فى آ: فما هو إلّا أن نزل عن الدابة حتّى. فى الطبري (10: 623) : فساعة نزل عن الدابة صاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 فما حفلت بقول الغلام. فلمّا صرنا على باب الدار، وكان فى درب لا منفذ له، فتح البابين، وإذا النساء خرجن منشورات الشعور متحزّمات بالحبال يلطمن وجوههنّ وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فعجبت من ذلك، وعطفت راجعا أركض ركضا لم أركض قبله مثله، والغلمان والحشم ينتظروننى لتعلّق قلب الشيخ بى. فلمّا رأونى دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوبا فى قميص ومنديل ينادى: - «ما وراءك يا بنّى؟» قلت: «إنّه مات.» قال: «الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيّانا منه.» فما قطع كلامه حتّى ورد خادم للرشيد يأمر أبى بالركوب وإيّاى معه، فقال أبى ونحن نسير: - «لو جاز أن يدّعى ليحيى نبوّة لادّعاها أهله له رحمه الله، [549] وعند الله نحتسبه ولا والله ما نشكّ أنّه قتل.» فمضينا حتّى دخلنا على الرشيد، فلمّا نظر إلينا قال: - «يا عبّاس، أما عندك الخبر؟» فقال أبى: - «بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه ووقاك يا أمير المؤمنين قطع أرحامك.» فقال الرشيد: - «الرجل والله سليم على ما تحبّ [1] .» ورفع الستر فدخل يحيى وأنا والله أتبيّن الارتباع فى الشيخ، فلمّا نظر إليه   [1] . تحبّ: كذا فى الأصل وآ. فى الطبري (10: 625) : يحبّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 الرشيد صاح به: - «يا أبا محمّد، إنّ الله قد قتل عدوّك الجبّار.» قال: - «الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوّه علىّ وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين لو كان هذا الأمر ممّا أطلبه وأصلح له وأريده، ولم يكن الظفر به إلّا بالاستعانة به، ثمّ لم يبق فى الدنيا غيرى وغيرك وغيره ما تقويّت به عليك أبدا، فكيف وأنا لا أطلب هذا الأمر ولا أريده ولا أصلح له.» ثمّ قال: - «وهذا والله من أحد آفاتك- وأشار إلى الفضل بن الربيع- والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم ثمّ طمع فى زيادة تمرة لباعك بها.» فقال: - «أمّا العبّاسىّ [1] ، فلا تقل فيه إلّا خيرا.» وأمر له فى هذا اليوم بمائة ألف دينار [550] وكان حبسه بعض يوم. هياج العصبيّة فى الشام بين النزاريّة واليمانيّة وفى هذه السنة هاجت العصبيّة بالشام بين النزاريّة واليمانيّة، فقتل بينهما بشر كثير. فولّى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، وضمّ إليه، من القوّاد والأجناد ومشايخ الكتّاب جماعة فلمّا ورد الشام أصلح بين أهلها وسكنت الفتنة، فردّ الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم وصفح عن جناياتهم، فمدحه الشعراء وأكثروا.   [1] . العباسىّ: كذا فى الأصل والطبري (10: 624) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 عزل موسى بن عيسى عن مصر وفيها عزل الرشيد موسى بن عيسى عن مصر، وولّى جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مصر، فولّاها جعفر عمر بن مهران. ذكر السبب فى ولايته وما كان منه كان قد بلغ الرشيد أنّ موسى بن عيسى بن موسى قد تجبّر بمصر وعزم على الخلع، فقال: - «والله لا أعزله إلّا بأخسّ من على بابى، انظروا لى رجلا.» فذكر عمر بن مهران، وكان إذ ذاك يكتب للخيزران ولم يكتب قطّ لغيرها، وكان رجلا أحول مشنوء الوجه، وكان لباسه خسيسا أرقع [1] ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهما وكان يشمّر ثيابه ويقصّر كمامه ويركب بغلا وعليه رسن [551] ولجام حديدىّ ويردف غلامه خلفه. فدعا به وولّاه مصر حربها وخراجها وضياعها. فقال: - «يا أمير المؤمنين، أتولّاها على شريطة.» قال: «وما هي؟» قال: «يكون إذنى إلىّ إذا أصلحت البلاد انصرفت.» فجعل له ذلك، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بموسى بن عيسى، فكان يتوقّع قدومه. فدخل عمر بن مهران مصر على بغل وغلامه أبو درّة على بغل، فقصد دار موسى والناس عنده. فدخل وجلس فى أخريات الناس، فلمّا تفرّق الناس قال موسى بن عيسى:   [1] . فى آ: أرفع، بدل «أرقع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 - «ألك حاجة يا شيخ؟» قال: «نعم.» وأخرج الكتب، فدفعها إليه، قال: «يقدم أبو حفص أبقاه الله.» قال: «فأنا أبو حفص.» قال: «أنت عمر بن مهران؟» قال: «نعم.» فقال: «لعن الله فرعون حين قال: أليس لى ملك مصر؟ [1] » ثمّ سلّم إليه العمل ورحل، فتقدّم عمر بن مهران إلى أبى درّة غلامه فقال: - «لا تقبل من الهدايا إلّا ما يدخل فى الجراب، لا تقبل دابّة ولا جارية ولا غلاما.» وجعل الناس يبعثون بضروب الهدايا والألطاف فلا يقبل إلّا المال والثياب ويأتى بها [552] عمر فيوقّع عليها أسماء من بعث بها. ثمّ وضع الجباية وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم فلواه فقال: - «والله لا أدّيت [2] ما عليك من الخراج إلّا فى بيت المال بمدينة السلام إن سلمت.» قال: «فإنّى أؤدّى.» وتحمّل عليه، فقال: - «قد حلفت ولا أحنث.» فأشخصه مع ثلاثة من الجند، وكتب معهم إلى الرشيد. وكان العمّال يكاتبون إذ ذاك الخليفة:   [1] . س 43 الزخرف: 51. وزاد فى آ: ... وهذه الأنهار تجرى من تحتي. [2] . فى الطبري (10: 627) : لا تؤدّى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 - «أنّى دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج فلوانى واستنظرنى فأنظرته، ثمّ دعوته، فدافع ولوانى، فعل ذلك مرارا، فآليت إلّا يؤدّيه إلّا فى بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه من المال كذا وكذا وقد أنفذته مع فلان وفلان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلىّ بوصوله فعل إن شاء الله.» فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، واستأدى النجم الأوّل والنجم الثاني، فلمّا كان النجم الثالث وقعت المطاولة والمطل. فأمر بإحضار الهدايا التي بعث بها إليه، فنظر فى الأكياس وأحضر الجهبذ، فوزن ما فيها وأجراها [1] عن أهلها، ثمّ دعا بالأسفاط فنادى على [553] ما فيها فباعها وأجرى أثمانها عن أهلها. ثمّ قال: - «يا قوم، حفظت هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها فأدّوا إلينا مالنا.» فأدّوا إليه حتّى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنّه أغلق [2] مال مصر غيره. وانصرف فخرج على بغل وأبو درّة على بغل وكان إذنه إليه. ودخلت سنة سبع وسبعين ومائة ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يكتب فى هذا الكتاب. ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائة الفضل بن يحيى يولّى خراسان أيضا وفيها ولّى الفضل بن يحيى بن خالد خراسان مضافا إلى ما كان إليه من ولاية الجبل وجرجان وطبرستان. فشخص إليها، فأحسن بها السيرة وبنى   [1] . أجراها: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (10: 628) : اجزاها (بالزاء المعجمة) . [2] . فى الأصل: أعلق. (با همال العين) مع أنّه: «أغلق» (بالإعجام) فى الموطن السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 المساجد والرباطات وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخرّة ملك اسروشنة وكان ممتنعا. واتخذ الفضل بن يحيى جندا من عجم خراسان سمّاهم العبّاسيّة، وجعل ولاءهم له، وبلغت عدّتهم خمسمائة ألف رجل، وقدم بغداذ منهم عشرون ألف رجل فسمّوا ببغداذ الكرنبيّة، وخلّف الباقي بخراسان على [554] على أسمائهم ودفاترهم. وفرّق الفضل من الأموال ما هو بالسرف أليق منه بالجود. وقد ذكرنا من ذلك طرفا. فمّما جرى له من هذا النمط أنّ إبراهيم بن جبريل كان خرج مع الفضل مكرها، فأحفظ الفضل ذلك عليه. قال إبراهيم: فدعاني يوما بعد ما أغفلنى حينا، فلمّا صرت بين يديه سلّمت، فما ردّ علىّ، فقلت فى نفسي: شرّ والله، وكان مضطجعا فاستوى جالسا ثمّ قال: - «ليفرخ [1] روعك يا إبراهيم فإنّ قدرتي عليك تمنعني منك.» قال: ثمّ عقد لى على سجستان فلمّا حملت خراجها وهبه لى وزادني خمسمائة ألف درهم. وكان معه عمّه إبراهيم فوجّهه إلى كابل فافتتحها وغنم غنائم كبيرة ووصل إليه فى ذلك الوجه سبعة آلاف ألف [2] درهم، وكان عنده من مال الخراج أربعة آلاف درهم [3] . فلمّا قدم بغداد وبنى داره واستزار الفضل ليريه نعمته عليه وأعدّ له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضّة، وأمر بوضع الأربعة آلاف ألف فى ناحية من الدار. فلمّا قال الفضل بن يحيى، قدّم اليه الهدايا والطرف فأبى أن يقبل منها شيئا وقال:   [1] . فى الطبري (19: 634) ليفرج. فى آ: ليفرخ عن روعك، بزيادة «عن» . [2] . فى الأصل: سبعة ألف ألف. [3] . وكان «درهم» : سقط من الأصل، فزدناها من آوالطبري (10: 634) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 - «لم آتك [555] لأسلبك.» قال: «إنّها نعمتك أيّها الأمير.» قال: «ولك عندنا مزيد.» فلم يأخذ من جميع ذلك إلّا سوطا سجزيّا. وقال: - «هذا من آلة الفرسان.» فقال له: «هذا المال من مال الخراج.» قال: «هو لك.» فأعاد عليه، فقال: «أما لك بيت يسعه؟» وانصرف. ولمّا قدم الفضل بن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أمّ جعفر يستقبله وتلقّاه بنو هاشم والناس على مراتهم، فجعل يصل الرجل بألف ألف وبخمسمائة آلاف درهم. وأعطى الشعراء فأكثر. فحكى مروان بن أبى حفصة وكان قد زاره: أنّه وصل إليه فى مدّة مقامه عليه سبعمائة ألف درهم. ودخلت سنة تسع وسبعين ومائة قتل ابن طريق وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدّت شوكته، وكثر تبعه، فوجّه الرشيد إليه يزيد بن مزيد الشيبانى فراوغه يزيد إلى أن ظنّ أنّه كرهه، ثمّ التمس غرّته حتّى وجدها فقتله وجماعة كانوا معه وتفرّق الباقون. وقالت الفارعة أخت الوليد بن طريف: [556] أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنّك لم تحزن [1] على ابن طريف   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: لم تحزن. فى الطبري (10: 638) : لم تجزع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 فتى لا يحبّ الزّاد إلّا من التّقى ... ولا المال إلّا من قنا وسيوف واعتمر الرشيد فى هذه السنة فى شهر رمضان شكرا لله عزّ وجلّ على ما أبلاه فى الوليد بن طريف. ثمّ انصرف إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحجّ، ثمّ حجّ بالناس فمشى من مكّة إلى منى، ثمّ إلى عرفات، وشهد المشاهد كلّها، والمشاعر ماشيا. ثمّ دخلت سنة ثمانين ومائة هياج العصبيّة بين أهل الشام وفيها هاجت العصبيّة بالشام بين أهلها، وتفاقم أمرها فقلق الرشيد واغتمّ لذلك، وقال لجعفر بن يحيى: - «إمّا أن تخرج أنت، أو أخرج أنا.» فقال له جعفر: «بل أقيك بنفسي.» فشخص فى جلّة القوّاد والكراع والسلاح وعقد له على الشام. فلمّا أتاهم أصلح بينهم وقتل زواقيلهم والمتلصّصة منهم، ولم يدع به رمحاً ولا فرسا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وأطفأ النائرة، وعاد إلى جعفر، واستخلف على الشام عيسى بن العكّى فزاد الرشيد [557] فى إكرامه ومدحه الشعراء. ويقال: إنّه لمّا عاد ومثل بين يدي الرشيد، قبّل يديه ورجليه ثمّ مثل بين يديه فقال: - «الحمد لله الذي آنس وحشتي بأمير المؤمنين، وأجاب دعوتي، ورحم تضرّعى ونسأ فى أجلى، حتى أرانى وجه سيّدى، وأكرمنى بقربه وأمتنّ علىّ بتقبيلى يده، وردّني إلى خدمته، فو الله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 المقادير [1] التي أزعجتنى فأعلم أنّها كانت بمعاص لحقتني وخطايا قد أحاطت بى، ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين لخفت أن يذهب عقلي إشفاقا على قربك، وأسفا على فراقك، وأن يعجل بى عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك. فالحمد لله الذي عصمنى فى حال الغيبة، وأمتعنى بالعافية، ومسكنى بالطاعة وحال بيني وبين استعمال المعصية، ولم أشخص إلّا عن رأيك ولم أقدم إلّا عن إذنك ولم يخترمنى أجلى دونك، والله يا أمير المؤمنين، فلا أعظم من اليمين بالله، لقد عاينت ما لو تعرض لى الدنيا كلها، لاخترت قربك ولما رأيتها عوضا من المقام معك.» ثمّ أثنى عليه [558] ثناء طويلا. ثمّ ولّى الرشيد جعفرا خراسان وسجستان، فاستعمل جعفر عليها محمّد بن الحسن بن قحطبة. ودخلت سنة إحدى وسنة اثنتين وثمانين ومائة ولم يجر فيهما على ما بلغنا ما يليق ذكره بهذا الكتاب. ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة خروج خاقان الخزر وفيها كان خروج ملك الخزر من باب الأبواب وإيقاعهم بالمسلمين هنالك وأهل الذمّة وسبيهم أكثر من مائة ألف فانتهكوا أمرا عظيما لم يسمع فى الأرض بمثله [2] .   [1] . كذا في آوالطبري (10: 642) : ومخرجي والمقادير. ما فى الأصل غير واضح. [2] . وفى آ: سبب مثله، بزيادة «سبب» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 ذكر السبب فى ذلك وكان سبب ذلك أنّ الفضل بن يحيى خطب بنت خاقان الخزر، فحملت إليه، فماتت ببرذعة. وكان على أرمينية يومئذ سعيد بن سلم بن قتيبة فرجع من كان معها من الطراخنة إلى أبيها فأخبروه أنّ ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك وعمل ما عمل. فولّى الرشيد أرمينية يزيد بن مزيد مع آذربيجان، وضمّ إليه قوّاد الجند ووجّهه، وأنزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءا لأهل أرمينية. وقيل أيضا: أنّ سبب دخول الخزر أرمينية فى زمن هارون كان أنّ سعيد بن سلم ضرب عنق [559] المنجّم السلمىّ بفاس، فدخل ابنه بلاد الخزر فاستجاشهم، فدخلوا أرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، ونكحوا المسلمات وأقاموا سبعين يوما، فلمّا صار يزيد بن مزيد إلى أرمينية، خرج الخزر وسدّت الثلمة. استقدام الرشيد علىّ بن عيسى من خراسان وفيها استقدم الرشيد علىّ بن عيسى بن هامان من خراسان وكان سبب ذلك أنّه أبلغ عنه أمور عظام. وقيل: إنّه أجمع على الخلاف، فاستخلف علىّ بن عيسى ابنه يحيى ووافى حضرة الرشيد بأموال عظيمة، فردّه الرشيد إلى خراسان من قبل ابنه المأمون لحرب أبى الخصيب، فرجع. [1] ودخلت سنة أربع وثمانين ومائة ولم يجر فيها ما يكتب.   [1] . فى آ: ما يستفاد منه تجربة. انظر الطبري (11: 649) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 وكذلك سنة خمس وثمانين ومائة ودخلت سنة ستّ وثمانين ومائة حوادث عدّة وفيها خرج علىّ بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبى الخصيب إلى نسّا، [1] فقتله بها وسبى نساء وذراريّه، واستقامت خراسان. وحجّ هارون الرشيد وأخرج معه ابنيه محمّدا الأمين، وعبد الله المأمون، وليّى عهده. فبدأ بالمدينة [560] وأعطى أهلها ثلاثة أعطية، كانوا يقدمون [2] إليه فيعطيهم عطاء، ثمّ إلى محمّد فيعطيهم عطاء ثانيا، ثمّ إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثا. ثمّ صار إلى مكّة، فأعطى أهلها عطاء. فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار. وكان الرشيد عقد لابنه محمّد بن زبيدة وسمّاه الأمين وضمّ إليه الشام والعراق فى سنة خمس وسبعين، ثمّ بايع لعبد الله المأمون بالرّقة فى سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولّاه من حدّ همذان إلى آخر المشرق. وكان القاسم بن الرشيد فى حجر عبد الملك بن صالح، فلمّا بايع الرشيد لمحمّد وعبد الله، كتب إليه عبد الملك بن صالح يسأله فى أبيات شعر أن يجعل القاسم ثالثا فى ولاية العهد، فبايع له وسمّاه المؤتمن، وولّاه الجزيرة والثغور والعواصم. ولمّا قسم الأرض بين أولاده الثلاثة قال بعض الناس: قد أحكم أمر الملك،   [1] . فى الطبري (11: 651) نسا. دون تشديد. [2] . فى الأصل بتشديد الدال. ولا تشديد عليها فى الطبري (11: 651) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم وسيختلفون، فقال بعضهم: رأى الملك الرّشيد أضلّ رأى [1] ... بقسمته الخلافة والبلادا [561] أراد به ليقطع عن بنيه ... خلافهم ويبتذلوا الودادا فقد غرس العداوة غير آل ... وأورث شمل ألفتهم بدادا فويل للرّعيّة عن قليل ... لقد أهدى لها الكرب الشدادا ستجرى من دمائهم بحور ... زواخر لا يرون لها نفادا ولمّا قضى هارون الرشيد مناسكه، تقدّم إلى الفقهاء والقضاة وأهل العلم أن يجهدوا آراءهم فى كتابين، أحدهما على محمّد الأمين يشترط عليه الوفاء لعبد الله المأمون بما إليه من الأعمال وما صيّر له من الضياع والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصّة والعامّة والشروط على محمّد وعبد الله من الأحكام والسياسات، وأشهد أهل بيته ووزراءه وقوّاده ومواليه وكتّابه ومن كان فى الكعبة معه، وكان جميع ذلك فى البيت الحرام. ثمّ رأى أن يعلّق الكتاب فى الكعبة، فلمّا رفع ليعلّق، سقط، فقال الناس: «هذا أمر سريع الانتقاض لا يتمّ.» ونسخة [562] هذين الكتابين فيهما طول وهي موجودة فى كتب التواريخ وغيرها فلم أشتغل بنسخهما، وكتب كتبا بذلك إلى سائر العمّال فى الأمصار. [2]   [1] . فى الطبري (11: 653) رأى الملك المهذّب شرّ رأى. [2] . انظر الطبري (11: 655- ... ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة وفيها قتل الرشيد جعفر بن يحيى، وأوقع بالبرامكة ذكر السبب فى ذلك كانت أسباب تغيّره لهم كثيرة. فمن ذلك أنّ الرشيد سلّم يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن إلى جعفر، فحبسه عنده ثمّ دعا به ليلة، فسأله عن شيء من أمره. فأجابه إلى أن قال: - «اتّق الله فى أمرى ولا تتعرّض أن يكون خصمك غدا محمّد، صلّى الله عليه، فو الله ما أحدثت حدثا، ولا آويت محدثا.» فرق له وقال: - «اذهب حيث شئت من بلاد الله.» فقال: - «كيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ فأردّ إليك أو إلى غيرك؟» فوجّه معه من يؤدّيه إلى مأمنه، وبلغ الخبر الرشيد من عيون كانت له عليه، فدعاه ودعا بالغداء، فأكلا وجعل يلقّمه ويحادثه [563] إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: - «ما فعل يحيى بن عبد الله؟» قال: - «بحاله يا أمير المؤمنين فى الحبس والضيق والأكبال الثقيلة.» قال: «بحياتى؟» فأحجم جعفر، وكان من أرّق الناس ذهنا وأصحّهم فكرا. فهجس فى نفسه أنّه قد علم بما جرى فى أمره. فقال: - «لا وحياتك يا سيّدى، ولكن أطلقته لمّا علمت أنّه لا حياة به ولا مكروه عنده.» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 قال: «نعمّا فعلت ما عدوت ما كان فى نفسي.» فلمّا خرج أتبعه بصره حتّى كاد يتوارى عن عينه وقال: - «قتلني الله إن لم أقتلك.» ومن أسباب ذلك أنّ الرشيد قلب [1] جارية ارتضى عقلها وأدبها، وكانت حسنة الغناء، جزلة الشعر، مليحة الكتابة، بارعة الجمال، فلمّا رأى كمالها استام صاحبها فيها واستام بها مائة ألف دينار وقال: - «يا أمير المؤمنين، علىّ يمين بعتقها ألّا أنقصها [2] من ذلك شيئا.» فتقدّم بإطلاق ذلك لمولاها. فقال جعفر لأبيه وأخيه: - «إنّ هذا إن أقدم على مثل هذه الأشياء أفنى بيوت الأموال. وقد رأيت أن أتقدّم بحمل قيمة هذه الدنانير دراهم فتوضع فى طريقه مبدّدة فإنّه الآن لا يعلم ما قيمة ما أطلق، وإذا رآها حلّت فى عينه ولعلّه أن ينصرف عن هذا الرأى.» [564] ففعل ذلك وأمر بالمال ووضع فى ممرّ له، فلمّا نظر إليه الرشيد قال: - «من أين هذا الحمل؟» قال له الخازن: - «إنّه ليس بحمل، ولكنّه أخرج من الخزانة وهو ثمن الجارية وقد أحلّ   [1] . قلبه: أصاب قلبه. [2] . فى مط: انتقصها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 مكانه ببيت المال.» فأمر بعض خدمه أن يرفعه عنده وأودعه بيتا وسمّاه بيت مال العروس، وبحث عن الأموال، فوجد البرامكة قد استهلكوها فتغيّر لهم حتّى أوقع بهم. وكان أيضا من أسباب ذلك ما تحدّث به إبراهيم بن المهدىّ قال: أتيت جعفر بن يحيى [1] يوما فقال: - «أما تعجب من منصور بن زياد؟» قلت: «فى ماذا؟» قال: «سألته: هل ترى فى دارى عيبا؟ قال: نعم، ليس فيها لبنة ولا صنوبرة.» قال إبراهيم: فقلت: - «الذي يعيبها عندي أنّك أنفقت عليها عشرين ألف ألف، وهي شيء لا آمنه عليك غدا عند أمير المؤمنين.» قال: «هو يعلم أنّه قد وصلني بأضعاف ذلك سوى ما عرّضنى له.» قال: قلت: - «إنّ العدوّ إنّما يأتيه فى هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف فأين نفقاته. وأين صلاته، وأين النوائب التي تنوبه، وما ظنّك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك وهذه [565] جملة [2] سريعة إلى   [1] . فى آ: يحيى بن برمك. [2] . كذا فى الأصل: جملة: وفى آومط: حملة (بالحاء المهملة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 القلب والتوقّف على الحاصل منها صعب.» فقال جعفر: «إن سمع منّى.» قلت: «إنّ لأمير المؤمنين نعما على قوم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي فوضعتها فى رأس جبل ثمّ قلت للناس: تعالوا فانظروا.» قلت: «نعم إنّ ناظرك قلت.» وكان من أسباب ذلك أيضا أنّ الرشيد كان لا يصبر على الجدّ ويحبّ الأنس. وكان قد أنس بجعفر وكان لا يصبر عن أخته العبّاسه بنت المهدىّ، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرا قلّة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: - «أزوّجكها ليحلّ لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي.» وتقدّم إليه [1] إلّا يمسّها ولا يكون منه شيء ممّا يكون من الرجل إلى زوجته، فزوّجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثمّ يقوم عن مجلسه ويخلّيهما فيثملان من الشراب وهما شابّان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، حتّى حملت منه وولدت ولدا ذكرا، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجّهت بالولد مع حواضن [566] من مماليكها إلى مكّة فلم يزل الأمر مستترا عن هارون إلى أن وقع بين عبّاسة وبين بعض جواريها شرّ، فأنهت أمرها وأمر الصبىّ [إلى الرشيد] [2] وأخبرته بمكانه ومع من هو من   [1] . فى الأصل وآ: إليها، وهو سهو. وما أثبتناه يؤيّده الطبري ايضا (11: 677) . [2] . أضفناه من الطبري (11: 677) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 جواريها وما معه من الحلي الذي زينّته به أمّه. فأمسك هارون حتّى حجّ هذه الحجّة التي ذكرناها فأرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته به، واستدعاه ومن معه من الحواضن، فلمّا أحضروا سأل اللواتي مع الصبىّ، فأخبرنه بمثل القصّة التي أخبرته به الرافعة على عبّاسة فأراد قتل الصبى، ثمّ تحوّب [1] من ذلك. وكان جعفر يتّخذ للرشيد طعاما كلما حجّ بعسفان، فلمّا كان فى هذه السنة اتّخذ الطعام على الرسم، واستزار الرشيد، فاعتلّ عليه ولم يحضر طعامه. ولم يزل معه حتّى جرى عليه ما جرى، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله. وقد كان الرشيد قبل إقدامه بالقتل على جعفر بن يحيى وحبسه ليحيى وأولاده تنكّر لهم حتّى عرف ذلك أكثر من يليه، وعرفه البرامكة أيضا. فمن ذلك ما ذكر بختيشوع بن جبريل [567] عن أبيه أنّه قال: إنّى لقاعد يوما فى مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد، وكان فيما مضى يدخل بلا إذن، فلمّا دخل فصار بالقرب من الرشيد وسلّم، ردّ عليه ردّا ضعيفا. فعلم يحيى أنّ أمرهم قد تغيّر، ثمّ أقبل علىّ الرشيد، فقال: - «يا جبريل، أيدخل عليك وأنت فى منزلك أحد بلا أذنك؟» فقلت: «لا والله، ولا يطمع فى ذلك.» قال: «فما بالنا، يدخل إلينا بلا إذن.» فقام يحيى فقال:   [1] . تحوّب منه: توجّع وتحزّن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 - «يا أمير المؤمنين، قدّمنى الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة وما هو إلّا شيء كان خصّنى به أمير المؤمنين ورفع به ذكرى حتّى إنّى كنت لأدخل وهو فى فراشه مجرّدا حينا وحينا فى بعض إزاره، وما علمت أنّ أمير المؤمنين كره ما كان يحبّ، وإذ قد علمت فإنّى أكون فى الطبقة الثانية من أهل الإذن، أو الثالثة، إن أمرنى سيّدى بذلك.» فاستحيى، وكان من أرّق الخلفاء وجها وعيناه فى الأرض ما يرفع طرفه إليه، ثمّ قال: - «ما أردت ما تكره، ولكنّ الناس يقولون.» قال جبريل: فظننت أنّه لم يسنح له جواب يرتضيه. فأجاب بهذا القول، ثمّ أمسك عنه وخرج [568] يحيى. ومن ذلك أنّ الرشيد رأى يحيى بن خالد يوما وقد دخل الدار، فقام الغلمان له، فقال الرشيد لمسرور الخادم: - «مر [1] الغلمان إلّا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار.» فلمّا دخل بعد ذلك، لم يقم له أحد، فاربدّ لونه فكان الغلمان والحجّاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه. وكان ربّما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلا يسقونه، وبالحرىّ إن سقوه أن يكون ذاك بعد أن يدعو بها مرارا.   [1] . فى مط: من، بدل «مر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 ومن ذلك [1] ما تحدّث به إبراهيم بن المهدىّ وكان مختصّا به لأنّ جعفرا هو الذي قدّمه وقرّبه من الرشيد، وكان صاحبه وولىّ نعمته. قال إبراهيم: قال لى جعفر يوما: - «إنّى قد استربت بأمر هذا الرجل- يعنى الرشيد- وقد ظننت أنّ ذلك شيء سبق إلى نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت، فارمق ذلك فى يومك هذا وأعلمني ما ترى منه.» قال: ففعلت ذلك فى يومى، فلمّا نهض الرشيد من مجلسه كنت أوّل أصحابه نهض عنه حتّى صرت إلى شجر فى طريقي، فدخلتها ومن معى، فأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرّون بى واحدا [569] واحدا فأراهم ولا يرونني، حتّى إذا لم يبق منهم أحد إذا أنا بجعفر قد طلع، فلمّا حاذى الشجر قال: - «اخرج يا حبيبي.» فخرجت، فقال: - «ما عندك؟» فقلت: «حتّى تعلمني كيف علمت أنّى هاهنا.» قال: «عرفت عنايتك بى وبما أعنى به، وإنّك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه، وعلمت أنّك تكره أن ترى واقفا فى هذا الوقت وليس فى طريقك موضع أستر منه فقضيت بأنّك فيه.» قلت: «نعم.» قال [2] : «فهات ما عندك.»   [1] . انظر الطبري (11: 673) . [2] . قال: سقط من الأصل وهو من آومط والطبري (11: 674) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 قلت: «رأيت الرجل يهزل إذا جددت، ويجدّ إذا هزلت.» قال: «كذا هو، فانصرف يا حبيبي.» فانصرفت. ذكر الخبر عن مقتله لمّا انصرف الرشيد من مكّة فوافى الحيرة فى المحرّم سنة سبع وثمانين، أقام فى قصر عون العبادىّ أيّاما، ثمّ شخص فى السفن حتّى نزل العمر [1] الذي بناحية الأنبار، فلمّا كانت ليلة السبت لانسلاخ المحرّم أرسل مسرورا الخادم فى جماعة من خواصّه وقال: - «اذهب فأتنى بجعفر وانظر ألّا يحسّ حتّى تقيّده [570] أولا ثمّ تأتينى برأسه.» قال مسرور: فأتيته وعنده أبو زكّار الأعمى المغنّى وهو فى لهوه ويغنّيه أبو زكّار: فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادى [2] قال: فقلت له: - «يا با الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك فأجب أمير المؤمنين.» قال: فرفع يديه، ثمّ وقع على رجلىّ فقبّلهما وقال:   [1] . فى آ: الغمر (بالغين المعجمة) . [2] . انظر الطبري (11: 678) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 - «حتّى أدخل فأوصى.» قلت: - «أمّا الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت.» فتقدّم فى وصيّته بما أراد، وأعتق مماليكه. ثمّ أتتنى رسل أمير المؤمنين يستحثّنى به. قال: فمضيت به إليه فأعلمته فقال لى وهو فى فراشه: - «ائتني برأسه.» قال: فمضيت به إليه. فلمّا عرف أنّه مقتول، قال: - «الله الله يا با هاشم، والله ما أمرك بما أمرك به إلّا وهو سكران فدافع بالأمر حتّى أصبح، فإنّه سيندم ويؤاخذك بى.» فقلت: «لا أجسر على ذلك.» قال: «فوامره فىّ ثانية.» فعدت لأوامره، فلمّا سمع حسّى قال: - «يا ماصّ بظر أمّه، ائتني برأس جعفر.» فعدت إلى جعفر، فقال: - «عاوده ثالثة.» فعدت [571] فحذفنى بعمود ثمّ قال: - «نفيت من المهدىّ، لئن لم تأتنى برأسه لأرسلنّ إليك من يأتينى برأسك أولا.» قال: فخرجت، فأتيته برأسه. الإحاطة بيحيى بن خالد وسائر البرامكة وأمر الرشيد فى تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه ومن كان منه بسبيل، فلم يفلت منهم أحد، وأخذ ما وجد لهم من مال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها. ووجّه من ليلته قوما إلى الرقّه فى قبض أموالهم. وكتب إلى جميع البلدان وإلى العمّال بها فى قبض أموالهم وأخذ وكلائهم. فتحدّث السندىّ بن شاهك قال: إنّى لجالس يوما فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد ودفع إلىّ كتابا صغيرا ففضضته فإذا كتاب الرشيد بخطّه فيه: - «بسم الله الرحمن الرحيم، يا سندىّ، إذا نظرت فى كتابي فإن كنت قاعدا فقم، وإن كنت قائما فلا تقعد حتّى تصير إلىّ.» قال السندىّ: فدعوت بدوابّى ومضيت وكان الرشيد بالعمر، فحدّثنى العبّاس بن الفضل بن الربيع قال: جلس الرشيد فى الزوّ بالفرات [572] ينتظرك حتّى ارتفعت غبرة، فقال لى: - «يا عبّاسىّ، ينبغي أن يكون هذا السندىّ وأصحابه.» فقلت: «ما أشبهه أن يكون يا أمير المؤمنين.» قال: «فطلعت.» فقال السندىّ: فنزلت ووقفت، فأرسل إلىّ الرشيد: - «ادن.» فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: - «قوموا.» فقاموا، فلم يبق إلّا العبّاس بن الفضل وأنا. فمكث ساعة ثمّ قال للعبّاس: - «اخرج ومر برفع التخاتج [1] المطروحة على الزوّ.» ففعل ذلك. فقال لى: - «ادن منّى.»   [1] . ما فى الأصل مهمل فى الأخير. انظر الطبري (11: 682) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 فدنوت منه، فقال: - «تدرى فيم أرسلت إليك؟» قلت: «لا والله يا أمير المؤمنين.» قال: «فى أمر لو علم به زرّ قميصي رميت به فى الفرات، يا سندىّ، من أوثق قوّادى عندي؟» قلت: «هرثمة [1] .» قال: «صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟» قلت: «مسرور الخادم الكبير.» قال: «صدقت، امض من ساعتك هذه، وجدّ فى سيرك حتّى توافى مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا على أهبة، فإذا انقطعت الرجل [2] فصر إلى دور البرامكة فوكّل بكلّ باب من أبوابهم صاحب ربع ومره أن يمنع من يدخل [573] ويخرج إلّا باب محمّد بن خالد حتّى يأتيك رأيى.» قال: ولم يكن قد حرّك البرامكة فى ذلك الوقت. قال السندىّ: فجئت أركض حتّى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابى وفعلت ما أمرنى به، فلم ألبث أن قدم علىّ هرثمة بن أعين ومعه جعفر بن يحيى على بغل أكّاف [3] مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرنى أن أشطره باثنين وأن أصلبه على ثلاثة [4] جسور. ففعلت ذلك ولم يزل مصلوبا حتّى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلمّا مرّبه الرشيد التفت إلىّ   [1] . فى مط: هرثمة بن أعين. [2] . فى الطبري (11: 682) : الزّجل. ما فى الأصل وآ مهمل. وفى حواشيه: الرّجل. [3] . فى الطبري (11: 683) أكاف، بالتخفيف. [4] . «باثنين» على ثلاثة جسور» كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (11: 683) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 فقال: - «ينبغي أن تحرق هذا- يعنى جعفرا.» فلمّا مضى الرشيد أحرقه. فمن غريب ما سمع من أمره إنّ بعض الكتّاب قال: كنت أنظر فى ديوان النفقات وما يخرج من الخزائن، فانتهيت يوما إلى ورقة، فيها: «وفى هذا اليوم أخرج إلى الأمير أبى الفضل جعفر بن يحيى أدام الله كرامته ما أمر أمير المؤمنين، بإخراجه إليه من الورق كذا، ومن العين كذا، ومن الفرش كذا، ومن الكسوة والطيب كذا، حتّى بلغ ما مقداره ثلاثون ألف ألف درهم.» [574] ثمّ تصفّحت الأوراق، فانتهيت إلى ورقة فيها: - «وفى هذا اليوم أخرج فى ثمن البواري والنفط الذي أحرق به جعفر بن يحيى أربعة دراهم ونصف وربع.» وقال سلّام: لمّا دخلت على يحيى فى ذلك الوقت وقد هتكت الستور وجمع المتاع قال لى: - «يا با سلمة، هكذا تقوم القيامة.» قال سلّام: فحدّثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه، فأطرق وبقي مفكّرا. ووجدت فى بعض الكتب [1] : أنّ البرامكة قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأى فيه، وكانوا يغرونه [2] به حتّى قالوا:   [1] . لم نجد هذه الرواية عند الطبري. [2] . فى مط: يعزونه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 - «لا بدّ من نكبته.» فقال: «ما كنت لأنكبه ولكنّى أبعده عنكم.» فقالوا: «ينفى؟» قال: «لا، ولكنّى أوّليه ولاية دون قدره عندي وأخرجه إليها.» فرضوا بذلك، وكتبوا له على حرّان والرها فقط، وأمروه عن الخليفة بالخروج، قال عبد الله: فودّعتهم واحدا واحدا حتّى إذا صرت إلى جعفر لأودّعه قال: - «ما على الأرض عربىّ أنبل منك يا با العبّاس، يغضب عليك الخليفة فيولّيك.» قلت: «فما ذنبي حتّى غضب، وأىّ شيء جزاء ذنبي الذي ترضى أن يعمل بى؟» فاستشاط [575] من قولي ثمّ قال: - «ينبغي أن يضرب وسطك وتصلب نصفا فى جانب ونصفا فى جانب آخر.» فنهضت من عنده مغضبا، وأقبلت أتردد فى أمرى، إلّا أنّى لم أجد بدّا من الخروج، فقطعت طريقي بالهمّ والغمّ لأنّى كنت لا آمنهم مع غيبتي علىّ بالسعاية بى. فبينا أنا عشية على باب الدار التي كنت نزلتها، جالسا على كرسىّ، إذ أقبل إلىّ مولى لى، فقال لى سرّا: - «قد قتل جعفر بن يحيى البرمكىّ.» فتوهّمت أنّه قد دسّه إلىّ جعفر ليجد علىّ حجّة بكلام ينكبنى بها، فبطحته وضربته ثلاثمائة مقرعة، وحبسته بليلة طويلة على سطح دارى. فلمّا كان فى السحر، إذا صوت حلق الحديد، فارتعت ونزلت عن السطح وقلت فى نفسي: إن هجم علىّ صاحب البريد فهي نكبة عظيمة وإن ترجّل واستأذن ففرح. فلمّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 بصر بى صاحب البريد، ترجّل فطابت نفسي، ودفع إلىّ كتابا من الرشيد يخبرني فيه بقتله البرامكة وقبضه عليهم، ويأمرنى بالشخوص إليه. فشخصت، فلمّا وصلت عاملني من الإنعام والإكرام ما زاد على أمنيّتى. وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفرا قد ضرب وسطه، نصفه من جانب [576] والنصف الآخر من جانب آخر [1] ، فأكثرت حمد الله وعجبت من الصنع اللطيف ورجوع الكيد عليه. قال أيّوب بن هارون بن سليمان: كنت أميل إلى يحيى وأنزل معه، فكنت معه تلك العشيّة، فلمّا كان فى السحر وافانا خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم، قال: فكتبت إلى يحيى أعزّيه، فكتب إلىّ: - «أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلّا بذنوبهم وما ربّك بظلّام للعبيد.» وأكثرت الشعراء فى مراثيهم وأطالت. وفى هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه ذكر السبب فى ذلك كان لعبد الملك بن صالح ابن يقال له عبد الرحمن من رجال البأس [2] له لسان على فأفأة فيه وكان كاتبه قمامة يصادقه فجرت بينهما وبين أبيه   [1] . قس هذه العبارة بالعبارة السابقة. [2] . مهمل الثاني فى الأصل وآ. فى مط: البأس. فى الطبري (11: 688) : الناس. ورجّحنا ما فى مط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 وحشة، فواطأ الكاتب قمامة، فسعيا به إلى الرشيد وقالا له: - «إنّه يطلب الخلافة ويطمع فيها.» فذكر أنّه دخل على الرشيد فقال له: - «أكفرا للنعمة وجحودا لجليل [577] المنّة والتكرمة؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذا بالندم، وتعرّضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلّا بغى حاسد نافسني فيك مودّة القرابة وتقديم الولاية. إنّك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلّى الله عليه، فى أمّته، وأمينه على عترته [1] لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل فى حكمها والتثبّت فى حادثها والغفران لذنوبها.» فقال له الرشيد: - «أتضع لى من لسانك وترفع لى من جناحك؟ هذا كاتبك قمامة يخبر عنك بغلّك وفساد نيّتك، فاسمع كلامه.» فقال عبد الملك: - «أعطاك ما ليس فى عقده، ولعلّه لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لا يعرفه منّى» فأحضر قمامة، فقال له الرشيد: - «تكلّم غير هائب ولا خائف.» قال: «نعم يا أمير المؤمنين، إنّه عازم على الغدر بك والخلاف عليك.» فقال عبد الملك: - «أهو كذلك يا قمامة؟» قال قمامة: «نعم، لقد أردت ختل [2] أمير المؤمنين.»   [1] . فى آ: عشيرته. [2] . فى آ: خيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 فقال عبد الملك: - «كيف لا يكذب علىّ من خلفي وهو يبهتني فى وجهى؟» فقال له الرشيد: - «وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوّك [578] وفساد نيّتك ولو أردت أن أحتجّ عليك بحجّة لم أجد أعدل من هذين لك فبم تدفعهما عنك؟» فقال عبد الملك: - «هو مأمور أو عاقّ مجبور. فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقّا ففاجر كفور. أخبر الله بعداوته وحذّر منه بقوله: إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم. [1] » قال: فنهض الرشيد وهو يقول: - «أمّا أمرك فقد وضح، ولكنّى لا أعجل حتّى أعلم الذي يرضى الله فيك، فإنّه الحكم بيني وبينك.» فقال عبد الملك: - «رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما، فإنّى أعلم أنّه يؤثر كتاب الله على هواه وأمر الله على رضاه.» فلمّا كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر، فسلّم لمّا دخل فلم يردد عليه، فقال عبد الملك: - «ليس هذا يوما أحتجّ فيه، ولا أجاذب منازعا وخصما.» قال: «ولم؟» قال: «لأنّ أوّله جرى على غير السنّة، فأنا أخاف آخره.» قال: «وما ذاك؟»   [1] . س 64 التغابن: 14. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 قال: «لم تردّ علىّ السلام، أنصف نصفة العوامّ. [1] » قال: «السلام عليكم اقتداء بالسنّة وإيثارا للعدل واستعمالا للتحيّة.» ثمّ التفت نحو سليمان بن أبى جعفر فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك: [579] أريد حباءه ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد [2] ثمّ قال: «أمّا والله لكأنّى أنظر إلى شؤبوبها وقد همع، وعارضها وقد لمع، وكأنّى بالوعيد قد أورى نارا تستطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلا مهلا فبي سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمّتها، ونذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرّجل.» فقال عبد الملك: - «اتّق الله يا أمير المؤمنين فيما ولّاك، وفى رعيّته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وسددت أواخى ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوّك مشغولا بنفسه. فالله الله فى ذى رحمك أن تقطعه بعد أن بللته بظنّ أفصح الكتاب لى بغضه [3] أو ببغى باغ ينهس [4] اللحم، ويالغ الدمّ فقد والله سهّلت لك   [1] . انظر الطبري (11: 690) . [2] . ينسب هذا البيت إلى الإمام علىّ عليه السلام وهو موجود فى الديوان المنسوب إليه الذي نشرته أخيرا، باختلاف. فى «حباءه» فالمثبت فى الديوان «حياته» كما هو فى نقل الزمخشري فى أساس البلاغة فى «عذر» والطبري (11: 690) . [3] . فى الأصل بغضه فى الطبري (11: 691) : يعضهه. فى حواشيه: بغضه. بعضه. بعصه. يعضه: يكذب. ينمّم. يبهت. [4] . كذا فى آوالطبري (11: 691) . فى مط: ينهش. والمعنى واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 الوعور، وذلّلت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب فى الصدور. فكم من ليل تمام فيك كابدته [5] ، ومقام ضيّق لك قمته، كنت فيه كما [580] قال أخو بنى جعفر بن كلاب: ومقام ضيّق فرّجته ... بلساني وبيانى وجدل لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل [6] ما ذكره زيد بن على بن الحسين العلوي فى الرشيد وحبسه ابن صالح وذكر زيد بن علىّ بن الحسين العلوىّ قال: لمّا حبس الرشيد عبد الملك بن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك وهو يومئذ على شرطه قال: - «أفى أذن أنا فأتكلّم؟» قال: «تكلّم.» قال: «لا والله العظيم الرحمن الرحيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلّا ناصحا فعلام حبسته؟» قال: «ويحك، أوحشنى حتّى لم آمنه أن يضرّب بين ابنىّ هذين- يعنى الأمين والمأمون، فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس، أطلقناه.» قال: «أمّا إذا حبسته يا أمير المؤمنين فإنّى لست أرى فى قرب المدّة أن تطلقه. ولكن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك.»   [5] . فى مط: كامدته. [6] . فى مط: رحل (بالراء المهملة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 قال: «فإنّى أفعل.» قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال: - «امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه وقل له: انظر ما تحتاج إليه فى محبسك. فآمر به أن يقام لك.» فذكر ما يحتاج إليه فأقيم له. كلام بين الرشيد وابن صالح وقال [581] الرشيد يوما لعبد الملك بن صالح فى بعض ما كلّمه: - «ما أنت لصالح.» قال: «فلمن أنا؟» قال: «لمروان الجعدىّ.» قال: «ما أبالى أىّ الفحلين غلب علىّ.» ولم يزل محبوسا حتّى توفّى الرشيد فأطلقه محمّد وعقد له على الشام. فكان مقيما بالرقّه وجعل لمحمّد عهد الله وميثاقه لئن قتل وهو حىّ لا يعطى المأمون طاعة أبدا. فمات قبل محمّد، فدفن فى دار من دور الإمارة. فلمّا صار الأمر إلى المأمون أرسل إلى ابن له: - «حوّل أباك من دارى.» فنبش وحوّل. استعلام الرشيد يحيى بن خالد فى عبد الملك بن صالح وكان الرشيد بعث فى بعض أيّامه إلى يحيى بن خالد: - «أنّ عبد الملك بن صالح أراد الخروج علىّ ومنازعتي فى الملك، وقد صحّ عندي ذلك، فأعلمنى ما عندك فيه، فإنّك إن صدقتني أعدتك إلى حالك.» فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 - «والله يا أمير المؤمنين، ما اطّلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطّلعت عليه لكنت صاحبه دونك لأنّ ملك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني والخير والشرّ كان فيه علىّ، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع فى ذلك منّى، وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بى أكثر من فعلك بى أعيذك [582] بالله أن تظنّ بى هذا الظنّ. ولكنّه كان رجلا محتملا يسرّنى أن يكون فى أهلك مثله فولّيته لما أحمدت من مهذبه، وملت إليه لأدبه واحتماله.» قال: فلمّا أتاه الرسول بهذا، أعاده إليه، فقال: - «إن أنت لم تقرّ عليه قتلت الفضل ابنك.» فقال له: «أنت مسلّط علينا فافعل ما أردت على أنّه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لى، فما يدخل الفضل فى هذا.» فقال الرسول للفضل: - «قم، فإنّه لا بدّ لى من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك.» فلم يشكّ أنّه قاتله، فودّع أباه وقال: - «ألست راضيا؟» قال: «بلى، فرضي الله عنك.» ففرّق بينهما ثلاثة أيّام فلمّا لم يجد عنده فى ذلك شيئا، جمعهما كما كانا. وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل لما كان أعداؤهم يقرفونهم به. أسئلة وأجوبة بين الرشيد وعبد الملك بن صالح وكان عبد الملك حاضر الجواب، جيّد الرويّة، وهو الذي قال للرشيد وقد مرّ به بمنبج [1] مستقر عبد الملك. فسأله:   [1] . منبج: بلد قديم كبير واسع، بينه وبين الفرات ثلاثة فراسخ وإلى حلب عشرة فراسخ (مراصد الإطلاع) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 - «أهذا منزلك؟» قال: «هو لك يا أمير المؤمنين ولى بك.» قال: «كيف هو؟» قال: «دون بناء أهلى، وفوق منازل منبج.» قال: «كيف ليلها.» قال: «سحر كلّه.» انتقاض الصلح بين المسلمين والروم وفى هذه السنة انتقض الصلح بين المسلمين وبين الروم [583] لأنّ ملك الروم الذي كان صالح المسلمين على الجزية وحمل مال للصلح قتل وملك الروم نقفور. وكان نقفور هذا من أولاد جفنة من غسّان، فلمّا ملك واستوسقت له الأمور، كتب إلى الرشيد: - «من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب [1] أمّا بعد، فإنّ الملك الذي كان قبلي كان يحمل إليك من أمواله ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليه، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أمواله وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك وإلّا فالسيف بيننا وبينك.» فلمّا قرأ الرشيد الكتاب، استفزّه الغضب حتّى لم يمكن أحدا [2] أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه خوفا من زيادة قول يكون منهم، واستعجم   [1] . العرب: فى الأصل: المغرب. وهو خطأ وما أثبتناه من آوالطبري (11: 695) . [2] . فى الأصل: أحد. فى آوالطبري (11: 695) : أحدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 الرأى على الوزير أن يشير عليه أو يتركه برأيه. فدعا هارون بدواة وكتب على ظهر الكتاب: - «بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام.» ثمّ شخص من يومه وسار حتّى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم واصطفى وأفاد [584] واصطلم وخرّب وأحرق. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤدّيه كل سنة فأجابه إلى ذلك. فلمّا رجع من غزوته وصار بالرقّة نقض نقفور العهد وخان الميثاق، وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عمّا أخذ عليه، فما تهيّأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عليه وعلى أنفسهم من الكرّة فى مثل تلك الأيّام، فاحتيل له بشاعر فقال: نقض الّذى أعطيته نقفور ... وعليه دائرة البوار تدور فى أبيات كثيرة. فلمّا فرغ من إنشاده، قال: - «أو قد فعل نقفور؟» وعلم أنّ الوزراء قد احتالوا له فى ذلك. فكّر راجعا فى أشدّ محنة وأعظم كلفة حتّى أناخ بفنائه فلم يبرح حتّى رضى وبلغ ما أراد. قتل عثمان بن نمهيك وفى هذه السنة قتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 ذكر السبب فى ذلك كان إبراهيم بن عثمان كثيرا ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعا عليهم وحبّا لهم [1] إلى أن خرج من حدّ البكاء ودخل فى باب طالبي الثأر والإحن [2] ، فكان إذا خلا [585] بجواريه وشرب وقوى عليه النبيذ قال: - «يا غلام سيفي ذو المنيّة.» فيجيئه غلامه بالسيف، ثمّ يقول: - «وا جعفراه، وا سيّداه، والله لأقتلنّ قاتلك ولأثأرنّ برمك.» فلمّا كثر هذا من فعله جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله. فدخل الفضل، فأخبر الرشيد فقال: - «هاته.» [3] فدخل، فقال: - «ما الذي قال الفضل عنك؟» فأخبره بقول أبيه وفعله.» فقال له الرشيد: - «فهل سمع هذا أحد معك؟» قال: «نعم، خادمه نوال.» فدعا خادمه سرّا، فسأله، فقال: - «قد قال غير مرّه.» فقال الرشيد: - «ما يحلّ لى أن أقتل وليّا من أوليائى بقول غلام وخصىّ لعلّهما تواطئا   [1] . وفى مط: الأجر. [2] . انظر الطبري (11: 699) . [3] . فى الطبري: (11: 699) : «أدخله» بدل «هاته» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 على ذلك بمنافسة الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم، وملله طول الصحبة.» فترك ذاك أيّاما، ثمّ أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشكّ عن قلبه، والخاطر عن وهمه. فدعا الفضل بن الربيع فقال: - «إنّى أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه، فإذا رفع الطعام فادع بالشراب وقل له: أحبّ أمير المؤمنين أن ينادمك إذ كنت منه بالمحلّ [586] الذي أنت به، فإذا شرب، فانصرف وخلّنى وإيّاه.» ففعل ذلك الفضل بن الربيع، وقعد إبراهيم للشرب، ثمّ وثب حين وثب الفضل للقيام، فقال له الرشيد: - «مكانك يا إبراهيم.» فقعد، فلمّا طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان، فتنحّوا عنه، ثمّ قال: - «يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السرّ منك؟» قال: «يا سيّدى، إنّما أنا أدون عبيدك وأطوع خدمك.» قال: «إنّ فى نفسي أمرا من الأمور أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به وأسهرت [1] له ليلى.» قال: «يا سيّدى، إذا لا يرجع عنّى إليك أبدا، أخفيه عن جيبي ونفسي.» قال: «ويحك، إنّى قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أنّى خرجت من ملكي وأنّه كان بقي لى، [2] فما وجدت طعم النوم منذ فارقته ولا لذّة العيش منذ قتلته.» قال: فلمّا سمعها إبراهيم أسبل دموعه وأذرى عبرته ولم يملك نفسه وقال: - «رحم الله أبا الفضل وتجاوز عنه، والله يا سيّدى، لقد أخطأت فى قتله و   [1] . الضبط من الطبري (11: 700) . [2] . انظر الطبري (11: 700) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 أوطئت العشوة فى أمره ولن يوجد فى الدنيا مثله، وقد كان منقطع القرين زينا فى الناس أجمعين.» فقال الرشيد: - «قم عليك لعنة الله يا بن الفاجرة. [587] فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمّه وقال: - «يا أمّ، ذهبت والله نفسي.» قالت: «كلّا إن شاء الله، وما ذاك يا بنىّ؟» قال: «إنّ الرشيد امتحنني محنة. والله ولو كانت لى ألف نفس لم أنج بواحدة منها.» فما كان بين هذا وبين أن أدخل عليه فضرب بالسيف إلّا ليال وقتله. [1] ثمّ دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة ولم يجر فيها ما يثبت. ودخلت سنة تسع وثمانين ومائة. شخوص الرشيد إلى الري وسببه وفى هذه السنة شخص الرشيد إلى الرىّ، وكان سبب ذلك أنّ الرشيد كان استشار يحيى فى تولية علىّ بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه ألّا يفعل، فإنّه غشوم، فخالفه الرشيد وولّاه إيّاها. فلمّا شخص علىّ بن عيسى إليها، ظلم الناس وعسف عليهم وجمع مالا جليلا، ووجّه إلى هارون منها هدايا لم ير   [1] . والعبارة فى الطبري (11: 701) هكذا: فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه فضربه بسيفه حتى مات إلّا ليال قلائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 مثلها قطّ من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال. فقعد هارون بالشماسيّة على دكّان مرتفع حين وصل إليه ما بعث به علىّ إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه فعظمت فى عينه وجلّ قدرها عنده وإلى جانبه يحيى بن خالد، فقال له: - «يا با علىّ، [588] هذا الذي كنت تشير علينا إلّا نولّيه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان فى خلافك البركة- وهو كالمازح معه وكان إذ ذاك على مرتبته الجليلة وموضعه اللطيف- فقد ترى الآن ما صحّ من رأينا فيه وفال [1] من رأيك.» فقال يحيى: - «يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك أنا وإن كنت أحبّ أن أصيب فى رأيى وأوّفق فى مشورتي، فأنا أحبّ مع ذلك أن يكون رأى أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه من سوء عاقبته وتباع مكروهه.» قال: «وما ذاك؟» قال: «ذاك أنّى أحسب هذه الهدايا ما اجتمعت له حتّى ظلم فيها الأشراف وأخذ أكثرها ظلما وتعدّيا، ولو أمرنى أمير المؤمنين لأتيته بأضعافها الساعة من بعض تجّار الكرخ.» قال: «وكيف ذاك؟» قال: «قد ساومنا عونا على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، فأعطيناه به سبعة آلاف ألف فأبى أن يبيعه. فابعث إليه الساعة بحاجبى، فأمر أن يردّه إلينا   [1] . فال رأيه: أخطأ وضعف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 لنعيد فيه نظرنا فإذا جاء به جحدناه وربحنا سبعة آلاف [589] ألف، ثمّ نفعل هذا بتاجرين من كبار التّجار، وعلى أنّ هذا أسلم عاقبة وأستر أمرا من فعل علىّ بن عيسى فى هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين فى ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعى وأيسر أمر وأجمل جباية كما جمع علىّ فى ثلاث سنين.» فوقرّت فى نفس الرشيد، وأمسك عن ذكر علىّ بن عيسى، فلمّا عاث علىّ بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها فأخذ أموالهم واستخفّ برجالهم، خفّت رجال من كبرائها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى أصحابها وقراباتها ببغداد، تشكو سوء سيرته وخبث طعمته ورداءة مذهبه وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحبّ من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقوّاده. فدعا يحيى بن خالد، وشاوره فى أمر علىّ بن عيسى وفى صرفه وقال: - «أشرّ علىّ برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق.» فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل مشورته. ثمّ دخلت سنة تسعين ومائة ظهور رافع بن الليث بسمرقند مخالفا هارون وفى هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بن سيّار بسمرقند مخالفا هارون [590] وخالعا له، ونزع يده من طاعته. ذكر السبب فى ذلك كان يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوّج بخراسان بنتا لعمّه، وكانت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 ذات يسار [1] ، فأقام بمدينة السلام وتركها بسمرقند وبلغها أنّه قد اتّخذ أمّهات أولاد، وطال عليها أمره، فالتمست شيئا للتخلّص منه، فعىّ عليها وبلغ رافعا خبرها، فطمع فيها وفى مالها، فدسّ إليها من قال لها: إنّه لا سبيل لها إلى التخلّص من صاحبها إلّا أن تشرك بالله وتحضر لذلك قوما عدولا وتكشف شعرها بين أيديهم، ثمّ تتوب فتحلّ للأزواج، ففعلت ذلك وتزوّجها رافع، وبلغ الخبر يحيى بن الأشعث فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علىّ بن عيسى يأمره أن يفرّق بينهما وأن يعاقب رافعا بجلد الحدّ ويقيّده، ثمّ يطوف به مدينة سمرقند مقيّدا على حمار حتّى يكون عظة لغيره. فدرأ سليمان بن حميد الأزدى عنه الحدّ وحمله على حمار مقيّدا حتّى طلّقها، ثمّ حبسه فى حبس سمرقند، فهرب من [591] الحبس ليلا من عند حميد بن المسيح وهو يومئذ على شرطة سمرقند، فلحقّ بعلىّ بن عيسى ببلخ فطلب الأمان فلم يجبه علىّ إليه وهمّ بضرب عنقه، فكلّمه فيه ابنه عيسى بن علىّ، وجدّد طلاق المرأة، وإذن له فى الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها. ووثب بسليمان بن حميد عامل علىّ بن عيسى فقتله. فوجّه إليه علىّ بن عيسى ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فوثب على رافع فقيّده، واجتمع الناس عليه فقيّدوه ورأسوا رافعا وبايعوه، وطابقه من كان بوراء النهر، ووافاه عيسى بن علىّ بن عيسى، فلقيه رافع، فهزمه ثمّ قتله، فأخذ علىّ بن عيسى فى فرض الرجال والتأهّب للحرب. فتح الرشيد هرقلة بأرض الروم وفى هذه السنة فتح الرشيد هرقلة بأرض الروم وكان دخلها فى مائة ألف   [1] . يسار. كذا فى الأصل. ما فى الطبري (11: 707) : لسان. وفى حواشيه: يسار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 وخمسة وثلاثين ألف مرتزق سوى الأتباع وسوى المطوّعة ومن لا ديوان له. ووجّه داود بن عيسى بن موسى سائحا فى أرض الروم فى سبعين ألفا، وأخرب هارون الرشيد هرقلة وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يوما عليها، وولّى حميد بن معيوف سواحل بحر الشام [592] إلى مصر فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرّق وسبى من أهلها ستّة عشر ألفا فأقدمهم الرافقة فتولّى بيعهم أبو البختري [1] القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفى دينار، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية عن رأسه وولىّ عهده وبطارقته وأهل بلده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ابنه دينارين، وعن الباقين على حسب مراتبهم. كتاب نقفور لهارون فى جارية من سبى هرقلة وكتب نقفور مع بطريق من بطارقته فى جارية من سبى هرقلة كتابا نسخته: - «لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم، سلام عليك، أمّا بعد، أيّها الملك، إنّ لى إليك حاجة لا تضرّك فى دينك ولا دنياك، هيّنة يسيرة أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة قد كنت خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفنى بحاجتي فعلت، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» واستهداه طيبا وسرادقا من سرادقاته. فأمر الرشيد بطلب الجارية فأحضرت وزيّنت وأجلست على فراش فى   [1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 709) : ابو البختري. وفى مط: البختري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 مضربه الذي كان نازلا فيه، وسلّمت الجارية والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور وبعث إليه أيضا بما سأل من [593] العطر، وبعث إليه من التمور والزبيب والأخبصة والترياق. فسلّم ذلك إليه رسول الرشيد فأعطاه نقفور وقر دراهم إسلاميّة وحمله على بزدون كميت، فكان مبلغ المال خمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج، ومائتي ثوب بزيون، واثنى عشر بازيّا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين. وكان نقفور اشترط ألّا يخرّب ذا الكلاع، ولا صملّة، ولا حصن سنان، واشترط الرشيد عليه إلّا يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلاثمائة ألف دينار. [1] تمّت المجلّدة الثالثة والحمد لله ربّ العالمين وصلواته على محمّد النبىّ وآله الطاهرين أجمعين. ويتلوه فى المجلدة الرابعة: «ثمّ دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة.» فرغ من انتساخ هذه المجلّدة محمّد بن علىّ بن محمّد أبو طاهرين البلخي فى جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة.   [1] . انظر الطبري (11: 711) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 فرغ من انتساخه الحسن بن منصور فى جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين [1] . فرغ من انتساخه ابنه محمّد بن الحسن بن منصور ثامن عشر من جميدى (كذا) الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.   [1] . ثلاثين: لم نتأكّد من صحّة قراءة الكلمة، فإنّها غير واضحة فى الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 [ المجلد الرابع ] [ تتمة تجارب العصر العباسي ] [ تتمة خلافة هارون الرشيد ] بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله واهب العقل ثمّ دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة وفيها قوى رافع بن الليث واشتدّت شوكته وقد ذكرنا قبل هلاك [1] ابن علىّ بن عيسى: ولمّا قتل ابنه، خرج من بلخ حتّى أتى مرو، مخافة أن يصير إليها رافع بن الليث فيستولى عليها. وكان ابنه عيسى دفن فى بستان داره ببلخ مالا عظيما قيل: إنّه كان ثلاثين ألف ألف درهم، ولم يعلم بها علىّ بن عيسى ولا اطّلع على ذلك إلّا جارية كانت له. فلمّا شخص علىّ عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدّث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها فدخلوا البستان وانتهبوه وأباحوه للعامّة [2] وبلغ الرشيد الخبر فقال: - «خرج علىّ عن بلخ عن غير أمرى وخلّف مثل هذا المال وهو يزعم أنّه قد أفضى إلىّ حلى نساءه فيما أنفق على محاربة رافع.» فعزله عند ذلك وولّى هرثمة بن أعين واستصفى أموال علىّ بن عيسى، فبلغت ثمانين ألف ألف. ووردت خزائنه [2] التي أخذت على الرشيد، فكانت على ألف وخمسمائة بعير.   [1] . انظر الطبري (11: 713) . [2] . فى الأصل وآ: العامّة. فى مط: وأباحوا العامّة. وفى الطبري (11: 713) : للعامّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وكان علىّ بن عيسى قد أذلّ جبابرة أهل خراسان وأشرافهم، حتّى خرج منهم مثل الحسن بن مصعب إلى مكّة واستجار بالرشيد من علىّ بن عيسى فأجاره، وأظهر مثل هذا هشام بن فرخسروا، [1] أنّ الفالج قد أصابه حتّى أمكنه لزوم منزله. وكانت كتب حمويه وردت على هارون: أنّ رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وأنّ غايتهم عزل علىّ بن عيسى الذي سامهم المكروه. ولمّا عزم الرشيد على عزل علىّ بن عيسى دعا هرثمة بن أعين مستخليا [2] به فقال: - «إنّى لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سرّى فيك غيرك، وقد اضطرب علىّ ثغر المشرق وأنكر أهل خراسان أمر علىّ بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمدّ ويستجيش وأنا كاتب إليه فأخبره أنّى أمدّه بك وأوجّه إليه معك من الأموال والسلاح والقوّة والعدّة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلّع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطّى فلا تفضّنّه [3] ولا تطلعنّ فيه حتّى تصير إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله، ولا تجاوزه إن شاء الله. - «وأنا موجّه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علىّ بن عيسى بخطّى ليتعرّف ما يكون منك ومنه ومورّ عنه [3] أمر علىّ فلا تظهرنّه عليه ولا تعلمنّه ما عزمت عليه فيه وتأهّب للمسير   [1] . كذا فى الأصل وآ: فرخسروا. فى الطبري (11: 714) : فرخسرو. [2] . فى الأصل: مستحلبا به. وما أثبتناه يؤيّده مط والطبري (11: 715) . [3] . فى آومط: ومود عنه. فى الطبري (11: 716) : وهوّن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 واظهر لخاصّتك وعامتك أنّى أوجّهك مددا لعلىّ بن عيسى وعونا له.» ثمّ كتب إلى علىّ بن عيسى كتابا بخطّه نسخته: - «بسم الله الرحمن الرحيم يا ابن الزانية، رفعت من قدرك ونوّهت باسمك وأوطأت سادة العرب عقبك وجعلت أبناء ملوك العجم خولك، وكان من جزائي أن خالفت عهدي ونبذت وراء ظهرك أمرى، حتّى عشت فى الأرض وظلمت الرعيّة وأسخطت الله عزّ وجلّ وخليفته بسوء سيرتك ورداءة طعمتك وظاهر [1] خيانتك. وقد ولّيت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدّد وطأته عليك وعلى ولدك وكتّابك وعمّالك ولا يترك وراء ظهورهم درهما واحدا ولا حقّا لمسلم ولا معاهد إلّا أخذكم به، [4] حتّى تردّه إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمّالك، فله أن يبسط عليكم العذاب ويصبّ عليكم السياط ويحلّ بكم ما يحلّ بمن نكث وغيّر وبدّل وخالف وظلم وتعدّى وغشم، انتقاما لله بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا فلا تعرّض نفسك للّتى لا سوى [2] لها، واخرج ممّا يلزمك طائعا أو مكرها.» وكتب عهد هرثمة بخطّه:   [1] . فى الأصل غموض. وما أثبتناه يؤيّده آوالطبري (11: 716) . [2] . فى الأصل: شوى (بالشين المعجمة) . فى مط وآ: سوى (القصد والاعتدال) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 - «هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه. أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله وموافقته وأن يجعل لكتاب الله إماما فى جميع ما هو بسبيله فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقف عند متشابهه ويسأل عنه أولى الفقه فى دين الله وأولى العلم بكتاب الله أو يردّه إلى إمامه ليريه الله فيه رأيه ويعزم له على رشده. - «وأمره أن يستوثق من الفاسق علىّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه وأن يشدّ عليهم وطأته ويحلّ بهم سطوته ويستخرج منهم كلّ مال يصحّ عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا [5] استنظف ما عندهم وقبلهم، نظر فى حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحقّ كلّ ذى حقّ، حتّى يردّوه إليه، فإن ثبت قبلهم حقّ لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين فدافعوا بها أو جحدوها، أن يصبّ عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتّى يبلغ بهم الحال التي أن تخطّاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم. فإذا خرجوا من حقّ كلّ ذى حقّ أشخصهم كما يشخص العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله. - «فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك فإنّى آثرت الله وديني على هواى وإرادتى فكن كذلك وعليه فليكن عملك وأمرك ودبّر فى أعمال الكور التي تمرّ بها وعمّالها فى صعودك بما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظنّ يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانيهم وعذرهم ثمّ اعمل بما يرضى الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 فيك وخليفته ومن ولّاك الله أمره إن شاء الله. - «هذا عهدي وكتابي بخطّى وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكّان سماواته وكفى [6] بالله شهيدا. وكتب أمير المؤمنين بخطّه ولم يحضره إلّا الله وملائكته.» ثمّ أمر أن تكتب كتب هرثمة إلى علىّ بن عيسى فى معاونته وتقويته وتقوية أمره والشدّ على يديه، فكتبت وظهر الأمر بها. ثمّ دخلت سنة إثنتين وتسعين ومائة وفيها شخص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها وكان ذلك فى اليوم السادس من اليوم الذي كتب له الرشيد عهده، وشيّعه الرشيد وأوصاه بما احتاج إليه. فمضى وبعث إلى علىّ بن عيسى فى الظاهر أموالا وسلاحا وخلعا وطيبا، حتّى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من نصحاء أصحابه وأولى السنّ والتجربة منهم فدعا كلّ رجل منهم، سرّا وخلا به، ثمّ أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره ويطووا سرّه. وولّى كلّ رجل كورة على نحو ما كانت منزلته عنده، وأمر كلّ رجل منهم بعد أن دفع [1] إليه عهده بالمصير إلى عمله الذي ولّاه على أخفى الحالات وأسترها والتشبّه بالمجتازين فى ورودهم إلى الوقت الذي سمّاه لهم. ثمّ مضى حتّى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات [7] أصحابه وكتب لهم أسماء ولد علىّ بن عيسى وأهل بيته وكتّابه وغيرهم فى رقاع، ودفع إلى كلّ رجل منهم رقعة باسم من وكّله بحفظه إذا هو دخل عليه مرو، خوفا من أن يهربوا   [1] . دفع: كذا فى آومط والطبري (11: 719) . ما فى الأصل مطموس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 إذا ظهر أمره. ثمّ وجّه إلى علىّ بن عيسى: إن أحبّ الأمير- أكرمه الله- أن يوجّه ثقاته لقبض ما معى من أمواله فعل فإنّه إذا تقدّمنى المال كان أروح لقلبي وأفتّ فى عضد أعدائه وأجدر ألّا يشيع به الخبر. وأيضا فإنّى لا آمن عليه إن خلّفته وراء ظهري أن يطمع فيه بعض من شئموا [1] نفسه أن يقتطع بعضه ويغتنم غفلتنا عند دخول المدينة. فوجّه علىّ بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال وقال هرثمة لخزّانه: - «اشغلوهم هذه الليلة وأعلّوا عليهم بعلّة تقرب من أطماعهم وتزيل الشكّ عن قلوبهم.» ففعلوا وقال لهم الخزّان: حتّى نؤامر أبا حاتم فى دوابّ المال والبغال. ثمّ ارتحل نحو مدينة مرو، فلمّا صار منها على ميلين تلقّاه علىّ بن عيسى فى ولده وأهل بيته وقوّاده بأحسن لقاء وآنسه. فلمّا وقعت [8] عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابّته فصاح به علىّ: - «والله لئن نزلت لأنزلنّ.» فثبت على سرجه ودنا كلّ واحد من صاحبه فاعتنقا وسارا وعلىّ يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيأته وحال خاصّته وقوّاده وأنصار دولته، وهرثمة يجيبه حتّى إذا صار إلى قنطرة لا يجوزها إلّا فارس. فحبس هرثمة لجام دابّته وقال لعلىّ: - «سر على بركة الله.» فقال علىّ: - «لا والله لا أفعل حتّى تمضى أنت.»   [1] . كذا فى الأصل: شئموا. وفى مط: سئموا (بالسين المهملة) . وشئموا لغة فى شأموا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 فقال: «إذا والله لا أمضى وأنت الأمير وأنا الوزير.» فمضى وتبعه هرثمة حتّى دخلا مرو، وصار إلى منزل علىّ ورجاء الخادم ما يفارق هرثمة فى ليل ولا نهار ولا ركوب ولا جلوس. فدعا علىّ بالغداء فطعما، وأكل رجاء الخادم معهما، وكان عازما ألّا يأكل معهما. فغمزه هرثمة فلمّا رفع الطعام قال له علىّ: - «قد أمرت أن يفرّغ لك قصر على الماشان [1] فإن رأيت أن تصير إليه فعلت.» فقال له هرثمة: - «إنّ معى من الأمور ما لا يحتمل تأخير المناظرة فيها.» ثمّ أومأ إلى رجاء وقال: - «ادفع [9] الكتاب إليه.» فأخرج رجاء كتاب الرشيد فدفعه إليه وأبلغه رسالته. فلمّا فضّ الكتاب فنظر فى أوّل حرف فيه، سقط فى [2] يده وعلم أن قد حلّ به ما يحذره. ثمّ أمر هرثمة بتقييده وتقييد ولده وكتّابه وعمّاله، وقد كان حصّل عنده ثقاته وجهابذته وخزّانه، ووكّل بهم- كما حكينا- قبل دخوله مرو، وكان معه رجل يصحبه وقر قيود وأغلال [3] فلمّا استوثق منه صار إلى المسجد، الجامع فخطب وبسط من آمال الناس وأخبر أنّ أمير المؤمنين ولّاه ثغورهم لمّا انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق علىّ بن عيسى، وما أمرنى به وفى أعوانه من كلّ ما سأنتهى إليه، ومن إنصاف العامّة والخاصّة وحملهم على   [1] . الماشان كذا فى آومط والطبري (11: 720) . والماشان نهر يجرى فى وسط مدينة مرو، عليه محلّة، وهم يقولون بالجيم (مراصد الاطلاع) . [2] . فى آ، والأصل: من يده. والتصحيح من الطبري (11: 721) . [3] . فى آ: وكان رحل معه وقر قيود وأغلال. فى الطبري (11: 721) : ... ومعه ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 الحقّ، وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهر الناس السرور بذلك وانفسحت آمالهم وعظم رجاؤهم وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم وكثر الدعاء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء. ثمّ انصرف ودعا بعلىّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه فقال: - «اكفوني مؤنكم [1] واعفونى من الإقدام بالمكروه [10] عليكم.» ونادى فى أصحاب ودائعهم ببراءة الذمّة من رجل كانت لعلىّ عنده وديعة، ولأحد من ولده أو كتّابه أو عمّاله فأخفاها ولم يظهر عليها، فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلّا رجلا من أهل مرو، وكان من أبناء المجوس، فإنّه لم يزل يتلطّف للوصول إلى علىّ حتّى صار إليه فأسرّ إليه وقال: - «لك عندي مال فإن احتجت إليه حملت إليك أوّلا أوّلا وصبرت للقتل إيثارا للوفاء وطلبا للجميل من الثناء، وإن استغنيت عنه، حبسته عليك حتّى ترى فيه رأيك.» فعجب علىّ منه وقال: - «لو اصطنعت مثلك قوما ما طمع فىّ السلطان ولا الشيطان أبدا.» ثمّ سأل عن قيمة ما عنده. فذكر أنّه أودعه مالا وثيابا ومسكا، وأنّه لا يدرى ما قيمة ذلك، غير أنّ ما أودعه بخطّه وأنّه محفوظ لم يشذّ منه شيء فقال له: - «دعه فإن ظهر عليه، سلّمته ونجوت بنفسك وإن سلمت به رأيت فيه رأيى.» وجزاه الخير وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبرّه. وكان يضرب به المثل وبوفائه. [11] فذكر أنّه لم يشذّ على هرثمة من مال علىّ   [1] . فى آ، ومط والطبري (11: 721) : مئونتكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 بن عيسى إلّا ما كان أودعه هذا الرجل، وكان يقال له: العلاء بن ماهيار، فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتّى حلىّ نسائهم وحتّى أنّ الرجل كان يضرب يده إلى مغابن [1] المرأة وأرفاغها، فيطلب فيها ما يظنّ أنها قد سترته. فلمّا أحكم هذا كلّه وجّهه على بعير لا وطاء تحته، فى عنقه سلسلة وفى رجليه قيود ثقال، ما يقدر معها على نهوض واعتمال. [2] ويقال أنّه لمّا فرغ هرثمة من مطالبة علىّ بن عيسى وأولاده، أقامهم لمظالم الناس، وكان إذا برد للرجل عليه حقّ أو على أحد أولاده أو أصحابه قال: - «اخرج للرجل من حقّه وإلّا بسطت عليك العذاب، فيقول علىّ: أصلح الله الأمير أجّلنى يوما أو يومين. فيقول: ذاك إلى صاحب الحقّ، فإن شاء فعل. فيقبل على الرجل فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال: نعم قال: فانصرف وعد إليه. فيبعث علىّ إلى العلاء بن ماهيار فيقول: صالح فلانا عنّى من كذا وكذا على كذا وكذا وعلى ما رأيت فيصالحه ويصلح أمره. وذكر أنّه قام إلى هرثمة رجل فقال: - «أصلح الله الأمير إنّ هذا الفاجر [12] أخذ منّى درقة [3] تبتية [4] لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره منّى ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم، فأتيت قهرمانه أطلب ثمنها فلم يعطني، فأقمت حولا أنتظر ركوبه، فلمّا ركب عرضت له وصحت: أيّها الأمير، أنا صاحب الدّرقة ولم آخذ لها ثمنا إلى هذه الغاية. فقذف أمّى ولم يعطني حقّى، فخذ لى بحقّى من ماله وقذفه   [1] . المغبن: كلّ مطوى من الجسد. الإبط. الرّفع: كلّ مجتمع وسخ فى الجسم. [2] . اعتمل: اضطرب فى العمل. عمل عملا متعلّقا بنفسه. فى آ، والطبري (11: 723) : اعتماد. [3] . الدرقة: الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عقب. [4] . فى الطبري (11: 723) : ثمينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أمّى.» فقال: «بيّنة؟» قال: «جماعة حضروا كلامه.» فأحضرهم فشهدوا على دعواه. فقال هرثمة: - «وجب عليك الحدّ.» قال: «ولم؟» قال: «بقذفك أمّ هذا.» قال: «من فهّمك وعلّمك هذا؟» قال: «هذا دين المسلمين.» قال: «فأشهد أنّ أمير المؤمنين قد قذفك غير مرّة ولا مرتين وأشهد أنّك قد قذفت بنيك ما لا أحصى، مرّة حاتما ومرّة أعين، فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك، ومن يأخذ من مولاك؟» قال: فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة فقال: - «أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك مطالبته بقذف أمّك.» ثمّ دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة [13] وفيها قدم هارون من الرقّة إلى مدينة السلام فى السفن يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع واستخلف ابنه محمّدا بمدينة السلام واستخلف ابنه القاسم بالرقّة وضمّ إليه خزيمة بن خازم فأشار ذو الرئاستين على المأمون أن يطلب إلى الرشيد فى أن يشخصه معه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 ذكر رأى سديد رءاه ذو الرئاستين قال له: إنّ أمير المؤمنين شاخص لحرب رافع ولا يدرى ما يحدث به وخراسان ولايتك ومحمّد المقدم عليك وإنّ أحسن ما يصنع بك أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم وزبيدة وأموالها [ردء له.] [1] فاطلب إليه يشخصك معه فسأله الأذن فأبى فقال له: - «عد إليه وقل: له أنت عليل وإنّما أردت أن أخدمك ولست أكلّفك شيئا من مؤنى.» فأذن له. ذكر منام عجيب رءاه الرشيد قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقّة، وكنت أوّل من يدخل عليه فى كلّ غداة أتعرّف حاله فى ليلته، فإن أنكر شيئا وصفه، وربّما انبسط فحدّثنى [14] بما عمله فى ليلته ومقدار شربه وجلوسه، ويسألنى عن أخبار العامّة. فدخلت يوما فلم يرفع طرفه إلىّ، ورأيته مفكّرا مهموما، فوقفت بين يديه مليّا. فلمّا طال ذلك أقدمت عليه فقلت: - «يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك، ما حالك؟ أعلّة فأخبرنى بها فلعلّ عندي دواءها، أو حادث لا يستطاع دفعه فليس إلّا التسليم، والغمّ لا درك فيه أو فتق ورد عليك فى ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك فتروّح بالمشورة.» قال: «ويحك يا جبرائيل ليس غمّى لشيء ممّا ذكرت، لكن لرؤيا رأيتها   [1] . ما بين المعقوفتين ناقص فى كلّ من الأصل وآ والطبري، أضفناه من حواشي الطبري (11: 730) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 فى ليلتي هذه قد أفزعتنى وملأت صدري.» قلت: «فرّجت عنّى يا أمير المؤمنين.» فدنوت وقبّلت رجله وقلت: «أهذا الغمّ كلّه لرؤيا؟ والرؤيا إنّما تكون من خاطر تقدم أو بخارات رديئة من أطعمة وأخلاط ومن تهاويل السوداء.» قال: «فأقصّها عليك: رأيت كأنّى جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكفّ أعرفها ولا أفهم اسم صاحبها، وفى الكفّ تربة حمراء. فقال لى قائل أسمعه ولا أرى شخصه: «هذه التربة التي تدفن فيها.» فقلت: «وأين هي؟» قال: «بطوس. [15] وغابت اليد وانقطع الكلام وانتبهت.» فقلت: «يا سيّدى هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أظنّك أخذت مضجعك ففكّرت فى أمر خراسان وفى حروبها وما ورد عليك من انتقاض بعضها.» قال: «قد كان ذاك.» قلت: «فذلك الفكر ولّد هذه الرؤيا، ولا تحفل بها جعلني الله فداءك وأتبع هذا الهمّ سرورا يخرجه من قلبك لا يولّد علّة.» قال: فما برحت أطيّب نفسه بضروب من الحيل حتّى سلا وانبسط وأمر بإعداد ما يشتهيه وتزيّد فى ذلك اليوم فى لهوه ومرّت الأيّام فنسي ونسينا تلك الرؤيا. ثمّ رحل الرشيد وكان اتهم هرثمة بن أعين فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة ومعه عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وأسد بن يزيد بن مزيد وجماعة أمثالهم وابتدأ بهارون المرض وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع وقعة فتح فيها بخارى وأسر أخا لرافع يقال له بشير بن الليث فبعث به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 إلى الرشيد وقد بلغ الرشيد طوس. قال: فأدخل إليه وهو على سرير فى بستان وفى يده مرآة ينظر فيها وهو يقول: - «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» 2: 156 [16] وكأنّه كان أنكر شيئا من لونه. ثمّ رفع رأسه إلى أخى رافع وقال: - «أما والله يا ابن اللخناء إنّى لأرجو ألّا يفوتني خامل [1] يريد رافعا كما لم تفتني.» فقال له: - «يا أمير المؤمنين قد كنت لك حربا وقد أظفرك الله بى، فافعل ما يحبّ الله من الصلح والعفو، فلعلّ الله أن يليّن قلب رافع إذا علم أنّك قد مننت علىّ.» فغضب وقال: - «لو لم يبق من أجلى إلّا أن أحرّك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه.» ثمّ دعا بقصّاب فقال له: - «لا تشحذ مديتك، اتركها على حالها وفصّل أعضاء هذا الفاسق وعجّل، لا يحضرنّ أجلى وعضوان من أعضائه فى جسمه.» ففصّله حتّى جعله أشلاء فقال: - «عدّوا أعضائه.» فإذا هي أربعة عشر عضوا فرفع يديه إلى السماء وقال: - «اللهم كما مكّنتنى من ثأرك وعدوّك فبلغت فيه رضاك، فمكّنى من أخيه.»   [1] . فى الأصل: حامل. فى آوالطبري (11: 734) : خامل (بالخاء المعجمة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 ثمّ أغمى عليه وتفرّق من حضره. قال جبرائيل: فلمّا أفاق، ذكر تلك الرؤيا فوثب متحاملا يقوم ويسقط فاستمعنا إليه، كلّ يقول: - «يا سيّدى ما حالك وما دهاك؟» وليس يخطر لأحد منّا تلك الرؤيا ببال فقال: - «يا جبرائيل تذكر رؤياى بالرقّة فى طوس؟ [17] هذه طوس، وأحسبها تلك التربة.» ثمّ رفع رأسه إلى مسرور فقال: - «جئني من تربة هذا البستان.» فمضى مسرور فأتى بالتربة فى كفّه حاسرا عن ذراعه. فلمّا نظر إليه قال: - «هذه والله الذراع التي رأيتها فى منامي وهذه والله الكفّ بعينها وهذه والله التربة الحمراء ما حرمت [1] شيئا.» وأقبل على البكاء والنحيب. ثمّ مات بعد ثالثة، ودفن فى ذلك البستان. وتحدّث سهل بن صاعد قال: كنت عند الرشيد فى اليوم الذي قبض فيه، مع خواصّه، وجعل يجود بنفسه ويقاسى كرب الموت، فدعا بملحفة فاحتبى بها، فنهضت فقال لى: - «أقعد يا سهل.» فقعدت، وجعل لا يكلّمني والملحفة تنحلّ فيعيد الاحتباء بها. فلمّا طال جلوسي نهضت فقال: - «إلى أين يا سهل؟» فقلت: «يا أمير المؤمنين ما يتسع قلبي أن أراك تعانى، من العلّة ما تعانى   [1] . الضبط فى الكلمة من الأصل. ولا ضبط فى آ. فى مط: جزمت. فى الطبري (11: 737) : خرمت (بالخاء المعجمة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أودع لك.» قال: فضحك ضحك صحيح، ثمّ قال: - «يا سهل، إنّى أذكر فى هذه الحال قول الشاعر: وإنّى لمن قوم كرام تزيدهم ... شماسا وصبرا شدّة الحدثان [18] وتوفّى ليلة الأحد غرّة جمادى الأولى، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين، وكان سنّه سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وأيّام، وكان جميلا وسيما جعدا قد وخطه الشيب. ذكر بعض سيرة الرشيد ومستحسن أخباره ذكر عن يحيى بن خالد أنّه ولّى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد فودّعه وعنده يحيى وجعفر بن يحيى. فقال الرشيد ليحيى وجعفر: - «أوصياه.» فقال له يحيى: «وفّر واعمر.» وقال له جعفر: «أنصف وانتصف.» فقال له الرشيد: «اعدل واحمل [1] .» وحكى بعض حجبة البيت، قال: لمّا حجّ الرشيد دخل الكعبة وقام على أصابعه وقال:   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: اعدل واحمل. وما فى الطبري (11: 748) : اعدل وأحسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 - «يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإنّ لكلّ مسألة منك ردّا حاضرا وجوابا عتيدا، ولكلّ صامت منك علم محيط باطن بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وآله، واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا، يا من لا تضرّه [19] الذنوب ولا تخفى عليه العيوب ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات، يسألونك الحاجات، إنّ من حاجتي إليك أن تغفر لى إذا توفّيتنى وصرت فى لحدي، وتفرّق عنّى أهلى وولدي. اللهم لك الحمد حمدا يفضل كلّ حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صلّ على محمّد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له حرزا، واجزه عنّا الجزاء الأوفى. اللهم أحينا سعداء وتوفّنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين.» وذكر الفضل بن الربيع أنّ الرشيد أمره أن يحضر [1] ابن السمّاك ليعظه قال: وأحضرته واستأذنته فى الدخول إليه فقال: - «أدخله.» فلّما دخل قال له: - «عظني.» قال: «يا أمير المؤمنين، اتقّ الله وحده لا شريك له واعلم أنّك موقوف غدا بين يدي ربّك، ثمّ مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما: جنّة أو نار.» فبكى هارون حتّى اخضلّت لحيته.   [1] . فى الأصل: يحضره. والهاء زائدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 فأقبل الفضل على ابن السمّاك فقال: - «سبحان الله وهل يتخالج أحدا شكّ أنّ أمير المؤمنين مصروف إلى الجنّة، إن شاء الله، لقيامه بحقّ الله وعدله فى عباده وفعله.» قال: فلم يحفل بذلك ابن السمّاك [20] ولم يلتفت إليه، وأقبل على الرشيد فقال: - «يا أمير المؤمنين إنّ هذا- يعنى الفضل بن الربيع- ليس والله معك ولا عندك فى ذلك اليوم، فاتّق الله وانظر لنفسك.» قال: فبكى هارون حتّى أشفقنا عليه، وافحم الفضل فلم ينطق بحرف. واستدعاه يوما آخر، فبينا هو عنده إذ استسقى الرشيد ماء فلمّا حمل إليه وأهوى بالاناء إلى فيه، قال له ابن السمّاك: - «على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشترى؟» قال: «بنصف ملكي [1] .» قال: «اشرب هنّأك الله.» فلمّا شربها قال: - «فأسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟» قال: «بجميع ملكي.» قال ابن السمّاك: - «إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه.»   [1] . الضبط من الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 فبكى هارون حتّى أشار الفضل إلى ابن السمّاك بالانصراف، فانصرف. وذكر بعضهم أنّهم كانوا مع الرشيد بالرقّة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النسّاك، فقال: - «يا هارون اتق الله.» فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك: - «خذ هذا الرجل إليك حتّى أنصرف.» فلمّا رجع دعا بغذائه، ثمّ أمر أن يطعم [21] الرجل من خاصّ طعامه. فلمّا أكل وشرب دعا به فقال: - «يا هذا أنصفنى فى المخاطبة والمسألة.» قال: «ذاك أقلّ ما تحبّ.» قال: «فأخبرنى أنا شرّ وأخبث أم فرعون؟» قال: «بل فرعون.» قال، قال: - «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [1] .» 79: 24 وقال: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلهٍ غَيْرِي [2] .» 28: 38 قال: «صدقت.» قال: «فأخبرني، فمن خير، أنت [3] أم موسى بن عمران؟» قال: «موسى بن عمران كليم الله وصفيّه اصطنعه لنفسه وائتمنه على خلقه.»   [1] . س 79 النازعات: 24. [2] . س 28 القصص: 38. [3] . أنت: كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 757) . وسياق السؤال والكلام يتطلّب «أنا.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 قال: «صدقت أفما تعلم أنّه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً. 20: 44 [1] فذكر المفسرون أنّه أمرهما أن يكنّياه، وهذا وهو فى عتوّه وجبريّته على ما قد علمت، وأنا بهذه الحال الذي علمت، أؤدّى أكثر فرائض الله علىّ ولا أعبد أحدا سواه أقف عند أكثر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدّبت ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيّا.» فقال له الزاهد: - «أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا أستغفر الله.» قال: «غفر الله لك.» [22] وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال: - «لا حاجة لى فى المال، أنا رجل سائح.» فقال هرثمة وزجره: - «تردّ على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟» فقال الرشيد: - «أمسك عنه.» ثمّ قال له: - «لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألّا يخاطب أحد الخليفة ليس من أوليائه ولا من أعدائه، إلّا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت وضعها حيث أحببت.» فأخذ من المال ألفى درهم وفرّقها على الحجّاب ومن حضر بالباب.   [1] . س 20 طه: 44. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وحكى أنّ الرشيد قال يوما لابنه القاسم وقد دخل عليه: - «ليت للمأمون بعض لحمك هذا.» فقال: ببعض حظّه. وقال يوما للقاسم قبل البيعة له: - «قد أوصيت بك الأمين والمأمون.» قال: «أما أنت يا أمير المؤمنين، فقد تولّيت النظر لهما، ووكّلت النظر لى إلى غيرك.» ومات هارون وفى بيت المال تسعمائة ألف ألف آلاف ونيّف. [1]   [1] . انظر الطبري (11: 764) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 خلافة الأمين وكتب حمّويه [1] مولى المهدى صاحب البريد بطوس إلى سلام مولاه وخليفته ببغداد على البريد وعلى الاخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزّاه وهنّأه [23] بالخلافة، وكان أوّل الناس فعل ذلك. ثمّ قدم عليه رجاء الخصّى يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وكان أنفذه صالح بن الرشيد، فانتقل محمد من قصره بالخلد إلى قصر أبى جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلّى بهم، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ونعى [2] الرشيد وعزّى نفسه والناس، ووعدهم خيرا وبسط الأمان للأسود والأبيض، وبايعه جلّة أهل بيته وخاصّته ومواليه وقوّاده. ثمّ دخل ووكّل ببيعته على من بقي منهم عمّه [3] سليمان بن أبى جعفر.   [1] . انظر الطبري (11: 764) . [2] . فى مط: نغى (بالغين المعجمة) . [3] . عمّه: كذا فى الأصل وآ: عمّه. فى مط: عنه: فى الطبري (11: 764) : عمّ أبيه سليمان بن أبى جعفر، فبايعهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 بدء الخلاف بين الأمين والمأمون وفى هذه السنة كان بدأ الخلاف بين الأمين والمأمون وعزم كلّ واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهم العمل به فى الكتاب الذي ذكرناه أنّه كان كتب بينهما. ذكر السبب الذي أوجب اختلافهما كان الرشيد جدّد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القوّاد الذين معه وأشهد من معه من القوّاد وسائر الناس غيرهم أنّ جميع من معه من القوّاد [24] والجند مضمومون إلى المأمون وأنّ جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلمّا بلغ محمدا الأمين أنّ أباه قد اشتدّت علّته وأنّه لمآبه، [1] بعث من يأتيه بخبره فى كلّ يوم وأرسل بكر بن المعتمر وكتب معه كتبا وجعلها فى قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر وقال: - «لا يظهرنّ أمير المؤمنين ولا أحد ممّن فى عسكره على شيء من أمرك وما توجّهت فيه ولا على ما معك ولو قتلت، حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه.» فلمّا قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه فدعا به فسأله: - «ما أقدمك؟» قال: «بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به.» قال: «فهل معك كتاب؟» قال: «لا.»   [1] . فى الأصل وآ: لما به. والضبط من الطبري (11: 765) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 فأمر بما معه، ففتّش فلم يصيبوا معه شيئا. فتهدّده بالضرب فلم يقرّ بشيء، فأمر به فحبس وقيّد. فلمّا كان فى الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرّره، فإن أقرّ وإلّا ضرب عنقه، فصار إليه يقرّره فلم يقرّ بشيء. ثمّ غشى على هارون فصاح النساء فأمسك الفضل عن قتله وصار [25] إلى هارون ليحضره، ثمّ أفاق وهو ضعيف قد شغل عن بكر وعن غيره لحسّ الموت، ثمّ غشى عليه غشية ظنّوا أنّها هي، وارتفعت الصيحة فأرسل بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله ألّا يعجلوا بأمر، ويعلمه أنّ معه أشياء يحتاجون إلى علمها. وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم. فلمّا توفّى هارون دعا الفضل ببكر فى الوقت والساعة فسأله عمّا عنده فأنكر أن يكون عنده، شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيّا، حتّى صحّ عنده موت هارون، وأدخله عليه فأخبره أنّ عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد وأنّه لا يجوز له إخراجها وهو على حاله من قيوده وحبسه. فأطلقه الفضل فأتاهم بالكتب فى قوائم المطابخ المجلّدة بجلود البقر، فدفع إلى كلّ إنسان منهم كتابه. وكان فى تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى الحسين الخادم بخطّه يأمره بتخلية سبيل بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده لغيبته بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد وكان مع أبيه بطوس [26] وكان أكبر من يحضره هارون من ولده، فأتاهم فى تلك الساعة فسألهم عن أبيه هارون فأعلموه. فجزع جزعا شديدا، ثمّ دفعوا كتاب أخيه الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا غسله وتجهيزه وصلّى عليه ابنه صالح. ولمّا قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القوّاد والجند وأولاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 هارون فتشاوروا [1] فى اللحاق بمحمد وأحبّوه لأجل أهاليهم ومنازلهم. وقال الفضل بن الربيع: - «لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا ندري ما يكون من أمره.» وأمر الناس الناس بالرحيل. فوافقهم ذلك وسرّوا به وتركوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون. فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قوّاد أبيه وكان فيهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعبّاس بن مسيّب بن زهير وهو على شرطته وأيّوب بن أبى سمير، ومعه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرئاستين عنده من أعظم الناس قدرا فشاورهم. [27] ذكر آراء أشير بها على المأمون فى تلك الحال فأشار عليهم أكثرهم أن يلحقهم بنفسه فى ألفى فارس جريدة، فيردّهم، فعمل على ذلك وسمّى له قوما فدخل عليه ذو الرئاستين فقال له: - «إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلك هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأى أن تكتب إليهم كتابا، وتوجّه إليهم رسول فتذكّرهم البيعة، وتسألهم الوفاء وتحذّرهم الحنث، وما يلزمهم فى ذلك فى الدين والدنيا.» وقال: قلت له: - «إنّ كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم وتوجّه سهل بن صاعد- وكان على قهرمته- فإنّه يأملك ويرجو أن ينال أمله فلن يألوك نصحا، وتوجّه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين.»   [1] . كذا فى آ، وما فى الأصل: شاوروا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وكان عاقلا. فكتب كتابا ووجّههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل. قال سهل بن صاعد: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه فقال: - «إنّما أنا واحد منهم.» قال سهل: فشدّ علىّ عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى [1] بالرمح. فأمرّه على جبيني [2] ثمّ قال لى: - «قل لصاحبك والله لو كنت حاضرا [28] لوضعت الرمح فى فيك. هذا جوابي.» قال ذو الرئاستين: فقلت للمأمون: - «أعداء قد استرحت منهم ولكن افهم عنّى ما أقول لك إنّ هذه الدولة لم تكن قطّ أعزّ منها أيّام المنصور أبى جعفر، فخرج عليهم المقنّع وهو يدّعى الربوبية، وقال بعضهم طلب بدم أبى مسلم، فتضعضع له بخروجه من بخراسان، ثمّ كفاه الله المؤونة، ثمّ خرج بعده يوسف البرم، [3] وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفاه الله المؤونة، ثمّ خرج اشادشنس يدعو إلى الكفر، فسار المهدى من الرىّ إلى نيسابور، فكفوا المؤونة، ولكن ما أصنع أكثر عليك، أخبرنى كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع.» قال: «رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا.» قلت: «فكيف بك وأنت نازل فى أخوالك وبيعتك فى أعناقهم كيف يكون اضطراب أهل بغداد، اصبر فأنا أضمن لك الخلافة.» قال: «قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به.» قال: فقلت:   [1] . كذا فى الأصل. فى مط: الأناوى. وهو ساقط من آ، وليس موجودا فى الطبري (11: 773) . [2] . كذا فى الأصل، وما فى آمهمل. فى الطبري (11: 773) : جنبي. [3] . ما فى الأصل مهمل، ويشبه أن يكون البرمر. والضبط من الطبري (11: 773) وفى آ: الزم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 - «والله لأصدقنّك أنّ عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمّينا من الرؤساء إن قاموا [29] لك بالأمر كانوا أنفع لك منّى برئاستهم المشهورة، ولما عندهم من القوّة على الحرب. فمن قام بالأمر كنت خادما له حتّى يصير إلى محبّتك وترى رأيك فىّ.» قال: «نعم.» فلقيتهم فى منازلهم، وذكّرتهم البيعة التي فى أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء، فتكرّهه الكلّ وقال بعضهم: - «هذا لا يحلّ، أخرج.» وقال بعضهم: - «من يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟» فجئت فأخبرته فقال: - «قم بالأمر.» قال: قلت: - «قد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقّهت فى الدين، فالرأى أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحقّ والعمل به وإحياء السنّة وتقعد على اللبود وتردّ المظالم.» ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء وأكرمنا القوّاد وأبناء الملوك. فكنّا نقول للتميمىّ: نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبى داود خالد بن إبراهيم، ونقول لليماني: نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم، حتّى استملنا قلوب الرؤساء والملوك وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذاك وسرّوا به، وقالوا: - «ابن أختنا وابن عمّ [30] النبي صلى الله عليه.» قال: فكان شغلنا بهذا وأشباهه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 فأمّا الأمين فإنّه اشتغل باللعب وأمر ببناء حول قصر أبى جعفر فى المدينة للصوالجة واللعب، وأخذنا نحن فى الجدّ، ورأى المأمون أن يهادي أخاه، فبعث له بهدايا وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم وإهداء طرف خراسان. ودخلت سنة أربع وتسعين ومائة وفى هذه السنة عزل محمد الأمين أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولّاه من عمل الشام وقنّسرين والعواصم والثغور، وولّى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام. وفيها أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالأمرة. وفيها تنكّر كلّ واحد من محمد الأمين وعبد الله المأمون لصاحبه وظهر الفساد بينهما. سبب ظهور الفساد بين الأمين والمأمون وكان السبب فى ذلك أنّ الفضل بن الربيع فكّر بعد مقدمه إلى العراق ناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذ بها عليه لابنه المأمون، فعلم أنّ الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما من الدهر [31] وهو حىّ لم يبق عليه، وكان فى ظفره به عطبه. فسعى فى حثّ محمد على خلعه وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأى محمد ولا عزمه. فأدخل معه فى الرأى علىّ بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما، فصغّروا شأن عبد الله المأمون عند الأمين، وقال له الفضل: - «يا أمير المؤمنين اخلع عبد الله والقاسم، فإنّ البيعة كانت لك متقدّمة وإنّما أدخلا فيها بعدك.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وعلم المأمون أنّ عزل الأمين للقاسم وأخيه وإقدامه مدينة السلام وأمره للدعاء لابنه موسى بالأمرة ومكاتبته الأمصار بذلك، تدبير عليه فى خلعه. فقطع البريد عن محمد وأسقط اسمه من الطّرز ودور الضرب [1] . وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيّار لمّا انتهى إليه حسن سياسة المأمون وسيرته فى رعيّته، بعث فى طلب الأمان لنفسه، وكان هرثمة يجاريه. فلمّا طلب الأمان سارع هرثمة إليه وخرج رافع فلحق بالمأمون وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعا، وكان مع هرثمة فى حصار رافع طاهر بن الحسين. ثمّ استأذن [32] هرثمة المأمون فى القدوم عليه، فأذن له فتلقّاه الناس، وولّاه المأمون الحرس، فأنكر ذلك الأمين وكتب إلى العبّاس بن عبد الله بن مالك- وكان عامل المأمون على الرىّ وهو آخر حدّه من خراسان-، يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس [2] الرىّ، وأراد امتحانه. فبعث إليه بما أمره وكتم ذلك المأمون وذا الرئاستين، فبلغ ذلك المأمون فعزله. ثمّ وجّه الأمين إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلا: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلّى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك وكتب معهم كتابا فبلغ الخبر بذلك ذا الرئاستين فوجّه رسولا وكتب إلى صاحب الرىّ: أن استقبلهم بالعدّة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والى قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك، ففعلوا. ثمّ وردت الرسل مرو وقد أعدّ لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد. ثمّ صاروا إلى المأمون فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه ويذكر أنّه سمّاه الناطق بالحقّ، فردّ المأمون ذلك وأباه. فقال العبّاس بن موسى بن عيسى: [33]   [1] . فى آ: من الطرز والضرب. فى الطبري (11: 777) : وأسقط اسمه من الطرز. [2] . كذا فى الأصل والطبري (11: 777) فى آومط: عروس (بالإهمال) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 - «ما عليك أيّها الأمير من ذلك فهذا جدّى عيسى بن موسى قد خلع نفسه فما ضرّه ذلك ولا طاب عيشه إلّا بعد الخلع.» قال: فصاح عليه ذو الرئاستين قال: - «اسكت فإنّ جدّك كان فى أيديهم أسيرا، وهذا بين شيعته وأخواله وعشيرته.» قال ذو الرئاستين: فأعجبنى ما رأيت من ذكاء العبّاس بن موسى، فخلوت به وقلت: - «يذهب عليك فى فهمك وذكائك أن تأخذ بحظّك من الإمام.» قال: وسمّى المأمون فى ذلك اليوم: الإمام ولم يسمّ بالخلافة، وإنّما سمّى بذلك لما جاءه من خلع محمد له. قال: فقال لى العبّاس: - «وقد سمّيتموه: الإمام.» قال: قلت: - «قد يكون إمام المسجد والقبيلة [1] فإن وفيتم لم يضرّكم اسمه، وإن غدرتم فهو ذاك.» ثمّ قلت للعباس: - «لك عندي ولاية الموسم، فلا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأموال بمصر ما شئت.» قال: فما برح حتّى أخذت عليه البيعة للمأمون بالخلافة. فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأى. ومضى القوم منصرفين إلى محمد فأخبروه بامتناعه. وألحّ الفضل بن الربيع وعلىّ بن [34] عيسى على محمد فى البيعة لابنه وخلع المأمون.   [1] . فى الطبري (11: 779) : وأحصنه (بالصاد المهملة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 وبذل الفضل الأموال حتّى بايع لابنه موسى، وسمّاه: الناطق بالحقّ، وأحضنه علىّ بن عيسى وولّاه العراق وأسقط ذكر عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن من المنابر، ووجّه رسولا إلى مكّة فأخذ من الحجبة الكتابين اللذين كان هارون اكتتبهما وجعلهما فى الكعبة، وتكلّم فى ذلك الحجبة فلم يحفل بهم وخافوا على أنفسهم، ومزّق الكتابين وأبطلهما. وكان محمد الأمين كتب إلى المأمون قبل المكاشفة يسأله أن يتجاوز ويتجافى له عن كور من كور خراسان سمّاها له وأن يوجّه العمّال من قبل محمد وأن يحتمل رجلا من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلمّا ورد على المأمون الكتاب بذلك كبر عليه واشتدّ، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن فشاورهما فأحجما وقالا: - «الأمر مخطر ولك شيعة وبطانة وأهل ولاء. وكان يقال: شاور فى طلب الرأى من تثق بنصيحته وتألّف العدوّ فيما لا اكتتام له بمشاورته.» [35] ذكر آراء الناس فيما شاورهم فيه المأمون ثمّ أحضر المأمون الخاصّة من الرؤساء والأعلام وقرأ عليهم الكتاب فقالوا جميعا: - «أيّها الأمير، شاورت فى أمر خطير معضل، فاجعل لبديهتنا حظّا من الرويّة.» قال المأمون: - «هو الحزم.» وأجّلهم ثلثا: ثمّ اجتمعوا فقال أحدهم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 - «إنّك أيّها الأمير قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ تعجّل مكروه أوّلهما مخافة مكروه آخرهما.» وقال آخر: - «إذا كان الأمر مخطرا [1] فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته.» وقال آخر: - «كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيّبا عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك، فإنّك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك.» وقال آخر: - «لئن خيفت للبذل عاقبة، إنّ أشدّ منها ما يبعث الإباء [2] من الفرقة.» وقال آخر: - «لا أرى مفارقة منزلة السلامة فلعلّى أعطى معها العافية.» فقال الحسن بن سهل: - «قد وجب حقّكم باجتهادكم وإن كنتم معذورين، فإنّ رأيى مخالف لرأيكم.» فقال له المأمون: - «فناظرهم.» قال: «لذلك ما كان الاجتماع.» وأقبل عليهم الحسن فقال: - «هل تعلمون أنّ [36] محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟» فقالوا: «نعم ويحتمل ذاك لما يخاف من ضرر منعه.»   [1] . ما فى الأصل يشبه أن يكون «محظرا» بإعجام الثالث. فى الطبري (11: 781) : مخطرا. [2] . فى الطبري (11: 781) : ألّا نأمن الفرقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 قال: «فهل تثقون بأن يكفّ إذا أعطيناه ما سأل، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها [1] ؟» قالوا: «لا، ولعلّ سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقّع.» قال: «فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهّن بما بذل من نفسه فيها.» قالوا: «ندفع بمحذور الآجل محذور العاجل.» قال: «فإنّ الحكماء قبلنا قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض فى مكروه يومك ولا تلتمس هدنة [2] يومك بإخطار أدخلته على نفسك فى غدك.» فأقبل المأمون على الفضل وقال: - «ما تقول فيما اختلفوا فيه؟» قال: «هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوّتك، ليستظهر بها غدا على مخالفتك، وهل يصير الخازم إلى فضله من عاجل الدعة بخطر يتعرّض له فى العاقبة؟ بل إنّما أشار الحكماء بحمل ثقل عاجل، فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم.» فقال المأمون: - «بإيثار دعة العاجل صار من صار إلى فساد العاقبة فى أمر دنيا وأمر آخرة.» قال القوم: - «قد قلنا بمبلغ الرأى والله [37] للأمير بالتوفيق.» فقال: «اكتب يا فضل إليه:   [1] . فى الأصل والطبري (11: 781) : غيرها وفى آ: غيره. [2] . هدنة: كذا فى الأصل. ما فى آ: مهمل بكامله. فى الطبري (11: 781) : هدية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 - «قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سمّاها، ممّا أثبته الرشيد فى العقد لى، وجعل أمره إلىّ وما أمر رآه أمير المؤمنين مما يتجاوز، غير أنّ الذي جعل إلىّ الطرف الذي أنا به كان غير ظنين فى النظر لعامّته ولا جاهل بما أسند إلىّ من أمره. ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة ثمّ، كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدوّ مخوف الشوكة وعامّة لا تتألف عن هضمة، وأجناد لا تستتبع طاعتها إلّا بالأموال وطرف من الإفضال، لكان فى نظر أمير المؤمنين لعامّته وما يجب من لمّ أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحقّ. وإنّى لأعلم أنّ أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع [1] بمسألة ما كتب بمسألته إلىّ، ثمّ أنا على ثقة من القبول بعد البيان، إن شاء الله.» واستشار أيضا محمد أصحابه فيما همّ به. ذكر آراء أشير بها على محمد الأمين [38] قال يحيى بن سلم وقد دعاه الأمين واستشاره: - «يا أمير المؤمنين كيف بذاك مع تأكيد الرشيد بيعته وأخذه الأيمان والمواثيق فى الكتب؟» فقال محمد:   [1] . كذا ضبط ما فى الأصل. والضبط فى الطبري (11: 782) : يطلع (بضمّ الياء فقط) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 - «إنّ رأى الرشيد كانت فلتة من الخطأ شبّه عليه جعفر بن يحيى بسحره، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه [معه [1]] إلّا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور ولا تصلح إلّا باجتثاثه والراحة منه.» فقال: «أمّا إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره فيستكبرها [2] الناس وتستشنعها العامّة، ولكن تستدعى [3] الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرّق ثقاته ومن معه وترغّبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع. فإذا وهنت قوّته ولم تبق له منّة أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه وإن أبى كنت قد تناولته وقد كلّ حدّه وهيض جناحه.» قال محمد: - «فأقطع [4] أمرا كصريمة. أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأى مصيب، فزل عن هذا الرأى إلى رأى الشيخ الموفّق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك [39] وأقلامك.» فقال يحيى: - «غضب يشوبه صدق وتجلبه نصيحة، أحبّ إلىّ من رضا يخلطه جهل ويحمله جهل.» وبعث الفضل إلى أحد من رضى عقله ورأيه فاستشاره، فعظّم الرجل عليه أمر البيعة للمأمون، وقبّح الغدر والنكث. فقال الفضل: - «صدقت، ولكن عبد الله أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما عقده   [1] . تكملة من الطبري. [2] . كذا فى الأصل وآ: يستكبرها. وما فى الطبري (11: 791) : يستنكرها. [3] . فى الأصل: يستدعى. صححناه بالسياق. [4] . فى الأصل: قطع. فى آ: فأقطع. وهو الصحيح، ويؤيّده ما فى الطبري (11: 791) : أقطع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 الرشيد وأمير المؤمنين يرى اليوم لنفسه ولرعيّته ما لم يره الرشيد يومئذ.» فقال: «أفتثبت الحجّة عند عامّة الناس بهذا الحدث الذي أحدثه المأمون كما تثبت الحجّة له بمأخوذ عهده؟» قال: «لا.» قال: «أفحدث هذا الحدث عندكم ممّا يوجب نقض عهدكم ولم يكن حدث ولا كان معلوما.» قال: «نعم.» فقال الرجل ورفع صوته: - «تالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يشاور فى دفع ملك فى يده بالحجّة، ثمّ يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة.» قال: فأطرق الفضل مليّا ثمّ قال: - «صدقتني الرأى، ولكن أخبرنى إن نحن أغمضنا فى قالة العامّة، ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟» قال: [40]- «أصلحك الله، وهل أجنادك إلّا من عامّتك فى أخذ بيعتهم وتمكّن برهان الحقّ فى قلوبهم، أفليسوا وإن أعطوا ظاهر طاعتهم مع ما تأكّد من وثائق العهد فى معارفهم وعليهم بباطن أمورهم.» قال: «فإن أعطونا الطاعة فما يضرّنا من ضمائرهم.» قال: «لا طاعة دون ما ثبت من البصائر.» قال: «ترغّبهم بتشريف حظوظهم؟» قال: «إذا يصيروا إلى التثقّل، ثمّ إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم.» قال: «فما ظنّك بأجناد عبد الله؟» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 قال: «قوم على بصيرة من أمورهم لتقدّم بيعتهم.» قال: «فما ظنّك بعامّته؟» قال: «قوم كانوا فى بلوى عظيمة من تحيّف ولاتهم فى أموالهم وأنفسهم صاروا به إلى الأمنة فى المال والرفاغة فى المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكّرون بليّة لا يأمنون العودة فى مثلها.» قال: «ما أراك أبقيت لنا موضع رأى فى اعتزالك أجنادنا، ثمّ أشدّ من ذلك ما قلت به من وهنة أجنادنا وقوّة أجناده وما تسخو [1] نفس أمير المؤمنين بترك ما يعرف من حقّه، ولا نفسي بالهدنة مع ما أقدمت [41] عليه فى أمره، وربّما أقبلت الأمور مشرقة بالمخافة، ثمّ تكشّفت عن الفلج والدرك فى العاقبة.» وتفرّقا. ذكر الحزم والجدّ الذي أخذ فيه المأمون حتّى بلغ به ما أراد أذكى العيون، وأقام الحرس على رأس الحدّ، فلا يجوز رسول من العراق حتّى يوجّهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرا ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدا ولا يبلغ أحدا قولا ولا كتابا فحصّن أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة أو أن تودع قلوبهم رهبة. ثمّ وضع على مراصد الطرقات ثقات من الأحراس لا يجوز عليهم إلّا من لا تدخله الظنّة فى أمره ممّن أتى بجواز فى مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون فى نفسه ودينه ومنع الأشابات [2] من جواز السبل والقطع بالمتاجر، والوغول فى   [1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 793) : فى آ: سحوا. [2] . الأشابة: أخلاط الناس. ما فى الطبري (11: 783) : الأشتاتات. وما فى آومط مهمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 البلدان فى هيأة الطارئة والسابلة، وفتّشت الكتب فكانت ترد من قبل محمد الرسل والجماعات، فإذا صاروا إلى حدّ الرىّ وجدوا تدبيرا مؤيّدا [42] وعقدا مستحصدا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم فحصّنوا فى حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فيجيء الإذن فى حملهم، فيحملون محروسين لا خبر يصل إليهم، ولا غيرهم يتطلّع خبرا من عندهم حتّى يصيروا إلى باب المأمون. وذكر سهل بن هارون، أنّ المأمون قال يوما لذي الرئاستين: - «إنّ ولدي وأهلى ومالي الذي أفرده لى الرشيد بحضرة محمد وهو مائة ألف ألف وأنا إليها محتاج وهي قبله فما ترى فى ذلك؟» فقال له ذو الرئاستين: - «إن أنت كتبت كتاب عزمة فمنعك، صار إلى خلع عهده. فإن فعل، حملك ولو بالكره على محاربته، وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك، ولكن تكتب كتاب طالب بحقّك وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثا لعهدك، فإن أطاع فنعمة وعافية، وإن أباها لم تكن بعثت على نفسك حربا ومشاقّة.» قال: «فاكتب إليه كما ترى.» فكتب عنه: كتاب كتبه ذو الرياستين عن المأمون إلى الأمين - «أمّا بعد فإنّ نظر أمير المؤمنين للعامّة نظر من لا يقتصر على إعطاء النصفة من نفسه حتّى يتجاوزها إليهم ببرّه وصلته [43] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وإذا كان ذلك رأيه فى عامّته فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك لصنوه وقسيم نسبه. وقد تعلم يا أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها وأجناد لا تزال موفية بتسرّعها وبنكث آرائها وبقلة الخراج قبلي، والأهل والولد والمال قبل أمير المؤمنين، وما للأهل- وإن كانوا فى كفاية- من برّ أمير المؤمنين وكان لهم والدا- بدّ من الإشراف والنزوع إلى كنفى، وما لى بالمال من القوّة والظهير على لمّ شعثي، وقد وجّهت لحمل العيال وحمل ذلك المال فرأى أمير المؤمنين فى إجازة فلان إلى الرّقّة فى حمل ذلك المال والأمر بمعونته عليه غير مخرج له فيه إلى ضيقة تقع بمخالفته، أو حامل له على رأى يكون على غير موافقته، إن شاء الله.» فكتب إليه محمد فى الجواب: جواب الأمين - «أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بما ذكرت ممّا عليه رأى أمير المؤمنين فى عامّته، فضلا عمّا يوجب من حقّ ذى حرمته وخليط نفسه، ومحلّك من لهوات ثغور، وحاجتك لمحلّك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك. والمال الذي سمّى لك من مال الله عزّ وجل [44] وما ينكر أمير المؤمنين حقوق أقربيه وذوى نسبه، وما ذاك بداع أمير المؤمنين إلى ترك الاستظهار لدينه وعامّته، وبه إلى ذلك الذي ذكرت حاجة فى تحصين أمور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 المسلمين، وكان أولى به إجراؤه على فرائضه وردّه فى مواضع حقّه، وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامّة من رعيّتك. - «وأمّا ما ذكرت من حمل أهلك فإنّ يدي المشرفة على أمرهم، وإن كنت بالمحلّ الذي أنت به من حقّ القرابة ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي عرّضتهم له بالسفر من شهم [1] وإن أر ذلك من ذى قبل، أوجّههم إليك مع الثقة من رسلي، إن شاء الله.» ولمّا ورد الكتاب على المأمون قال: - «لطّ دون حقّنا يريد أن يوهن بالمنع قوّتنا ثمّ يتمكّن من الفرصة فى مخالفتنا.» كتاب المأمون إلى أعيان العسكر ببغداد ورأى المأمون والفضل أن يختارا رجلا يكتب معه إلى أعيان العسكر ببغداد، فإن أحدث الأمين للمأمون خلعا صار إلى التلطّف، لعلم أحوال أهلها بالكتب التي معه وإن لم يفعل من ذلك كنس فى خفية وأمسك عن إيصالها وكان نسخة الكتاب: «أمّا بعد [45] فإنّ أمر المؤمنين كأعضاء البدن تحدث العلّة فى بعضها فيكون كره ذلك مؤلما لجميعها، وكذلك الحدث فى المسلمين يكون فى بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم، للذي   [1] . كذا فى الأصل ومط. ما فى آ: شتمهم. وليست الكلمة موجودة فى الطبري (11: 787، 788) . ولعلّه من قولهم: شهم الرجل: أفزعه. شهم الفرس: زجره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 يجمعهم من شريعة دينهم ويلزمهم من حرمة آخرتهم. ثمّ ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم. وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلّا سيعرب عن مغبّته ويسفر عمّا استتر من وجهه. وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله، إلّا كان أولى بمعونة المسلمين وموالاتهم فى ذات الله وأنت- يرحمك الله- من الأمر بمرأى ومسمع، وبحيث إن قلت أذن لقولك وإن لم تجد للقول مساغا فأمسكت عن مخوف، اقتدى فيه بك، ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا من حقّك بالإحسان ولحظّ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظّين مع التعرّض لعدمهما. فاكتب إلىّ برأيك وأعلم ذلك رسولي ليؤدّيه عنك، إن شاء الله.» فوافق قدوم هذا الرسول بغداد ما أمر به من الكفّ عن الدعاء للمأمون [46] فى الخطبة، وكان الرسول بمحلّ الثقة من كلّ من كتب إليه. فلمّا أوصلها كان منهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عمّا فى نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه. فكان نسخة كتاب أحدهم: «أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وللحقّ برهان يدلّ على نفسه، تثبت به الحجّة على كلّ من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظّ من حظّ العاقبة لمأمول [1] حظّ من عاجله، وأبين فى الغبن إضاعة عاقبة مع التعرّض للنكبة والوقائع. ولى من العلم   [1] . كذا فى الأصل وآ. والعبارة فى الطبري (11: 790) : لما موّل من حظّ عاجله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 بمواضع حظّى ما أرجو أن يحسن معه النظر لنفسي، ويضع عنّى مؤونة استزادتى.» وكتب الرسول الذي توجّه بهذه الكتب إلى بغداد إلى المأمون وذى الرئاستين: «أمّا بعد، فإنّى وافيت البلدة وقد أعلن خليطك بتنكيره، وقدّم علما من اعتراضه ومفارقته، وأمسك عمّا يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السرائر وبغاة العلانية، ووجدت المسرفين بالرغبة لا يحوطون غيرها ولا يبالون ما احتملوا فيها والمنازع مختلج الرأى [47] لا يجد دافعا منه عن همّه، ولا داعيا إلى لزوم حجّة فى عامّه، والملحّون بأنفسهم يحبّون تمام الحدث ليسلموا من متهدم حدثهم، والقوم على جدّ، فلا تجعلوا للتوانى فى أمركم نصيبا والسلام.» فلمّا جاء الخبر إلى المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها لبعض، قال لذي الرئاستين: - «أمور قد كان الرأى أخبر عن غيبها [1] . ثمّ هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحقّ ولعلّ كرها يسوق خيارا.» ثمّ أشخص طاهر بن الحسين، وضمّ إليه ثقات قوّاده وأجناده، فسار   [1] . كذا فى الأصل وآ. ما فى الطبري (11: 793) : عينها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 طاهر مغذّا لا يلوى على شيء حتّى ورد الرىّ، فنزلها ووكّل بأطرافه ووضع مسالحه وبثّ عيونه وطلائعه. ودخلت سنة خمس وتسعين ومائة مبادرات من الأمين والمأمون وفيها عقد الأمين لابنه موسى على جميع ما استخلف عليه، وجعل صاحب أمره علىّ بن عيسى بن ماهان، وأسقط ما كان ضرب باسم أخيه المأمون بخراسان من الدنانير والدراهم فى سنة أربع وتسعين، لأنّ المأمون أمر ألّا يثبت فيها [48] اسم محمد، ونهى محمد عن الدعاء على المنابر كلّها فى عمله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له، ثمّ من بعده لابنه موسى، وابنه موسى يومئذ طفل صغير وسمّاه: الناطق بالحقّ. وجميع ما فعل من ذلك كان عن رأى الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر. وبلغ المأمون ذلك، فتسمّى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك. وعقد محمد الأمين لعلىّ بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلّها: نهاوند وهمذان وقم وإصبهان، حربها وخراجها، وضمّ إليه جماعة من القوّاد، وأمر لهم بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطاه للجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلّاة، بألفي سيف وسبعة ألف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقوّاده المقصورة بالشمّاسيّة، وصلّى الجمعة ودخل وأجلس ابنه موسى فى المحراب ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرئ على جماعتهم كتاب من محمد يعلمهم رأيه فيه، وحقّه عليهم وما سبق له من البيعة مفردا، وما أحدث عبد الله من التسمّى بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع البريد، وقطع ذكره من دور الضرب والطرز، [49] وأنّ ذلك ليس له، وحثّهم على الطاعة والتمسّك ببيعته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وتكلّم سعيد بن الفضل الخطيب قائما، فصدّق ما فى الكتاب وتكلّم بمثله. ثمّ تكلّم الفضل بن الربيع وهو جالس. فأبلغ فى القول وأكثر، وذكر أنّه لا حقّ لأحد فى الإمامة والخلافة إلّا لأمير المؤمنين محمد الأمين، وقال فى آخر كلامه: - «إنّ الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم يقسّم بينكم.» وانصرف الناس. شخوص علىّ بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون وفى هذه السنة شخص على بن عيسى بن ماهان إلى الحرب وتوجّه إلى الرىّ. فذكر الفضل بن إسحاق أنّ علىّ بن عيسى توجّه لحرب المأمون يوم الجمعة عشيّا لست بقين من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين إلى معسكره بنهر بين [1] وكان معه زهاء أربعين ألف رجل ومعه قيد فضّة ليقيّد به المأمون بزعمه، وشيّعه أمير المؤمنين محمد الأمين إلى النهروان، فعرض الجند وأقام يومه بالنهروان، ثمّ انصرف إلى مدينة السلام. وأقام علىّ بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثمّ شخص واعد السير حتّى نزل همذان وكان كاتب من كان بها وبغيرها بالانضمام [50] إلى علىّ بن عيسى. ثمّ عقد لعبد الله بن جبلة الأبناوي [2] وهو الذي طعن رسول المأمون يوم أنفذه خلف الفضل بن الربيع إلى نيسابور، وتكلّم ما كتبناه على الدينور، وأمره بالمسير فى أصحابه ووجّه معه ألفى ألف درهم إلى علىّ بن عيسى سوى ثلاثة آلاف درهم حملت إليه قبل ذلك، فسار علىّ بن عيسى من همذان إلى الرىّ قبل   [1] . نهر بين (ويقال: نهربيل) : طسّوج من سواد بغداد. (مراصد الإطلاع) . [2] . كذا فى الأصل وما فى الطبري (11: 798) : الأنباوىّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 ورد عبد الرحمان بن جبلة عليه، فسار على تعبئة، ولقيه طاهر بن الحسين فى أقلّ من أربعة آلاف. وكان استأمن إلى علىّ بن عيسى من عسكر طاهر ثلاثة أنفس يتقرّبون إليه. فسألهم، من هم ومن أىّ البلدان هم، فأخبره أحدهم أنّه كان من جند أبيه عيسى الذي قتله رافع. قال: «فأنت من جندي؟» فأمر به فضرب مائتي سوط واستخفّ بالرجلين وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر فازدادوا جدّا فى محاربته ونفورا منه. وأقبل علىّ بن عيسى فى جيشه فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح والذهب [1] ، وجعل على ميمنته الحسين بن علىّ، على ميسرته القاسم بن عيسى بن إدريس. قال احمد بن هشام، وكان إذا ذاك [51] على شرطة طاهر: فما لبثا أن هزمونا حتّى دخلوا العسكر فخرج إليهم الأتباع والساسة، فهزموهم. فقال طاهر لمّا رأى عسكر علىّ بن عيسى: - «هذا ما لا قبل لنا له، ولكن نجعلها خارجية.» فقصد قصد القلب فى سبعمائة رجل من الخوارزمية انتخبهم. مقتل علىّ بن عيسى بيميني طاهر قال أحمد بن هشام: فقلت لطاهر: - «ألا تذكّر علىّ بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا للمأمون، خاصّة معاشر أهل خراسان؟»   [1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (11: 800) . وفى آ: من السلاح المذهّب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 فقال: «بلى.» فعلّقنا ذلك على رمح، وقمت بين الصفّين وقلت: - «الأمان، لا ترمونا ولا نرميكم.» فقال علىّ بن عيسى: - «لك ذلك.» فقلت: «يا علىّ بن عيسى ألا تتّقى الله، أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصّة علينا؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك.» فصاح علىّ بن عيسى: - «يا أهل خراسان من جاء به، فله ألف درهم.» قال: وكان معى قوم بخارية فزنّوه، فقالوا: - «نقتلك ونأخذ مالك.» وبرز من عسكر علىّ بن عيسى العباس بن الليث مولى المهدى، فشدّ عليه طاهر وجمع يديه على مقبض السيف فضربه فصرعه. وشدّ داود سياه على علىّ بن عيسى، فصرعه وهو لا يعرفه. فقال داود: - «تازى ايشان كشتم.» [1] فعرفه رجل يعرف بطاهر الصغير [52] بن الناجي فقال: - «أنت علىّ بن عيسى؟» فقال: «نعم أنا علىّ بن عيسى.» وظنّ أنّه يهاب فلا يقدم عليه، فشدّ عليه فذبحه بسيفه وكانت ضربة طاهر هي الفتح فسمّى يومئذ: ذا اليمينين، لأنّه أخذ السيف بيديه جميعا.   [1] . كذا فى الأصل وآ. ما فى الطبري (11: 801) : ناري ... كتبتم. وهو تصحيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 التسليم على المأمون بالخلافة ولمّا بشّر طاهر بن الحسين بقتل علىّ بن عيسى أعتق من كان بحضرته من غلمانه شكرا ثمّ جاءوا بعلىّ بن عيسى وقد شدّ الأعوان يديه إلى رجليه وحمل على خشبة مدهق كما يحمل الحمار الميّت فأمر به فلفّ فى لبد وألقى فى بئر. وكتب بالبشارة إلى ذى الرئاستين فسارت الخريطة، وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد ووردت عليهم يوم الأحد. ولمّا ورد الكتاب بالفتح على ذى الرئاستين فضّه فإذا فيه: - «أطال الله بقاءك وكبت أعداءك وجعل من يشنأك فداءك. كتابي إليك، ورأس علىّ بن عيسى بين يدىّ، وخاتمه فى اصبعى، والحمد لله ربّ العالمين.» فدخل به على المأمون حتّى قرأه، فأمر بإحضار أهل بيته وقوّاده ووجوه الناس فدخلوا، فسلّموا عليه بالخلافة، ثمّ ورد رأس علىّ يوم الثلاثاء وطيف به [53] فى خراسان. فحكى عن واحد أنّه لمّا جاء نعىّ [1] علىّ بن عيسى إلى محمد بن زبيدة، كان فى وقته ذلك على الشطّ يصيد السمك مع خادمه كوثر، فقال للذي أخبره: - «ويلك دعني فإنّ كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا بعد ما صدت شيئا.» ولمّا نهض من مجلسه ذلك، بعث إلى الفضل ومحمد فأنفذ إلى وكيل   [1] . النّعىّ: النعي. الناعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 المأمون ببغداد وقيّمه فى أهله وولده فأخذا منه المائة ألف الدرهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلّاته، ووجّه عبد الرحمن بن جبله الأبناوى بالعدة والقوّة فنزل همذان. ذكر الحيلة التي احتال بها ذو الرئاستين حتّى اختار محمد لحربه علىّ بن عيسى دون غيره كانت كتب ذى الرئاستين ترد إلى دسيسة الذي كان الفضل بن الربيع يشاوره فى أمره: إن أبى القوم إلّا عزمة الخلاف، فالطف لأن يجعلوا أمره لعلىّ بن عيسى. وإنّما خصّ عليّا بذلك لسوء أثره فى أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه وأنّ العامّة ترى حربه. فلمّا شاور الفضل ذلك الرجل الذي كان [54] يشاوره قال علىّ بن عيسى: - «إن فعل فلم ترمهم بمثله فى بعد صوته [1] وسخائه ومكانه من بلاد خراسان فى طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم. ثمّ هو شيخ الدعوة.» فاجتمعوا على توجيه علىّ، فكان من أمره ما كان. وروى أنّ الأمين لمّا عزم على خلع المأمون أشار عليه نصحاؤه أن يكاتبه ويسأله القدوم عليه، فإنّ ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته واجابته فكتب إليه:   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط. وما فى الطبري (11: 808) : صومه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 كتاب الأمين إلى المأمون - «من عبد الله الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ردّا فى أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك وما يؤمّل فى قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله وقلّده من أمور عباده وبلاده، فكّر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك بها وإقرارك على ما صيّر إليك منها. فرجا أمير المؤمنين ألّا يدخل عليه وكف فى دينه ولا نكث فى يمينه، إذ كان إشخاصه إيّاك فيما يعود على المسلمين نفعه ويصل إلى عامّتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أنّ مكانك بالقرب منه أسدّ للثغور وأصلح [55] للجنود وأدّر للفيء وأردّ على العامّة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك مغيّبا عن أمير المؤمنين وما يحبّ الاستمتاع به من رأيك وتدبيرك. وقد رأى أمير المؤمنين أن يولى ابنه موسى فيما يقلّده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد أثر وأنفذ بصيرة، فإنّك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح لأهل ملّته وذمّته، والسلام.» ودفع الكتاب إلى العبّاس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 علىّ- وإلى عيسى بن جعفر بن أبى جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك [1] وإلى صالح صاحب المصلّى، وأمرهم أن يخرجوا إلى المأمون وألّا يدعوا وجها من الرفق، إلّا بلغوه وسهّلوا الأمر عليه، فيه وحمل معهم من الألطاف والهدايا والبرّ شيئا كثيرا وذلك فى سنة أربع وتسعين ومائة. فتوجّهوا بكتابه، فلمّا وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد وما كان بعث [56] معهم من الأموال والهدايا. ثمّ تكلّم العبّاس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: كلام العباس عند المأمون - «أيّها الأمير، إنّ أخاك قد تحمّل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر فى أمور الناس عب ءا جليلا، وقد صدقت نيّته فى الخير فاعتوره [2] الوزراء والأعوان والكفاة على العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه وقد فزع إليك فى أموره وأمّلك للمؤازرة والمكانفة، ولسنا نستبطئك فى برّه اتهاما لنظرك [3] له، ولا نحضّك على طاعته تخوّفا لخلافك عليه وفى قدومك عليه أنس عظيم له، وصلاح لدولته وسلطانه. فأجب أيّها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته وأعنه على ما استعان بك من أمره، فإنّ فى ذلك قضاء الحق وصلة الرحم وعزّ الخلافة، عزم الله على الرشد فى أموره وجعل له الخيرة فى عواقب رأيه.» وتكلّم عيسى بن جعفر بكلام قريب المعنى من هذا الكلام، وكذلك محمد بن عيسى بن نهيك وصالح صاحب المصلّى. [57] فلمّا قضوا كلامهم   [1] . وزاد فى آ: واللين. [2] . كذا فى الأصل وآ ومط: فاعتوره. وما فى الطبري (11: 812) : فأعوزه. [3] . كذا فى الأصل وآ ومط: لنظرك. وما فى الطبري (11: 812) : لنصرك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وسكتوا، تكلّم المأمون فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: كلام المأمون - «إنّكم عرّفتمونى من حقّ أمير المؤمنين- أبقاه الله- ما لا أنكره، ودعوتموني من البرّ والإحسان والمؤازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا بالطاعة لأمير المؤمنين خليق وعلى المسارعة إلى ما سرّه ووافقه حريص، وفى الرؤية تبيان الرأى وفى إعمال الرأى يصحّ الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخّر عنه تثبّطا ومدافعة، ولا أتقدّم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا فى ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوّه، شديدة شوكته، فإن أهملت أمره لم آمن دخول المكروه والضرر على الجند والرعيّة، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أحبّ من معونة أمير المؤمنين وإيثار طاعته، وانصرفوا حتّى أنظر فى أمرى ويصحّ الرأى فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله.» ذكر مشاورة [1] المأمون أصحابه وما أشار به الفضل بن سهل ولمّا انصرف القوم تعاظم المأمون ما ورد عليه وأكبره ودعا الفضل [58] بن سهل وقال: - «ما عندك من الرأى؟» قال: «أرى أن تتمسّك بموضعك، وألّا تمكّن من نفسك، ولا تجعل عليك سبيلا وأنت تجد من ذلك بدّا.»   [1] . فى الأصل: مشورة. فى آومط: مشاورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 قال: «وكيف يمكنني التمسّك بموضعي مع كثرة جنود محمد وعظم خزائنه وكثرة أمواله، مع ما فرّق فى أهل بغداد من صلاته، وإنّما الناس مائلون مع الذهب والفضّة، منقادون لهما، لا يرغبون فى وفاء بعهد ولا أمانة.» فقال الفضل: - «إذا وقعت التهمة حقّ الاحتراس. وأنا متخوّف عليك من محمد ومن شرهه إلى ما فى يديك، ولأن يكون فى جندك وعزّك مقيما بين ظهرانىّ أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر حددت [1] له وناجزته وكايدته فإمّا أعطاك الله الظفر عليه وإمّا متّ محافظا متكرّما غير ملق يديك ولا ممكّن عدوّك من الاحتكام فى دينك.» قال المأمون: - «لو كان أتانى ذلك وأنا فى قوّة من أمرى وصلاح من الأمور، لكان خطبه يسيرا والاحتيال فى دفعه ممكنا ولكنّه أتانى بعد انتشار خراسان واضطراب عامرها وغامرها ومفارقة جبغويه [2] الطاعة والتواء خاقان وتهيّؤ ملك كابل للغارة على ما [59] يليه من بلاد خراسان وامتناع ملك ابراز بنده [3] بالضريبة وما لى بواحدة من هذه يد وأنا أعلم أنّ محمدا لم يطلب قدومى إلّا لشرّ يريده بى وما أرى إلّا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به فبالحرى أن آمن على نفسي وامتنع ممّن أراد قهري والغدر بى.»   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: حدّدت. فى الطبري (11: 814) : جرّدت. [2] . كذا فى الأصل: جبغويه. فى مط جنعويه. وما فى آمهمل تماما. فى الطبري (11: 814) : جيغويه. [3] . كذا فى الأصل. فى آ: ايزار بنده. فى الطبري (11: 816) : اترار بنده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 فقال له الفضل: - «أيّها الأمير إنّ عاقبة الغدر شديدة ومغبّة الظلم والبغي غير مأمون شرّها وربّ مستذلّ قد عاد عزيزا ومقهور عاد مستطيلا وليس النصر بالكثرة وجرح الموت أيسر من جرح الذلّ والضيم فأمّا جبغويه وخاقان فاكتب إليهما وولّهما بلادهما وعدهما التقوية لهما على محاربة الملوك، وأمّا ملك كابل فابعث إليه بعض طرف خراسان وهاده وسله الموادعة تجده حريصا على ذلك، وأمّا ملك ابراز بنده فسلّم له ضريبته فى هذه السنة وصيّرها صلة منك له وصلته بها. ثمّ اجمع إليك أطرافك واضمم إليك من شذّ من جندك، ثمّ اضرب الخيل بالخيل والرجال، بالرجال فإن ظفرت فذاك، وإلّا كنت على اللحاق بخاقان قادرا.» [60] فقال المأمون: - «أنا أعمل فى هذا وغيره بما ترى.» وفرّق الكتب وأرسل إلى أولئك العصاة، فأذعنوا ورضوا وكتب إلى قوّاده وجنوده فى الأطراف فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وكان يومئذ بالرىّ عاملا من قبل المأمون أن يضبط ناحيته ويجمع إليه أطرافه ويكون على حذر من جيش إن طرقه أو عدوّ إن هجم عليه. وكان الفضل نظر فى النجوم وكان جيد المعرفة بأحكامها، فرأى الغلبة لعبد الله، فوطّن نفسه على محاربة محمد الأمين ومناجزته. كتاب من المأمون إلى الأمين فلمّا فرغ المأمون ممّا ذكرناه كتب إلى محمد: - «لعبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 أمّا بعد، فقد وصل إلىّ كتاب أمير المؤمنين وإنّما [1] أنا عامل من عمّال أمير المؤمنين وعون من أعوانه أمرنى الرشيد صلوات الله عليه [2] بلزوم هذا الثغر ومكايدة من كاد أهله من عدوّ أمير المؤمنين، ولعمري أنّ مقامي به أردّ على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين وإن كنت مغتبطا بقربه مسرورا بمشاهدة نعم الله عليه. فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرّنى على [61] عملي ويعفيني من الشخوص إليه فعل، إن شاء الله.» ثمّ دعا العبّاس بن موسى بن عيسى وعيسى بن جعفر وصالحا فدفع الكتاب إليهم وأحسن صلتهم وجوائزهم وحمل إلى محمد ما تهيّأ له من الألطاف الموجودة بخراسان وسألهم أن يحسّنوا أمره عنده ويقوموا بعذره. كلام زبيدة لعلىّ بن عيسى فى المأمون فلمّا يئس محمد الأمين من انقياد عبد الله له، ندب له علىّ بن عيسى فى خمسين ألف فارس وراجل، ومكّنه من بيوت الأموال والسلاح. فلمّا أراد علىّ الشخوص إلى خراسان، ركب إلى باب زبيدة أمّ جعفر، فودّعها، فقالت: - «يا علىّ، إنّ أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي وعليه تكامل حذري فإنّى على عبد الله متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه   [1] . وإنّما ... بلزوم: العبارة ساقطة من مط. [2] . كذا فى الأصل وآ: صلوات الله عليه. والتصلية ساقطة من نسخة مط ضمن العبارة الساقطة منها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 وأذى وإنّما ابنى ملك نافس أخاه فى سلطانه وعازّه [1] على ما فى يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه [2] غيره. فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وأخوّته، ولا تجبهه بالكلام، فلست بنظير له، ولا تقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد ولا غلّ، ولا تمنع منه جارية ولا غلاما ولا خادما ولا تعنف [62] عليه فى السير ولا تساوه فى المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقلّ على دابّتك، حتّى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه [3] عليك فلا ترادّه.» ثمّ دفعت إليه قيدا من فضّة وقالت: - «إذا صار فى يدك فقيّده بهذا القيد.» فقال لها: - «سأقبل قولك وأعمل بطاعتك.» فلمّا ركب علىّ بن عيسى إلى معسكره بالنهروان وخرج معه محمد يشيّعه وحشدت الأسواق والصنّاع والفعلة بلغ عسكره فرسخا بفساطيطه وأبنيته وأثقاله. فذكر مشايخ أهل بغداد أنّهم لم يروا عسكرا قطّ كان أكثر رجالا وأفره كراعا وأظهر سلاحا وأتمّ عدّة وأكمل هيئة من عسكره. فذكر أنّ منجّمه أتاه فقال: - «أصلح الله الأمير لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر فإنّ النحوس غالبة عليه.» فقال: «إنّا لا ندري فساد القمر من صلاحه، غير أنّه من نازلنا نازلناه ومن وادعنا وادعناه ومن قاتلنا لم يكن عندنا إلّا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتدّ بفساد القمر ما وطّنّا أنفسنا على صدق اللقاء.»   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (11: 818) : وغاره. [2] . فى آ: ويمنع. [3] . فى الطبري (11: 818) : سفك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 ثمّ سار علىّ بن عيسى مستهينا [63] بمن يلقاه فإذا لقيته القوافل من خراسان سألها عن الأخبار فيقولون له: طاهر مقيم بالرىّ يعرض أصحابه ويرمّ آلته فيضحك ثمّ يقول لأصحابه: - «وما طاهر والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلّا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان وهل مثل طاهر يتولّى الجيوش ويلقى الحروب وهل تقوى السخال [1] على نطاح الكباش أو تصير الثعالب على لقاء الأسد.» ثمّ أمر أصحابه بطىّ المنازل والمسير، وقال لأصحابه: - «إنّ نهاية القوم الرىّ، فلو قد صيّرناها وراء ظهورنا فتّ ذلك فى أعضادهم وانتشر نظامهم وتفرّقت جماعتهم.» ثمّ أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وأهدى إليها التيجان والأسورة والسيوف المحلّاة بالذهب ووعدها الصلات والجوائز وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد فأجابوه إلى ذلك وسار حتّى صار فى أوّل بلاد الرىّ وأتاه صاحب مقدّمته فقال: - «لو كنت- أبقى الله الأمير-[64] أذكيت العيون وبعثت الطلائع وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتّخذ خندقا كان أبلغ فى الرأى وآنس للجند.» فقال: «لا، ليس مثل طاهر ومن معه استعدّ له بالمكائد والتحفّظ إنّ حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إمّا أن يتحصّن بالرىّ فيبيّته أهلها فيكفونا [2] مؤونته أو يخلّيها ويدبر راجعا أو قد قربت منه.» وأتاه يحيى بن علىّ فقال: - «أيّها الأمير اجمع عسكرك فإنّه متفرّق، واحذر البيات فإنّ العساكر لا   [1] . ما فى الأصل مهمل، فأثبتناه كما فى الطبري 11: 818. السخال جمع السخلة: ولد الشاة. [2] . فى الأصل: فيكونا. فصحّناه بما فى آ: فيكفونا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 تساس بالتواني والحروب لا تدبّر بالاغترار ولا تقل المحارب لى طاهر. فالشرارة الخفيّة ربّما صارت ضراما والثلمة من السيل ربّما تهون بها فصارت بحرا عظيما وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لما كان يتأخّر إلى يومه هذا.» قال: «اسكت فإنّ طاهرا ليس فى هذا الموضع الذي ترى وإنّما تتحفّظ الرجال إذا لقيت أقرانها وتستعدّ المناوئ لها أكفاؤها ونظراؤها.» استشارة طاهر واستشار طاهر أصحابه لمّا قرب منه علىّ، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الرىّ ويدافع القتال [65] ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل ومن يتولّى الحرب دونه وقالوا: - «مقامك بمدينة الرىّ أرفق بك وبأصحابك وأقدر لهم على الميرة وأكنّ من البرد وأقوى لك على المماطلة والمطاولة إلى أن يأتيك مدد.» فقال طاهر: - «إنّ الرأى ليس ما رأيتم. إنّ أهل الرىّ لعلىّ هائبون ومن معرّته متّقون، ولست آمن إن حاصرنا أن يدعو أهلها خوفه إلى الوثوب بنا ومعاونته على قتالنا، مع أنّه لم يكن قوم قطّ زوحموا فى ديارهم وتورّد عليهم إلّا وهنوا وذلّوا واجترأ عليهم عدوّهم. وما الرأى إلّا أن نصيّر مدينة الرىّ وراء ظهورنا فإن أعطانا الله الظفر وإلّا عوّلنا عليها، فقاتلنا فى سككها وتحصّنّا بمنعتها إلى أن يأتينا مدد من خراسان.» فقالوا: «الرأى ما رأيت.» فنادى طاهر فى أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من الرىّ، وأتاه محمد بن العلاء فقال له: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 - «أيّها الأمير، إنّ جندك قد هابوا هذا الجيش وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه. فلو أقمت حتّى تشامّهم أصحابك ودافعت بالقتال إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ فى قتالهم.» فقال: «إنّى لا أوتى من تجربة وحزم، وإنّ أصحابى قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم. فإن دافعت بالقتال وأخّرت المناجزة لم آمن أن يطّلعوا على قلّتنا وعورتنا وأن يستميلوا من معى برغبة أو رهبة فينفضّ عنّى أصحابى ويخذلني أهل الحفاظ والصبر ولكن ألفّ الرجال بالرجال وألحم الخيل بالخيل واعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر، فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى فلست بأوّل من قاتل فقتل وما عند الله أجزل وأفضل.» وقال علىّ بن عيسى لأصحابه: - «بادروا القوم، فإن عددهم قليل ولو قد زحفتم إليهم لم يصبروا على حرارة السيوف ووقع السهام وطعن الرماح.» وعبّأ [1] جنده ميمنة وميسرة وقلبا وصيّرها كثيفة عظيمة، ثمّ نصب عشر رايات فى كلّ راية ألف رجل. [67] وقدّم الرايات راية راية وصيّر بين كلّ راية وراية غلوة [2] وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى فصبرت وجمّت وطال بها القتال، أن تقدّم التي تليها وتتأخّر التي قاتلت، حتّى ترجع إليها أنفسها وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة. ثمّ صيّر أصحاب الدروع والجواشن والخبرة أمام الرايات. ووقف فى القلب فى غرر أصحابه أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم، وكتّب طاهر بن الحسين كتائبه وجعلهم كراديس صفوفا، وجعل يمرّ بقائد قائد وجماعة   [1] . الضبط فى الأصل: عبّى. [2] . الغلوة: مسافة بقدر رمية سهم، أبعد ما تقدر عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 جماعة ويقول: - «يا أولياء الله ويا أهل الوفاء، إنّكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل الغدر والنكث. إنّ هؤلاء ضيّعوا ما حفظتم ونكثوا الأيمان التي رعيتم. فلو قد غضضتم الأبصار وثبّتم الأقدام لأنجزتم لله وعده، وفتح عليكم أبواب عزّه ونصره. فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار، وادفعوا بحقّكم باطلهم. فإنّما هي ساعة حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.» وقلق قلقا شديدا وحرص حرصا عظيما وجعل يقول: - «يا أهل الوفاء والصدق والصبر، الصبر الصبر، الحفاظ الحفاظ.» [68] فهو على ذلك حتّى وثب أهل الرىّ فأغلقوا أبواب المدينة فنادى طاهر: - «يا أولياء الله اشتغلوا بمن أمامكم عمّن خلفكم فإنّه لا ينجيكم إلّا الجدّ والصدق.» ثمّ كان من أمرهم ما حكيناه قبل. ولمّا ورد الخبر بغداد بقتل علىّ بن عيسى كثرت الأراجيف ومشى القوّاد بعضهم إلى بعض فقالوا: - «إنّ عليّا قد قتل ولسنا نشكّ أنّ محمدا سيحتاج إلى الرجال واصطناع الصنائع وإنّما ترفع الرجال رؤوسها فى وقت البأس. فليأمر كلّ رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلّنا نصيب فى هذه الحرّة [1] منه ما يصلحنا ويصلح جندنا.» فاتّفق رأيهم على ذلك وأصبحوا بباب الجسر، فكبّروا وطلبوا الأرزاق وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب فى أصحابه وفى جماعة كثيرة من قوّاد العرب فتراموا بالنشّاب والحجارة واقتتلوا قتالا يسيرا، وسمع محمد الضجّة   [1] . الحرّة: كذا فى الأصل وآ ومط: ما فى الطبري (11: 825) : الحالة. والحرّة: العذاب المرجع. الظلمة الكثيرة. أو أرض ذات حجارة نخرة سود كأنّها أحرقت بالنار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 والتكبير، فأرسل من يأتيه بالخبر فأعلمه أنّ الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قال: - «فهل يطلبون شيئا غير ذلك؟» قال: «لا.» قال: «فما أهون ما طلبوا. إرجع إلى عبد الله بن خازم فمره أن ينصرف ويواقف [69] الناس على أن يبذل لهم أرزاقهم.» فواقفهم على أرزاق أربعة أشهر ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين [1] وأمر للقوّاد والخواصّ بالصلات والجوائز. توجيه عبد الرحمان إلى همدان لحرب طاهر وفى هذه السنة وجّه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى إلى همذان لحرب طاهر، وانتخب عشرين ألف رجل من الأبناء فضمّهم إليه وحمل معه الأموال وقوّاه بالسلاح والخيل وأجازه بجوائز وولّاه ما بين حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وأمره أن يسبق طاهر إلى همذان ويخندق عليه ويجمع إليه آلة الحرب، وبسط يده وتقدّم إليه فى التحفّظ والاحتراز وترك ما عمل به علىّ من الاغترار والتضجيع. [2] فتوجّه عبد الرحمن حتّى نزل همذان فضبط طرقها وحصّن سورها وأبوابها وسدّ ثلمها وحشر إليها الأسواق والصنّاع وجمع فيها الآلات والمير واستعدّ للقاء طاهر ومحاربته. وقد كان يحيى بن علىّ بن عيسى لمّا قتل أبوه أقام بين الرىّ وهمذان وكان لا يمرّ به أحد من فلّ أبيه إلّا احتبسه. وكان يرى أنّ محمدا يولّيه   [1] . انظر الطبري (11: 826) . [2] . ضجّ فى الأمر: قصّر فيه وتقعّد ولم يقم به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 مكان أبيه ويوجّه إليه الخيل والرجال. وكتب [70] إلى محمد يستمدّه ويستنجده فأجابه محمد يعلمه توجيهه عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى ويأمره بالانضمام إليه فيمن تبعه. ولمّا بلغ طاهرا خبر عبد الرحمن توجّه إليه، فلمّا قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه: - «هذا طاهر صاحبكم بالأمس، ولست آمن إن لقيته بمن معى أن يصدعنا صدعا يدخل وهنه على من خلفنا، ويعتلّ عبد الرحمن بذلك ويقلّدنى به العار والعجز عند أمير المؤمنين. فإن أنا استنجدته لم آمن أن يمسك عنا، ضنّا برجاله وإبقاء عليهم. والرأى أن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبا من عبد الرحمن فإن نحن استعنّاه قرب منّا عونه وإن احتاج إلينا أعنّاه وقاتلنا معه.» قالوا: «الرأى ما رأيت.» فانصرف نحو همذان. فلمّا قرب منها خذله أصحابه وتفرّقوا عنه وأشرف طاهر على مدينة همذان ونادى عبد الرحمن فى أصحابه، فخرجوا على تعبئة، فصادف [1] طاهرا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثمّ إنّ عبد الرحمن انهزم ودخل همذان وأقام بها أيّاما حتّى اندمل جراح أصحابه، وقووا ثمّ أمر [71] بالاستعداد وزحف إلى طاهر. فلمّا رأى طاهر أعلامه وأوائل خيله قال لأصحابه: - «إنّ عبد الرحمن يتراءى لنا حتّى نقرب منه ثمّ يقاتلنا، فإن هزمناه بادر إلى المدينة فدخلها وقاتلكم على خندقها وامتنع بسورها، وإن هزمنا اتسع له المجال. فهلمّوا نقف له حتّى يقرب منّا ويبعد من خندقه.» فوقف طاهر مكانه وظنّ عبد الرحمن أنّ الهيبة بطّأت به عن لقائه والنفوذ   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: فصادف. ما فى الطبري: فصافّ، ولكلّ من الضبطين وجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 إليه. فبادر قتاله فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر أصحاب طاهر فجعل عبد الرحمان يقول: - «يا معشر الأبناء يا أبناء الموت وألفاف السيوف، إنّهم العجم وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر، فاصبروا لهم فداكم أبى وأمّى.» وقاتل ببدنه قتالا شديدا وحمل حملات منكرات، فلا يزول أحد من أصحاب طاهر. ثمّ إنّ صاحبا لطاهر حمل على أصحاب عبد الرحمان فقتل صاحب علمه وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولّوا، ووضعوا فيهم السيوف حتّى دخلوا همدان يقتلونهم ويأسرونهم. وأقام طاهر على باب المدينة محاصرا. فكان يخرج عبد الرحمن ويقاتل على أبواب المدينة ويرمى أصحابه من فوق السور، حتّى اشتدّ بهم الحصار [72] وتأذّى بهم أهل المدينة وتبرّموا [1] بالحرب والقتال، وقطع طاهر عنهم المادّة من كلّ وجه. فهلك أصحاب عبد الرحمن وتخوّفوا أن يثب بهم أهل همذان فأرسل عبد الرحمن إلى طاهر وسأله الأمان ولمن معه فآمنه [2] طاهر ووفى له. واعتزل عبد الرحمن فى من كان معه من أصحابه وأصحاب يحيى، وطرد طاهر عمّال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال. وفى هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوى بأسدآباذ. ذكر السبب فى مقتله لمّا وجّه محمد عبد الرحمن الأبناوى إلى همذان أتبعه بعبد الله وأحمد ابني الحرشي فى خيل عظيمة وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن ويكونا مددا له إن احتاج إليهما. فلمّا خرج عبد   [1] . كذا فى الأصل وآ: وتبرّموا. ما فى مط: ويؤمنوا. وهو خطأ. [2] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: فوافى منه. بدل «فآمنه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 الرحمان إلى طاهر فى الأمان كان يرى طاهرا وأصحابه أنّه مسالم لهم راض بعهودهم. ذكر غفلة من طاهر وإضاعة حزم ثمّ اغترّهم وهم آمنون. فركب فى أصحابه ولم يشعر طاهر وأصحابه حتّى هجموا عليهم [1] [73] فوضعوا فيهم السيوف والنشّاب فثبت لهم رجّالة طاهر بالتراس والسيوف، وجثوا على الركب فقاتلوه كأشدّ ما يكون من القتال. ولم تزل الرجّالة تدافعهم إلى أن أخذت الفرسان عدّتها وصدقوهم القتال. فاقتتلوا قتالا منكرا حتّى تكسّرت السيوف وتقصّفت الرماح وهرب معظم أصحاب عبد الرحمن فترجّل هو فى ناس من أصحابه فقاتل حتّى قتل وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي. فدخلهم الوهن والفشل وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا. فولّوا منهزمين لا يلوون على شيء حتّى صاروا إلى بغداد. وأقبل طاهر قد خلت له البلاد يحوز بلدة بلدة وكورة كورة، حتّى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها: شلاشان، فخندق بها وحصّن عسكره. [2]   [1] . فى آ: عليه. [2] . جاء هنا فى مط: تمّ النصف الأوّل تقريبا من تجارب الأمم ويتلوه النصف الثاني إن شاء الله تعالى. وكان الفراغ من ذلك فى [ال] عشر الآخر من شهر جمادى الآخرة من سنة أربع وتسعين ومائتين بعد ألف من الهجرة (سنة 1294) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 ثمّ دخلت سنة ستّ وتسعين ومائة ثمّ إنّ محمدا ندب أسد بن يزيد بن مزيد فاشتط [1] عليه فى طلب الأموال فحبسه، وندب عمّه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر. [74] ذكر الخبر عن حبس أسد وسببه قال أسد بن يزيد بن مزيد: بعث إلىّ الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمان بن جبلة، فأتيته، فلمّا دخلت إليه وجدته قاعدا فى صحن داره وفى يده رقعة قد قرأها وقد احمرّت عيناه واشتدّ غضبه وهو يقول: - «ينام نوم الظربان [2] وينتبه انتباه الذئب، همّه بطنه وفرجه تخاتل الرعاء والكلاب ترصده، ولا يفكّر فى زوال نعمة ولا يروّى فى إمضاء رأى ولا مكيدة، قد ألهته كأسه وشغله قدحه، فهو يجرى فى لهوه والأيّام توضع [3] فى هلاكه.» ثمّ وصف عبد الله وتيقّظه، وتمثّل بشعر للبعيث، ثمّ التفت إلىّ فقال: - «أبا الحارث أنا وإيّاك نجري إلى غاية إن قصّرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا فى بلوغها انقطعنا، وإنّما نحن شعب من أصل إن قوى قوينا وإن ضعف ضعفنا. إنّ هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء ويعوّل على الرؤيا، وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والخسارة فهم يعدونه الظفر ويمنّونه عقب الأيام. والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل،   [1] . كذا فى الأصل وآ. فى مط: فاشتدّ. [2] . الظربان: حيوان فى حجم القطّ، أغبر اللون مائل إلى السواد، رائحته كريهة منتنة. [3] . كذا فى الأصل ومط وآ: إلّا أنّ ما فى آمهمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وقد خشيت [75] أن نهلك بهلاكه وأنت فارس العرب وابن فارسها فزع إليك فى لقاء هذا الرجل وأطمعه فى ما قبلك أمران: أحدهما صدق طاعتك والآخر شدّة بأسك. وقد أمرنى بإزاحة علّتك وبسط يدك فى ما أحببت، غير أنّ الإقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك وعجّل المبادرة إلى عدوّك، فإنّى أرجو أن يولّيك الله شرف هذا الفتح ويلمّ بك شعث هذه الخلافة والدولة.» فقلت: «أنا لطاعة أمير المؤمنين- أعزّه الله- وطاعتك مقدم، وعلى كلّ ما دخل به الوهن والذلّ على عدوّكما حريص، غير أنّ المحارب لا يعمل بالغرور ولا يفتتح أمره بالتقصير، وإنّما ملاك المحارب الجنود وملاك الجنود المال وقد ملأ أمير المؤمنين أيدى من شهده من العسكر، وتابع لهم الأرزاق والصلات، فإن سرت بأصحابى وقلوبهم متطلّعة إلى من خلفهم من إخوانهم، لم انتفع بهم فى لقاء من أمامى، وقد فضّل أهل السلام على أهل الحرب وجاز بأهل الدعة والحفض منازل أهل النصب والمشقّة، والذي أسأل، أن يؤمر لى بما يقيمنى ويقيم أصحابى [76] الذين تخرجونهم معى بما لا يتطلّعون معه إلى ما خلفهم.» قال: «وما هو؟» قلت: «رزق سنة يطلق لأصحابى ويحمل معهم رزق سنة ويخصّ من لا خاصّة له من أهل الغناء والبلاء، واحمل ألف رجل من أصحابى الذين معى على الخيل ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور.» فقال: «قد اشتططت [1] ولا بدّ من مناظرة أمير المؤمنين.» ثمّ ركب وركبت معه ودخل قبلي، ثمّ أذن لى فدخلت فما دار بيني وبين   [1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 835) . وما فى آمهمل إلّا فى الأخير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 محمد إلّا كلمتان حتّى غضب وأمر بحبسي. فذكر بعض خاصّة محمد أنّ أسدا اقترح على محمد أن يسلّم إليه ولدي عبد الله المأمون حتّى يكونا أسيرين فى يدي، فإن أعطانى الطاعة وألقى بيده وإلّا عملت فيهما بحكمي فقال محمد: - «أنت أعرابىّ مجنون تدعو إلى الخرق والتخليط وتقترح فوق قدرك.» وأمر به فحبس. ثمّ قال محمد: - «هل فى بيت هذا من يقوم مقامه؟ فإنّى أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدّم من طاعتهم ونصيحتهم.» قالوا: «نعم فيهم أحمد بن مزيد عمّه وهو أحسنهم طريقة وأصلحهم نيّة وله مع هذا بأس ونجدة وبصر بسياسة [77] الجنود ومباشرة الحروب.» فأنفذ إليه محمد يزيدا فأقدمه عليه. قال أحمد: فلمّا دخلت بغداد بدأت بالفضل بن الربيع، فقلت أسلّم عليه وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد. فلمّا أذن لى دخلت وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة وهو يريده على الشخوص إلى طاهر وعبد الله يشتطّ عليه فى طلب المال والسلاح والإكثار من الرجال. فلمّا رآني رحّب بى وأخذ بيدي فرفعني حتّى صيّرنى معه على صدر المجلس، ثمّ أقبل على عبد الله يمازحه ويداعبه، فتبسّم فى وجهه ثمّ قال: إنّا وجدنا لكم إذ رثّ حبلكم ... من آل شيبان أمّا دونكم وأبا الأكثرون إذا عدّ الحصى عددا ... والأقربون إلينا منكم نسبا فقال عبد الله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 - «إنّهم لكذاك وإنّ فيهم لسدّ الخلل ونكء العدوّ [1] .» ثمّ أقبل علىّ الفضل فقال: - «إنّ أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحة والشدّة على أهل المعصية، فأحبّ اصطناعك والتنويه [78] بك وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك.» ثمّ التفت إلى خادمه وقال: - «مر بإسراج دوابّى.» فلم ألبث أن أسرجت له ومضى ومضيت معه حتّى دخلنا على محمد وهو فى صحن داره على سرير ساج، فلم يزل يدنيني حتى كدت ألاصقه، فقال: - «إنّه قد كثر علىّ تخليط ابن أخيك وطال خلافه علىّ حتى أوحشنى ذلك منه، وولّد فى قلبي التهمة له وصيّرنى بسوء مذهبه وحنث طاعته إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أكن أحبّ تناوله به، وقد ووصفت لى بخير ونسبت إلى جميل، وأحببت أن أرفع قدرك وأعلى منزلتك وأقدّمك على أهل بيتك وأولّيك جهاد هذه الفئة الباغية وأعرّضك الأجر والثواب فى قتالهم ولقائهم، فانظر كيف تكون، وصحّح نيّتك وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك وتشريفك.» فقلت: «سأبذل فى طاعة أمير المؤمنين- أعزه الله- مهجتي وأبلغ فى جهاد عدوّه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائى وكفايتي، إن شاء الله.» فقال: «يا فضل، ادفع [79] إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب.» وقال لى:   [1] . نكأ العدوّ، وفى العدوّ: قتل فيهم وجرح وأثخن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 - «اكمش على أمرك وعجّل المسير إلى عدوّك.» فخرجت، فانتخبت الرجال، فبلغت عدّة من صحّحت اسمه عشرين ألف رجل. ثمّ توجّهت بهم إلى حلوان. وكان محمد وصّاه فقال: - «إيّاك والبغي، فإنّه عقال النصر ولا تقدّم رجلا إلّا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلّا بعد إعذار، وأحسن صحابة من معك وطالعنى بأخبارك فى كلّ يوم ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي ولا تستبقها [1] فى ما تتخوّف رجوعها علىّ، وكن لعبد الله بن حميد أخا مصافيا، أحسن صحبته ومعاشرته ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة وكلمتكما متفقة.» ثمّ قال: - «سل حوائجك وعجّل السراح إلى عدوّك.» فدعا له أحمد وقال: - «يا أمير المؤمنين تكثّر الدعاء لى ولا تقبل فىّ قول باغ ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي، ولا تنقض علىّ ما استجمع من رأى، ومن علىّ بالصفح عن ابن أخى.» قال: «ذلك [80] لك.» ثمّ بعث إلى أسد فحلّ قيوده وخلّى سبيله. فخرج أحمد بن مزيد فى عشرين ألف رجل [من العرب، وعبد الله بن حميد فى عشرين ألف رجل] [2] من الأبناء وقد وصّيا بالتوادّ والتحابّ، فتوجّها حتّى نزلا قريبا من حلوان بموضع يقال له: خانقين، وأقام طاهر   [1] . كذا فى الأصل وسط وآ. وفى الطبري (11: 839) : ولا تستقها. [2] . ما بين المعقوفتين ناقص فى الأصل ومط، زدناه من آ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 بموضعه وخندق عليه. ذكر ما احتال به طاهر عليهما حتى اختلفا ثمّ إنّ طاهرا دسّ إليهما قوما، فكانوا يأتون العسكرين جميعا بالأخبار الباطلة والأراجيف الكاذبة بأنّ محمدا قد وضع العطاء لأصحابه وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا، ولم يزل يحتال فى وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتّى اختلفوا، وقاتل بعضهم بعضا، فأخلوا خانقين ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرا. وتقدّم طاهر حتّى نزل حلوان، فلم يلبث طاهر بعد دخوله حلوان إلّا يسيرا حتّى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه والتوجّه إلى الأهواز وفتحها. فسلّم ذلك إليه وأقام هرثمة بحلوان فحصّنها ووضع مسالحه ومراصده فى طرقها وجبالها. [81] وتوجّه طاهر إلى الأهواز. المأمون يتسمّى أمير المؤمنين وفى هذه السنة لمّا انتهى إلى المأمون قتل علىّ بن عيسى، تسمّى بأمير المؤمنين وسلّم عليه الفضل بذلك، وصحّ عنده الخبر بقتل طاهر عبد الرحمان بن جبلة الأبناوى وغلبته على عسكره، فدعا الفضل بن سهل وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى جبل سقنان [1] والتبّت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم [وجرجان] [2] عرضا وجعل له عمّاله ثلاثة آلاف   [1] . كذا فى الأصل. وما فى الطبري (11: 841) : سقينان. [2] . زيادة من آوالطبري (11: 841) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وعقد له لواء على سنان ذى شعبتين وسمّاه ذا الرئاستين. الأمين يولّى عبد الملك الشام وفى هذه السنة ولّى محمد الأمين عبد الملك بن صالح بن علىّ الشام. والسبب فى ذلك وكان السبب فى ذلك أنّ طاهرا لمّا قوى واستعلى أمره وهزم قوّاد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد وقد كان عبد الملك محبوسا فى حبس الرشيد، فأطلقه محمد، وكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ومحبّته، فقال: - «يا أمير المؤمنين.» ذكر الرأى الذي أشار به عبد الملك إنّى أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكر قد اغتمزوا بذلك، وقد بذلت سماحتك [82] فإن أتممت على عادتك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت يدك عن العطاء أسخطتهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك ولا تبقى بيوت المال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإنّ جندك قد أرعبتهم الهزائم وأضعفتهم الحروب وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوّهم ونكولا عن لقائهم، فإن سيّرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم وهزم بقوّة نيّته ضعف نياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرّستهم الحروب وأدّبتهم الشدائد، وجلّهم منقاد لى مسارع إلى طاعتي، فإن وجّهنى أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم فى عدوّه.» فقال محمد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 - «فإنّى مولّيك ومقوّمك بما سألت من مال وعدّة، فعجّل الشخوص إلى ما هناك واعمل عملا يظهر أثره واحمد بركة نظرك فيه.» فولّاه الشام واستحثّه استحثاثا شديدا ووجّه معه كثيفا من الجند. فلمّا قدم عبد الملك الرقّة أرسل كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممّن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه [1] إلّا وعده وبسط أمله. فقدموا عليه رئيس بعد رئيس وفوج بعد فوج فأجازهم [83] وخلع على كلّ من قصده ووصله، وأتاه زواقيل الشام والأعراب من كلّ فجّ، فاجتمعوا وكثروا. ذكر اتفاق سىّء واتّفق أنّ بعض جند خراسان نظر إلى دابّة كانت أخذت منه فى وقعة سليمان بن أبى جعفر تحت بعض الزواقيل، فتعلّق بها وتصايحا [2] ، واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فأعان كلّ فريق منهم صاحبه وتضاربوا بالأيدى ومشى الأبناء بعضهم إلى بعض وقالوا: - «إن صبرنا لهم ركبونا بمثل هذا كلّ يوم.» واستعدّوا، وأتوا الزواقيل وهم غارّون، فوضعوا فيهم السيوف وذبحوهم فى رحالهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتنادى الزواقيل، فركبوا ونشبت الحرب، وبلغ عبد الملك فأنفذ رسولا يأمرهم بالكفّ ووضع السلاح، فرموه بالحجارة وأبلغ عبد الملك من قتل من الزواقيل وأنّهم خلق كثير مطرّحون وكان مريضا فضرب بيد على يد ثمّ قال: - «وا ذلّاه، تستضام العرب فى دورها وبلادها وتقتل هذه المقتلة.»   [1] . فى آ: عناؤه (بإهمال الأوّل) . [2] . فى مط: وتصافحا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 فغضب من كان أمسك عن الشرّ وتفاقم الأمر، فنادى الناس [84] وقالوا: - «الهرب أهون من العطب والموت أهون من الذلّ، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل [1] ويفوت المطلب ويعسر المهرب.» وقام رجل من كلب فقال: شؤبوب حرب خاب من يصلاها ... قد شرّعت فرسانها قناها فأورد الله لظى قناها ... إن غمرت كلب بها لحاها ثمّ نادى: - «يا معشر كلب، إنّها الراية السوداء، والله ما ولّت ولا ذلّ ناصرها، وإنّكم لتعرفون مواقع سيوف خراسان فى رقابكم، فاعتزلوا الشرّ قبل أن يعظم، وتخطّوه قبل أن يضطرم. أيّها الناس شامكم شامكم، داركم داركم، الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري [2] ، ألا أنّى راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معى.» وسار معه أهل الشام وأقبلت الزواقيل حتّى أضرموا ما كان جمعه التجار من الأعلاف بالنار وتفرّق ذلك العسكر. ثمّ اتفق موت عبد الملك بن صالح فى تلك الأيّام فلم يبق لذلك الجند أثر. خلع الأمين ومبايعة المأمون ببغداد وفى هذه السنة خلع محمد بن هارون الأمين وأخذت البيعة لأخيه عبد   [1] . فى الطبري (11: 844) : السبيل. [2] . كذا فى الأصل: الحزرى، وما فى آمهمل تماما. فى مط: الحورى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 الله المأمون ببغداد [85] وحبس محمد فى قصر أبى جعفر مع أمّ جعفر بنت جعفر بن أبى جعفر وهي زبيدة. ذكر السبب فى ذلك لمّا توفّى عبد الملك بن صالح بالرقّة نادى الحسين بن علىّ بن عيسى بن ماهان فى الجند، فصيّر الرجّالة فى السفن والفرسان فى الظهر، ووصلهم وقوّى ضعفاءهم، ثمّ حملهم حتّى أخرجهم من بلاد الجزيرة وذلك فى سنة ستّ وتسعين ومائة. فلمّا وصلوا إلى بغداد تلقّاه الأبناء بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب واستقبله الرؤساء وأهل الشرف ودخل منزله فى أفضل كرامة وأحسن هيئة. فلمّا كان فى جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول: - «ما [1] أنا بمغنّ ولا مضحك ولا صاحب خسارة [2] ولا جرى له على يدي مال ولا وليت له ولاية، فلاىّ شيء يريدني فى هذه الساعة؟ أنصرف، فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.» فانصرف الرسول وأصبح الحسين، فوافى باب الجسر واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن علىّ وباب سوق يحيى. ثمّ قال: - «يا معشر [86] الأبناء، اسمعوا منّى أنّ خلافة الله لا تجاوز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبّر، وأنّ محمدا يريد أن يوقع أديانكم وينكث بيعتكم، وهو صاحب الزواقيل بالأمس، أراد أن ينقل عزّكم، إلى غيركم وبالله لئن طالت به مدّة ليرجعنّ وبال ذلك عليكم. فاقطعوا أثره قبل أن يقطع   [1] . فى آ: والله ما أنا.. [2] . كذا فى الأصل: خسارة. فى آ: جسارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 آثاركم، وضعوا عزّه قبل أن يضع عزّكم، فو الله لا ينصره منكم ناصر إلّا ذلّ ولا يمنعه مانع إلّا قتل، وما لأحد عند الله هوادة ولا راقب على الاستخفاف بعهوده والختر بأيمانه.» ثمّ أمر الناس بعبور الجسر فعبروا واجتمعت الحربية وأهل الأرباض وتسرّعت إليه خيول محمد فاقتتلوا، وأمر الحسين من كان معه من خواصّ أصحابه بالنزول فنزلوا وصدقوا القتال حتّى كشفوهم. فخلع الحسين محمدا يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الإثنين إلى الليل وغدا إلى محمد يوم الثلاثاء. إخراج محمد من قصر الخلد وما جرى على أمّ جعفر وقد كان العباس بن موسى الهاشمي قد دخل على محمد، فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبى جعفر وحبسه هناك، وكذلك [87] فعل بأمّ جعفر. فأبت أن تخرج فقنّعها بالسوط وسبّها وأغلظ لها فى القول، حتّى [أ] جلست [1] فى محفّة [2] وأدخلت مع ابنها، المدينة فلمّا أصبح الناس طلبوا من الحسين الأرزاق وماج الناس بعضهم فى بعض فقام محمد بن أبى خالد بباب الشام فقال: - «أيّها الناس والله ما أدرى بأىّ سبب تأمّر الحسين بن علىّ علينا وتولّى هذا الأمر دوننا. ما هو بأكبرنا سنّا ولا أكرمنا حسبا ولا أعظمنا غناء وفينا   [1] . فى الأصل وآ ومط: جلست. والتصحيح منا بقرينة ما فى الطبري (11: 847) . [2] . كذا فى الأصل وآ ومط: محفّة. والمحفّة: سرير يحمل عليه المريض أو المسافر، ويسمّى: تخت روان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 من لا يرضى بالدنيّة ولا ينقاد للمخادعة. وإنّى أوّل من نقض عهده وأنكر فعله فمن كان رأيه رأيى فليعتزل.» وقام كل رئيس قوم فتكلّم وأنكر خلع محمد وأسره. وأقبل شيخ كبير على فرس فصاح بالناس: - «اسكتوا.» فسكتوا. فقال: - «أيّها الناس هل تعتدّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟» قالوا: «لا.» قال: «فهل قصّر بأحد من رؤسائكم؟» قالوا: «لا.» قال: «فهل عزل أحدا من قوادكم عن قيادته؟» قالوا: «لا.» قال: «فما بالكم خذلتموه حتّى خلع وأسر؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم إلّا سلّط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم [88] فادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.» الحربيّة يناهضون الحسين بن علىّ ويحرّرون محمدا من الأسر ثمّ نهضت الحربية ونهض معهم عامّة أهل الأرباض فى العدّة الحسنة، فقاتلوا الحسين بن علىّ وأصحابه قتالا عظيما شديدا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، حتّى هزموهم وأسروا الحسين بن علىّ. ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده فى مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح، فأمرهم حتّى أخذوا السلاح من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 الخزائن قدر حاجتهم وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحا كثيرا ومتاعا آخر، وأتى بالحسين بن علىّ أسيرا، فلامه محمد ووبّخه وقال: - «ألم أقدّم أباك على الناس وأولّه أعنّة الخيل؟ ألم أملأ يده من الأموال؟ ألم أشرّف أقداركم وأرفعكم على غيركم من القوّاد؟» قال: «بلى.» قال: «فما استحققت منك أن تخلع طاعتي وتؤلّب [1] الناس علىّ؟» قال: «خذلان الله يا أمير المؤمنين وأنت أكرم من عفا وصفح وتفضّل.» قال: «فإنّ أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، فعليك بثأر أبيك ومن قتل من أهل بيتك، فقد ولّيتك ذلك.» ثم دعا [89] بخلعة فخلعها عليه وحمله على مراكب وولّاه، وهنّأه الناس. ثمّ خرج مع نفر من خاصّته ومواليه حتّى عبر الجسر ووقف حتّى خفّ الناس، ثمّ قطع الجسر وهرب. فنادى محمد فى الناس فركبوا فى طلبه فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد فى طريق نهر بين [2] فلمّا بصر بالخيل نزل فتحرّم وصلّى ركعتين، ثمّ حمل عليهم حملات فى كلّها يهزمهم ويقتل منهم. ثمّ عثر به فرسه، فسقط وابتدره الناس طعنا وضربا حتّى قتلوه. فقال علىّ بن جبلة الحربي: ألا قاتل الله الأولى كفروا به ... وفازوا برأس الهرثمىّ حسين لقد أوّدوا [3] منه قناة صليبة ... بشطب يمانىّ ورمح ردين   [1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 849) تؤلب. وفى مط: تقلّب. [2] . نهر بين: من نواحي بغداد. (مراصد الإطلاع) [3] . فى الطبري (11: 851) : أوردوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 رجا فى خلاف الحقّ عزّا وإمرة ... فألبسه التأميل خفّ حنين قتل محمّد بن يزيد المهلّبى وفى هذه السنة رحل طاهر بن الحسين، حين قدم عليه هرثمة، من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله محمد بن يزيد بن حاتم المهلّبى. [90] وكان السبب فى ذلك أنّ محمد بن يزيد المهلّبى جمع جيوشا كبيرة حين توجّه إليه طاهر وأقبل حتّى نزل سوق عسكر مكرم وصيّر العمران والماء وراء ظهره. وخاف طاهر أن يعجل إلى أصحابه بجمعهم وسار بتعبئته، فجمع محمد بن يزيد أصحابه وقال: - «ما ترون، أطاول القوم وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لى أم علىّ؟ فو الله ما أرجع إلى أمير المؤمنين أبدا ولا أنصرف عن الأهواز.» فقالوا: «الرأى أن ترجع إلى الأهواز فتحصّن بها وتغادى طاهرا اللقاء وتراوحه، وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفرض وتستجيش بمن قدرت عليه من قومك.» فقبل ما أشاروا به عليه وتابعه قومه. فرجع إلى سوق الأهواز. فحرص طاهر أن يسبقه إليها قبل أن يتحصّن بها فلم يقدر على ذلك. وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها وأسند إلى العمران وعبّأ أصحابه ودعا بالأموال فصبّت بين يديه، وقال لأصحابه: - «من أراد منكم الجائزة والمنزلة فليعرّفنى أثره.» وقاتل الناس بين يديه حتّى ترادّوا ورآهم محمد بن يزيد [91] منهزمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 فقال محمد بن يزيد لنفر كانوا معه من مواليه: - «ما ترون؟» قالوا: «فى ماذا؟» قال: «أرى من معى قد انهزم، ولست آمل رجعتهم ولا آمن خذلان من بقي، وقد عزمت على النزول والقتال حتّى يقضى الله ما هو قاض. فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف.» فقالوا: «والله ما أنصفناك إذا، أعتقتنا من الرقّ ورفعتنا من الضّعة وأغنيتنا بعد القلّة لننصرك وقت الشدّة ثمّ نخذلك على هذه الحال؟ بل نتقدّم أمامك ونموت تحت ركابك فلعن الله الدنيا بعدك.» ثمّ نزلوا فعرقبوا دوابّهم وحملوا على أصحاب طاهر، وكان المتولّى لقتاله قريش بن شبل، فأكثروا فيهم القتل، وانتهى بعض أصحاب قريش [1] إلى محمد بن يزيد فطعنه بالرمح فقتله. فحكى الهيثم بن عدىّ قال: دخل ابن أبى عيينة المهلّبى على طاهر فأنشده قوله: من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم حتّى انتهى إلى قوله: ما ساء ظنّى إلّا لواحدة ... فى الصّدر محصورة عن الكلم [92] فتبسّم طاهر ثمّ قال: - «أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك وآلمني منه ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أنّ الحتف واقع والمنايا نازلة، ولا بدّ من قطع الأواصر والتنكّر للأقارب فى تأكيد الخلافة والقيام بحقّ الطاعة.»   [1] . فى الطبري (11: 854) : أصحاب طاهر. آومط كالأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 قال: فظننّا أنّه يريد محمد بن يزيد [بن] [1] حاتم. وأقام طاهر بالأهواز حتّى أنفذ عمّاله إلى كورها، وولّى اليمامة والبحرين وعمان ممّا يلي الأهواز وممّا يلي البصرة، ثمّ توجّه على طريق البرّ إلى واسط، فجعلت المسالح تقوّض مسلحة مسلحة وعاملا عاملا، كلّما قرب منهم طاهر تركوا أعمالهم وهربوا حتّى دخل واسط، ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: أحمد بن المهلّب، نحو الكوفة وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي. فلمّا بلغه توجّه خيل طاهر إليه، خلع محمدا وكتب بطاعته وبيعته إلى طاهر. ثمّ كتب منصور بن المهدى وكان عاملا لمحمد على البصرة إلى طاهر بطاعته. ثمّ كتب إليه المطّلب بن عبيد الله- وكان بالموصل- بيعته للمأمون وخلعه محمدا، فأقرّهم طاهر على ولاياتهم وأعمالهم وكان طاهر نازلا جرجرايا [2] ولمّا رآها قال: - «نعم موضع [93] العسكر.» وعقد بها جسرا وخندق. فلمّا وردت عليه كتب أهل هذه المدائن بالتسليم سار منها إلى نهر صرصر، وعقد بها جسرا وأخذ أصحاب طاهر المدائن. فحكى أنّ طاهرا لمّا توجّه إلى المدائن كان فيها خيل كثيرة لمحمد وعليهم البرمكي، قد تحصّن بها والمدد يأتيه فى كلّ يوم والصلات والخلع. فلمّا قرب طاهر منها قدّم قريش بن شبل على مقدّمته. فلمّا سمع أصحاب البرمكي طبوله أسرجوا الدوابّ، وأخذ البرمكي فى تعبئة الرجال وجعل من فى أوائل الناس ينضمّ إلى آخرهم، فيردّهم البرمكي ويسوّى صفوفه، فكلّما   [1] . ما بين المعقوفتين ناقص فى الأصل، أضفناه من آ، ومط والطبري (11: 855) . [2] . بلد من أعمال النهروان الأسفل، بين واسط وبغداد من الجانب الشرقىّ كانت مدينة خربت مع ما خرب من النهروانات. (مراصد الاطّلاع) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 سوّى صفّا انتقض عليه. فقال: - «اللهم إنّا نعوذ بك من الخذلان.» ثمّ التفت إلى صاحب ساقته وقال: - «خلّ سبيل الناس فإنّى أرى جندا لا خير عندهم.» فركب بعضهم بعضا نحو بغداد [1] ونزل طاهر المدائن وقدّم قريش بن شبل والعباس بن بخار أخذاه إلى درزيجان وكان نصر بن منصور بن نصر بن مالك [2] ، وأحمد بن سعيد الحرشي معسكرين بنهر ديالى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداذ وتقدّم طاهر حتّى صار إلى الدّرزيجان [94] حيال نصر وأحمد، ثمّ سيّر إليهما الرجال فى السفن للقتال، فلم يجر بينهم كبير قتال حتّى انهزموا، وأخذ طاهر نحو ذات اليسار إلى نهر صرصر فعقد بها جسرا ونزلها. خلع محمد فى مكّة والمدينة وفى هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى عامل مكّة والمدينة محمدا وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس، وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين. ثمّ خرج بنفسه. ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أنّ محمدا كتب إلى داود بن عيسى بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث بجند [3] إلى الكتابين اللذين كتبهما هارون   [1] . الحرف الأخير من «بغداد» يأتي مهملا فى موضع، ومعجما فى موضع آخر، من هذا الكتاب. [2] . فى الأصل: ملك. فى آوالطبري (11: 860) : مالك. [3] . كذا فى الأصل وآ. فى الطبري (11: 861) : محمد. بدل «بجند» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وعلّقهما فى الكعبة، فأخذهما. فلمّا بلغه فى هذا الوقت غلبة طاهر على البلاد وقتله من قتل، جمع الحجبة حجبة الكعبة، وأهل الشرف والفقهاء، فذكّرهم عهد الرشيد إليهم والمواثيق التي أخذها عند بيت الله الحرام عليهم حين بايع لابنيه: لنكوننّ مع المظلوم منهما على الظالم. ثمّ قال: - «قد رأيتم محمدا كيف بدأ بالظلم والبغي على أخويه وكيف بايع لابنه وهو طفل رضيع لم يفطم، [95] واستخرج الكتابين من الكعبة غاصبا ظالما فحرّقهما بالنار، وقد رأيت خلعه ومبايعة عبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيّا عليه.» فقال القوم بأجمعهم: - «رأينا رأيك.» فوعدهم صلاة الظهر وأرسل إلى فجاج مكّة صائحا يصيح: - «الصلاة جامعة.» فلمّا اجتمع الناس صلّى بهم الظهر، وكان وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعده، وكان داود فصيحا جهيرا فخطب خطبة حسنة ذكّرهم فيها بالشرف والقدمة، وأنّ المسلمين وفود الله إليكم وبكم تأتمّ الناس، ثمّ ذكّرهم عهد الرشيد وما جرى فى الكتابين، وعظّم عليهم الأمر ودعاهم إلى خلع محمد، والبيعة للمأمون، وقال: - «إنّى قد خلعت محمدا كما خلعت قلنسوتي هذه.- ورمى بها عن رأسه إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برد [1] حبرة [1] حمراء مسلسلة وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها- وقد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين، ألا فقوموا إلى البيعة.»   [1] . فى الطبري (11: 862) : من برود جرة. فى آ: من برد جرة حمراء. وفى مط: من برد حيرة حمراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 فصعد إليه من قرب من الوجوه والأشراف رجل رجل [1] إلى وقت العصر، ثمّ نزل وصلّى بالناس وجلس ناحية [96] وتتابع الناس عليه جماعة جماعة يقرأ كتاب البيعة ويصافحونه. فعل ذلك أيّاما وكتب إلى ابنه سليمان بن داود وكان خليفته على المدينة يأمره أن يفعل بالمدينة كما فعل هو بمكّة، ثمّ رحل يريد المأمون بمرو، فمرّ على البصرة، ثمّ على فارس، ثمّ على كرمان حتّى صار إلى المأمون بمرو، فسرّ به المأمون وتيمّن ببركة مكّة والمدينة، وكتب إليهم كتابا لطيفا يعدهم فيه الخير، وأمر أن يكتب لداود عهدان على مكّة والمدينة وأعمالهما وزيّد ولاية عكّ، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم. وورد داود ومن معه بغداد فنزل على طاهر بن الحسين، فأكرمه وقرّبه، ووجّه معه يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وعقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وكان ضمن له يزيد بن جرير أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك اليمن حتّى يخلعوا محمدا ويبايعوا المأمون، وساروا جميعا. فأقام داود على عمله بمكّة ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى البيعة للمأمون وخلع محمد وقرأ عليهم كتاب طاهر وأعلمهم عدل المأمون وإنصافه [97] ووعدهم ومنّاهم، فأجابه أهل اليمن واستبشروا فسار فيهم يزيد بأحسن سيرة وكتب بإجابتهم وبيعتهم. وفى هذه السنة عقد محمد نحو أربعمائة لواء لقوّاد شتّى، وأمر على جميعهم علىّ بن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين. فساروا فالتقوا بجللتا [2] فهزمهم هرثمة وأسر علىّ بن محمد بن نهيك   [1] . كذا فى آبالتكرار والرفع. وفى الطبري (11: 862) : رجل فرجل. [2] . من قرى النهروان، أو من نهر جلولاء بطريق خراسان انظر: مراصد الإطلاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وبعث به هرثمة إلى المأمون وزحف هرثمة فنزل النهروان. استئمان جماعة من أصحاب طاهر إلى محمد واستأمن إلى محمد جماعة من أصحاب طاهر، ففرّق محمد فيهم مالا عظيما وقوّد منهم جماعة وغلّل لحاهم بالغالية فسمّوا قوّاد الغالية. وكان سبب استئمان أصحاب طاهر ما كان يبلغهم من عطاء محمد وبذله الأموال والكسى. فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان فسرّ بهم محمد، ووعدهم ومنّاهم وأثبت أسماءهم فى الثمانين، ودسّ محمد إلى أصحاب طاهر، وفرّق فيهم الجواسيس وأطمعهم، فشغبوا على طاهر، وراسل طاهر عيونه وجواسيسه ببغداد بأن يغرى أصاغرهم بأكابرهم، لأنّه فرّق فى الأكابر خاصّة مال، فشغبوا على محمد. ثمّ أخرج محمد المستأمنة [98] مع خلق كثير- ومع كلّ عشرة أنفس منهم طبل- إلى طاهر، فأرعدوا وأجلبوا [1] حتّى أشرفوا على نهر صرصر فعبّى طاهر أصحابه كراديس وجعل يمرّ على كردوس كردوس فيقول: - «لا يغرنّكم كثرة من ترون، فإنّ النصر مع الصدق والفلح مع الصبر.» ثمّ أمرهم بالتقدّم، فصبر الفريقان ثمّ انهزم أهل بغداد وانتهبهم أصحاب طاهر، ثمّ كثر الشغب على محمد ونقب أهل السجون سجونهم وخرجوا، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعّار والشطّار، فعزّ الفاجر وذلّ المؤمن واختلّ الصالح وساءت حال الناس، إلّا من كان فى عسكر طاهر، لتفقّده الأمور، وغادي القتال وراوحه حتّى خربت بغداد، وتواكل الفريقان وقاتل الأخ أخاه والابن أباه واحترب الناس [2] .   [1] . والعبارة فى الطبري (11: 865) : فأرعدوا، وأبرقوا، وأجلبوا، ودبّوا. [2] . احترب الناس: أوقدوا نار الحرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 ثمّ دخلت سنة سبع وتسعين ومائة محاصرة طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب محمدا ببغداد وفى هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيّب محمدا ببغداد. أمّا زهير فنزل قصرا برقّة كلواذى ونصب المجانيق والعرّادات واحتفر الخنادق، وكان إذا اشتغل الجند بحرب طاهر يرمى بالعرّادات من أقبل ومن أدبر ويعشر أموال [99] التجار ويجتبى السفن. وآذى الناس وبلغ منهم كلّ مبلغ وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا ما نزل بهم من زهير، ثمّ قصده الناس بالحرب وبلغ ذلك هرثمة فأمدّه بالجند وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس. وأمّا هرثمة فنزل نهربين وجعل عليه خندقا وحائطا، وأعدّ المجانيق والعرّادات، وأنزل طاهر عبيد الله بن الوضّاح الشماسية. وأمّا طاهر فنزل البستان الذي بباب الأنبار. فذكر عن الحسين الخليع- وكان ينادم محمدا- أنّه قال: لمّا نزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار دخل محمدا أمر عظيم وضاق به ذرعا، وكان فرّق ما فى يده من الأموال، فأمر ببيع كلّ ما فى الخزائن وضرب آنية الفضّة والذهب دنانير ودراهم يفرّق فى أصحابه وفى نفقاته. واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك [1] بن قادم، فولّاه ناحية من الأسواق وشاطئ دجلة وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة وأمر بحفر الخنادق وبناء   [1] . فى الأصل ملك. فأثبتنا كما فى آومط والطبري (11: 870) : مالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 الحيطان من كلّ ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمدّه بالنفقات والفعلة والفرسان والسلاح فكثر الخراب والهدم [100] حتّى درست محاسن بغداد، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، فكلّما أجابه أهل ناحية خندق عليهم ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول فى طاعته ناصبه وقاتله وأحرق منزله، وفعل ذلك قوّاده وفرسانه ورجّالته حتّى أوحشت بغداد. وقال الشعراء فى ذلك شيئا كثيرا لم نجد فيه ما نختاره فتركناه. وسمّى طاهر الأرباض التي خالفته سكانها ومدينة أبى جعفر والشرقية وأسواق الكرخ والخلد وما والاها: دار النكث، وقبض ضياع من لم ينجز إليه من بنى هاشم والقوّاد والموالي وغلّاتهم، حيث كانت من عمله فذلّوا وانكسروا، وتواكلت الأجناد عن القتال إلّا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين. وكان الأمين قد تقدّم إلى خالد بن أبى الصقر والهرش بإباحتهم النهب والاستعانة بهم على قتال طاهر. وكان محمد بن عيسى بن نهيك صاحب شرطة محمد يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بن عيسى غير مداهن فى أمر محمد وكان مهيبا فى الحرب [101] وكان من يجرى مجراه من أصحاب محمد علىّ أفراهمرد، وكان موكّلا بقصر صالح وسليمان بن أبى جعفر وفى يده مجانيق وعرّادات يحفظ بها ما فى يده من تلك النواحي إلى حدّ الجسور، فأمر الباعة والغوعاء والعراة باتخاذ تراس من البواري وبالرمي بالمقاليع وما أشبهها، فكانوا يقاتلون ويؤثّرون فى أصحاب طاهر وهرثمة، ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب ووكّل الأمر كلّها إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش. فأمّا الفضل بن الربيع فإنّه استتر وخفى أمره قبل أن ينتهى بهم الأمر إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 هذا بزمان كثير، فاستكلب العيّارون والعراة وسلبوا من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الذمّة والملّة، فكان منهم فى ذلك ما لم يبلغنا أنّ مثله كان فى شيء من الأوقات المتقدّمه. فأمّا فى المستأنف [1] فقد جرت أمور عظام قبيحة مثل هذا وأقبح منه سنذكرها إذا بلغنا إليها إن شاء الله. فلمّا طال ذلك على الناس وضاقت بغداد بأهلها استأمن محمد بن عيسى صاحب الشرطة وعلىّ افراهمرد إلى طاهر، فضعف أمر محمد جدّا وأيقن بالهلاك وخرج من بغداد كلّ من كانت [102] به قوّة، بعد الغرم الفادح وبعد المضايقة [2] العظيمة والخطر الفاحش، فكان الرجل أو المرأة إذا تخلّص من أصحاب الهرش وصار إلى أصحاب طاهر، ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من حليّها وغير ذلك، وكذلك الرجل. ولمّا صارت الحرب بين العيّارين وبين أصحاب طاهر، خرج قائد من قوّاد خراسان، ممّن كان مع طاهر بن الحسين من أهل البأس والنجدة، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فاستهان بهم واستحقرهم وقال لأصحابه: - «ما يقاتلنا إلّا من أرى؟» قالوا: «نعم، هؤلاء [3] هم الآفة.» قال: «أفّ لكم حين تخيمون عن هؤلاء وتنكصون عنهم وأنتم فى السلاح الظاهر والعدّة، وأنتم أصحاب الشجاعة والبسالة وما عسى أن يبلغ كيد   [1] . كذا فى آ: المستأنف. وما فى الأصل غير واضح: المستأنف؟ المسانف؟ ولم نجده فى مظانّه فى الطبري (11: 883) . [2] . ما فى الأصل يحتمل أن يكون «مصاتعة» ، والمصاتعة: المصارعة. [3] . فى الأصل: هؤلاء ستحقرهم الآفة. وما فى آكما أثبتناه. والعبارة فى الطبري (11: 885) : نعم، هؤلاء الذين ترى هم الآفة. وربما كانت ما فى الأصل: هؤلاء الذين استحقرتهم هم الآفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 هؤلاء بلا سلاح ولا جنّة؟» ثمّ أوتر قوسه وتقدّم ووضع عينه على بعضهم، فقصد نحوه وفى يده بارية [1] مقيّرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلّما رمى بسهم استتر منه العيّار، فوقع فى باريته وقريبا منه فيأخذه فيجعله فى موضع من باريته [103] قد هيّأه لذلك شبيها بالجعبة، فكلّما وقع فى ترسه منهم أخذه وصاح. - «دنق.» أى ثمن النشّابة دنق قد أحرزه. فلم يزل حال الخراساني وحال العيّار تلك، حتّى أنفد الخراساني سهامه، ثمّ حمل على العيّار ليضربه بسيفه، فأخرج العيّار من مخلاته حجرا فجعله فى مقلاعه ورماه، فما أخطأ به عينه، ثمّ ثنّاه سريعا فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحامله وكرّ راجعا وهو يقول: - «ما هؤلاء بإنس.» فحدّث طاهر بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إليهم. وقال بعض شعراء أهل بغداد: خرّجت هذه الحروب رجالا ... لا لقحطانها ولا لنزار معشرا فى جواشن الصّوف يعدو ... ن إلى الحرب كالأسود الضّوارى وعليهم مغافر الخوص تجزي ... هم عن البيض والتّراس البواري ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ... طال عاذوا من القنا بالفرار واحد منهم يشدّ على أل ... فين عريان ما له من إزار   [1] . والضبط فى الطبري (11: 855) وفى تد (413) : باريّة (بالتشديد) ولا شدّة على ما فى الأصل وآ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 ويقول الفتى إذا طعن ال ... طّعنة خذها من الفتى العيّار [104] فى أبيات كثيرة، ووصفهم الشعراء كثيرا. وأخذ طاهر فى الهدم والحرق على من خالفه ومنع الملّاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد ووضع الرّصد عليهم فكان يحوى فى كلّ يوم ناحية بعد ناحية ويخندق عليها ويقيم عليها المقاتلة. فكان أصحاب محمد ينقضون، حتّى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد ويكونون أضرّ عليهم من أصحاب طاهر. ولمّا منع طاهر الميرة من بغداد وكان يأخذ من كلّ سفينة تحمل دقيقا أو غيره مالا عظيما غلت الأسعار، وصار أمر الناس إلى القنوط واليأس من الفرج وحسد المقيم منهم من قد خرج عنها. وصار [1] أمر محمد إلى أن أمر غلامه زرنج بتتبّع الأموال وطلبها عند من وجد، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس فى منازلهم ويبيّتهم ليلا ويأخذ بالظنّة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة وأهلك خلقا. ثمّ إنّ حاتم بن الصقر من قوّاد محمد وكان قد واعد أصحابه العراة أن يواقعوا عبيد الله بن الوضّاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة [105] أزالوه عن موضعه، وولّى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا. الخبر عن هزيمة هرثمة وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل فى أصحابه لنصرته وليردّ العسكر إلى موضعه،   [1] . فى مط: وآل، بدل «وصار» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 فوافاه أصحاب محمد ونشّبت الحرب بينهم فأسر رجل من العراة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على العريان فقطع يده وخلّص هرثمة، فمرّ منهزما وبلغ خبره أهل عسكره فتقوّض بما فيه وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز الليل أصحاب محمد عن الطلب والنهب والأسر، فلم يتراجع أصحاب هرثمة إلّا بعد يومين وثلاثة، وقويت العراة بما صار فى أيديهم. وقيلت فى هذه الوقعة أشعار كثيرة. وبلغ طاهرا هزيمة عبيد الله بن الوضّاح وهرثمة وما صار إلى العراة من سلاحهم وأموالهم، فاشتدّ عليه وقام منه وقعد، ووجّه إلى أصحابه وعبّأهم وأمر بعقد جسر فوق الشمّاسيّة وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا النهر وقاتلوهم أشدّ قتال يكون، حتّى ردّوا أصحاب محمد وأزالوهم عن الشماسية [106] وردّ إليها جند عبيد الله وهرثمة. وكان محمد أعطى بنقض [1] قصوره ومجالسه بالخيزرانية بعد ظفر العراة ألفى ألف درهم فى مواضعها وقد كانت النفقة عليها عشرين ألف ألف درهم. فحرقها أصحاب طاهر وكانت السقوف مذهّبة. وهرب عبيد الله بن خازم بن خزيمة، لأنّ محمدا اتهمه وتحامل عليه قوم من السفلة والعيّارين، فخافهم على نفسه فلحق بالمدائن ليلا فى السفن بعياله وولده، وأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال وفعل ذلك بمواطأة طاهر. وضاق على محمد أمره ونفذ ما كان عنده ولم يبق له حيلة، وطلب الناس الأرزاق فقال عند ضجره بذلك: - «وددت أنّ الله قتل الفريقين جميعا وأراحنى منهم، فما منهما إلّا عدوّ، وأمّا هؤلاء فيريدون مالي ولم يبق، وأمّا هؤلاء فيريدون نفسي.»   [1] . انظر الطبري (11: 897) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 ثمّ دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة بين خزيمة وطاهر وفيها كاتب طاهر خزيمة بن خازم يذكر له أنّ الأمر إن انقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر فى نصرته لم يقصر فى مكروهه. فلمّا وصل كتابه إليه شاور ثقاته [107] فقال له أصحابه وأهل بيته: - «نرى والله إنّ هذا الرجل آخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك ولنا.» فكتب إلى طاهر بطاعته وأخبره أنّه لو كان هو النازل فى الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه على كلّ هول، وأعلمه قلّة ثقته بهرثمة ويناشده ألّا يحمله على مكروه عظيم إلّا أن يضمن له القيام دونه، ووعده بإدخال هرثمة وقطع الجسور وأنّه يتّبع هواه ويؤثر رضاه، وأنّه إن لم يضمن ذلك فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف. فكتب طاهرا إلى هرثمة يلومه ويعجّزه ويقول: - «جمعت الأجناد وأتلفت الأموال دون أمير المؤمنين ودوني فى مثل حاجتي إلى النفقات وقد توقّفت عن قوم هيّنة شوكتهم يسير أمرهم توقّف المحجم الهائب لهم، استعدّ للدخول فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور وأرجو ألّا يختلف عليك فى ذلك اثنان، إن شاء الله.» فأجابه هرثمة: - «أنا عارف ببركة رأيك ويمن مشورتك فمر بما أحببت، فلن [108] أخالفك.» قال: فكتب بذلك طاهر إلى خزيمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 خزيمة ودعوته للمأمون وكان كتب طاهر إلى محمد بن علىّ بن عيسى بمثل ذلك قبل، فلمّا كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة، وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علىّ بن عيسى على جسر دجلة، فقطعاه وركّزا أعلامهما عليه وخلعا محمدا، ودعوا لعبد الله المأمون، وسكن أهل الجانب الشرقي ولزموا منازلهم وأسواقهم من يومهم ذلك، ولم يدخل هرثمة حتّى تقدّمه قوم وعادوا إليه فحلفوا أنّه لا يرى مكروه [1] فدخل حينئذ. وباكر طاهر من غد ذلك اليوم وهو يوم الخميس المدينة وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتى الصراة العتيقة والحديثة واشتدّ عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه وقاتل بين يديه أصحابه حتّى هزم أصحاب محمد، وفرّوا على وجوههم لا يلوى أحد على أحد حتّى دخل قسرا بالسيف، وأمر مناديه بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الوضّاح وسوق الكرخ والأطراف قوّادا وجندا فى كلّ موضع على قدر حاجته منهم، وقصد [109] إلى مدينة أبى جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن الجسر إلى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبّها فى دجلة بالخيول والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورماه. وخرج محمد بأمّه وولده إلى مدينة أبى جعفر وتفرّق عنه عامّة جنده وخصيانه وجواريه فى السكك والطرق لا يلوى منهم أحد على أحد وتفرّق   [1] . فى الأصل: مكروها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 الغوغاء والسفلة. وتحصّن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما. فحكى طارق الخادم وكان من خاصّة محمد- وكان المأمون بعد ذلك أيضا يقدّمه- أن محمدا سأله يوما من الأيّام وهو محصور- أو قال فى آخر يوم من أيّامه- أنّ أطعمه شيئا. قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئا فجئت إلى حمرة [1] العطّارة وكانت خازنة [2] الجوهر فقلت لها: - «إنّ أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء؟ فإنّى [110] لم أجد فى المطبخ شيئا؟» فقالت لجارية لها يقال لها بنان: - «أىّ شيء عندك؟» فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل وطلب ماء يشربه فلم يجد فى خزانة الشراب ماء، فأمسى وكان عزم على لقاء هرثمة، فما شرب ماء حتّى أتى عليه. ذكر اتفاقات عجيبة حكى إبراهيم بن المهدى أنّه كان نازلا مع محمد المخلوع فى مدينة المنصور فى قصره بباب الذهب لمّا حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرّج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار فى قرن الصراة فى جوف الليل، ثمّ أرسل إلىّ فصرت إليه، فقال لى: - «يا إبراهيم أما ترى طيب هذه الليلة وحسن هذا القمر وضوءه فى الماء- ونحن حينئذ فى شاطئ دجلة- فهل لك فى الشرب؟»   [1] . فى الأصل: حمزة. وهو تصحيف. وفى الطبري (11: 908) : حمرة العطّارة. [2] . فى الطبري: جارية الجوهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 قلت: «شأنك، جعلني الله فداءك.» قال: فدعا برطل فشربه، ثمّ أمر فسقيت مثله. قال: فابتدأت أغنّيه من غير أن يسألنى لعلمي بسوء خلقه، فغنّيت ما كنت أعلم أنّه يحبّه فقال لى: - «ما تقول فيمن يضرب عليك؟» فقلت: «ما أحوجنى إلى ذلك.» فدعا بجارية متقدّمة عنده يقال [111] لها: ضعف، فتطيّرت من اسمها ونحن فى تلك الحال التي هو عليها. فلمّا صارت بين يديه قال [1] لها: - «تغنّى.» فغنّت بشعر النابغة الجعدي: ليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرّج بالدّم قال: فاشتدّ عليه ما غنّت به وتطيّر منه فقال لها: - «غنّى غير هذا.» فغنّت: أبكى فراقهم عيني فأرّقها ... إنّ التّفرّق للأحباب بكّاء ما زال بعدو عليهم ريب دهرهم ... حتّى تناءوا [2] وريب الدّهر عدّاء فقال لها:   [1] . فى الأصل: قالت، وهو سهو. [2] . كذا فى الأصل وآ ومط: تناءوا. فى الطبري (11: 909) : تفانوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 - «لعنك الله، أما تعرفين من الغناء شيئا سوى هذا الفنّ؟» فقالت: «يا سيّدى ما تغنّيت إلّا بما ظننت أنّك تحبّه، وما أردت ما تكرهه، وما هو إلّا شيء جاءني.» ثمّ أخذت تغنّى: أما وربّ الّسكون والحرك ... إنّ المنايا كثيرة الشّرك ما اختلف الليل والنّهار ولا ... دارت نجوم السّماء فى الفلك إلّا لنقل السّلطان من ملك ... عات بسلطانه إلى ملك وملك ذى العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك [112] فقال لها: - «قومي، غضب الله عليك ولعنك.» فقامت. وكان له قدح من بلّور حسن الصنعة، وكان محمد يسمّيه: زبّ رباح، وكان موضوعا بين يديه فقامت الجارية منصرفة، فسحبت عليه رداؤها فكسرته وقالت: - «تعس وانتكس الشيطان.» فقال إبراهيم: فقال لى: - «ويحك يا إبراهيم أما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثمّ ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظنّ أمرى إلّا وقد قرب.» فقلت: «يطيل الله بقاءك ويعزّ ملكك ويديم نعمتك ويكبت عدوّك.» فما استتم الكلام حتّى سمعنا صوتا عن دجلة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 - «قضى الأمر الّذى فيه تستفتيان.» [1] فقال لى: - «يا إبراهيم أما سمعت؟» قلت: «لا والله ما سمعت شيئا. وقد كنت سمعت.» قال: «تسمّع حسّنا.» قال: فدنوت من الشطّ فلم أر شيئا، ثمّ عاودنا الحديث فعاد الصوت: - «قضى الأمر الذي فيه تستفتيان.» فوثب من مجلسه ذلك مغتمّا، ثمّ ركب ورجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلّا ليلة أو ليلتان، حتّى حدث ما حدث من قتله. [113] وفى هذه السنة قتل محمد بن هارون الأمين. مقتل محمد بن هارون الأمين ذكر ما أشير به على محمد فلم يقبله وما تأدّى إليه الأمر لمّا صار محمد إلى المدينة وقرّ فيها وعلم قوّاده أنّه ليس لهم ولا له فيها عدّة للحصار. وخافوا أن يظفر بهم دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وقوّاده فقالوا له: - «قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه، فإنّا نرجو أن يكون صوابا، إن شاء الله.» قال: «وما هو؟» قالوا: «قد تفرّق جندك عنك وأحاط عدوّك بك من كلّ جانب وقد بقي   [1] . س 12 يوسف: 41. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارها وجيادها سوى مراكبك، فنرى أن تختار ممّن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة آلاف رجل، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا على باب من هذه الأبواب، فإنّ الليل لأهله، فنخرج ولن يثبت لنا أحد وتسير حتّى تلحق بالشام والجزيرة فنفرض الفروض ونجبى الخراج وتصير فى مملكة واسعة وملك جديد، فيسارع إليك الناس من كلّ أوب وينقطع الجنود فى طلبك وإلى ذاك ما قد أحدث الله فى مكّر [1] الليل والنهار أمورا.» فقال لهم: - «نعمّا رأيتم.» [114] واعتزم على ذلك وخرج الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبى جعفر والى محمد بن عيسى بن نهيك والى السندي بن شاهك: - «قد بلغني عزيمة محمد وو الله لئن لم تردّوه عن هذا الرأى لا تركت لكم ضيعة إلّا قبضتها، ثمّ لا تكون لى همّة إلّا نفوسكم. فإنّ هؤلاء الذين يسيرون معه صعاليك لا يخلّفون شيئا يشفقون عليه. فاعملوا على ما رسمته تسلموا، إن شاء الله.» فدخلوا على محمد وقالوا: - «نذكّرك الله فى نفسك فإنّ هؤلاء صعاليك، وقد ضاق عليهم الحصار وهم يرون أن لا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر، لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجدّ، فيها ولسنا نأمن إذا برزوا وحصلت فى أيديهم أن يأخذوك أسيرا أو يأخذوا رأس عدوّك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم.»   [1] . الضبط موافق لما فى الأصل والطبري (11: 912) : مكرّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وضربوا له فى ذلك الأمثال حتّى فزع وغيّر عزمه ورأيه. وكان أصحابه الذين أشاروا بما أشاروا أولا جلوسا فى رواق البيت، فسمعوا جميع ما قاله سليمان وأصحابه، فهمّوا جميعا بقتل سليمان وأصحابه. ثمّ قالوا: - «حرب من خارج وحرب من داخل.» [115] فأمسكوا. ثمّ أشار عليه هؤلاء وقالوا: - «قد بذل لك الأمان فاقبله، فإنّما غايتك اليوم السلامة واللهو، وليس يمنعك [1] أخوك من ذلك وسينزلك حيث تحبّ ويفردك مع من تحبّ وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه.» فركن إلى ذلك وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة دون طاهر، وكان استشعر خوفا من طاهر. وكان جماعة من أصحابه يكرهون هرثمة، لأنّهم كانوا من أصحابه وقد عرفهم وعرفوه وخافوا أن يجفوهم ولا يجعل لهم مراتب. فدخلوا على محمد فقالوا: - «أمّا إذ أبيت ما أشرنا به وهو الصواب وقبلت رأى هؤلاء وهو الخطأ، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة.» فقال لهم محمد: - «ويحكم إنّى أكره طاهرا وذلك أنّى رأيت فى منامي كأنّى قائم على حائط من آجر شاهق فى السماء عريض الأساس وثيق لم أر حائطا يشبهه فى الطول والعرض والوثاقة وعلىّ سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفّى، وكان طاهر فى أصل ذلك الحائط، بيده بيل يضرب به أصل الحائط   [1] . فى مط: يخلعك. وآ كالأصل: يمنعك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 فما زال يضرب أصله حتّى سقط [116] الحائط وسقطت وندرت قلنسوتي عن رأسى وأنا أتطيّر منه وأكره الخروج إليه، وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد وأنا به أشدّ ثقة.» فلمّا همّ محمد بالخروج إلى هرثمة وسعى له بذلك وأجابه هرثمة إلى ما أراد، اشتدّ ذلك على طاهر وأبى أن يرفّه عنه ويدعه يخرج وقال: - «هو فى حيّزى والجانب الذي أنا فيه وأنا أخرجته بالحرب والحصار حتّى طلب الأمان فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني فيكون الفتح له.» فلمّا رأى هرثمة والقوّاد ذلك اجتمعوا فى منزل خزيمة بن خازم، فصار إليهم طاهر فى خاصّة قوّاده وحضر محمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك وأداروا الرأى بينهم. فأخبروا طاهرا أنّه لا يخرج إليه أبدا وأنّه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يجرى فى أمره ما جرى مثله أيّام الحسين بن علىّ بن عيسى بن ماهان وقالوا له: - «يخرج ببدنه إلى هرثمة إذ كان يأنس به ويثق بناحيته ويدفع الخاتم والقضيب والبردة وذلك هو الخلافة إليك، فلا تفسد هذا الأمر واغتنمه.» فأجاب طاهر إلى ذلك ورضى. ولمّا تهيّأ محمد للخروج خرج [117] إلى صحن القصر فقعد على كرسىّ وقام خدمه بين يديه بالأعمدة. وجاءه خادم فقال: - «يا سيّدى، أبو حاتم يقرأ عليك السلام- يعنى هرثمة- ويقول لك: يا سيّدى وافيت للميعاد لحملك، ولكنّى رأيت ألّا تخرج الليلة فإنّى قد رأيت- وفى دجلة وعلى الشطّ- أمر قد رابنى وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك ونفسي، ولكن أقم بمكانك حتّى أرجع فاستعدّ، ثمّ آتيك القابلة، فأخرجك، فإن حوربت دونك حاربت ومعى عدّتى.» قال: فقال له محمد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 - «إرجع إليه فقال له: لا تبرح، فإنّى خارج إليك الساعة لا محالة.» قال: وقلق: - «إنّه قد تفرّق عنّى الناس ومن على بابى من الموالي والحرس ولا آمن إن أصبحت وانتهى خبري إلى طاهر أن يدخل علىّ فيأخذنى.» ثمّ دعا بفرس له أدهم أغرّ محجّل كان يسمّيه: الزهيرى، ودعا بابنيه فضمّهما إليه وشمّهما وقال: - «أستودعكما الله.» ودمعت عيناه، فجعل يمسح دموعه بكمّه، ثمّ قام فوثب على الفرس وخرجنا بين يديه إلى باب القصر حتّى ركبنا دوابّنا وبين يديه شمعة واحدة حتّى خرجنا إلى المشرعة، فإذا حرّاقة [118] هرثمة، فنزل فى الحرّاقة [1] . ورجعنا إلى المدينة فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق وسمعنا الواعية فصعدنا القبّة التي على الباب نتسمّع الصوت. فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم أنّه قال: كنت مع هرثمة مع قوّاده فى الحرّاقة. فلمّا دخل محمد الحرّاقة قمنا على أرجلنا إعظاما له وجثا هرثمة على ركبتيه وقال: - «يا سيّدى لا أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بى.» ثمّ احتضنه وصيّره فى حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه ويقول: - «سيّدى ومولاي وابن سيّدى ومولاي.» وجعل محمد يتصفّح وجوهنا ونظر إلى عبيد الله بن الوضّاح فقال: - «أيّهم أنت؟» قال: «أنا عبيد الله بن الوضّاح.»   [1] . الحرّاقة: السفينة الحربيّة، فيها مرامي نيران يرمى بها العدوّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 قال: «نعم جزاك الله خيرا فما أشكرنى لما كان منك فى أمر الثلج ولو قد لقيت أخى- أبقاه الله- لم أدع شكرك عنده.» قال: فبينا نحن كذلك، وقد أمر هرثمة بالحرّاقة أن تدفع، إذ شدّ علينا أصحاب طاهر فى الزواريق وعطعطوا وتعلّقوا بالسكّان وبعض يقطع السكّان وبعض ينقب الحرّاقة وبعض يرمى بالنشّاب فنقبت الحرّاقة سريعا ودخلها [119] الماء وغرقت وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا كلّنا فتعلّق الملّاح بشعر هرثمة فأخرجه وخرج كلّ واحد منّا على حياله لقربنا من الشطّ ورأيت محمدا فى تلك الحال وقد شقّ عنه ثيابه ورمى بنفسه إلى الماء. فأمّا أنا فتعلّق بى رجل من أصحاب طاهر ومضى بى إلى رجل قاعد على كرسىّ على شطّ دجلة وبين يديه نار توقد. فقال له بالفارسية: - «هذا رجل أخرج من الماء ممّن غرق من أهل الحرّاقة.» فقال لى: - «ممّن أنت؟» قلت: «من أصحاب هرثمة أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين.» قال: «كذبت فاصدقني.» قلت: «قد صدقتك.» قال: «فما فعل المخلوع؟» قلت: «رأيته حين شقّ عنه ثيابه وقذف بنفسه فى الماء.» قال: «قدّموا دابّتى.» فقدّموا دابّته فركب وأمر بى أن أجنب، فجعل فى عنقي حبل وجنبت وأخذ فى درب الزبيدية. ولمّا عدوت ساعة انبهرت فلم أقدر على العدو فقمت. فقال الذي خلفي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 - «قد قام هذا الرجل وليس يعدو.» قال: «انزل فخذ رأسه.» قلت: «جعلت فداك، ولم تقتلني وأنا رجل لله علىّ نعمة ولا أقدر على العدو وأنا أفدى نفسي بعشرة آلاف درهم.» [120] فلمّا سمع ذكر العشرة آلاف قال للرجل الذي أمره بقتلى: - «أمسك.» ثمّ قال: - «وكيف لى بالعشرة آلاف؟» قلت: «تحبسني عندك حتّى نصبح، ثمّ تدفع إلىّ رسولا أرسله إلى وكيلي فى منزلي فى عسكر المهدى، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي.» قال: «قد أنصفت.» وأمر بحملي فحملت ردفا، فمضى بى إلى دار صاحبه دار أبى صالح الكاتب وأمر غلمانه أن يحتفظوا بى، وتفهّم منّى خبر محمد ووقوعه إلى الماء ومضى إلى طاهر ليخبره وإذا هو إبراهيم البلخي. قال: فصيرني غلمانه فى بيت من بيوت الدار فيه بواري ووسادتان وفى زاوية من زواياه حصر مدرّجة قال: فقعدت فى البيت وصيّروا فيه سراجا وتوثّقوا من الباب وقعدوا يتحدّثون. فلمّا ذهب من الليل ساعة إذا نحن بحركة الخيل، فدقّوا الباب ففتح لهم وهم يقولون: - «بسّر زبيدة [1] .» قال: «فأدخل إلىّ رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثّم بها وعلى كتفيه خرقة خلقة. فصيّروه معى وتقدّموا إلى من فى الدار بحفظه وخلّفوا   [1] . كذا فى الأصل: بسّر زبيدة. ما فى آتصحيف بالإهمال. وفى الطبري: (11: 921) : پسر زبيدة، أى ابن زبيدة. وما فى الأصل معرّب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 معهم قوما آخرين منهم أيضا. قال: فلمّا استقرّ فى البيت حسر العمامة عن وجهه، فإذا هو محمد، فاستعبرت [121] واسترجعت فيما بيني وبين نفسي، وجعل ينظر إلىّ. ثمّ قال: - «أيّهم أنت؟» قلت: «أنا مولاك يا سيّدى.» قال: «وأىّ الموالي؟» قلت: «أحمد بن سلام صاحب المظالم.» قال: «أعرفك بغير هذا، كنت تأتينى وتلطفنى كثيرا، لست مولاي، ولكنّك أخى.» ثمّ قال: «يا أحمد.» قلت: «لبّيك يا سيّدى.» قال: «أدن منّى وضمّنى إليك، فإنّى أجد وحشة شديدة.» قال: «فضممته إلىّ، فإذا قلبه يخفق حتّى يكاد يخرج من صدره، فلم أزل أضمّه إلىّ وأسكّنه.» قال: ثمّ قال لى: «يا أحمد ما فعل أخى؟» قلت: «هو حىّ.» قال: «قبّح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته.» قال: قلت: «يا سبحان الله! ففي أىّ شيء دفعنا إذا، بل قبّح الله وزراءك.» قال: «لا تقل لوزرائى إلّا خيرا، فما لهم ذنب ولست بأوّل من طلب أمرا فلم يقدر عليه.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 ثمّ قال لى: «يا أحمد ما تراهم يصنعون بى، تراهم يقتلوني أو يفون لى بأمانهم؟» قال: قلت: «بل يفون لك يا سيّدى.» قال: وجعل يضمّ على نفسه الخرقة التي على كتفيه ويضمّها ويمسكها بعضديه يمنة ويسرة. قال: ونزعت مبطّنة كانت علىّ وقلت يا سيّدى: - «ألق هذه عليك.» قال: [122]- «ويحك دعني، فهذا من الله لى فى هذا الموضع خير.» قال: وبينا نحن كذلك إذ دقّ باب الدار ففتح فدخل علينا رجل عليه سلاحه فتطلّع فى وجهه مستثبتا له، فلمّا أثبته معرفة انصرف وأغلق الباب وإذا هو محمد بن حميد الطاهري. قال: فعلمت أنّ الرجل مقتول. قال: وكان بقي علىّ من صلاتي الوتر فخفت أن أقتل معه ولم أوتر. قال: فقمت أوتر. فقال لى: - «يا أحمد لا تباعدني وصلّ إلى جانبي فإنّى أجد وحشة شديدة.» قال: فاقتربت منه. فلمّا انتصف الليل أو قارب سمعت حركة الخيل، ودقّ الباب ففتح فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسلّلة، فلمّا رآهم قام قائما وجعل يقول: - «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 2: 156، ذهبت والله نفسي فى سبيل الله، أما من حيلة أما من مغيث، أما من أحد من الأبناء؟» قال: وجاءوا حتّى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول وجعل بعضهم يقول لبعض «تقدّم» ويدفع بعضهم بعضا. قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرّجة فى زاوية البيت، وقام محمد فأخذ [123] بيده وسادة وجعل يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 - «ويحكم إنّى ابن عمّ رسول الله- صلى الله عليه- أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون الله الله فى دمى.» قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له: حميرويه [1] غلام لقريش الدندانى مولى طاهر، فضربه على مقدم رأسه وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت فى يده واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده، فصاح بالفارسية: - «قتلني، قتلني.» قال: فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف فى خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحا من قفاه، وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر، فتركوا جثّته. ولما كان فى وقت السحر جاءوا إلى جثّته فأدرجوها فى جلّ وحملوها. قال: فأصبحت فقيل: - «هات العشرة آلاف درهم.» قال: فبعثت إلى وكيلي فأتانى فأمرته فأتانى بها فدفعتها إليه. ولمّا أصبح طاهر نصب رأس محمد على البرج برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار، وفتح باب الأنبار وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم. وأقبل طاهر يقول: - «هذا رأس المخلوع.» وذكر محمد بن عيسى أنّه قال: رأى المخلوع على ثوبه قمّلة، فقال: - «ما هذا؟» قالوا: «شيء [124] يكون فى ثياب الناس.» فقال: «أعوذ بالله من زوال النعمة.» فقتل من يومه.   [1] . كذا فى الأصل. فى آ: حمرويه. فى مط: جيرونه. فى الطبري (11: 923) : خمارويه. وفى تد (415) : خميرويه (بالخاء المعجمة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع الرداء والقضيب والمصلّى وهو من سعف مبطّن مع محمد بن مصعب ابن عمّه فأمر له المأمون بألف ألف درهم. قال: فرأيت ذا الرئاستين وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون. قال: فلمّا رآه سجد. وكتب طاهر إلى إبراهيم بن المهدى بعد قتل المخلوع: - «أمّا بعد، فإنّه عزيز علىّ أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير [1] ولكنّه بلغني أنّك تميل بالرأى وتصغى بالهوى إلى الناكث المخلوع. فإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» وثوب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين وفى هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيّب أيّاما حتّى أصلح أمرهم. ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما استعمله طاهر من الحزم قبله إنّ أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيّام طلبوا أرزاقهم ووثبوا به ولم يكن فى يده مال فضاق به أمره، وظنّ أنّ ذلك بمواطأة أهل الأرباض إيّاهم [125] وأنّهم معهم عليه ولم يكن تحرّك فى ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدّت شوكتهم وخشي طاهر على نفسه فهرب من البستان وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عاقرقوف.   [1] . فى مط: الأمير. آوالطبري (11: 933) : كالأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وكان ممّا قدّم الحزم فيه أن حفظ أبواب المدينة وباب القصر لمّا فرغ من قتل محمد وحوّل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد إلى قصر الخلد ليلا ثمّ حملهم فى حرّاقة همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثمّ أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمّهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس. فلمّا وثب الجند بطاهر وطلبوا الأرزاق أحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح ونادوا: - «موسى يا منصور.» وبقوا كذلك يومهم ومن الغد، فتبيّن صواب رأى طاهر فى إخراج موسى وعبد الله. وكان طاهر انحاز ومن معه من القوّاد وتعبّأ لقتالهم ومحاربتهم. فلمّا بلغ ذلك الوجوه والقوّاد ممّن شغّب صاروا إليه واعتذروا وأحالوا على سفهاء الجند وأحداثهم وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضى وضمنوا له ألّا [126] يعودوا لمكروهه ما أقام معهم. وأتاه مشايخ الأرباض فحلفوا له بالمغلّظة من الأيمان أنّه لم يتحرّك فى هذه الأيّام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم ولا أرادوه. وضمنوا له أن يقوم له كلّ إنسان منهم فى ناحيته بما يجب عليه حتّى لا يأتيه من ناحيته أمر يكرهه. وأتاه عميرة أبو شيخ بن عميرة الأسدى فى مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ذلك وأعلموه حسن رأى من خلفهم من الأبناء فطابت نفسه إلّا أنّه قال: - «والله ما اعتزلت عنهم إلّا لوضع السيف فيهم. وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودنّ إلى رأيى فيكم ولأخرجنّ إلى مكروهكم.» فكسرهم بذلك وأمر لهم برزق أربعة أشهر وانصرف إلى معسكره بالبستان ودعا بوجوه أصحابه وفيهم سعيد بن مالك وقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 - «أنّه لا مال عندي وقد أطلقت للقوم أرزاقهم، فما الوجه؟» فقال سعيد: - «أنا أحمل عشرين ألف دينار.» فطابت نفسه وحمل غيره حتّى أرضى أصحابه وقال لسعيد: - «إنّى أقبلها على أن تكون دينا علىّ.» فقال: «بل هي هدية وقليله لغلامك وفيما أوجب الله من حقّك.» [127] وسكن الجند. وكانت خلافة محمد المخلوع نحو خمس سنين ينقص شهرين، وكان عمره كلّه ثمانيا وعشرين سنة، وكان سبطا أنزع أبيض أقنى جميلا طويلا أبعد ما بين المنكبين صغير العينين. وذكر الموصلي أنّ طاهرا لمّا بعث برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرئاستين وقال: - «سلّ عليها سيوف الناس وألسنتهم أمرناه أن يبعث به أسيرا فبعث به عقيرا.» فقال له المأمون: - «أنّه قد مضى ما مضى فاحتل فى الاعتذار منه.» وكتب الناس فأطالوا وجاء أحمد بن يوسف بشبر قرطاس فيه: - «أمّا بعد فإنّ المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين فى النسب واللحمة، فقد فرّق الله بينه وبينه فى الولاية والحرمة بمفارقته عصم الدين وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين. يقول الله عزّ وجلّ حين اقتصّ نبأ ابن نوح: إِنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ 11: 46 [1] ولا طاعة لأحد فى معصية   [1] . س 11 هود: 46. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة فى جنب الله وكتابي هذا إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع وردّاه رداء نكثه وأحصد لأمير المؤمنين أمره [128] وأنجز له وعده وما ينتظر من صادق أمره حين ردّ به الألفة بعد فرقتها وجمع الأمّة بعد شتاتها وأحيى به الأعلام من الإسلام بعد دروسها.» [1]   [1] . انظر الطبري (11: 950) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 خلافة المأمون وفى هذه السنة ولّى المأمون كلّ ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس فى طاعة المأمون. وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما فى يده من الأعمال فى البلدان كلّها إلى خلفاء الحسن بن سهل وأن يشخص عن ذلك إلى الرقّة وجعل إليه حرب نصر بن شبث [1] وولّاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وقدم علىّ بن أبى سعيد العراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها. فدافع طاهر عليّا بتسليم الخراج إليه حتّى وفّى الجند أرزاقهم. فلمّا وفّاهم سلّم إليه العمل. وكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان. ودخلت سنة تسع وتسعين ومائة [129] وفيها قدم الحسن بن سهل العراق من عند المأمون واليه الحرب والخراج، وفرّق عمّاله فى الكور والبلدان.   [1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 975) : شبث. فى مط: شبيب (بإهمال الحرف الأخير) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 خروج ابن طباطبا فى الكوفة دعوة إلى الرضا من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - والعمل بالكتاب والسنّة وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام يدعو إلى الرضا من آل محمد والعمل بالكتاب والسنّة وهو الذي يقال له: ابن طباطبا، وكان القيّم بأمره فى الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا واسمه السرى بن منصور. ذكر السبب فى خروجه كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عمّا كان إليه من أعمال البلدان التي افتتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل. وذلك أنّ الناس بالعراق تحدّثوا بينهم أنّ الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنّه قد أنزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قوّاده ومن الخاصّة والعامّة، وأنّه يبرم الأمور على هواه ويستبدّ بالرأى دونه. فغضب لذلك من بالعراق من بنى هاشم ووجوه الناس وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون [130] واجترأوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن فى الأمصار. فكان أوّل من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت. وكان سبب خروجه أنّ أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخّره بها. فغضب أبو السرايا ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا واجتمع إلى ابن طباطبا الناس. فوجّه الحسن بن سهل زهير بن المسيّب فى أصحابه إلى الكوفة فى عشرة آلاف فارس وراجل، فتهيأوا للخروج إليه، فلم تكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 بهم قوّة على الخروج. فأقاموا حتّى بلغ زهير قرية شاهي، [1] ثمّ واقعهم ابن طباطبا فهزمهم واستباح عسكرهم وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودوابّ وغير ذلك. فلمّا كان من غد ظفره بزهير واستباحته عسكره، مات فجأة، فتحدّث الناس أنّ أبا السرايا سمّه وأنّه إنّما فعل ذلك لأنّ ابن طباطبا لمّا أحرز ما فى عسكر زهير بن المسيّب من المال والسلاح والكراع، منعه أبا السرايا وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين فعلم أبو السرايا أنّه لا أمر له فسمّه. فلمّا مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا [131] مكانه غلاما أمرد حدثا وهو محمد بن محمد بن زيد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب، عليهم السلام. فكان أبو السرايا هو الذي ينفّذ الأمور. وكان الحسن بن سهل قد وجّه عبدوس بن محمد بن أبى خالد المروروذىّ إلى النّيل حين وجّه زهيرا إلى الكوفة. فلمّا هزم أبو السرايا زهيرا خرج عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل حتّى بلغ الجامع وزهير مقيم بالقصر، [2] فتوجّه أبو السرايا إلى عبدوس فواقعه بالجامع فقتله وأسر هارون بن أبى خالد واستباح عسكره وكان فى أربعة آلاف، فلم يفلت منهم أحد كانوا بين قتيل وأسير. وانتشر الطالبيّون وانحاز زهير إلى نهر الملك وأقبل أبو السرايا حتّى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه وكانت طلائعه تأتى كوثى. ثمّ وجّه أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط فدخلوها، وكان بواسط وأعمالها عبد الله بن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبى السرايا قريبا من واسط فهزموه فانصرف راجعا إلى بغداد وقتل أصحابه وأسروا.   [1] . شاهي: موضع قرب القادسيّة. (مراصد الإطلاع) . [2] . بالقصر: كذا فى الأصل ومط وتد (421) والطبري (11: 978) . وفى آ: بالبصرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 فلمّا رأى الحسن بن سهل أنّ أبا السرايا يهزم عساكره [132] ولا يتوجّه إلى بلدة إلّا افتتحها ولم يجد فى قوّاده من يكفيه حربه، تذكّر هرثمة. وكان هرثمة لمّا قدم الحسن بن سهل العراق واليا من قبل المأمون سلّم إليه ما كان بيده من الأعمال وتوجّه نحو خراسان مغاضبا، فبلغ حلوان وبعث إليه الحسن السندي وصالحا صاحب المصلّى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبى السرايا فامتنع وأبى وقال: - «تذكروننا عند البلاء.» فانصرف رسل الحسن إليه بإباءه وتمنّعه فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة ورسائل تشبه الكتب، فأجاب وانصرف إلى بغداد فقدمها فى شعبان وتهيّأ للخروج. وأمر الحسن علىّ بن أبى سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة وتهيئوا لذلك وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجّه إلى المدائن فدخلها أصحابه فى شهر رمضان وتقدّم هو بنفسه حتّى نزل صرصر. وكان هرثمة أنفذ منصور بن المهدى إلى الياسرية فخرج وعسكر بها. فلمّا قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور ثمّ شخص إلى نهر صرصر بإزاء أبى السرايا والنهر بينهما. [133] وتوجّه علىّ بن سعيد من طريق كلواذى إلى المدائن فقاتل أصحاب أبى السرايا وهزمهم وأخذ المدائن وبلغ أبا السرايا فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وأصبح هرثمة فجدّ فى طلبه فوجد جماعة كبيرة فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل ثمّ صار إلى قصر ابن هبيرة فكانت بينه وبين أبى السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبى السرايا خلق كثير وانحاز أبو السرايا إلى الكوفة. فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيّين على دور بنى العبّاس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 ومواليهم وأتباعهم فانتهبوها وهدموها وحرّقوها وخرّبوا ضياعهم وأخرجوهم من الكوفة وعملوا فى ذلك عملا قبيحا جدّا واستخرجوا الودائع التي كانت عند الناس. وتوجّه علىّ بن أبى سعيد بعد أخذه المدائن إلى واسط فأخذها ثمّ توجّه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتّى انقضت سنة تسع [1] . ثمّ دخلت سنة مائتين هروب أبى السرايا من الكوفة ومقتله وفيها هرب أبو السرايا من الكوفة ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدى فآمنوا [134] أهلها ولم يعرضوا لأحد. ثمّ إنّ أبا السرايا عبر دجلة أسفل واسط. فأتى عبدسيّ [2] فوجد بها مالا كان حمل من الأهواز فأخذه ثمّ مضى حتّى أتى السوس فنزلها وأقام بها أربعة أيّام وجعل يعطى الفارس ألفا والراجل خمسمائة. فلمّا كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن علىّ الباذغيسى المعروف بالمأمونى فأرسل إليهم: - «اذهبوا حيث شئتم فإنّه لا حاجة لى فى قتالكم، إذا أنتم خرجتم من عملي فلست أتبعكم.» فأبى أبو السرايا إلّا قتاله فقاتلهم فهزمهم الحسن واستباح عسكرهم وجرح أبو السرايا جراحة شديدة فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، فأخذوا ناحية الجزيرة يريدون منزل أبى السرايا برأس العين، فلمّا انتهوا إلى جلولاء عثر بهم فأتاهم حمّاد فأخذهم فجاء بهم إلى الحسن بن   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: سنة تسع. فى الطبري (11: 984) : سنة 199 وفى تد (422) : سنة. [2] . عبدسيّ (تعريب أفداسهى) : اسم لما كان حول كسكر من العمارة (مرصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 سهل وكان مقيما بالنهروان حين طردته الحربية فضرب عنق أبى السرايا، وكان الذي تولّى ضرب رقبته هارون بن محمد بن أبى خالد الذي كان أسيرا فى يده. فلم ير أحد عند القتل أشدّ جزعا من أبى السرايا كان يضرب بيديه ورجليه ويصيح أشدّ ما يكون من الصياح حتّى جعل فى رأسه حبل [135] وفى يديه حبل وفى رجليه حبل وهو فى ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح حتّى ضربت عنقه. ثمّ بعث برأسه فطيف به وبعث بجسده إلى بغداد فصلب على الجسرين فى كلّ جسر نصف. وكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر. وتوجّه علىّ بن أبى سعيد إلى البصرة فافتتحها، وكان الذي بها من الطالبيّين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام وهو الذي يقال له: زيد النار، وإنّما سمّى بذلك لكثرة ما حرّق من الدور بالبصرة. وكان إذا أتى برجل من المسوّدة كانت عقوبته أن يحرقه بالنار، فأسره علىّ بن أبى سعيد مع جماعة من قوّاده وبعث بهم إلى الحسن بن سهل. خروج إبراهيم بن موسى بن جعفر (ع) باليمن وفى هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام باليمن. ذكر السبب فى خروجه كان سببه أنّ أبا السرايا لمّا تغلّب على الكوفة وتجاسر الناس على الحسن بن سهل، حدّث هذا أيضا نفسه باليمن وكان بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى. [136] فلمّا سمع بإقبال إبراهيم بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 موسى العلوي وأهل بيته إليه كره قتالهم وخرج بجميع من فى عسكره من الخيل والرجل فخلّى لإبراهيم اليمن. فدخل إبراهيم بلاد اليمن وقتل خلقا كثيرا وسبى وأخذ أموالا عظيمة من الناس فسمّى إبراهيم الجزّار. جلوس الأفطس وفى هذه السنة جلس حسين بن حسن الأفطس وكان خرج من قبل أبى السرايا. فجلس على نمرقة مثنّية خلف المقام فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجرّدت منها حتّى لم يبق عليها شيء وبقيت حجارة. ثمّ كساها ثوبين من قزّ رقيق وجّه بهما أبو السرايا مكتوب عليهما: «ممّا أمر به الأصفر بن الأصفر ابن السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس لتطهّر من كسوتهم وكتب فى سنة تسع وتسعين ومائة.» ثمّ أمر الحسين بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسّمت بين أصحابه من العلويّين وأتباعهم، وعمد إلى ما فى خزانة [1] الكعبة من مال فأخذه ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلّا هجم عليه فى داره فأخذه. وإن لم يجد عنده شيئا أخذه فحبسه وعاقبه حتّى يفتدى بقدر طوله [137] حتّى أفقر خلقا وهرب كثير من أهل النعم فتعقّبهم بهدم دورهم، حتّى صار أصحابه إلى أخذ الحرم وأخذ أبناء الناس وتهتّكوا وجعلوا يحكّون الذهب الرقيق الذي فى أسافل رؤوس أساطين المسجد الحرام، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهبا، وقلعوا الحديد الذي على شبّاك كوى المسجد الحرام وقلعوا شبّاك زمزم وباعوها، فتغيّر لهم الناس ولعنوهم.   [1] . ما فى الأصل: خزاية. فى آومط والطبري (11: 988) : خزانة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 اجتماع الحسين وأصحابه إلى محمد بن جعفر لمبايعته بالخلافة وبلغهم أنّ أبا السرايا قتل، وطرد من كور العراق كلّها الطالبيّون، وأنّ الولاية رجعت بها لولد العباس. فعلم حسين أنّه لا ثبات له ولا لأصحابه لسوء السيرة التي ظهرت منهم. فاجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد الصادق وكان شيخا ودعا [1] يروى العلم عن أبيه جعفر بن محمد عليه السلام، وينتابه الناس فيكتبون عنه، وكان له سمت وزهد، وفارق ما كان عليه أهل بيته، فكان محبّبا فى الناس. فلمّا اجتمع إليه حسين وأصحابه قالوا له: - «قد تعلم حالك فى الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة، فليس يختلف عليك اثنان.» فأبى إباء شديدا. فلم يزل به ابنه علىّ وحسين بن حسن الأفطس حتّى غلبا الشيخ [138] على رأيه فأجابهم. فأقاموه يوم الجمعة فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكّة والمجاورين، فبايعوه وسمّوه: أمير المؤمنين. فأقام شهورا ليس له من الأمر إلّا اسمه، وابنه علىّ وحسين وجماعة معهما أسوأ ما كانوا سيرة. فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش ولها زوج، وكانت ذات جمال بارع. فانتزعها وأخاف زوجها حتّى توارى، واغتصبها نفسها بعد أن كسر عليها بابها وحملت حملا إلى حسين. ووثب علىّ بن محمد وهو ابن أمير المؤمنين محمد بن جعفر على غلام   [1] . فى آ: وداعا. وفى الطبري (11: 989) : ودّاعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 من قريش، ابن قاض بمكّة يقال له: إسحاق بن محمد، كان جميلا بارعا فى الجمال. فاقتحم عليه بنفسه نهارا جهارا فى داره على الصفا مشرفا على المسعى، حتّى حمله على فرسه فى السرج، وركب علىّ على عجز الفرس، وخرج به يشقّ السوق. فلمّا رآه أهل مكّة ومن بها من المجاورين خرجوا، فاجتمعوا فى المسجد الحرام وغلّقت الدكاكين ومال معهم أهل الطواف بالكعبة، حتّى أتوا أباه محمد بن جعفر فقالوا: - «لنخلعنّك ولنقتلنّك أو تردّ إلينا هذا الغلام الذي أخذه [139] ابنك جهرة.» فأغلق بابه وكلّمهم من شبّاك الشارع فى المسجد وقال: - «والله ما علمت، فأمهلونى.» ثمّ أرسل إلى حسين بن حسن الأفطس وسأله أن يركب إلى ابنه فيستنقذ الغلام من يده. فأبى ذلك حسين وقال: - «والله إنّك لتعلم أنّى لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلنى فى أصحابه.» فلمّا رأى محمد بن جعفر ذلك، قال لأهل مكّة: - «آمنونى حتّى أركب إليه وآخذ الغلام.» فآمنوه فركب بنفسه حتّى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلّمه إلى أهله. فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتّى أقبل إسحاق بن موسى العباسي إليهم، فاجتمع العلويّون إلى محمد بن جعفر وقالوا: - «هذا إسحاق بن موسى مقبلا إلينا فى الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقا وتبرز شخصك ليراك الناس فيتحاربوا معك.» وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب ففرضوا لهم وخندقوا بأعلى مكّة. فورد إسحاق وقاتلهم أيّاما ثمّ كره إسحاق الحرب وخرج يريد العراق. فلقيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 ورقاء بن جميل ومن كان معه من أصحاب الجلودي فقالوا لإسحاق: - «إرجع معنا إلى مكّة ونحن نكفيك القتال.» فرجع معهم واجتمع إلى محمد [140] من كان معه، فتقاتلوا عند بئر ميمون يوما ثمّ عاودهم بعد ذلك بيوم، فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن جعفر. فبعث محمد بن جعفر رجالا من قريش فيهم قاضى مكّة يسألون لهم الأمان حتّى يخرجوا من مكّة ويذهبوا حيث شاءوا. فأجابهم إسحاق وورقاء إلى ذلك وأجّلوهم ثلاثة أيّام. ثمّ دخل إسحاق وورقاء مكّة وتفرّق الطالبيّون وأخذ كلّ قوم ناحيته. وفى هذه السنة شخص هرثمة من معسكره إلى المأمون بمرو [1] ذكر خروج هرثمة ومراغمته للحسن والفضل وما آل إليه أمره لمّا فرغ هرثمة من أمر أبى السرايا ومحمد بن محمد العلوي ودخل الكوفة، أقام فى معسكره أيّاما. ثمّ أتى نهر صرصر والناس يظنّون أنّه يأتى الحسن بن سهل بالمدائن. فلمّا بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف [2] ، ثمّ أتى البردان ثمّ أتى النهروان. ثمّ سار حتّى أتى خراسان فاستقبلته كتب من المأمون فى غير منزل أن يرجع فيلي الشام والحجاز. فأبى وقال: - «لا أرجع حتّى ألقى أمير المؤمنين.» إدلالا منه عليه لما كان يعرف من نصيحته له ولآباءه وأراد أن يعرّف المأمون ما يدبّر عليه الفضل بن سهل وما يكتم عنه من [141] الأخبار، وألّا يدعه حتّى يردّه إلى بغداد دار خلافة آباءه وملكهم، ليتوسّط سلطانه ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل ما يريد   [1] . انظر الطبري (11: 996) . [2] . فى آ: عقرقوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 فقال للمأمون: - «إنّ هرثمة قد أنغل عليك العباد والبلاد، وظاهر عليك عدوّك، وعادى وليّك، ولقد دسّ أبا السرايا وإنّما هو بعض خوله، حتّى عمل ما عمل. ولو شاء هرثمة ألّا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله.» وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدّة كتب أن يرجع فيلي الشام والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيا مشاقّا يظهر القول الغليظ ويتوعّد بالأمر الجليل وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب المأمون عليه. وأبطأ هرثمة فى المسير. فلم يصل إلى خراسان إلّا فى شهور. فلمّا بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون. فسمعها فقال: - «ما هذا؟» قالوا: «هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق.» وظنّ هرثمة أنّ قوله هو المقبول فأمر بإدخاله فلمّا دخل كان قد أشرب قلب المأمون ما أشرب فقال له: - «يا هرثمة مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت [142] ودسست إلى أبى السرايا حتّى خلع وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك ولو أردت أن تأخذهم جميعا لفعلت، ولكنّك أرخيت خناقهم وأجررت لهم رسنهم.» فذهب هرثمة ليتكلّم ويعتذر ويدفع عن نفسه ما قرف به، فلم يقبل ذلك منه وأمر به فوجئ على أنفه وديس فى بطنه وسحب من بين يديه. وكان تقدّم الفضل بن سهل إلى الأعوان فى الغلظة عليه والتشديد، حتّى حبس. ثمّ دسّ إليه، بعد أن أذلّه من قتله. وقالوا مات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 هياج الشغب ببغداد بين الحربيّة والحسن بن سهل وفى هذه السنة هاج [1] الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل. ذكر السبب فى ذلك لمّا خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا: - «لا نرضى حتّى نطرد الحسن بن سهل وعمّاله عن بغداد.» وكان من عمّاله بها محمد بن أبى خالد، وأسد بن أبى الأسد. فأخرجوهم وطردوا أسبابهم، وصيّروا إسحاق بن موسى بن المهدى خليفة للمأمون ببغداد، فاجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به. وكان الحسن بن سهل مقيما بالمدائن [143] منذ شخص هرثمة إلى خراسان وإلى أن اتصل بأهل بغداد خبر هرثمة وما صنع به المأمون. فلمّا علم الحسن بن سهل أنّ أهل بغداد قد وقفوا على ذلك أرسل إلى علىّ بن هشام، وهو والى بغداد من قبله أن: - «امطل جند الحربية والبغداديين أرزاقهم ومنّهم ولا تعطهم.» فلمّا وثب أهل بغداد بأصحابه دسّ إلى قوم من قوّادهم أن يشغّبوا على إسحاق بن موسى. فشغّبوا، فحوّل الحربية لإسحاق إليهم وأنزلوه على دجيل، وبعث الحسن بن سهل علىّ بن هشام من الجانب الآخر وجاء هو ومحمد بن أبى خالد وقوّادهم ليلا حتّى دخلوا بغداد، فقاتل الحربية ثلاثة أيّام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرجاء. ثمّ إنّه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة فسألوه أن   [1] . فى آ: صاح، وهو تصحيف. ومط كالأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 يعجّل لهم خمسين درهما لكلّ رجل لينفقوها فى شهر رمضان. فأجابهم إلى ذلك ثمّ دافعهم بها ولم يف لهم بإعطاء الخمسين، فشدّوا على علىّ بن هشام فطردوه. وكان المتولّى ذلك والقيّم بأمر الحربية محمد بن أبى خالد وذلك أنّ علىّ بن هشام كان يستخفّ به ويضع من مقداره. ووقع بين محمد بن أبى خالد وأزهر بن زهير بن المسيّب [144] كلام فقنّعه أزهر بالسوط. فغضب محمد وتحوّل إلى الحربية واجتمع إليه الناس فلم يقربهم [1] علىّ بن هشام حتّى أخرجوه من بغداد. وفى هذه السنة تقدّم المأمون بإحصاء ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر وأنثى. ودخلت سنة إحدى ومائتين مراودة أهل بغداد منصور بن المهدى على الخلافة وفيها راود أهل بغداد منصور بن المهدى على الخلافة فامتنع من ذلك عليهم فراوده على الإمرة عليهم على أن يدعو للمأمون بالخلافة فأجابهم إلى ذلك. ذكر السبب فى ذلك لمّا أخرج أهل بغداد علىّ بن هشام منها واتصل الخبر بالحسن بن سهل وكان بالمدائن انهزم حتّى صار إلى واسط، فتبعه محمد بن أبى خالد مخالفا له، وقد تولّى القيام بأمر الناس، وولّى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب   [1] . كذا فى الأصل: فلم يقربهم. ما فى آمهمل. فى تد (430) : فلم يقرّ بهم. وفى الطبري (11: 1000) : فلم يقو بهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 الغربي، ونصر بن حمزة بن مالك الجانب الشرقي. وكانفه ببغداد منصور بن المهدى وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع، وقد كان الفضل بن الربيع مختفيا قبل قتل المخلوع. فلمّا رأى محمد بن أبى خالد قد بلغ واسطا بعث إليه يطلب [145] منه الأمان فأعطاه إيّاه. وظهر [1] وقدم على محمد بن أبى خالد ابنه عيسى من عند طاهر بن عيسى فاجتمع مع أبيه على قتال الحسن فتعبّأ محمد بن أبى خالد للقتال وتقدّم هو وابنه عيسى مع أصحابهما حتّى صاروا على ميلين من واسط. فوجّه إليهم الحسن أصحابه وقوّاده فاقتتلوا قتالا شديدا عند أبيات واسط. فلمّا كان بعد العصر هبّت ريح شديدة وغبرة حتّى اختلط القوم بعضهم ببعض فكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن أبى خالد فثبت، فأصابته جراحات شديدة فى جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فقتل أصحاب الحسن منهم وسلبوا حتّى بلغوا فم الصلح [2] وقلعت الريح ما كان معهم من سفن فيها متاع وسلاح، حتّى أدخلها واسطا فأخذها أصحاب الحسن وتبعوه، ولم يزل يقاتلهم فى كلّ منزل بالنهار، ثمّ يرتحل بالليل حتّى بلغ جرجرايا فاشتدّت به الجراحات. فأمر قوّاده أن يقيموا فى عسكره، وحمله ابنه المعروف بأبى زنبيل حتّى أدخله بغداد ومات محمد من ليلته ودفن فى داره سرّا. وكان زهير بن المسيّب محبوسا عند جعفر بن محمد بن أبى خالد [146] فلمّا قدم أبو زنبيل مضى إلى خزيمة بن خازم فأعلمه خبر أبيه وأوصل إليه   [1] . بياض فى الأصل بقدر كلمة، ولكن لا يوجد مكان هذا البياض شيء فى كلّ من آومط وتد (431) . والعبارة لا توجد فى الطبري بهذه الصورة (11: 1003) . [2] . فم الصلح: نهر كبير، وعند فمه كانت دار الحسن بن سهل وفيه بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل. (مراصد الإطلاع) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 كتابا عن أخيه عيسى. فبعث خزيمة إلى بنى هاشم والقوّاد فأعلمهم الخبر وقرأ عليهم كتاب عيسى بن [1] محمد بن أبى خالد إليه وأنّه يكفيهم الحرب، فرضوا به. وصار عيسى مكان أبيه وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتّى أتى زهير بن المسيّب، فأخرجه من محبسه وضرب عنقه ونصب رأسه على رمح وأخذوا جسده، فشدّوا فى رجله حبلا وطافوا به على دوره ودور أهل بيته، ثمّ أداروا [2] به فى الكرخ وردّوه إلى باب الشام، ولمّا جنّ عليهم الليل رموه فى دجلة. ورجع أبو زنبيل إلى أخيه عيسى، فوجّهه عيسى إلى فم الصراة، وبلغ الحسن بن سهل موت محمد بن أبى خالد، فخرج من واسط ووجّه حميد بن عبد الحميد الطوسي وسعيد بن الساجور وغيره من القوّاد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه فانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، ثمّ رجعوا إلى هارون فقاتلوه وهزموه مع أخيه أبى زنبيل، فخرجا هاربين إلى المدائن وبلغ الخبر بنى هاشم وقوّاد بغداد، فجدّوا فى الخلاف على الحسن بن سهل وقالوا: - «لا نرضى [147] بالمجوسي بن المجوسي بن سهل حتّى نطرده ويرجع إلى خراسان ونخلع المأمون.» وتراضوا أيّاما. ثمّ أرادوا منصور بن المهدى على أن يعقدوا له الخلافة فأبى عليهم. فما زالوا به حتّى صيّروه أميرا وخليفة للمأمون بالعراق. وقوى أمر عيسى بمن ذكرنا وكثر جنده فأمره باحصائهم فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفا بين فارس وراجل. فأعطى الفارس أربعين درهما والراجل عشرين درهما.   [1] . كذا فى الأصل: عيسى بن محمد. فى آ: عيسى ومحمد. [2] . كذا: أداروا به. فى آ: داروا به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 نكير المطوّعة على الفسّاق ببغداد وفى هذه السنة تجرّدت المطوّعة للنكير على الفسّاق ببغداد ورئيسهم خالد الدريوش [1] وسهل بن سلامة الأنصارى من أهل خراسان. ذكر السبب الذي فعلت المطوّعة له ذلك كان فسّاق الحربية والشطّار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق. فكانوا يأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم، فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكابرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغيره لا سلطان [148] يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأنّ السلطان كان يعتزّ بهم فكان لا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارّة فى الطرق والسفن، ويخفرون البساتين، وكان الناس منهم فى بلاء عظيم. وخرجوا يوما إلى قطربّل [2] ، فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضّة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، فأدخلوها بغداد وجعلوا يبيعونها علانية. فلمّا رأى الناس ذلك وظهور البغي والفسق والنهب، وأنّ السلطان لا يغيّره، مشى بعضهم إلى بعض وقام صلحاء كلّ ربض ودرب، فمشى بينهم أماثلهم وقالوا:   [1] . انظر الطبري (11: 1008) . [2] . قطربّل: قرية بين بغداد والمرزفة، وإليها ينسب الطسّوج الذي هي فيه، فيقال: طسّوج قطربّل. (مراصد الإطلاع) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 - «يا قوم إنّما فى كلّ درب فاسق واثنان إلى عشرة، وعددكم بعد أكثر. فلو اجتمعتم حتّى يكون أمركم واحدا لقمعتم هؤلاء الفسّاق واحتشموكم.» فقام رجل من طريق الأنبار يعرف بالدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلّته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك. فشدّ على من يليه من الفسّاق والشطّار، فمنعهم ممّا كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه فقاتلهم وهزمهم وأخذ بعضهم فضربهم [149] وحبسهم. قيام سهل بن سلامة ثمّ قام بعده رجل آخر يقال له: سهل بن سلامة الأنصارى من أهل خراسان، وتكنّى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه محمد- صلّى الله عليه- وعلّق مصحفا فى عنقه، ثمّ بدأ بجيرانه وأهل محلّته فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثمّ دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف منهم والوضيع، وجعل ديوانا يثبت فيه اسم من أتاه يبايعه على ذلك وقتال من خالفه كائنا من كان، فأتاه خلق كثير فبايعوه. ثمّ إنّه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ومنع كلّ من يخفر ويجبى المارّة وقال: - «لا خفارة فى الإسلام.» والخفارة أنّ الرجل منهم كان يأتى إلى من له دار أو بستان أو تجارة فيقول: - «أنت فى خفرتى لا يتعرّض أحد لمالك، أدفع من أرادك بسوء ولى فى عنقك كلّ شهر كذا وكذا درهما.» فيعطيه. وقوى على ذلك فقمع أهل الشرّ وكان يخالفه الدريوش فى أنّه كان لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 يغيّر على السلطان شيئا ولا يخالفه ولا يقاتله ويقول: - «أنا لا أرى مخالفة أمر السلطان بشيء.» وقال سهل بن سلامة: - «أنا أرى قتال كلّ من خالف الكتاب والسنّة [150] كائنا من كان.» فلمّا فشا ذلك وقوى [1] ، ضعف أمر منصور بن المهدى وعيسى بن محمد بن أبى خالد لأنّ معظم أصحابهم الشطّار ومن لا خير فيه، فكسرهم ذلك. ودخل منصور بن المهدى بغداد فكاتب الحسن بن سهل وسأله الأمان له ولأهل بيته على أن يعطى الحسن جنده وسائر أهل بغداد من المرتزقة رزق ستّة أشهر إذا أدركت الغلّة. فأجابه الحسن إلى ذلك. وارتحل الحسن من معسكره فدخل بغداد وتقوّضت تلك العساكر وأشرك بين عيسى ويحيى بن عبد الله ابن عم الحسن بن سهل فى ولاية السواد وأعمال بغداد. وكان أهل عسكر المهدى مخالفين لعيسى. فوثب المطّلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل. فامتنع عليه سهل بن سلامة وقال: - «ليس على هذا بايعتني.» وتحوّل منصور بن المهدى وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع وكانوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنّة، فنزلوا بالحربية هربا من المطّلب، وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن وبعث الى المطّلب، فأبى أن يجيبه فقاتله سهل أيّاما قتالا شديدا ثمّ اصطلح عيسى والمطلب، فدسّ [151] عيسى إلى سهل من اغتاله وضربه بالسيف ضربة لم يعمل كبير عمل. فلمّا اغتيل سهل رجع إلى منزله وقام عيسى بأمر الناس فكفّوا عن القتال.   [1] . فى مط: وقوى أمره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 ثمّ بعث عيسى إلى سهل بن سلامة، فاعتذر إليه ممّا صنع وبايعه، وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأنّه عونه على ذلك، فعاد سهل إلى ما كان عليه. المأمون يجعل علىّ بن موسى (ع) ولىّ عهد المسلمين وفى هذه السنة جعل المأمون علىّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب [1] ولىّ عهد المسلمين، والخليفة من بعده، وسمّاه: الرضا من آل محمد، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق. ذكر الخبر عن ذلك وسببه وما آل إليه الأمر بينا عيسى بن محمد بن أبى خالد يعرض أصحابه منصرفه من معسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل، يعلمه أنّ أمير المؤمنين المأمون قد جعل علىّ بن موسى ولىّ عهده من بعده، وأنّه نظر فى بنى العباس وبنى علىّ فلم يجد أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه: الرضا من آل محمد، وأمره بطرح السواد، ولبس ثياب الخضرة، [152] وذلك فى شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند وبنى هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة فى أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم ويأخذ أهل بغداد بذلك. فلمّا أتى عيسى ذلك دعا أهل بغداد إلى ذلك، على أن يعجّل لهم رزق   [1] . وزاد فى مط: رضي الله عنهم، كما فى الطبري (11: 1012) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 شهر، والباقي إذا أدركت الغلّة. فقال بعضهم: - «نبايع ونلبس الخضرة.» وقال بعضهم: - «لا نبايع ولا نخرج هذا الأمر من ولد العبّاس، وإنّما هذا دسيس من قبل الفضل بن سهل.» وغضب بنو العبّاس، ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا: - «نولّى بعضنا ونخلع المأمون.» وكان المتكلّم فى هذا والساعي له منصور وإبراهيم ابنا المهدى. أهل بغداد يبايعون ابراهيم بن المهدى بالخلافة وفى هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدى بالخلافة وخلعوا المأمون [1] . ذكر السبب فى ذلك قد ذكرنا ما أنكره العباسيون ببغداد على المأمون حتّى أخرجوا الحسن بن سهل عن بغداد. فلمّا ورد أمره بالبيعة لعلىّ بن موسى ولبس الخضرة وأخذ الناس به، أرادوا [153] أن يبايعوا إبراهيم بن المهدى بالخلافة ويخلعوا المأمون، وبذلوا للجند عشرة دنانير لكلّ واحد منهم. فاضطرب الناس وقبل بعضهم ورضى وأبى قوم وامتنعوا، فاجتمعوا وأمروا رجلا يقول يوم الجمعة حين يؤذّن المؤذّن:   [1] . انظر الطبري (11: 1013) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 - «إنّا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده إبراهيم يكون [1] خليفته والنائب عنه.» ودسّوا قوما آخرين يقولون: - «إذا قام هذا الرجل وقال ما عنده لا نرضى إلّا أن تبايعوا لإبراهيم بالخلافة وتخلعوا المأمون، أتريدون أن تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثمّ تجلسوا فى بيوتكم؟» فقال يوم الجمعة هذا الرجل ما وصّوه به، وقام الآخرون فقالوا ما وصّوا به، وماج الناس، فلم يصلّ تلك الجمعة ولا خطب أحد وإنّما صلّى الناس بعد ما حسّوا الفوت أربع ركعات وانصرفوا. تحرّك بابك الخرّمى فى الجاويذانيّة وفى هذه السنة تحرّك بابك الخرّمى فى الجاويذانية أصحاب جاويذان بن سهل صاحب البذّ [2] ، وادّعى أنّ روح جاويذان دخل فيه، وأخذ فى العيث والفساد. ودخلت سنة اثنتين ومائتين [154] فلمّا كان يوم الجمعة لخمس خلون من المحرّم أظهروا أمر إبراهيم، وصعد إبراهيم المنبر، فكان أوّل من بايعه عبيد الله بن العباس بن محمد، ثمّ منصور بن المهدى، ثمّ سائر بنى هاشم وكان المتولّى لأخذ البيعة المطّلب بن عبد الله بن مالك وقام فى ذلك السندي وصالح صاحب المصلّى ومنجاب [3]   [1] . فى آ: على أن يكون. [2] . فى آ: صاحب البند. وفى مط: صاحب اليد: والطبري (11: 1015) كالأصل. [3] . الثالث غير واضح فى الأصل، وما أثبتناه يوافق الطبري (11: 1016) وما فى آمهمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 ونصير الوصيف وسائر الموالي- إلّا أنّ هؤلاء كانوا الرؤساء- غضبا منهم على المأمون حين أراد الخروج، وإخراج ولد العباس من الخلافة، ولتركه لباس آباءه. ولمّا فرغ من ذلك وعد الجند أن يعطيهم أرزاقهم لستّة أشهر فدافعهم بها. فلمّا رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطى كلّ رجل منهم مائتي درهم وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة ما لهم حنطة وشعيرا، فخرجوا فى قبضها، فلم يمرّوا بشيء إلّا انتهبوه، وأخذوا النصيبين جميعا. وخرج على إبراهيم بن المهدى، مهدى بن علوان الحرورىّ فحكّم وظهر ببزرج [1] سابور، وغلب على الراذانين ونهر بوق. فوجّه إبراهيم إليه أبا إسحاق ابن الرشيد فى جماعة من القوّاد كثيرين، وكان مع أبى إسحاق غلمان له أتراك، فلقوا [155] الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق فحامى عنه غلام تركىّ، وقال له: - «يا مولاي، مرا بشناس.» فسمّاه يومئذ: أشناس. إنفاذ العباس بن موسى بن جعفر إلى الكوفة وأنفذ الحسن بن سهل العباس بن موسى بن جعفر، وهو أخو علىّ بن موسى الرضا، إلى الكوفة وأمره بلباس الخضرة، وأن يدعو أوّلا للمأمون ومن بعده لأخيه علىّ بن موسى، وأعانه بمائة ألف درهم وقال له: - «قاتل عن أخيك، فإنّ أهل الكوفة يجيبونك وأنا معك.» وكانت الكتب نفذت من جهة إبراهيم بن المهدى إلى الكوفة بتقلّده الأمر   [1] . فى تد (438) : برزخ، وهو تصحيف. برزج سابور من طساسيج بغداد (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وقيامه بإمرة المؤمنين وخلع المأمون، ونفذت الكتب من جهة الحسن بن سهل بما رآه المأمون وكثر الخلاف. وكانت لهم أخبار لا يليق ذكرها بهذا الكتاب إذ كانت فتنا لا تجربة فيها وحروبا يقتل فيها بعض الناس بعضا من غير تدبير لطيف ولا مكر بديع، وإنّما كانت مصالتات بالسيوف، فمرّة يكون لهؤلاء ومرّة لهؤلاء. فلمّا بلغ خبر العباس بن موسى بن جعفر العلوي أهل الكوفة، أجابه قوم كثيرون وقال قوم آخرون: - «إن كنت إنّما تدعو إلى المأمون ثمّ من بعده إلى أخيك، فلا حاجة لنا فى دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك أو إلى نفسك [156] أجبناك.» فقال: «إنّما أدعو إلى المأمون ثمّ من بعده لأخى.» فقعد عنه المستبصرون فى التشيّع. وكان يظهر أنّ حميدا يأتيه ويعينه ويقويّه، وأنّ الحسن بن سهل يوجّه [1] إليه قوما مددا له، فلم يأته منهم أحد، وتوجّه إليه أصحاب إبراهيم بن المهدى فهمزموه. وكان كلّ فريق من أصحاب الخضرة والسواد ينهبون ويحرقون. ثمّ أمر إبراهيم بن المهدى عيسى بن محمد بن أبى خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر جماعة أن يسيروا ممّا يلي جوخى [2] حتّى عسكروا قرب واسط ممّا يلي الصيّادة وعليهم عيسى بن محمد بن أبى خالد، فتحصّن منهم الحسن بن سهل، فكان لا يخرج إليهم. ثمّ تهيّأ بعد أيّام الحسن للقتال فظنّ الناس أنّ ذلك لنظره فى النجوم. ثمّ اختار يوما فخرجوا إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الظهر، ووقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه فانهزموا، فأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان فى عسكرهم من سلاح   [1] . فى آ: توجّه. [2] . جوخى: نهر عليه كورة واسعة فى سواد بغداد (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 ودوابّ ومتاع وغير ذلك. ظفر إبراهيم بسهل المطوّعى وفى هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدى بسهل بن سلامة المطوّعى فحبسه وعاقبه. وكان السبب فى ذلك [157] أنّ عيسى لمّا انهزم، أقبل هو وإخوته وأصحابه نحو سهل بن سلامة، لأنّه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم ويسمّيهم الفسّاق، ليس لهم عنده اسم غيره. وكان أصحابه- الذين بايعوه على الكتاب والسنّة وألّا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق- وقد عمل كلّ رجل منهم على باب داره برجا بجصّ وآجر، وقد نصب عليه السلاح والمصاحف حتّى بلغوا من الحربية إلى باب الشام سوى من أجابه من الكرخ وسائر الناس. فلمّا قصده عيسى لم يمكنه الوصول إليه. فأعطى أصحاب الدروب التي تقرب منه، الألف درهم والألفى درهم، على أن يتنحّوا له عن الدروب. فأجابوه إلى ذلك وكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمان ونحو ذلك. فلمّا كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيّئوا له من كلّ وجه وخذله أهل الدروب حتّى وصلوا إلى مسجده ومنزله. فلمّا رآهم قد وصلوا إليه اختفى منهم وألقى سلاحه واختلط بالنظارة ودخل بين النساء. فدخلوا منزله فلم يظفروا به وأذكوا عليه العيون. فلمّا كان فى الليل أخذوه فى بعض الأزقّة فأتوا به إسحاق بن موسى الهادي وهو ولىّ [158] عهد عمّه إبراهيم وهو بمدينة السلام، فكلّمه وحاجّه وجمع بينه وبين أصحابه وقال له: - «حرّضت علينا الناس وعبت أمرنا.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 فقال له: - «إنّما كانت دعوتي عباسية، وإنّما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنّة، وأنا على ما كنت عليه، أدعوكم إليه الساعة.» فقالوا: «لا نقبل ما تقول، اخرج إلى الناس وقل لهم إنّ ما كنت أدعوكم إليه باطل.» فقال: «نعم.» فأخرج إلى الناس فقال: - «يا معشر الناس قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنّة وأنا أدعوكم إليه الساعة.» فلمّا قال لهم هذا وجئوا [1] فى عنقه وضربوا وجهه. فقال لهم: - «يا معشر الحربية، المغرور من غررتموه؟» فأخذ وأدخل إلى إسحاق فقيّده، ثم أخرجوه إلى إبراهيم بن المهدى بالمدائن فحبسه مع قوم من أصحابه. وأشاعوا أنّ عيسى قتله تخوّفا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه. وكان بين خروجه وبين أخذه إثنا عشر شهرا. شخوص المأمون من مرو إلى العراق وفى هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق [2] . والسبب فى ذلك أنّ علىّ بن موسى بن جعفر الرضا أخبر [159] المأمون بما فيه الناس من   [1] . فى الأصل: وجؤا. [2] . انظر الطبري (11: 1025) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 الفتنة والقتال منذ قتل أخوه محمد، وبما كان الفضل بن سهل يستره عنه من أخبار الناس، وأنّ أهل بيته قد نقموا عليه أشياء، وأنّهم يقولون إنّه مسحور مجنون، وأنّهم لمّا رأوا ذلك بايعوا إبراهيم بن المهدى بالخلافة [1] . فقال له المأمون: - «إنّهم ما بايعوه بالخلافة وإنّما صيّروه أميرا يقوم بأمرهم على ما كان أخبره به الفضل.» فأعلمه أنّ الفضل قد كذبه وغشّه، وأنّ الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن، وأنّ الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتي من بعدك.» فقال: «ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟» فقال له: - «يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدّة من وجوه أهل العسكر.» فقال له: - «أدخلهم علىّ حتّى أسائلهم عمّا ذكرت.» فأدخلهم علىّ وهم هؤلاء وجماعة آخرون فيهم علىّ بن أبى سعيد وهو ابن أخت الفضل، فسألهم المأمون عمّا أخبره به علىّ بن موسى الرضا، فأبوا أن يخبروه حتّى يجعل لهم [2] الأمان من الفضل بن سهل ألّا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم وكتب لكلّ رجل منهم كتابا بخطّه ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن وبيّنوا ذلك له وأخبروه بغضب [160] أهل بيته ومواليهم وقوّاده فى أشياء كثيرة، وبما موّه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأنّ هرثمة إنّما جاء لنصحه وليبيّن له ما يعمل عليه وأنّه إن لم يتدارك أمره خرجت   [1] . فى آ: بايعوا عمّه ابراهيم بن المهدى (بزيادة «عمّه» ) . [2] . لهم ما فى الأصل مطموس. فأثبتنا الكلمة على ما فى آوالطبري (11: 1025) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 الخلافة من يده ومن أهل بيته، وأنّ الفضل دسّ إلى هرثمة من قتله حين أراد نصحه، وأنّ طاهر بن الحسين قد أبلى فى طاعته ما أبلى وافتتح له ما افتتح وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتّى إذا وطّأ له الأمر أخرج من ذلك كلّه وصيّر فى زاوية من الأرض بالرقّة وقد حظرت عليه الأموال حتّى ضعف أمره وشغب عليه جنده، ولو أنّه كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ عليه من الحسن بن سهل، وأنّ الدنيا قد تفتّقت من أقطارها، وأنّ طاهر بن الحسين قد تنوسى فى هذه السنين منذ قتل محمد، فهو بالرقّة لا يستعان به فى شيء من هذه الحروب، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد وقالوا: - «إنّ بنى هاشم والموالي والقوّاد لو قد رأوا عزّتك سكنوا وبخعوا بالطاعة لك.» فلمّا تحقّق ذلك عنده أمر بالرحيل إلى بغداد. فلمّا أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض أمرهم فتعنّتهم حتّى ضرب [161] بعضهم بالسياط وحبس بعضا ونتف لحى بعض. فعاوده علىّ بن موسى فى أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم. فقال له: - «إنّى أدارى أمرى وسأبلغ ما فيه الصلاح بمشيئة الله.» قتل الفضل بن سهل فى الحمّام بضرب السيوف ثمّ ارتحل من مرو. فلمّا أتى سرخس شدّ قوم على الفضل بن سهل وهو فى الحمّام فضربوه بالسيوف حتّى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين. وكان الذين قتلوه أربعة نفر من حشم المأمون: غالب بن الأسود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 الشّعوذى، [1] وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفّق الصقلبى- وقتل الفضل وله ستّون سنة- وهربوا. فبعث المأمون فى طلبهم وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار فجيء بهم، فساءلهم المأمون فقال بعضهم: - «إنّ علىّ بن أبى سعيد بن أخت الفضل دسّهم.» ومنهم من أنكر. وقد حكى أنّ منهم من قال: - «أنت أمرتنا بقتله.» فأمر المأمون بهم، فضربت أعناقهم. ثمّ بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلىّ ومونس [2] وغيرهم ممّن كانوا سعوا بالفضل إليه، فساءلهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك. فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل [162] الفضل، وأنّه قد صيّره مكانه. ورحل المأمون من سرخس نحو العراق وقد كان المطّلب بن عبد الله بن مالك يدعو فى السرّ إلى المأمون وإلى خلع إبراهيم على أنّ منصور بن المهدى خليفة المأمون. فأجابه منصور وخزيمة وجماعة من القوّاد، وكاتب المطّلب حميدا وعلىّ بن هشام أن يتقدّما فنزل حميد صرصر وعلىّ النهروان، وتحقّق عند إبراهيم الخبر، فخرج من المدائن إلى نحو بغداد وطلب المطّلب وأصحابه، فامتنع المطّلب فنادى:   [1] . الشعوذى: كذا فى الأصل. فى آ: الشعورى. فى مط: السعودى. فى الطبري (11: 1027) : المسعودي، كما فى تد (443) . فى حواشي تد: الشعودى. [2] . كذا فى الأصل ومط وتد (443) : مونس. ما فى آمهمل. فى الطبري (11: 1027) : موسى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 - «من أراد النهب فليأت دار المطّلب.» فانتهبوا داره ودور أهل بيته ولم يظفر به. وندم إبراهيم حيث صنع بالمطّلب ما صنع ثمّ لم يظفر به. وبلغ الخبر حميدا وابن هشام. فأمّا حميد فبعث من جهته من أخذ المدائن وقطع الجسر ونزلها. وأمّا علىّ بن هشام فبعث من جهته من أتى نهر ديالى وقطع الجسر. زواجات ثلاثة وفى هذه السنة تزوّج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وزوّج علىّ بن موسى الرضا ابنته أمّ حبيب، وزوّج محمد بن علىّ بن موسى ابنته أمّ الفضل. ودخلت سنة ثلاث ومائتين [163] وفى هذه السنة مات علىّ بن موسى الرضا [عليه السلام] [1] وذلك بطوس ذكر الخبر عن ذلك لمّا صار إليها المأمون أقام عند قبر أبيه أيّاما، ثمّ إنّ علىّ بن موسى- على ما حكى- أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة، [2] فأمر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد. وكتب إلى الحسن بن سهل بذلك وإلى وجوه بنى العبّاس والموالي ويعرّفهم أنّهم إنّما نقموا بيعته له من بعده ويسألهم الدخول فى طاعته. ورحل المأمون إلى بغداد، فلمّا صار إلى الرىّ أسقط من وظيفتها ألفى ألف درهم.   [1] . التسليم ليس فى الأصل ولا فى مط وتد. [2] . نقل مسكويه الخبر عن الطبري دون أىّ تعليق! انظر الطبري (11: 1030) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 غلبة السّوداء على الحسن بن سهل وفى هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل حتّى شدّ فى الحديد وحبس. وكتب بذلك قوّاد الحسن إلى المأمون فأتاهم الجواب: أن يكون على عسكره دينار بن عبد الله ويعلمهم أنّه قادم على إثر كتابه. ضرب ابراهيم بن المهدى، عيسى بن محمد وفى هذه السنة ضرب إبراهيم بن المهدى، عيسى بن محمد بن أبى خالد وحبسه. ذكر السبب فى ذلك كان عيسى بن محمد يكاتب حميدا والحسن ويظهر لإبراهيم طاعة ونصيحة، وكلّما قال [164] له إبراهيم: تهيّأ لقتال حميد، تعلّل عليه بأرزاق الجند وأشباه ذلك، حتّى واقف الحسن وحميدا على أن يسلّم إبراهيم إليهم يوم الجمعة انسلاخ شوّال. وسعى بعيسى بعض أهله إلى إبراهيم وكان عيسى سأل إبراهيم أن يصلّى الجمعة بالمدينة فأجابه إلى ذلك، فلمّا تكلّم عيسى بما بلغه وسعى إليه حذر وبعث إلى عيسى يسأله أن يصير إليه ليناظره فى بعض أموره. فلمّا صار إليه عاتبه ساعة فأخذ عيسى ينكر بعض ما يقول. فلمّا واقفه على أشياء وعلامات أمر به فضرب وحبسه، وأخذ أمّ ولد له وصبيانا صغارا فحبسهم، وطلب خليفة له يقال له العبّاس فاختفى. فلمّا عرف أهل بيت عيسى وإخوته وأصحابه خبره مشى بعضهم إلى بعض وحرّضوا الناس على إبراهيم فاجتمعوا، وكان رأسهم العبّاس خليفته، فشدّوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه وقطعوا الجسر وطردوا كلّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 عامل لإبراهيم فى الكرخ وغيره فى الجانب الغربي. وكتب العبّاس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم حتّى يسلّموا إليه بغداد. فجاء حميد حتّى نزل نهر صرصر طريق الكوفة وخرج إليه قوّاد أهل بغداد، فوعدهم ومنّاهم فقبلوا ذلك منه، ووعدهم [165] أن يضع لهم العطاء فى الياسرية على أن يصلّوا يوم الجمعة فيدعوا للمأمون، ويخلعوا إبراهيم. فأجابوه إلى ذلك. فبلغ ذلك إبراهيم فأخرج عيسى من الحبس وسأله أن يكفيه أمر هذا الجانب وأخذ منه كفلاء، [1] فعبر إليهم عيسى واخوته مع قوّاد الجانب الشرقي وعرض عليهم العطاء، فشتموه وقالوا: - «لا نرضى إبراهيم.» احتيال من عيسى ثمّ تكاثر الناس على عيسى، فانصرف بأصحابه نحو باب خراسان، ثمّ رجع عيسى كأنّه يريد قتالهم واحتال حتّى صار فى أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قوّاده فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه، فاغتمّ وقلق، وقد كان المطّلب مستترا فظهر ليلحق بحميد فغمز به فأخذ وحمل إلى إبراهيم فحبسه. ثمّ عرف إبراهيم انخراق [2] الأمر فأطلقه وأطلق سهل بن سلامة وكان عند الناس أنّه مقتول. فلمّا دخل حميد بغداد أخرجه إبراهيم. وكان يدعو فى مسجد الرصافة كما كان يدعو. فإذا كان الليل ردّه إلى حبسه. فلمّا كان بعد أيّام خلّى سبيله فذهب واستتر. وكثر العيث ببغداد وظهر الشطّار والعيّارون، واختفى الفضل بن الربيع،   [1] . كذا فى الأصل وآ: كفلاء. فى مط: كفيلا. [2] . فى مط: انحراف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 وأخذ القوّاد وبنو هاشم يلحقون بحميد واحدا واحدا، فسقط فى يد إبراهيم وشقّ [1] [166] عليه مداواة أمره. ذكر الخبر عن هرب إبراهيم بن المهدى واستتاره وأخذ إبراهيم يدارى أصحابه يوم الثلاثاء لاثنتي عشر ليلة بقيت من ذى الحجّة سنة ثلاث ومائتين. فلمّا جنّ به الليل هرب واستتر، وبعث المطّلب إلى حميد: - «إنّى قد أحدقت بدار إبراهيم.» وكتب إلى علىّ بن هشام بمثل ذلك. فأقبلوا إلى دار إبراهيم فطلبوه فيها فلم يجدوه. ولم يزل إبراهيم متواريا حتّى قدم المأمون، وكان من أمره ما كان. وكانت أيّام إبراهيم كلّها سنة وأحد عشر شهرا واثنى عشر يوما. وغلب علىّ بن هشام على شرقىّ بغداد وحميد بن عبد الحميد على غربيّها. ودخلت سنة أربع ومائتين قدوم المأمون العراق والرجوع إلى لبس السواد وفيها قدم المأمون العراق وانقطعت مادّة الفتن ببغداد. ذكر الخبر عن ذلك لمّا صار المأمون إلى النهروان أقام ثمانية أيّام، وخرج إليه أهل بيته   [1] . فى مط: وشتى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وقوّاده ووجوه الناس، وكان كتب إلى طاهر وهو بالرقّة أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها ثمّ. دخل مدينة السلام ولباسه ولباس أصحابه: أقبيتهم وقلانسهم وطرزهم [1] وأعلامهم كلّها، [167] الخضرة [2] وطاهر معه، فلم يكن يدخل إليه أحد من القوّاد والناس كافّة إلّا فى ثياب خضر مدّة، ثمّ تكلّم فى ذلك بنو العبّاس خاصّة وخاطبوا طاهر بن الحسين وكاتبه أيضا قوّاد خراسان. وكان المأمون أمر طاهر أن يسأله حوائجه. فكان أوّل حاجة سأله أن يرجع إلى لبس السواد وزىّ دولة الآباء. فلمّا رأى المأمون طاعة الناس له فى لبس الخضرة مع كراهتهم لها جمع الناس. ثمّ دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهرا. ثمّ دعا لقوّاده بخلع السواد، وطرح الناس الخضرة. ودخلت سنة خمس ومائتين ولاية طاهر بن الحسين وفيها ولّى المأمون طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق. ذكر السبب فى ذلك كان المأمون ولّاه الحربة والشّرط وجانبي بغداد ومعاون السواد. فاتفق أنّ محمد بن أبى العباس ناظر علىّ بن الهيثم بين يدي المأمون فى التشيّع ودار الكلام بينهما إلى أن قال محمد لعلىّ: - «يا نبطىّ، ما أنت والكلام؟»   [1] . طرزهم: كذا فى الأصل وآ ومط. وحواشي الطبري، وما فيه: طرّاداتهم (11: 1037) . [2] . الخضرة: ساقطة من آ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وكان المأمون متّكئا، فجلس وقال: [168]- «الشتم عىّ والبذاء لؤم. [1] وقد أبحنا الكلام، فمن قال الحقّ حمدناه ومن جهل وقفناه. فاجعلا بينكما أصلا ترجعان إليه.» فعادا إلى المناظرة وعاد محمد لعلىّ بالسفه. فقال علىّ: - «لولا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته وما نهى عنه آنفا، لعرّقت جبينك. وكفاك من جهلك غسلك المنبر بالمدينة.» فجلس المأمون وكان متّكئا فقال: - «وما غسلك المنبر، ألتقصير منّى فى أمرك أم لتقصير المنصور فى أمر أبيك؟ لولا أنّ الخليفة إذا وهب استحى أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك. قم، وإيّاك ما عدت.» فخرج محمد بن أبى العبّاس ومضى إلى طاهر وهو زوج أخته، فقال له: - «كان من قصّتى كيت وكيت.» وكان يحجب المأمون على الشراب فتح الخادم وحسين يسقيه. فركب طاهر إلى الدار ودخل فتح يستأذن له، فقال المأمون: - «إنّه ليس من أوقاته ولكن ائذن له.» فدخل طاهر فسلّم، فردّ عليه السلام وقال: - «اسقوه رطلا.» فأخذه فى يده اليمنى وقال له: - «اجلس.» فجلس وشربه، ثمّ شرب المأمون وقال: - «اسقوه الثاني.»   [1] . فى الأصل: والبذا لوم، من دون همز. انظر الطبري (11: 1040) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 ففعل كفعله الأوّل، ثمّ نهض. فقال [169] له المأمون: - «اجلس.» فقال: «يا أمير المؤمنين ليس لصاحب الشرط أن يجلس بين يدي سيّده.» قال المأمون: - «ذاك فى مجلس العامة، فأمّا فى مجلس الخاصّة فطلق.» قال: وبكى المأمون وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر: - «يا أمير المؤمنين لا تبك عيناك. فو الله لقد دانت لك البلاد وأذعن لك العباد وصرت إلى المحبّة فى كلّ أمرك.» فقال: «أبكى لأمر ذكره ذلّ وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن. فتكلّم بحاجتك التي جئت لها.» قال: «يا أمير المؤمنين، محمد بن أبى العبّاس أخطأ، فأقله عثرته وارض عنه.» قال: «قد رضيت عنه وأمرت بصلته، ورددت عليه منزلته. ولولا أنّه ليس من أهل الأنس لأحضرته.» قال: وانصرف طاهر ثمّ دعا طاهر بهارون بن جبعويه [1] فقال: - «إنّ أهل خراسان يتعصّب بعضهم لبعض وإنّ لى إليك حاجة. خذ معك ثلاثمائة ألف درهم فأعط الحسين الخادم مائتي ألف درهم وأعط كاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون: لم بكى؟» قال: ففعل ذلك. فلمّا تغدّى المأمون قال: - «يا حسين اسقني.»   [1] . جبعويه: كذا فى الأصل. فى آ: جغويه. وفى الطبري (11: 1041) : جيغويه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 قال: «لا والله لا سقيتك، أو تقول لى لم بكيت حين دخل عليك طاهر.» قال: «يا حسين وكيف عنيت بهذا حتّى سألتنى عنه؟» قال: «لغمّى [170] بذلك.» قال: «يا حسين، أمر إن خرج من رأسك قتلتك.» قال: «يا سيّدى ومتى أخرجت لك سرّا؟» قال: «إنّى ذكرت محمدا أخى وما ناله من الذّلة، فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا منّى ما يكره.» فأخبر حسين طاهرا بذلك. فركب طاهر إلى أحمد بن أبى خالد فقال له: - «إنّ الثناء منّى ليس برخيص، وإنّ المعروف عندي ليس بضائع، فغيّبنى عن عينه.» فقال له: - «سأفعل، فبكّر علىّ غدا.» وركب ابن أبى خالد إلى المأمون، فلمّا دخل إليه قال له: - «ما بتّ البارحة.» فقال له: - «ولم ويحك؟» قال: «لأنّك ولّيت خراسان غسّان [1] وهو ومن معه أكلة رأس، وأخاف أن تخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه.» قال: «لقد فكّرت فى ذلك، فمن ترى؟» قال: «طاهر بن الحسين.» قال: «ويلك يا أحمد، هو والله خالع.»   [1] . فى آ: حسان، بدل «غسّان» . مط والطبري (11: 1041) : كالأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 قال: «أنا الضامن له.» قال: «فأنفذه.» قال: فدعا طاهرا من ساعته فعقد له وشخص من ساعته. فنزل فى بستان جليل [1] يحمل إليه فى كلّ يوم ما أقام فيه مائة ألف. فأقام شهرا ثمّ شخص إلى خراسان. وكان طاهر استخلف ابنه بالرقّة على قتال نصر بن شبث. [2] ذكر نادرة لكاتب صارت سببا لصلاح حاله وحال الكتّاب ببغداد [3] [171] تحدّث محمد بن خالد بن رودى [4] المدائني الكاتب قال: كان مخلد يلقّب بلبد لطول عمره فحدّثنى أنّ المأمون أوّل ما قدم العراق حظر أن يقلّد الأعمال إلّا الشيعة الذين قدموا معه من خراسان. فطالت عطلة كتّاب السواد وعمّاله وكانوا يحضرون داره فى كلّ يوم حتّى ساءت حال أكثرهم. فخرج يوما بعض مشايخ الشيعة وكان مغفّلا، فتأمّل وجوههم فلم ير فيهم أسنّ من مخلد، فجلس إليه ثمّ قال له: - «إنّ أمير المؤمنين قد أمرنى أن أتخيّر ناحية من نواحي الخراج صالحة المرفق ليوقّع بتقليدى إيّاه، فاختر لى أنت ناحية.»   [1] . فى الطبري (11: 1043) : خليل بن هاشم. فى آوحواشي الطبري وتد (450) جليل. وفى مط: خليل. [2] . وزاد فى تد (450) : وفيها ولّى المأمون عيسى بن محمد بن أبى خالد ارمينية وآذربيجان لمحاربة بابك. [3] . العنوان غير موجود فى تد (450) . [4] . فى آومط: دردى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 فقال: «إنّى لا أعرف لك عملا أولى من مرتدات [1] البحر وصدقات الوحش وخراج وبار.» فقال: «اكتبه لى بخطّك.» فكتب ذلك له بخطّه، فذهب الشيعي حتّى عرض الرقعة على المأمون وسأله تقليده ذلك العمل. فقال له: - «من كتب لك هذه الرقعة؟» قال: «شيخ من الكتّاب يحضر الدار كلّ يوم.» قال: «هلمّه.» فلمّا أدخل، قال له المأمون: - «ما هذا يا جاهل، قد بلغ بك الفراغ إلى مثل هذا؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما تحصّل استخراجه وصار فى أيديهم. [172] فأمّا شروط الخراج، حكمه، وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إنفاقه، وما يجب الاحتساب، به فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب الارتفاع، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا فمر بأن يضمّ إلى كلّ رجل منهم رجل منّا، فيكون الشيعي يحفظ الأموال ونحن نجمعه.» فاستصاب المأمون كلامه، وأمر بتقليد عمّال السواد وكتّابهم، وأن يضمّ إلى كلّ واحد منهم واحد من الشيعة. وضمّ مخلد إلى ذلك الشيخ، فقلّده ناحية جليلة. وفيها ولّى المأمون عيسى بن محمد بن أبى خالد أرمينية وأذربيجان   [1] . مرتدات: الحرف الأوّل غامض فى الأصل. فى مط: يريدات. والعبارة فى آ: «بريذات البحر والأخرى بريدات [بالإهمال إلّا فى الحرف الأخير] البحر» . فى تد (451) : بريدات. والمرتدة: المردّه: الفائدة. ولم نجد الرواية فى الطبري فى هذه السنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 لمحاربة بابك. ودخلت سنة ست ومائتين وفيها ولّى المأمون عبد الله بن طاهر الجزيرة إلى مصر ذكر السبب فى ذلك كان يحيى بن معاذ بالجزيرة فمات فى هذه السنة، فدعا المأمون عبد الله بن طاهر فقال: - «يا عبد الله، إنّى أستخير الله عزّ وجلّ منذ شهر وأرجو أن يخير الله لى. إنّ الرجل يصف [173] ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، وقد رأيتك فوق ما وصفك أبوك. وقد مات يحيى بن معاذ واستخلف ابنه وليس بشيء. وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث [1] .» فقال: «السمع والطاعة لأمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخير وللمسلمين.» فعقد له وأمر أن يقطع حبال القصّارين عن طريقه، وتنحّى عن الطرقات المظالّ لئلّا يكون فى طريقه ما يردّ لواءه، ثمّ عقد له لواء مكتوب عليه بصفرة ما يكتب على الألوية. وزاد فيه: «المأمون يا منصور.» فركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع فأكرمه عبد الله وقال له: - «قد تقدّم أبى وأخوك إلىّ ألّا أقطع أمرا دونك. وأحتاج أن أستطلع رأيك واستضئ بمشورتك.» فأقام عنده إلى الليل وسأله المبيت فأبى واعتذر. فمشى معه عبد الله إلى صحن داره وودّعه.   [1] . فى آ: شيث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وفى هذه السنة ولّى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم أمر الجسر وجعله خليفته على ما كان أبوه طاهر استخلفه فيه من الشرط وأعمال بغداد وشخص هو إلى الرقّة لحرب نصر بن شبث. ودخلت سنة سبع ومائتين وفاة ذى اليمينين وفيها كانت وفاة ذى اليمينين طاهر من حمّى وحرارة أصابته. وذكر أنّه وجد فى فراشه [174] ميتا. فحكى خواصّه وعمّه علىّ بن مصعب أنّهم صاروا إليه يعودونه، فسألوا الخادم عن خبره وكان يغلّس بصلاة الصبح، فقال الخادم: - «هو نائم لم ينتبه.» فانتظروه ساعة، فلمّا تأخّر قالوا للخادم: - «أيقظه.» قال: - «لا أجسر.» فقالوا له: - «طرّق لنا لندخل إليه.» فدخلوا فوجدوه ملتفّا فى دوّاج قد أدخله تحته وشدّه عليه من عند رأسه ورجليه، فحرّكوه فلم يتحرّك، فكشفوا عن وجهه فوجدوه قد مات، ولم يعلم أحد الوقت الذي توفّى فيه. وذكر أبو سعده [1] كلثوم بن ثابت قال: كنت على بريد خراسان ومجلسي   [1] . انظر الطبري (11: 1064) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 يوم الجمعة فى أصل المنبر، فلمّا كانت سنة سبع ومائتين بعد ولاية طاهر بن الحسين بسنتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر فخطب، فلمّا بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له وقال: - «اللهم أصلح أمّة محمد بما أصلحت به أولياءك واكفها مؤونة من بغى لها السوء وأرادها بمكروه بلمّ الشعث وحقن الدماء وإصلاح ذات البين.» قال: فقلت فى نفسي: أنا أوّل مقتول لأنّى لا أكتم الخبر. فانصرفت واغتسلت ووصّيت وائتزرت بإزار ولبست قميصا وارتديت رداء وطرحت السواد [175] وكتبت إلى المأمون. قال: فلمّا صلّى العصر دعاني، وحدث حادث فى جفن عينه وفى ماقه [1] فسقط ميتا. فخرج طلحة بن طاهر فقال: - «ردّوه ردّوه» . وقد خرجت فردّونى وقال: - «هل كتبت بما كان؟» قلت: «نعم.» قال: «فاكتب بوفاته.» فأعطانى مالا وثيابا. فكتبت بوفاته وقد قام طلحة بالجيش. قال: فوردت الخريطة على المأمون بخلعه. فدعا ابن أبى خالد فقال: - «اشخص الآن فأت به كما زعمت وضمنت.» قال: «أبيت ليلتي؟» قال: «لا لعمري ولا تبيت إلّا على الظهر.» فلم يزل يناشده حتّى أذن له فى المبيت، ووافت الخريطة بموته ليلا،   [1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 1064) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 فأمر بمكاتبة طلحة وأقامه مقامه فبقى طلحة واليا على خراسان فى أيّام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر ثمّ توفّى وولّى عبد الله خراسان. وذكر بعض خواصّ المأمون قال: شهدت مجلسا للمأمون وقد أتاه نعى طاهر فقال: - «لليدين وللفم. الحمد لله الذي قدّمه وأخّرنا.» ثمّ وجّه المأمون أحمد بن أبى خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر فافتتح أسروشنة، وأسر كاووس وابنه وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لأحمد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضا بألفي درهم [176] ووهب لإبراهيم بن العبّاس كاتب أحمد خمسمائة ألف درهم. ودخلت سنة ثمان ومائتين ولم يحدث فيها حدث ينسخ فى هذا الكتاب. ودخلت سنة تسع ومائتين وفيها حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث وضيّق عليه حتّى طلب الأمان [1] . ويقال: إنّ ثمامة حكى أنّ المأمون سأله أن يحمل إليه رجلا له عقل وبيان يحمّله رسالة إلى نصر بن شبث. قال: فحملت إليه رجلا من بنى عامر يقال له جعفر بن محمد فقال: أحضرنى المأمون بين يديه فكلّمنى بكلام   [1] . انظر الطبري (11: 1067) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 كثير، ثمّ أمرنى أن أبلغه نصرا. قال: فأتيت نصرا وهو بسروج بموضع يقال له كفرغزون [1] فأبلغته رسالته فأذعن وشرط شروطا منها أن لا يطأ له بساطا. قال: فأتيت المأمون فأخبرته فقال: - «لا أجيبه إلى هذا أبدا ولو أفضيت إلى بيع ما علىّ حتّى يطأ بساطي وما باله ينفر منّى.» قال: قلت: - «لجرمه وما تقدّم منه.» قال: «أتراه أعظم جرما عندي من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن أبى خالد أتدرى ما صنع [177] بى الفضل؟ أخذ قوّادى وأموالى وجنودي وسلاحي وجميع مالي ممّا أوصى به لى أبى فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيدا وأسلمنى وأفسد علىّ أخى حتّى كان من أمره ما كان. أتدرى ما صنع بى عيسى بن أبى خالد؟ طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي وذهب بخراجى وفيئى وأخرب علىّ دياري وأقعد إبراهيم خليفة بإزائى ودعاه باسمى.» قال: قلت: - «يا أمير المؤمنين تأذن لى فى الكلام فأتكلّم؟» قال: «تكلّم.» قال: قلت: - «الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم وحال سلفه حالهم يرجع إليه بضروب كلّها تردّك إليه وعيسى بن أبى خالد رجل من أهل دولتك وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم، وهذا رجل لم تكن له يد قطّ فتحتمل   [1] . فى الطبري (11: 1067) . كفرعزون (بإهمال الرابع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 عليها ولا لمن مضى من سلفه، إنّما كانوا جند بنى أميّة.» قال: «إنّ ذلك لكما تقول، فكيف بالحنق والغيظ. لست أقلع عنه حتّى يطأ بساطي.» قال: «فأتيت نصرا فأخبرته بذلك. قال: فصاح بالخيل صيحة فجالت عليه ثمّ قال: - «ويلي عليه هو؟ لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه- يعنى الزطّ- يقوى على حلبة العرب؟» فذكر أنّ عبد الله بن طاهر لمّا جادّه القتال بلغ منه حتّى طلب الأمان [178] فأعطاه وبعث به إلى المأمون. ودخلت سنة عشرة ومائتين وفيها أخذ إبراهيم بن المهدى ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر وهو متنقّب بين امرأتين فى زىّ امرأة أخذه حارس أسود ليلا فقال: - «من أنتنّ وأين تردن فى هذا الوقت؟» فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان فى إصبعه له قدر عظيم، وقال: - «خلّنا ولا عليك أن تعلم من نحن.» فلمّا نظر الحارس إلى الخاتم استراب وقال فى نفسه: هذا خاتم رجل له شأن فرفعن إلى صاحب المسلحة، فأمرهنّ أن يسفرن. فتمنّع إبراهيم فجبذه فبدت لحيته. فرفعه إلى صاحب الجسر، فرفعه فذهب به إلى باب المأمون فأعلم به فأمر بالاحتفاظ به فى الدار. فلمّا كان غداة الأحد أقعد فى دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقوّاد والجند وصيّروا المقنعة التي كان متنقّبا بها فى عنقه والملحفة فى صدره ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ، فلمّا كان يوم الخميس حوّل إلى منزل أحمد بن أبى خالد فحبس عنده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 بناء المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وفى هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل فى شهر رمضان. وكان الحسن بالصّلح، فشخص المأمون إلى الصّلح، [179] وأمر بحمل إبراهيم بن المهدى خلفه. وكان العبّاس بن المأمون قد تقدّم أباه على الظهر ووافى المأمون وقت العشاء فأفطر هو والحسن والعبّاس ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتّى فرغوا من الإفطار، فدعا المأمون بشراب فأتى بجام ذهب فصبّ فيه وشرب ومدّ يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن فغمزه دينار بن عبد الله، فقال الحسن: - «يا أمير المؤمنين أشربه بإذنك.» فقال له: - «لولا أمرى لم أمدّ يدي إليك بها.» فأخذ الجام فشربه فلمّا كان فى الليلة دخل على بوران. فلمّا جلس المأمون معها نثرت عليها جدّتها ألف درّة كانت فى صينيّة ذهب وكان تحتها حصير ذهب معمول على السامان. فقال المأمون: - «قاتل الله أبا نواس كأنّه حاضر هذا المنظر فى قوله: «حصباء درّ على أرض من الذهب.» ثمّ أمر المأمون أن يجمع وسألها عن عدد الدرّ كم كان فقالت: - «ألف حبّة.» فأمر بعدّها فنقصت عشرا فقال: - «من أخذها فليردّها.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فقال حسين رخلة [1] : - «يا أمير المؤمنين إنّما نثر لنأخذه وإلّا فالعقد أولى به.» قال: «ردّها فإنّى أخلفها عليك.» فردّت. فجمعها [180] المأمون فى الآنية كما كانت، ووضع فى حجرها، وقال: - «هذه نحلتك وسلى حوائجك.» فأمسكت، فقالت جدّتها: - «كلّمى سيّدك وسليه حوائجك، فقد أمرك.» فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدى. فقال: - «قد فعلت.» وسألته الإذن لأمّ جعفر فى الحجّ، فأذن لها. وألبستها أمّ جعفر البدنة الأموية. وابتنى بها من ليلته وأوقد فى تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منّا فى تور ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال: - «هذا سرف.» فلمّا كان من الغد دعا إبراهيم بن المهدى، فجاء يمشى من شاطئ دجلة. فلمّا دخل على المأمون قال: - «هيه يا إبراهيم.» فقال: «يا أمير المؤمنين، ولىّ الثأر محكّم فى القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناوله الاغترار بما مدّ له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كلّ ذى ذنب كما جعل كلّ ذى ذنب. دونك فإن تعاقب فبحقّك وإن تعف فبفضلك.»   [1] . كذا فى الأصل: حسين رخله. فى الطبري (11: 1082) : حسين زجلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 قال: «بل أعفو يا إبراهيم.» فكبّر وسجد وقال إبراهيم يمدح المأمون: [181] يا خير من حملت يمانية به ... بعد الرّسول لآيس ولطامع عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصّاب يمزج بالسّمام النّاقع ملئت قلوب النّاس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع بأبى وأمّى فدية وبنيهما ... من كلّ معضلة وذنب واقع ما ألين الكنف الّذى بوّأتنى ... وطنا وأمرع ريعه للرّائع [1] نفسي فداؤك إذ [2] تضلّ معاذرى ... وألوذ منك بفضل حلم واسع أملا لفضلك والفواضل شيمة ... رفعت بناءك بالمحلّ اليافع فعفوت عمّن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع إلّا العلوّ عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع فرحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النّازع الله يعلم ما أقول فإنّها ... جهد الأليّة من حنيف راكع ما إن عصيتك والغواة تمدّنى ... أسبابها إلّا بنيّة طائع حتّى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردى إلى حفر المهالك هائع لم أدر أنّ لجرم مثلي غافرا ... فوقفت أنظر أىّ حتف صارعى ردّ الحيوة علىّ بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع أحياك من ولّاك أطول مدّة ... ورمى عدوّك فى الوتين بقاطع إنّ الّذى قسم الخلافة حازها ... فى صلب آدم للإمام السّابع   [1] . كذا فى الأصل: ريعه للرائع. فى آوالطبري (11: 1078) : رتعه للراتع. فى تد (458) : ربعه للرابع. [2] . فى الأصل وآ: أن. وفى تد: إن. فى الطبري (11: 1078) إذ. وهو الأصحّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كلّ خير جامع [182] فقال المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة: - «أقول ما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 12: 92 [1] .» فأمّا الحسن بن سهل فإنّه أضاف المأمون وجميع من معه وخلع على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكان مبلغ ما لزمه عليهم خمسين ألف ألف درهم سوى ما نثره. وكان كتب رقاعا فيها أسماء ضياعه ونثرها على القوّاد وبنى هاشم فمن وقعت فى يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث [2] فتسلّمها. افتتاح مصر وفى هذه السنة افتتح عبد الله بن طاهر مصر واستأمن إليه عبيد الله بن السرى بن الحكم. ذكر الخبر عن ذلك لمّا فرغ عبد الله بن طاهر من نصر بن شبث ذهب إلى مصر، فلمّا قرب منها وصار على مرحلة قدّم قائدا من قوّاده ليرتاد لمعسكره موضعا يعسكر فيه، وقد خندق ابن السرىّ على نفسه خندقا. فاتصل الخبر بابن السرىّ عن مسير القائد إلى ما قرب منها فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان يطلب موضع العسكر، فأبرد القائد [183] إلى عبد الله بريدا بخبره   [1] . س 12 يوسف: 92. [2] . فى تد (459) : بعث بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وخبر خروج ابن السرىّ إليه، فحمل عبد الله رجاله على البغال على كلّ بغل رجلين بآلاتهما وجنبوا الخيل وأسرعوا السير حتّى لحقوا القائد وابن السرى وأصحابه، فلم يكن من أصحاب عبد الله إلّا حملة واحدة حتّى انهزم ابن السرىّ وأصحابه وتساقطت عامّة أصحاب ابن السرىّ فى الخندق. فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض فى الخندق أكثر ممّن قتله الجند. وانهزم ابن السرى فدخل الفسطاط وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب وحاصره عبد الله بن طاهر، فلم يعاوده ابن السرىّ الحرب حتّى خرج إليه فى الأمان. فحكى ابن ذى القلمين قال: بعث ابن السرىّ إلى عبد الله بن طاهر لمّا ورد مصر، ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة، مع كلّ واحد منهم ألف دينار فى كيس حرير، وبعث بهم إليه ليلا. قال: فردّهم عليه عبد الله وكتب إليه: - «لو قبلت هديّتك نهارا لقبلتها ليلا- بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ 27: 36- 37.» [1] قال: فحينئذ طلب الأمان وخرج إليه. خلع أهل قم السلطان وما كان من عاقبته وفى هذه السنة خلع أهل قم [2] السلطان ومنعوا الخراج. [184] ذكر سبب ذلك كان المأمون وقت اجتيازه بالرىّ حطّ عن أهلها من الخراج على ما   [1] . س 27 النمل: 36. [2] . لا شدّة على الميم فى هذا الاسم فى كل المواطن من الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 ذكرت، فطمع أهل قم فى مثل ذلك وكان خراجهم ألفى ألف درهم، فكانوا يستكثرونها. فرفعوا إلى المأمون يشكون ثقل الخراج ويسألونه الحطّ فلم يجبهم المأمون، فامتنعوا ولم يؤدّوا شيئا، فوجّه المأمون إليهم علىّ بن هشام ثمّ أمدّه بعجيف فحاربهم فظفر بهم وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم وجباها سبعة آلاف ألف، بعد ما كانوا يتظلّمون من ألفى ألف درهم. ودخلت سنة إحدى عشرة ومائتين المأمون يدسّ رجلا إلى عبد الله بن طاهر وفيها قال بعض إخوة المأمون للمأمون: - «يا أمير المؤمنين، إنّ عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبى طالب وكذا كان أبوه قبله.» قال: فدفع المأمون ذلك وأنكره. ثمّ عاد لمثل هذا القول، فدسّ إليه رجلا وقال له: - «امض فى هيئة القرّاء [1] والنسّاك إلى مصر فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا واذكر مناقبه وعلمه وفضائله ثمّ صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر ثمّ ائته فادعه ورغّبه فى استجابته [185] له، وابحث عن دفين نيّته بحثا شافيا، وأتنى بما تسمع منه.» قال: ففعل الرجل ما قال له وأمره به، حتّى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر وقد ركب إلى عبيد الله بن السرىّ بعد صلحه وأمانه. فلمّا انصرف قام إليه الرجل فأخرج من كمّه رقعة فدفعها إليه فأخذها بيده. قال: فما هو إلّا أن دخل خرج الحاجب، فأدخله عليه   [1] . فى الأصل وآ وتد (461) : الغزاة. فى مط: العراة. فى الطبري (11: 1096) : القرّاء، وهو الصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره وقد مدّد رجليه وخفّاه [1] فيهما. فقال له: - «قد فهمت ما فى رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك.» قال: «ولى أمانك ذمّة من الله معك؟» قال: «لك ذلك.» فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم وأخبره بفضائله وعلمه وزهده. فقال له عبد الله: - «أتنصفني؟» قال: «نعم.» قال: «هل يجب شكر الله على العباد؟» قال: «نعم.» قال: «فهل يجب شكر بعضهم على بعض عند الإحسان والمنّة والتفضل؟» قال: «نعم.» قال: «فتجيء إلىّ وأنا على هذه الحال التي ترى، لى خاتم فى المشرق جائز وخاتم فى المغرب كذلك، وفيما بينهما أمير مطاع وقولي مقبول. ثمّ ما ألتفت يميني ولا شمالي ولا ورائي ولا قدّامى إلّا رأيت نعمة لرجل أنعمها علىّ [186] ومنّة ختم بها رقبتي ويدا لائحة بيضاء ابتدأنى بها كرما وتفضّلا فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان وتقول: اغدر بمن كان أوّلا لهذا وآخرا واسع فى إزالة خيط رقبته وسفك دمه، تراك لو دعوتني إلى الجنّة عيانا من حيث أعلم، أكان الله عزّ وجلّ يحبّ أن أغدر به وأكفر   [1] . فى مط: خفّان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 إحسانه ومنّته وأنكث بيعته؟» فسكت الرجل. فقال له عبد الله: - «أما إنّه قد بلغني أمرك وبالله ما أخاف عليك إلّا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإنّ السلطان الأعظم إن بلغه أمرك كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.» فعاد الرجل إلى المأمون فأخبره الخبر. فاستبشر فقال: - «ذلك غرس يدي وإلف أدبى.» ولم يظهر من حديثه هذا شيء لأحد إلّا بعد موت المأمون. وكتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر كتابا بخطّه. فكان فى أسفله هذه الأبيات: أخى أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه فما أحببت من أمر ... فإنّى الدّهر أهواه وما تكره من شيء ... فإنّى لست أرضاه لك الله على ذاك ... لك الله لك الله المأمون واظهار القول بخلق القرآن وبفضل على بن أبى طالب (ع) وفى هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر مدينة السلام من المغرب وتلقّاه العبّاس بن [187] المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر طبقات الناس وقدم معه بالمتغلّبين على الشام. وفيها أمر المأمون مناديا فنادى: - «برئت الذمّة ممّن ذكر معاوية بخير.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وأظهر القول بخلق القرآن وبفضل علىّ بن أبى طالب [1] . ودخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين وفيها مات طلحة بن طاهر بن الحسين بخراسان. وفيها ولّى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر وولّى ابنه العبّاس بن المأمون الجزيرة وأمر لكلّ واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار. فقيل إنّه لم يفرّق فى ساعة من يوم من المال مثل ذلك. ودخلت سنة أربع عشرة ومائتين وفيها استفحل أمر بابك وقتل محمد بن حميد وفضّ عسكره وقتل أكثر من كان معه. وفيها بعث المأمون إلى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيّرانه بين خراسان والجبال وإرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. فاختار خراسان وشخص إليها [2] . ودخلت سنة خمس عشرة ومائتين [188] وفيها شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم فى المحرّم. فافتتح بها حصونا وعاد إلى دمشق. ودخلت سنة ستّ عشرة ومائتين فكرّ المأمون إلى أرض الروم، وكان سبب ذلك ورود الخبر على المأمون   [1] . فى آ: صلوات الله وسلامه عليه. فى مط: رضى الله عنه. [2] . انظر الطبري (11: 1102) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 بقتل ملك الروم قوما من أهل طرسوس والمصّيصة وكانوا نحو ألفى رجل، فشخص المأمون حتّى دخل بلاد الروم. فما نزل على حصن إلّا خرج إليه أهله على صلح حتّى افتتح ثلاثين حصنا، ثمّ أغار على طوانة وسبى وقتل وأحرق. ثمّ ارتحل إلى دمشق. ودخلت سنة سبع عشرة ومائتين وعاد المأمون إلى أرض الروم. وكان سبب ذلك كتاب ورد عليه من ملك الروم يسأله الموادعة، وبدأ فيه بنفسه. فغزا المأمون هذه الغزوة بحنق، وأنزل ابنه بطوانه من أرض الروم، ووجّه معه الفعلة وابتدأ بها فى بناء عظيم وجعل سورها على ثلاثة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كلّ باب حصنا، وكتب إلى أخيه أبى إسحاق أن يفرض على جند دمشق وما والاها أربعة آلاف رجل وأنّه يجرى [189] على الفارس مائة درهم وعلى الراجل أربعين درهما وفرض على مصر وغيرها من البلدان. وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم وهو خليفته ببغداد، ففرض على أهل بغداد فرضا. المأمون يختبر الآراء فى التشبيه وخلق القرآن وفى هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم فى امتحان القضاة والمحدثين والفقهاء، فمن لم يقبل منهم بنفي التشبيه وبخلق القرآن يشخصهم إليه مقيّدين. وكتب فى ذلك كتابا بليغا فيه آيات منتزعة من القرآن وتهديد كثير مع رفق فى مواقع، وطعن على أصحاب الحديث الذين لا يتفقّهون ولا يعقلون، فأشخص إليه جماعة فيهم محمد بن سعد كاتب الواقدي ومستملى يزيد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 هارون ويحيى بن معين وزهير بن حرب وعدّه يجرون مجراهم، فامتحنهم وسألهم عن القرآن فأجابوا جميعا: - «إنّ القرآن مخلوق.» وامتحن إسحاق بن إبراهيم جماعة فيهم بشر بن الوليد وقال له: - «ما تقول فى القرآن؟» قال: «أقول إنّه كلام الله.» قال: «لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟» قال: «الله خالق كلّ شيء.» قال: «فالقرآن شيء؟» [قال: نعم، هو شيء.] [1] قال: «فهو مخلوق.» قال: «ليس بخالق؟» قال: «فهو مخلوق.» قال: «ما أحسن [2] غير هذا.» ثمّ كلّم جماعة من وجوه الفقهاء والقضاة [190] فقالوا قريبا من قول بشر. فكتب مقالات القوم رجل رجل إلى المأمون. فكتب المأمون فى الجواب يستجهل واحدا واحدا ويحاجّه ويشتم كلّ واحد بما يعرفه فيه ويأمر فى آخر الكتاب بأنّ: - «من لم يرجع عن شركه يسفك دمه. أمّا بشر بن الوليد فابعث إلىّ برأسه وكذلك إبراهيم بن الحسن، وأمّا الباقون فاحملهم فى قيود وأغلال   [1] . ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أضفناه من آوتد (465) . [2] . كذا فى الأصل وآ ومط وتد (465) : أحسن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 لينفذ فيهم أمرى.» فأجاب القوم كلّهم: - «إنّ القرآن مخلوق.» إلّا نفسان: أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشدّا فى الحديد ووجّها إلى طرسوس. ثمّ بلغ المأمون أنّ بشر بن الوليد والجماعة تأوّلوا قوله- عزّ وجلّ-: «إلّا من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان» [1] فكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أن: - «قد فهم أمير المؤمنين ما كتب به صاحب الخبر أنّ بشر تأول الآية التي ذكرت وقد أخطأ التأويل، إنّما عنى الله عزّ وجلّ بهذه الآية من كان معتقدا الإيمان مظهرا الشرك، فأمّا من كان معتقدا الشرك مظهرا الإيمان فليس هذه له.» [2] فأشخص القوم جميعا إلى طرسوس وأخذ عليهم الكفلاء، فأشخص نحوا من عشرين مع بشر بن الوليد [191] من وجوه الفقهاء والقضاة وأصحاب الحديث. فلمّا بلغوا الرقّة أتاهم وفاة المأمون فردّوا إلى مدينة السلام، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم. كتاب المأمون إلى عمّاله فى البلدان وفى هذه السنة نفذت الكتب من المأمون إلى عمّاله فى البلدان: - «من عبد الله، عبد الله [3] المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده   [1] . س 16 النحل: 106. [2] . انظر الطبري (11: 1132) . [3] . تكرار «عبد الله» صحيح. انظر أيضا الطبري (11: 1132) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 أبى إسحاق ابن أمير المؤمنين إلى الرشيد.» وقيل: إنّ ذلك لم يكتبه المأمون وإنّما مرض بالبذندون وهو نهر بأرض الروم، فلمّا أفاق أمر بأن يكتب إلى العبّاس ابنه وعبد الله بن طاهر وإلى إسحاق أنّه إن حدث به حدث الموت فى مرضه فالخليفة من بعده أبو إسحاق ابن الرشيد. فكتب بذلك محمد بن يزداذ وختم الكتب وأنفذها. فكتب أبو إسحاق إلى عمّاله: - «من أبى إسحاق أخى أمير المؤمنين والخليفة بعد أمير المؤمنين، أمرهم بحسن السيرة وتخفيف المؤونة. وكتب إلى جمع من فى أعماله من أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك. فلمّا كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين صلّى إسحاق بن يحيى بن معاذ فى مسجد دمشق، فقال فى خطبته بعد دعائه [192] لأمير المؤمنين: - «اللهم وأصلح الأمير أخا أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق ابن الرشيد أمير المؤمنين.» وفى سنة ثماني عشرة ومائتين توفّى المأمون بالبذندون. وفات المأمون ذكر سبب وفاته حكى سعيد العلّاف القارئ قال: أرسل إلىّ المأمون وهو ببلاد الروم وكان دخلها من طرسوس، فحملت إليه وهو بالبذندون، وكان يستقرينى [1] فدعاني يوما فجئته فوجدته جالسا على شاطئ البذندون وأبو إسحاق المعتصم   [1] . يستقرينى: كذا فى الأصل وآ ومط. فى تد (467) : يستقربنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 جالس عن يمينه. فأمرنى فجلست نجوة منه [1] فإذا هو وأبو إسحاق مدلّيان أرجلهما فى البذندون. فقال: - «يا سعيد دلّ رجلك فى الماء وذقه، هل رأيت قطّ ماء أشدّ بردا ولا أعذب وأصفى صفاء منه؟» ففعلت وقلت: - «يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قطّ.» قال: «أىّ شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟» فقلت: «أمير المؤمنين أعلم.» فقال: «رطب الآزاذ.» فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: - «اذهب فانظر [193] هل فى هذه الألطاف رطب، فإن كان فيها الرطب فانظر فإن كان آزاذا فأت به.» فجاء يسعى بسلّتين فيهما [2] رطب آزاذ كأنّما جنى من النخل تلك الساعة، فأظهر شكر الله عزّ وجلّ، وكثر تعجبنا منه، فقال: - «ادن فكل.» فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلّا وهو محموم فكانت منيّة المأمون من تلك العلّة ولم يزل المعتصم عليلا حتّى دخل العراق ولم أزل عليلا حتّى كان قريبا. ولمّا اشتدّت بالمأمون علّته بعث إلى ابنه العبّاس وهو يظنّ أن لن يأتيه لشدّة مرضه، فأتاه وأقام عند أبيه وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبى إسحاق،   [1] . كذا فى الأصل: «نجوة منه» بالجيم المعجمة، فى مط وآ، وتد (467) : نحوه منه. [2] . فى الأصل وآ ومط وتد (467) : فيها. والتصحيح من الطبري (11: 1135) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 ثمّ أعاد الوصيّة بحضرة العبّاس والقضاة والفقهاء والقوّاد. ولمّا توفّى حمله ابنه العبّاس وأخوه أبو إسحاق إلى طرسوس، فدفناه فى دار خاقان خادم الرشيد وصلّى عليه أخوه أبو إسحاق. فكانت خلافته عشرين سنة وستّة أشهر سوى سنتين، كان دعى له فيهما بمكّة وأخوه الأمين محمد ابن الرشيد محصور ببغداد. وكان ولد للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة سبعين ومائة. وكان ربعة، أبيض، جميلا. وقيل: كان [194] أسمر تعلوه صفرة، أقنى، أعين، طويل اللحية رقيقها، أشيب بخدّه خال أسود. من سيرة المأمون فأمّا سيرته فمشهورة لا تخفى على أحد جوده وعطاؤه وسماحة أخلاقه وحلمه ولكنّا نحكى بعض ذلك: حكى عن العيشى صاحب إسحاق بن إبراهيم أنّه قال: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قلّ المال عنده حتّى أضاق وشكا ذلك إلى أبى إسحاق المعتصم، فقال: - «يا أمير المؤمنين كأنّك بالمال قد وافاك بعد جمعة.» قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما كان يتولّاه أبو إسحاق. قال: فلمّا ورد عليه ذلك المال قال المأمون ليحيى بن أكثم: - «اخرج بنا ننظر إلى هذا المال.» قال: فخرجا ووقفا ينظرانه وقد كان هيّئ بأحسن هيأة وحلّيت أباعره وألبست الأحلاس التي وشّيت والجلال المصبّغة وقلّدت العهن وعلّيت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 البدر [1] بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رؤوسها. قال: فنظر المأمون إلى شيء حسن واستكثره وعظم فى عينه واستشرفه الناس ينظرون إليه ويعجبون منه فقال المأمون ليحيى: - «يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم وننصرف [195] نحن بهذه الأموال قد ملكناها دونهم؟ إنّا إذا للئام.» ثمّ دعا محمد بن يزداذ. فقال: - «وقّع لآل فلان بألف ألف ولآل فلان بمثلها ولآل فلان بمثلثها خمسمائة ألف.» قال: «فو الله إن زال كذلك، حتّى فرّق أربعة وعشرين ألف ألف، ورجله فى الركاب.» ثم قال: - «ادفع الباقي إلى المعلّى بن أيّوب يعط جندنا.» قال العيشى: فجئت حتّى قمت نصب عينه وحدّقت نحوه فلم أردّ طرفي عن عينه لا يلحظنى إلّا رآني بتلك الحال فقال: - «يا محمد، وقّع لهذا بخمسين ألف من الستّة الآلاف الألف لا يختلس ناظري.» فلم يأت علىّ ليلتان حتّى أخذت المال. وللمأمون شعر كثير فمن مشهور شعره. [2] بعثتك مرتادا ففزت بنظرة ... وأغفلتنى حتّى أسات بك الظّنّا   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط. والطبري (11: 1143) . فى تد (468) : البدن. [2] . انظر الطبري (11: 1152) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 فناجيت من أهوى وكنت مباعدا [1] ... فيا ليت شعري عن دنوّك ما أغنى أرى أثرا منه بعينك بيّنا ... لقد سرقت عيناك من عينه حسنا فيا ليتنى كنت الرّسول وكنتنى ... فكنت الّذى تقصى [2] وكنت الّذى أدنى   [1] . والضبط فى تد (469) : مباعدا، بكسر العين. وما فى الأصل غير مشكول فضبطناه كما فى الطبري (11: 1152) . [2] . فى تد (469) : وكنت الذي يفضى. والبيت غير موجود فى الطبري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 خلافة أبى إسحاق المعتصم وفى هذه السنة بويع لأبى إسحاق محمد بن هارون الرشيد بالخلافة لاثنتى عشرة ليلة [196] خلت أو بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. [1] وفيها شغب الناس على المعتصم، وطلبوا العبّاس، ونادوه باسم الخلافة فأرسل أبو إسحاق المعتصم إلى العبّاس فأحضره وبايعه ثمّ خرج إلى الجند وقال: - «ما هذا الخبّ [2] البارد؟ قد بايعت عمّى وسلّمت الخلافة إليكم.» فسكن الجند. وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة [3] وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك ممّا قدر على حمله، وإحراق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك الموضع من الناس إلى بلادهم.   [1] . انظر الطبري (11: 1164) . [2] . الخبّ: الخدعة والفساد. [3] . طوانة: بلد بثغور المصّيصة، وجاء ذكره فى بيت من شعر يزيد بن معاوية (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد ومعه العبّاس بن المأمون، فقدمها يوم السبت مستهلّ شهر رمضان. توجيه المعتصم عساكر لقتال الخرّميّة وفيها دخل جماعة من أهل الجبال كثيرة من همذان وإصبهان وماسبذان ومهرجانفذق وغيرها فى دين الخرّمية. ثمّ تراسلوا وتجمّعوا فى أعمال همذان. فوجّه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجّهه مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال. فشخص إليهم فقاتلوه وهزمهم وقتل هناك ستين ألفا منهم وهرب باقيهم إلى بلاد [197] الروم وكتب بالفتح إلى المعتصم. [1] ودخلت سنة تسع عشرة ومائتين ظهور محمد بن القاسم بالطالقان من خراسان وفيها ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قوّاد لعبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها كان آخرها عليه، فانهزم هو وأصحابه ومضى هاربا يريد بعض كور خراسان كان أهلها كاتبوه، فلمّا صار بنسإ كان بها والد لبعض من معه فمضى الرجل الذي كان له والد هناك ليسلّم على والده، فلمّا تلاقوا سأله عن الخبر. فأخبره أنّهم يقصدون كورة كذا. فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم. فبذل له العامل على   [1] . انظر الطبري (11: 1165) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 دلالته عليه مالا وجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه واستوثق منه وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله إلى المعتصم فحبس بسرّ من رأى ووكّل به قوم يحفظونه. فلمّا كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد [1] والتهنئة له هرب من الحبس وافتقد، فجعل لمن يدلّ عليه مائة ألف درهم، ونادى المنادى، فما عرف له خبر إلى اليوم. [198] توجيه عجيف لحرب الزّطّ وفيها وجّه المعتصم عجيف بن عنبسة لحرب الزط الذين كانوا عاثوا فى طريق البصرة، وكانوا تغلّبوا على تلك الناحية. فقطعوا الطرق واحتملوا غلّات البيادر بكسكر وما يليها من البصرة وأكثروا الفساد. فرتّب المعتصم الخيل فى سكك البصرة وبغداد من البرد تركض إليه بالأخبار فكان الخبر يخرج من عند عجيف فيصير إلى المعتصم من يومه، وولّى النفقة على عجيف من قبل إبراهيم البختري كاتبا. فصار عجيف فى خمسة آلاف رجل إلى الصافية وهي قرية أسفل واسط فسدّ نهرا بها يحمل من دجلة ثمّ صار إلى بردودا فسدّ أنهارا أخر وحصرهم من كلّ وجه، ثمّ قصدهم فأسر منهم جماعة وقتل جماعة. فضرب أعناق الأسرى وبعث برؤوسهم ورؤوس القتلى إلى المعتصم. ثم أقام عجيف بإزاء الزطّ خمسة عشر يوما وظفر بخلق كثير منهم فأنفذهم ثمّ جاهده الباقون فمكث يقاتلهم بعد ذلك تسعة أشهر.   [1] . فى مط: بالصيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 ودخلت سنة عشرين ومائتين [199] وفيها دخل عجيف بالزطّ بغداد بعد أن قهرهم حتّى طلبوا منه الأمان، فآمنهم على دماءهم وأموالهم، فكانت عدّتهم سبعة وعشرين ألفا بين رجل وامرأة وصبىّ فجعلهم فى السفن وأقبل بهم حتّى نزل الزعفرانية وأعطى أصحابه دينارين دينارين جائزة، ثمّ عبّأهم فى زواريقهم على هيأتهم فى الحرب معهم البوقات حتّى دخل بغداد بهم والمعتصم ببغداد فى سفينة يقال لها: الزوّ، حتّى مرّ به الزطّ على تعبئتهم ينفخون فى البوقات. فكان أوّلهم بالقفص [1] وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقيموا فى سفنهم ثلاثة أيّام. ثمّ دفعوا إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين، ثمّ نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الروم فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد. عقد المعتصم للأفشين حرب بابك وفى هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال وحرب بابك. وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. فعسكر بمصلّى بغداد، ثمّ صار إلى برزند [2] ذكر بابك ومخرجه كان ظهور بابك فى سنة إحدى ومائتين وكان من قرية يقال لها: البذّ [3] ،   [1] . القفص: هنا قرية ببغداد مشهورة (مراصد الإطلاع) . [2] . بلد من نواحي تفليس من أعمال جرزان من أرمينية الأولى، وقال الإصطخرى: هي من أذربيجان (مراصد الإطلاع) . [3] . كورة بين أذربيجان وأتران (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وهزم [200] جيوش السلطان وقتل من قوّاده جماعة. فلمّا أفضى الأمر إلى المعتصم وجّه المعتصم أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل وأمره أن يبنى الحصون التي خرّبها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويقيم مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل. فتوجّه أبو سعيد لذلك وبنى الحصون التي خرّبها بابك. ثمّ وجّه بابك سريّة إلى بعض غاراته وعليها أمير من قبله يقال له: معاوية، فعرض له أبو سعيد فاستنقذ ما كان حواه وقتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة، فهذه أوّل هزيمة كانت على أصحاب بابك. ووجّه أبو سعيد الرؤوس والأسرى إلى المعتصم بالله، ولمّا صار الأفشين إلى برزند عسكر بها ورمّ الحصون فيما بين برزند وأردبيل وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خشّ، فاحتفر فيه خندقا وأنزل الهيثم الغنوي القائد فى ربستاق يقال له: أرشق، فرمّ حصنه واحتفر حوله خندقا وأنزل علّويه الأعور من قوّاد الأبناء فى حصن ممّا يلي أردبيل يسمّى: حصن النهر، فكانت السابلة والقوافل تخرج فتسلّمها بذرقة [1] من واحد من هؤلاء إلى آخر [201] حتّى يتأدّوا [2] إلى مأمنهم وكان كلّما ظفر واحد من هؤلاء القوّاد بجاسوس وجّهوا به إلى الأفشين. فكان الأفشين لا يقتلهم ولا يضربهم ولكن يهب لهم، ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم فيضعفه لهم ويقول للجاسوس: - «كن جاسوسا لنا.»   [1] . بذرفة: فى الأصل بإهمال الثاني. فى آوتد (474) : بذرقة (بالذال المعجمة) . [2] . فى الأصل: يتادون. والصحيح ما فى آ: يتأدّوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 بابك وأفشين وما كان من أمرهما بأرشق وفيها كانت الوقعة بين بابك والأفشين بأرشق، قتل فيها من أصحاب بابك خلق كثير وهرب بابك إلى موقان ثمّ شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذّ. ذكر السبب فى ذلك كان المعتصم وجّه مع بغا الكبير بمال إلى الأفشين عطاء لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال أردبيل، فلمّا نزلها بلغ بابك خبره فتهيّأ ليقطع عليه قبل وصوله إلى الأفشين. فقدم جاسوس على الأفشين فأخبره أنّ بغا الكبير قد قدم بمال وأنّ بابك وأصحابه قد تهيّئوا ليقطعوه قبل وصوله إليك. وكان هذا الجاسوس ورد على أبى سعيد أوّلا فوجّه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيّأ بابك كمينا فى مواضع للمال فكتب الأفشين إلى أبى سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحّة خبر بابك. فمضى أبو سعيد [202] متنكرا مع جماعة حتّى نظروا إلى النيران فى المواضع التي وصفها الجاسوس. فكتب الأفشين إلى بغا أن يقيم بأردبيل حتّى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحّة خبر الجاسوس. فكتب الأفشين إلى بغا يظهر أنّه يريد الرحيل ويشدّ المال على الإبل ويقطّرها ويسير متوجّها من أردبيل كأنّه يريد برزند [1] ، فإذا صار إلى مسلحة النهر أو سار شبيها بفرسخين احتبس القطار حتّى يجوز من صحب المال من قافلة وغيرها إلى برزند، فإذا جاوزت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل.   [1] . فى آ: متوجّها من أردبيل يريد زرند. والأصل يوافق الطبري (11: 1175) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 ففعل ذلك بغا وسارت القافلة حتّى نزلت النهر وانصرف جواسيس بابك إليه يعلمونه أنّ المال قد حمل وعاينوه محمولا. ورجع بغا بالمال إلى أردبيل وركب الأفشين فى اليوم الذي وعد فيه بغا من برزند، فوافى خشّ مع غروب الشمس، فنزل معسكرا خارج خندق أبى سعيد. فلمّا أصبح ركب فى سرّ لم يضرب طبلا ولا نشر علما، وأمر أن تلفّ الأعلام وأمر الناس بالسكوت [1] . وجدّ فى السير ورحلت القافلة التي كانت توجّهت فى ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي. ورحل الأفشين من خشّ [2] [203] يريد ناحية الهيثم ليصادفه فى الطريق، ولم يعلم الهيثم فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر وتعبّأ بابك فى خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر وهو يظنّ أنّ المال موافيه، وخرج صاحب النهر يبذرق من عنده وهو علّوية الذي قلنا إنّه كان هناك، فأخذ يسير نحو الهيثم على رسمه. فخرجت عليه خيل بابك وهم لا يشكّون أنّ المال معه فقاتلهم صاحب النهر علّوية وأصحابه فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وعلموا أنّ المال قد فاتهم، فأخذوا علمه ولباس أهل النهر ودراريعهم وخفاتينهم ولبسوها وتنكّروا ليأخذوا أيضا الهيثم ومن معه ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنّهم أصحاب النهر. فلمّا جاءوا ولم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر وقفوا فى غير موضعه، وجاء الهيثم فوقف فى موقفه فأنكر ما رأى فوجّه ابن عمّ له وقال: - «اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: أىّ شيء وقوفك؟»   [1] . فى آ: بالسكون. ما فى تد (475) كالأصل: بالسكوت. [2] . خش: فى الأصل تخفيف الأخير. وما فى تد (473) والطبري بالتشديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 فجاء ابن عمّ هيثم. فلمّا رأى القوم ودنا منهم أنكرهم، فرجع إلى الهيثم. فقال له: - «إنّ هؤلاء القوم لست أعرفهم.» [204] فقال له الهيثم: - «أخزاك الله ما أجبنك.» ووجّه خمسة من الفرسان، فلمّا قربوا من القوم خرج من الخرّمية رجلان فتلقّوهم فأنكروهما وأعلموهما أنّهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضا فقالوا: - «إنّ الكافر قد قتل علّوية وأصحابه وأخذوا أعلامهم ولباسهم.» فانصرف الهيثم وأتى القافلة التي كانت معه، فأمرهم أن يركضوا ويرجعوا لئلّا يؤخذوا، ووقف هو فى أصحابه يسير بهم قليلا قليلا ويقف قليلا ليشتغل الخرّمية عن القافلة وصار شبيها بالحامية لهم، حتّى وصلت القافلة إلى حصنه الذي كان فيه يكون الهيثم وهو أرشق، وقال لأصحابه: - «من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبى سعيد فيعلمهما وله عشرة آلاف درهم وفرس بدل فرسه إن نفق؟» فتوجّه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن وخرج بابك فيمن معه ونزل بالحصن، ووضع له كرسىّ وجلس على شرف بحيال الحصن وأرسل إلى الهيثم من يحاربه. وكان مع الهيثم فى الحصن ستمائة راجل وأربعمائة فارس وله خندق حصين. فقاتله وقعد بابك فيمن معه ووضع بين يديه الخمر مع أصحاب له [205] يسربونها والحرب مشتبكة. ولقى الفارسان الأفشين على أقلّ من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدّمته: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 - «اضربوا بالطبل وانشروا الأعلام واركضوا نحو هذين الفارسين اللذين يركضان إلينا وصيحوا بهما: لبّيك، لبّيك.» فلم يزل الناس فى طلق واحد متراكضين يكسّر بعضهم بعضا حتّى لحقوا بابك وهو جالس. فلم يتدارك أن يتحرّك ويركب حتّى وافته الخيل والناس واشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجّالة بابك أحد، وأفلت هو فى نفر يسير ودخل موقان وقد تقطّع عنه أصحابه. وأقام الأفشين فى ذلك الموضع وبات ليلته ثمّ رجع إلى معسكره ببرزند. وأقام بابك بموقان [أيّاما] [1] ثمّ بعث إلى البذّ، فجاءه فى الليل عسكر فيهم رجّالة فرحل من موقان حتّى دخل البذّ، فلمّا كانت بعد أيّام مرّت قافلة من خشّ إلى برزند من قبل أبى سعيد ومعها صاحب لهم ومعهم ميرة ومتاع يحمل إلى معسكر الأفشين، فخرج عليهم إصبهبذ بابك فأخذ القافلة وقتل من كان فيها من أهل القافلة وانتهب جميع ما فيها فقحط عسكر الأفشين. فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه فإنّ الناس قد قحطوا وأضاقوا. [206] فوجّه إليه صاحب المراغة بقافلة فيها قريب من ألف ثور سوى الحمير والدوابّ تحمل الميرة ومعها جند يبذرقونها. فخرجت عليهم أيضا سريّة لبابك فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها وأصاب الناس ضيق شديد فكتب الأفشين إلى صاحب الشيروار [2] أن يحمل إليه طعاما، فحمل إليه طعاما كثيرا وأغاث الناس فى تلك السنة وقدم بغا على الأفشين بمال ورجال.   [1] . ما بين المعقوفتين من الطبري (11: 1178) . [2] . كذا فى الأصل: شيروار. فى مط: الشيروان. فى آ: الشيروازان. فى الطبري (11: 1179) : السيروان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 خروج المعتصم إلى القاطول وابتداؤه ببناء سرّ من رأى وفى هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول وابتدأ ببناء سرّ من رأى وذلك فى ذى القعدة منها. ذكر السبب فى ذلك كان سبب خروجه إلى القاطول أنّ غلمانه الأتراك كانوا عجما قد اصطنعهم ورأى فيهم نجابة، وكان لا يزال يجد الواحد بعد الواحد قتيلا فى الأرباض. وذلك أنهم كانوا يركبون الدوابّ فيتراكضون فى طرق بغداد وشوارعها فيصدمون الرجل والمرأة ويطأون الصبىّ، فيأخذهم الأبناء فينكّسونهم عن دوابّهم ويجرحون بعضهم فربّما هلك. فتأذّى الأتراك بهم وتأذّت العامّة بالأتراك حتّى شكت [207] الأتراك إلى المعتصم. فحكى أنّ المعتصم كان ركب يوم عيد إلى المصلّى، فلمّا انصرف وصار فى مربعة الحرشي، قام إليه شيخ فقال: - «يا با إسحاق.» فابتدره الجند ليضربوه، فأشار إليهم المعتصم بالكفّ عنه فقال الشيخ [1] : - «مالك لا جزاك الله عن الجوار خيرا، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا فأيتمت بهم صبياننا وأرملت بهم نساءنا وقتلت بهم رجالنا.» والمعتصم يسمع ذلك كلّه، ثمّ دخل داره.   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: الشيخ. فى الطبري (11: 1181) : للشيخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 فلم ير راكبا إلى السنة القابلة فى مثل ذلك اليوم. فلمّا كان العام المقبل فى مثل ذلك اليوم خرج فصلّى بالناس العيد، ثمّ لم يرجع إلى داره ببغداد. ولكنّه صرف وجه دابّته إلى القاطول [1] . وحكى أنّه قام أيضا إلى المعتصم يوما رجل من العامّة فقال: - «يا با إسحاق، اخرج عن مدينتنا وإلّا حاربناك بما لا تقوم له.» فتقدّم بأخذ الرجل وحمله إليه. فلمّا صار بين يديه قال: - «ويلك بمن تحاربنى وما هذا الذي لا أقوم له؟» قال: «نحاربك بأصابعنا إذا هدأت الأصوات بالليل» - يعنى الدعاء. فسكت عن الرجل ولم يعرض له. ثمّ خرج فبنى سرّ من رأى. وفى هذه السنة غضب [208] المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه. ذكر الخبر عن غضبه عليه وحبسه له وسبب اتصاله به ونفاقه عليه كان الفضل هذا رجلا من أهل البردان حسن الحظّ، فاتصل بكاتب للمعتصم يقال له يحيى الجرمقانى. فمات يحيى وصار الفضل فى موضعه وذلك قبل خلافة المعتصم، ثمّ خرج معه إلى عسكر المأمون وصار معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر وكثرت ذخائره وكنوزه. ثمّ قدم الفضل قبل المأمون بغداد ينفذ أمور المعتصم ويكتب عنه وعلى لسانه ما أحبّ، حتّى قدم المعتصم خليفة، فصار الفضل صاحب الخلافة والدواوين كلّها تحت يديه فتضاعفت كنوزه.   [1] . القاطول: نهر كان فى موضع سامرّا قبل أن يعمر (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 فكان المعتصم يأمر بإطلاق الشيء لندمائه ومغنّيه، فلا ينفذ الفضل، وربّما رادّه فى الشيء إدلالا عليه وأنسا به، وكان قد نزل منه وحلّ من قلبه المحلّ الذي لا يحدّث أحد نفسه بملاحظته فضلا عن منازعته ولا فى الاعتراض عليه إذا أراد شيئا أو حلم به، فكانت هذه المنزلة تحمله على الدالّة حتّى كان يخالفه ويمنعه بعض أمره وبعض المال الذي [209] يصرفه فى مهمّه. فحكى عن أحمد بن أبى دؤاد أنّه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم فكثيرا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان: - «احمل إلىّ كذا من الدراهم.» فيقول: «ما عندي.» فيقول: «فاحتلها من وجه، فليس منها بدّ.» فيقول: «ومن أين أحتالها ومن أين وجهها ومن يعطيني هذا القدر؟» فكان ذلك يسوءه وأعرفه فى وجهه فلمّا كثر هذا من فعله ركبت يوما إليه فقلت له مستخليا به: - «يا أبا العبّاس إنّى أعرف أخلاقك، وعلى ذاك ما أدع نصيحتك وأداء ما يجب علىّ من حقّك. وقد أراك كثيرا ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبة غليظة ترمضه وتقدح فى قلبه والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيّما إذا كثر ذلك وغلظ.» قال: «وما ذاك يا با عبد الله؟» قلت: «أسمعه كثيرا، كثيرا [1] ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه فى وجه كذا، فتقول من يعطيني هذا وهذا ما لا تحتمله الملوك.» قال: «فما أصنع إذا طلب منّى ما ليس عندي؟»   [1] . تكرّر فى الأصل ومط دون آ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 قلت: «تصنع أن تقول: أحتال يا أمير المؤمنين فى ذلك فتدفع [1] عنك أيّاما ثمّ تحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه الباقي.» قال: «نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به.» قال: فو الله لكأنّى كنت [210] أغريه بالمنع. فكان إذا عاود مثل ذلك القول عاد إلى مثل ما يكره من الجواب. وكان مع المعتصم رجل مضحك يستخفّ روحه وكان قديم الصحبة له يقال له: إبراهيم الهفتىّ، فأمر له بمال وتقدّم إلى الفضل بن مروان فى إعطائه فلم يعطه الفضل شيئا. فبينا الهفتىّ يوما يتمشّى مع المعتصم فى بستان داره التي بنيت له ببغداد، وقد نقل إليه أنواع من الرياحين والغروس [2] ، وكان الهفتىّ يصحب المعتصم قبل أن تفضى إليه الخلافة، فيقول له فيما يداعبه: - «والله لا أفلحت.» وكان الهفتى مربوعا ذا كدنة والمعتصم رجلا معرّقا خفيف اللحم فجعل المعتصم يسبق الهفتىّ فى المشي فإذا تقدّمه ولم ير الهفتىّ معه التفت إليه فقال له: - «ما لك لا تمشى؟» يستعجله. فلمّا كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتى قال له الهفتىّ مداعبا له: - «أصلحك الله، كنت أرانى أماشى خليفة ولم أكن أرانى أماشى فيجا [3] والله لا أفلحت.» فضحك المعتصم وقال:   [1] . كذا فى الأصل ومط. فى آ: فتدافع. [2] . فى آ: الغروش (بالشين المعجمة) . [3] . الفيج: رسول السلطان الذي يسعى على رجليه، والكلمة معرّبة عن «پيك» الفارسية، التي أصبحت فى الإنجليزية والفرنسية Page:وبنفس المعنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 - «ويلك وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة؟» فقال له الهفتى: - «أتحسب أنّك قد أفلحت الآن؟ إنّما لك من الخلافة الإسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك. [211] وإنّما الخليفة الفضل بن مروان الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته.» قال المعتصم: - «وأىّ أمر لى لم ينفذ؟» فقال: «أمرت لى بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت ممّا أمرت به منذ ذاك حبّة.» وكان هذا أوّل ما حرّك المعتصم فى القبض على الفضل بن مروان. وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يتولّى ما كان أبوه يتولّاه للمأمون من عمل الفساطيط وآلة الجمّازات [1] ويكتب عليها ممّا جرى على يدي محمد بن عبد الملك. وكان يلبس إذا حضر الدار الدرّاعة السوداء والسيف بالحمائل. فدعاه الفضل يوما وقال له: - «ما هذا الزىّ إنّما أنت تاجر فما لك والسواد والسيف؟» فترك ذلك محمد. وأخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني فأحسن دليل إليه ولم يزرأه شيئا. وعرض عليه محمد هدايا فأبى دليل أن يقبل منها شيئا. ثمّ غضب المعتصم على الفضل بن مروان وأهل بيته وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم وصيّر محمد بن عبد الملك مكانه. فلمّا صار محمد بن عبد الملك وزيرا استدعى الفضل يوما وقد دخل دار   [1] . الجمازات: ما فى الأصل مهمل. فى آحمازات. وفى مط: خمارات. فضبطناها حسب تد (481) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 السلطان بسواد وسيف وهو إذ ذاك مغضوب عليه يحاسب، فقال: - «ما هذا الزىّ؟ الزم منزلك، فإن احتيج إليك [212] استدعيت.» ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين وقعة كانت بين بغا وبابك وفى هذه السنة كانت بين بغا الكبير وبابك وقعة بناحية هشتاذ سر فهزم بغا واستبيح عسكره. [1] ذكر الخبر عن ذلك كان بغا قدم بالمال الذي مضى ذكره ففرّقه الأفشين على أصحابه وتجهّز بعد النيروز عند زوال البرد ومكروه الثلج، ووجّه بغا فى عسكر ليدور حول هشتاذ سر وينزل فى خندق محمد بن حميد ويحكمه ويخفره، ووجّه أبا سعيد من وجه آخر ورحل الأفشين من برزند، فتجهّز بغا من غير مواقفة [2] الأفشين وسار حتّى نزل قرية البذّ فى وسطها وأقام بها يوما واحدا واحتاج إلى الميرة والأعلاف، فوجّه ألف رجل فى علّافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك فاستباح العلّافة وقتل البعض وأسر البعض ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك ويسأله المدد فقال الأفشين: - «ما عمل شيئا وأقدم بغير أمرنا.» ثمّ وجّه إليه أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وصاحب شرطة الحسن وقرابة [213] للفضل بن سهل. ثمّ كتب   [1] . انظر الطبري (11: 1186) . [2] . كذا فى الأصل: مواقفة. فى آ: موافقة. وفى مط: مواقعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 الأفشين إلى بغا يعلمه أنّه يغزو بابك فى يوم سمّاه له ويأمره أن يغزوه فى ذلك اليوم بعينه ليحاربه من كلا الوجهين. فخرج الأفشين فى ذلك اليوم يريد بابك وخرج بغا، فعسكر على دعوة فهاجت ريح شديدة ومطر شديد فلم يكن للناس صبر على البرد وشدّة الريح فانصرف بغا إلى عسكره وواقعهم الأفشين من الغد وبغا غير حاضر، فهزمه الأفشين وأخذ عسكره وخيمته، ونزل الأفشين فى معسكر بابك. ثمّ تجهّز بغا من الغد وصعد هشتاذ سر، فوجد العسكر الذي كان مقيما بإزائه قد انصرف إلى بابك فترك بغا فى موضعه وأصاب قماشا وخرثيّا [1] قد تركوه، ثمّ انحدر من هشتاذ سر يريد البذّ وكان على مقدّمته داود سياه فبعث إليه: - «إنّا قد توسّطنا الموضع الذي تعرفه يعنى الذي كنا فيه فى المرّة الاولى وهذا وقت المساء وقد تعب [2] الرجّالة، فانظر جبلا حصينا يسع معسكرنا حتّى نعسكر فيه ليلتنا هذه.» فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى قلّة جبل فأشرف فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال [3] فقال: - «هذا موضعنا.» فجاءهم فى تلك الليلة سحاب وبرد [214] ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل لأخذ ماء ولا سقى دابّة من شدّة البرد وكثرة الثلج وكأنهم كانوا فى نهارهم ذلك فى ليل من الضباب المتراكم وشدّة الظلمة. فلمّا كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:   [1] . الخرثي: أردأ المتاع وسقطه. فى آ: حريثا. [2] . فى مط: بعث. [3] . فى مط: شبيه الجبال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 - «قد فنى ما معنا من الزاد وأضرّ بنا البرد فانزل على أية حال كانت، إمّا راجعين وإمّا نحو الكافر.» تبييت بابك الأفشين وقد كان فى يوم الضباب بيّت بابك الأفشين ونقض عسكره وانهزم الأفشين وانصرف إلى معسكره فضرب بغا بالطبل وانحدر يريد البذّ. فلمّا صار إلى بطن الوادي نظر إلى السماء منجلية والدنيا طيّبة غير رأس الجبل الذي كان عليه. فعبّأ بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدّمة وتقدّم يريد البذّ وهو لا يشكّ أنّ الأفشين فى موضع معسكره فمضى حتّى صار لزق [1] جبل البذّ ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذّ إلّا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدّمته غلام لابن البعيث، وكان ابن البعيث هذا ذا نكاية فى بابك وأصحابه وكان للغلام قرابة بالبذّ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام فقال له: - «فلان؟» قال: «نعم.» قال: «من هذا هاهنا؟» فسمّى له [215] من معه من أهل بيته فقال: - «ادن منّى حتّى أكلّمك.» فدنا منه الغلام فقال له: - «ارجع وقل لمن تعنى به يتنحّى فإنّا قد بيّتنا الأفشين وهزمناه، ونحن قد تهيّأنا لكم فى عسكرين، فعجّل الانصراف لعلّك أن تنفلت.»   [1] . فى مط: فوق جبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 فرجع الغلام فأخبر صاحبه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا يشاور أصحابه، فقال بعضهم: - «هذا باطل وهذه خدعة، ليس من هذا شيء.» وقال بعض الكوهانيّين [1] : - «إنّ هذا جبل أعرفه. من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين.» فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممّن نشط، فأشرفوا على الموضع فلم يروا فيه أحدا، فيقن أنّه مضى وتقرّر رأيه على أن ينصرف فى صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر داود سياه بالانصراف، فجدّ فى السير ولم يعد فى الطريق الذي دخل منه مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي دخل منه فى المرّة الأولى يدور حول هشتاذ سر وليس فيه مضيق إلّا فى موضع واحد. فسار بالناس وبعث الرجّالة فرموا بأسلحتهم وطرحوا الرماح فى الطريق ودخلتهم وحشة شديدة ورعب عظيم وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة [216] من القوّاد فى الساقة، وظهرت طلائع بابك ونزل بغا فتوضّأ وصلّى ووقف فى وجوههم وتخوّف بغا على عسكره أن يوافقه [2] الطلائع من ناحية ويدور عليهم فى بعض الجبال والمضايق قوم آخرون فشاور من حضره وقال: - «لست آمن أن يكون هؤلاء الذين بإزائنا مشغلة يحبسوننا عن المسير ويسبقوننا إلى المضايق قوم آخرون.» فأشار الفضل بن كاوس أن يوجّه إلى داود سياه وهو على المقدّمة أن يسرع السير ولا ينزل حتّى يجاوز المضيق ولو فى نصف الليل. فأمّا نحن   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: الكوهانيّين. ما فى الطبري (11: 1190) : الكوهبانيّين. [2] . فى مط: أن تواقعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 فنقف هاهنا ونماطلهم حتّى تجيء الظلمة [1] ، فإنّ هؤلاء لا يعرفون حينئذ لنا موضعا، فإن أخذ علينا المضيق تخلّصنا بأفراسنا من طريق هشتاذ سر أو من طريق آخر. وأشار غيره على بغا فقال: - «إنّ العسكر قد تقطّع وليس يدرك أوّله آخره والناس قد رموا بسلاحهم وقد بقي المال والسلاح على البغال وليس معه أحد ولا نأمن أن يخرج علينا من يأخذ المال والسلاح والأسير الذي معنا» - وكان معهم ابن جويدان [2] أسيرا. فلمّا ذكر ذلك لبغا أشفق منه ووجّه إلى داود سياه: «حيثما رأيت جبلا حصينا فعسكر عليه.» فعدل داود إلى جبل مؤرّب لم يكن للناس [217] فيه موضع للجلوس من شدّة نصوبه [3] ، فعسكر عليه وضرب لبغا مضرب على طرف الجبل فى موضع شبيه بالحائط ليس فيه مسلك، فنزل فيه وأنزل الناس وقد كلّوا وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة يتحارسون من ناحية المصعد وجاءهم العدوّ من الناحية الأخرى، فعلّقوا بالجبل حتّى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوه وبيّتوا العسكر وخرج بغا راجلا حتّى نجا وخرج الفضل بن كاوس ونجا وقتل ابن جوشن وقرابة الفضل بن سهل وجماعة غيرهم، ووجد بغا بعد خروجه من العسكر دابّة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتاذ سر حتّى انحدر به على عسكر محمد بن حميد وخندقه، فوافاه فى جوف الليل وأخذ الخرّمية المال والعسكر والسلاح والأسير ولم يتبعوا الناس   [1] . فى مط: حتى يجيء الليل والظلمة. [2] . جويدان جاويدان. [3] . فى الطبري (11: 1192) : هبوطه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 ومرّ الناس متقطعين حتّى وافوا بغا. وأقام بغا خمسة عشر يوما فى خندق محمد بن حميد حتّى أتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة. وانصرف الفضل أخو الأفشين وجمع من كان فى عسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرّق الأفشين الناس فى مشاتيهم تلك السنة [218] حتّى جاء الربيع من السنة المقبلة. ثمّ دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين وفيها وجّه المعتصم بالله إلى الأفشين جعفر بن دينار الخيّاط مددا له، ثمّ أتبعه بإيتاخ ووجّه معه ثلاثين ألف ألف درهم للجند والنفقات. فلمّا جاء الربيع ووصل إلى الأفشين ما وجّه من المال والمدد فوافاه [1] ذلك كلّه وهو ببرزند سلّم إليه إيتاخ المال والرجال وانصرف وأقام جعفر الخيّاط إلى أن حضر الوقت الذي يمكن فيه الغزو وطاب الزمان. فتح البذّ مدينة بابك واستباحتها وفى هذه السنة فتحت البذّ مدينة بابك ودخلها المسلمون واستباحوها. ذكر الخبر عن ذلك وسببه لمّا عزم الأفشين على الدنوّ من البذّ جعل يزحف قليلا قليلا على خلاف زحفه قبل ذلك إلى المنازل التي كان ينزلها وكان يتقدّم الأميال الأربعة فيعسكر فى موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إليه ولا يحفر خندقا ولكنّه يقيم معسكرا [219] فى الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل   [1] . فوافاه: كذا فى الأصل وآ ومط: فوافاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 الناس نوائب كراديس، تقف على ظهور الخيل كما يدور العسكر بالليل، فبعض القوم معسكر وبعض وقوف على ظهور دوابّهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار، مخافة البيات، كي إن دهمهم أمر كان الناس على تعبئة والرجّالة فى العسكر، فضجّ الناس من التعب وقالوا: - «كم نقعد هاهنا فى المضيق ونحن قعود فى الصحراء وبيننا وبين العدوّ أربعة فراسخ ونحن نفعل فعال من يرى العدوّ بإزائه؟ قد استحيينا من الناس والجواسيس الذين يمرّون بنا، وبين العدوّ وبيننا أربعة فراسخ ونحن قد متنا من الفزع، اقدم بنا فإمّا لنا وإمّا علينا.» فقال: «أنا والله أعلم أنّ ما تقولون حقّ، ولكن أمير المؤمنين أمرنى بهذا ولا أجد بدّا منه.» فلم يلبث أن ورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرّى بدرّاجة الليل، فانحدر فى خاصّته حتّى نزل روذ الروذ وتقدّم حتّى شارف الموضع الذي واقعه عليه بابك فى العام الماضي، فنظر إليه فإذا عليه كردوس من الخرّمية فلم يحاربوه ولم يحاربهم فقال بعض العلوج: [220]- «ما لكم تجيئون وتفرّون، أما تستحيون؟» فأمر الأفشين ألّا يجيبوهم ولا يبرز إليهم أحد، فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر ثمّ رجع إلى عسكره فلم يزل على ذلك أيّاما وكان يأمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم ولا يحرّكهم ولا يهيجهم وأمر الفعلة وكانوا يسمّون الكلغريّة [1] أن يحملوا شكاء الماء والكعك. فلمّا صاروا إلى روذ الروذ أمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الفعلة أن ينقلوا الحجارة ويحصّنوا الطرق التي تسلك إلى   [1] . والضبط من الطبري (11: 1199) حيث جاء فيه: الكلغريّة، وهم الفعلة. ويحتمل أن يكون أصلها الفارسي: گلگران، أى عمّال الطين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 تلك الأجبال، وكانت ثلاثة أجبال حصينة كان اختارها ففعل ذلك فصارت شبه الحصون، ثمّ أمر فاحتفر على طريق وراء تلك الحجارة على المصعد خندقا، ولم يترك إليها إلّا مسلكا واحدا، ثمّ أمر أبا سعيد بالانصراف. فلمّا كان الثامن من الشهر وعلم أنّ ضوء القمر قد أمتع. دفع إلى الرجّالة الكعك والسويق ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير ووكّل بمعسكره من يحفظه، وانحدر وأمر الرجّالة بالصعود إلى رؤوس تلك الجبال، وأن يحملوا معهم ما يحتاجون إليه من الماء والزاد، ووجّه أبا سعيد [221] ليواقف القوم على عادته وأمر الناس بالدخول فى السلاح وألّا يأخذ الفرسان سروج دوابّهم. ثمّ خطّ الخندق وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكّل بهم من يستحثّهم، وكان يأمر بالعشىّ أن يتحارسوا ولا يناموا ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، ويأمر الفرسان أن يصيروا كراديس بين كلّ كردوس وكردوس مقدار رمية سهم، وتقدّم إلى جميع الكراديس: - «ألّا يلتفتن واحد منكم إلى الآخر وليحفظ كلّ رجل منكم ما يليه. فإن سمعتم هدّة فلا يلتفتنّ أحد منكم إلى أحد فكلّ كردوس قائم بما إليه [1] ، ونحن لا نمدّه بأحد.» ملاطفة بين بابك وأفشين فى تلك الحال فلم تزل الكراديس وقوفا على ظهور دوابّهم إلى الصباح والرجّالة فوق رؤوس الجبال يتحارسون، فلبثوا كذلك عشرة أيّام حتّى فرغوا من حفر الخندق، ودخله اليوم العاشر وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط: إليه. ما فى الطبري (11: 1200) : بما يليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 على الرفق فينقلوه. وأتاه رسول بابك معه قثّاء وبطّيخ وخيار يعلمه أنّه فى أيّامه هذه فى جفاء، إنّما يأكل الكعك والسويق [222] هو وأصحابه، وأنّه إن أحبّ أن يلطفه بذلك فعل. فقال الأفشين للرسول: - «قد عرفت أىّ شيء أراد أخى بهذا. إنّما أراد أن ينظر إلى العسكر، وأنا أقبل برّه وأعطى شهوته. فقد صدق، أنا فى جفاء.» وقال للرسول: - «أمّا أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتّى ترى معسكرنا وترى ما وراءنا.» فأمر بحمله على دابّة، وأن يصعد به، حتّى يرى الخندق، وينظر إلى خندق كلان روذ. وخندق برزند ويتأمّل الخنادق الثلاثة ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه. ففعل به ذلك. ثمّ أطلقه ووصله وقال: - «اذهب واقرأه منّى السلام. [1] » ثمّ إنّ الأفشين كان فى كلّ أسبوع يضرب الطبول نصف الليل ويخرج بالشمع والنفّاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كلّ إنسان كردوسه من كان فى الميمنة ومن كان فى الميسرة. فيخرج الناس فيقفون فى مواقفهم. وكان الأفشين يحمل أعلاما سوداء كبارا على البغال وكان اثنى عشر علما وكانت أعلامه الصغار نحو خمسمائة علم وكانت طبوله الكبار اثنين وعشرين طبلا، فيقف أصحابه على مراتبهم حتّى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه [223] فيؤذّن المؤذّن بين يديه ويصلّى الناس بغلس، ثمّ يأمر بضرب الطبول ويسير زحفا، وكانت علامة السير ضرب الطبول، فإن   [1] . أى: اقرأ عليه منّى: السلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 أراد أن يقف أمسك عن ضربها فيقف الناس من كلّ ناحية فى جبل أو واد. وكان يسير هذه الستة الأميال التي بين معسكره وهو روذ الروذ وبين البذّ ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر، فإذا أراد أن يصعد إلى الموضع الذي كانت الحرب عليها فى العام الماضي خلّف بخارا خذاه [1] على رأس العقبة مع ألف وستمائة رجل يحفظون الطريق، لا يخرج أحد من الخرّمية، فيأخذ عليهم الطريق. وكان بابك إذا أحسّ بعساكر الأفشين أنّها قد تحرّكت من الخندق تريده فرّق أصحابه كمنا، ولم يبق معه إلّا نفير يسير، ولم تكن تعرف المواضع التي يكمنون فيها. وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع أشرف على قصر بابك وجلس على كرسىّ، وفرّق الرجّالة فى طلب الكمناء ووقف الفرسان على ظهور دوابّهم إلى بعد الظهر، والخرّمية بين يدي بابك يشربون الشراب ويزمرون بالسّرنايات ويضربون بالطبول، حتّى [224] إذا صلّى الأفشين انحدر إلى خندقه بروذ الروذ. ونفخ أصحاب بابك فى بوقاتهم وضربوا بصنوجهم استهزاء ولا يبرح بخاراخذاه حتّى يجوزه الناس جميعا، ثمّ ينصرف فى آثارهم حتّى إذا كان فى بعض الأيّام ضجرت الخرّمية من التفتيش وانصرف الأفشين كعادته وانصرفت الكراديس. فلمّا انتهى إلى جعفر الخيّاط نوبة العبور فتح الخرّمية خندقهم وخرج منهم عدّة فحملوا على من بقي من أصحاب جعفر الخيّاط، وارتفعت الضجّة فى العسكر ورجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه وحمل على أولئك الفرسان حتّى ردّهم إلى باب البذّ. ثمّ وقعت الضجّة فى العسكر فرجع الأفشين وجعفر من ذلك الجانب يقاتل فى أصحابه وقد جرح   [1] . انظر الطبري (11: 1203) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 من أصحابه عدّة ومن أصحاب بابك عدّة من الفرسان مع فرسان ليس بينهم رجّالة، فرجع الأفشين حتّى طرح الكرسىّ له على النطع فى موضعه الذي كان يجلس فيه وهو يتلظّى [1] على جعفر ويقول: - «قد أفسد تعبئتي وما أريد.» وكان مع أبى دلف فى كردوسه قوم من المطوّعة من البصرة وغيرها. فلمّا ارتفعت الضجّة ونظروا إلى جعفر يحارب [225] انحدر أولئك المطوّعة بغير أمر الأفشين وعبروا إلى الجانب الآخر من الوادي حتّى صاروا إلى حائط البذّ فتعلّقوا به وأثّروا فيه آثارا، وكادوا يصعدونه فيدخلون البذّ. ووجّه جعفر إلى الأفشين أن: - «أمدّنى بخمسمائة راجل من الناشبة، فإنّى أدخل البذّ إن شاء الله، فقد عرفت القوم وعلمت مأتاهم.» فبعث إليه الأفشين: - «قد أفسدت علىّ أمرى كلّه، فتخلّص قليلا وخلّص أصحابك وانصرف.» وارتفعت الضجّة من جهة المطوّعة حتّى تعلّقوا بالبذّ وظنّ الكمناء من أصحاب بابك أنّها الحرب قد اشتبكت، فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب آخرون وراء الركوة التي كان الأفشين عليها يقعد، فتحرّكت الخرّمية والناس وقوف على رؤوسهم لم يزل منهم أحد. فقال الأفشين: - «الحمد لله الذي بيّن لنا مواضع هؤلاء.» ثمّ انصرف جعفر وأصحابه والمطوّعة، فجاء جعفر فقال للأفشين:   [1] . ما فى آبغير إعجام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 - «إنّما وجّهنى أمير المؤمنين للحرب التي ترى لا للقعود هاهنا، وأراك تقعد بى فى أوقات حاجاتي. قد كان يكفيني خمسمائة رجل حتّى أدخل البذّ [1] أو جوف داره لأنّى قد رأيت من بين [226] يدىّ.» فقال الأفشين: - «لا تنظر إلى من بين يديك ولكن انظر إلى من خلفك وما قد وثبوا ببخاراخذاه وأصحابه.» فذهب جعفر يتكلّم، فقال له الفضل بن كاوس: - «لو كان الأمر إليك ما كنت تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف حتّى تقول كنت [2] .» قال له جعفر: - «هذه الحرب وها أنا [3] واقف لمن جاء.» فقال له الفضل: - «لولا مجلس الأمير لعرّفتك نفسك الساعة.» فصاح بهما الأفشين فأمسكا وأمر أبا دلف أن يردّ المطوّعة عن السور. فقال أبو دلف للمطوّعة: - «انصرفوا.» فجاء رجل منهم ومعه صخرة فقال: - «أتردّنا وهذا الحجر من السور أخذته؟ ولو أخذ معى كلّ واحد مثله لأزلنا السور عن موضعه.» فقال له:   [1] . فى آ: «النداة جوف داره» بدل «البذّ» ، أو جوف داره. [2] . كنت: كذا فى الأصل وآ ومط. فى الطبري (11: 1207) : كنت وكنت. [3] . كذا فى آومط: أنا والضبط فى الأصل والطبري (11: 1207) هانا (بحذف الهمزة للتخفيف) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 - «إذا انصرفت الساعة تدرى على من طريقك» - يعنى العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من ورائه. ثمّ قال الأفشين لأبى سعيد فى وجه جعفر: - «أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين. ليس كلّ من خفّ رأسه فيقول، يفي بما يقول. [1] إنّ الوقوف فى الموضع الذي نحتاج إليه خير من المحاربة فى الموضع الذي لا نحتاج إليه. لو وثب هؤلاء الذين تحتك- وأشار إلى الكمين- كنت تدرى هؤلاء المطوّعة الذين هم فى القمص [227] أىّ شيء كان يكون حالهم، فالحمد لله الذي سلّمهم، قف ها هنا فلا تبرح حتّى لا يبقى هاهنا أحد.» وانصرف الأفشين وكان من سنّته أن ينصرف على تعبئة كردوس بعد كردوس ويكون آخرهم. وأقام الأفشين فى خندقه بروذ الروذ أيّاما. فشكا إليه المطوّعة الضيق فى العلوفة والزاد، فقال لهم: - «من صبر فليصبر ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام، فإنّ معى من جند أمير المؤمنين ومن هو فى أرزاقه من يقيم معى فى الحرّ والبرد، ولست أبرح من هاهنا حتّى يسقط الثلج.» فانصرف المطوّعة وهم يقولون: - «لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذّ، ولكنّه يشتهى المماطلة.» أفشين والرؤيا التي رءاها بعض المطوّعة فبلغه ذلك وما أكثر فيه المطوّعة وتناولوه بألسنتهم حتّى قال بعضهم:   [1] . فيقول، يفي بما يقول: كذا فى الأصل، وهو التصحيح. فى مط: فيقول: ولا يفي بما يقول. فى آ: يقول، بقي بما يقول. والعبارة فى الطبري (11: 1208) : «ليس كلّ من خفّ رأسه يقول: إن الوقوف ... » الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 - «رأيت فى المنام رسول الله صلّى الله عليه فقال لى: قل للأفشين إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت فى أمره، وإلّا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة.» فتحدّث الناس بذلك فى العسكر حتّى صار جلّ حديثهم به علانية كأنّه مستور. فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوّعة فأحضرهم وقال لهم: - «أحبّ أن تروني هذا الرجل.» فأتوه به، فانحشر [228] معه الناس فقرّبه وأدناه ثمّ قال: - «قصّ علىّ رؤياك ولا تحتشم. فإنّك إنّما تؤدّى.» قال: «رأيت كذا وكذا.» فقال: «الله يعلم بنيّتى وما أريده للمسلمين وبهؤلاء الخلق، وإنّ الله عزّ وجلّ لو أراد أن يأمر الجبال برجم أحد لرجم الكافر وكفانا مؤونته، فكيف يرجمنى حتّى أكفيه مؤونته، كان يرجمه ولا يحتاج أن أقاتله، وأنا أعلم أنّ الله مطّلع على قلبي وما أريد بكم يا مساكين.» فقال رجل من المطوّعة من الوجوه: - «أيّها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن حضرت [1] ، فإنّما قصدنا ثواب الله ووجهه، ولو أردنا الحياة لقعدنا فى منازلنا، فدعنا وحدنا حتّى نتقدّم بعد أن يكون بأذنك، فلعلّ الله أن يفتح علينا.» فقال الأفشين: - «أرى نيّاتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وقد نشطتم ونشط أصحابى وقد حدث لى الساعة رأى فى ذلك وهو خير إن شاء الله، اعزموا   [1] . كذا فى الأصل. ما فى الطبري (11: 1210) : إن كانت قد حضرت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 على بركة الله أىّ يوم شئتم حتّى نناهضه، لا حول ولا قوّة إلّا بالله.» فخرج القوم مستبشرين، فمن كان أراد الانصراف أقام ومن كان خرج ثمّ سمع بذلك رجع. ووعد الناس ليوم، وتقدّم إلى الناس بأخذ الأهبة ثمّ خرج [229] وأخرج المحامل على البغال لمن لعلّه يجرح، وأخرج المتطبّبين، وزحف الناس، حتّى صعد إلى المكان الذي كان يجلس فيه وطرح له النطع ووضع عليه الكرسىّ كما كان يفعل وقال لأبى دلف: - «قل لأصحابك أىّ ناحية هي أسهل عليهم فليقتصروا عليها.» وقال لجعفر: - «العسكر كلّه بين يديك والناشبة والنفّاطون أمامك، فخذ حاجتك واعزم على بركة الله، ادن من أىّ موضع شئت.» قال: «أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه.» قال: «امض.» ثمّ دعا أبا سعيد فقال له: - «قف بين يدىّ أنت وجميع أصحابك ولا يبرحنّ منكم أحد.» ودعا أحمد بن الخليل فقال له: - «قف أنت أيضا وجميع أصحابك ها هنا ودعوا جعفرا يعبر ومن معه من الرجال، فإن أراد رجالا وفرسانا أمددناه.» توجّه أبى دلف نحو حائط البذّ فتوجّه أبو دلف مع المطوّعة نحو حائط البذّ وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم وحمل جعفر حملة حتّى ضرب باب البذّ كما فعل تلك الدفعة ووقف على الباب وواقفه الخرّمية ساعة، فوجّه الأفشين برجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 معه بدرة دنانير وقال: - «قل لأصحاب جعفر: من تقدّم حثوت له ملء كفّى.» ودفع بدرة [230] أخرى دنانير إلى آخر، وقال: - «اذهب إلى موضع المطوّعة وقل مثل ذلك.» وبعث بأطواق وأسورة مع البدرتين، واشتبكت الحرب، ثمّ فتح الخرّمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحّوهم عن الباب وشدّوا على المطوّعة من الناحية الأخرى فرموهم عن السور، وأخذوا علمين لهم وشدخوهم بالصخر حتّى أثّروا فيهم ورقّوا عن الحرب. وصاح جعفر بأصحابه فبدر منهم نحو مائة رجل فبركوا [1] خلف تراسهم التي كانت معهم وواقفوهم متحاجزين لا هؤلاء يقدمون ولا هؤلاء، حتّى صلى الناس الظهر يختلف بينهم النشّاب والحجارة. فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ فى الناس، فوجّه إلى جعفر بكردوس فقال جعفر: - «لست أوتى من قلّة الرجال، معى رجال ولكن لست أرى للحرب موضعا وقد انقطعت الحرب.» فبعث إليه: - «انصرف على بركة الله.» فانصرف جعفر وتقدّم الأفشين بحمل الجرحى ومن به وهن من الحجارة فى المحامل التي على البغال وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ ويئس الناس من الفتح فى تلك السنة وانصرف [231] أكثر المطوّعة.   [1] . فبركوا: كذا فى الأصل والطبري (11: 1213) . فى آ: مائة راجل فنزلوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 ثمّ إنّ الأفشين تجهّز بعد جمعتين فلمّا كان فى الليل بعث الرجّالة الناشبة وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كلّ واحد منهم شكوة [1] وكعكا، ودفع إليهم أعلاما سودا وقال: - «سيروا حتى تصيروا خلف التلّ الذي عليه آذين» - وهو صاحب جيش بابك. وأرسل مهم الأدلّاء وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد حتّى يروا أعلام الأفشين عند صلاة الغداة، فحينئذ فركّبوا الأعلام على الرماح واضربوا بالطبول وانحدروا من فوق الجبل وارموا بالنشّاب والصخر على الخرّمية وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره. ففعلوا ذلك ووافوا رأس الجبل عند السحر وجعلوا فى تلك الشكاء الماء من الوادي. فلمّا كان السحر وجّه الأفشين إلى القوّاد أن: - «اركبوا فى السلاح.» فركبوا، وأخرج النفّاطين والشمع وضرب بالطبل حتّى وافى الموضع الذي كان يقف عليه وبسط النطع ووضع الكرسىّ لعادته، وكان بخاراخذه يقف على العقبة التي كان يقف عليها فى كلّ يوم فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخاراخذاه فى المقدّمة مع أبى سعيد وجعفر الخيّاط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة وأمرهم أن يدنوا [232] من التلّ الذي عليه آذين فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم. فمضوا جميعا حتّى صاروا كالحلقة حول التلّ وارتفعت الضجّة وتحرّك الكمين واشتبكت الحرب. فلمّا سمع الرجّالة الناشبة الذين تقدّموا صوت الطبول ورأوا الأعلام   [1] . الشكوة: وعاء من جلد للماء أو اللبن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وركّبوا أعلامهم وانحدروا على أصحاب آذين وحمل جعفر الخيّاط وأصحابه حتّى صعدوا إليهم ثمّ حملوا حملة منكرة، قلبوه [1] وأصحابه فى الوادي. وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلا عليها صخرة. فلمّا حمل الناس دفع العجل على الناس، فأفرج الناس عنها حتّى تدحرجت ثمّ حمل الناس من كلّ وجه. بابك يريد الأمان فلمّا نظر الناس إلى ذلك كبّروا ونظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، فخرج من طرف البذّ من باب يلي الأفشين يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل، فأقبل بابك يسأل عن الأفشين فقال لهم المطوّعة وأصحاب أبى دلف: - «من هذا؟» فقالوا: «بابك، يريد الأفشين.» فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه ذلك. فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك. فنظر إليه، ثمّ عاد إليه فقال: - «نعم هو بابك.» فركب إليه الأفشين، فدنا منه حيث يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة [233] فى ناحية آذين، فقال له: - «أريد الأمان من أمير المؤمنين.» فقال له الأفشين: - «قد عرضت عليك هذا وهو لك مبذول متى شئت.»   [1] . قلبوه: كذا فى مط والطبري (11: 1216) . ما فى آمهمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 فقال: «قد شئت الآن على أن تؤجّلنى أجلا أحمل فيه عيالي وأتجهّز.» قال له الأفشين: - «قد والله نصحتك غير مرّة وأنا أنصحك الساعة: خروجك اليوم فى الأمان خير من غد.» قال: «قد قبلت أيّها الأمير.» قال له الأفشين: - «فابعث بالرهائن التي كنت سألتك.» قال: «نعم. أمّا فلان وفلان فهم على ذلك الجبل، فمر أصحابك بالتوقّف عنهم.» فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس. فقيل له: - «من يردّ الناس؟ إنّ أعلام الفراغنة [1] قد دخلت البذّ وصعدوا بها إلى القصور.» فصاح الأفشين بالناس ودخل ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق القصور وقد كان بابك كمّن فى قصوره وهي أربعة، ستمائة راجل. فوافاهم الناس فصعدوا فوق القصور بالأعلام وامتلأ شارع البذّ وميدانها من الناس وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور وخرجوا يقاتلون الناس، ومرّ بابك حتّى دخل الوادي الذي يلي هشتاذ سر واشتغل الأفشين وقوّاده بالحرب على أبواب القصور وأحضروا النفّاطين فصبّوا عليهم النفط والناس والنار يهدمون [234] القصور حتّى قتلوهم عن آخرهم. وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاتهم وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا، وكان عامّة الخرّمية فى البيوت فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.   [1] . فى آومط: الفراعنة (بالعين المهملة) . والأصل مثل الطبري (11: 1218) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 فذكر الناس أنّ بابك وأصحابه حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله وحملوا أموالهم، ثمّ دخلوا الوادي الذي يلي هشتاذ سر، فلمّا كان من الغد خرج الأفشين حتّى دخل البذّ فوقف فى القرية وأصعد الكلغريّة [1] فهدموا القصور وحرّقوها. فعل ذلك ثلاثة أيّام حتّى أحرق خزائنه وقصوره ولم يدع بيتا واحدا. ثمّ رجع وقد علم أنّ بابك قد أفلت فى بعض أصحابه. فكتب إلى ملوك أرمينية وأصحاب الأطراف يقول: - «إنّ بابك قد هرب فى عدّة معه وهو مارّ بكم فلا يفوتنّكم.» وجاءت الجواسيس إلى الأفشين فأخبروه بموضعه فى الوادي وكان واديا معشبا كثير الشجر طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه ولا يرى من يستخفى فيه، إنّما هو غيضة ملتفّة الأشجار والأنهار فوجّه الأفشين إلى كلّ موضع يعلم أنّ منه طريقا ينحدر إلى تلك الغيضة، إذ يمكن بابك أن يخرج [235] منه عسكرا، وكان يوجّه إلى كلّ عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت عدّة هذه العساكر خمسة عشر عسكرا. أمان مختوم بالذهب من المعتصم لبابك وكانوا كذلك حتّى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالله مختوما بالذهب فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين ممّن كان استأمن إليه من أصحاب بابك وبالأسرى وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال لهم: - «هذا ما لم أكن أطمع له فيه، أن يكتب له أمير المؤمنين وهو فى هذه   [1] . فى مط: الكل مرته وهو خطأ. والكلمة شرحناها قبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 الحال بأمان، فمن يأخذه ويذهب به إليه؟» فلم يجسر على ذلك أحد منهم وقالوا: - «أيّها الأمير ما فينا من يجترئ أن يلقاه بهذا.» فقال الأفشين: - «ويحكم، إنّه يفرح بهذا.» قالوا: «أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك.» قال: «فلا بدّ من أن تهبوا لى أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه.» فقام رجلان منهم فقالا: - «اضمن لنا أنّك تجرى على عيالاتنا.» فضمن لهما. وأخذا الكتاب وتوجّها، فلم يزالا يدوران فى الغيضة حتّى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك يعلمه الخبر ويسأله أن يصير إلى الأمان. فدفعا إليه الكتاب عن ابنه فقرأ الكتاب ابنه وقال: - «أىّ شيء صنعتم؟» قال: «أسر عيالاتنا [236] ولم نعرف موضعك فنأتيك.» فقال للذي كان معه الكتاب: - «أمّا هذا فلا أعرفه، ولكن أنت يا ابن الفاعلة كيف اجترأت أن تجيئني من عند ابن الفاعلة؟» - يعنى ابنه. فأخذه وشدّ الكتاب على صدره مختوما لم يفضّه وضرب عنقه. ثمّ قال للآخر: - «اذهب أنت فقل لابني [1] : يا بن الزانية قد تحقّقت الساعة أنّك لست لى بابن، وأنّ أمّك جاءت بك من عهر، لو عشت يوما واحدا وأنت رئيس   [1] . ما فى الأصل: لابنه. فصحّحناه حسب السياق، والعبارة ساقطة فى كلّ من آومط. وهي فى الطبري (11: 21- 1220) . «وقل لذاك ابن الفاعلة- يعنى ابنه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 هذه الدعوة، كان خيرا لك من أن تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل، ولكنّك من جنس لا خير فيه.» وردّ الرجل مع أدلّاء حتّى دلّوه ورجعوا إلى بابك. فناء زاد بابك ثمّ إنّ بابك فنى زاده وخرج ممّا يلي طريقا فيه جبل لا يقيم عليه عسكر لبعده من الماء، وكان الناس قد أقاموا هناك فارسين وكوهيّين [1] يحرسون الطريق بنوبة، فلمّا خرج بابك وأصحابه وكان معه أخواه عبد الله ومعاوية وامرأة له وساروا يريدون أرمينية، نظر إليهم الفارسان والكوهيّان، فتوجّهوا إلى العسكر وعليه أبو الساج، فأعلموه أنّهم رأوا فرسانا خرجوا من الغيضة ومرّوا لا ندري من هم. فركب [237] الناس وساروا فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدّون عليها. فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه. فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له. فوجّه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر ومرّ بابك حتّى دخل جبال أرمينية يسير متكمّنا فى الجبال فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم وأوصوا مسالحهم [2] : [أن] [3] لا يجتاز عليهم أحد إلّا أخذوه حتّى يعرفوه. وكان أصحاب المسالح كلّهم متحفّظين.   [1] . الكوهىّ: المنسوب إلى ال «كوه» وهو بالفارسية: الجبل. [2] . فى آ: مشالحهم. وهو تصحيف. [3] . أن: أضفناها من مط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 بابك والحرّاث وما فعل ابن سنباط وأصاب بابك الجوع فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له فى بعض الأودية. فقال لغلام له: - «انزل إلى هذا الحرّاث وخذ معك دراهم ودنانير، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه.» وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته. فنزل الغلام إلى الحرّاث يخاطبه، فنظر إليه شريكه من بعيد فوقف بالبعد يفرق أن يجيء إلى شريكه. فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئا، فجاء الحرّاث فأخذ الخبز فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر ويظنّ أنّه إنّما اغتصبه خبزه. فعدا إلى صاحب [238] المسلحة [1] فأعلمه أنّ رجلا عليه سيف وسلاح جاءهم وأخذ خبز شريكه من الوادي. فركب صاحب المسلحة وكان فى جبال ابن سنباط، ووجّه إلى سهل بن سنباط بالخبر. فركب ابن سنباط وجماعة معه حتّى جاءه مسرعا، فوافى الحرّاث والغلام عنده فقال: - «ما هذا؟» قال الحرّاث: - «هذا رجل مرّ بى فطلب خبزا فأعطيته.» فقال للغلام: - «أين مولاك؟» قال: «هاهنا.» فأومأ إليه، فاتّبعه فأدركه وهو نازل. فلمّا رأى وجهه عرفه، فترجّل له   [1] . فى مط: المصلحة. وهو تصحيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 ابن سنباط عن دابّته ودنا منه فقبّل يده ثمّ قال: - «يا سيّدى [1] إلى أين؟» قال: «أريد بلاد الروم- أو موضعا سمّاه.» فقال له: - «لا تجد أحدا أعرف بحقّك ولا أحقّ أن تكون عنده منّى. أنت تعرف موضعي، ليس بيني وبين السلطان عمل ولا يدخل علىّ أحد من أصحاب السلطان، وأنت عارف بقصتي وبلدي وكلّ من ها هنا من البطارقة، إنّما هم أهل بيتك قد صار لك منهم أولاد.» وذلك أنّ بابك كان إذا علم أنّ عند أحد البطارقة بنتا أو أختا جميلة وجّه يطلبها، فإن بعث بها وإلّا بيّته وأخذها وأخذ جميع ما له من متاع وغيره. ثمّ قال له ابن سنباط: - «صر عندي فى حصني [239] فإنّما هو منزلك وأنا عبدك فكن فيه شتوتك هذه ثمّ ترى رأيك.» وكان بابك قد أصابه الضرّ والجهد فركن إلى كلام سهل بن سنباط وقال له: - «ليس يستقيم أن أكون أنا وأخى فى موضع واحد، لعلّه أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكنّى أقيم عندك وتوجّه [2] عبد الله أخى إلى ناحية ابن اصطفانوس، لأنّه ليس لنا خلف يقوم بدعوتنا.» فقال له ابن سنباط: - «ولدك كثير.» قال: «ليس فيهم خير.»   [1] . فى الأصل: يا سيّده. فى آ: يا سيدي. وفى الطبري (11: 1223) : يا سيداه. [2] . كذا فى الأصل: توجّه. فى الطبري (11: 1223) : يتوجّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 ابن سنباط يكتب الخبر إلى الأفشين وما كان بعد ذلك وكان يثق بابن اصطفانوس. فلمّا أصبح عبد الله مضى إلى حصن اصطفانوس وأقام بابك عند ابن سنباط. فكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أنّ بابك عنده فى حصنه. فكتب إليه: - «إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين- أعزّه الله- الذي تحبّ.» وكتب يجزّيه خيرا. ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصّته ممّن يثق به ووجّه به إلى ابن سنباط، وكتب إليه يعلمه أنّه وجّه إليه برجل من خاصّته يحبّ أن يرى بابك ليحكى للأفشين ذلك. فكبره ابن سنباط ذلك إشفاقا من أن يوحش ذلك بابك. فقال للرجل: - «ليس يمكنك أن تراه إلّا فى الوقت الذي يكون منكبّا على طعامه يتغدّى. فإذا رأيتنا قد [240] دعونا بالطعام فالبس ثياب الطبّاخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنّك تقدّم الطعام أو تتناول شيئا، فإنّه يكون متّكئا على الطعام فتفقّد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك.» ففعل به ذلك فى وقت الطعام فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره وقال: - «من هذا الرجل؟» فقال له ابن سنباط: - «هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان، نصراني.» فقال له بابك: - «منذ كم أنت هاهنا؟» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 قال: «منذ كذا وكذا سنة.» قال: «وكيف أقمت ها هنا؟» قال: «تزوّجت ها هنا.» فقال له: - «صدقت، إذا قيل للرجل من أين أنت، قال: من حيث امرأتى.» ثمّ رجع إلى الأفشين فأخبره ووصف له بابك: ووجّه الأفشين أبا سعيد وبو زبازه [1] إلى ابن سنباط وكتب إليه معهما وأمرهما إذا صار إلى بعض الطريق قدّما كتابه [2] إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج. وأمرهما إلّا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما. ففعلا ذلك فكتب إليهما ابن سنباط فى المقام بموضع قد سمّاه ووصفه لهما إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين فى الموضع الذي وصفه لهما، ووجّه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد حتّى تحرّك بابك للخروج إلى الصيد [241] فقال له: - «ها هنا واد طيّب وأنت مغموم فى جوف هذا الحصن، فلو خرجت، ومعنا باز [3] وباشق وما تحتاج إليه فنتفرّج إلى وقت الغداء بالصيد.» فقال له بابك: - «إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداء.» وكتب ابن سنباط إلى أبى سعيد وبو زبازه يعلمهما ما عزم عليه ويأمرهما أن يوافياه: واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر، وأن   [1] . كذا فى الأصل وآ: بو زبازه. فى الطبري (11: 1225) : بو زباره. وفى حواشيه: بو زباه. [2] . فى الأصل وآ: كتابهما. ما فى الطبري (11: 1225) : كتابه. وهو الصحيح. [3] . كذا فى الأصل وآ ومط: باز وباشق. وهما فى الطبري (11: 1225) : بازى وباشق. وأصلهما الفارسي: باز وباشه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 يسيرا متكمّنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي فانحدرا عليه إذا رأوهم وأخذوهم. فلمّا ركب ابن سنباط وبابك وجّه ابن سنباط رسولا إلى هذا ورسولا إلى هذا وأراد أن يشبّه على بابك ويقول: - «هذه خيل قد جاءتنا فأخذتنا ولم يحبّ أن يدفعه إليهما من منزله.» فأشرفا على الوادي فإذا هما ببابك وابن سنباط وكان على بابك درّاعة بيضاء. فانحدرا وأصحابهما عليه هذا من ها هنا وهذا من ها هنا. فأخذاهما ومعهما البواشيق. فلمّا نظر بابك إلى العساكر قد أحدقت به وقف ينظر إليهم. فقالا له: - «انزل.» فقال: «ومن أنتما؟» قال أحدهما: - «أنا أبو سعيد.» وقال الآخر: - «أنا بو زبازه.» فقال: «نعم.» وثنّى رجله فنزل- وكان ابن سنباط ينظر إليه- فرفع رأسه [242] إلى ابن سنباط فشتمه وقال: - «إنّما بعتني من اليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال منّى وطلبته لأعطيتك أكثر ممّا يعطيك هؤلاء.» بابك يحمل إلى الأفشين ثمّ أركبوه وحملوه وجاءوا به إلى الأفشين. فجلس له الأفشين ببرزند فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 خيمة بين يديها فازة، فاصطفّ الناس له صفّين، فأمر الأفشين ألّا يتركوا غريبا [1] من الصفّين فرقا أن يجرحه إنسان أو يقتله ممّن قتل أولياءه أو صنع به داهية. وقد كان صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان ذكروا أنّ بابك كان أسرهم وأنّهم أحرار من العرب والدهاقين. فأمر الأفشين بإفرادهم فى حظيرة وأجرى عليهم أقواتهم وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم وكل من جاءه فعرف امرأة أو صبيّا أو صبيّة وأقام شاهدين يعرفان أنّها حرمة له أو قرابة دفعها إليه. فكان قد ذهب خلق كثير وبقي ناس كثير منهم ينتظرون أن تجيء أولياؤهم. فلمّا كان ذلك اليوم وصار بين بابك وبين الأفشين قدر نصف ميل أنزل بابك، فمشى بين الصفّين فى درّاعته وعمامته وخفّيه حتّى وقف بين يدي الأفشين. فنظر إليه الأفشين ثمّ قال: - «انزلوا به إلى العسكر.» فنزلوا به راكبا. فلمّا نظر النساء والصبيان الذين كانوا [243] أفردهم الأفشين فى حظيرة لطموا وجوههم وصاحوا وبكوا حتّى ارتفعت أصواتهم. فوجّه الأفشين إليهم: - «أنتم بالأمس تقولون أسرنا وأنتم اليوم تبكون عليه، لعنكم الله.» قالوا: «إنّه كان محسنا إلينا.» فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكّل به جماعة من ثقاته. وكان عبد الله أخو بابك مقيما عند عيسى بن اصطفانوس، فأعلم الأفشين بمكانه فكتب   [1] . كذا فى الأصل وآ: غريبا. وفى الطبري (11: 1227) : عربيّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 إليه يأمره أن يوجّه بعبد الله. فوجّه به عيسى بن اصطفانوس إلى الأفشين. فلمّا صار فى يد الأفشين حبسه مع أخيه فى بيت واحد ووكّل بهما قوما يحفظونهما. وكتب إليه المعتصم يأمره بالقدوم بهما عليه. فلمّا أراد أن يصير إلى العراق وجّه إلى بابك: - «أنظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان.» قال: «أشتهى أن أنظر إلى مدينتي.» فوجّهه مع قوم فى ليلة مقمرة إلى البذّ حتّى دار فيه ونظر إلى البيوت والقتلى فيه إلى وقت الصبح ثمّ ردّ. فيظنّ أنّه تأمّل مواضع كنوزه. ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين قدوم الأفشين ببابك على المعتصم وما فعل المعتصم به فقدم فيها الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه سرّ من رأى. وكان المعتصم يوجّه [244] إلى الأفشين كلّ يوم منذ فصل من برزند إلى أن وافى سرّ من رأى فرسا وخلعة، وكان المعتصم لعنايته بأمر بابك وفساد الطريق بالثلج وغيره رتّب بين سرّ من رأى وبين عقبة حلوان خيلا مضمّرة على رأس كلّ فرسخ فرسا معه مجر، وكان يركض بالخبر ركضا حتّى يؤدّيه واحد إلى واحد يدا بيد. وأمّا ما وراء حلوان إلى أذربيجان فقد رتّب فيه دوابّ المرج فكانت تركض يوما أو يومين ثمّ تبدّل. وكان لهم ديادبة [1] على رؤوس الجبال بالليل والنهار ينعرون إذا جاءهم الخبر. فإذا سمع الذي يليه تعبّأ واستعدّ فلا   [1] . فى الأصل: دبّابة. وهو تحريف. فى آ: دياذبة. وفى الطبري (11: 1229) : ديادبة وكلاهما صحيح. وهو جمع مفرده: الديدبان: الرقيب. المراقب. (فارسىّ معرّب) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 يبلغ إليه صاحبه حتّى يقف له على الطريق فيأخذ منه الخريطة ويركض بها. فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سرّ من رأى فى أربعة أيّام وأقلّ. فلمّا صار الأفشين ببابك إلى سرّ من رأى لم يصبر المعتصم أن يحمل إليه حتّى ذهب متنكّرا فرءاه وتأمّله وبابك لا يعرفه. ثمّ قعد له المعتصم من الغد واصطفّ له الناس بين باب العامّة إلى المطيرة وبها أنزل بابك. وأراد المعتصم أن يشهّره فاستشار: - «على أىّ شيء يحمل ويشهر؟» فقيل: «يا أمير المؤمنين [245] لا شيء أشهر من الفيل.» فأمر بتهيئة الفيل فخضب وحمل عليه بابك فى قباء ديباج وقلنسوة سمّور مدوّرة هو وحده. فقال محمد بن عبد الملك الزيّات: قد خضب الفيل كعاداته ... لحمل شيطان خراسان والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلّا لذي شأن من الشأن فاستشرفه الناس من المطيرة [1] إلى باب العامّة، ثمّ أدخل به على المعتصم وأحضر جزّار لقطع أعضائه، ثمّ أمر أن يحضر سيّافه، وكان اسمه نوذ، فخرج الحاجب من باب العامّة فقال: - «نوذ، نوذ.» وارتفعت الضجّة: - «نوذ، نوذ.»   [1] . المطيرة: قرية من نواحي سامرّاء كانت متنزّهاتها بنيت فى أواخر خلافة المأمون بناها مطير بن فزارة السبعانى فنسبت إليه (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 حتّى حضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط، فأمر أن يشقّ بطنه، ثمّ حزّ رأسه. ووجّه به إلى خراسان وصلب بدنه بسرّ من رأى. فموضع خشبته مشهور إلى الآن. أخو بابك يحمل إلى بغداد وحمل أخوه إلى بغداد فعمل به ما عمل ببابك. ويقال إنّه لمّا صار إلى البردان أنزل على ابن شروين فى قصره، وابن شروين ملك طبرستان، فحمد الله أخو بابك وقال: - «أنا أشكر الله حيث وفّق لى رجلا من الدهاقين يتولّى قتلى.» قال: «إنّما يتولّى قتلك هذا.» [246] وأشار إلى نوذ، وكان حاضرا وقد حمل معه. فقال: «أنت صاحبي وإنّما هذا علج فأخبرني أمرت أن تطعمني شيئا أم لا؟» قال: «قل ما شئت.» قال: «اضرب لى فالوذجة.» فأمر فضربت له فالوذجة فى جوف الليل فأكل منها حتّى تملّأ ثمّ قال: - «يا با فلان ستعلم غدا أنّى دهقان إن شاء الله.» ثمّ قال: «تقدر أن تسقيني نبيذا؟» قال: «نعم ولا تكثر.» قال: «فإنى لا أكثر.» قال: فأحضر أربعة أرطال خمرا، فشربها على مهل إلى قريب الصبح. ثمّ وافى به من الغد مدينة السلام وأحضر رأس الجسر. فأمر إسحاق بن إبراهيم بن مصعب بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلّم ولم يضطرب، ثمّ أمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 بصلبه فصلب فى الجانب الشرقي. واستخرج الأفشين لسهل بن سنباط من المعتصم ألف ألف درهم ومنطقة مغرقة بالذهب [1] والجوهر وتاج البطرقة وكان هذا سبب بطرقة سهل بن سنباط. وأخذ الأفشين لمعاوية أخى بابك مائة ألف درهم. تتويج المعتصم الأفشين بعد قتل بابك وتوّج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر ووصله بعشرين ألف ألف درهم: عشرة آلاف له وعشرة آلاف يفرّقها فى أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل إليه الشعراء يمدحونه وأمر لهم بصلات. فممّا مدح به [247] قول أبى تمام الطائي: بذّ الجلاد البذّ فهو دفين ... ما إن به إلّا الوحوش قطين قد كان عذرة سؤدد فافتضّها ... بالسّيف فحل المشرق الأفشين هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلى وشؤون إيقاع ملك الروم بأهل زبطرة وفى هذه السنة أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل زبطرة [2] فأسرهم وخرّب بلدهم ومضى من فوره إلى ملطية [3] فأغار على أهلها وعلى حصون كثيرة فسبا من المسلمات خلقا كثيرا ومثّل بمن صار فى يده من   [1] . الذهب: ليس لا فى آولا فى الطبري (11: 1232) . [2] . زبطرة: مدينة بين ملطية وسميساط (شميشاط) . (مراصد الإطلاع) . [3] . ملطية: والعامّة تكسر الطاء وتشدّد الياء: من بلاد الرّوم مشهورة تتاخم الشام (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 المسلمين فسمل أعينهم وقطع آنفهم وآذانهم. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ بابك لمّا ضاق به الأمر وأشرف على الهلاك وأحسّ فيمن صحبه بالضعف، كتب إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل يعلمه: أنّ ملك العرب قد وجّه عساكره ومقاتلته إلىّ وشغلهم بى، حتّى وجّه خيّاطه- يعنى جعفر بن دينار- ووجّه طبّاخه- يعنى ايتاخ- ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه [248] فاعلم أنّه ليس فى وجهه أحد يمنعك. منه، طمعا منه فى أنّ ملك الروم إن تحرّك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بازائه من جيوشه إلى ملك الروم. فخرج ملك الروم فى مائة ألف وأكثر، فيهم من الجند نيّف وسبعون ألفا والباقون حشر وأتباع، وأخرج معه المحمّرة الذين كانوا أخرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وكان الملك صيّرهم مقاتلته. فلمّا دخل ملك الروم زبطرة وقتل أهلها وسبى الذرارىّ والنساء بلغ النفير سرّ من رأى، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة إلّا من لم يجد سلاحا ولا دابّة، واستعظم المعتصم ذلك، فلمّا انتهى إليه الخبر قال: - «لبّيك لبّيك.» وذلك أنّه بلغه أنّ امرأة من السبي قالت: - «وا معتصماه.» وصاح فى قصره النفير. ثمّ ركب دابّته وسمّط خلفه شكالا وسكّة حديد وحقيبة، ولم يستقم له أن يخرج إلّا بعد التعبئة فأحضر ثلاثمائة ونيّفا وعشرين من القضاة والعدول فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده وثلثا لله وثلثا لمواليه، ثم عسكر بغربىّ دجلة ووجّه عجيف بن عنبسة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وعمر [249] الفرغاني وجماعة أمثالهما من القوّاد إلى زبطرة إغاثة لأهلها فلحقوا وقد انصرف ملك الروم وفعل ما فعل. فلمّا ظفر المعتصم ببابك قال: - «أىّ بلاد الروم أمنع وأحصن؟» فقيل: «عموريّة، لم يعرض لها أحد من المسلمين وهي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من قسطنطينية.» شخوص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم فشخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم فتجهّز جهازا لم يتجهّز مثله قطّ خليفة من السلاح والعدد والآلات وحياض [1] الأدم والروايا والقرب والبغال وآلة الحديد وآلة النار والنفط، وجعل على مقدّمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته ايتاخ وعلى ميسرته جعفر بن دينار وعلى القلب عجيب بن عنبسة، وبعث الأفشين حيدر بن كاووس إلى سروج وأمره بالتزوّد منها وسمّى له يوما أمره فيه بدخول درب الحدث وقدّر لعسكره وعسكر أشناس يوما يدخل فيه الأفشين بقدر ما بين المسافتين، ورأى أن تجتمع عساكره بأنقرة، فإذا فتحها الله صار إلى عمرويّة. فقدم أشناس من درب طرسوس وتبعه وصيفه وجمع مقدمات العسكر. فلمّا صار أشناس بمرج الأسقف ورد عليه كتاب المعتصم يأمره بالمقام [250] ويعلمه أنّ الجواسيس أتته بأنّ الملك يريد أن يقف على المخاضة ويكبسهم، وأعلمه أيضا أنّه ينتظر ساقته لأنّ فيها الأثقال والمجانيق والزاد. فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيّام حتّى ورد كتاب المعتصم يأمره أن يوجّه قائدا فى سريّة يلتمسون رجلا من الروم يسألونه عن خبر الملك ومن   [1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (11: 1236) : حياض. فى مط: حياظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 معه. فوجّه أشناس عمر الفرغاني فى مائتي رجل فرسانا، فساروا ليلتهم حتّى أتوا حصن قرّة وطافوا يلتمسون رجلا حول الحصن فنذر بهم صاحب قرّة، فخرج فى جميع من معه بأنقرة وكمّن فى الجبل الذي بين قرّة ودرّة، وعلم عمر الفرغاني بما صنع. فتقدّم إلى درّه فتكمّن بها ليلته. فلمّا انفجر عمود الصبح صيّر عسكره ثلاثة كراديس وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك وواعدهم إلى موضع عرفه الأدلّاء ووجّه مع كلّ كردوس دليلين ومضوا فتفرّقوا فى ثلاثة وجوه فأخذوا عدّة من عسكر الملك ومن الضواحي، وأخذ عمر فارسا من فرسان أنقرة فسأله عن الخبر، فأخبره أنّ الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللامس [1] بأربعة فراسخ وهو نهر قريب من طرسوس على نحو فرسخ منها عليه يقع الفداء [2] . وذكروا أنّ الملك بلغه [251] دخول عسكر كثير بلاده فرحل إليه واستخلف على عسكره هناك ابن عمّ له ينتظر ورود الملك- يعنى المعتصم- ليواقعه فكان ذلك العسكر الذي توسّط بلاد الروم عسكر الأفشين. فوجّه أشناس بذلك الرجل إلى المعتصم فأخبره بجميع ذلك. وبادر المعتصم من عسكره بقوم من الأدلّاء وضمن لكلّ رجل منهم عشرة آلاف درهم على أن يوافوا بكتابه الأفشين. وأعلمه أنّ أمير المؤمنين مقيم فليقم، وأشفق أن يواقعه ملك الروم. وكتب إلى أشناس يأمره أن يوجّه من قبله رسولا مع الأدلّاء العارفين بالطرق والجبال والمتشبّهة بالروم، وبذل لكلّ واحد منهم عشرة آلاف ويكتب إلى الأفشين: «أنّ ملك الروم قد أقبل نحوه فليقم مكانه حتّى يوافيه أمر أمير المؤمنين.»   [1] . كذا فى الأصل ومط: اللامس. فى آ: اللامير. وفى الطبري (11: 1139) : اللّمس. [2] . كذا فى الأصل وآ ومط: الفداء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 فتوجّهت الرسل نحو الأفشين فلم يلحقه أحد منهم: لأنّه كان وغل فى بلاد الروم وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة. فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدّم فتقدّم والمعتصم وراءه بينهما مرحلة ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليه خبر من الأفشين حتّى صاروا بأنقرة على ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من [252] الماء والعلف. أشناس والشيخ وكان أشناس قد أسر عدّة أسرا فى طريقه فأمر بهم فضربت أعناقهم حتّى بقي منهم شيخ كبير فقال الشيخ: - «ما تنتفع بقتلى وأنت فى عسكرك فى هذا الضيق من الماء والزاد والعلف وأنا أدلّك على قوم بالقرب، قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب ومعهم من الميرة والطعام شيء كثير.» فوعده أشناس أن يطلقه إن فعل ذلك. فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمر الناس دوابّهم حتّى شبعت وتعشّى الناس وشربوا حتّى رووا. ثمّ سار بهم حتّى أخرجهم من الغيضة [1] بقية ليلتهم يدور بهم فى جبل ولا يخرجهم منه. فقال الأدلّاء: - «هذا الرجل يدور بنا.» فسأله عمّا قال الأدلّاء. فقال الشيخ: - «صدقوا ولكنّ القوم الذين نريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر فيهربوا، فإذا خرجنا   [1] . فى مط: الغبطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 من الجبل ولم تر أحدا قتلتني. فأنا أدوّر بك فى هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم فأريتك إيّاهم.» فقال له: - «ويحك فأنزلنا فى الجبل حتّى نستريح.» فقال: «رأيك.» فنزلنا على الصخر وأمسكنا لجم دوابّنا حتّى الفجر. فلمّا طلع الفجر قال: - «وجّهوا رجلين [253] يصعدان هذا الجبل [1] فيبصران ما فوقه ويأخذان من أدركا فيه.» فصعد أربعة فأصابوا رجلا وامرأة فأنزلوهما وسائلهما العلج عن أهل أنقرة: «أين باتوا.» فسمّيا الموضع. فقال الشيخ: - «خلّوا عن هذين فإنّا قد أعطيناهما الأمان حتّى دلّونا.» فخلّى عنهما وسار بهم العلج إلى الموضع. فأشرف بهم على عسكر أهل أنقرة. فلمّا رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان فدخلوا الملّاحة [2] ووقفوا على طرفها يقاتلون وأخذوا منهم عدّة أسرى وأصابوا فى الأسرى قوما بهم جراحات فسألوهم عنها فقالوا: - «كنّا مع الملك فى وقعة الأفشين.» فقالوا لهم: - «فحدّثونا بالقصّة.» فأخبروا أنّ الملك كان معسكرا بلامس حتّى جاءه رسول فأخبره أنّ عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الارمنياق [3] فاستخلف على عسكره   [1] . فى آ: هذا الرجل. [2] . انظر الطبري (11: 1242) . [3] . فى مط: الارمنيان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 رجلا من أهل بيته وأمره بالقيام فى موضعه، فإن ورد عليه مقدّمة ملك الروم واقعه، إلى أن يذهب هو فيواقع هذا العسكر- يعنى عسكر الأفشين. فقال أميرهم: - «نعم وكنت ممّن سار مع الملك فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجّالتهم كلّهم وتقطّعت عساكرنا فى طلبهم. فلمّا كان [254] الظهر رجع فرسانهم فقاتلونا قتالا شديدا حتّى اختلطوا بنا فلم ندر أين الملك ولم نزل كذلك إلى العصر، ثمّ رجعنا إلى موضع معسكر الملك باللّامس فلم نصادفه، ووجدنا العسكر قد انتقض وانصرف الناس عن قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا ليلتنا. فلمّا كان الغد فإذا الملك فى جماعة يسيرة فوجد عسكره قد اختلّ فطلب الذي كان استخلفه وضرب عنقه وكتب إلى المدن والحصون: لا يأخذوا رجلا [ممن انصرف] [1] من عسكر الملك إلّا ضربوه بالسياط حتّى يرجع إلى موضع سمّاه لهم الملك. حتّى إذا اجتمع الناس ناهض ملك العرب وأنفذ الملك خصيّا له إلى عمّوريّة إلى أن يلحقه بها.» لحوق أشناس، ثمّ المعتصم، ثم الأفشين بأنقرة فانصرف المسلمون بما أخذوا وتركوا السبىّ والمقاتلة يريدون عسكر أشناس وساقوا فى طريقهم غنما وبقرا كثيرا، وأطلقوا ذلك الشيخ الأسير، وسار أشناس بالأسرى حتّى لحق بأنقرة فمكث أشناس يوما واحدا ثمّ لحقه المعتصم من غد فأخبره بجميع ما ذكره الأسير فسرّ المعتصم. فلمّا كان اليوم   [1] . ما بين المعقوفتين هو من آوالطبري (11: 1243) . وهو ليس لا فى الأصل ولا فى مط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة [255] وأنّه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة. ثمّ ورد الأفشين فأقاموا أيّاما ثمّ ساروا إلى عمّوريّة وقد صيّر المعتصم العسكر ثلاثة عساكر وبين عسكر وعسكر فرسخان، فساروا يخرّبون ويسبون ما بين أنقرة إلى عمّوريّة وبينهما سبع مراحل. ثمّ توافت العساكر بعمّوريّة فكان أوّل من وردها أشناس فدار حولها دورة، ثمّ نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش. ولمّا كان من الغد جاء المعتصم فدار حولها دورة، ثمّ جاء الأفشين فى اليوم الثالث فقسّمها أمير المؤمنين بين القوّاد كما يدور وصيّر إلى كلّ واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم. وتحصّن أهل عمّوريّة وتحرّزوا، وكان بعموّريّة رجل من المسلمين أسره قديما أهل عمّوريّة فتنصّر وتزوّج فيهم فحبس نفسه عند دخولهم الحصن. فلمّا رأى أمير المؤمنين ظهر وجاء إلى المعتصم فأعلمه أنّ موضعا من المدينة حمل عليه الوادي من سيل عظيم فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمّوريّة أن يبنى ذلك الموضع فتوانى فى بنائه حتّى كان خروج الملك من قسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوّف الوالي أن يمرّ الملك على الناحية فيمرّ بالسور فلا يراه بنى فبنى وجه السور [256] بالحجارة حجرا حجرا وصيّر وراءه من جانب المدينة حشوا، ثمّ عقد فوقه الشرف كما كان. فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف فأمر المعتصم بضرب مضربه فى ذلك الموضع ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع. فلمّا رأى أهل عمّورية انفراج السور علّقوا عليه الخشب الكبار المضمومة بعضها إلى بعض فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسّر، فعلّقوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 فوق الخشب البراذع. فلمّا ألحّت المجانيق على ذلك الموضع لم ينفع فيها شيء وتصدّع السور. فكتب ياطس والخصىّ إلى ملك الروم كتابا يعلمانه أمر السور ووجّها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي فعبرا الخندق ووقعا إلى ناحية عمر الفرغاني، فوجّه بهما إلى أشناس. فحين سألوهما: - «من أنتما؟» لم يعرفا أحدا من القوّاد بالعسكر يسمّيانه لهم. ففتّشا فوجد معهما الكتاب [1] . فقرئ وإذا فيه: - «إنّ العسكر قد أحاط بالمدينة وأنّه قد عزم على أن يركب ويحمل خاصّة أصحابه على الدوابّ التي فى الحصن ويفتح الأبواب ليلا غفلة ويخرج عن [2] العسكر، كائنا فيه ما كان أفلت من أفلت وأصيب من أصيب، حتّى يصير [257] إلى الملك.» فلمّا قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلّم بالعربية وللغلام الرومي بيده فأسلما وخلع عليهما وأمر بهما حين طلعت الشمس فأدارهما [3] حول عمّوريّة فقالا: - «ياطس يكون فى هذا القصر.» - يعنون البرج.» فوقفا بحذاءه طويلا وعليهما الخلع وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم ومعهما الكتاب حتّى عرف خبرهما جميع الروم وسمعا شتمهم إيّاهما ثمّ نحّوهما. ثمّ أمر المعتصم بحراسة الأبواب نوائب يحصرها الفرسان يبيتون على   [1] . فى مط: كتاب. [2] . فى مط: على. [3] . فى آ: فأداروهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 دوابّهم فى السلاح لئلّا يفتح الباب ليلا فيخرج إنسان. فلم يزالوا كذلك حتّى انهدم ما بين برجين فى الموضع الذي وصف للمعتصم ممّا لم يحكم عمله، فسمع أهل العسكر الوجبة، فارتاعوا وظنّوا العدوّ قد احتال بحيلة وخرج، حتّى أرسل المعتصم من طاف على العسكر يعلمهم أنّ ذلك صوت السور قد سقط فطيبوا نفسا. تدبير حربىّ فاشل وكان المعتصم اتّخذ مجانيق كبارا وجعلها على كراسىّ تحتها عجل وعملها كأوثق ما تكون، ثمّ فرّق غنما مما استاقه على أهل العسكر ليأكلوا لحمها ويحشوا جلدها ترابا ثمّ أتى بالجلود مملوءة ترابا فطرحت فى الخندق، وعمل [258] دبّابات كبارا تسع كلّ دبّابة عشرة رجال على أن يدحرجوها على تلك الجلود حتّى يمتلئ الخندق. فلمّا طرحت الجلود وقعت مختلفة فلم يمكن تسويتها [1] خوفا من حجارة المنجنيق، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتّى استوت، ثمّ قدّمت دبّابة فدحرجوها. فلمّا صارت من الخندق فى نصفه تعلّقت بتلك الجلود وبقي القوم فيها فما تخلّصوا إلّا بعد جهد، ثمّ مكثت تلك العجلة مقيمة باقية هناك لا يمكن فيها حيلة حتّى فتحت عمّورية وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم حتّى أحرقت. فلمّا كان من الغد قاتلهم على الثلمة وكان المعتصم واقفا على دابّته بإزاء الثلمة وأشناس والأفشين وقوف رجّالة.   [1] . فى الأصل: تسريبها. فى آوتد (491) والطبري (11: 1248) : تسويتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 ذكر اتفاق سىّء [1] من كلام سبق فقال المعتصم: - «ما كان أحسن الحرب اليوم؟» فقال عمر الفرغاني: - «الحرب اليوم أجود منها أمس.» فسمعها أشناس وأمسك. فلمّا انصرف المعتصم وانصرف أشناس وقرب من مضاربه ترجّل له القوّاد على عادتهم وفيهم عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام [259] فلمّا مشوا بين يديه قال لهم أشناس: - «يا أولاد الزنا، أىّ شيء [2] تمشون بين يدىّ؟ كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث كان يقاتل غيركم. انصرفوا إلى مضاربكم.» فلمّا انصرفا قال أحدهما لصاحبه: - «أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة- يعنى أشناس- ما صنع بنا اليوم، أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه؟» فقال عمر الفرغاني لأحمد بن الخليل: - «سيكفيك الله أمره عن قريب.» فأوهم أحمد أنّ عنده خبرا، فالحّ عليه أحمد يسأله فأخبره بما هم فيه، وقال العباس بن المأمون: - «قد تمّ أمره وسيبايع له طاهر أو نقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب.» ثمّ قال:   [1] . فى تد (491) : شيء. [2] . أى شيء. والضبط فى الطبري (11: 1249) : ايش (بالتخفيف اللهجوى) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 - «وأنا أشير عليك أن يأتى العباس فتقدّم فتكون فى عداد من قد مال إليه.» فقال له أحمد: - «هذا أمر لا أحسبه يتمّ.» فقال عمر: - «قد تمّ وفرغ منه.» وأرشده إلى الحارث السمرقندي، وكان المتولّى لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم، فقال له عمر: - «أنا أجمع بينك وبين الحارث.» فقال أحمد: - «إن كان هذا الأمر يتمّ فيما بيننا وبين عشرة أيّام فأنا معكم، وإن تجاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل.» فذهب الحارث فأعلم العباس أنّ عمر قد أدخل أحمد بن الخليل بيننا. فقال: - «ما كنت أحبّ أن يطّلع الخليلي على شيء ممّا نحن فيه، فأمسكوا عنه ودعوه [260] . بهما،» فتركوه. فلمّا كان الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين. ثمّ أحسّ ايتاخ والمغاربة والأتراك، والقيّم بذلك [1] ايتاخ، فاتسع لهم الموضع المنثلم وكثرت الجراحات فى الروم وكان القائد الموكّل بالموضع الذي انثلم يقال له: وندوا، وتفسيره بالعربية ثور. فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه وكثر القتلى فيهم. فاستمدّ ياطس فلم يمدّه هو ولا غيره وقال كلّ واحد:   [1] . فى آ: بذلك اليوم فاتّسع. فى مط: بذلك أجمع ايتاخ فاتّسع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 - «نحن نحفظ ما يلينا، فاحفظ أنت ما يليك.» فقال: - «يا قوم إنّ الحرب إنّما هي اليوم علىّ وعلى أصحابى ولم يبق معى أحد إلّا وقد جرح، فصيّروا أصحابكم على الثلمة يرمون، وإلّا افتضحتم وذهبت المدينة.» فلم يلتفتوا إليه فاعتزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين ويسألوه الأمان على الذريّة حتّى يسلّموا إليه الحصن بما فيه من السلاح والأثاث وغير ذلك. فلمّا أصبح أمر أصحابه ألّا يحاربوا حتّى يخرج ويعود إليهم فخرج بأمان حتّى صار إلى العسكر وحمل إلى المعتصم فصار بين يديه وقد أمسك الروم عن المحاربة أعنى أصحاب وندوا والناس يتقدّمون إلى الثلمة ووندوا جالس بين يدي المعتصم. فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه وقاتل حتّى صار [261] الناس معهم على حرب الثلمة وعبد الوهّاب بن على بين يدي المعتصم فأومأ إلى الناس بيده أن: ادخلوا. فدخل الناس المدينة. فالتفت وندوا وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: - «ما لك؟» قال: «جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي فغدرت بى.» فقال المعتصم: - «كلّ شيء تريد أن تقوله فهو لك علىّ. قل ما شئت، فلست أخالفك.» قال: «كيف لا تخالفني وقد دخلوا المدينة؟» فقال المعتصم: - «احتكم وقل ما شئت فانّى أعطيكه.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وصار خلق من الروم إلى كنيسة لهم عظيمة، فقاتلوا هناك قتالا شديدا. فأحرق المسلمون الكنيسة فاحترقوا عن آخرهم وبقي ياطس فى برجه حوله بقية الروم وأصحابه وقد أخذتهم السيوف. فجاء المعتصم حتّى وقف حذاء ياطس [1] فكان ممّا يلي أشناس، فصاحوا: - «يا ياطس هذا أمير المؤمنين واقف.» فصاح الرومىّ من فوق البرج: - «ليس ياطس ها هنا.» قالوا: «بلى، فلينزل إلى أمير المؤمنين.» قالوا «لا، ما هو ها هنا.» فمرّ المعتصم مغضبا، فصاح الروم: - «هذا ياطس، هذا ياطس.» فنصبت بعض تلك السلاليم المعمولة حتّى صعد عليه الحسن الرومىّ وهو غلام لأبى سعيد محمد بن يوسف فكلّمه ياطس وقال [262] له: - «هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه.» فنزل الحسن فأخبر المعتصم أنّه رءاه وكلّمه. فقال المعتصم: - «فاصعد [2] إليه وقل له فلينزل.» فصعد الحسن ثانية فخرج ياطس من البرج متقلّدا سيفا حتّى وقف على البرج قائما والمعتصم ينظر إليه فخلع سيفه من عنقه فدفعه إلى الحسن ثمّ نزل فوقف بين يدىّ المعتصم فقنّعه سوطا وانصرف إلى مضربه فقال:   [1] . فى الأصل: باطس بالباء الموحّدة إلى عدة مواضع، وكان حتّى هنا بالياء التحتانية، كما فى تد والطبري، فوحّدنا ضبطه. [2] . فى الأصل والطبري (11: 1253) : فاصعدوا. آ، ومط وتد (494) : فاصعد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 - «هاتوه [1] .» فمشى قليلا ثمّ جاءه رسول يقول: - «احملوه.» فحمل إلى مضرب أمير المؤمنين. ثمّ أقبل الناس بالأسرى والسبي من كلّ وجه فأمر المعتصم أن يميّز الأسرى فيعزل منهم أهل الشرف فى ناحية، ثمّ أمر بالمقاسم أن ينادى عليها كلّ صاحب عسكر فى ناحيته ووكّل مع كلّ قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن أبى دؤاد يحصى عليه فبعث المقاسم فى خمسة أيّام يبيع منها ما استباع وأمر بالباقي فضرب بالنار. ولمّا همّ المعتصم بالرحيل وثب الناس على مغنم ايتاخ الذي كان يبيعه وهو اليوم الذي عجيف وعد فيه الناس أن يثب بالمعتصم، فركض المعتصم بنفسه ركضا وسلّ سيفه فتنحّى الناس من بين يديه وكفّوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه [263] وأمر من الغد أن لا ينادى على الشيء إلّا ثلاثة أصوات وإلّا بيع العلق. فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة وعلى المتاع الكبير جملة واحدة. وكان ملك الروم قد وجّه رسولا فى أوّل ما نزل المعتصم عمّوريّة، فأنزله المعتصم على ثلاثة أميال حتّى فتح عمّورية. فلمّا فتحها أذن له فى الانصراف ولم يصل إليه. حبس العباس بن المأمون وفى هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.   [1] . فى الأصل وتد (494) : هاتموه. فى آومط وآ والطبري (11: 1253) : هاتوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ عجيف بن عنبسة حين وجّهه المعتصم إلى بلاد الروم مع عمر الفرغاني لم يطلق يده فى النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله وحقد عجيف ذلك، فقال للعباس بن المأمون: - «ما كان أضعف همّتك عند وفاة أبيك المأمون حين بايعت أبا إسحاق؟» ويذمّه على تفريطه، وشجّعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك. وكان الحارث السمرقندي أديبا له عقل ومداراة وكان العباس يأنس به فصيّره واسطة بينه وبين القوّاد، فلم يزل [264] يدور فى العسكر حتّى بايعه جماعة من القوّاد والخواصّ، وسمّى لكلّ واحد من قوّاد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممّن بايعه وقال: - «إذا أمرنا فليثب كلّ رجل منكم على من ضمنّاه [1] أن يقتله.» فوكّل من خاصّة الأفشين بالأفشين ومن خاصّة أشناس بأشناس وخاصّة المعتصم بالمعتصم، فضمنوا ذلك جميعا. فلمّا أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم فى الدرب وهو فى قلّة من الناس وقد تقطّعت عنه العساكر، فيقتله ويأمر الناس بالقفول إلى بغداد فإنّ الناس يفرحون بانصرافهم، فأبى العباس عليه وقال:   [1] . والضبط فى تد (495) والطبري (11: 1257) : ضمّنّاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 - «لا أفسد هذه الغزاة.» فلمّا فتحوا عمّورية قال عجيف للعباس: - «يا نائم كم تنام؟ قد فتحت عمّورية والرجل ممكن، دسّ قوما ينتهبون هذا الخرثىّ، فإنّه إذا بلغه ذلك ركب من ساعته، فتأمر من يقتله هناك.» فأبى عليه العباس وقال: - «أنتظر حتّى أصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا فى البدأة، فهو أمكن منه هاهنا.» وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع فانتهب الخرثىّ فى عسكر ايتاخ وركب المعتصم وجاء [265] ركضا فسكن الناس ولم يطلق العباس لأحد من أولئك الناس أن يتحرّكوا. ذكر سوء تحفّظ فى القول عاد بهلكة كان عمر الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وكان له قرابة غلام أمرد فى خاصّة المعتصم. فجاء الغلام إلى أولاد عمر يشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم أنّ أمير المؤمنين ركب مستعجلا وأنّه كان يعدو بين يديه وقال: - «إنّ أمير المؤمنين غضب فأمرنى أن أسلّ سيفي.» وقال: «لا يستقبلك أحد إلّا ضربته.» فسمع عمر ذلك من الغلام فأشفق عليه أن يصاب فقال له: - «يا بنىّ أنت أحمق أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة فلا تبرح من خيمتك، فإنّك غلام غرّ.» وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر ووجّه الأفشين صاحبا له فى خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له وأن يوافيه فى بعض الطريق، وكان عسكر الأفشين على حدة من عسكر المعتصم بينهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 قدر ميلين. فتوجّه صاحب الأفشين حتّى أغار وسبى وغنم وأتى عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم. واعتلّ أشناس فركب المعتصم يعوده ولم يكن الأفشين لحقه بعد. فلمّا عاده وانصرف تلقّاه [266] الأفشين فى الطريق، فقال له المعتصم: - «امض إلى أبى جعفر.» وكان عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجّها إلى ناحية [1] الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس، فترجّلا له وسلّما عليه وراءهما حاجب أشناس من بعيد. فلمّا دخل الأفشين إلى أشناس وخرج توجّها إلى عسكر الأفشين لشراء السبي ولم يكن السبي أخرج بعد ووقفا ناحية ينتظران أن ينادى على السبي فيشتريا، ودخل حاجب أشناس على أشناس فقال له: - «رأيت عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فلقيا الأفشين وهما يريدان عسكره فترجّلا له وسلّما عليه وتوجّها إلى عسكره. فدعا أشناس محمد بن سعيد وقال له: - «اذهب فانظر هل ترى هناك عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل، وانظر عند من نزلا وأىّ شيء قصّتهما.» فجاء محمد بن سعيد فأصابهما واقفين على ظهور دوابّهما فقال: - «ما وقّفكما هاهنا؟» قالا: «وقفنا ننتظر سبى ابن الأقطع فنشتري بعضه.» فقال لهما محمد بن سعيد: - «وكّلا وكيلا يشترى لكما.»   [1] . فى آ: إلى ناحية عسكر الأفشين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 فقالا: «لا نحبّ أن نشتري إلّا ما نراه.» فرجع محمد فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه: - «قل لهؤلاء: الزموا عسكركم خير لكم- يعنى عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل- لا تدوروا ها هنا [267] وها هنا.» فذهب الحاجب إليهما فأعلمهما واغتمّا لذلك واتّفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر فيستعفيا [1] من أشناس فصار إلى صاحب الخبر فقالا: - «نحن عبيد أمير المؤمنين يضمّنا إلى من شاء، فإنّ هذا الرجل يستخفّ بنا، قد شتمنا وتوعّدنا ونحن نخاف أن يقدم علينا.» فأنهى صاحب الخبر ذاك إلى المعتصم من يومه ذلك، واتفق الرحيل من الغد وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها وسار أشناس والأفشين وجميع القوّاد فى عسكر أمير المؤمنين ووكّلوا حلفاءهم [2] بعساكرهم. فلمّا ذهب أشناس إلى المعتصم قال له: - «أحسن أدب عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فإنّهما قد حمّقا أنفسهما.» فجاء أشناس ركضا إلى معسكره فسأل عن عمر وأحمد بن الخليل فأصاب [3] عمر وكان ابن الخليل قد مضى فأحضر عمر الفرغاني وقال: - «هاتوا سياطا.» فمكث طويلا مجرّدا ليس يؤتى بالسياط فتقدّم عمّه إلى أشناس وكلّمه فيه وكان عمّه أعجميّا فقال:   [1] . كذا فى الأصل: فيستعفيا. فى الطبري (11: 1260) : فيستعفياه. وفى تد (498) : فيستعينا. [2] . ما فى الأصل وآ: حلفاءهم (بالحاء المهملة) ، فأثبتناه حسب مط وتد (498) والطبري (11: 1260) . [3] . فى آ: فأجاب. آومط والطبري (11: 1261) كالأصل: فأصاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 - «احملوه وألبسوه قباطاق [1] واحملوه على بغل فى قبة.» وساروا به وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض فقال: - «احبسوا هذا معه.» فأنزل عن دابّته وصيّر عديله فبقيا كذلك يسار بهما على كرامة [268] وأثقالهما وغلمانهما فى العسكر لم يحرّك لهما شيء حتّى سمع الغلام الفرغاني قرابة عمر بحبس عمر، فذكر للمعتصم ما دار بينه وبين عمر من الكلام فى تلك الليلة وقوله: إذا سمعت صوتا مثل هذا فالزم خيمتك. فقال المعتصم لبغا: - «لا ترحل غدا حتّى يجيء أشناس فتأخذ منه عمر وتلحقني به.» وكان هذا بالصفصاف [2] . ففعل بغا ذلك ومضى بعمر إلى المعتصم. فلمّا أفرد أحمد بن الخليل قلق وأنفذ غلاما له ليتبع عمر وينظر ما يصنع به. فرجع الغلام فأخبره أنّه دخل على أمير المؤمنين. فمكث ساعة ثمّ دفع إلى ايتاخ وكان سائله أمير المؤمنين عن الكلام الذي قاله الغلام قرابته فأنكر وقال: - «هذا الغلام كان سكران ولم يفهم وما قلت شيئا ممّا ذكر.» وسار المعتصم حتّى صار إلى باب مضايق البذندون فأقام أشناس هناك ثلاثة أيّام ينتظر أن تتخلّص عساكر أمير المؤمنين، لأنّه كان على الساقة. فكتب أحمد بن الخليل رقعة إلى أشناس يعلمه أنّ لأمير المؤمنين عنده نصيحة. فبعث إليه أشناس بأحمد بن الخصيب وأبى سعيد محمد بن يوسف يسألانه عن النصيحة فذكر أنّه لا يخبر بها إلّا أمير المؤمنين. فرجعا فأخبرا أشناس بذلك فقال:   [1] . فى مط: قباطا. [2] . فى مط: بالصفصفان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 - «ارجعا فاحلفا [269] له أنّى حلفت بحياة أمير المؤمنين إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتّى يموت.» فرجعا فأخبراه بذلك فأخرج جميع من كان يحفظه وبقي [1] أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمر الفرغاني من أمر العباس وشرح لهما جميع ما كان عنده من خبر الحارث السمرقندي. فانصرفا إلى أشناس وأخبراه بذلك فبعث أشناس فى طلب الحدادين فجاءوا بهم فدفع إليهم حديدا وقال: - «اعملوا لى قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل وعجّلوه لى الساعة.» ففعلوا ذلك. فلمّا كان وقت العتمة ذهب حاجب أشناس إلى خيمة الحارث السمرقندي فأخرجه منها وجاء به إلى أشناس فقيّده وأمر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين فحمله إليه. واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة فجاء أشناس إلى موضع معسكره فتلقّاه الحارث ومعه رجل من قبل المعتصم وعليه خلع، فقال له أشناس: - «مه؟» قال: «القيد الذي كان فى رجلي [صار] [2] فى رجل العباس.» وكان المعتصم سأل الحارث عن أمره فأخذ عهده إن صدقه ونصحه أطلقه، ثمّ أقرّ له بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القوّاد، فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه ولم يصدّق على أولئك القوّاد لكثرتهم [270] وكثرة من سمّى منهم. وتحيّر المعتصم فدعا به حين خرج من الدرب فأطلقه ومنّاه وأوهمه أنّه قد صفح عنه وتغدّى معه وصرفه إلى مضربه،   [1] . فى آ: ومضى. [2] . ما بين المعقوفتين من الطبري (11: 1263) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 ثمّ دعاه بالليل فنادمه [على] [1] الشراب وسقاه حتّى أسكره واستحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا. فشرح له قصّته وسمّى له جميع من كان دبّ فى أمره فكتبه المعتصم وحفظه، ثمّ دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك فسأله عن الأسباب، فقصّ عليه مثل ما قصّ العباس. ثمّ أمر بعد ذلك بتقييد العباس. ثمّ قال للحارث: - «قد رضتك على أن تكذب فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل.» ثمّ دفع العباس إلى الأفشين وتتبّع المعتصم أولئك القوّاد فأخذوا جميعا. فأمّا أحمد بن الخليل فأمر أن يحمل على بغل بأكاف [2] بلا وطاء ويطرح فى الشمس إذا نزل ويطعم فى كلّ يوم رغيفا واحدا. وأمّا عجيف بن عنبسة فدفع مع جماعة من القوّاد إلى ايتاخ ودفع أحمد بن الخليل إلى أشناس وأخذ الشاه بن سهل فأحضره المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: - «يا ابن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر.» فقال الشاه: - «ابن الزانية هذا الذي بين يديك- يعنى العباس- لو تركني هذا كنت أنت يا هذا لا تقدر [271] أن تقعد فى هذا المجلس وتقول ما تقول.» فأمر به المعتصم فضربت عنقه ودفع عجيف إلى ايتاخ فعلّق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل فى محمل بلا وطاء. وأمّا العباس فكان فى يد الأفشين، فلمّا نزل المعتصم منبج [3] وكان   [1] . ما بين المعقوفتين من الطبري (11: 1263) . [2] . الأكاف: البرذعة. [3] . فى آ: منج، وفى مط: منيح. وكلاهما تصحيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 العباس جائعا فسأل عن الطعام فقدّم إليه طعام كثير فأكل فلمّا طلب الماء منع وأدرج فى مسح فمات. وأمّا عمر الفرغاني فإنّه لمّا نزل المعتصم بنصيبين فى بستان دعا صاحب البستان فقال له: - «احفر بئرا فى موضع أومأ إليه.» ثمّ دعا بعمر وقد تناول أقداحا. فلمّا مثل بين يديه جرّد وضرب بالسياط. فلمّا انتهى حفّار البئر ممّا أمره به أمر المعتصم أن يضرب وجه عمر بالخشب. فلم يزل يضرب حتّى سقط أنفه وأسنانه ثمّ قال: - «جرّوه إلى البئر فاطرحوه فيها.» فلم يتكلّم عمر ولم ينطق بحرف حتّى طرح فى البئر وطمّت عليه. وأمّا عجيف فإنّه مات فى المحمل بباعيناثا [1] فطرح عند صاحب المسلحة فدفن هناك. وذكر أن عجيفا كان فى يد محمد بن إبراهيم بن مصعب فسأله المعتصم عنه فقال: - «يا محمد لم يمت عجيف يا با صالح؟» قال: «يا سيدي اليوم يموت.» فمات ذلك اليوم. [272] وأمّا التركىّ الذي ضمن للعباس قتل أشناس فإنّه كان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه، فأمر أشناس بحبسه قبله فى بيت مظلم وسدّ عليه الباب وكان يلقى إليه كلّ يوم رغيف وكوز ماء. فأتاه ابنه فى بعض أيّامه، فكلّمه من وراء الحائط فقال له: - «يا بنىّ لو كنت تقدر على سكّين كنت أقدر أن أتخلّص من موضعي   [1] . فى الأصل: باغيناثا (بالغين المعجمة) . فى الطبري (11: 1265) . باعيناثا. قرية كبيرة كالمدينة فوق جزيرة ابن عمر، لها نهر كبير يصبّ فى دجلة (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 هذا.» فلم يزل ابنه يتلطّف للموكّلين حتّى فتح له بمقدار دون الدرهم ضوء فطرح إليه من هناك سكّينا فقتل بها نفسه. وأمّا أحمد بن الخليل فانّه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد فحفر له بئرا وأطبق عليه وفتح فيها كوّة ليرمى إليه منها الخبز والماء فقال له المعتصم: - «ما حال أحمد بن الخليل؟» فأخبره بحاله. فقال المعتصم: - «أحسبه قد سمن على هذه الحال.» فنقل إلى غيره فسمّه حتّى مات. وقتل باقى القوّاد إلّا هرثمة بن النصر الختّلى فانّه كان يحمل فى الحديد من المراغة لأنّه كان هناك. فتكلّم فيه الأفشين واستوهبه من المعتصم فوهبه له وولّاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فوصل إلى الدينور عند العشاء مقيّدا مغلولا فطرح فى خان فوافاه الكتاب فى بعض الليل وأصبح هو والى الدينور. [273] وقتل من الأتراك والفراغنة وغيرهم ممّن لم يحفظ اسمه خلق كثير وورد المعتصم سرّ من رأى سالما بأحسن حال. ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين وفيها أظهر مازيار بن قارن الخلاف على المعتصم بطبرستان ذكر السبب فى ذلك كان مازيار [1] منافرا لآل طاهر لا يحمل الخراج إليهم وكان المعتصم   [1] . انظر الطبري (11: 1268) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 يكتب إليه يأمره بحمله إليهم فلا يحمل ويقول: - «أحمله إلى أمير المؤمنين.» فكان المعتصم يأمر بالمال إذا بلغ همذان أن يستوفيه عامله، ثمّ يسلّمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليردّه إلى خراسان. ولمّا ظفر الأفشين ببابك ونزل من المعتصم المنزلة التي لا يتقدّمه فيها أحد وبلغه منافرة مازيار آل طاهر طمع فى ولاية خراسان ورجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر. فدسّ الكتب إلى مازيار يعلمه ميله إليه بالدهقنة ويظهر مودّته ويقول أنّه قد وعد بولاية خراسان. فدعا ذلك مازيار إلى الاستمرار فى عداوة [274] آل طاهر وترك حمل الخراج إليه، وما شكّ الأفشين، إن كاشف وخالف، سيطاول عبد الله بن طاهر حتّى يحتاج المعتصم أن يوجّهه وغيره إليه ولم يزل يكاتب مازيار ويبعثه على محاربة عبد الله بن طاهر ويهوّن أمره عنده حتّى خالف وأخذ رهائن أكابر أهل ناحيته وأمر الأكرة بانتهاب أموال أرباب الضياع وغلّاتهم والأفشين فى كلّ ذلك يكاتبه ويعرض عليه النصرة. وأخذ مازيار الناس بالخراج فجبى جميع الخراج فى شهرين وكان يجبى كلّ سنة الثلث فى أربعة أشهر. وهرب رجل ممّن أخذت رهينته. فجمع أبو صالح سرخاستان خليفة المازيار الناس بسارية [1] وقال: - «كيف يثق بكم الملك وهذا فلان ممّن حلف وأعطى الرهينة ثمّ نكث وخرج فأنتم لا تفون ولا تكرهون الحنث فكيف يرجع لكم الملك إلى ما تحبّون؟»   [1] . سارية سارى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 فقال بعضهم: - «نقتل الرهينة حتّى لا يعود غيره إلى الهرب.» فقال: «أو تفعلون؟» قالوا: «نعم.» فكتب أبو صالح إلى صاحب الرهائن يأمره أن يوجّه بابن الهارب. فلمّا حمل إلى سارية ندم الناس على ما قالوا وجعلوا يرجعون على من أشار بذلك باللوم، فجمعهم أبو صالح وقال: - «قد ضمنتم [275] لى قتل الرهينة وها هو قد حضر فاقتلوه.» فقال بعضهم: - «أصلح الله الأمير، إنّك أجّلت من خرج عن البلد شهرين وهذا الرهينة قبلك فنسألك أن تؤجّله شهرين فإن رجع أبوه وإلّا أمضيت فيه رأيك.» فغضب ودعا بصاحب حرسه فأمر بصلب الغلام. فسأله الغلام أن يأذن له حتّى يصلّى ركعتين. فأذن له فطوّل فى صلاته وهو يرعد [1] وقد مدّ له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته ومدّوه حتى اختنق ومات. ثمّ أمر أهل سارية أن يخرجوا إلى آمل وتقدّم إلى أصحاب المسالح فى إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب فأحضروا ومضى معهم إلى آمل وقال لهم: - «إنّى أريد أن أشهدكم على أهل آمل وأشهد أهل آمل عليكم وأردّ ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما أخذناه منكم.» فلمّا وافوا آمل ميّز أهل سارية ناحية ناحية ووكّل بهم وكتب أسماء   [1] . يرعد: تأخذه الرعدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 جميع أهل آمل حتّى لم يخف عليه منهم أحد، ثمّ عرضهم على الأسماء حتّى اجتمعوا، وتقدّم إلى أصحاب السلاح حتّى أخدقوا بهم ووكّل بكلّ رجل رجلين وساقهم مكتّفين حتّى وافى بهم جبلا يعرف بهرمزديار [1] وكبّلهم [276] بالحديد وبلغت عدّتهم عشرين ألفا فحبسهم هناك، وفعل مثل ذلك بوجوه العرب والأبناء وكبّلهم وحبسهم ووكّل بهم. فلمّا تمكّن مازيار واستوى أمره وحبس كلّ من يخشى غائلته وأمن جميع أصحابه وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل فخرّبه بالطبول والمزامير ثمّ سار إلى ساريه ففعل بها مثل ذلك ثم فعل بطميش [2]- وهي على حدّ جرجان من عمل طبرستان- مثل ذلك وعمل سورا من طميش إلى البحر مقدار ثلاثة أميال. وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك لأنّ الترك كانت تغير على أهل طبرستان فى أيّامها. ونزل سرخاستان معسكرا بطميش وصيّر حولها خندقا وثيقا وأبراجا للحرس وصيّر عليها بابا وثيقا ووكّل به الثقات. ففزع أهل جرجان فهرب منهم قوم إلى نيسابور. وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر عامل المعتصم على خراسان، فوجّه إليه عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب مع جيش كثيف لحفظ جرجان وأمره أن يعسكر على الخندق. فنزل الحسن بن الحسين على الخندق معسكرا وصار بينه وبين سرخاستان عرض الخندق، ثمّ بعث إليه [277] عبد الله بن طاهر حيّان بن جبلة فى أربعة آلاف فارس إلى قومس فعسكر على حدّ جبال شروين. ووجّه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط وتد (504) هرمزديار. فى الطبري (11: 1274) هرمزآباد. [2] . طميش: كذا فى الأصل وآ، ومط. فى الطبري (11: 1275) : طميش [طيمسة] (بالسين المهملة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 إبراهيم فى جمع كثيف وضمّ إليه الحسن بن قارن الطبري العابد [1] ومن كان بالباب من الطبرية، ووجّه منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الرىّ ليدخل طبرستان من ناحية الرىّ ووجّه أبا الساج إلى اللّار [2] ودنباوند فأحدقت الخيل بمازيار من كلّ جانب فبعث مازيار إلى أهل المدن المحبّسين عنده: - «إنّ الخيل قد زحفت إلىّ من كلّ جانب وإنّما حبستكم ليبعث أميركم فيسأل فيكم- يعنى المعتصم- فلم يكترث بكم وأنتم عشرون ألفا ولست أتقدّم إلى حربه وأنتم ورائي، فأدّوا إلىّ خراج سنتين وأخلّى سبيلكم، ومن كان منكم شابّا قويّا قدّمته للقتال. فمن وفى رددت عليه ماله ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا ضعيفا صيّرته من الحفظة والحرّاس والبوّابين. ثمّ إنّ سرخاستان جمع من أبناء القوّاد وغيرهم من أهل آمل ممّن فيه قوّة وشجاعة مائتين وستين فتى ممّن يخاف ناحيته وأظهر أنّه يريد مناظرتهم وبعث إلى الأكرة [278] الدهاقين. قال لهم: - «إنّ هؤلاء هواهم مع العرب ولست آمن غدرهم وهم أهل الظنّة قد جمعتم فاقتلوهم لتأمنوا ولا يكون فى عسكركم من يخالفكم.» ثمّ كتّفهم ودفعهم إلى الأكرة الدهاقين. فصاروا بهم إلى قناة هناك قد خربت فقتلوهم ورموا بهم فى آبار القناة. ثمّ عطف سرخاستان إلى المحبّسين من أهل المدن فطالبهم بمال المواقفة فقالوا: - «إنّ صاحبك لم يبق لنا مالا ولا ذخيرة ولو علم أنّ وراءنا درهما   [1] . كذا فى الأصل وآ، ومط وتد (505) : العابد. فى الطبري (11: 1276) : القائد. [2] . فى الطبري: اللارز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 واحدا [1] لاستخرجه ولكنّا نعطى ضياعنا وأملاكنا بقيمة ما تطلب.» فقال لهم: - «الضياع للملك ولا حقّ لكم فيها فاحتالوا للملك.» فلم يجد عندهم شيئا. فقال لأولئك الأكرة الذين قتلوا من قتلوا: - «إنّى قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم إلّا ما كان من جارية جميلة من بناتهم فإنّها تصير للملك.» وقال لهم: - «صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع أوّلا ثمّ حوزوا ما وهبت لكم من منازلهم وحرمهم.» فجبن القوم ولم يقدموا على عشرين ألفا، فلم يقبلوا منه. وكان الموكّلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدّثون ليلا مع حرس [279] الحسن بن الحسين بن مصعب حتّى استأنس بعضهم ببعض وتآمروا على تسليم السور فسلّموه، ورحل أصحاب الحسن بن الحسين من موضعهم إلى عسكر سرخاستان على غفلة من غير أن يعلم بذلك صاحبهم. فنظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا يدخلون من الحائط. وبلغ الحسن بن الحسين ذلك فأشفق أن تكون حيلة فجعل يصيح ويمنع من الدخول وهم لا يقبلون حتّى نصبوا أعلامهم على السور فى معسكر سرخاستان. وانتهى الخبر إلى سرخاستان وهو فى الحمّام وسمع الضجيج فلم تكن له همّة إلّا الهرب فخرج هاربا فى غلالة ودخل الناس من غير مانع حتّى استولوا على جميع ما فى العسكر ومضى قوم فى الطلب. فتحدّث زرارة بن يوسف قال: بينا أنا فى الطريق إذ صرت فى موضع   [1] . فى الأصل: درهم واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 يسرة الطريق فوجلت منه ثمّ اقتحمته بالرمح ولم أر أحدا ولكنى صحت: - «من أنت ويلك.» فإذا رجل يصيح: - «زينهار.» يعنى: الأمان. فأخرجته وإذا هو شيخ جسيم فقلت: - «من أنت؟» فقال: «أنا شهريار.» وإذا به أخو سرخاستان صاحب العسكر. فحملته إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه. وأمّا سرخاستان فإنّه مضى على وجهه وكان عليلا فلمّا جهده العطش نزل عند غيضة واستلقى وصاح بعض أصحابه ممّن تبعه: - «يا فلان [280] اسقني ماء فقد جهدنى العطش.» فقال: «ليس معى ما أغرف به [1] من هذا الموضع.» فقال له سرخاستان: - «خذ رأس جعبتى فاسقني به.» فنظر الرجل إلى أصحابه وقال لهم: - «هذا الشيطان قد أهلكنا. فلم لا نتقرّب به إلى السلطان ونأخذ لأنفسنا أمانا؟» فأجابوه إلى ذلك ووثبوا عليه وشدّوه كتافا فقال لهم: - «خذوا منى مائة ألف واتركوني فإنّ العرب لا تعطيكم شيئا.» قالوا: «أحضرها.»   [1] . فى آ: ليس معى إناء أغرف به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 قال: «هاتوا ميزانا.» فقالوا: «من أين لنا ها هنا ميزان؟» قال: «فمن أين لى هاهنا ما أعطيكم. ولكن صيروا معى إلى المنزل وأعطيكم العهود والمواثيق أنّى أفي لكم بذلك.» فصاروا به إلى الحسن بن الحسين واستقبلهم خيل الحسن بن الحسين. فضربوا رؤوسهم وأخذوا سرخاستان منهم فهمّتهم أنفسهم، ومضى به أصحاب الحسن إلى الحسن فدعا بوجوه أصحابه وسألهم: - «هل هذا سرخاستان؟» قالوا: - «نعم هو هو.» فأمر به فضربت عنقه. وكاتب [1] حيّان بن جبلة من ناحية طميش قارن بن شهريار ورغّبه فى الطاعة وضمن له أن يملّكه على جبال أبيه وجدّه وكان قارن هذا ابن أخى مازيار وقد قوّده مع أخيه [281] عبد الله بن قارن وضمّ إليه عدّة من ثقات قوّاده وقراباته، فلمّا استماله حيّان اطمأنّ إليه وضمن له قارن أن يسلّم إليه الجبال أو مدينة ساريه إلى حدّ جرجان على أن يملّكه على مملكة أبيه وجدّه إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيّان إلى عبد الله بن طاهر فسجّل له عبد الله بن طاهر بكلّ ما سأل، وكتب إلى حيّان يأمره بالتوقّف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتّى يكون من قارن ما يستدلّ به على الوفاء لئلّا يكون منه مكر، وكتب حيّان إلى قارن بذلك.   [1] . فى مط: وكان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 فدعا قارن بعمّه عبد الله بن قارن أخى مازيار ودعا جميع قوّاده إلى طعامه. فلمّا أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنّوا أحدق بهم أصحابه فى السلاح، وكتفهم ووجّه بهم إلى حيّان بن جبلة. فلمّا صاروا إليه استوثق منهم وركب حيّان فى جمعه حتّى دخل جبال قارن وبلغ مازيار الخبر، فاغتمّ وقلق وقال له أخوه كوهيار [1] : - «فى حبسك عشرون ألفا من المسلمين ما بين إسكاف وخيّاط وقد شغلت نفسك بهم، وإنّما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقراباتك. فما تصنع بهؤلاء المحبّسين عندك.» فأمر بأن يخلّى جميع من فى [282] محبسه. ثمّ دعا بكتّابه وخلفاءه وصاحب خراجه وصاحب شرطه وقال لهم: - «إنّ حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل وقد دخلت العرب إليه، وأكره أن أسومكم [2] فاذهبوا إلى منازلكم وخذوا الأمان لأنفسكم.» وواصلهم وأذن لهم فى الانصراف. ولمّا بلغ قوهيار أخا مازيار دخول حيّان ساريه، أطلق محمد بن موسى عامل طبرستان من حبسه وحمله على بغل ومركب ووجّهه إلى حيّان ليأخذ له الأمان ويجعل له جبال أبيه وجدّه، على أن يسلّم إليه مازيار ويوثق له بذلك. وضمّ إليه أحمد بن الصقير وهو من مشايخ الناحية ووجوهها. فلمّا سار محمد بن موسى إلى حيّان وأخبره وسأله قوهيار قال له حيّان: - «من هذا؟» - يعنى أحمد. قال: «هذا شيخ هذه البلاد يعرفه الخلفاء ويعرفه الأمير عبد الله بن طاهر.»   [1] . فى الطبري (11: 1283) القوهيار. [2] . فى الطبري (11: 1284) : أشومكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 ورأى حيّان تحت أحمد برذونا ضخما نبيلا، فبعث إليه يسأله أن يقوده إليه ليراه، فبعث به، فلمّا تأمّله وجده مشطّب اليدين فزهد فيه وقال لرسول أحمد: - «هذا لمازيار ومال مازيار لأمير المؤمنين.» فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب [283] من فعل حيّان به ذلك، وكتب إلى قوهيار: - «ويحك لم تغلط فى أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عمّ الأمير عبد الله بن طاهر وتدخل فى أمان هذا العبد الحائك وتدفع إليه أخاك وتضع من قدرك ويحقد عليك الحسن بن الحسين بتركك إيّاه وميلك إلى عبد من عبيده.» فكتب إليه قوهيار: - «قد غلطت فى أوّل الأمر وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد ولا آمن إن خالفته أن يناهضنى ويحاربني ويستبيح منازلي وأموالى وإن قاتلته وقتلت من أصحابه وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء ويبطل ما نحن فيه.» فكتب إليه أحمد: - «إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنّه عرضت لك علّة منعتك من الحركة وأنّك تتعالج ثلاثة أيّام فإن عوفيت وإلّا صرت فى محمل وسنحمله نحن على قبول ذلك منك.» ثمّ إنّ أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو فى معسكره بطميش ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميش [1] فكتب إليه أن:   [1] . فى تد (508) : طميس. بالسين المهملة، كالطبرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 - «اركب إلينا لندفع إليك قارن والجبل وإلّا فاتك فلا تقيم.» فلمّا وصل الكتاب إلى الحسن ركب من [284] ساعته وسار مسير ثلاث ليال فى ليلة حتّى انتهى إلى ساريه. ولمّا أصبح سار إلى خرّماباذ وهو يوم موعد قوهيار، وسمع حيّان وقع طبول الحسن فركب وتلقّاه على رأس فرسخ. فقال له الحسن: - «ما تصنع ها هنا ولم توجّه إلى هذا الموضع وقد فتحت جبال شروين وتركتها وراءك فما يؤمنك أن يغدر بك القوم جميع ما عملت عليك، ارجع إلى الجبل وأشرف على القوم إشرافا لا يمكنهم الغدر إن همّوا به.» فقال له حيّان: - «أنا على الرجوع وأريد أن أحمل أثقالى وأتقدّم إلى رجالي بالرحيل.» فقال له الحسن: - «امض أنت فإنّى باعث بأثقالك ورجالك خلفك وبت الليلة بساريه حتّى يوافوك ثمّ بكّر من غد.» فخرج حيّان من فوره ولم يقدر على مخالفة الحسن. ثمّ ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر وهو بلبون [1] من جبال ونداهرمزد من أحصن جباله وكان أكثر مال مازيار بها، وأمره عبد الله ألّا يمنع قارن ممّا يريد من تلك الجبال والأموال. فاحتمل قارن ما كان لمازيار هناك من المال من ذخائر مازيار وسرخاستان وباستاندرة وبقدح السليان [2] واحتوى على ذلك كلّه فانتفض   [1] . ما فى الأصل مهمل. فى آ: ملثون. فى مط: بلسون (مهملة) فى تد (510) : بليون. فى الطبري (11: 1287) : بلبورة. [2] . ما فى الأصل مهمل والضبط فى الكلمات الأخيرة من تد (510) . والعبارة فى الطبري (11: 1288) : فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال، والذي كان «بأسباندرة» من ذخائر مازيار وما كان لسرخاستان «بقدح السلتان» واحتوى.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 على حيّان جميع ما [285] كان سنح له بسبب ذلك البرذون. ثمّ أمر محمد بن موسى وأحمد بن الصقير الحسن وناظراه سرّا فجزاهما خيرا، وكتب إلى قوهيار فوافاه وبرّه وأكرمه وأجابه إلى كلّ ما سأل واتّعد إلى يوم ثمّ صرفه. وصار قوهيار إلى مازيار فأعلمه أنّه قد أخذله الأمان وتوثّق له ثمّ ورد عليه المازيار وقوهيار. وتقدّم المازيار فسلّم عليه بالإمرة فلم يردد عليه الحسن وتقدّم إلى طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي فقال: - «خذاه إليكما.» كتاب بتسليم مازيار وإخوته وأهل بيته إلى المعتصم ثمّ ورد كتاب عبد الله بن طاهر بتسليم مازيار واخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم ليحملهم إلى المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمر أن يستقصى جميع ما للمازيار، فبعث الحسن إلى المازيار وأحضره وسأله عن أمواله. فسمّى قوما ذكر أنّ أمواله عندهم، فأحضر قوهيار وكتب عليه كتابا وضمّنه المال الذي ذكر مازيار أنّه عند ثقاته وخزّانه وأصحاب كنوزه وأشهد على نفسه. ثمّ إنّ الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار ليشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم أنّه قال: لمّا دخلنا على المازيار لنشهد عليه قال المازيار: - «إنّ جميع ما حملت من أموالى وصحبني ستّة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة [286] زمرّد، وستّ عشرة قطعة ياقوتا أحمر، وثمانية أوقار سلالا مجلّدة فيها ألوان الثياب وتاج وسيف محلّى بذهب وجوهر، وحقّ كبير مملوء جوهرا.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وقد وضعه بين أيدينا وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح وهو جار عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى قوهيار.» قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين فقال: - «أشهدتم على الرجل؟» قال: «نعم.» فقال: «هذا شيء أخبرت به فأحببت أن تعلموا قلّته.» [1] وذكر علىّ بن ربّن كاتب مازيار أنّ ذلك الحقّ كان شراء جوهره وحسبه على المازيار وشروين وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان مازيار حمل جميع ذلك إلى الحسن بن الحسين على أن يظهر أنّه خرج إليه فى الأمان وأنّه قد آمنه على نفسه وماله وولده وجعل له جبال أبيه فامتنع الحسن بن الحسين من ذلك وعفّ عنه وكان أعفّ الناس عن أخذ درهم أو دينار. فلمّا أصبح أنفذ مازيار مع طاهر بن إبراهيم وعلىّ بن إبراهيم الحربي وورد كتاب عبد الله بن طاهر فى إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بمازيار مراحل فبعث الحسن فردّه وأنفذه مع يعقوب بن منصور. [287] قتل قوهيار ذكر ترك حزم بالدالّة [2] عاد بهلاك ثمّ أمر الحسن القوهيار أخا مازيار بحمل الأموال التي ضمنها ودفع إليه بغالا من العسكر وأمر بإنفاذ جيش معه وامتنع القوهيار وقال: إنه لا حاجة لى فيهم. وخرج وأخرج الأموال ليحملها، فوثب عليه مماليك المازيار من الديالمة وكانوا ألفا ومائتين فقالوا:   [1] . العبارة تختلف عمّا فى الطبري (11: 1293) . [2] . كذا فى الأصل وتد (512) . وفى آ: حزم بالدلالة عاد بهلاك (!) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 - «غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب وجئت لتحمل أمواله.» فأخذوه وكبّلوه بالحديد، فلمّا جنّه الليل قتلوه وانتهبوا تلك الأموال والبغال. فانتهى الخبر إلى الحسن فوجّه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجّه قارن جيشا آخر من قبله فى أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدّة فيهم ابن عمّ للمازيار يقال له شهريار بن المصمغان وكان رأس العبيد ومحرّضهم، فوجّه به قارن إلى عبد الله بن طاهر فمات فى الطريق، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجّه من قبله الطبرية وغيرهم حتّى عارضوهم وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا على طريق الروذبار إلى الرويان. سبب فساد أمر مازيار وكان سبب فساد [288] أمر مازيار أنّ جبال طبرستان ثلاثة يتوارثها ثلاثة أولاد لكسرى جبل ونداذ هرمز وجبل أخيه ونداذ سخنان [1] بن الأنداد بن قارن وجبل شروين بن سرخاب بن باب. فلمّا قوى أمر المازيار بعث إلى ابن عمّه فألزمه بابه وإلى أخيه قوهيار وأنفذ إلى هناك واليا من قبله، فلمّا احتاج مازيار إلى رجال لمحاربة عبد الله بن طاهر دعا ابن عمّه وأخاه وقال: - «أنتما أعلم بجبلكما من غيركما.» وقال: «صيرا فى ناحية الجبل.»   [1] . فيه غموض. فى الطبري (11: 1295) . ونداسنجان. ما فى تد يوافق الأصل ولكن بالإهمال الكامل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 وكتب إلى الدرنىّ [1] وضمّ إليه العساكر وولّاه السهل ليحارب عبد الله بن طاهر وظنّ أنّه قد توثّق من الجبل بابن عمّه وأخيه القوهيار، وذلك أنّ الجبل لم يكن يظنّ أنّه يؤتى منه لأنّه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثّق من الموضع الذي يتخوّفه بالدّرنى. فلمّا وجّه عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب فى عسكر عظيم من خراسان ووجّه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب ووجّه معه صاحب خبر يقال له: يعقوب بن إبراهيم مولى الهادي، ويعرف بقوصرة وزحفت العسكر وأحدقت بمازيار دعا ابن عمّ مازيار نار الحقد الذي كان فى قلبه [289] على مازيار وتنحيته له عن جبله، إلى أن كاتب الحسن وأعلمه جميع ما يتطلّعه من الأخبار وأخبر خبر الأفشين، وكذلك فعل قوهيار أخوه. وكانت هذه الأخبار ترد على عبد الله بن طاهر وعبد الله يكاتب بها المعتصم. فشرط عبد الله بن طاهر لابن عمّ مازيار إن هو وثب بالمازيار أن يردّ عليه جبله وما ورثه عن آباءه فلا يعرض له فيه ولا يحارب. فرضي بذلك وكتب له بذلك كتابا وتوثّق له فيه فلم يشعر المازيار حتّى سلّمت الجبال التي كان يأمنها وأتى من مأمنه وأنزل على حكم المعتصم والعسكر الذي مع الدرنىّ بالسهل غارّون فى حربهم فأتاهم الحرب من وراءهم وقد أسر مازيار وهلك، فأعطوا حينئذ بأيديهم حتّى هلكوا بأسرهم. وكان عبد الله بن طاهر لمّا أسر مازيار وحصل فى يده منّاه ووعده إن هو أظهره على كتب الأفشين، أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد   [1] . كذا فى الأصل وتد: الدرنىّ. فى الطبري: الدرّى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 الله أنّه قد علم أنّ الكتب عنده، فأمر المازيار بذلك فطلبت الكتب ووجّه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وأمره أن لا يخرج الكتب من يده والمازيار إلّا الى [290] يد المعتصم لئلا يحتال المازيار فى الكتب، ففعل إسحاق ذلك فأوصلها من يده إلى يد المعتصم فسأل المعتصم مازيار عن الكتب فلم يقرّ بها فأمر بضربه حتّى مات فصلب إلى جانب بابك. نهاية الدّرنىّ فأمّا الدرنىّ [1] فإنّه كان فى نفسه شجاعا بطلا والتقى مع محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان جمع أموالا ورجالا يريد أن يدخل بها بلاد الديلم فلمّا عارضه محمد بن إبراهيم بين الجبل والغيضة والبحر- والغيضة متصلة بالجبل والديلم- حمل الدرنىّ على أصحاب محمد فكشفهم، ثمّ سار معارضة من غير هزيمة ليدخل الغيضة ولم يزل يحمل ويكشف الناس ويقرب من الغيضة حتّى حمل عليه رجل من أصحاب محمد يقال له فند بن حاجيل [2] فأخذه أسيرا واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما صحبه من المال والأثاث والدوابّ والسلاح وأمر محمد بقتل أخيه برزجشنس [3] ودعا الدرنىّ فقطعت يده من مرفقه ومدّت رجله فقطعت من الركبة وكذلك اليد الأخرى والرجل الأخرى فقعد الدرنىّ على استه ولم يتكلّم ولا تغيّر، فأمر بضرب عنقه، فأمّا أصحابه فحملوا مكبّلين.   [1] . فى الطبري (11: 1300) : الدرّى. [2] . كذا فى الأصل وآ: فند بن حاجيل. فى تد (515) : فند بن حاحيل. فى الطبري (11: 1300) : فند بن حاجته. [3] . ما فى الأصل وتد مهمل فى الثلاثة الأولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 خلاف منكجور الأسروشنىّ بآذربيجان وفى هذه السنة خالف منكجور الأسروشنى قرابة الأفشين بأذربيجان. [291] ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أنّ الأفشين لمّا فرغ من بابك ولّى أذربيجان منكجور هذا، فأصاب فى قرية بابك فى بعض منازله مالا عظيما فاحتجنه [1] ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمان، فكتب إلى المعتصم بخبر، المال فكوتب منكجور فيه فأنكره وهمّ منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمان، وذلك أنّه وقعت بينهما فيه مناظرة فهرب عبد الله وامتنع بأهل أردبيل فمنعوه وقاتلوا، وبلغ ذلك المعتصم فوجّه إليه عسكرا عظيما وبلغ منكجور فخلع وجمع إليه الصعاليك وخرج من أردبيل، وقصده القائد مع العسكر الذي خرج من جهة المعتصم وواقفه فانهزم منكجور وصار إلى حصن لبابك فى جبل منيع فبناه وأصلحه وتحصّن فيه ووثب به أصحابه بعد شهر وأسلموه إلى القائد الذي يحاربه، فقدم به سرّ من رأى. ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسىّ وتوجّه ووشّحه. وفيها أحرق غنّام المرتد.   [1] . كذا فى الأصل والطبري (11: 1301) : فاحتجنه. فى تد (515) فاحتجبه. احتجن المال: ضمّه إلى نفسه واحتواه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 وفيها قدم بمازيار سرّ من رأى وحمل على الفيل. وكنا ذكرنا [292] أنّ محمد بن عبد الملك قال بيتين فى بابك لمّا حمل وهو بهذا أشبه أعنى بمازيار وهما: قد خضب الفيل كعاداته ... لحمل شيطان خراسان والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلّا لذي شأن من الشان وقيل: إنّ مازيار امتنع من ركوب الفيل فحمل على بغل بأكاف، وأمر المعتصم فجمع بينه وبين الأفشين فأقرّ مازيار أنّ الأفشين حمله على العصيان وكاتبه وصوّب له ما فعل، فضرب مازيار أربعمائة سوط وطلب ماء فسقى ومات من ساعته فصلب. وفيها حبس الأفشين. حبس الأفشين ذكر السبب فى ذلك كان الأفشين أيّام حرب بابك ومقامه بأرض الخرّمية لا تأتيه هديّة من أهل أرمينية ولا من غيرهم إلّا وجّه بها إلى أسروشنة فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله بخبره إلى المعتصم فيكتب المعتصم بتعرف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أسروشنة، فيفعل عبد الله ذلك. وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمله [293] فى أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين [1] وبقدر طاقتهم كان الرجل يحمل ما بين الألف فما فوقه   [1] . الهمايين: جمع مفرده: الهميان. فارسىّ معرّب. كيس تجعل فيه النفقة ويشدّ على الوسط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 من الدنانير فى وسطه فأخبر عبد الله بذلك فبينا هو كذلك إذ نزل رسل الأفشين مع الهدايا بنيسابور ووجّه إليهم عبد الله بن طاهر فأخذهم وفتّشهم فوجد فى أوساطهم همايين فأخذها منهم وقال لهم: - «من أين لكم هذا المال؟» فقالوا: «هذه هدايا الأفشين وهذه أمواله.» فقال: «كذبتم لو أراد أخى الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلىّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبدرقته لأنّ هذا مال عظيم وإنّما أنتم لصوص.» وأخذ عبد الله المال وأعطاه الجند قبله وكتب إلى الأفشين بما قال القوم وقال: - «أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أسروشنة ولم تكتب إلىّ لأبدرقه، فإن كان المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّه به أمير المؤمنين فى كلّ سنة، وإن كان المال لك كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال. وإنّما دفعته [294] إلى الجند لأنّى أريد أن أغزو الترك.» فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أسروشنة، فأطلقهم عبد الله وكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله وبين الأفشين. ولمّا تواترت أمثال هذه من الأفشين تغيّر له المعتصم وأحسّ الأفشين بتغير حاله عند المعتصم. ذكر حيل همّ بها الأفشين فعزم الأفشين على أن يهيّئ أطوافا فى قصره ويحتال لأن يشغل المعتصم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وقوّاده ثمّ يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف حتّى يصير إلى طريق أرمينية إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثمّ يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أسروشنة أو يستميل الخزر على أهل الإسلام. فكان فى تهيئة ذلك فطال عليه الأمر وعسر، فهيّأ سمّا كثيرا وعزم على أن يدعو المعتصم وقوّاده فيسمّهم فإن لم يجبه المعتصم استأذنه [1] فى قوّاده فيسمّهم مثل أشناس وايتاخ وبغا وأمثالهم فى يوم تشاغل المعتصم، فإذا سمّهم وانصرفوا حمل فى أوّل الليل [295] تلك الأطواف والآلة على ظهور الجمال حتّى يجيء إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطواف ويعبّر الدوابّ سباحة وكانت أرمينية ولايته. وكان الأفشين تنوب قوّاده فى دار المعتصم كما تنوب أمثالهم. وكان واجن الأسروشنى قد جرى بينه وبين من يطّلع على سرّ الأفشين حديث، فقال له واجن: - «ما أرى هذا الأمر يتمّ لبعده وكثرة ما ينبغي أن يعدّ له [2] .» فذهب الرجل فحكاه للأفشين. فهمّ الأفشين بقتل واجن وأحسّ واجن بذلك فركب من ساعته التي أحسّ بما أحسّ- وكان ليلا- وأتى دار المعتصم وقد كان نام فصار إلى إيتاخ وقال: - «إنّ لأمير المؤمنين عندي نصيحة.» فقال له إيتاخ: - «أليس كنت هاهنا؟ قد نام أمير المؤمنين.» فقال واجن:   [1] . فى الأصل: استأذنهم. وهو سهو من الكاتب. [2] . كذا فى تد (518) . ما فى الأصل. يعداه (بالضبط) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 - «ليس يمكنني أن أصبر إلى غد.» فدقّ إيتاخ الباب على بعض من يخبر أمير المؤمنين بخبر واجن، فقال المعتصم: - «ليبت عند إيتاخ ثمّ يباكرنى.» فبات عنده. ولمّا أصبح بكّر به إلى المعتصم فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم الأفشين، فجاء الأفشين فى سواد، فأمر المعتصم بنزع سواده وحبسه. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر فى الاحتيال للحسن بن الأفشين حتّى لا يفوته. وكان الحسن [296] قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر فى نوح بن أسد يعلمه تحامله عليه وظلمه له فى ضياعه. فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم فى أمره ويأمره بجمع أصحابه والتأهّب له حتّى إذا ورد عليه الحسن بن الأفشين استوثق منه وحمله، وكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين: - «إنّى قد عزلت نوح بن أسد وولّيتك الناحية.» وكتب إليه بكتاب فيه عزل نوح وولايته، فخرج الحسن فى قلّة من أصحابه حتّى ورد على نوح وعنده أنّه وال، فأخذه نوح فشدّه وثاقا ووجّهه إلى عبد الله فوجّهه عبد الله إلى المعتصم. وكان المعتصم بنى حبسا للأفشين شبيها بالمنارة وفى وسطها مقدار مجلسه والرجال ينوبون تحتها كما تدور. فحكى هارون بن عيسى بن المنصور أنّه شهد المجلس الذي عقده المعتصم فى داره لمناظرة الأفشين. [1]   [1] . انظر الطبري (11: 1308) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 ذكر مناظرات وبّخ بها الأفشين واحتجاجاته فيها أحبّ المعتصم أن يبكّت الأفشين ويناظره ولم يكن بعد فى الحبس الشديد. فأخليت الدار إلّا من ولد المنصور وأحضر قوم من الوجوه وحضر أحمد بن أبى دؤاد [297] وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيّات، فأتى بالأفشين وأتى بمازيار والموبذ والمرزبان بن تركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيّات. بين محمد الزّيات والأفشين فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثّة. فقال لهما: - «ما شأنكما؟» فكشفا عن ظهورهما، فإذا هي عارية من اللحم فقال محمد: - «أتعرف هذين الرجلين؟» فقال: «نعم، هذا مؤذّن وهذا إمام، بنيا بأسروشنه مسجدا فضربت كلّ واحد منهما ألف سوط، وذلك أنّ بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا أن أترك كلّ قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت لهم كان فيه أصنامهم فأخرجا الأصنام واتخذاه مسجدا، فخفت أن ينتقض علىّ أمر تلك البلدان فضربتهما على ذلك لتعدّيهما.» فقال محمد: - «ما كتاب عندك قد زيّنته بالحرير والجوهر والديباج فيه الكفر بالله عزّ وجلّ.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 قال: «هذا كتاب ورثته عن أبى، فيه آداب العجم وفيه دين القوم الذي هو اليوم كفر، وكنت أستمتع منه بالأدب وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلّى فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية [298] منه فتركته بحاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك فى منزلك، وما ظننت هذا يخرج من الإسلام.» بين الموبذ والأفشين ثمّ تقدّم الموبذ فقال: - «إنّ هذا كان يأكل المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنّها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يأخذ كلّ يوم شاة سوداء يضرب وسطها بالسيف ثمّ يمشى بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لى [يوما] [1] : إنّى قد دخلت لهؤلاء القوم فى كلّ شيء أكرهه حتّى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، غير أنّى إلى هذه الغاية لم تسقط منّى شعرة- يعنى أنّه لم يختتن [2] .» فقال الأفشين: - «خبّرونى عن هذا المتكلّم أثقة هو عندكم فى دينه؟» - وكان الموبذ بعد مجوسيا ثمّ أسلم على يد المتوكّل. قالوا: «لا.» قال: «فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا ترون عدالته؟» ثمّ أقبل على الموبذ فقال: - «هل بين منزلي وبين منزلك باب أو كوّة تطلعني منها وتعرف أخبارى؟»   [1] . مزيد من الطبري (11: 1309) . [2] . كذا فى الأصل وآ، وتد (521) . وفى الطبري (11: 1310) : يعنى: لم يطّل ولم يختتن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 قال: «لا.» قال: «أفليس كنت أدخلك إلىّ فأبثّك سرّى وأخبرك بالأعجمية وميلى إليها وإلى أهلها؟» قال: «نعم.» قال: «فلست بالثقة فى دينك ولا بالكريم فى عهدك، إذ أفشيت علىّ [299] سرّا أسررته إليك.» ثمّ تنحّى الموبذ. بين المرزبان والأفشين وتقدّم المرزبان. فقالوا للأفشين: - «هل تعرف هذا؟» قال: «لا.» فقيل للمرزبان: «هل تعرف هذا؟» قال: «نعم هذا الأفشين.» فقالوا له: «هذا المرزبان.» ثمّ قال له المرزبان: - «يا ممخرق [1] كم تمّوه وتدافع؟» فقال الأفشين: - «يا طويل اللحية ما تقول؟» قال: «كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟» قال: «كما كانوا يكتبون إلى أبى وجدّى.»   [1] . مخرق فهو ممخرق: كذب وموّه واختلق. (وكأنّها مأخوذة من مخاريق الصبيان، أى الخرق المفتولة التي يلعبون بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 قال: «فقل.» قال: «لا أقول.» قال المرزبان: - «أليس يكتبون إليك بالأسروشنيّة بكذا وكذا؟» قال: «بلى.» قال: «أفليس بالعربية: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان؟» قال: «بلى.» قال محمد بن عبد الملك: - «والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا، فما بقّيت لفرعون حين قال لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ 79: 24 [1] » قال: «كانت هذه عادة القوم لأبى وجدّى ولى قبل أن أدخل فى الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونها فتفسد علىّ طاعتهم.» فقال له إسحاق بن إبراهيم بن مصعب: - «كيف تحلف لنا بالله فنصدّقك ونصدّق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدّعى ما ادّعى فرعون؟» فقال: «يا با الحسن هذه سورة قرأها عجيف على علىّ بن هشام وأنت تقرأها [300] علىّ، فانظر غدا من يقرأها عليك؟» بين مازيار وأفشين قال: ثمّ قدّم مازيار صاحب طبرستان. فقالوا للأفشين: - «تعرف هذا؟»   [1] . س 79 النازعات: 24. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 قال: «لا.» قالوا: «هذا المازيار.» قال: «نعم قد عرفته الآن.» قالوا: «هل كاتبته؟» قال: «لا.» قالوا لمازيار: - «هل كتب إليك؟» قال: «نعم كتب أخوه خاش إلى أخى قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيرى وغير أخيك وأنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلّا أن دلّاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيرى ومعى من الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجّهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلّا ثلثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب [1] ، اطرح له كسرة ثمّ اضرب رأسه بالدبّوس، وهؤلاء الذباب يعنى المغاربة إنّما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين- يعنى الأتراك- فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم ثمّ تجول الخيل عليهم جولة فتأتى على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيّام العجم.» فقال الأفشين: - «هذا يدّعى على أخى وأخيه ودعوى لا تجب علىّ، ولو كتبت هذا الكتاب [301] لأستميله إلىّ وليثق بناحيتى لكان غير مستنكر، لأنى إذا نصرت الخليفة بيدي لكنت بالجملة أحرى أن أنصره لآخذ قفاه وآتى به الخليفة فأحظى به عنده كما حظى عبد الله بن طاهر بمجيء المازيار.»   [1] . ما فى الأصل مهمل. والإعجام من تد (522) والطبري (11: 1311) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 بين ابن أبى دؤاد والأفشين ولمّا قال الأفشين لمازيار ما قال وقال لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ما قال زجر ابن أبى دؤاد الأفشين. فقال له الأفشين: - «أنت يا با عبد الله لا ترفع طيلسانك بيدك ولا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة.» فقال له ابن أبى دؤاد: - «أمطهّر أنت؟» قال: «لا.» قال: «فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة؟» قال: «أو ليس فى دين الإسلام استعمال التقيّة؟» قال: «بلى.» قال: «فإنى خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت.» قال: «أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك من أن تكون فى الحرب وتجزع من قطع غلفة [1] .» قال: «تلك ضرورة أدفع إليها فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلم آمن معه خروج نفسي ولم أعلم أنّ فى تركها خروجا [2] من الإسلام.» فقال ابن أبى دؤاد: - «قد بان لكم.» [302] ثمّ التفت إلى بغا الكبير وكان الأفشين تابعا له. فقال: - «يا با موسى عليك به.»   [1] . الغلفة والقلفة: جليدة يقطعها الخاتن. [2] . فى الأصل: خروج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 فضرب بيده إلى منطقته فجذبها. فقال: - «قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم.» فقلب بغا القباء على رأسه، ثمّ أخذ بمجامع القباء عند عنقه وأخرجه إلى محبسه. ثمّ دخلت سنة ستّ وعشرين ومائتين وفيها مات الأفشين. ذكر الخبر عن موته لمّا جاءت الفاكهة جمع المعتصم من الفواكه شيئا كثيرا فى طبق وقال لابنه هارون الواثق: - «اذهب بهذه الفواكه إلى الأفشين.» فحملت مع هارون حتى صعد بها إليه فى البناء الذي بنى له وحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، ثمّ قال للواثق: - «لا إله إلّا الله، ما أحسنه لولا أنى فقدت منه ما أشتهيه.» وكان فقد منه الشاهلوج. فقال الواثق: - «وما هو؟» فقال: «الشاهلوج.» فقال: «هو ذى، أنصرف فأوجّه به إليك.» ولم يمسّ من الفاكهة شيئا. فلمّا أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين: - «اقرأ على سيّدى السلام وقل له: أسألك أن توجّه إلىّ ثقة من قبلك يؤدّى عنّى ما أقول.» [303] فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل. وكان حمدون فى أيّام المتوكّل فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 حبس سليمان بن وهب فحدّث بهذا الحديث. بين هارون الواثق والأفشين قال هارون: فبعث بى المعتصم إلى الأفشين وقال لى: - «إنه سيطوّل [1] عليك فلا تحتبس.» قال: فدخلت عليه وطبق الفاكهة بين يديه ولم يمسّ واحدة فما فوقها. فقال لى: - «اجلس.» فجلست فاستمالنى بالدهقنة. فقلت: - «لا تطوّل، فإنّ أمير المؤمنين قد تقدّم إلىّ ألّا أحتبس عندك، فأوجز.» فقال لى: - «قل لأمير المؤمنين يا مولاي، أحسنت إلىّ وشرّفتنى وأوطأت الرجال عقبى ثمّ قبلت فىّ كلاما لم يتحقّق عندك ولم تدبّره بعقلك، كيف يكون هذا وكيف يجوز لى أن أفعل هذا الذي بلغك عنّى؟ تخبر بأنّى دسست منكجور أن يخرج وتقبله، وتخبر أنّى قلت للقائد الذي وجّهته إلى منكجور: لا تحاربه واعذر [2] به، وإن أحسست بأحد منّا فانهزم من بين يديه. أنت رجل قد عرفت الحرب وحاربت الرجال وسست العساكر، هذا يمكن، رأس عسكر يقول لأحد أن يفعله؟ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدوّ، وقد عرفت سببه. ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربّى عجلا له حتى أسمنه وكبر وحسنت حاله [304] وكان له أصحاب اشتهوا أن   [1] . كذا فى الأصل: سيطوّل. فى تد (524) والطبري (11: 1315) : سيطول (بالضبط، وكذلك فى الموضع الآتي) . أطول: أطال: طوّل. [2] . كذا فى الأصل وآ وتد (525) والطبري (11: 1315) : اعذر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 يأكلوا من لحمه، فعرّضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتّفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم: - «ويحك لم تربّى هذا الأسد هذا سبع وقد كبر والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه.» فقال لهم: - «ويحكم هذا عجل ما هو سبع.» فقالوا له: - «هذا سبع، سل من شئت عنه.» وقد كانوا تقدّموا إلى جميع من يعرفونه فقالوا لهم: إن سألكم عن العجل فقولوا: هذا سبع. فكلّما سأل الرجل إنسانا قال له: «هذا سبع.» فأمر بالعجل فذبح. ولكن أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله فى أمرى اصطنعتنى وشرّفتنى وأنت سيدي ومولاي أسأل الله أن يعطف بقلبك علىّ.» قال حمدون: فقمت وانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمسّ منه شيئا. ثمّ ما لبثنا إلّا قليلا حتى قيل: إنّه مات. فقال المعتصم: - «أروه ابنه.» فأخرجوه فطرحوه بين يدي ابنه، فنتف لحيته وشعره، ثمّ حمل إلى منزل إيتاخ ثمّ صلب على باب العامة ليراه الناس ثمّ طرح مع خشبته وأحرق وحمل الرماد فطرح فى دجلة. ووجد فى داره لمّا أحصى متاعه تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وجوهر. فممّا أخرج من منزله أطواف الخشب [305] التي أعدّها، وأصنام وكتب فيها ديانته. ثمّ دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين خروج المبرقع اليماني بفلسطين وفيها خرج المبرقع اليماني بفلسطين على السلطان. ذكر السبب فى ذلك كان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول فى داره وهو غائب عنها وفيها إمّا زوجته وإمّا أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط معه فاتّقته بذراعها فأثّر فيها. فلمّا رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه. فأخذ السيف ومشى إلى الجندي وهو غارّ [1] فضربه فقتله ثمّ هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن وطلبه السلطان فلم يعرف له خبرا. وكان يظهر متبرقعا على الخيل فيراه الرائي فيأتيه ويذكّره ويحرّضه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ويذكر السلطان ويعيبه، فما زال حتى استجاب له قوم من الحرّاثين وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أموىّ وقال الذين استجابوا [306] له: - «هذا هو السفياني.» فلمّا كثرت غاشيته وتبّاعه من هذه الطبقة دعا أهل البيوتات، فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وقوم من أهل دمشق، واتصل الخبر بالمعتصم   [1] . لا تشديد على الرّاء لا فى الأصل ولا فى الطبري (11: 1319) وهو من تد (526) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 وهو عليل علّته التي مات فيها، فوجّه إليه رجاء بن أيّوب الحضارى فى نحو ألف رجل من الجند، وكان أبو حرب فى نحو مائة ألف، وكره رجاء [1] مواقعته فعسكر بحذاءه وطاوله حتى إذا كان فى وقت عمارة الأرضين تفرّق عنه أكثرهم وبقي أبو حرب فى نحو ألفين فناجزه الحرب، وتأمّل رجاء عسكر المبرقع فلم يجد فيه من له فروسية غيره. فقال لأصحابه: - «لا تعجلوا عليه فانّه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده.» فما لبث أن حمل فقال لأصحابه: - «أفرجوا عنه.» فأفرجوا، ثمّ حمل ثانية فقال رجاء: - «أفرجوا له فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك وخذوه.» ففعل ذلك وأحاطوا به فأنزلوه عن دابته وأسروه وحمله رجاء إلى المعتصم. وفاة المعتصم وفيها كانت وفاة المعتصم. ولمّا حضرته الوفاة جعل يقول: - «ذهبت الحيل ليست حيلة.» حتّى مات. وذكر عنه أنّه قال: - «لو علمت أنّ عمرى قصير ما فعلت ما فعلت.» ودفن بسرّ من رأى. فكانت خلافته ثماني سنين [307] وثمانية أشهر وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وولد سنة ثمانين ومائة ومات عن   [1] . فى الأصل: رجا. وفى تد (527) : رجاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 ثمانية وأربعين سنة وله ثمانية بنين وبنات. وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة حسن العينين. [1] وبويع يوم توفى ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم وكان يكنّى أبا جعفر.   [1] . انظر الطبري (11: 1324) ، حيث تجد فصلا عن بعض أخلاق المعتصم وسيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 خلافة هارون الواثق ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يثبت فى مثل هذا الكتاب. ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين حبس الكتاب وإلزامهم أموالا وفيها حبس الواثق الكتّاب وألزمهم أموالا، فأخذ من سليمان بن وهب وهو كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن أمر بضربه كلّ يوم عشرة أسواط فضرب نحو ألف سوط، وأخذ [1] من أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن الحسن بن وهب وأبى الوزير مائتي ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمّال بسبب عمالاتهم، ونصب محمد بن [308] عبد الملك لابن أبى دؤاد وسائر أصحاب المظالم فكشفوا وحبسوا وأقيموا للناس فلقوا كلّ جهد، وجلس إسحاق بن إبراهيم لهم ينظر فى أمرهم ويطالبهم.   [1] . والعبارة فى مط: وأخذ ابن الخضيب [بالضاد المعجمة] وكتابه (بالحذف والتصحيف) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 ذكر سبب ذلك كان سبب ذلك أنّ الواثق جلس ليلة مع ندمائه فقال: - «إنّى لست أشتهى الليلة النبيذ، فهلمّوا نتحدّث.» فتحدّثوا عامة الليل فقال الواثق: - «من منكم يعلم السبب الذي وثب من أجله جدّى الرشيد على البرامكة حتى أزال نعمتهم؟» فقال له بعضهم: - «أنا والله أحدّثك يا أمير المؤمنين.» وحدّثه حديث الجارية وما جرى فى أمر ثمنها وإحضار البرامكة قيمة مائة ألف دينار دراهم [1] ليستكثرها فلا يشتريها. فلمّا رآها ضمّها إلى بعض خدمه وبحث عن الأموال ليجمع بيت مال خاصة [2] فوجد البرامكة قد أتلفوا كلّ ما فى بيوت أمواله وقد ذكرنا نحن هذا الحديث مشروحا فيما مضى. فما مرّ على ذلك أسبوع حتّى أوقع بكتّابه واستخرج منهم ومن عمّاله أموالا عظيمة. ودخلت سنة ثلاثين ومائتين [309] وفيها مات عبد الله بن طاهر وكان إليه يوم ذاك الحربة والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والرىّ وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، فولّى الواثق هذه الأعمال كلّها ابنه طاهر بن عبد الله بن طاهر.   [1] . انظر الطبري (11: 1333) . [2] . كذا فى تد أيضا (528) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين تحرّك قوم وأخذهم البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي وفيها تحرّك قوم فى ربض عمرو بن عطاء وأخذوا البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي. ذكر السبب فى ذلك السبب فى ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك [بن الهيثم] [1] الخزاعي- ومالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس وقد تقدّم ذكره فيما مضى- يغشاه أصحاب الحديث. وكان أحمد بن نصر هذا يباين من قال بخلق القرآن وباينه مثل يحيى بن معين وابنا الدورقي وأبو خيثمة، وله مرتبة كبيرة فى أصحاب الحديث، وبسط لسانه فيمن يقول بخلق القرآن، مع غلظة الواثق كانت على كلّ من يقول ذلك وامتحانه إيّاهم فيه وغلبة ابن أبى دؤاد عليه. فجعل أحمد بن نصر لا يذكر الواثق إلّا بالخنزير فيقول: - «فعل هذا الخنزير ... وصنع هذا الكافر.» وفشا ذلك [310] حتى خوّف، وقيل له: قد اتصل أمرك به وحرّكه المطيفون به ممّن ينكر القول بخلق القرآن من أصحاب السلطان ومن عامّة بغداد، وحرّكوه لإنكار القول بخلق القرآن وقصده الناس لرتبته فى أصحاب الحديث ولما كان لأبيه وجدّه فى دولة بنى العباس من الأثر فكانت له أيضا رئاسة ببغداد فى سنة إحدى ومائتين.   [1] . ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، فأضفناه من تد (528) والطبري (11: 1343) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 وبويع على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لما كثر الدعّار وظهر الفساد والمأمون بخراسان ولم يزل على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد فى سنة أربع، فرجوا إذا تحرّك استجابة الناس له للأسباب التي ذكرت. وكان فيمن بايعه قوم من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة يرون رأيه ففرّقوا فى قوم مالا وأعطوا كلّ رجل دينارا دينارا، وواعدهم أحمد بن نصر ليلة يضربون فيها بالطبل للاجتماع والوثوب بالسلطان، وكان قوم منهم بالجانب الشرقي وقوم بالجانب الغربي، فانتبذ بعض من أخذ الدينار واجتمع عدّة منهم على شربه. فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة وكان الموعد ليلة الخميس وهم يحسبونها ليلة الخميس [311] التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل فلم يجبهم أحد. وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم صاحبه فأتاهم فسألهم عن قصّتهم فلم يظهر له أحد فدلّه الجيران على رجل حمّامى فأخذه وتهدّده بالضرب فأمر على أحمد بن نصر وجماعة سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم فأخذ بعضهم من الجانب الشرقي وبعضهم من الجانب الغربي وقيّد وجوههم وأصيب فى منزل أحدهم علمان أخضران فيهما حمرة، ثمّ أخذ خصىّ لأحمد بن نصر، فتهدّد فأقرّ بما أقرّ به عيسى الحمّامى. فأخذ أحمد بن نصر وحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب مع أولاده وجماعة من يغشاه، فحملهم إلى الواثق بسرّ من رأى على بغال بأكاف لا وطاء تحتهم وهم مقيّدون. فجلس لهم الواثق مجلسا عامّا وأحضر أحمد بن أبى دؤاد ليمتحنوا مكشوفا. فأحضر القوم وحضر معهم أحمد بن نصر فلم يناظرهم الواثق فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 الشغب ولا فيما روى عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال [1] : - «يا أحمد ما تقول فى القرآن؟» قال: «كلام الله.» قال: «أفمخلوق هو؟» قال: « [هو] [2] كلام الله.» قال: «فما تقول فى ربّك، أتراه يوم القيامة؟» قال: «يا أمير المؤمنين [312] جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه أنّه قال ترون ربّكم يوم القيامة لا تضامون فى رؤيته.» وحدّثنى سفيان بن عينيه بحديث يرفعه أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله. فقال له إسحاق بن إبراهيم: - «ويلك انظر ما تقول.» قال: «أنت أمرتنى بذلك.» فأشفق إسحاق من كلمته. قال: «أنا أمرتك بذلك؟» قال: «نعم أمرتنى أن أنصح لك ولأمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه.» فقال الواثق لمن حوله: - «ما تقولون فيه؟» فأكثروا. فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وهو صديق لأحمد بن نصر: - «يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.»   [1] . انظر الطبري (11: 1347) . [2] . ما بين المعقوفتين أضفناه من تد (531) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 وقال آخر: - «اسقني دمه يا أمير المؤمنين.» فقال له الواثق: - «القتل يأتى على ما تريد.» وقال أحمد بن أبى دؤاد: - «كافر يستتاب، لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل، كأنّه كره أن يقتل بسببه.» فقال الواثق: - «إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ معى أحد، فإنّى أحتسب خطإي إليه.» ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معديكرب وكان فى الخزانة، فأتى به فمشى إليه فى وسط الدار ودعا بنطع فصيّر فى وسطه وحبل فشدّ به رأسه ومدّ الحبل [313] فضربه الواثق فوقعت الضربة على حبل عاتقه، ثمّ ضربه أخرى على رأسه، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه فضربه فأبان رأسه. ويقال: إنّ بغا ضربه ضربة أخرى وطعنه الواثق بطرف الصمصامة فى بطنه فحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفى رجله قيود وحمل رأسه إلى بغداد فنصب فى الجانب الشرقي أيّاما ثمّ حوّل إلى الغربي وحظر على الرأس حظيرة وأقيم عليه الحرس وكتب فى أذنه رقعة: - «هذا رأس الكافر المشرك الضالّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام الحجّة عليه فى خلق القرآن ونفى التشبيه، وعرض عليه التوبة فأبى إلّا المعاندة، فعجّل الله به إلى ناره وأليم عقابه.» وتتبع من عرف بصحبة أحمد بن نصر ومن بايعه فوضعوا فى الحبوس ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون ومنعوا من الزوّار وثقّلوا بالحديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 الفداء بين المسلمين وصاحب الروم وفى هذه السنة [1] تمّ الفداء بين المسلمين وصاحب الروم واجتمع [314] المسلمون والروم على نهر يقال له اللامس على مسيرة يوم من طرسوس. وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور فى القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم. وأمر لأهل الثغور بجوائز على ما رآه خاقان، وكان خادم الرشيد نشأ بالثغر وكان ورد رسول ملك الروم فى طلب المفاداة وكان جرى بينهم اختلاف فى الفداء قالوا: - «لا نأخذ فى الفداء عجوزا ولا شيخا ولا صبيّا. ثمّ رضوا عن كلّ نفس بنفس فوجّه الواثق فى شراء من يباع ولم يتمّ العدّة فأخرج الواثق من قصره عجائز روميات وغيرهم حتّى تمّت العدّة.» وأمر الواثق بامتحان الأسارى. فمن قال بخلق القرآن فودى به ومن أبى ترك فى أيدى الروم. وأمر أن يعطى جميع من فودى وقال بخلق القرآن دينارا فبلغ عدّة من فودى به أربعة آلاف وستمائة إنسان فيهم من أهل الذمة نحو أربعمائة. ولمّا جمعوا الفداء وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي وعقد جسر على النهر للمسلمين وجسر آخر للروم. قال: فكنّا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم [315] فيصير هذا إلينا وذاك إليهم. وفى هذه السنة مات أبو عبد الله ابن الأعرابي الراوية وهو ابن ثمانين سنة.   [1] . انظر الطبري (11: 1351) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وفيها كان مسير بغا الكبير إلى بنى نمير [1] ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أنّ عماره بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه وأنشده إيّاها، فأمر له بثلاثين ألف درهم وبنزل. فكلّم عمارة الواثق فى بنى نمير وأخبره بعيثهم وفسادهم فى الأرض وإغارتهم على اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم، وكان بغا بالمدينة لأن بنى سليم كانوا عاثوا بالحجاز وأكثروا الغارات والقتل، فتوجّه صاحب المدينة وجمع لهم الخيل والسودان ومن استجاب لهم من قريش والأنصار، فواقعتهم بنو سليم فقتلوهم وقتلوا أمير المدينة وأكثر من كان خرج معه من قريش والأنصار. فأخرج الواثق بالله بغا الكبير إلى المدينة [316] فأوقع ببني سليم وأسر منهم وقتل، فكان لذلك مقيما بعد بالمدينة. فلمّا أراد بغا الشخوص إليهم من المدينة حمل معه دليلا ومضى نحو اليمامة فلقى منهم جماعة بموضع يقال له: الشريف، فحاربوه فقتل بغا منهم نحوا من ستين رجلا وأسر نحوا من أربعين. ثمّ سار وتابع إليهم الرسل فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم فى ذلك يمتنعون عليه ويشتمون رسله ويتفلّتون إلى حربه. فسار بغا حتّى ورد بطن نخل ثمّ دخل نخيلة، فاحتملت بنو ضبّة من بنى نمير فركبت جبالها، فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، وأرسل إليهم سريّة وأتبعهم بجماعة من معه، فحشدوا لحربه وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف رجل.   [1] . انظر الطبري (11: 1358) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 فلقوهم ببطن السر فهزموا مقدّمته وكشفوا ميسرته وقتلوا من أصحابه مائة وثلاثين رجلا وعقروا من إبل عسكره سبعمائة ومائة دابّة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال فهجم عليهم وعليه ليل. فجعل بغا يناشدهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى طاعة الواثق فشتموه وتوعّدوه. فلمّا دنا الصبح أشير على بغا بأن يوقع بهم قبل أن يضيء الصبح فيروا قلّة عدد من معه ويجترئوا عليه، فأبى بغا. فلمّا أضاء الصبح [317] ونظروا إلى عدد من معه حملوا عليهم فهزموهم حتّى بلغت هزيمتهم معسكرهم وأيقنوا بالهلكة. ذكر اتفاق حسن وبلغ بغا أنّ خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوا من مائتي رجل إليها. فبينا هم فيما هم من الإشراف على العطب وقد انهزم بغا إذ خرجت تلك الجماعة منصرفة من تلك الخيل وأقبلت متفرقة فى ظهور بنى نمير. فنفخوا فى صفّارتهم فالتفتوا ورأوا الخيل وراءهم، فولّوا منهزمين وأسلم فرسانهم رجّالتهم وطاروا على ظهور الخيل. وكان منهم جماعة تشاغلوا بالنهب، فثاب إلى بغا أصحابه فكرّ عليهم وقتل منهم منذ زوال الشمس وإلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا حتّى جمعت له رؤوس من قتل واستراح هو وأصحابه ببطن السرّ ثلاثة أيّام. ثمّ أرسل إليه من هرب من فرسان نمير من الوقعة يطلبون الأمان فأعطاهم الأمان فصاروا إليه فقيّدهم وأشخصهم معه، فشغبوا فى الطريق وحاولوا كسر قيودهم والهرب. فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد فيضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلم ينطق منهم ناطق بتوجّع ولا تأوّه. ثمّ جمعهم مع من لحق به [318] ممّن طلب الأمان وحملهم إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 البصرة. موت الواثق وفيها مات الواثق وكان موته بالاستسقاء فعولج بالإقعاد فى تنّور مسخن فوجد لذلك راحة، فأمر من غد ذلك اليوم بأن يزاد فى إسخان ذلك التنّور ففعل وقعد فيه أكثر من قعوده فى اليوم الذي قبله فحمى عليه، فأخرج منه وصيّر فى محفّة، وحضره جماعة من الهاشميين ثمّ حضر محمد بن عبد الملك الزيّات وأحمد بن أبى دؤاد. فلم يعلموا بموته حتّى ضرب بوجهه المحفّة، [فعلموا أنّه قد مات] [1] وكان أبيض مشربا حمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض. فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وسنّه ست وثلاثون سنة.   [1] . ما بين المعقوفتين أضفناه من الطبري (11: 1363) . ما فى الأصل وتد (535) : ومات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 خلافة جعفر المتوكّل وفى هذه السنة بويع لجعفر المتوكّل بالخلافة وهو جعفر بن محمد بن هارون بن [1] محمد بن عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. لمّا توفّى الواثق حضر الدار أحمد بن أبى دؤاد وإيتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد أبو الوزير. فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق فأحضروه وهو غلام أمرد قصير. فألبسوه درّاعة [2] سوداء وقلنسوة رصافيّة [3] فإذا هو قصير. فقال لهم وصيف: - «أما تتّقون الله تولّون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة.» فتناظروا [319] فى من يولّونها، فذكر أحمد بن أبى دؤاد جعفرا أخا الواثق فأحضره وألبسه الطويلة وعمّمه وقبّل بين عينيه وقال: - «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.» تم غسل الواثق وصلّى عليه ودفن ولقّنه أحمد بن أبى دؤاد: المتوكّل على الله، وأمر محمد بن عبد الملك بالكتاب به إلى الناس فوقّع بهذا:   [1] . هارون بن: فى الأصل غموض. فأثبتناه حسب ما فى تد (535) والطبري (11: 1368) . [2] . الدّرّاعة: جبّة مشقوقة المقدّم. [3] . فى مط: وصافية، بدل: رصافيّة. والأصل كالطبرى (نفس الصفحة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 «بسم الله الرحمن الرحيم- أمر أبقاك الله- أمير المؤمنين أعزّه الله، أن يكون الرسم الذي يجرى به ذكره على أعواد منبره وكتبه إلى قضاته وكتّابه وعمّاله وأصحاب دواوينه وسائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكّل على الله أمير المؤمنين. فرأيك فى العمل بذلك وإعلامى وصول كتابي إليك موفّقا إن شاء الله.» وأمر للأتراك برزق أربعة أشهر وأمر بأن يوضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأخذت البيعة عليهم وبويع له وله ستّ وعشرون سنة. ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وفيها غضب المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات وحبسه. ذكر سوء نظر محمد بن عبد الملك فى العاقبة وتجهّمه للمتوكّل حتّى أهلكه [320] كان السبب فى غضبه عليه أنّ الواثق لمّا استوزر محمد بن عبد الملك فوّض إليه الأمور وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر لبعض الأمور، فوكّل به عمر بن فرج الرخّجى ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره. فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم أخاه الواثق ليرضى عنه. فلمّا دخل عليه مكث واقفا بين يديه لا يكلّمه، ثمّ أشار إليه أن يقعد فلمّا فرغ من نظره فى الكتب التفت إليه كالمتهدّد له فقال له: - «ما جاء بك؟» قال: «جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنى.» فقال لمن حوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 - «انظروا إلى هذا يغضب أخاه ويسألنى أن أسترضيه له اذهب، فانّك إذا صلحت رضى عنك.» فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده وأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكّه لبعض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالتجهّم وأخذ الصك ورمى به، فصار جعفر حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبى دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد بن أبى دواد واستقبله وقبّله والتزمه وقال له: - «ما جاء بك جعلني الله فداءك؟» قال: «جئت لتسترضى أمير المؤمنين.» قال: «أفعل ونعمة عين.» فكلّم أحمد بن أبى دؤاد الواثق بالله فيه، فوعده ولم يرض عنه. فأعاد أحمد الكلام [321] بعد ذلك وسأله بحق المعتصم إلّا رضى عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه واعتقد جعفر لأحمد بن أبى دؤاد بذلك يدا ميثاقا فأحظاه عنده لمّا ملك. وإنّ محمد بن عبد الملك حين خرج جعفر من عنده كتب إلى الواثق يذكر: أنّ جعفرا أتانى فسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه فى زىّ المخنّثين، له شعر قفا. فكتب إليه الواثق: - «ابعث إليه فأحضره ومر من يجزّ شعر قفاه، ثمّ مر من يأخذ شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله.» فحكى عن المتوكّل أنّه قال: لمّا أتانى رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى، فلمّا حصلت بين يديه قال: - «يا غلام ادع لى حجّاما.» فدعى به. فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 - «خذ من شعره فاجمعه.» فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وضرب وجهه به. فقال المتوكّل: ما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حيث أخذ شعري على السواد الجديد وقد جئته فيه طامعا فى الرضا عنى فأخذ شعري عليه. فلمّا بويع جعفر أمهل وهو يفكّر فى مكروه يناله به. ثمّ أمر إيتاخ بأن يأخذه ويعذّبه فيبعث إليه إيتاخ فظنّ أنّه يدعى للخليفة، فركب مبادرا. فلمّا حاذى منزل إيتاخ، قيل له: - «اعدل إلى ها هنا.» فعدل وأوجس [322] فى نفسه خيفة. فلمّا جاء إلى الموضع الذي كان نزل فيه إيتاخ عدل به عنه فأيقن بالشرّ ثمّ أدخل حجرة وأخذ سيفه ودرّاعته وقلنسوته فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم: - «انصرفوا.» فانصرفوا وهم لا يشكّون أنّه مقيم عند إيتاخ ليشرب. ووجّه المتوكّل إلى أصحابه ودوره، فقبض عليهم فأخرج جميع ما كان فى منزله من متاع وجوار وغلمان ودوابّ، فصار ذلك كلّه فى الهارونىّ، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأمّا ما كان بسرّ من رأى فحمل إلى خزائنه واشترى للخليفة جميعه وقيل لمحمد بن عبد الملك: - «وكّل ببيع متاعك.» وأتوه بمن وكّله بالبيع عليه ثمّ قيّد، وامتنع من الطعام فلا يذوق شيئا. وكان شديد الجزع فى حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. فمكث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 أيّاما ثمّ سوهر ومنع من النوم وينخس بمسلّة، ثمّ ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا فأتى به فأكل، ثمّ أعيد الى المساهرة. وكان محمد قاسى القلب يزعم أنّ الرحمة خور فى الطبيعة وكان قد اتّخذ تنّورا من خشب فيه مسامير حديد قيام يعذّب فيه من يطالبه. فكان هو أوّل من عمل ذلك، وعذّب فيه ابن سنباط المصري حتّى استخرج منه جميع ما كان عنده ثمّ [323] ابتلى به فعذّب فيه حتّى مات. ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين هروب محمد بن البعيث وفيها هرب محمد بن البعيث بن حليس، وكان جيء به أسيرا من أذربيجان وحبس، وكانت له قلعتان تدعى أحداهما شاها [1] والأخرى يكدر. فأمّا شاها فهي وسط البحيرة وأمّا يكدر فهي خارج البحيرة وهذه البحيرة قدر عشرين فرسخا من حدّ أرمينية إلى بلاد محمد بن الروّاد، وشاها قلعة حصينة تحيط بها البحيرة ويركب فيها الناس من أطراف المراغة إلى أرمينية وغيرها. وكانت مدينة محمد بن البعيث مرند فهرب إلى مدينته فجمع بها الطعام وفيها عيون ماء فرمّ ما كان وهي [2] من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كلّ ناحية من ربيعة وغيرها فصار فى نحو ألفى رجل. وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة فقصّر فى طلبه. فولّى المتوكّل حمدويه بن علىّ أذربيجان ووجّهه من سرّ من رأى على البريد. فلمّا صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له فصار فى عشرة آلاف. فزحف إلى ابن البعيث فألجأه إلى مدينة مرند وهي مدينة استدارتها   [1] . شاها: كذا فى الأصل وتد (539) فى كلا الموضعين. فى الطبري (11: 1380) : شاهي. [2] . كذا فى الأصل وتد (540) . فى الطبري (11: 1381) : مائتي ألف فارس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 فرسخان فى داخلها بساتين كثيرة ومن خارجها كما تدور شجر إلّا فى مواضع أبوابها. وقد جمع فيها [324] ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء. فلمّا طالت مدّته وجّه إليه المتوكّل زيرك التركي فى مائتي [1] فارس من الأتراك فلم يصنع شيئا فوجّه المتوكّل عمر بن سليل [2] بن كال فى جماعة من الشاكرية فلم يغن شيئا. فوجّه إليه بغا الشرابي فى أربعة آلاف ما بين تركىّ وشاكرىّ ومغربىّ، وقد كان الجند قد زحفوا إلى مدينة مرند وقطعوا ما حولها من الشجر فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة من شجر الغياض وغيره ونصبوا عليها عشرين منجنيقا وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنّون فيه ونصب عليهم محمد بن البعيث من المجانيق مثل ذلك. وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنوّ من السور فكانوا يغادونه القتال ويراوحونه، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلّون بالجبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم أصحاب السلطان لجأوا إلى الحائط بالمقاليع وكانوا ربّما فتحوا بابا يقال له باب الماء فيخرج منه عدّة يقاتلون ثمّ يرجعون. فلمّا قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن السليل الشيبانى ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث ولابن البعيث على أن ينزلوا وينزل على حكم المتوكّل، وإلّا قاتلهم [325] فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الأمان. وكان عامّة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل   [1] . كذا فى الأصل وتد (540) . فى الطبري (11: 1381) : مائتي ألف فارس. [2] . فى تد (540) : سيسل بن كال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 منهم قوم كثير بالجبال ونزل ختن ابن البعيث، ثمّ فتحوا باب المدينة فدخل أصحاب حمدويه وزيرك وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر فلحقه قوم من الجند فأخذوه أسيرا وانتهبوا منزله ومنازل أصحابه وأخذ له أختان وثلاث بنات وخالته والبواقي سرارىّ ونحو مائتي رجل وهرب الباقون ووافاهم بغا فمنع من النهب وكتب بغا بالفتح لنفسه. ثم قدم بغا بابن البعيث وأصحابه وهم نحو مائتي رجل. فلمّا قربوا من سرّ من رأى حملوا على الجمال ليستشرفهم الناس. فأتى المتوكّل محمد بن البعيث فأمر بضرب عنقه فطرح على نطع، وجاء السيّافون فلوّحوا فقال المتوكّل: - «ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟» قال: «الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وخلقه وإنّ لى فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو.» ثمّ اندفع بلا فصل: أبى الناس إلّا أنّك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والعفو [1] فى الله أجمل [326] وهل أنا إلّا جبلة من خطيئة ... وعفوك من نور النّبوّة يجبل فإنّك خير السابقين إلى العلى ... ولا شكّ أن خير الفعالين تفعل فالتفت المتوكّل فقال لمن عنده: - «إنّ معه لأدبا.» فقال بعضهم وبادر: - «بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمنّ عليك.»   [1] . كذا فى الأصل وتد (541) وآ: والعفو. فى الطبري (11: 1387) : والصفح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 فقال المتوكّل: - «ارجع إلى منزلك.» ويقال إنّ ابن البعيث لمّا تكلّم بما تكلّم به شفع فيه المعتزّ واستوهبه فوهبه له. وكان محمد بن البعيث أحد شجعان أذربيجان وله شعر كثير جيّد بالعربية والفارسية. [1] وحجّ فى هذه السنة إيتاخ وكان والى مكّة والمدينة والموسم، ودعى له على المنابر. ذكر سبب ذلك كان إيتاخ غلاما طبّاخا خزريّا لسلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم، وكان لإيتاخ بأس ورجلة، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق وولّى الأعمال الكبار، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله حبس عند إيتاخ. فلمّا ولى المتوكّل كان إلى إيتاخ الحبس والمغاربة والأتراك والبريد والحجابة ودار الخلافة. فخرج المتوكّل بعد الخلافة متنزّها [327] إلى ناحية القاطول فشرب ليلة فعربد على إيتاخ، فهمّ إيتاخ بقتله. فلمّا أصبح المتوكّل قيل له، فاعتذر إلى إيتاخ والتزمه وقال: - «أنت أبى وأنت ربّيتنى.» فلمّا صار المتوكّل إلى سرّ من رأى دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحجّ ففعل وأذن له وصيّره أمير كلّ بلدة يدخلها وخلع عليه وركب القوّاد معه، فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف.   [1] . انظر الطبري (11: 1388) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين وفيها كان مقتل إيتاخ ذكر سبب مقتله لمّا انصرف إيتاخ من مكّة راجعا إلى العراق وجّه المتوكّل إليه سعيد بن صالح [1] الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة وقد تقدّم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه. فذكر إبراهيم بن المدبّر أنّه خرج مع إسحاق بن إبراهيم فى تلقّى إيتاخ وكان أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ثمّ يخرج إلى سرّ من رأى. فكتب إليه إسحاق: - «إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن يدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم فى دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز.» قال: فخرجنا حتّى إذا كنّا بالياسريّة [328] وقد شحن إسحاق بن إبراهيم الجسرين بالجند والشاكرية، وخرج فى خاصّته وطرح له بالياسرية صفّة فجلس عليها وأقبل قوم قد رتّبهم فى الطريق. كلّما صاروا إلى موضع أعلموه، حتّى قالوا: - «قد قرب منك.» فركب فاستقبله. فلمّا نظر إليه أهوى إسحاق لينزل. فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل. وكان إيتاخ فى نحو ثلاثمائة من أصحابه وعليه قباء أبيض متقلّدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا حتّى إذا صار عند الجسر تقدّمه إسحاق عند الجسر وعبر حتّى وقف على باب خزيمة بن خازم. فقال لإيتاخ:   [1] . انظر الطبري (11: 1388) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 - «تدخل أعزّ الله الأمير.» وكان الموكّلون بالجسر كلّما مرّ بهم غلام من غلمانه قدّموه حتّى بقي فى خاصّة غلمانه، فدخل بين يديه قوم وقد فرشت له دار خزيمة بن خازم، وتأخّر إسحاق وأمر ألّا يدخل الدار من غلمانه إلّا ثلاثة أو أربعة وأخذت عليه الأبواب وأمر بحراسته من ناحية الشطّ وكسرت كلّ درجة فى قصر خزيمة، فحين دخل أغلق الباب، خلفه فنظر فإذا ليس فيه إلّا ثلاثة غلمان. فقال: - «قد فعلوها.» ولو لم يؤخذ [1] ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو صار إلى سرّ من رأى فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك. ثمّ ركب إسحاق حرّاقة وأعدّ [329] لإيتاخ أخرى. ثمّ أرسل إليه أن يصير إلى الأخرى وأمر بأخذ سيفه، فحدّروه إلى الحرّاقة وصيّر قوم معه بالسلاح، وصاعد إسحاق إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق فأدخل ناحية منها، ثمّ قيّد وثقّل بالحديد فى عنقه ورجليه، ثمّ قدم بابنيه: منصور والمظفّر وبكاتبيه: سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان وقدامة على ضياع إيتاخ خاصّة فحبسوا ببغداد. وذكر ترك مولى إسحاق قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال: - «يا ترك» . قلت:   [1] . فى مط: لم يوجد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 - «ما تريد؟» قال: «أقرأ على الأمير السلام وقل له قد علمت ما كان يأمرنى به المعتصم والواثق فى أمرك فكنت أدفع عنك ما أمكننى فلينفعنى ذلك عندك، أمّا أنا فقد مرّ بى شدّة ورخاء فما أبالى ما أكلت وما شربت، وأمّا هذان الغلامان فإنّهما عاشا فى نعمة ولم يعرفا البؤس فصيّر لهما لحما ومرقة وشيئا يأكلان منه.» قال ترك: فذهبت إلى مجلس إسحاق فوقفت، فقال لى: - «ما تريد؟ فأرى فى وجهك كلاما.» قلت: «نعم.» قال لى: - «إيتاخ كذا وكذا.» وكانت وظيفة إيتاخ فى كلّ يوم رغيفا وكوزا من ماء، ويؤمر لابنيه بخوان [330] عليه سبعة أرغفة وخمسة ألوان [1] فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق. ثمّ هلك إيتاخ بالعطش فإنّه أطعم ومنع الماء حتّى مات وأحضر إسحاق القضاة والفقهاء وعرضه عليهم لا ضرب به ولا أثر. وأمّا ابناه فبقيا فى الحبس حياة المتوكّل. فلمّا أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما. ما عامل به المتوكّل أهل الذمّة فى ملابسهم ومنازلهم وفى هذه السنة أمر المتوكّل بأخذ النصارى وأهل الذمّة بلبس العسلىّ   [1] . كذا فى الأصل وتد (545) وآ: ألوان. فى الطبري (11: 1386) : عرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السرج، وبتغيير القلانس لمن لبس قلنسوة، وبتغيير زىّ النساء فى أزرهن العسلية ليعرفن، وكذلك مماليكهم، ومنعهم لبس المناطق، وإن دخلوا الحمام كان معهم جلاجل ليعرفوا، وأمر بهدم بيعهم المستحدثة وبأخذ العشر من منازلهم. فإن كان الموضع واسعا صيّر مسجدا وإن لم يصلح أن يكون مسجدا صيّر فضاء. وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم ومنازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم فى الدواوين وأعمال السلطان التي تجرى فيها أحكامهم على المسلمين، ونهى أن يتعلّم أولادهم فى كتاتيب المسلمين [331] وألّا يعلّمهم مسلم، ونهى أن يظهروا فى أعيادهم صليبا وأن يشمعوا [1] فى الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلّا يشبه قبورهم قبور المسلمين، وكتب إلى العمّال فى الآفاق بذلك. عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة وفى هذه السنة عقد المتوكّل البيعة لبنيه [2] الثلاثة: لمحمد وسمّاه المنتصر، ولأبى عبد الله واسمه الزبير وسمّاه المعتزّ، ولإبراهيم وسمّاه المؤيد، بولاية العهد. وذكر ذلك للشعراء وكتبت بينهم كتب وفرّقت فى الأمصار. ودخلت سنة ستّ وثلاثين ومائتين ومن حوادثها هدم قبر الحسين عليه السلام وفيها توجّه الفتح بن خاقان عند المتوكّل وولّى أعمالا منها أخبار الخاصّة   [1] . كذا فى الأصل: يشمعوا. شمع: لعب ومزح. فى تد (545) والطبري (1390) : يشمعلوا. شمعلوا: تفرّقوا مرحا ونشاطا. [2] . فى الأصل: لابنيه، وهو سهو. ما أثبتناه يوافق ما فى تد (545) وآ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 والعامّة بسرّ من رأى وما يليها. وفيها أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين عليه السلام وما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويمنع الناس من إتيانه. [1] وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف فجأة، وكان قد ولّى أذربيجان فعسكر بكرخ فيروز، وأراد الركوب فلبس أحد خفّيه ومدّ الآخر ليلبسه فسقط ميّتا، فولّى المتوكّل ابنه يوسف ما كان يتولّاه أبوه من الحرب وولّاه مع ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها. [332] ثمّ دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين وفيها وثب أهل ارمينية بيوسف بن محمد بن يوسف فيها ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّه لمّا صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط وكان يقال له: بطريق البطارقة. فطلب الأمان فأخذه يوسف بن محمد وقيّده وبعث به إلى باب السلطان. فأسلم بقراط وابنه واجتمع على يوسف ابن أخى بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية فتحالفوا ونذروا دمه لمّا حمل بقراط فنهى أصحاب يوسف يوسف عن المقام وعرّفوه اجتماع القوم فلم يقبل، وأقام فحاصروه من كلّ وجه. وسقطت الثلوج فخرج يوسف إلى ظاهر المدينة وكان أصحابه متفرّقين فى الأعمال، فقاتلهم فقتلوه وقتلوا من معه. فأمّا من لم يقاتل فإنّه قالوا لهم: - «ضع ثيابك وانج عريانا.»   [1] . انظر الطبري (11: 1407) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 فطرحوا ثيابهم ونجوا عراة حفاة فمات أكثرهم من البرد وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا. فوجّه المتوكّل بغا الكبير إلى أرمينية طالبا بدم يوسف. فشخص إليها فبدأ بأرزن. وكان موسى بن زرارة قد واطأ قتلة يوسف فقبض بغا على موسى واخوته وحملهم إلى السلطان ثمّ سار فأناخ على الخويثيّة [1] وهم جمّة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد. فحاربهم فظفر بهم وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا وسبى خلقا فباعهم. ثمّ سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس، ثمّ سار إلى ديبل ثمّ إلى تفليس. غضب المتوكّل على أبى دؤاد وفيها غضب المتوكّل على أحمد بن أبى دؤاد وأمر بالتوكيل بضياعه وحبسه وأولاده واخوته، فحمل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجوهرا كثيرا، وصولح بعد على ستّة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم جميعا ببيع كلّ ضيعة لهم وكان أحمد بن أبى دؤاد قد فلج فقال أبو العتاهية: لو كنت فى الرّأى منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق لكان فى الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول: كتاب الله مخلوق ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان فى الفرع لولا الجهل والموق ثمّ دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين وفيها ظفر بغا الكبير بإسحاق بن إسماعيل مولى بنى أميّة بتفليس فأحرق   [1] . الخويثيّة: كذا فى تد (547) والطبري (11: 1409) : فى الأصل الحوتنية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 مدينة تفليس. وكان [334] إسحاق بن إسماعيل- ويكنى أبا العباس- قد تحصّن بتفليس وهي مدينة أكثر بنائها خشب الصنوبر. فلمّا قصدها بغا أمر النفاطين فضربوها بالنار وهاجت الريح وأحاطت النار به بقصر إسحاق وجواريه. ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا مع ابنه وأتوا به بغا، فأمر بضرب عنقه صبرا، وصلب جثّته واحترق فى المدينة نحو خمسين ألف إنسان. ثمّ نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس فحاربه فى كورة السلطان ثمّ تحصّن فى قلعة كتيش [1] ، ففتحها وأخذه وحمله وحمل ابنه وسنباط بن أشوط بطريق أرّان، وحمل معه آذرنرسى بن إسحاق. ثمّ دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين ولم يجر فيها ما يكتب. ودخلت سنة أربعين ومائتين وتلك سبيلها. ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين إغارة البجّة وحرب المتوكّل إيّاهم وفيها أغارت البجّة على حرش [2] من أرض مصر، فوجّه المتوكّل لحربهم محمد بن عبد الله القمي.   [1] . كذا فى الأصل: كتيش. فى تد (548) : كبيش. وفى حواشيه عن ابن خلدون: كيش. [2] . كذا فى الأصل: حرش. ما فى تد (548) حوش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 ذكر ما آلت إليه أمورهم كانت البجّة لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة [335] وهم جنس من أجناس الحبشة وفى بلادهم معادن ذهب. فهم يقاسمون من يعمل فيها ويؤدّون إلى عمّال مصر فى كلّ سنة شيئا معلوما. فلمّا كان فى أيّام المتوكّل امتنعت البجّة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية وهذه المعادن منها ما هو على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد بجّة. فقتلوا عدّة من المسلمين ممّن كان يعمل فى المعادن ويستخرج الذهب، وسبوا عدّة من ذراريهم ونسائهم. وذكروا أنّ المعادن لهم فى بلادهم وأنهم لا يأذنون للمسلمين فى دخولها، وانّ ذلك أوحش المسلمين الذين كانوا يعملون هناك حتّى انصرفوا عنه، فانقطع ما كان يؤخذ للسلطان بحقّ الخمس الذي كان يستخرج من المعادن. فلمّا بلغ ذلك المتوكّل أحفظه، وشاور فى أمر البجّة فأنهى إليه أنّهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن تسلك إليهم الجيوش لأنّها مفاوز وصحار، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر فى أرض قفر وجبال وعرة لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل ولا حصن، وأنّ من يدخلها من أولياء السلطان [336] يحتاج أن يتزوّد لجميع من معه المدّة التي يتوهّم أنّه يقيمها فى بلادهم حتّى يخرج إلى أرض الإسلام. فإن تجاوز تلك المدّة هلك وجمع من معه وأخذتهم البجّة بالأيدى دون المحاربة، وأنّ أرضهم لا تردّ على السلطان شيئا من خراج ولا غيره. فأمسك المتوكّل عن التوجيه إليهم وجعل أمرهم يتزيّد وحربهم يكثر حتّى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريّهم. فولّى المتوكّل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم وولّاه معادن تلك الكور، وتقدّم إليه فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 محاربة البجّة وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبّى العامل على حرب مصر بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكريّة بمصر. فأزاح عنبسة علّته فى ذلك، وخرج إليه من جميع ما اقترحه عليه، وانضمّ إليه جميع من كان يعمل فى المعادن وقوم كثير من المطوّعة، وكانت عدّة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان بين فارس وراجل، ووجّه إلى القلزم فحمل فى البحر سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلجّجوا بها فى البحر حتّى يوافوه فى سواحل البحر [337] من أرض البجّة. ولم يزل محمد بن عبد الله القمّى يسير فى أرض البجّة حتّى جاوز المعادن التي يعمل فيها وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم واسمه: على بابا، وله إبن يسمّى بغسى [1] فى جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمّى وكانت البجّة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرّه تشبه المهارى فى النجابة. فجعلوا يلتقون أيّاما متوالية فيتناوشون ولا يصحّحون القتال. وجعل ملك البجّة يتطارد للقمّى ويطوّل الأيّام طمعا فى نفاد الأزواد والعلوفة التي معهم فلا يكون لهم قوّة، فتأخذهم البجّة بالأيدى. فلمّا توهّم عظيم البجّة أنّ الأزواد قد نفدت أقبلت المراكب السبعة التي حملها القمّى حتّى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر فى موضع يعرف بصنجة فوجّه القمّى إلى ما هناك من أصحابه يحمون المراكب من البجّة وفرّق ما كان فيها على أصحابه فاتّسعوا فى الزاد والعلوفة. فلمّا رأى ذلك على بابا رئيس البجّة قصد لمحاربتهم وجمع لهم. فالتقوا   [1] . كذا فى الأصل: بغسى. فى تد (550) : بغشى. وفى الطبري (11: 1431) : لعيس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 واقتتلوا قتالا شديدا وكانت إبلهم زعرة تكثر الفزع من كلّ شيء. فلمّا رأى ذلك محمّد بن عبد الله القمّى جمع أجراس الإبل [338] والخيل، التي فى معسكره كلّها فجعلها فى أعناق الخيل ثمّ حمل على البجّة فنفرت إبلهم واشتدّ رعبهم فحملتهم على الجبال والأودية فمزّقتهم كلّ ممزّق، واتبعهم القمّى بأصحابه قتلا وأسرا حتّى غشاهم الليل ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم. فلمّا أصبح القمّى وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجّالة ثمّ صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمّى. فوافاهم القمّى فى الليل فى خيله فهرب ملكهم وأخذ تاجه ومتاعه ثمّ طلب الأمان على أن يردّ إلى بلاده ويؤدّى الخراج للسنين التي عليه. فأعطاه القمّى ذلك وأدّى ما عليه واستخلف على مملكته ابنه بغسى. وانصرف القمّى بعلى بابا إلى المتوكّل فوصل إليه فى آخر سنة إحدى وأربعين فكانت غيبته دون سنة. وكسا القمّى على بابا درّاعة ديباج وعمّامة سوداء وكسا جمله رحلا مدبّجا وجلال ديباج ليتميّز عن أصحابه، ووقف بباب العامّة مع قوم من البجّة على الإبل بالحراب وفى رؤوس حرابهم رؤوس القوم الذين قتلهم القمّى. فأمر المتوكّل أن يقبضوا من القمّى. ثمّ ولّى المتوكّل البجّة وطريق ما بين مصر ومكّة سعدا الخادم [339] الإيتاخى. فولّى سعد محمد بن عبد الله القمّى، فخرج القمّى بعلى بابا وهو مقيم على دينه. ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثة وأربعين [ومائتين] ولم يجر فيهما ما يكتب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 ودخلت سنة أربع وأربعين ومائتين وفيها دخل المتوكّل دمشق وكان عزم على المقام بها، ووصف له من فضائلها وطيبها ما شوّقه إليها. فأمر بالبناء فيها ونقل دواوين الملك إليها ثمّ استوبأ البلد وذلك أنّ الهواء بها بارد ندىّ [1] ، والماء ثقيل والريح تهبّ مع العصر، فلا تزال تشتدّ حتى تمضى عامّة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت الأسعار وحال [2] الثلج بين السابلة والميرة وتحرّكت الأتراك يطلبون أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم. فرجع المتوكّل إلى سرّ من رأى وكان مقامه بدمشق شهرين وأيّاما. ودخلت سنة خمس وأربعين ومائتين وفيها أمر المتوكّل ببناء الجعفري وأقطع قوّاده وأصحابه فيها وجدّ فى بنائها وأنفق عليها ألفى دينار، وكان يسمّيها هو وأصحابه المتوكّلية. وفيها كان هلاك [340] نجاح بن سلمة الكاتب. ذكر سبب هلاكه كان نجاح إليه ديوان التوقيع والتتبّع على العمّال فكان العمّال. يتّقونه ويقضون حوائجه ولا يمنعونه من شيء يريده. وكان المتوكّل ربّما نادمه وكان عبيد الله بن خاقان وزير المتوكّل والأمور مفوّضة إليه، وكان الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك منقطعين إلى الوزير، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع وموسى على ديوان الخراج.   [1] . وضبط ما فى الأصل وآ وتد: ند. فصحّحنا الضبط كما فى الطبري (11: 1436) . [2] . كذا فى الأصل وآ ومط وتد: حال. وفى الطبري (11: 1436) : حلّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 وكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكّل يذكر له، أنّه يعرف وجه أربعين ألف ألف درهم يستخرجها من وجوهها من خيانات [1] قوم، فيتّسع بها أمير المؤمنين فى نفقة البناء. فأدناه المتوكّل وشاربه تلك العشيّة وقال: - «سمّ لى من تستخرج منه الأموال.» فسمّى الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك وقال: - «يصحّ من جهة هذين أربعون ألف ألف درهم.» ثمّ سمّى قوما آخرين من الكتّاب وضمن مالا عظيما يصحّ بعد ذلك منهم. فوقع ذلك من المتوكّل موقعا عظيما وأعجبه وقال له: - «أغد علىّ.» فلمّا أصبح لم يشكّ فى أمره. وناظر المتوكّل عبيد الله بن يحيى وزيره فى ذلك فقال: - «يا أمير المؤمنين هؤلاء أعيان المملكة وكتّابك وعمّالك. فإن أوقعت بهم فمن يقوم بأعمالك وأنا أدبّر [341] ذلك.» فلمّا غدا نجاح إلى المتوكّل وقد رتّب أصحابه وقال: «يا فلان خذ أنت الحسن وأصحابه ويا فلان خذ أنت موسى وأصحابه،» حجبه عبيد الله وتقدّم فى ذلك فلقى، نجاح عبيد الله فقال له: - «انصرف يا أبا الفضل حتى ننظر وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح.» فقال: «ما هو؟» قال: «أصلح بينك وبينهما وتكتب رقعة إلى أمير المؤمنين تذكر فيها أنّك كنت شاربا وأنّك تكلّمت بما يحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح أمرك عند المتوكّل.»   [1] . كذا فى الأصل: خيانات. فى آ: جنايات. فى تد (553) ومط: جبايات. والعبارة فى الطبري (11: 1441) : يذكر أنّهما قد خانا وقصّرا ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 فلم يزل يخدعه حتى كتب ما قال. ثمّ دعا عبيد الله الحسن بن المخلد وموسى بن عبد الملك وقال لهما: - «ابذلا خطّا فى نجاح وأصحابه بألفي ألف دينار، وإلّا فإنّه سيسلمكما إليه ويهلككما.» فكتبا له ذلك ودخل عبيد الله على المتوكّل وقال: - «يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قاله البارحة وهذا خطّه وهذه رقعة موسى بن الحسن يتقبّلان به ممّا بذلا به خطوطهما فتأخذ ما ضمنا عنه ثمّ تعطف عليهما فتأخذ قريبا ممّا ضمن لك عنهما.» فسرّ المتوكّل وطمع فيما قال عبيد الله وقال: - «ادفعه إليهما.» فأمرا بأن تؤخذ قلنسوته، وقبضا على كتّابه فاستخرجا من يومهما ذلك مائة وأربعين ألف دينار اعترف بها [342] ابنه، وذلك سوى قيمة ضياعه وقصوره وفرشه ومستغلاته وآلاته. فقبض جميع ذلك وضرب مرارا بالمقارع وعذّب ثمّ خنق أو عصرت خصاه فأصبح ميّتا. وطولب أولاده ووكلاؤه، وأخذ بسببه قوم ببغداد وبسرّ من رأى وبمكّة وبناحية السواد فحبسوا وصودروا. [1] ثمّ دخلت سنة ستّ وأربعين [2] ومائتين ولم يجر فيها شيء يكتب.   [1] . انظر الطبري (11: 1348) . [2] . فى الطبري (11: 1452) : ثلاثين. وهو سهو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 ودخلت سنة سبع وأربعين ومائتين وفيها كان مقتل المتوكّل على الله ذكر السبب فى قتله كان سبب ذلك أنّ المتوكّل أمر بقبض ضياع وصيف بإصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فكتب الكتب بذلك وبلغ ذلك وصيفا. وكان المتوكّل واقف الفتح بن خاقان على أن يفتك بابنه المنتصر لأشياء كانت تبلغه عنه ويفتك أيضا بوصيف وبغا وغيرهما من قوّاد الأتراك ممّن كان يتّهم فكثر عتب المتوكّل قبل الموعد على ابنه المنتصر. كان يقول له: - «سمّيتك: المنتصر، فسمّاك الناس لحمقك: المنتظر.» فمرّة كان يشتمه ومرّة يسقيه فوق طاقته ومرّة يصفعه. فتحدّث بعض من كان [343] فى ستارة المتوكّل قالت: التفت المتوكّل إلى الفتح وهو ثمل فقال: - «برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله إن لم تلطمه.» - يعنى المنتصر. فقام الفتح فلطمه. ثمّ قال: - «اصفعه.» فأمرّ يده على قفاه. ثمّ قال المتوكّل لندمائه: - «اشهدوا جميعا أنّى قد خلعت المستعجل» - يعنى المنتصر. فقال المنتصر [1] :   [1] . كذا فى آومط وتد (555) والطبري (11: 1457) : المنتصر. فى الأصل: «الفتح» المغيّر إلى «المنتصر» فى كلمة واحدة، بحيث يقرأ كلاهما على حدة ووضوح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 - «يا أمير المؤمنين لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علىّ ممّا تفعله بى.» فقال: «اسقوه.» وأمر بالعشاء فأحضر وذلك فى جوف الليل فجعل يأكل هو والفتح وهو سكران يلقم ويسقى المنتصر وهو يشتمه. ثمّ خرج المنتصر وأخذ بيد زرافة الحاجب وقال: - «امض معى.» قال: «يا سيّدى، إنّ أمير المؤمنين لم يقم بعد.» فقال: «إنّ أمير المؤمنين قد أخذ منه الشراب، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلىّ فإنّ أوتامش سألنى أن أزوّج ابنه من ابنتك وابنك من ابنته.» قال له زرافة: - «نحن عبيدك يا سيّدى فمر بأمرك.» وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه فقال بنان المغنّى [1] : فما بعد المنتصر حتى سمعنا الضجّة والصراخ وكنت مع المنتصر قد قمت لأشهد الأملاك والنثار. فلمّا سمع المنتصر الصراخ خرج فاستقبله بغا فقال له المنتصر: - «ما هذه الضجّة.» قال: [344]- «خير يا أمير المؤمنين.» قال: «ما تقول ويلك؟»   [1] . فى مط: المعنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 قال: «أعظم الله أجرك فى سيّدنا أمير المؤمنين. كان عبد الله دعاه فأجابه.» فجلس المنتصر وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكّل والمجلس فأغلق وغلّقت الأبواب كلّها وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتزّ والمؤيد عن رسالة المتوكّل. فذكر عثعث أنّ المتوكّل بعد قيام المنتصر استدعى رطلا وكان بغا الصغير المعروف بالشرابى قائما عند الستر وبغا الكبير يومئذ بسميساط وخليفته موسى ابنه فدخل بغا الصغير وأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم. فقال له الفتح: - «ليس هذا وقت انصرافه.» فقال بغا: - «إنّ أمير المؤمنين أمرنى إذا جاوز السبعة أرطال ألّا أترك أحدا فى المجلس، وقد جاوز العشرة.» فكره الفتح قيامهم. فقال له بغا: - «إنّ حرم أمير المؤمنين خلف الستارة وقد سكر، فقوموا فاخرجوا.» فقاموا ولم يبق إلّا عثعث والفتح وأربعة من خدم الخاصّة وغلق بغا الصغير الأبواب كلّها إلّا باب الشطّ ومنه دخل القوم الذين وقفوا [1] على قتله فلمّا دخل القوم وسلّوا سيوفهم نظر إليهم عثعث فقال المتوكّل: - «قد فرغنا من الحيّات والعقارب والأسد وصرنا إلى السيوف.» [345] وذلك أنّ المتوكّل كان ربّما أرسل هذه الأشياء على ندمائه ليفزّعهم ويضحك هو، فلمّا ذكر عثعث السيوف قال:   [1] . كذا فى الأصل: ووقفوا. فى آومط: وقفوا. فى تد (557) : ووفقوا (بتقديم الفاء) . فى الطبري (11: 1459) : عيّنوا لقتله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 - «ويلك ما تقول أىّ سيوف؟» فما استتمّ كلامه حتّى دخلوا عليه، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفيه وأذنه فقدّه، فقام الفتح فى وجهه ووجوه القوم وقال: - «وراءكم يا كلاب.» فقال له بغا: - «لا [1] تسكت يا جلفى [2] .» فرمى الفتح بنفسه على المتوكّل، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطّعوهما حتّى اختلطت لحومهما. وهرب عثعث بعد ما أصابته ضربة ونجا الخدم وراء الستارة وتطايروا وكان عبيد الله بن يحيى فى حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم وهو ينفّذ الأمور بالشموع. وذكر أنّ بعض نساء الأتراك ألقت رقعة بما عزم عليه القوم فوصلت إلى عبيد الله بن يحيى وشاور الفتح فيها وعرف الخبر أيضا أبو نوح كاتب الفتح واتفق رأيهم على كتمان المتوكّل يومهم ذلك لما كانوا رأوا من سروره فكرهوا أن ينغّصوا يومه، وهان عليهم أمر القوم، وكانوا وثقوا بأنّ ذلك لا يجسر عليه ولا يتمّ. فبينا عبيد الله ينفّذ الأمور إذ طلع عليه بعض الخدم فقال: - «يا سيّدى أنت ما [346] جلوسك؟» قال: «وما ذاك؟» قال: «الدار سيف واحد.» فأمر بعض خدمه بالخروج. فخرج ونظر، ثمّ عاد فأخبره أنّ المتوكّل والفتح قد قتلا. فخرج فى من معه من خدمه وخاصّته. فأخبر أنّ الأبواب   [1] . فى الأصل وآ ومط والطبري (11: 1460) : لا تسكت. فى تد (556) : ألا تسكت. [2] . كذا فى الأصل وآ ومط: يا حلقى. فى تد (556) والطبري (11: 1460) : يا جلفىّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 مغلّقة، فأخذ نحو الشطّ فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان يلي الشطّ فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشطّ ووجد زورقا، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد وغلام له. فصار إلى منزل المعتزّ فسأل عنه فلم يصادفه فقال: - «إنّا لله وإنا إليه راجعون قتلني وقتل نفسه.» وتلهّف عليه. واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة غد من الأبناء والعجم والأرمن [1] والزواقيل من الأعراب وغيرهم وقد اختلف فى عدّتهم. فقال بعضهم كانوا عشرة آلاف، وزاد بعضهم ونقص بعض. فقالوا: - «إنّما كنت تصطنعنا لهذا اليوم فأمر بأمرك وأذن لنا نمل على القوم ميلة فنقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم.» فأبى وقال: - «ليس فى هذا حيلة، والرجل فى أيديهم» .- يعنى المعتزّ. وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وكان أسمر نحيفا حسن العينين خفيف العارضين.   [1] . فى مط: والأرصن. آومط وتد (557) كالأصل: والأرمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 خلافة محمد بن جعفر المنتصر وبويع للمنتصر يوم الأربعاء لأربع خلون من شوّال وهو ابن خمس وعشرين سنة. [1] [347] واستوزر أحمد بن الخصيب وهو الذي قرأ على الناس كتابا، فخبّر [2] عن أمير المؤمنين المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قتل أباه جعفر المتوكّل فقتله به وحضر [3] عبيد الله بن الفتح بن خاقان فبايع وانصرف. ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين وفيها أغزى المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّه كان بين أحمد بن الخصيب وبين وصيف شحناء [4] وتباغض، فأشار على المنتصر بإخراجه غازيا. فقال المنتصر: - «ائذن لمن حضر الدار؟»   [1] . انظر الطبري (12: 1471) . [2] . كذا فى الأصل ومط: فخبّر. فى آ: بخبر. فى تد (557) : يخبر. [3] . فى مط: حصر (بالصاد المهملة) . [4] . فى مط: شحنا (دون الهمزة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 فأذن لهم، وفيهم وصيف. فأقبل عليه وقال: - «يا وصيف أتانا عن طاغية الروم أنّه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن أن يمسك عنه، فإمّا شخصت وإمّا شخصت.» فقال وصيف: - «بل أشخص يا أمير المؤمنين.» فقال لأحمد بن الخصيب: - «انظر ما تحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له.» قال: «نعم يا أمير المؤمنين.» قال: «ما معنى نعم، قم الساعة يا وصيف ومر كاتبك أن يواقفه [1] على جميع ما يحتاج إليه حتّى تزيح علّته.» فقام أحمد ووصيف حتّى خرج فما أفلح [2] . وكتب المنتصر [348] كتابا إلى محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان ببغداد منصرفا من الحجّ يعرّفه فيه إغزاءه وصيفا ويعلمه أنّه خارج إلى ثغر ملطية للنصف من حزيران ويأمره أن يكاتب عمّاله فى نواحي عمله، ليقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلهم ويحثّهم على الجهاد ويستفزهم ويلحقهم به فى الوقت المحدود. ثمّ كتب عن المنتصر كتاب إلى وصيف يأمره بالمقام ببلد الثغر أربع سنين يغزو فى أوقات إلى أن يأتيه رأى أمير المؤمنين. خلع المعتزّ والمؤيّد أنفسهما وفى هذه السنة خلع المعتزّ والمؤيّد أنفسهما وأظهرا ذلك.   [1] . فى الطبري (12: 1481) : أن يوافقه. [2] . فى الطبري (12: 1481) : فما أفلح ولا أنجح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 ذكر سبب خلعهما لمّا استقامت الأمور للمنتصر بالله قال أحمد بن الخصيب لبغا: - «إنّا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتزّ فلا يبقى منّا باقية. والرأى أن نعمل فى خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا.» فجدّ الأتراك فى ذلك وألحّوا على المنتصر بالله وقالوا: - «نخلع هذين ونبايع لابنك عبد الوهاب.» وكان مكرما للمؤيّد والمعتزّ. فلم يزالوا به حتّى أحضرهما الدار، وذلك بعد أربعين يوما من ولايته. فلمّا حصلا فى [349] دار واحدة من الدار قال المعتزّ للمؤيّد: - «يا أخى لم أحضرنا؟» قال: «يا شقىّ للخلع.» فقال: «لا أظنّه يفعل بنا ذلك.» فبينا هم فى ذلك إذ جاءتهم الرسل بالخلع. فقال المؤيّد: - «السمع والطاعة.» وقال المعتزّ: - «ما كنت لأفعل. فإن أردتم قتلى فشأنكم.» فرجعوا إليه فأخبروه. ثم عادوا بغلظة شديدة وأخذوا المعتزّ بعنف وأدخلوه إلى بيت فأغلقوا عليه. فقال لهم المؤيّد بجرأة واستطالة: - «ما هذا يا كلاب قد ضريتم على دمائنا، تثبون على مواليكم هذا الوثوب، اغربوا قبّحكم الله، دعوني حتّى أكلّمه.» فكاعوا عن جوابه، ثمّ قالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 - «القه إن أحببت.» - فيظنّ أنّهم استأمروه لأنهم أقاموا ساعة ثمّ أذنوا له. فقام إليه. قال المؤيّد: فوجدته يبكى فقلت: - «يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك ما نالوا ثمّ تمتنع [1] اخلع ويلك.» فقال: «سبحان الله أمر قد طار فى الآفاق ووثق منه. أخلعه؟» قلت: «هذا قد قتل أباك وسيقتلك، فاخلعه وعش. فو الله لئن كان فى سابق علم الله أن تلى لتلينّ.» قال: «أفعل.» فخرجت وقلت: - «قد أجاب.» فمضوا وعادوا فجزّونى خيرا. ودخل معهم كاتب ومعه دواة وقرطاس. فجلس ثمّ أقبل على أبى عبد الله [350] المعتزّ، فقال: - «اكتب بخطّك.» فتلكّأ، فقال المؤيّد للكاتب: - «هات قرطاسك، أملل ما شئت.» فأمّل عليه كتابا للمنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر، وأنّه قد علم أنّه لا يحلّ له تقلّده، ويكره أن يأثم المتوكّل بسببه، إذ لم يكن موضعا له ويقول: «إنّى قد خلعت نفسي وأحللت الناس من بيعتي.» ثمّ قال المؤيّد: - «اكتب يا أبا عبد الله.» فكتب وخرج الكاتب.   [1] . وزاد فى الطبري (12: 1487) : عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 قال المؤيّد: ثمّ دعا بنا، فدخلنا عليه وهو فى مجلسه والناس على مراتبهم، فسلّمنا فردّ علينا وأمر بالجلوس ثمّ قال: - «هذا كتابكما.» فبدرت وقلت: - «نعم يا أمير المؤمنين هذا كتابي بمسألتى ورغبتي.» وقلت للمعتزّ: - «تكلّم.» فقال مثل ذلك. فأقبل علينا والأتراك وقوف، فقال: - «أتريانى خلعتكما طمعا فى أن أعيش ويكبر ولدي وأصيّر الخلافة إليه؟ والله ما طمعت فى ذلك قطّ وإذا لم يكن لى فى ذلك طمع فو الله لأن يلي بنو أبى أحبّ إلىّ من أن يليها بنو عمّى ولكنّ هؤلاء- وأومأ إلى سائر الموالي ممّن هو قائم وقاعد- ألحّوا علىّ فى خلعكما فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة. فما ترياني صانعا؟ أقتله فو الله ما تفي دماؤهم كلّهم بدم بعضكم فإنّ إجابتهم إلى ما سألوا [351] أسهل علىّ.» فأكبّا على يده فقبّلاها وضمهما إليه، ثمّ انصرفا. وكتب بنسخة خلعهما وبما أنشئ عن المنتصر بالله فى ذلك كتب إلى العمّال فى الآفاق. وفى هذه السنة توفّى المنتصر بالله. ذكر وفاة المنتصر وسرعة الإدالة منه قد اختلف الناس فى وفاته. فقال قوم أصابته الذبحة. وقال آخرون أصابه ورم فى معدته وقال آخرون فصد بمبضع مسموم وأنّ طبيبه لمّا فصده دهش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 فلم يميّز [1] مبضعه المسموم. ثمّ اعتلّ هو ففصده تلميذه به فمات. وقيل وجد علّة فى رأسه فقطّر طبيبه ابن طيفور فى أذنه دهنا، فورم رأسه فعولج فمات. ولم يزل الناس منذ ولى الخلافة وإلى أن مات يقولون: إنّما مدّة حياته ستة أشهر مدّة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه.» مستفيضا ذلك على السن العامّة والخاصّة. وكان المنتصر استفتى فى قتل أبيه الفقهاء من غير أن يسمّيه، وحكى أمورا قبيحة لا تكتب فى كتاب [2] ، فأفتوا بقتله. فلمّا قتله رآه فى النوم وكأنّه يقول: - «ويلك يا محمد، قتلتني وظلمتني، والله لا تمتّعت بالخلافة إلّا أيّاما يسيرة، ثمّ مصيرك إلى النار.» فانتبه وهو لا [352] يملك عينه ولا جزعه، فكان يسلّى ويقال له: - «هذا استشعار وهو حديث النفس.» فلا يسلو، وما زال منكسرا إلى أن توفّى. ولمّا اشتدّت علّته خرجت العامّة فسألته عن حاله، فقال: - «ذهبت والله منى الدنيا والآخرة.» وتوفّى وهو ابن خمس وعشرين سنة وستّة أشهر. فكانت خلافته ستّة أشهر. وكان أعين قصيرا جيّد البضعة، وكان مهيبا. وطلبت أمّه أن يظهر قبره. فهو أوّل خليفة من بنى العباس عرف قبره، وكنيته أبو جعفر. ومن طريف ما اتفق عليه أنّ محمد بن هارون كاتب محمد بن على برد   [1] . انظر الطبري (12: 1496) . [2] . انظر الطبري (12: 1496) ، حيث استقبحت ولم تذكر تلك الأمور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 الخبّاز [1] ، وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيّد أصيب مقتولا على فراشه، به عدّة ضربات بالسيف. أحضر ولده خادما أسود كان له، ووصيفا. فأقرّ الوصيف على الأسود فأدخل إلى المنتصر وأحضر قاضى القضاة وهو يومئذ جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فسئل الأسود عن قتله فأقرّ ووصف فعله به وسبب قتله إيّاه. فقال له المنتصر: - «ويلك لم قتلته؟» فقال له الأسود: - «كما قتلت أنت أباك المتوكّل.» فتقدّم بضرب عنقه عند خشبة بابك. وفى هذه السنة تحرّك يعقوب الصفّار من سجستان [353] فصار إلى هراة.   [1] . الكلمتان مهملتان فى الأصل. فأعجمناهما حسب ما فى تد (561) وفيها: بن برد الخبّاز. فى الطبري (12: 1499) برد الخبار. وفى حواشيه تصحيفات متناقضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 خلافة أبى العبّاس المستعين وفيها بويع أحمد بن محمد بن المعتصم. ذكر السبب فى بيعة المستعين والعدول عن ولد المتوكّل لمّا توفّى المنتصر اجتمع الموالي وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش ومن معهم. فاستحلفوا جميع القوّاد على أن يرضوا بمن رضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب. فحلفوا كلّهم وتشاوروا بينهم وكرهوا أن يتولّى الخلافة أحد من ولد المتوكّل، لقتلهم المتوكّل وخوفهم أن يغتالهم من يتولّى الخلافة منهم. فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم وقالوا: - «لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم.» فبايعوه وله ثمان عشرة سنة، ويكنى أبا العباس، ولقّب: المستعين بالله. فاستكتب أحمد بن الخصيب [1] واستوزر أوتامش.   [1] . فى مط: الخضيب (بالضاد المعجمة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 فلمّا صار إلى دار العامّة فى زىّ الخلافة وقد صفّ أصحابه صفّين وقام منهم مع وجوه أصحابه وحصر الدار ولد المتوكّل والعبّاسيون والطالبيون وأصحاب المراتب، إذا صيحة من ناحية الشارع وجماعة من الفرسان، ذكر أنّهم من أصحاب أبى العبّاس محمد بن عبد الله بن طاهر، [354] وفيهم فرسان من الطبرية وأخلاط من الناس والغوغاء والسوقة، قد شهروا السلاح وصاحوا: - «معتزّ يا منصور.» وشدّوا فتضعضعوا [1] وانضمّ بعضهم إلى بعض. ثمّ حملوا عليهم ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكثرون، فوقع بينهم قتلى، ثمّ تحاجزوا. وخرج المستعين- وقد بايعه من حضر الدار من أصحاب المراتب- إلى الهاروني ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامّة، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والسيوف الثغرية والتراس الخيزران، ثمّ جاءهم جماعة من الأتراك فيهم بغا الصغير فأجلوهم من الخزانة وقتلوا منهم عدّة وخرج العامّة والغوغاء وكان لا يمرّ بهم أحد من الأتراك يريد باب العامّة إلّا انتهبوا سلاحه وقتلوا جماعة منهم. وكان عامّة من انتهب أصحاب الناطف والفقّاع وأصحاب الحمّامات وغوغاء الأسواق. ثمّ وضع العطاء فى ذلك اليوم الذي بويع فيه وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فبعث إلى الهاشميّين والقوّاد والجند ووضع الأرزاق.   [1] . فى مط: فعطعطوا. آتوافق الأصل. ما فى تد بالصادين المهملتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 وورد فى هذه السنة نعى طاهر بن عبد الله [355] بخراسان فى رجب، فعقد المستعين لابنه أبى عبد الله محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر عمّه على العراق وجعل إليه الحرس والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به. وفيها مات بغا الكبير فعقد المستعين لابنه على أعمال أبيه كلّها واسمه موسى. وفيها ابتاع المستعين من المعتزّ والمؤيّد جميع مالهما من الدور والمنازل والقصور والفرش والآلة وغير ذلك من الضياع والعقار وأشهد عليهما القضاة والعدول ووجوه الهاشميّين، وترك لأبى عبد الله المعتزّ قيمة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم المؤيّد ما قيمته خمسة آلاف دينار وذلك فى السنة الواحدة. فكان ما ابتيع من أبى عبد الله بعشرة آلاف ألف [1] دينار وعشر حبّات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف دينار وثلاث حبّات لؤلؤ. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين. ووكّل بهما وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الشاكرية والغوغاء قتلهما، فمنعهم أحمد بن الخصيب وقال: ليس لهما ذنب. وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال [356] ولده ونفى إلى اقريطش، وصيّر المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاصّ أموره، وقدّمه أوتامش على جميع الناس.   [1] . كذا فى الأصل والطبري (12: 1507) : آلاف ألف. وكذلك ما بعده. فى تد (564- 563) : آلاف. وكذلك ما بعده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين وفيها شغب الجند والشاكرية ذكر السبب فى شغبهم كان السبب فى ذلك أنّ جعفر بن دينار كان غزا الصائفة، فاستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع فى المصير إلى ناحية من الروم ومعه خلق كثير من الروم نحو مائة ألف. فقتل عمر ومن معه من المسلمين وبلغ خبر مقتله علىّ بن يحيى الأرمنى وسمع بما جرى على حرم المسلمين من الروم واستكلابهم على الثغور الخزرية بعد عمر فنفر إليهم مع جماعة من أهل ميّافارقين، فقتل أيضا فى جماعة من المسلمين. فلمّا اتصل خبرهما بأهل مدينة السلام وسرّ من رأى وسائر مدن الإسلام، فعظم عليهم مقتل هذين وهما نابان من أنياب المسلمين، شديد بأسهما عظيم نكايتهما وغناؤهما فى الثغور. فشقّ على الناس ذلك [357] وعظم فى الصدور وانضاف إلى ذلك ما لحقهم من الأتراك وفى قتلهم المتوكّل واستيلائهم على أمور المسلمين وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبّوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة ولا نظر للمسلمين. فأجمعت العامّة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمّت إليها الأبناء والشاكريّة. تظهر أنّها تطلب الأرزاق. ففتحوا السجون وأخرجوا رفوغ [1] خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمّرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانتهبت الدواوين وقطعت الدفاتر وألقيت فى   [1] . ما فى الأصل: رفوع (بالعين المهملة) . فى تد (565) والطبري (12: 1510) : رفوغ. الرّفع: سعة العيش وطيبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 الماء وانتهب عدّة دور. ثمّ أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسرّ من رأى أموالا كثيرة من أموالهم. فقوّوا من خفّ للنهوض إلى الثغور لحرب الروم، وأقبل الناس من كلّ ناحية من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها ولم يكن من السلطان فيه معونة ولا نكير [1] على الروم. ووثب العامّة بسرّ من رأى على أصحاب السجون فأخرجوا من فيها فأركب زرافة ووصيف وأوتامش فوثبت العامّة بهم فهزمتهم وألقى على وصيف [358] قدر مطبوخة فأمر وصيف النفّاطين فرموا ما قرب من ذلك الموضع من حوانيت التجّار ومنازل الناس بالنار فاحترق ذلك كلّه وقتل من العامّة خلق وانتهبت دور جماعة منهم. وفى هذه السنة قتل أوتامش وكاتبه شجاع ذكر السبب فى قتلهما لمّا أفضت الخلافة إلى المستعين أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم فى بيوت الأموال وأباحهما إيّاها. وفعل ذلك أيضا بأمّ نفسه، فكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنّما تصير إلى هؤلاء. فأمّا أوتامش فأنه عمد إلى ما فى بيوت الأموال فاكتسحه. وكان المستعين جعل ابنه العبّاس فى حجر أوتامش وكان وصيف وبغا من ذلك بمعزل. فأغريا الموالي به ولم يزالا يدبّران الأمر عليه حتّى أحكما التدبير. فتذمّرت الأتراك والفراغنة على أوتامش وخرج إليه أهل الدور والكرخ إلى المعسكر، ثمّ زحفوا إليه وهو فى الجوسق مع المستعين، فأراد الهرب فلم يمكنه واستجار بالمستعين فلم يجره. فأقاموا على ذلك يومى [359]   [1] . كذا فى الأصل وآ: نكير. فى تد (654) : نكبّر. فى الطبري (12: 1511) : تغيير. وفى حواشيه: تغيّر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 الخميس والجمعة. فلمّا كان يوم السبت دخلوا الجوسق فاستخرجوا أوتامش من الموضع الذي توارى فيه فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم وانتهبت دورهم فأخذ منها أموال جليلة ومتاع وفرش وآنية. فلمّا قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج ووليه عيسى بن فرّخانشاه ثمّ غضب بغا الصغير على أبى صالح ابن يزداد فهرب أبو صالح إلى بغداد، وصيّر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائى [1] . ودخلت سنة خمسين ومائتين ظهور يحيى بن عمر فى الكوفة وقتله فيها وفيها ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام المكنّى بأبى الحسين بالكوفة وقتل فيها [2] . ذكر السبب فى خروجه كان السبب فى ذلك أنّ أبا الحسين يحيى بن عمر نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا. فلقى عمر بن فرج وهو يتولّى أمر الطالبيّين عند مقدمه من خراسان [360] وكلّمه فى صلة. فأغلظ له عمر فى القول. فقذفه يحيى فى مجلسه فحبس فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله فأطلق. ثمّ صار إلى سرّ من رأى فلقى وصيفا فى رزق يجرى له. فأغلظ له وصيف فى   [1] . كذا فى الأصل وآ وتد (566) والطبري (12: 1514) : الجرجرائى. فى مط: الجرجاني. [2] . انظر الطبري (12: 1515) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 الردّ، وقال: - «لأىّ شيء يجرى على مثلك.» فانصرف عنه. فذكر الصوفىّ الطالبىّ أنّه أتاه فى الليلة التي خرج فى صبيحتها، فبات عنده ولم يعلمه بشيء ممّا عزم عليه، وأنّه عرض عليه الطعام وتبيّن فيه أنّه جائع، فأبى أن يأكل، وقال: - «إن عشنا أكلنا.» قال: فتبيّنت أنّه قد عزم على فتكة. وخرج من عندي فجعل وجهه إلى الكوفة، وجمع جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلّوجة فصار إلى قرية تعرف بالعمد. فكتب صاحب الخبر يخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى عامله على معاون السواد وهو عبد الله بن محمود السرخسي وإلى عامل الكوفة وهو أيّوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان، فأمرهما بالاجتماع على محاربته. فمضى يحيى بن عمر فى تسعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه وبه سبعون ألفا وألفا دينار، وأظهر أمره بالكوفة [361] وفتح السجون وأخرج عمّال السلطان عنها. فلقيه عبد الله بن محمود [وكان] فى عداد [1] من الشاكرية، فضربه يحيى على وجهه ضربة أثخنه. فانهزم ابن محمود مع أصحابه وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال. ثمّ خرج يحيى من الكوفة إلى سوادها ولم يقم بالكوفة ولحقه جماعة من الزيديّة وأعراب أهل الطفوف والسيب إلى ظهر واسط، وكثر جمعه. ووجّه   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (12: 1517) : عداد. فى تد (567) : عباد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 محمد بن عبد الله بن طاهر الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب وضمّ إليه من ذوى البأس والنجدة من قوّاده جماعة، وشخص الحسين بن إسماعيل فنزل بإزاء يحيى بن عمر لا يقدم عليه. فمضى يحيى بن عمر فى شرقىّ السيب والحسين فى غربيّه حتّى عبر إلى ناحية سورا، وسار حتّى قرب من جسر الكوفة، فلقيه عبد الرحيم بن الخطّاب وجه الفلس، فقاتله قتالا شديدا وانهزم وجه الفلس، فصار إلى ناحية شاهي ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها. ودخل يحيى بن عمر الكوفة واجتمعت إليه الزيدية وكثف أمره واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبّوه وتولّاه العامّة من أهل بغداد خاصّة، ولا نعلم أنهم تولّوا من أهل [362] بيته غيره، وتديّن الناس فى تشيّعهم. وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهى واستراح وأراح أصحابه دوابّهم واتصلت بهم الميرة والأمداد والأموال. وأقام يحيى بالكوفة يعدّ العدد ويطبع السيوف ويجمع السلاح. فاجتمع عامّة من الزيدية ممّن لا علم لهم بالحرب وأشاروا على يحيى بن عمر بمعاجلة الحسين وألحّت عليه عوامّ أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ومعه الهيضم العجلى فى فرسان بنى عجل وأناس من بنى أسد ورجّالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا شجاعة ولا تدبير. فصبّحوا الحسين وأصحابه وأصحاب الحسين مستريحون مستعدّون. فثاروا إليهم وذلك فى الغلس، فرموا ساعة ثمّ حمل عليهم فرسان الحسين، فانهزموا، ووضع فيهم السيف. فكان أوّل أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلى، وانهزم رجّالة أهل الكوفة وأكثرهم عراة بغير سلاح ضعفاء القوى خلقان الثياب فداستهم الخيل وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وقد تقطّر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود وعليه [363] جوشن تبّتىّ. فوقف عليه ابنان لخالد بن عمران ولم يعرفه أحدهما وظنّ أنّه خراسانى لأجل الجوشن فقال له الآخر: - «يا أخى هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه وهو نازل ما يعرف القصّة لانفراج قلبه.» فأمرا رجلا من أصحابهما فنزل إليه وأخذ رأسه وادّعى قتله جماعة، وحمل رأسه إلى دار محمد بن عبد الله وقد تغيّر. فطلبوا من يقور رأسه ويخرج الحدقة والغلصمة. فلم يقدروا عليه، وهرب الجزّارون وطلب ممّن فى السجن من الخرّمية الذبّاحين من يفعل ذلك، فلم يقدم عليه أحد إلّا رجل من عمّال السجن الجديد [1] فإنّه جاء فتولّى إخراج دماغه وعينيه وقوّره وحشى بالصبر والكافور. ثمّ أمر بحمل الرأس إلى المستعين وكتب إليه بيده بالفتح ونصب رأسه بباب العامّة بسرّ من رأى. فاجتمع الناس وتذمّروا فحطّ وردّ إلى بغداد لينصب هناك، فلم يتهيّأ ذلك. وذكر لمحمد أنّ الناس قد كثروا واجتمعوا على أخذه فلم ينصبه. فحكى بعض الطاهريين أنّه حضر مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر وهو يهنّئ بقتل يحيى وبالفتح وعنده جماعة الهاشميّين من [364] العبّاسيّين والطالبيّين وغيرهم من الوجوه. فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فسمعهم يهنّئونه، فقال: - «أيّها الأمير، إنّك لتهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله، صلّى الله عليه، حيّا لعزّى به.»   [1] . فى الأصل: الحديد. فأثبتناه كما فى تد (566) والطبري (1521) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 فما ردّ عليه محمد شيئا فحلم عنه. فخرج وهو يقول: يا بنى طاهر كلوه وبيّا ... إنّ لحم النّبىّ غير مرىّ وكان المستعين قد وجّه كلباتكين التركىّ مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد أن انهزم القوم وقتل يحيى بن عمر ولحق فى طريقه قوما معهم الأسوقة والأطعمة يريدون عسكر يحيى. فوضع فيهم السيف فقتلهم ودخل الكوفة وأراد أن ينهبها ويضع السيف فى أهلها، فمنعه من ذلك الحسين وآمن الأسود والأبيض بها وأقام أيّاما حتّى أمن الناس ثمّ انصرف عنها. خروج الحسن بن زيد وفى هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام [1] . ذكر السبب فى خروجه [365] كان سبب ذلك أنّ محمد بن طاهر لمّا جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه الكوفة، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وكان فيها قطيعة تقرب من ثغرى طبرستان ما يلي الديلم وهما كلار [2] وشالوس وكان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق   [1] . انظر الطبري (12: 1523) . [2] . فى الأصل: كلان. وهو تصحيف «كلار» كما فى تد (571) والطبري (12: 1524) . وكذلك فى المواضع الآتية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 محتطبهم ومراعى مواشيهم ومسرح سارحتهم ليس لأحد عليها ملك وإنّما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنّها غياض وأشجار وكلأ. وكان وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له: جابر، لحيازة ما أقطع هناك، وعامل طبرستان سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله ابن أخى محمد بن عبد الله بن طاهر والمستولى على سليمان بن عبد الله والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرّق محمد بن أوس ولده فى مدن طبرستان وجعلهم ولاتها وهم أحداث سفهاء. فتأذّى بهم الرعيّة وأنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سيرهم وسوء أثرهم فيهم، ووتر مع ذلك محمد بن أوس الديلم بدخوله إليهم من حدود طبرستان وهم أهل سلم وموادعة [366] على اغترار من الديلم، فأغار عليهم وسبى منهم وقتل فكان ذلك ممّا زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا. فلمّا صار النصراني إلى طبرستان لحيازة ما أقطع صاحبه محمد حاز أيضا ما اتصل به من موات الأرض الذي يرتفق به أهل تلك الناحية، وكان بقرب ثغرين كما ذكرت، وكان بتلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالشجاعة والرأى مذكوران قديما بضبط تلك الناحية ممّن رامها من الديلم، وبإطعام الناس والإحسان إلى من ضوى إليهما يقال له: محمد وجعفر ابنا رستم، فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات الذي ذكرت وقطع مرافق الناس منه. وكان ابنا رستم مطاعين، فاستنهضا من أطاعهما وقصدا جابرا ليمنعاه، فهرب جابر ولحق بسليمان بن عبد الله بن طاهر وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم فى منعهما جابرا ممّا حاوله بالشر وذلك أنّ عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد بن عبد الله وعمّ محمد بن طاهر بن عبد الله وإلى خراسان والرىّ والمشرق. فلمّا أيقنا بالشرّ راسلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 الديلم وذكّراهم [367] وفاءهما لهم بالعهد الذي بينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي وأنّهم لا يأمنون عودته ويسألانهم مظاهرتهما عليه وعلى من معه. فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين هم عمّال آل طاهر والسلطان الأعظم وأنّ ما سألوا من معاونتهم لا سبيل إليه إلّا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمّال سليمان بن عبد الله، فأعلماهم أنّهما لا يغفلان عن كفايتهم ذلك حتّى يأمنوا ما خافوه. فأجابهم الديلم إلى ما سألوه وتعاقدوا وأهل كلار وشالوس على حرب من قصدهم. ثمّ أرسل ابنا رستم إلى رجل من الطالبيّين المقيمين يومئذ بطبرستان يقال له: محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وقال لهم: - «أنا لا أجيب إلى ما سألتم، ولكنّى أدلّكم على رجل منّا هو أقوم بما دعوتموني إليه.» فقالوا: «من هو؟» فأخبرهم أنّه الحسن بن زيد، ودلّهم على منزله بالرىّ. فوجّه القوم إلى الرىّ برسالتهم ورسالة العلوىّ محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى الشخوص إلى طبرستان [368] فشخص إليهم الحسن بن زيد وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعة واحدة فلمّا وافاهم بايعه ابنا رستم وجماعة أهل الثغرين ورؤساء الديلم كجايا والاشلام [1] ووهسوذان بن جستان. ثمّ ناهضوا من فى تلك النواحي من عمّال ابن أوس فطردوهم عنها   [1] . كذا فى الأصل: لجايا والاشلام. فى تد (572) : كجاباق الإسلام. فى الطبري (12: 1528) : كجايا ولا شام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله وهما بمدينة ساريه، وانضوى إلى الحسن بن زيد مع من بايعه لمّا بلغهم ظهوره كلّ من بجبال طبرستان، كلّها إلّا سكّان جبل فريم، فإنّ ملكهم قارن بن شهريار كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد وقوّاده نحو مدينة آمل وهي أوّل مدينة طبرستان ممّا يلي كلار وسالوس من السفح. وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها فالتقى جيشاهما فى بعض نواحي مدينة آمل ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة معه موضع المعركة إلى ناحية أخرى، فدخلوها واتصل خبرهم بابن أوس وهو مشغول بحرب من هو فى وجهه من رجال الحسن بن [369] زيد. فلم يكن له همّ إلّا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان وسارية. فلمّا دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه وغلظ أمره وانقضّ إليه كلّ طالب نهب من الصعاليك والحوزيّة وغيرهم. فأقام الحسن بن زيد بآمل أيّاما حتّى جبى الخراج واستعدّ. ثمّ نهض بمن معه نحو سارية مريدا سارية ومن بها من سليمان وابن أوس، فخرجوا بمن معهم والتقى القوم خارج مدينة سارية ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قوّاد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية فدخلها برجاله، وانتهى الخبر إلى سليمان ومن معه فطاروا على وجوههم ونجوا بأنفسهم وترك سليمان أهله وعياله وثقله وكلّ ما كان له بسارية من مال وأثاث، فلم تكن له عرجة دون جرجان، وغلب جند الحسن بن زيد على ما كان له ولغيره. فأمّا عيال سليمان وأهله وآباؤه فإنّ الحسن أمر لهم بمركب حملهم فيه حتّى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان واجتمع للحسن أمره بطبرستان كلّها. ثمّ وجّه الحسن خيلا مع رجل من أهل بيته يقال له: الحسن بن زيد، إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 الرىّ فصار إليها وطرد عنها عاملها [370] من قبل الطاهرية واستخلف بها بعض الطالبيّين وانصرف عنها فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الرىّ إلى حدّ همذان. فورد الخبر بذلك على المستعين ومدبّر أمره وصيف التركىّ وكتابه أحمد بن صالح بن شيرزاد. فوجّه إسماعيل بن فراشة فى جمع كثير إلى همذان وأمره بالمقام بها وضبطها وذلك أنّ ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر، بن عبد الله بن طاهر وبه عمّاله وإليه إصلاحه. فلمّا استقرّ بخليفة الحسن بن زيد القرار بالرىّ واسمه محمد بن جعفر، ظهرت منه أمور كرهها أهل الرىّ. فوجّه محمد بن طاهر قائدا من خراسان يقال له: محمد بن ميكال وهو أخو الشاه بن ميكال، فى جمع عظيم من الخيل والرجّالة إلى الرىّ فالتقى هو ومحمد بن جعفر العلوي. فأسر محمد بن ميكال محمد بن جعفر وفضّ جمعه ودخل الرىّ. فوجّه إليه الحسن بن زيد خيلا عليها ويجن قائد من قوّاد أهل الأرز [1] فخرج إليه محمد بن ميكال فهزمه ويجن والتجأ محمد بن ميكال إلى الرىّ معتصما، بها فاتبعه ويجن قبل أن يشخص حتّى قتله وعادت الرىّ إلى أصحاب الحسن بن زيد. [371] ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين وفيها قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركىّ واضطرب الموالي ذكر السبب فى قتله كان سبب ذلك [2] أنّ باغر كان أحد قتلة المتوكّل فزيد فى أرزاقه وأقطع   [1] . فى تد (574) والطبري (12: 1532) : اللارز. [2] . انظر الطبري (12: 1535) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 قطائع. فكان ممّا أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك بألفي دينار. فوقع بين هذا الدهقان وبين رجل بتلك الناحية يقال له ابن مارمّة شرّ فتناوله ابن مارمّه بمكروه. فحبس ابن مارمّه وقيّد فعمل حتّى تخلّص من الحبس وصار إلى سرّ من رأى، فلقى دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره وإليه العسكر يركب إليه القوّاد والعمّال، وكان ابن مارمّه صديقا لدليل وكان باغر أحد قوّاد بغا فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمّه وانتصف له منه فأوغر ذلك بصدر باغر وباين كلّ واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب. وكان باغر شجاعا بطلا [372] عظيم القدر فى الأتراك يتوقّاه بغا وغيره ويخافون شرّه، فجاء باغر يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذى الحجّة سنة خمسين ومائتين إلى بغا وهو فى الحمّام وباغر سكران فانتظره حتّى خرج من الحمّام، ثم دخل إليه فقال له: - «والله ما لى من قتل دليل من بدّ.» ثمّ شتمه. فقال له بغا: - «لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك منه، فكيف دليل النصرانىّ، ولكن أمر الخليفة وأمرى فى يده فتصبر حتّى أصيّر مكانه إنسانا ثمّ شأنك به.» ثمّ وجّه بغا إلى دليل يأمره ألّا يركب فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قديما، فجعله مكان دليل يوهم باغر أنّه قد عزل دليلا فسكن باغر. ثمّ أصلح بغا بين باغر ودليل، وباغر يتهدّد دليلا إذا خلا بأصحابه، ثمّ تلطّف باغر للمستعين ولزم الخدمة فى الدار وكره المستعين مكانه لجرأته وقتله المتوكّل. فلمّا كان نوبة بغا فى منزله قال المستعين: - «أىّ شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 فأخبره وصيف فقال: - «ينبغي أن تصيّر هذه الأعمال إلى أبى محمد باغر.» فقال وصيف: - «نعم.» وبلغت القصّة دليلا فركب إلى بغا وقال له: - «أنت فى بيتك وهم فى تدبير عزلك عن جميع أعمالك، وإذا عزلت فما بقاؤك [373] إلّا أن يقتلوك.» فركب بغا إلى دار الخليفة فى اليوم الذي نوبته فى منزله بالعشي فقال لوصيف: - «أردت أن تحطّنى عن مرتبتي فتجيء بباغر وتصيّره مكاني، وإنّما باغر عبد من عبيدي.» فقال وصيف: - «ما أردت ذلك ولا علمت ما أراد الخليفة من ذلك.» ثمّ تعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار وأرجفوا أنّه يؤمّر ويضمّ إليه جيش سوى جيشه ويخلع عليه ويجلس مجلس بغا ووصيف وهما يسمّيان الأميرين، وكان قصد المستعين التقرّب إليه ليأمن ناحيته فأحسّ هو ومن فى جنبته [1] بالشرّ فجمع إليه الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكّل مع غيرهم. ثمّ ناظرهم ووكّد البيعة عليهم كما كان وكّدها فى قتل المتوكّل. ثم قال: - «الزموا الدار حتّى نقتل المستعين وبغا ووصيفا ونجيء بمن نقعده خليفة ليكون الأمر لنا كما هو لهذين اللذين قد استوليا على الدنيا وبقينا نحن فى   [1] . كذا فى الأصل وآ وتد (576) : فى جنبته. فى الطبري (12: 1537) : فى ناحيته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 غير شيء.» فبعث إلى المستعين ووصيف فقال لهما: - «إنّى ما طلبت إليكما أن تجعلانى خليفة وإنّما فعلتما أنتما ذلك وأصحابكما ثم تريدون أن تقتلوني؟» فحلفا أنّهما ما علما بذلك. فيقال: إنّ امرأة مطلّقة لباغر بعثت إلى المستعين [374] وبغا بما عزم عليه باغر وبكّر دليل إلى بغا، ووصيف حاضر منزل بغا مع كاتبه، فاتّفق رأيهم على أخذ باغر ونفسين من الأتراك معه وحبسهم حتّى يروا رأيهم. فأحضر باغر فأقبل فى عدّة. فلمّا دخل دار بغا منع من الوصول إلى وصيف وبغا وعدل به إلى حمّام فحبس فيه ودعى له بقيد فامتنع عليهم. وبلغ ذلك الأتراك ووثبوا على إصطبل السلطان فأخذوا ما فيه من الدوابّ وانتهبوها وركبوا وحضروا الجوسق بالسلاح. فلمّا أمسوا بعث بغا ووصيف إلى باغر بجماعة وشدخوه بالطبرزينات حتّى برد وعملوا على أن يرموا برأسه إليهم إن أقاموا على الشغب. فلمّا انتهى قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه وأبوا أن ينصرفوا واجتمع رأى المستعين ووصيف وبغا وشاهك على أن ينحدروا إلى بغداد ففعلوا ذلك وانكسر الأتراك لذلك وأظهروا الندم. ثمّ صاروا إلى دار دليل بن يعقوب ودور أهل بيته وانتهبوها ونقضوها ثمّ منعوا من الانحدار إلى بغداد من همّ بذلك، وأخذوا ملّاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقل سفينته، [375] فامتنع الملّاحون من الانحدار بعده. واجتمع من كان من الجند والأتراك بسرّ من رأى على المعتزّ فبايعوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 وأقام من كان ببغداد على الوفاء للمستعين. [1] ذكر الفتنة التي وقعت بين الأتراك وأهل بغداد وما انتهى إليه لمّا انحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك وأحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر فى داره. ثمّ وافى بغداد القوّاد سوى جعفر بن دينار وسليمان بن يحيى بن معاذ مع جلّة الكتّاب والعمّال وبنى هاشم. ووافى أيضا قوّاد الأتراك الذين فى ناحية وصيف وبغا. وكانت رسل وصيف وبغا تتردد إلى سرّ من رأى باستدعاء من بها وإصلاح نيّاتهم وكان كلّ من يرد بغداد يؤمر أن ينزل الجزيرة التي حيال دار محمد بن عبد الله بن طاهر وألّا يصيروا إلى الجسر فيرعبوا العامّة، فإذا اجتمعوا وجّه إليهم زواريق حتّى يعبروا فيها. فلمّا دخل الأتراك الواردون من سرّ من رأى إلى المستعين رموا بأنفسهم بين يديه وخلعوا مناطقهم من أوساطهم تذلّلا وخضوعا وكلّموا المستعين وسألوه الصفح عنهم فقال لهم: - «أنتم أهل بغى وبطر [376] واستقلال للنعم. ألم ترفعوا إلىّ فى أولادكم فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفى غلام، وفى بناتكم فأمرت باجرائهن مجرى المتزوّجات وهنّ نحو من أربعة آلاف صبيّة، سوى المدركين، وأدررت عليكم الأرزاق حتّى سبكت لكم آنية الذهب والفضّة، ومنعت نفسي شهواتها ولذّاتها، كلّ ذلك طلبا لرضاكم وصلاحكم وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهديدا   [1] . انظر الطبري (12: 1542) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 وإبعادا.» فتضرّعوا وقالوا: - «أمير المؤمنين صادق وقد أخطأنا ونحن الآن نسأله العفو.» فقال المستعين: - «قد عفوت عنكم.» فقال له بايكباك [1] : - «فإن كنت رضيت عنّا وصفحت، فقم معنا إلى سرّ من رأى، فإنّ الأتراك ينتظرونك.» فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبى عون، فلكز فى حلق بايكباك وقال له: - «هكذا يقال لأمير المؤمنين: قم معنا فاركب؟» فضحك المستعين وقال: - «هؤلاء قوم عجم، لا يؤخذون بمعرفة حدود الكلام وأدائه.» ثمّ قال لهم المستعين: - «يصير [2] من بسرّ من رأى فأرزاقهم دارّة عليهم، وأنظر أنا فى أمرى هاهنا.» فانصرفوا وقد أغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله ومضوا إلى سرّ من رأى وحرّضوا الأتراك على مخالفته، واجتمع رأيهم على إتمام البيعة [377] لأبى عبد الله المعتزّ فأخرجوه والمؤيّد من الحبس فأخذوا من شعرهما، وكان قد طال، وبايعوه وأمر لهم بمال البيعة وكان المستعين خلّف بسرّ من   [1] . ما فى الأصل مهمل، مع احتمال الأخير منه أن يكون لاما. فى تد (578) : بابكباك. فأثبتناه حسب ما فى الطبري (12: 1544) . [2] . فى تد (579) : يصبر. فى الطبري (12: 1545) : تصيرون إلى سامرّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 رأى ما كان حمل من الموصل ومن الشام وهو خمسمائة ألف دينار وفى بيت مال أمّ المستعين قيمة ألفى ألف دينار وفى بيت مال ابن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار وكتب نسخة البيعة التي أخذت للمعتزّ بسرّ من رأى على النسخة المعروفة. وأحضر أبو أحمد بن الرشيد محمولا فى محفّة وأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتزّ: - «بل كنت مكرها وخفت السيف.» فقال أبو أحمد: - «ما علمت أنّك أكرهت وقد بايعنا هذا الرجل. أفتريد أن نطلّق نسائنا وتخرجنا عن أموالنا ولا ندري ما يكون أن تركتني على أمرى حتّى يجتمع الناس وإلّا فهذا السيف.» فقال المعتزّ: - «اتركوه.» فردّ إلى منزله من غير بيعة. ولمّا بايع المعتزّ الأتراك ولّى عمّاله وأصحاب دواوينه، واتصل محمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتزّ وتوجيهه العمّال. فأمر بقطع الميرة عن أهل سرّ من رأى وكتب إلى مالك [1] بن طوق بالمصير إلى بغداد هو ومن معه من [378] أهل بيته وجنده والى نجوبة [2] بن قيس وهو على الأنبار بالجمع والاحتشاد وإلى سليمان بن عمران الموصلي فى جمع السفن ومنع الميرة أن تنحدر إلى سرّ من رأى ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط فهرب الملّاح وبقيت حتّى غرقت.   [1] . ضبط الأصل: ملك. [2] . كذا فى تد (579) والطبري (12: 1550) : نجوبة. ما فى الأصل: بحونة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 وأمر المستعين محمد بن عبد الله بأن تحصّن بغداد فتقدّم فى ذلك فأدير عليها السور من دجلة من باب الشمّاسية إلى سوق الثلاثاء حتّى أورده دجلة، ومن باب قطيعة أمّ جعفر حتّى أورده قصر حميد. ورتّب على كلّ باب قائدا وجماعة من أصحابه وغير أصحابه، وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران فى الجانبين جميعا ومظلّات يأوى إليها الفرسان فى الحرّ والمطر. فبلغت النفقة على السورين والخنادق والمظلّات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شدّاخات بعرض الطريق فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني بابا معلّقا [1] بقدر الباب ثخينا وقد ألبس صفائح الحديد وشدّ بالحبال كي إن وافى أحد من ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلّق فقتل من تحته [379] وجعل على الباب الآخر عرّادة، وعلى الباب الآخر خمسة مجانيق كبارا وفيها واحد كبير سمّوه: الغضبان، وستّ عرّادات يرمى بها إلى ناحية رقّة الشمّاسية وصيّر على باب البردان ثماني عرّادات فى كلّ ناحية أربع، وأربع شدّاخات، وكذلك كلّ باب من أبواب بغداد فى الجانب الشرقىّ والغربىّ، ووكّل بكل باب قوّاد برجالهم وجعل لكلّ باب من أبوابها دهليزا عليه السقائف يسع مائة فارس ومائة راجل، ولكلّ منجنيق وعرّادة رجالا مرتبين يمدّون حباله، وراميا يرمى إذا كان قتال، وفرض فروضا من قوم من أهل خراسان قدموا حجّاجا فسئلوا المعونة على قتال الأتراك فأعانوا. وأمر محمد بن عبد الله أن تفرض من العيارين فروض وأن يجعل عليهم عريف ويعمل لهم تراس من البواري المقيّرة وأن تعمل لهم مخال تملأ   [1] . فى الأصل: مغلقا. فى تد (580) والطبري (12: 1551) : معلّقا، وهو الصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 حجارة. ففعل ذلك وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها عملت نسائجات أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب المقيّرة من العيّارين رجلا يقال له: ينتويه. خليفتان فى زمن واحد وكتب المستعين إلى عمّال الخراج بكلّ بلدة وبكلّ موضع أن يكون حملهم [380] ما يحملون من الأموال إلى السلطان ببغداد دون غيرها، وكتب إلى الأتراك والجند الذين بسرّ من رأى يأمرهم بنقض بيعة المعتزّ ومراجعة الوفاء ببيعتهم، ويذكّرهم أياديه عندهم وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته. وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله يدعوه إلى خلع المستعين ويذكره بما أخذه أبوه المتوكّل عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة. وأجابه محمد يدعوه إلى الرجوع إلى طاعة المستعين. واحتجّ كلّ واحد منهما باحتجاجات يطول شرحها وبثق محمد بن عبد الله المياه بطسّوح الأنبار وبادوريّا ليقطع طريق الأتراك حين تخوّف ورودهم الأنبار. وكتب كلّ واحد من المعتزّ والمستعين إلى موسى بن بغا وهو مقيم بأطراف الشام لأنّه كان أخرج إلى حمص لقتال أهلها حين قتلوا عاملهم وعصوا وامتنعوا على السلطان. وبعث كلّ واحد منهما بعدّة ألوية يعقدها لمن أحبّ. [1] فانصرف إلى المعتزّ وصار معه ولم يزل الأتراك الكبار يصيرون مرّة من حزب المستعين ومرّة من حزب المعتزّ. وعقد المعتزّ لأخيه أبى أحمد إبن المتوكّل على حرب المستعين وابن   [1] . وزاد فى الطبري (12: 1554) : «ويأمره المستعين بالانصراف إلى مدينة السلام ويستخلف على عمله من رأى، فانصرف ... » الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 طاهر وضمّ إليه الجيش وجعل إليه [381] الأمر والنهى وتدبير الحرب إلى كلباتكين فعسكر بالقاطول فى خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة فوافوا عكبرى فصلّى أبو أحمد ودعا للمعتزّ وكتب بذلك فتحا إلى المعتزّ وجعل الأتراك ينتهبون القرى ما بين عكبرى وبغداد وأوانا وهرب الناس منهم وجلّوا عن الغلّات والضياع فخربت وهدمت المنازل وسلب الناس وجرى فى ذلك أمر فظيع قبيح. ولمّا وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكّل بباب الشماسية. ثمّ وافى أبو أحمد فى عسكر الشماسية ووافت طلائع الأتراك إلى قريب من باب الشماسية فوجّه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال فيمن معهما. فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات قد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم وانصرف الحسين والشاه. ثمّ وافى باب الشماسية إثنا عشر فارسا من الأتراك فشتموا من هناك ورموهم بسهامهم، وكان محمد تقدم ألّا يبدأهم بقتال، فلمّا فعلوا ذلك وأكثروا من الشتم والرمى أمر علّك [1] صاحب المنجنيق. فرموا بحجر أصاب فقتل واحد منهم فنزل أصحابه فحملوه وانصرفوا إلى معسكرهم. ثمّ وافى الأتراك باب [2] الشماسية فرموا بالسهام [382] وبحجارة المنجنيق والعرّادات وكان بينهم قتلى وجرحى. وحمل محمد بن عبد الله الصلات لمن أبلى فى الحرب، وأطوقة وأسورة من ذهب، وكان الجرحى فى الفريقين متقاربين فى العدد، وانهزم عامة أهل بغداد وثبت أصحاب البواري وأحضرت الأتراك منجنيقا فغلبهم عليه الغوغاء وكسروا قائمة من قوائمه وأمر بحمل الآجرّ من قصر الطين وتلك الناحية إلى   [1] . كذا فى الأصل: علّك. فى الطبري (13: 1559) : علك (دون تشديد) . [2] . حذف من تد ما يعادل عدة صفحات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 باب الشماسية، وفتح باب الشماسية وأخرج إلى الآجر من لقطه وردّوه إلى هذا الجانب من السور. ثمّ وجّه محمد بن عبد الله الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالدا وأمددا بالمبيّضة من أهل بغداد، فحمل الشاه والمبيّضة حملة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم وحملت عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليه بندار وخالد بن عمران من الكمين وكانوا كمناء من ناحية باب قطربل. فوضعوا فى أصحاب أبى أحمد السيف فقتل الأتراك وغيرهم فقتلوهم أبرح قتل ولم يفلت منهم إلّا القليل. وانتهب المبيّضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأنفال والمضارب والخرثىّ. فكان من أفلت منهم من السيف [383] ورمى بنفسه فى دجلة ليعبر إلى عسكر أبى أحمد أخذه أصحاب السميريات [1] وكانت السميريات قد شحنت بالمقاتلة فقتلوا وأسروا وجعلت القتلى والرؤوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم فى الزواريق، فنصبت بعضها فى الجسر وبعضها على باب محمد بن عبد الله. وأمر محمد لمن أبلى فى هذا اليوم بالأسورة. فسوّر قوم كثير من الجند وغيرهم وطلبت المنهزمة فبلغ بعضهم أوانا وبعضهم إلى عسكر أبى أحمد، وبعضهم نفذ إلى سرّ من رأى. وخلع محمد على قوّاده على كلّ واحد أربع خلع وخرج المبيّضة والعيّارون فى طلب ما خلّفه المنهزمة. فوجّه محمد فى آخر هذا اليوم أخاه عبيد الله بن عبد الله فى إثرهم حياطة لأهل بغداد لأنّه لم يأمن رجعتهم عليهم وأشير على محمد بن عبد   [1] . فى الطبري (12: 1563) : الشّبّارات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 الله أن يتبعهم بعسكر فى اليوم الثاني وفى تلك الليلة ليوغل فى آثارهم، فأبى ولم يتبع مولّيا ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد فى مساجد جوامعها. وقدم محمد بن خالد بن يزيد بلد [1] ينتظر من يصير إليه وكان بالجزيرة. فلمّا كان اضطراب الأتراك ودخول المستعين بغداد [384] لم يمكنه المصير إلى بغداد إلّا من طريق الرقّة، فصار إليها بمن معه من خاصّته. ثمّ انحدر منها إلى بغداد، فصار إلى محمد بن عبد الله فخلع عليه خمس خلع: ديبقي وملحم وخزّ ووشى وسواد، ثمّ وجّه به فى جيش كثيف لمحاربة أيّوب بن أحمد، فأخذ على طريق الفرات فحاربه أيّوب فى نفر يسير فهزمه. فلمّا انتهى خبر هزيمته إلى محمد بن عبد الله قال: - «ليس يفلح أحد من العرب إلّا أن يكون معه نبىّ ينصره الله به.» وكان للأتراك وقعات بباب الشمّاسية كثيرة يكون مرّة لهم ومرّة عليهم. وإنّما تركنا ذكرها لأنّها لم تجر بحيلة ولا مكيدة ولا تدبير صائب، وإنّما كانت كالفتن التي تجرى على ما يتفق. [2] وكان الغوغاء اجتمعوا بسرّ من رأى بعد هزيمة الأتراك الأولى لما رأوا ضعف المعتزّ، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والصيارف، فأخذوا جميع ما وجدوا فيها. فاجتمع التجّار إلى إبراهيم المؤيّد أخى المعتزّ فشكوا ذلك وأعلموه أنّهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم. فقال لهم المؤيّد: - «كان ينبغي لكم أن تحوّلوا متاعكم إلى منازلكم ولم تكن عنده لذلك نكيرة.»   [1] . بلد: اسم مدينة. انظر الطبري (12: 1577) . [2] . ينبّه مسكويه على منهجه فى كتابة التاريخ مرّة أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 وورد من البصرة سفن بحريّة تسمّى البوارج وهي عشرة، فيها [385] نفّاطون وفى كلّ واحدة نجّار وخبّاز ومقاتلة. فكانوا يرمون الأتراك وعساكرهم بالنيران فانتقلوا من معسكرهم. ظفر سليمان بعسكر الحسن بن زيد وفى هذه السنة ظفر سليمان بن عبد الله بعسكر الحسن بن زيد فتنحّى الحسن عن طبرستان ولحق بالديلم. ووردت الكتب على السلطان بالفتح، وكتب نسخة كتاب الفتح على يد محمد بن طاهر. وكان سبب ذلك أنّ أهل آمل لقوا من عسكر الحسن بن زيد عبئا فأتوا سليمان بن عبد الله مظهرين توبة وإنابة، وتاب إليهم خلق كثير من جيشه فنهض إلى الحسن بن زيد بتعبئة وعدّة فهزمه واستولى على بلاد طبرستان وانقطعت أسباب الفتنة عنه. وظفر محمد بن طاهر أيضا بالطالبىّ الذي كان بالري وأخذه أسيرا وكتب بالفتح. وفرّق محمد بن عبد الله فى الكافر كوبات واستعمل منها شاكرا فرّقه فيهم. فأثّروا فى الأتراك أثرا كبيرا وأحضر ينتويه رئيس العيّارين وسوّر ووصل بخمسمائة درهم وقدم من ناحية الرقّة مزاحم بن خاقان فتلقاه بنو هاشم وكان قدم معه من الخراسانية والأتراك والمغاربة ألف رجل معهم عتاد الحرب من كل صنف. فدخل بغداد ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله ولمّا وصل خلع [386] عليه سبع خلع وقلّد سيفا وخلع على كلّ واحد من ابنيه خمس خلع. ثمّ كثرت الوقعات أيضا من أصحاب محمد بن عبد الله وأصحاب أبى أحمد وضرى العيّارون وأصحاب السواري عليهم، فكانوا ينتصفون منهم فرئي غلام لم يبلغ الحلم معه مخلاة فيها حجارة ومقلاع يرمى عنه فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابّهم واجتمع عليه أربعة من الفرسان الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه وجعل يرميهم فلا يخطئ وتتقطّر بهم دوابّهم من رميه. فمضوا وحملوا معهم أربعة من رجّالة المغاربة بالرماح، فداخله اثنان منهم فرمى بنفسه فى الماء ودخلا خلفه فلم يلحقاه وعبر إلى الجانب الشرقي وصيّح بهما وكبّر الناس فرجع جميعهم ولم يصلوا إليه. قدوم أبى الساج وفى هذه السنة قدم أبو الساج من طريق مكة فى نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب فى الأغلال فدخل هو وأصحابه بغداد فى زي حسن وسلاح ظاهر فخلع عليه خمس خلع وانصرف إلى منزله. وقدم أيضا بغداد حبشون ومعه يوسف بن يعقوب قوصرّة مولى الهادي فيمن كان مع موسى بن بغا من الشاكرية وانضمّ [387] إليه عامّة الشاكرية المقيمون بالرقّة وهم ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع وعلى جماعة من الوجوه وانصرفوا إلى منازلهم. وخلع على أبى الساج ديوداذ وعلى ابن فراشه، وعسكر أبو الساج فى سوق الثلاثاء وأعطى بغالا من بغال السلطان حمل عليها الرجّالة وأمر بالخروج إلى المدائن لضبطها. فحكى أنّ أبا الساج لمّا أمره محمد بن عبد الله بالشخوص إلى المدائن قال له: - «أيّها الأمير عندي مشورة أشير بها.» قال: «قل يا أبا جعفر فإنك غير متّهم.» قال: «إن كنت تريد أن تجادّ هؤلاء القوم فالرأى لك ألّا تفارق قوّاده ولا تفرقهم، واجمعهم حتّى تفضّ هذا العسكر الذي بازائك، فإنك إذا فرغت من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 هؤلاء فما أقدرك على من وراءك.» فقال: «لى تدبير والله الكافي.» فقال له أبو الساج: - «السمع والطاعة.» ومضى لما أمره به. فلمّا صار إلى المدائن ثمّ إلى الصيّادة ابتدأ فى حفر خندق كسرى وكتب يستمدّ فوجّه إليه خمسمائة رجل. وكان شخوصه فى ثلاثة آلاف فارس وراجل ثمّ استمدّ حتّى حصل فى عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل. ووجّه محمد بن عبد الله إلى الأنبار نجوبة بن قيس فى الأعراب وأمره بالمقام بها والفرض [388] لأعراب الناحية، فأثبت نحوا من ألفى رجل وأقام بالأنبار وضبطها فبلغه أنّ قوما من الأتراك قصدوه فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار وفاض من الصحارى إلى ناحية السيلحين. فصار ما يلي الأنبار بطيحة، وقطع القناطر وكتب يستمدّ فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين فى ألف رجل وأمدّه ابن طاهر بثلاثمائة رجل انتخبهم من القادمين من الثغور. فرحل، وأخرج المعتزّ أبا نصر بن بغا من سرّ من رأى على طريق الإسحاقى فسار يومه وليلته، وصبّح الأنبار ساعة وصل رشيد فنزل رشيد خارج المدينة وكان نجوبة نازلا المدينة. فلمّا وافى أبو نصر عاجل رشيدا وهم غارّون على غير تعبئة فوضع فيهم السيف وثار أصحاب رشيد إلى سلاحهم فقاتلوا الأتراك والمغاربة أشدّ قتال وقتلوا منهم جماعة، ثمّ انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا منه وبلغ نجوبة [1] ما لقى رشيد وأصحابه، فعبر إلى الجانب الغربي وقطع جسر   [1] . فى الأصل: بحونة: والضبط من الطبري وتد، كما سبق. ما فى آمهمل دون أىّ نقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 الأنبار وصار رشيد إلى المحوّل وسار نجوبة فى الجانب الغربي حتّى وافى بغداد ودخل رشيد فى هذه العشية إلى دار ابن طاهر وأعلم نجوبة محمد بن عبد الله أنّه عند [389] مصير الأتراك إلى الأنبار وجّه إلى رشيد يسأله أن يوجّه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتّبهم قدّام أصحابه فأبى ذلك، ثمّ سأل أن يضمّ إليه ناشبة ليصير إلى بنى عمّه فإنّهم مقيمون على الطاعة فى الجانب الغربي وضمن أن يتلافى ما كان منه، فضمّ إليه ثلاثمائة رجل من الناشبة والفرسان مع رجّالة منهم. فمضى إلى قصر أبى هبيرة يستعدّ هناك واختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار ووجّه معه محمد بن رجاء الحصارى وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس وجماعة من أهل النجدة وأمر للناس برزق أربعة أشهر ممّن يخرج مع الحسين. فامتنع من قدم من الثغور من قبض رزق أربعة أشهر لأنّ أكثرهم كانوا بغير دوابّ وقالوا نحتاج أن نقوّى فى أنفسنا ونشتري دوابّ، فوعدهم. ثمّ أرضوا برزق أربعة أشهر كما بدءوهم. ثمّ أحضر الحسين مع قوّاده الكبار وهم نحو من عشرين قائدا فخلع عليه وقدّمت مرتبته إلى الفوج الثاني وكان فى الفوج الرابع وصيّر رشيد على المقدّمة ومحمد بن رجاء على الساقة وخرج الحسين إلى معسكره وأمر وصيف وبغا بتشييعه وأخرج لأهل العسكر من المال ستّة وثلاثون ألف دينار [390] وسار الحسين وكان أهل الأنبار حين تنحّى نجوبة ورشيد وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا: - «الأمان.» وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوّق فيها، اطمأنّوا إلى ذلك منهم وسكنوا وطمعوا فى أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتّى أصبحوا ووافت الأنبار سفن من الرقّة فيها دقيق وأطواف فيها زيت، فأخذوا جميعه وانتهبوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 ما وجدوا وأخذوا الإبل والبغال والحمير ووجّهوا بذلك مع من يؤدّيه إلى منازلهم بسرّ من رأى مع رؤوس من قتل من أصحاب رشيد ومن أسروا، وكان الأسارى مائة وعشرين رجلا والرؤوس سبعين رأسا، وسار الحسين وانضمّ إليه نجوبة وكان بقصر ابن هبيرة وسأل لأصحابه مالا، فحمل إلى عسكر الحسين ثلاثة آلاف دينار لأصحاب بجونه [1] وحمل إلى الحسين مال وأطواق وأسورة لمن أبلى وأمدّ بالرجال فجاءه أبو السنا محمد بن عبدوس والجحّاف بن سوادة فى ألف فارس وراجل وجند انتخبوا من قيادات [2] شتّى ونزل الحسين بعسكره إلى قريب من دممّا. [3] ذكر رأى أشير به عليه صواب فأشار عليه رشيد والقوّاد أن ينزل عسكره بذلك الموضع لسعته وحصانته وأن يسير [391] فى قوّاده فى خيل جريدة. فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره ثمّ راجع عدوّه. فلم يقبل الرأى وحملهم على المسير من موضعهم ومن الموضعين فرسخان. فلمّا بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه أمر الناس بالنزول وكانت جواسيس الأتراك فى عسكر الحسين فصاروا إليهم فأعلموهم رحيل الحسين، وضيق معسكره الذي نزل به، فوافوهم والناس يحطّون أثقالهم. فثار أهل العسكر فكانت بينهم قتلى، ثمّ حمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق. وكان   [1] . نهاية ما حذف من تد (582) . [2] . فى تد (583 الصفحة الأخيرة) : بنادات. [3] . الى هنا تنتهي تد، وهي القطعة التي نشرها دى خويه من أجزاء تجارب الأمم مشفوعة بقسم من كتاب العيون والحدائق (بريل 71- 1869) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 الأتراك قد كمنوا قوما فخرج الكمين على بقية العسكر فلم تكن لهم همّة إلّا الهرب ولا ملجأ إلّا الفرات. فغرق خلق وقتل جماعة. فأمّا الفرسان فضربوا دوابّهم لا يلوون على شيء والقوّاد ينادونهم يسألونهم الرجعة فلم يرجع أحد. وأبلى محمد بن رجاء ورشيد ونجوبة بلاء حسنا ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد فلم يملك القوّاد أمور أصحابهم فأشفقوا حينئذ على أنفسهم فانثنوا راجعين وراءهم يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا وحوى الأتراك عسكر الحسين. [392] ولقى رجل من التجّار فى جماعة ممّن ذهبت أموالهم فى عسكر الحسين. فقال له: - «الحمد لله الذي بيّض وجهك أصعدت فى اثنى عشر يوما ورجعت فى يوم واحد.» فتغافل عنه. وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال فى صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد، فلقيه فى الطريق فردّه إلى بستان الحروى فأقام يومه. فلمّا كان الليل صار إلى دار ابن طاهر فوبّخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية، ثمّ أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لأهل هذا العسكر، فحملت تسعة آلاف دينار وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسريّة لعرض الجند وإعطاءهم. ونودى ببغداد فيمن يدخلها من الجند الذين فى عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين فى عسكره وأجّلوا ثلاثة أيّام فمن وجد منهم ببغداد بعد ثالثة ضرب ثلاثمائة سوط وقرض اسمه من الديوان فخرج الناس. وأمر خالد بن عمران فى الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر بأصحابه بالمحوّل ورحل الحسين وكتب إلى خالد بن عمران أن يرحل متقدّما أمامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 فامتنع خالد من ذلك وذكر أنّه لا يبرح حتّى يأتيه قائد فى جند كثيف فيقيم مكانه لأنّه يتخوّف أن [393] يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم. وصار إلى الحسين رجل فأخبره أنّ الأتراك قد دلّوا على عدّة مواضع من الفرات تخاض إلى عسكره. فأمر بضرب الرجل مائتي سوط ووكّل بمواضع المخاوض رجلا من قوّاده يقال له الحسن بن علىّ بن يحيى الأرمنى فى مائة فارس ومائة راجل، فطلع أوّل القوم فخرج إليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة ووكّل بالقنطرة أبا السنا وأمر أن يمنع من انهزم من العبور فأبى الأتراك المخاضة فرأوا الموكّل بها فتركوه واقفا وصاروا إلى مخاضة أخرى من خلف المتوكّل فصبر الحسين بن على وقاتل وقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه فلم يصل إليه حتّى انهزم وانهزم خالد بن عمران ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجّالة والخراسانية فرموا بأنفسهم فى الفرات فغرق من لم يكن يحسن السباحة وعبر من كان يحسنها فنجا عريان، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشاطئ لما عليه من الأتراك. فذكر عن بعض جند الحسين أنّه قال: بعث الحسين بن علىّ الأرمنى إلى الحسين بن إسماعيل: - «إنّ الأتراك قد وافوا المخاضة.» فأتاه الرسول فقال الحاجب: - «الأمير نائم.» فرجع الرسول [394] فأعلمه فردّ رسولا ثانيا. فقال له الحاجب: - «الأمير فى المخرج.» فرجع فأخبره فردّ رسولا ثالثا فقال: - «قد خرج من المخرج ونام.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 وجاءت الصبيحة وعبر الأتراك فقعد الحسين فى زورق وانحدر واستأمن قوم من الخراسانية رموا ثيابهم وسلاحهم وقعدوا على الشاطئ عراة وشدّ أصحاب أعلام الأتراك حتّى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين واقتطعوا السوق ولحق الأتراك أصحاب الحسين فوضعوا فيهم السيف فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين وغرق خلق كثير ووافى الحسين والمنهزمة نصف الليل ووافى فلّهم وبقيّتهم بالنهار وفيهم جرحى كثير وفقد جماعة من القوّاد. وورد كتاب أبى الساج بوقعة كانت له مع الأتراك ورئيسهم بايكباك فهزم الأتراك وقتل بايكباك وغرق منهم خلق كثير فحمل إليه محمد بن عبد الله بن طاهر عشرة آلاف دينار صلة ومعونة وخمسة أبواب خلعية وسيف. وفى هذه السنة نقبت الأتراك السور الذي عليه أصحاب ابن طاهر من ناحية بغواريا [1] فى موضعين ودخلوهما وقاتلهم أصحاب ابن طاهر فهزموهم حتّى وافوا باب الأنبار وعليه إبراهيم بن محمد بن مصعب وابن أبى خالد وغيره وهم لا يعلمون بما وراءهم ويقاتلون من بين أيديهم [395] قتالا شديدا. ثمّ إنّهم علموا بهم فانهزموا لا يلوون على شيء فضرب الأتراك باب الأنبار بالنار فاحترق وأحرقوا ما كان هناك من المجانيق والعرّادات ودخلوا بغداد حتّى صاروا إلى باب الحديد من الشارع إلى موضع الدواليب فأحرقوا كلّ شيء قرب من ذلك الموضع من أمامهم ووراءهم ونصبوا أعلامهم وانهزم الناس. فركب محمد بن طاهر فى السلاح ووافاه القوّاد فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي فى الجانب الغربي وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف والشاه بن ميكال وتوجّهوا إلى هذه الأبواب. فقتل من   [1] . انظر الطبري (12: 1621) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 الأتراك خلق كثير ووجّه برؤوسهم إلى ابن طاهر وكاثرهم الناس حتّى أخرجوهم من بغداد بعد أن قتل منهم خلق كثير. فلمّا انصرفوا وكّل بغا بالباب من يحفظه ووجّه فى حمل الآجر والجصّ وأمر بسده. وفيها وافى بغداد بالفردك بن ابرنكجيل [1] الأسروشنى فأمر له محمد بن عبد الله بفرض وضمّ إليه رجالا من الشاكرية وأمر أن يعسكر بالكناسة ويجمع مع المظفر بن سيسل [2] بالياسرية فى ضبط تلك الناحية ويكون أمرهما واحدا فاختلفا وكتب كلّ واحد [396] منهما يشكو الآخر ويستعفى من المقام بالكناسة فأفرد بالموضع بالفردك وأعفى المظفّر. مقتل بالفردك وفى آخر ليلة بقيت من شهر رمضان من هذه السنة قتل بالفردك. ذكر السبب فى ذلك كان سبب قتله أنّ أبا نصر ابن بغا لمّا غلب على الأنبار وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية فأجلاهم [عنها] بثّ خيله ورجاله فى أطراف بغداد وصار إلى قصر ابن هبيرة وبها نجوبه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال. ثمّ صار أبو نصر إلى نهر صرصر واتصل بابن طاهر خبره وخبر وقعة كانت بين أبى الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه إيّاه ندب بالفردك إلى اللحاق بأبى الساج والمصير إليه بمن معه، فسار فى أصحابه لليلتين بقيتا من شهر رمضان فسار يومه وصبّح المدائن فوافاها مع موافاة الأتراك وبالمدائن أصحاب إبن طاهر، فقاتلهم الأتراك فانهزموا ولحق   [1] . فى الأصل غموض وما فى الطبري أغمض. انظر الطبري (12: 1623) . [2] . انظر الطبري (12: 1621) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 من فيها من القوّاد بأبى الساج وقاتل قتالا شديدا. فلمّا رأى انهزام من هناك مضى متوجّها نحو أبى الساج فأدرك فقتل وقيل إنّه غرق. انهزام الترك فى وقعة بغداد وفى هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد هزموا فيها الأتراك وانتهبوا فيها عسكرهم. وكان سبب ذلك أنّ أبواب بغداد كلّها فتحت من الجانبين ونصبت المجانيق والعرّادات فى الأبواب كلّها والسيارات [1] فى دجلة وخرج منها الجند كلهم وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف وتزاحف الفريقان واشتدّت الحرب إلى باب القطيعة، ثمّ عبروا إلى باب الشمّاسية وقعد ابن طاهر فى قبّة ضربت عليه وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية فى الزواريق، فربّما انتظم السهم الواحد عدّة منهم فقتلهم فهزم الأتراك وتبعهم أهل بغداد حتّى صاروا إلى عسكرهم، فانتهبوا سوقهم وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء وحملت الرؤوس حتّى كثرت. فجعل وصيف وبغا يقولان: - «كلّما جيء برأس ذهب والله الموالي واتّبعهم أهل بغداد إلى الروذبار.» ووقف أبو أحمد ابن المتوكّل يردّ الموالي ويخبرهم أنّهم إن لم يكرّوا لم يبق لهم بقيّة وأنّ القوم يتبعونهم إلى سرّ من رأى. فتراجعوا وثاب بعضهم وأقبلت العامّة تحزّ رؤوس من قتل وجعل محمد بن عبد الله يطوّق كلّ من جاء برأس ويصله حتّى كثر ذلك وبدت الكراهة [398] فى وجوه من كان مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي.   [1] . فى الطبري (12: 1626) : الشبّارات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 للأتراك يقدمها علم أحمر [1] وأقبلت أعلام للحسن بن الأفشين مع الأعلام التي قد استلبه غلام لشاهك فنسي أن ينكسه، فلمّا رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه توهّموا أنّ الأتراك قد رجعوا عليهم فانهزموا وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه ونكس العلم والناس قد ازدحموا منهزمين وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فحملوا عليهم ووضعت الحرب أوزارها فلم تكن بعد ذلك وقعة. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ ابن طاهر كان يكاتب المعتزّ فى الصلح. فلمّا كانت هذه الوقعة أنكرت فكتب أنّه لا يعود بعدها. ثمّ أغلقت أبواب بغداد فاشتدّ عليهم الحصار فصاحوا على أبواب ابن طاهر: - «الجوع، الجوع.» وكان الناس يجتمعون فى الجزيرة التي تلقاء دار ابن طاهر ويشتمونه. فراسل ابن طاهر المعتزّ فى الصلح واضطرب أمر أهل بغداد فوافى من سرّ من رأى حمّاد بن إسحاق بن حمّاد [399] ووجّه مكانه رهينة عنه أبو سعيد الأنصارى، فلقى حمّاد ومحمد بن طاهر فخلا به ولم يذكر ما جرى بينهما. ثمّ انصرف حمّاد إلى عسكر أبى أحمد ورجع أبو سعيد إلى بغداد وأمر ابن طاهر بإطلاق جميع من فى الحبوس ممّن كان حبس بسبب ما كان بينه   [1] . فى الأصل وآ بدل ما بين المعقوفتين: «التي للحسن بن الأفشين» (بالتكرار) ، مع أنّ العبارة ناقصة. فحذفنا المكرّر واكملنا العبارة بما فى الطبري (12: 1627) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 وبين أبى أحمد من الحروب ومعاونته إيّاه فأطلقوا. وفى غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجّالة الجند وكثير من العامّة. أمّا الجند فطلبوا أرزاقهم وأمّا العامّة فشكت سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدّة الحصار وقالوا: - «إمّا خرجت فقاتلت وإمّا تركتنا نمضي فى البلاد.» فوعدهم الخروج أو فتح الباب للصلح ورفق بهم ومنّاهم، ثمّ اجتمع الجند والناس من العوامّ مرّة أخرى، وكان ابن طاهر قد شحن الجزيرة بالخيل وكذلك باب داره والجسر، فحصر الجزيرة بشر كثير فطردوا من كان ابن طاهر رتّبهم فيها. ثمّ صاروا إلى الجسر فطردوا من كان هناك من أصحاب ابن طاهر وصاروا إلى الحبس فمانعهم أبو مالك الموكّل بالمحبس الشرقي فشجّوه وجرجوا دابّتين لأصحابه فدخل داره وخلّاهم فانتهبوا ما فى مجلسه. [400] ثمّ عبر إليهم محمد بن أبى عون فضمن للجند رزق أربعة أشهر فانصرفوا. ووجّه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقتّ إلى ابن طاهر فوصلت إليه، ثمّ علم الناس بما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتزّ ووجّه ابن طاهر قوّاده إلى أبى أحمد حتّى بايعوه للمعتزّ فخلع على كلّ واحد منهم أربع خلع، وظنّت العامّة أن الصلح جرى بأنّ الخليفة المستعين وانّ المعتزّ ولى عهده بعده. فلمّا كان بعد ذلك خرج رشيد بن كاوس مع قائدين آخرين ووجّهوا إلى الأتراك بأنّه على المصير إليهم ليكون معهم فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس فخرج إليهم على أنّ الصلح قد وقع فسلّم عليهم وعانق من عرف منهم وأخذوا بلجام دابّته ومضوا به وبابنه فى إثره. فلمّا كان من الغد صار رشيد إلى باب الشمّاسية وقال حين كلّم الناس: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 - «إنّ أمير المؤمنين وأبا أحمد يقرءان عليكم السلام ويقولان لكم: من دخل فى طاعتنا قرّبناه ووصلناه ومن أبى ذلك فهو أعلم.» فشتمه العامّة ثمّ طاف على جميع الأبواب الشرقية بمثل ذلك وهو يشتم [401] فى كلّ باب [ويشتم] [1] المعتزّ. فلمّا فعل رشيد ذلك علمت العامّة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحيال دار ابن طاهر فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثمّ صاروا إلى بابه ففعلوا مثل ذلك. فخرج إليهم راغب الخادم فحضّهم على ما فعلوا بالمستعين ثمّ مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش فحضّهم، فصاروا إلى باب ابن طاهر فكشفوا من عليه وردّوهم فلم يبرحوا وقاتلوهم حتّى صاروا إلى دهليزه وأرادوا حرق الباب الداخل فلم يجدوا نارا وقد كانوا بالجزيرة الليل كلّه يشتمونه ويتناولونه بالقبيح. فذكر عن ابن شجاع البلخي قال: كنت عند الأمير ويحدّثنى ويسمع ما يقذف به من كلّ إنسان حتّى ذكروا اسم أمّه. فضحك ثمّ قال: - «يا با عبد الله والله ما أدرى كيف عرفوا اسم أمّى. ولقد كان كثير من جواري أبى العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها» فقلت له: - «أيّها الأمير ما رأيت أوسع من حلمك.» فقال لى: - «ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بدّ من ذلك.» فلمّا أصبحوا وافوا الباب وصاحوا وصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطّلع عليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه. - «فأشرف عليهم من أعلى الباب [402] وعليه البردة والطويلة وابن طاهر   [1] . ما بين المعقوفتين من الطبري (12: 1631) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 إلى جانبه. فحلف لهم بالله: ما أتّهمه وإنّى لفى عافية، ما علىّ منه باس وأنّه لم يخلع.» ووعدهم أن يخرج فى غد وهو يوم الجمعة فيصلّى بهم ويظهر لهم. فانصرف عامّتهم بعد قتلى وقعت. فلمّا كان يوم الجمعة بكّر الناس بالصياح يطلبون المستعين وانتهبوا دوابّ علىّ بن جهشيار وجميع ما كان فى منزله وهرب ولم يزل الناس وقوفا إلى أن ارتفع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما وقوّادهما ومواليهما وأخوال المستعين، فصاروا مع الناس جميعا إلى الباب فدخل وصيف وبغا فى خاصّتهما ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز فوقفوا على دوابّهم وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال فأذن لهم فأبوا وقالوا: - «ليس هذا يوم نزول عن ظهور دوابّنا إلّا بعد أن نعرف نحن والعامّة حقيقة أمرنا.» فلم تزل الرسل تختلف إليهم وهم يأبون. فخرج إليهم محمد بن عبد الله بنفسه وسألهم النزول والدخول إلى المستعين فأعلموه أنّ العامّة قد ضجّت ممّا يبلغها وصحّ عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتزّ وإرادتك [403] التهويل ليصير الأمر إليه وإدخال الأتراك والمغاربة بغداد فيحكموا فيهم بحكمه واستراب بك أهل بغداد واتّهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذّبوا ما بلغهم فيه. [1] فلمّا تبيّن محمد بن عبد الله ذلك الأمر ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجّتهم سأل المستعين الخروج إليهم فخرج إلى دار العامّة التي كان يدخلها   [1] . انظر الطبري (12: 1633) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 جميع الناس فنصب له فيها كرسىّ وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه. ثمّ خرجوا إلى من وراءهم فأعلموهم صحّته فلم يقنعوا بذلك وعرف ابن طاهر كثرة الناس وأنّهم لا يسكنون فأمر بإغلاق باب الحديد الخارج فأغلق وصار هو وأخواله ومحمد بن موسى المنجّم وغيرهم إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامّة وخزائن السلاح. ثمّ نصبت لهم سلاليم على سطوح المسجد الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد وفوق السواد بردة النّبى صلى الله عليه ومعه القضيب وتكلّم الناس وكلّمهم وناشدهم وسألهم بحقّ صاحب هذه البردة إلّا انصرفوا، فإنّه فى أمن وسلامة [404] ولا بأس عليه من محمد بن عبد الله. فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله، فإنّهم لا يأمنونه عليه. فأعلمهم أنّه على النقلة منها إلى دار عمّته أمّ حبيب بنت الرشيد بعد أن يصلح له ما ينبغي، وبعد أن تحوّل أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له فى دار محمد. فانصرف الناس وسكن أهل بغداد. ولمّا فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرّة بعد مرّة وإسماعهم إيّاه المكروه وتقدّم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنهم وأشيع أنّه يقصد المدائن، فاجتمع إلى بابه مشايخ الحربية والأرباض يعتذرون إليه ويسألونه الصفح ويذكرون أنّ ذلك كان من فعل الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا عليها من الضرّ. فردّ عليهم ردّا جميلا وأثنى عليهم وصفح عمّا كان منهم وتقدّم إليهم بالتقدّم إلى شبابهم وسفهاءهم والأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة وكتب إلى أصحاب المعاون بترك التسخير. وانتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله وصار إلى دار رزق الخادم فى الرصافة فوصل إليها مساء فأمر [405] للفرسان من الجند حين صار إليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 بعشرة دنانير لكلّ فارس وللراجل بخمسة دنانير لكلّ واحد، وركب بركوب المستعين ابن طاهر وبيده الحربة يسير بها بين يديه والقواد خلفه، وأقام مع المستعين ليلة ثمّ انصرف، ولمّا انتقل المستعين اجتمع الناس والقوّاد وبنو هاشم للمصير إلى ابن طاهر والتسليم عليه وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة. فصاروا إليه وحضر الضحى الأكبر من ذلك اليوم، فركب ابن طاهر وجميع قوّاده فى تعبئة وحوله ناشبة رجّالة. فلمّا خرج من داره وقف الناس فعاتبهم ثمّ حلف لهم أنّه ما أضمر لأمير المؤمنين أعزّه الله ولا لولد له ولا لأحد من الناس سوءا وأنّه ما يريد إلّا إصلاح أحوالهم وما تدوم به النعمة عليهم وأنّهم قد توهّموا عليه ما لم يعرفه حتّى أبكى عيون الناس فدعوا له. ثمّ ركب وعبر الجسر فصار إلى المستعين. وذكر أنّ المستعين كان كارها للنقلة عن دار محمد بن عبد الله ولكنّه انتقل من أجل أنّ الناس ركبوا الزواريق بالنفّاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليه فتح الباب وكان يسمع دائما شتم الناس له وتناولهم عرضه بالقبيح. [406] ثمّ إنّ قوما وقفوا بباب الشمّاسية من قبل أبى أحمد فطلبوا ابن طاهر ليكلّموه. فكتب صالح إلى وصيف يعلمه خبر القوم ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فردّ المستعين الأمر فيه إليه وقال: - «إنّ التدبير فى جميع أموره مردود إليه.» فتقدّم فيه محمد بما رأى. ولم يزل بعد ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبد الله بن يحيى يفتلون فى الذروة والغارب ويشيرون على محمد بالصلح. فذكر قوم أنّهم سألوا سعيد بن حميد بعد ذلك بدهر وقالوا: - «ما ينبغي أن يكون محمد إلّا مداهنا وأنّه كان انطوى على غلّ فى أوّل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 أمره.» فقال: «وددت أنّه كان كذلك، لا والله ما هو إلّا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتّى توالت الهزائم عليه.» فأجاب القوم بعد أن كان قد جادّهم. وحكى أحمد بن يحيى النحوي وكان يؤدّب ولد ابن طاهر: أنّ محمد بن عبد الله لم يزل جادّا فى نصرة المستعين حتّى أحفظه عبد الله بن يحيى بن خاقان، فقال له: - «أطال الله بقاءك، إنّ هذا الذي تنصره بجدك وجهدك من أشدّ الناس نفاقا وأخبثهم دينا. والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك فاستعظما [407] ذلك ولم يفعلاه فإن شككت فى ذلك فسل تخبر، ومن ظاهر نفاقه أنّه كان بسرّ من رأى لا يجهر فى صلاته ب: بسم الله الرحمان الرحيم، فلمّا صار إليك جهر بها مراءاة لك، ويترك نصرة وليّك وتربيتك وصهرك.» ونحو ذلك من الكلام. فقال محمد بن عبد الله: - «هذا ما يصلح لدين ولا لدنيا.» فكان أوّل ما صدّ محمدا عن الجدّ فى أمر المستعين. ثمّ ظاهر عبد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد حتّى صرفوه عن رأيه فى نصرة المستعين. وركب محمد بن عبد الله يوما إلى المستعين وحضر عدّة من الفقهاء والقضاة. فقال للمستعين: - «قد كنت فارقتني على أن تنفذ أمرى فى كلّ ما أعزم عليه، ولك عندي بخطّك رقعة بذلك.» فقال المستعين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 - «أحضر الرقعة.» فأحضرها فإذا فيها ذكر الصلح وليس فيها ذكر الخلع. فقال: - «نعم أنفذ الصلح.» فقام ابن الجبلي فقال: - «يا أمير المؤمنين إنّه يسألك أن تخلع قميصا قمّصكه والله عزّ وجل.» وتكلّم قوم وتكلّم علىّ بن يحيى المنجّم فأغلظ لمحمد بن عبد الله فاحتمله ثمّ ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشمّاسية مضرب كبير أحمر وخرج مع مائتي فارس ومائتي راجل إلى المضرب، وجاءه أبو أحمد فخرج إليه ودخل معه المضرب [408] ووقف الجند الذين مع كلّ واحد منهما ناحية. فتناظر ابن طاهر وأبوه أحمد طويلا ثمّ خرجا من المضرب وانصرف ابن طاهر إلى داره فى زلال. ثمّ ركب من داره ومضى إلى المستعين يخبره بما دار بينه وبين أبى أحمد، فأقام عنده إلى العصر ثمّ انصرف. فحكى أنّه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار ويقطع غلّة ثلاثين ألف دينار فى السنة على أن يكون مقامه ببغداد حتّى يحمل له مال يعطى الجند وعلى أن يولى بغا مكّة والمدينة والحجاز ووصيف الجبل، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك. ثمّ ركب ابن طاهر فى ذى الحجّة من هذه السنة ليناظره فى الخلع، فناظره فامتنع عليه، وظنّ المستعين أنّ بغا ووصيفا معه فكاشفاه. فقال المستعين: - «هذه عنقي والسيف [والنطع] [1] .» فلمّا رأى امتناعه انصرف عنه.   [1] . زيادة من الطبري (12: 1641) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلىّ بن يحيى وقوم من ثقاته وقال لهم: - «قولوا: اتّق الله إنّما جئتك لتدفع عنّى فإن لم تدفع عنّى فكفّ عنّى.» فردّ عليه: - «أمّا أنا فأقعد فى بيتي ولكن لا بدّ لك من خلعها طائعا أو مكرها.» وذكر عن علىّ بن يحيى [409] أنّه قال: - «قل له إن خلعتها فلا بأس عليها فو الله لقد تمزّقت تمزّقا لا ترقع أبدا وما تركت فيها فضلا.» إجابة المستعين إلى الخلع فلمّا رأى المستعين ضعف أمره ولم يجد ناصرا أجاب إلى الخلع على شريطة أشياء سألها. ولم يقنع المستعين إلّا بخروج ابن كردية إلى المعتزّ وهو من ولد المنصور وجماعة معه من ثقاته، وكان فى شروطه أن ينزل مدينة الرسول عليه السّلام وأن يكون مضطربه من مكّة إلى المدينة ومن مدينة إلى مكّة. فأجابه إلى ذلك. وكان سبب استجابة المستعين إلى الخلع أنّ وصيفا وبغا وابن طاهر أشاروا عليه بذلك فأغلظ لهم، فقال له وصيف: - «أنت أمرتنا بقتل باغر فصرنا إلى ما نحن فيه وأنت عرّضتنا لقتل أوتامش وقلت إنّ محمدا ليس بناصح فاقتلوه.» فقال محمد: - «وقد قلت إنّ الأمر لا يصلح إلّا بالاستراحة من هذين.» فلمّا اجتمعت كلمتهم أذعن بالخلع. ولمّا كان يوم السبت لعشر بقين من ذى الحجّة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، فأدخلهم إلى المستعين فوجا فوجا وأشهدهم عليه أنّه قد صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثمّ أدخل البوّابين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 والخدم وأخذ منه جوهر الخلافة [410] وأقام عنده حتّى مضى هوّى [1] من الليل وأرجف الناس ضروب الأراجيف. ثمّ بعث ابن طاهر إلى قوّاده فجاء كلّ قائد ومعه عشرة من وجوه أصحابه فأدخلهم إليه ومنّاهم وقال: - «إنّما فعلت ما فعلت طلب صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء.» ثمّ أخرج قوما ثقات إلى المعتزّ، فمضوا إليه بالكتاب الذي فيه شروط المستعين ومحمد، فوقّع فيه المعتزّ بخطّه وأمضى كلّ ما سألاه وشهدوا عليه بإقراره لهما بذلك كلّه، وخلع المعتزّ على الرسل [2] ولم ينظر لهم فى حاجة ولا أطلق لهم جائزة ولم يأمر للجند بشيء. وحمل إلى المستعين أمّه وابناه وعياله، بعد ما فتّش عياله، فأخذ منهم ما كان معهم.   [1] . هوىّ من الليل: هزيع أو قسم منه. [2] . والعبارة فى الطبري (12: 1643) : وخلع المعتزّ على الرسل وقلّدهم سيوفا وانصرفوا بغير جائزة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 خلافة المعتز ّ ثمّ دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين وفيها خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة وبايع المعتزّ محمد بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم فدعى للمعتزّ على منبري بغداد [1] ومسجدى جانبيها الشرقي والغربي، وأخذت البيعة على من كان بها من الجند. فذكر أنّ ابن طاهر دخل على المستعين، ومعه سعيد بن حميد، حين كتب شروط الأمان [411] فقال له: - «يا أمير المؤمنين قد كتب سعيد بن حميد كتاب الشرط ووكّده غاية التوكيد فيقرأه عليك وتسمعه.» فقال له المستعين: - «لا عليك إلّا توكّده يا با العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، وقد وكّدت على نفسك قبلهم، فكان ما قد علمت.» فما ردّ عليه محمد شيئا. ولمّا بايع المستعين المعتزّ نقل من الرّصافة إلى قصر الحسن ووكّل به   [1] . فى الأصل: بغداد (بإعجام الأخير) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وأخذ منه البردة والخاتم والقضيب ووجّه بها مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه كتابا من محمد، نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله متمّم النعم والهادي إلى شكره وصلّى الله على محمد عبده ورسوله الذي جمع له من الفضل ما فرّقه فى الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصّه بخلافته وسلّم تسليما. كتابي إلى أمير المؤمنين، وقد تمّم الله له أمره وتسلّمت تراث رسول الله صلى الله عليه ممّن كان عنده وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده.» ومنع المستعين الخروج إلى مكّة فاختار البصرة فنزلها. واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل وخلع عليه ووضع على رأسه تاجا، وشخص أبو أحمد إلى سرّ من رأى [412] من معسكره وشيّعه محمد بن عبد الله، وخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا ورجع من الروذبار. ولمّا وصل أبو أحمد إلى سرّ من رأى خلع عليه ستّ خلع وسيف وتوّج بتاج وقلنسوة مجوهرة ووشّح بوشاحى ذهب مجوهر وقلّد سيفا آخر مرصّعا بالجوهر وأجلس على كرسىّ وخلع على القوّاد الذين كانوا معه. وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله أن يسقط وصيف وبغا ومن برسمهما من الدواوين. وتكلّم أبو أحمد بن المتوكّل فى قتلهما وخاطب محمد بن أبى عون فى ذلك فوعده بقتلهما، فكوتب وصيف وبغا بالخبر فركبا إلى ابن طاهر وقالا: - «قد بلغنا أيّها الأمير ما ضمنه ابن أبى عون من قتلنا والقوم قد غدروا، وو الله لو أرادوا قتلنا ما قدروا عليه.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 فحلف محمد لهما أنّه ما علم بشيء من ذلك. وتكلّم بغا بكلام شديد ووصيف يكفّه. ثمّ نهضا وأخذا فى الاستعداد وشرى السلاح وتفرقة الأموال. وكان وصيف وجّه أخته فأخرجت من قصر أخيها وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه. فدفعتها إلى المؤيّد فكلّم المؤيّد المعتزّ فى الرضا عن وصيف، فكتب بالرضا عنه. وتكلّم أبو أحمد [413] فى الرضا عن بغا. ثمّ اجتمع الأتراك على المعتزّ فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا: - «هما كبيرانا ورئيسانا.» فكتب إليهما بذلك، فلمّا صار إلى سرّ من رأى اجتمع الموالي، وسألوا ردّهما إلى مراتبهما، فأجيبوا الى ذلك وبعث إليهما فخلع عليهما خلع المرتبة ورتّبا فى مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد وأمر بردّ ضياعهما. وفى هذه السنة شغب الجند على محمد بن عبد الله بن طاهر، وطالبوا بأرزاقهم وعظم الخطب فى ذلك حتّى خرجوا إلى باب حرب وباب الشمّاسية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا المضارب والخيم، وبنوا بيوتا من بوارىّ وقصب، وجمع ابن طاهر أصحابه فبيّتهم فى داره. فلمّا كان يوم الجمعة اجتمعوا وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى المسجد الجامع فيمنعوه من الدعاء للمعتزّ. فأعلمهم جعفر أنّه لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه وصاروا إلى الشارع النافذ إلى دار الرقيق ثمّ قصدوا الجسر. فوجّه إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جماعة من القوّاد والجند ليناظروهم ويدفعوهم دفعا رفيقا. فحملوا عليهم وجرحوا منهم جماعة وجرحوا أبا السنا [414] وكبّروا وصاروا إلى دار ابن طاهر فقوتلوا، وقتل من الفريقين جماعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 وصار جماعة من الغوغاء إلى مجلس الشرطة، فكسروا بيت الرفوع وانتهبوا ما فيه، وكان هناك أصناف من المتاع، كبير جليل [1] ، وأحرق محمد بن طاهر الجسرين لمّا رأى الجند يعبرون وقد ظهروا على أصحابه وضرب عدّة من الحوانيت بالنار للتجّار فيها متاع كثير لهم، فحالت النار بين الفريقين، وانصرف القوم إلى مضاربهم بباب حرب والشمّاسية. وانضمّ إلى ابن طاهر جماعة وعاد إليه قوم من المشغّبة وعبّأهم تعبئة الحروب خوفا من كثرة الجند، فلم تكن لهم عودة، وتلطّف القوّاد فى التضريب بينهم، حتّى تفرّقوا وصاروا إلى منازلهم. خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد وفى رجب من هذه السنة خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد بعده. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ عامل أرمينية وأذربيجان، وهو العلاء بن أحمد، بعث إلى إبراهيم بن المتوكّل المؤيّد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره. فبعث ابن فرّخان شاه إليها [415] فأخذها. فأغرى المؤيّد الأتراك بعيسى بن فرّخانشاه، فشكا ذلك إلى المعتزّ وعرّفه الحال. فبعث المعتزّ إلى أخويه المؤيّد وأبى أحمد فحبسهما فى الجوسق، وقيّد المؤيّد وصيّره فى حجرة ضيّقة وأدرّ العطاء للأتراك والمغاربة وحبس كنجور صاحب [2] المؤيّد، وتوفّى إبراهيم المؤيّد.   [1] . كذا فى الأصل: كبير جليل. فى آ: كثير جليل. وليست العبارة موجودة فى الطبري (11: 1665) . [2] . فى الطبري (12: 1668) : حاجب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 ذكر سبب وفاة المؤيّد ذكر أنّ امرأة من نساء الأتراك [1] جاءت إلى محمد بن راشد المغربىّ، فأخبرته أنّ الأتراك يريدون إخراج المؤيّد من الحبس فركب محمد بن راشد إلى المعتزّ، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا وسأله فأنكر وقال: - «يا أمير المؤمنين إنّما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكّل لأنسهم كان به فى الحرب التي كانت، فأمّا المؤيّد فلا.» فلمّا كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب، دعا بالقضاة والفقهاء والوجوه فأخرج إليهم إبراهيم المؤيّد ميتا لا أثر به ولا جرح. فذكر أنّه أدرج فى لحاف سمّور، ثمّ أمسك طرفاه حتّى مات. وقيل: إنّه أجلس على الثلج ونضّدت حجارة الثلج عليه، فجمد بردا. وفى شوّال منها قتل المستعين ذكر السبب فى قتله [416] اختلف فى قتله. [2] فقال قوم: كوتب محمد بن عبد الله بتسليم المستعين إلى منصور بن حمزة وهو على واسط، ثمّ وجّه أحمد بن طولون التركىّ فى جيش فوافى به القاطول. وقيل بل كان أحمد بن طولون موكّلا بالمستعين، فوجّه سعيد بن صالح فى حمله فصار إليه سعيد فحمله. فيقال: إنّه قتله سعيد بالقاطول. ويقال: بل حمله سعيد إلى منزله بسرّ من رأى فعذّبه حتّى مات. ويقال: بل غرّقه، ويقال: بل قتله. وأتى المعتزّ برأسه وهو يلعب بالشطرنج فقيل:   [1] . انظر الطبري (12: 1669) . [2] . انظر الطبري (12: 1670) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 - «هذا رأس المخلوع.» فقال: «ضعوه هناك.» ثمّ فرغ من لعبه فدعا به فنظر إليه ثمّ أمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسة آلاف درهم وولّاه معونة البصرة. وفى هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة ذكر السبب فى ذلك كانت الأتراك وثبت على عيسى بن فرّخانشاه فتناولوه بالضرب وأخذوا دوابّه. فاجتمعت المغاربة وتكلّمت ورئيسهم محمد بن راشد ونصر بن سعيد. فقالوا: - «فى كلّ يوم تقتلون خليفة وتخلعون خليفة وتقتلون وزيرا وتثبون بآخر.» [1] [417] فغلبوا الأتراك على الجوسق وأخرجوهم منه. ثمّ وثبوا على بيت المال، وأخذوا دوابّ للأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم. فالتقوا مع المغاربة وتقاتلوا، فقتل من المغاربة رجل واحد وأخذت المغاربة قاتله وأعانت العامّة المغاربة. فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين فاصطلحوا على أن يكون فى كلّ موضع يكون فيه واحد من قبل أحد الفريقين يكون معه آخر من الفريق الآخر. فمكثوا على ذلك مدة مديدة [2] ثمّ اجتمع الأتراك إلى بايكباك فقالوا: - «نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فليس ينطق أحد.» يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد. فبلغ أمر الأتراك هذين، فصارا   [1] . فى آ: وتثبتون آخر. [2] . فى الأصل: مدّيدة! وهو إمّا سهو من الكاتب، أو بحذف الموصوف: «مدة» . فى آ: مديدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 إلى محمد بن عزّون فغمز بهما إلى بايكباك رجل، وقيل: بل كان ابن عزّون هو الذي دسّ إلى الأتراك من دلّهم عليها فقتلوهما. وبلغ ذلك المعتزّ من فعل ابن عزّون، فهمّ بقتله. ثمّ كلّم فيه فنفاه إلى بغداد ثمّ خاف فخرج إلى ضيعة له بالكوفة لها حصن. فوافاه فيها الأعراب فقتلوه. وذكر أنّ أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدّرت فى هذه السنة، فكان مبلغ [418] ما يحتاجون إليه فى السنة مائتي ألف ألف دينار وذلك خراج المملكة لسنتين. ودخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين وفيها عقد المعتزّ فى اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل لحرب عبد العزيز بن أبى دلف، ومع موسى يومئذ من الأتراك ومن يجرى مجراهم ألفان وأربعمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائة وثلاثون رجلا. فأوقع مفلح- وهو على مقدّمة موسى بن بغا- بعبد العزيز بن أبى دلف لثمان بقين من رجب من هذه السنة، وعبد العزيز فى زهاء عشرين ألفا. وكانت الوقعة بينهما خارج همذان، فهزمه مفلح ثلاث فراسخ يقتلون ويأسرون. ثمّ رجع مفلح موفورا بمن معه وكتب بالفتح. فلمّا كان فى شهر رمضان عبّأ مفلح خيله وتوجّه نحو الكرج [1] ، ووجّه عبد العزيز عسكرا فى أربعة آلاف. وكمن مفلح كمينين، فقاتلهم مفلح وخرج الكمينان فانهزم أصحاب عبد العزيز ووضع فيهم السيف. وأقبل عبد العزيز   [1] . كرج: قرية فى ناحية روزراور بالقرب من همذان من نواحي الجبال بين همذان ونهاوند. وهذه كرج أبى دلف، لأنّه مصّرها واستوطنها. كرج دلان: من قرى الرّىّ. كرج، وأهلها يسمّونها «كره» : وهذه فى رستاق يقال له «فاتق» عرّب عن «هفته» ، فيض من احدى كورتى أصفهان (مراصد الإطلاع- بتصرّف) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 فى جيش ليعين أصحابه، فانهزم بانهزامهم [419] وترك الكرج ومضى إلى قلعة له فى جبل الكرج يقال لها: الزر [1] ، ونزل مفلح الكرج وأخذ جماعة من آل أبى دلف ونساء من نساءهم. فذكر أنّه وجّه سبعين حملا من الرؤوس إلى سرّ من رأى، وأعلاما كثيرة. وفى هذه السنة قتل وصيف التركىّ ذكر الخبر عن ذلك كان الأتراك والفراغنة شغّبوا. وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر. فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشاربى فى نحو مائة إنسان، فكلّمهم وصيف وقال: - «ما تريدون.» قالوا: «أرزاقنا.» فقال: «خذوا ترابا، وهل عندنا مال؟» فقال لهم بغا: - «نعم نسأل أمير المؤمنين ذلك، ثمّ ينصرف عنكم من ليس منكم، ونتناظر فى دار أشناس.» فدخلوا إلى أشناس، ومضى سيما منصرفا إلى سرّ من رأى وتبعه بغا لاستئمار الخليفة فى إعطاءهم، وصار وصيف فى أيديهم. فضرب ضربتين بالسيف واحتمله نوشرى وهو أحد قوّاده إلى منزله، ثمّ أبطأ عليهم. فظنّوا أنّه فى التعبئة عليهم وقصدهم. فاستخرجوه من منزل نوشرى وضربوه بالطبرزينات حتّى كسروا عضديه. ثمّ ضربوا عنقه [420] ونصبوا رأسه على محراك تنّور، وقصدت العامّة بسرّ من رأى لانتهاب منازل وصيف وولده،   [1] . فى الطبري (12: 1687) : دز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 فرجع بنو وصيف فمنعوا منازلهم. وجعل المعتزّ ما كان إليه، إلى بغا الشرابي. وفى هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر، ليلة كسوف القمر، وذلك لثلاث عشرة خلت من ذى القعدة، غرق القمر كلّه، ومات محمد مع انتهاء غرقه. وكانت علّته من قروح ذبحته فى حلقه. انهزام الكوكبى ّ وفيها لقى موسى بن بغا بقزوين الكوكبيّ الطالبىّ على فرسخ من قزوين، فهزمه، ولحق الكوكبي بالديلم. ذكر الخبر عن ذلك كان أصحاب الكوكبي من الديلم أقاموا تراسهم فى وجوههم. فلمّا نظر موسى ورأى سهام أصحابه لا تصل إليها أمر بما معه من النفط، فصبّ فى الأرض على حشيش كان هناك. ثمّ أمر أصحابه بالاستطراد لهم. فلمّا فعلوا ذلك ظنّ الكوكبي وأصحابه أنّهم قد انهزموا فتبعوهم، فلمّا علم موسى أنّهم قد توسّطوا النفط أمر بالنار فأشعلت فأحدقت النار فيه، وخرجت من تحت أقدامهم، فجعلت تحرقهم وهرب [421] الباقون، فصارت هزيمة، ودخل موسى قزوين. ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين وفيها كان مقتل بغا الشرابىّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 ذكر مقتل بغا الشرابى ّ كان بغا يحضّ المعتزّ على المصير إلى بغداد والمعتزّ يأبى ذلك. ثمّ انّ بغا اشتغل مع صالح بن وصيف فى خاصّته لعرس جمعة بنت بغا وكان صالح بن وصيف تزوّجها. فركب المعتزّ ليلا ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سرّ من رأى يريد بايكباك ومن كان على رأيه فى الانحراف عن بغا مستخفيا منه. فلمّا وافى المعتزّ بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ والدور، ثمّ أقبلوا مع المعتزّ إلى الجوسق [1] بسرّ من رأى، وبلغ ذلك بغا فخرج فى غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقوّاده. فصار إلى نهر نيزك ثمّ تنقّل إلى مواضع، ثمّ صار إلى السنّ ومعه من العين تسع عشرة بدرة ومائة بدرة دراهم أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها يسيرا إلى أن قتل. ولمّا بلغه أنّ المعتزّ قد صار إلى الكرخ مع أحمد بن إسرائيل، خرج فى خاصّته [422] إلى تلّ عكبر [2] ، ثمّ مضى إلى السنّ فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنّهم لم يخرجوا معهم مضارب ولا ما يتدثّرون به من البرد وإنّهم فى شتاء. وكان بغا فى مضرب له صغير على دجلة فكان يكون فيه، فأتاه أساتكين فقال: - «أصلح الله الأمير، قد تكلّم أهل العسكر وخاضوا فى كذا وأنا رسولهم إليك.» فقال: «كلّهم يقولون مثل قولك؟» قال: «نعم وإن شئت فابعث إليهم حتّى يقولوا مثل قولي.»   [1] . الجوسق: فارسىّ معرّب. أصله بالفارسيّة: كوشك، أى القصر. [2] . كذا فى الأصل وآ ومط: عكبر. فى الطبري (12: 1695) : عكبراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 قال: «دعني حتّى أنظر ويخرج إليكم أمرى بالغداة.» فلمّا جنّه الليل دعا بزورق فركبه مع خادمين معه وحمل معه شيئا من المال ولم يحمل معه سلاحا ولا سكّينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتزّ فى غيبة بغا لا ينام إلّا فى ثيابه وعليه السلاح ولا يشرب نبيذا وجميع جواريه على رجل. فصار بغا إلى الجسر فى الثلث الأوّل. فلمّا قرب الزورق من الجسر بعث الموكلون به من ينظر من فى الزورق. ثمّ صاحوا بالغلام فرجع إليهم وخرج بغا فى البستان الخاقاني، فلحقه عدّة منهم، فوقف لهم وقال: - «أنا بغا.» ولحقه وليد المغربىّ فقال له: - «ما لك جعلت فداك؟» [423] قال: «إمّا أن تذهب بى إلى منزل صالح بن وصيف وإمّا أن تصيروا معى حتّى أحسن إليكم.» فوكّل به وليد المغربي، ثمّ مرّ يركض إلى الجوسق فاستأذن على المعتزّ، فأذن له فقال: - «يا سيدي هذا بغا قد أخذته وقد وكّلت به.» قال: «ويلك جئني برأسه.» فرجع الوليد إليه فقال للموكّلين: - «تنحّوا عنّى حتّى أبلغه الرسالة.» وضربه ضربة على جبهته ثمّ على يده فقطعها. ثمّ ضربه حتّى صرعه وذبحه وحمل رأسه فى بركة [1] قبائه، وأتى به المعتزّ، فوهب له عشرة آلاف   [1] . كذا فى الأصل وآ والطبري (12: 1694) : بركة. فى مط: تركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 دينار، وخلع عليه. ونصب رأس بغا بسرّ من رأى ثمّ ببغداد، ووثبت العامّة على جسده فأحرقوه بالنار. وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد جعل مكان محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّته، فتتبع بنيه وكانوا صاروا إليها هرّابا مع قوم يثقون بهم. فأثارهم وحبس قوما فى المطبق وقوما فى قصر الذهب، وكان سبب انحدار بغا إلى سرّ من رأى مستترا أنّه أشير عليه أن يصير إلى دار صالح بن وصيف، فإذا قرب العيد دخل أهل العسكر وخرج هو وأصحابه فوثبوا بالمعتزّ. وفى هذه السنة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبى دلف العجلى بتوجيه والده [424] عبد العزيز إيّاه، فجبى منها ومن جنديسابور وتستر مائتي ألف دينار وانصرف. ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين وفيها دخل مفلح طبرستان وواقع الحسن بن زيد الطالبىّ، فهزم مفلح الحسن فلحق بالديلم فى طلب الحسن بن زيد. وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس وفيها كانت بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس وقعة خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا. [1]   [1] . انظر الطبري (12: 1698) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ علىّ بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان، وكان قبل من عمّال آل طاهر، ثمّ كتب إلى السلطان يذكر ضعف آل طاهر وقلّة ضبطهم ما إليهم من البلاد، وأنّ يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس. فكتب السلطان إليه بولايته كرمان وكتب أيضا إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كلّ واحد منهما بصاحبه لتسقط مؤونة الهالك منهما عنه ويتفرّد بمؤونة الآخر، إذ كان كلّ واحد منهما عنده حربا له وفى غير طاعته. [425] فلمّا فعل ذلك بهما زحف يعقوب من سجستان يريد كرمان ووجّه علىّ بن الحسين طوق بن المغلّس وقد بلغه خبر يعقوب وفصوله من سجستان. فصار من كرمان على مرحلة وبقي فى معسكره ذلك شهرا أو أكثر يتجسّس أخبار طوق ويسأل عن أمره كلّ من مرّ به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز بعسكره من ناحيته إلى كرمان. فلا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق. ثمّ أظهر يعقوب الارتحال عن عسكره إلى ناحية سجستان فارتحل عنه مرحلة وبلغ طوقا ارتحاله. فظنّ أنّه قد بدا له فى حربه وترك عليه كرمان وعلى علىّ بن الحسين، فوضع آلة الحرب وقصّر وقعد للشرب ودعا بالملاهي ويعقوب فى كلّ ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره. فاتّصل به وضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشرب واللهو لارتحاله، فكرّ راجعا وطوى المرحلتين إليه فى يوم واحد فلم يشعر طوق وهو فى لهوه وشربه فى آخر يومه إلّا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان. فقال لأهل القرية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 - «ما هذه الغبرة.» فقيل: «هذه غبرة مواشى أهل القرية منصرفة إلى أهلها.» ثمّ لم يكن إلّا كلّا ولا [1] حتّى [426] وافاه يعقوب فى أصحابه فأحاط به وبأصحابه. فذهب أصحاب طوق لمّا أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم. فقال يعقوب لأصحابه: - «أفرجوا عن القوم.» فأفرجوا لهم فمرّوا هاربين على وجوههم وخلّوا كلّ شيء لهم، وأسر يعقوب طوقا. وكان علىّ بن الحسين وجّه طوقا وحمّله صناديق فى بعضها أطوقة وأسورة وفى بعضها أموال وفى بعضها قيود وأغلال ليطوّق ويجوّز ويسوّر من أبلى وأحسن وليقيّد من أسر وأخذ من أصحاب يعقوب. فلمّا أسر يعقوب طوقا ورؤساء جيشه أمر بحيازة كلّ من كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كلّه وجمع إليه. فلمّا أتى بالصناديق أمر بفتح بعضها فإذا فيه قيود وأغلال فقال لطوق: - «يا طوق ما هذه القيود والأغلال؟» قال: «حمّلنيها علىّ بن الحسين على رسم العساكر لأقيّد بها الأسرى وأغلّهم.» فقال يعقوب: «يا فلان اجعل أكبرها وأثقلها فى رجل طوق وعنقه، والباقية فى أرجل أصحابه وأعناقهم.» ولم يزل يفتح الباقية من الصناديق حتّى فتحت صناديق الأطواق والأسورة فقال: - «يا طوق ما هذه؟»   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (12: 1700) : إلّا كلّا ولا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 قال: «حمّلنيها علىّ [427] لأطوّق وأسوّر أهل البلاء والإحسان.» فقال: «يا فلان خذ هذه الأطواق والأسورة فطوّق فلانا وسوّره، وفلانا وفلانا.» حتّى فرّق تلك الأطواق كلّها ثمّ نظر إلى ذراع طوق وعليها عصابة فقال: - «يا طوق ما هذا؟» قال: «أصلح الله الأمير، كنت وجدت حرارة ففصدت.» فدعا يعقوب بعض من معه فأمر بمدّ خفّه، فتناثر من خفّه كسر خبز يابسة فقال: - «يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلي منذ شهر وكسر خبزى فى خفّى، ما وطأت فراشي ولا تودعت وأنت جالس فى الشرب والملاهي. أفبهذا التدبير أردت حربى وقتالي.» ثمّ دخل يعقوب كرمان فحازها وصارت من عمله مع سجستان. دخول يعقوب بن الليث فارس وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس فملكها وأسر علىّ بن الحسين بن قريش. ذكر الخبر عن ذلك ورد على علىّ بن الحسين خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق بن المغلّس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها ورجع أهل الفلّ. فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس وعلىّ يومئذ بشيراز من أرض فارس. فضمّ إليه جيشه والفلّ وغيرهم [428] وأعطاهم السلاح ثمّ برز من شيراز فصار إلى الكرّ خارج شيراز بين آخر طرقه عرضا ممّا يلي أرض شيراز وبين عرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 جبل بها من الفضاء، قدر ممرّ رجل أو دابّة، لا يمكن أن يمرّ فيه أكثر من واحد من ضيقه. فأقام فى ذلك الموضع وضرب عسكره على شاطئ الكرّ ممّا يلي شيراز، وأخرج معه السوقة والتجّار من مدينة شيراز إلى معسكره وقال: - «إن جاء يعقوب لم يجد موضعا يجوز فيه الفلاة إلينا لأنّه لا طريق له إلّا ذلك الفضاء الذي بين الجبل والكرّ وإنّما هو ممرّ رجل إذا قام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه وإذا لم يقدر أن يجوز إلينا بقي فى البرّ بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابّهم.» فأقبل يعقوب حتّى قرب من الكرّ، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو ميل من الكرّ ممّا يلي كرمان. ثمّ أقبل هو وحده بيده رمح عشاري، ما معه إلّا رجل واحد. فنظر إلى الكرّ والجبل والطريق، وتأمّل عسكر علىّ بن الحسين، فجعل أصحاب علىّ يشتمونه ويقولون: - «لنردنّك إلى تشعيب [1] القماقم والمراجل يا صفّار.» وهو ساكت لا يردّ عليهم شيئا. فلمّا تأمّل كلّ ما أراد [429] ورآه انصرف راجعا إلى أصحابه. فلمّا كان من الغد عند الظهر أقبل بعسكره ورجاله حتّى صار إلى شاطئ الكرّ ممّا يلي برّ كرمان فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابّهم وحطّوا أثقالهم. ثمّ فتح صندوقا كان معه والناس ينظرون إليه فأخرجوا منه كلبا ذئبيّا، ثمّ ركبوا دوابّهم أعراء وأخذوا رماحهم بأيديهم. قال: وقيل ذلك ما قد عبّأ علىّ بن الحسين أصحابه وأقاموا صفوفا على الممرّ الذي بين الجبل والكرّ، وهم يرون أنّه لا سبيل ليعقوب ولا طريق له يمكنه أن يحوزه غيره، ثمّ جاءوا   [1] . فى الطبري (12: 1703) : إلى شعب المراجل. التشعيب والشعب: الإصلاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 بالكلب فرموا به فى الكرّ وأصحاب علىّ ينظرون إليه ويضحكون منه ومنهم. فلمّا رموا بالكلب فيه جعل الكلب يسبح فى الماء إلى جانب عسكر علىّ بن الحسين، واقتحم أصحاب يعقوب دوابّهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم يسيرون فى أثر الكلب. فلمّا رأى علىّ بن الحسين أنّ يعقوب قد قطع عامّة الكرّ إليه انتقض عليه تدبيره وتحيّر فى أمره. ولم يلبث أصحاب يعقوب إلّا أيسر ذلك حتّى خرجوا من الكرّ من وراء أصحاب علىّ بن الحسين. فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتّى هرب أصحاب علىّ يطلبون [430] الهرب إلى مدينة شيراز. لأنّهم كانوا إذا خرج أصحاب يعقوب من الكرّ بين جيش يعقوب وبين الكرّ، فلا يجدون ملجأ. فلمّا أن هزموا تقطّر بعلىّ دابّته فسقط إلى الأرض، ولحقه بعض السجزية، فرفع عليه سيفه ليضربه فصاح عليه غلام لعلىّ: - «الأمير، الأمير.» فنزل إليه السجزىّ فوضع عمامته فى عنقه، ثمّ جرّه إلى يعقوب. فلمّا أتى به أمر بتقييده وأمر بما كان فى عسكر علىّ من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه. ثمّ أقام بموضعه حتّى أمسى وهجم عليه الليل. ثمّ رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرّك أحد. فلمّا أصبح أنهب أصحابه دار علىّ بن الحسين ودور أصحابه، ثمّ نظر إلى ما اجتمع فى بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج فجباه. ثمّ شخص متوجّها إلى سجستان وحمل معه علىّ بن الحسين بن قريش ومن أسر معه من قوّاده. ووجّه يعقوب بن الليث إلى المعتزّ بدوابّ وبزاة ومسك وثياب هدية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 وفيها ورد سليمان بن عبد الله بن طاهر [431] سرّ من رأى من خراسان ودخل على المعتزّ، فخلع عليه وانصرف، ثمّ ولّاه شرطة بغداد والسواد. وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وهرب أحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد، فاستخفى عند كاتب له يقال له: ابن واضح، فقيّدهم وطالبهم بالأموال. ذكر السبب فى ذلك كان هؤلاء الكتّاب اجتمعوا على شراب لهم يوم الأربعاء. فلمّا كان من الغد ركب أحمد بن إسرائيل فى جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة [1] أمّ المعتزّ وهو كاتبها. وحضر أبو نوح الدار والمعتزّ نائم. فانتبه قريبا من نصف النهار وأذن لهم. فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل فى الكلام فقال للمعتزّ: - «يا أمير المؤمنين ليس للأتراك عطاء ولا فى بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا.» فقال له أحمد: - «يا عاصي بن العاصي.» وتراجعا الكلام. وكان الأتراك قد شغبوا قبل ذلك وطلبوا أرزاقهم. فقال أبو نوح لصالح عند مراجعته أحمد بن إسرائيل وقول أحمد: يا عاصي بن العاصي: - «هذا الشغب أيضا تدبيرك على الخليفة.» فغشى على صالح وسقط [432] إلى الأرض ممّا داخله من الغيظ   [1] . تسمية باسم الضّدّ، كما سيأتي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 والغضب، حتّى رشّوا على وجهه الماء وأفاق، وجرى بينهم كلام كثير وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب. فصاحوا صيحة واحدة واخترطوا سيوفهم ودخلوا على المعتزّ مصلتين فلمّا رأى ذلك المعتزّ دخل وتركهم فأخذ صالح ابن وصيف بن إسرائيل وابن مخلد وأبا نوح عيسى فقيّدهم وثقّلهم بالحديد وحملهم إلى داره. فقال المعتزّ لصالح قبل أن يحملهم: - «هب لى أحمد، فانّه كاتبي وهو ربّانى.» فلم يفعل ذلك صالح ثمّ ضرب ابن إسرائيل حتّى كسرت أسنانه وبطح ابن مخلد فضرب مائة مقرعة. وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل يصفع حتّى جرت الدماء من محاجمه وأخذت خطوطهم بمال جليل قسّط [1] عليهم. وبعث المعتزّ إلى أبى عبد الله بن محمد بن يزداذ المروزي فحمل ليستوزره. وبعثت قبيحة أمّ المعتزّ إلى صالح بن وصيف فى ابن إسرائيل: - «إمّا حملته إلى المعتزّ وإمّا ركبت إليك فيه.» ثمّ قدم جعفر بن محمود ومال إليه الأتراك، ولم يكن للمعتزّ فيه أرب فولى الأمر والنهى. خلع المعتزّ وموته ولثلاث بقين من رجب خلع المعتزّ ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته. [2] [433]   [1] . كذا فى الأصل والطبري (2: 1707) : قسّط. فى مط: فسقط عليهم. [2] . وزاد فى الأصل وآ: «وكان السبب فى خلعه» فحذفناه، لأنّ العنوان الأنسب يأتى بعده، وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 ذكر سبب خلعه لمّا جرى فى أمر الكتاب وأمر الأتراك ما جرى، لم يرتفع من حصّتهم ما ظنّه الأتراك وتقاعد بهم الكتاب فصاروا إلى المعتزّ يطلبون أرزاقهم. وقال الأتراك: - «وفّنا أرزاقنا حتّى نقتل لك صالح بن وصيف وينتظم أمرك.» فأرسل المعتزّ إلى أمّه يطلب منها مالا يرضى به الأتراك فقالت: - «ما عندي مال.» فلمّا نظر الأتراك إلى امتناع الكتّاب من أن يعطوهم شيئا ولم يجدوا فى بيوت المال شيئا والمعتزّ وأمّه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمتهم واحدة وكلمة الفراغنة والمغاربة معهم، فاجتمعوا على خلع المعتزّ. فصاروا إليه، فلم يرعه إلّا صياح القوم، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا أبو نصر قد دخلوا فى السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتزّ. ثمّ بعثوا إليه: - «اخرج إلينا.» فبعث إليهم: - «إنّى أخذت أمس دواء وقد أخلفنى اثنى [1] عشر مجلسا، وما أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان لا بدّ منه، فليدخل إلىّ بعضكم وليعلمني.» وهو يرى أنّ أمره واقف على حاله. فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور [434] من خلفاء القوّاد، فجرّوا   [ () ] حذفناه غير موجود فى مط. [1] . فى الأصل: اثنا عشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 برجله إلى باب الحجرة. قال: وأحسب أنّهم تناولوه بالضرب. فإنّه خرج وقميصه مخرّق فى مواضع وآثار الدم على منكبه. فأقاموه فى الشمس فى الدار فى وقت شدّة الحرّ. فجعل يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. ثمّ قام بعضهم إليه وجعل يلطمه وهو يتّقى بيده. وقالوا له: - «اخلعها.» وكان الأتراك قبل مكاشفته التمسوا منه خمسين ألف دينار ليقتلوا صالح بن وصيف ويستقيم أمره. فطلب من أمّه قبيحة هذا المقدار، فتنحّت عليه به ومنعته وقالت: - «ليس عندي مال.» ثمّ وجد لها من المال الصامت من العين والجوهر ثلاثة آلاف دينار سوى الآلات وسنذكر بعض ذلك فى المستأنف. وكانت قبيحة حظيّه المتوكّل، وسمّيت قبيحة لحسنها على طريق الضدّ. ويقال: أنّه لم ير مثلها حسنا. ثمّ إنّ الأتراك أحضروا ابن أبى الشوارب مع جماعة من أصحابه. فقال له صالح: - «اكتب عليه كتاب الخلع.» - يعنى المعتزّ. فقال: «لا أحسنه.» وكان معه رجل إصبهانى فقال: - «أنا أكتب ويتخلّص الرجل.» فكتب وشهدوا عليه. فقال ابن أبى الشوارب: - «إنّهم شهدوا [435] على أنّ له ولأخيه ولابنه وأمّه الأمان.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 فقال صالح بكفّه: - «أى نعم.» ووكّلوا به وبأمّه نساء، وكانت أمّه قد اتخذت فى الدار سربا تنفذ إلى حيث تأمن وتخرج منه، فدخلت السرب وفرّت هي وأخت المعتزّ. ثمّ عذّب المعتزّ بعد الخلع، فلم يوجد له شيء. فمنعه المعذّب الطعام والشراب ثلاثة أيّام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه. ثمّ جصّصوا له سردابا بالجصّ الثخين [1] وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميّتا. فكانت خلافته أربع سنين وستّة أشهر وأربعة عشر يوما وكان عمره كلّه أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين، ضيّق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلا.   [1] . كذا فى الأصل وآ ومط والطبري (12: 1711) : الثخين (بالثاء المثلثة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 خلافة المهتدى بالله ابن الواثق وفى يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع محمد بن الواثق وسمّى المهتدى بالله، وكنيته أبو عبد الله. ولم يقبل بيعة أحد حتّى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون فى هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم [436] وأشهدهم على نفسه فى صحّة من عقله وبدنه وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه. فأخرج نفسه من الخلافة وبرّأ منها وخلع نفسه وبرّأ [1] كلّ من كانت له فى عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له فى رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم فى سعة منه فى الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين فى خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها. وأشهد على نفسه بجميع ما فى هذا الكتاب جميع الشهود من   [1] . فى مط: تبرّأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 حضر بعد أن قرأ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره. وذلك يوم الإثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين.» فوقّع المعتزّ فى ذلك. أقرّ أبو عبد الله بجميع ما فى هذا الكتاب وكتب بخطّه. وكتب محمد بن الواثق المهتدى بالله إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام، أنّ الناس [437] قد بايعوه. وكان هناك أبو أحمد بن المتوكّل، فبعث سليمان إليه فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بالخبر، فاجتمعوا إلى باب سليمان وضجّوا فخوطبوا أنّه لم يرد علينا خبر نثق به. فانصرفوا إلى يوم الجمعة وخطبوا للمعتزّ. فلمّا كان يوم السبت اجتمعوا وهجموا على دار سليمان فى داره وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكّل فأظهره لهم. ثمّ وعدهم أن يصير إلى محبّتهم إن تأخّر عنهم ما يحبّونه فأكّدوا عليه فى حفظه وانصرفوا عنه. ثمّ قدم بارجوخ ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند. فضجّ الناس ورجع بارجوخ ووقعت الفتنة والعصبية ببغداد، وقصد دار سليمان وكان قد شحنها بمن يحفظها. فحاربهم أهل بغداد فى شارع دجلة وعلى الجسر، فقتل خلق وغرق خلق. ثمّ وجّه إلى بغداد مال رضوا به، وبايع الناس واستقامت الأمور وسكنت الفتنة. وفى شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة ودلّت على الأموال التي لها والذخائر والجواهر. ذكر سبب ظهور قبيحة [438] كانت قبيحة قدّرت الفتك بصالح بن وصيف وواطأت على ذلك النفر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 الكبار الذين أوقع بهم صالح. فلمّا حصلوا فى يد صالح وعذّبوا، علمت أنهم لا يطوون عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم به من العذاب. فأيقنت بالهلاك وكانت قد أطلعت الكتّاب على ما تبذله فى قتل أولئك الأتراك فعملت فى التخلّص. فبادرت إلى صالح بن وصيف ووسّطت بينها وبينه العطّارة وكانت تثق بها وكان لها مال ببغداد. فكتبت فى حمله فاستخرج وحمل قدر خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار ووقعوا على خزائن لها ببغداد، فحمل إلى السلطان منها متاع عظيم. ولم تزل خزائنها وأموالها متصلة والبيع منها دائما وحوالة الجند عليها ببغداد وسرّ من رأى عدّة شهور. ثمّ وقف صالح على خزانة قبيحة فأرسل إلى رجل جوهرى قال الرجل: فدخلت إليه فقال: - «إنّ لقبيحة [1] خزانة فى موضع يرشدك إليها هذا. فامض ومعك أحمد بن خاقان وصر إلىّ معه.» قال: فمضينا إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع وجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة فدخلناها وفتّشنا كل موضع [439] فيها فلم نجد شيئا. وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان ويتهدّد الرجل ويتوعّده ويشتمه. فأخذ الرجل فأسا وجعل ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد صيّر فيه المال. فلم يزل كذلك حتّى وقع الفأس على موضع من الحائط استدلّ بصوته على أنّ فيه شيئا. فهدمه وإذا من ورائه باب ففتحناه ودخلنا فأدّانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها. فوجدنا من المال على رفوف فى أسفاط ألف ألف دينار. فأخذ أحمد ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار.   [1] . انظر الطبري (12: 1715) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكّوك زمرّدا لم أر للمتوكّل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه نصف ملوك حبّا كبارا ما ظننت والله أنّ مثله يكون، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوتا أحمر لم أر مثله ولا ظننت أنّ مثله يوجد فى الدنيا. فقوّمت الجميع على البيع ألفى ألف دينار، فحملناه كلّه إلى صالح. فلمّا رآه جعل لا يصدّق ولا يوقن حتّى أحصى بحضرته ووقف عليه. فقال عند ذلك: - «فعل الله بها وصنع، عرّضت ابنها للقتل فى خمسين ألف دينار وعندها مثل هذا فى خزانة واحدة من خزائنها» . [440] ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن حضر وقت الحجّ، فسيّرت إلى مكّة مع أصحاب المهتدى بالله. فحكى من سمعها فى طريقها وهي تقول أتدعو الله على صالح بن وصيف بصوت: - «اللهم أخز صالح بن وصيف كما هتك سترى وقتل ولدي وبدّد شملي وأخذ مالي وغرّبنى عن بلدي وركب الفاحشة منى.» ولمّا انصرف الناس عن الموسم احتبست بمكّة. وفى هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح. ذكر السبب فى قتلهما إنّ صالح بن وصيف لمّا استصفى أموالهما وأموال الحسن بن مخلد عذّبهم وقرّب كوانين الفحم المشعلة منهم فى شدّة الحرّ ومنعهم كلّ راحة، ولم يعارضه المهتدى، وكان عبد الله بن محمد بن يزداذ يقول لصالح: - «اقتلهم فإنّهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم فى الأعقاب فضلا عمّا وترهم.» فحكى الحسن بن مخلد قال: كان داود بن أبى العبّاس الطوسي يحضرنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 عند صالح بجميل فيقول: - «وما هؤلاء- أعزّك الله- حتّى يبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ، فنظنّه يرفقه [1] علينا حتّى يقول، على أنّى والله أعلم [441] أنّهم إن تخلّصوا انتشر منهم شرّ كثير وفساد فى الإسلام عظيم، فينصرف والله وقد أفتى بقتلنا وأشار عليه بإهلاكنا فيزداد علينا برأيه وكلامه غيظا.» ثمّ وكّل بأحمد بن إسرائيل وأبى نوح، عيسى أحمد بن محمد بن حمّاد دنقش فأسرف فى تعذيبهما ثمّ أقام أحمد بن إسرائيل يضرب وابن دنقش يقول: - «أوجع.» فكان كلّ جلّاد يضربه سوطين يتنحّى، حتّى وفّوه خمسمائة سوط. ثمّ أقاموا أبا نوح فضربوه كذلك أيضا ضرب التلف. ثمّ حملا على بغلين من بغال السّقائين على بطونهما منكّسة رؤوسهما ظاهرة ظهورهما للناس، فتلفا فى الطريق. وأمّا الحسن بن مخلد فتخلّص بخصلتين إحداهما أنّه صدقه عن جميع ما سأله عنه والآخر أنّ المهتدى كلّمه فيه وقال: - «لأهله حرمة وأنا أحبّ صلاح شأنه.» فنجا من بينهم. انصراف مفلح من طبرستان وفيها انصرف مفلح من طبرستان بعد أن كان دخلها، وأخرج الحسن بن زيد.   [1] . كذا فى آوالطبري (12: 1724) : يرفقه. فى الأصل ومط: يرققه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ قبيحة كتبت إلى موسى بن بغا- لمّا رأت من الأتراك اضطرابا [442] وأنكرت أمرهم- تسأله القدوم إلى ما قبلها وأمّلت بوروده فرجا لها ولابنها. فعزم موسى على الانصراف إليها وكتب إلى مفلح وهو بطبرستان يأمره بالانصراف إليه وهو بالرىّ. فورد عليه كتاب موسى وقد توجّه نحو أرض الديلم فى طلب الحسن بن زيد. فلمّا ورد عليه الكتاب انصرف راجعا. فعظم ذلك على رؤساء طبرستان ومن كان هاربا قبل قدوم مفلح، وكانوا قد رجوا [1] بقدومه الرجوع إلى منازلهم وأموالهم. وذلك أنّ مفلحا كان يعدهم اتّباع الحسن بن زيد حتّى يظفر به أو يخترم [2] دونه، فلمّا رأى الناس انصرافه من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم، سألوه عن السبب الذي صرفه وجعلوا يكلّمونه وهو كالمسبوت [3] لا يجيبهم فلمّا أكثروا عليه قال لهم: - «ورد علىّ كتاب موسى بعزيمة منه أن لا أضع كتابه من يدي حتّى أقبل إليه، وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير.» ولم يتهيّأ لموسى الشخوص من الرىّ إلى سرّ من رأى حتّى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدى بعده بالأمر. ففثاه ذلك عمّا عزم عليه من الشخوص، لفوت ما كان قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. [443] ثمّ إنّ الموالي الذين فى عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتّاب وأسباب المعتزّ والمتوكّل، فحسدوا المقيمين بسرّ من رأى.   [1] . فى مط: رجعوا. [2] . يخترم: كذا فى آومط والطبري (12: 1737) والثاني مهمل فى الأصل. [3] . سبت الرجل: أخذه السّبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سرّ من رأى. فأمر موسى أن يستخرج من أهل الري خراج سنة ستّ وخمسين ومائتين. فأصبح الخراج فى شهر رمضان فجبى فى يوم واحد خمسمائة ألف درهم فاجتمع أهل الرىّ وقالوا: - «أصلح الله الأمير ما سبب انصرافك عن هذا الثغر؟» فقال: «إنّ الجند والموالي أبوا أن يقيموا، وإذا انصرفوا فما أقلّ غنائى عنكم.» فقالوا: «أصلح الله الأمير. إنّ الموالي يرجعون لما يقدّرون هناك من كثرة العطاء وأنت وأصحابك ها هنا فى أكثر وأوسع ممّا فيه أولئك هناك. فإن رأيت أن تقيم وتسدّ هذا الثغر وتحتسب فى أهله الأجر والثواب وتلزمنا من خراجنا فى خاصّ أموالنا لمن معك ما ترى أنّنا نحتمله فعلت.» فلم يجبهم إلى ما سألوا. فقالوا: «أصلح الله الأمير فإذا كان الأمير على تركنا و [1] الانصراف عنّا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبدأ بعمارتها بعد، وأكثر غلّة سنة خمس وخمسين التي قد استوفى الأمير خراجها منا فى الصحراء لا يمكننا [444] الوصول إليها، إن خرج الأمير عنّا.» فلم يلتفت إلى كلامهم وخرج. واتصل خبر انصرافه بالمهتدى، فكتب إليه فى ذلك كتبا كثيرة فلم يؤثّر شيئا. فلمّا نظر [2] المهتدى أنّ موسى يسير ويخلّ بموضعه وأنّ كتبه إليه لا تعنى شيئا، وجّه إليه رسولين من بنى هاشم وحمّلهما رسائل إلى موسى ووجوه قوّاده وإلى سائر عسكره يصدّهم فيها عن الحركة ويصدّقهم عن الحال بالحضرة وعن ضيق الأموال بها وما يحاذر من ذهاب ما يخلّفونه   [1] . كذا فى آوالطبري (12: 1739) : والانصراف. فى الأصل: من الانصراف. [2] . إلى هنا تنتهي مخطوطة آ (آستان قدس) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 وراءهم وغلبة الطالبىّ وأتباعه من الديلم عليه. فشخص الهاشميّان مع جماعة من الوجوه والموالي وأقبل موسى يسير وصالح بن وصيف يعظّم ذلك على المهتدى وينسبه إلى العصيان والخلاف. وكان المهتدى قد هجر الشرب وكسر آلات الشراب، وكان ينسك ويجلس على اللبود ويجلس للمظالم ويشتغل بالصوم والصلاة ودرس القرآن. فذكر أنّ كتاب صاحب البريد بهمذان ورد عليه بفصول [1] موسى عنها. فرفع المهتدى يده إلى السماء وقال بعد حمد الله والثناء عليه: - «اللهم إنّى أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدوّ وقد [445] أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تولّ [2] من كاد المسلمين. وانصر جيوش المسلمين حيث كانوا. اللهم إنّى شاخص نفسي إلى حيث نكب فيه المسلمون ناصرا لهم ودافعا عنهم، فاجزني اللهم بنيّتى إذ فقدت صالح الأعوان وعدمت الناصرين.» ثمّ تحدّرت دموعه يبكى. فذكر عمّن حضر مجلس المهتدى، أنّه رأى سليمان بن وهب فى ذلك اليوم يقول: - «يا أمير المؤمنين، أتأذن لى أن أكتب إلى موسى بما أسمع منك؟» فقال: «نعم أكتب بما تسمع منّى وإن أمكنك أن تنقشه فى الصخر فافعل.» ولمّا تلقّاه الهاشميّان والرسل لم يغنيا، وضجّ الموالي وكادوا يثبون بالرسل وردّ موسى فى جواب الرسالة يعتذر بما عاين الرسل الموجّهون إليه، وأنّه ليس يرضى القوم إلّا بورود باب أمير المؤمنين، وإن رام التخلّف عنهم لم   [1] . فى مط: بفضول. [2] . كذا فى الأصل ومط: تولّ من كاد. فى الطبري (12: 1740) : تولّ كيد من كاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 يأمنهم على نفسه. وأوفد موسى مع الرسل وفدا من عسكره. وكان كنجور نفى أيّام المعتزّ إلى فارس ثمّ لحق بأبى دلف وأثّر بالأهواز آثارا قبيحة. فلمّا أقبل موسى انضمّ إليه فبلغ ذلك صالحا فكتب عن المهتدى فى حمل كنجور مقيّدا، فأبى ذلك الموالي. ووجّه المهتدى أخاه إبراهيم لامه فى كنجور يعلمه أنّ [446] الموالي لا يقارّون كنجور ويأمره بتقييده وحمله إلى بغداد. فكان جوابهم أن قالوا: - «إذا دخلنا سرّ من رأى امتثلنا رأى أمير المؤمنين فى كنجور وغيره.» وفى شوّال من هذه السنة ظهر فى فرات البصرة رجل علوىّ فجمع زنج البصرة الذين [كانوا] [1] يكسحون السّباخ ثمّ عبر إلى دجلة. ذكر خبر العلوىّ صاحب الزنج ومبدأ أمره وسبب خروجه هذا الرجل مولده قرية من قرى الرىّ يقال لها ورزنين وقد شكّ قوم فى نسبه [2] وسمعت من لا أرتاب بخبره أنه صحيح النسب. وهو علىّ بن محمد بن أحمد بن علىّ بن عيسى بن زيد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السلام. واتصل بقوم من حاشية المنتصر وغيرهم من كتّاب السلطان فكان يمدحهم ويستميحهم بشعره. ثمّ شخص إلى البحرين ودعا قوما إلى طاعته، فاتبعه جماعة من أهلها ووقعت بسببه عصبيّة قتل فيها جماعة. فانتقل إلى الأحساء. فحدث مثل ذلك بها فانتقل إلى البادية وادّعى النبوّة ومعجزات   [1] . ما بين المعقوفتين هو من الطبري (12: 1742) . [2] . فى الأصل: نفسه. فى مط: نسبه. كما يؤيّد الطبري (12: 1742) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 ذكرها عن نفسه. أحدها أنّه زعم أن سحابة أظلّته [447] بالبادية، فبرقت ورعدت، فاتصل صوت الرعد بسمعه قال: فخوطبت فقيل: - «اقصد البصرة.» فقلت لأصحابى وهم مطيفون بى: - «أمرت بكذا. وكان سبب خروجي إلى البصرة.» فتبعه قوم بالبصرة منهم علىّ بن أبان المهلّبى وأخوه محمد بن الخليل وغيرهم وعامل البصرة يومئذ محمد بن رجاء الحضارى من قبل السلطان ووافق [ذلك] [1] فتنة البلاليّة والسعديّة. فطمع فى أحد الفريقين ووافى برنجل قصرا فعرف بقصر القرشىّ. وأظهر أنّه وكيل لولد الواثق فى بيع السباخ، وأقام أيّاما. فذكر عن ريحان وهو أحد غلمان الشورجيّين [2] وهو أوّل من صحبه أنّه قال: كنت موكّلا بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة وأفرّقه فيهم. فحملت إليهم يوما الرسم فمررت به وهو مقيم ببرنجل فى قصر القرشىّ. فأخذنى أصحابه فصاروا بى إليه، وأمرونى بالتسليم عليه بالإمرة. ففعلت فسألنى عن الموضع الذي جئت منه، فقلت: - «من البصرة.» قال: «هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟» فقلت: «لا.» قال: «فما خبر البلاليّة والسعديّة؟» قلت: «لا أعرف خبرهم.»   [1] . ما بين المعقوفتين هو من الطبري (12: 1745) . [2] . كذا فى الأصل ومط: السورجين. فى الطبري (12: 1747) : الشورجين. [نسبة إلى الشورج الآتي ذكره] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 فسألنى عن أخبار الشورجيّين وما يجرى لكلّ غلام منهم من الدقيق والتمر، وعمّن يعمل فى الشورج [448] من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك. فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته. فقال لى: - «احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إلىّ.» ووعدني أن يقوّدنى على من آتيه به منهم وأن يحسن إلىّ، واستحلفني ألّا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه، فخلّى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معى إلى الموضع الذي كنت قصدته، وأقمت فيه يومى، ثمّ رجعت إليه من غد فوافيته وقد قدم عليه غلمان كان وجّههم إلى البصرة فى حوائج له وفيما حمل له حريرة يتّخذها لواء [1] فأمر أن يكتب عليها بحمرة وخضرة: «إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ.» 9: 111 إلى آخر الآية. [2] وكتب اسمه واسم أبيه وعلّقها فى رأس مردىّ [3] وخرج فى السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان. فلمّا صار فى مؤخّر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيّين متوجّهين إلى أعمالهم. فأمر بأخذهم فأخذوا وكتف وكيلهم وأخذه معهم، وكانوا خمسين غلاما، وكان أهل البصرة فى ذلك الزمان يشترون الزنوج ويخرجونهم إلى السباخ فيكسحونها حتّى يصلوا إلى التربة الطيّبة فيعمرونها، وكسوح الزنج [449] بالبصرة معروفة تشاهد فيها تلال كالجبال وكان فى أنهار البصرة منهم عشرات ألوف يعذّبون بهذه الخدمة، وتجرى عليهم أقواتهم من الدقيق والتمر. ثمّ إنّ هذا الرجل العلوىّ سار من موضعه الذي ذكرنا، فصار إلى الموضع   [1] . فى مط: وفيما حمل إليه ليتّخذها لواء. (بحذف «حريرة» ) . [2] . س 9 التوبة: 111. [3] . المردىّ: خشبة تدفع بها السفينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 الذي يعمل فيه البستاني، فأخذ منه خمسمائة غلام وأخذ وكيلهم فكتفه، ثمّ إلى موضع السيرافىّ فأخذ منه خمسمائة غلام، ولم يزل يومه يفعل ذلك حتّى اجتمع له خلق من غلمان الشورجيّين، ثمّ جمعهم وقام فيهم خطيبا. فمنّاهم ووعدهم أن يقوّدهم ويملّكهم الأموال. وحلف لهم بالأيمان الغلاظ ألّا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع ممكنا من الإحسان إلّا أتى إليهم. ثمّ دعا مواليهم فقال: - «أردت أن أضرب أعناقكم لإساءتكم إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وفعلتم بهم ما حرّم الله عليكم وحمّلتموهم ما لا يطيقون فكلّمنى أصحابى فيكم فرأيت إطلاقكم.» فقالوا: «إنّ هؤلاء الغلمان أبّاق وهم يهربون منك، فلا يبقون عليك ولا علينا. فخذ منّا مالا وأطلقهم لنا.» فأمر غلمانه فأحضروا شطبا، ثمّ بطح كلّ قوم مولاهم، فضرب كلّ رجل خمسمائة شطب، وأحلفهم بطلاق [450] نسائهم ألّا يعلموا أحدا بموضعه ولا بعدد أصحابه. فأطلقهم. ثمّ سار حتّى عبر دجيلا وصار إلى نهر ميمون فى سفن سماد وجدها، وأقام بجمع السودان إلى يوم الفطر. فلمّا أصبح نادى فى أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا وركّز المردىّ الذي عليه لواءه وصلّى وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأنّ الله قد استنقذهم من ذلك وأنّه يريد أن يرفع أقدارهم ويملّكهم العبيد والأموال والمنازل ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثمّ حلف لهم على ذلك. فلمّا فرغ من صلاته وخطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهّموه من لم يفهم من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك ودخل القصر. ثمّ إنّ الحميري قصد جماعة من أصحابه فأخرجوهم إلى الصحراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه فأوقع بالحميرى وأصحابه فانهزموا، واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنّى بأبى صالح فى ثلاثمائة من الزنج، فمنّاهم ووعدهم خيرا. وكان ابن أبى عون قد قلّد الأبلّة وكور دجلة، وانتهى إليه أنّ عقيلا والحميري مع خليفة ابن أبى عون قد أقبلوا نحوه ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير [451] إلى الزريقية فوصلوا إليها مع صلاة الظهر فصلّوا بها ثمّ استعدّوا للقتال وليس فى عسكره يومئذ إلّا ثلاثة أسياف ونهض راجعا نحو المحمدية فوافاها، وتلاحق إليه أصحابه وكان جعل علىّ بن أبان فى آخر أصحابه وأمره أن يتعرّف خبر من يأتيه من ورائه. فأتاه وقال له: - «كنّا نرى من ورائنا بارقة ونسمع حسّا لقوم يتبعوننا فلسنا ندري أرجعوا عنّا أم هم قاصدون إلينا.» فلم يستتمّ كلامه حتّى لحق القوم وتنادى الزنج: - «السلاح.» فيبدر مفرّج النوبى وريحان وفتح الحجّام- وكان فتح يأكل- فلمّا نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدّم أصحابه فلقيه رجل فحمل عليه وحذفه [1] بالطبق الذي كان فى يده، وذهب ليكبّ عليه فرمى الرجل بسلاحه وولّى وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف، رجل فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم ومات بعضهم عطشا وأتى منهم بأسرى فأمر بضرب أعناقهم وحملت الرؤوس على بغال كان أخذها من الشورجيّين كانت تنقل الشورج، ومضى حتّى وافى القادسيّة وقت المغرب. فخرج رجل من موالي الهاشميّين فقتل رجلا من السودان وأتاه الخبر [452] فقال له أصحابه:   [1] . حذفه بالعصا أو الحجر: ضربه ورماه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 - «ايذن لنا فى انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا.» فقال: «لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل كان ذلك عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلّا ساغ لنا قتالهم.» وأعجلهم المسير حتّى مضى إلى نهر ميمون إلى المسجد الذي كان فيه، فى بدأته، وأمر بالرؤوس التي حملت معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبى، فأذّن وسلّم عليه بالإمرة فقام وصلّى بأصحابه العشاء الآخرة وبات بها. ثمّ مضى إلى الكرخ فطواها. ثمّ عبر دجيلا بجبّى [1] فى مخاضة دلّ عليها ولم يدخل القرية وأقام خارجا منها وأرسل إلى من فيها فأتاه رؤساؤهم ورؤساء الكرخ فأمرهم بإقامة الأتراك له ولأصحابه فأقيم لهم ما أراد وبات ليلته. فلمّا أصبح أهدى له رجل من أهل جبّى فرسا كميتا فلم يجد له سرجا ولا لجاما. فركبه بحبل وشنقه [2] بليف وسار حتّى انتهى إلى العباس فأخذ منه دليلا إلى السيب وهرب أهل القرية فدخلها ونزل دار جعفر بن سليمان وهي فى السوق وتفرّق أصحابه فى القرية، فأتوه برجل فسأله عن وكلاء الهاشميّين فأخبره أنّهم فى الأجمة فوجّه وأحضر رئيسهم [453] فسألهم وإيّاه عن المال فقال: - «لا مال عندي.» فأمر بضرب عنقه. فلمّا خاف القتل أقرّ بمال دفنه. فوجّه معه قوما، فأتاه بمائتي وخمسين دينارا وبألف درهم [3] . فهذا أوّل مال صار إليه. ثمّ سأله   [1] . جبّى: قرية، انظر الطبري (12: 1753) . [2] . شنقه: جذبه بزمامه وهو راكبه ورفع رأسه. فى الطبري (12: 1753) : سنفه. [3] . فى الطبري (12: 1754) : دينار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 عن دوابّ وكلاء الهاشميّين فدلّه على ثلاثة براذين فدفعها إلى رؤساء أصحابه. ووجدوا دارا لبعض بنى هاشم فيها سلاح فانتهبوه وصار فى أيدى الزنج سيوف وآلات وزقايات وتراس وبات ليلته. فلمّا أصبح أتاه الخبر أنّ رميسا والحميري وعقيلا قد وافوا السيّب فوجّه يحيى بن محمد فى خمسمائة رجل فيهم سليمان وريحان وصالح النوبىّ الصغير فلقوا القوم فهزموهم وأخذوا سميريّة وسلاحا وهرب من كان هناك ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر فأقام يومه ثمّ سار يزيد المذار. فلمّا صار ببامداد [1] وهو نهر جاوزه حتّى أصحر فرأى بستانا وتلّا فقصد التلّ فقعد عليه وانبثّ [2] أصحابه فى الصحراء وجعل لنفسه طليعة فأتاه الطليعة أو أرسل إليه يخبره أنّ رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدّى عنه رسالة. فوجّه إليه علىّ بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلمّا أتوه قال: - «اقرأوا [454] على صاحبكم السلام وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض. أردد هؤلاء العبيد على مواليهم وآخذ لك عن كلّ رأس خمسة دنانير.» فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس فغضب وآلى ليرجعنّ فليبقرنّ بطن امرأة رميس وليحرقنّ داره وليخوضنّ الدماء هناك. فذهبوا إليه فأجابوه فانصرف عنه. ثمّ تعرّض له رميس والحميري وصاحب ابن أبى عون مرارا فى كلّ ذلك يهزمهم ويقتل أصحابهم ويأسر منهم ويغنم وكان يجمع الرؤوس ويأمر بالاحتفاظ بها، حتّى إذا رجع إلى موضعه من نهر ميمون نصبها هنالك. ثمّ إنّه صار إلى القرية التي قتل فيها رجل من أصحابه فأمر من يصير إليها   [1] . ما فى الأصل مهمل. فأعجمناه كما فى الطبري (12: 1755) . [2] . فى مط والطبري (12: 1755) : وأثبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 فيسأل أهلها أن يسلّموا إليه القاتل فى ممرّه كان بهم. فرجع إليه فأخبره أنّهم زعموا أنّه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميّين ومنعهم له، فصاح بالغلمان وأمرهم بانتهاب القرية فانتهب منها مالا عظيما عينا وورقا وجوهرا وحليّا وأوانى ذهبا وفضّة وسبى يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أوّل شيء سبى. وأتى بمولى الهاشميّين القاتل فضرب عنقه [455] وأخذ أصحابه شرابا وجدوه وبلغه ذلك فحرّم النبيذ عليهم وقال لهم: - «أنتم تلاقون الجيوش فدعوا شرب النبيذ.» فأجابوه إلى ذلك. وواقع من غد هذا اليوم أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشطّ والدنبلا [1] فى السفن يرمون بالنشّاب فحمل عليهم الزنج فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهبّت ريح من غربىّ دجيل فحملت السفن إلى الشطّ فوثب إليها السودان فقتلوا من فيها وهرب رميس فنزل سفينة فأنهبها أصحابه وأحرقها. وقعته مع بعض الأتراك وكثر بعد ذلك عيثه وعظمت شوكته وسبى وأفسد وعظمت نكايته. فمن عظيم ما كان له من الوقائع مع السلطان وقعة كانت مع بعض الأتراك يكنّى أبا هلال فى سوق الريّان أو ذلك أنّ هذا التركىّ وافاهم فى هذه السوق ومعه أربعة آلاف رجل أو يزيدون وفى مقدّمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول. فحمل عليهم السودان حملة صادقة وانتهى بعض السودان إلى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا فى يده فصرعه وانهزم القوم وتلاحق السودان فقتلوا من أصحاب [456] ابن هلال ألف وخمسمائة ونجا   [1] . فى الطبري (12: 1763) : الدبيلا. فى مط: الربدلا. وهو تصحيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 أبو هلال على دابّة عربىّ [1] وحالت ظلمة الليل بينهم. فلمّا أصبح أمر بتتبّعهم ففعلوا وجاءوا بأسرى ورؤوس، فقتل الأسرى كلّهم. وكانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة شبيهة بهذه ظفر فيها بأصحاب السلطان وكانت له وقعات عظام تركنا ذكرها لأنّنا لم نجد فيها غير إقدام الزنج بجهلهم وطمعهم وسوء ثبات [2] الجند لهم وأنّهم تهيّبوهم فكانوا كالجزّارين يقعون فى الغنم فيقتلون كيف شاءوا ومثل هذه الحروب لا يستفاد منها تجربة، فلذلك أعرضت عن ذكرها إلى أن أضعف أهل البصرة فلم يبق فيهم من يخرج إليه وقتل أصحاب السلطان فتهيّبه الناس. أشدّ يوم لقيه صاحب الزنج فحكى صاحب الزنج أنّه لم يلق يوما أشدّ من يوم الشذاة وهو يوم استشدّ له أهل البصرة فلم يبق فيها سعدىّ ولا بلالىّ ولا أحد من أصحاب السلطان ولا غيرهم إلّا جمعوا له. وكان هناك رجل يعرف بحمّاد الساجىّ وكان من غزاة البحر فى الشذوات وله علم بالحروب فيها، فجمع فى شذاءاته المطوّعة ورماة الأهداف ولم يبق بالبصرة من يحمل [457] السلاح إلّا خرج. إمّا فى الشذاءات وإمّا على الظهر، وانضمّ إليه النظّارة ومن لا سلاح معه ولم يشكّوا فى اصطلام صاحب الزنج وأصحابه، فدخلت الشذاءات والسفن التي معها النهر المعروف بأمّ حبيب، ومرّت الرجّالة والنظّارة على شاطئ النهر وقد سدّوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة. فقال بعد ذلك صاحب الزنج: «إنّى لمّا رأيت ذلك الجمع عانيت أمرا هائلا وراعني ذلك وملأ صدري   [1] . فى الطبري (12: 1766) : عرى. [2] . كذا فى مط: ثبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 رهبة وجزعا وفزعت إلى الدعاء وليس منّا أحد إلّا وقد خيّل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من كثرة الجمع وأنا أومئ إليه بالسكوت وعيّنت أصحابى وجعلت لهم كمينين وقلت لمن لقى القوم: - «اجثوا لهم واستتروا بتراسكم ولا يثورنّ أحد منكم حتى يوافيكم القوم ويومئوا إليكم بأسيافهم فحينئذ ثوروا.» وأمرت نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به. ففعلوا [1] ذلك. فلمّا رأوا أصحابى وخرج الكمينان من جنبتي النهر ومن وراء السفن فصاحوا بهم. رأيت سميريّة قد انقلبت. وتبعها آخر. وانهزم من كان على الشطّ. فقتلت طائفة وهربت طائفة وغرقت طائفة ومن هرب طمعا فى النجاة أدركه السيف والغرق [458] فأبير ذلك الجمع ولم ينج منهم إلّا الشريد وكثر المفقودون من البصرة وهذا يوم الشذا الذي عظّمته الناس وذكروا كثرة من قتل فيه. فكان فيهم من ولد جعفر بن سليمان عدّة فى خلق لا يحصى عددهم. وأمر الخبيث بجمع الرؤوس وذهب إليه أولياؤه فعرضها عليهم فأخذوا ما عرفوا منها وعبّأ ما بقي عنده فى سفينة وأخرجها من النهر وأطلقها مع الماء فوافت البصرة فوقفت فى مشرعة تعرف بمشرعة القيّار. فجعل الناس يأخذون ما عرفوا. وقوى الخبيث بعد هذا اليوم وضعف طالبوه بل لم يبق له طالب. فقال له أصحابه: - «إنّا قتلنا مقاتلة البصرة ولم يبق فيها إلّا من لا حراك به فأذن لنا فى تقحّمها.» فزبرهم وهجّن آراءهم وقال:   [1] . كذا فى الأصل ومط: ففعلوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 - «بل ابعدوا عنهم فقد أرعبناهم وأحفظناهم، والرأى أن تدعوا حربهم حتّى يكونوا هم الذين يطلبونكم.» ثمّ انصرف بأصحابه إلى سبخة أى قرّة، وهي بين نهرين وأمر أصحابه باتّخاذ الأكواخ وهذه السبخة بين النخل والقرى والعمارات فكان أصحابه يغيرون يمينا وشمالا ويسوقون مواشى الأكرة وينتهبون أموالهم. ثمّ دخلت سنة ستّ وخمسين ومائتين [459] موافاة موسى بن بغا سرّ من رأى وفيها وافى موسى بن بغا سرّ من رأى واستخفى صالح بن وصيف لمقدمه وعبّأ موسى أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا فى السلاح حتّى صار إلى باب الجسر ممّا يلي الجوسق. وكان المهدى ذلك اليوم جالسا للمظالم فأعلم بمكانه فأمسك عن الإذن لهم ساعة ثمّ أذن لهم. فدخلوا فجرى كلام نحو ما جرى يوم قدم الوفد. فلمّا طال الكلام تراطن الترك فيما بينهم وقالوا بالتركيّة: - «هذه المطاولة إنّما هي حيلة حتّى يكبسنا صالح.» فخافوا ذلك فأقاموه من مجلسه وحملوه على دابّة من دوابّ الشاكرية وانتهبوا ما كان فى الجوسق من دوابّ الخاصة ومضوا به إلى دار ياجور. ثمّ أخذوا هناك عليه العهود والمواثيق ألّا يمايل صلحا عليه ولا يضمر لهم إلّا مثل ما يظهره، وجدّدوا البيعة ووجّهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة فوعدهم أن يصير إليهم وقال لهم بعض رؤساء الفراغنة: - «ما الذي تطلبون من صالح بن وصيف؟» فقال موسى: - «دماء الكتّاب وأموالهم ودم المعتزّ وأمواله.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 فاستتر صالح بن وصيف فمضى ياجور فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسا من دار صالح بن وصيف، وردّ المهتدى [460] إلى الجوسق ودفع عبد الله بن محمد بن يزداذ إلى الحسن بن مخلد وولّى سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد وأظهر النداء على صالح. وفى هذه السنة لثمان بقين من صفر قتل صالح بن وصيف. ذكر السبب فى ظهور صالح وقتل الموالي وموسى إيّاه كان سبب ذلك أنّ امرأة جاءت بكتاب فدفعته إلى كافور الخادم الموكّل بالحرم وقالت [1] : - «فيه نصيحة ومنزلي فى موضع كذا من مكان كذا، فإن أردتمونى فاطلبونى هناك.» فأوصل الكتاب إلى المهتدى وأمر بطلب المرأة فى الموضع الذي وصفت فلم يعرف لها خبر ولم يوقف لها على أثر. فدعا المهتدى بسليمان بن وهب بحضرة جماعة فيهم موسى بن بغا ومفلح وياجور وبايكباك وغيرهم وقال له: - «تعرف هذا الخطّ؟» قال: «نعم هذا خطّ صالح يذكر فيه أنّه مستخف بسرّ من رأى وأنّه إنّما استتر طلبا للسلامة وإبقاء على الموالي وخوفا من اتصال الفتن لحرب إن حدثت بينهم.» ثمّ ذكر ما صار إليه من الأموال للكتّاب وغيرهم وقال:   [1] . انظر الطبري (12: 1791) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 - «إنّ علم ذلك عند الحسن بن مخلد وهو [461] أحدهم.» ثمّ ذكر ما وصل إليه وتولّى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أموال قبيحة وأنّ علم ذلك عند أبى صالح بن يزداذ. ثمّ ذكر أشياء فى هذا المعنى بعضها اعتذاراته وبعضها احتجاجاته. فلمّا فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدى بقول يحثّ فيه على الألفة والصلح ويكرّه إليهم الفرقة والتفانى والتباغض. فدعاهم هذا الكلام منه إلى تهمته وأنّه يعلم بمكان صالح. فكان بينهم فى هذا كلام كثير ومناظرات طويلة. ثمّ أصبحوا من الغد كلّهم فى دار موسى فى داخل الجوسق يتراطنون بالتركية فسمع بعضهم يقول: - «أجمع القوم على خلع المهتدى.» كلام المهتدى للمجمعين على خلعه واتصل الخبر بالمهتدى فخرج إلى مجلسه متقلّدا سيفا وقد لبس ثيابا نظافا وتطيّب ثمّ أمر بإدخالهم إليه فأبوا ذلك مليّا ثمّ دخلوا عليه فقال لهم: - «إنّه قد بلغني ما أنتم عليه ولست كمن تقدّمنى مثل أحمد بن محمد المستعين ولا مثل ابن قبيحة والله ما خرجت إليكم إلّا وأنا متحنّط وقد وصّيت وهذا سيفي فو الله لأضربنّ به ما أستمسك قائمه فى يدي. ويحكم إمّا دين إمّا حياء كم يكون الخلاف على الخلفاء [462] والإقدام والجرأة على الله سواء عندكم من أبقى عليكم وأراد صلاحكم ومن إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورا بمكروهكم وحبّا لبواركم. خبّرونى عنكم، هل تعلمون أنّه وصل إلىّ من دنياكم شيء أمّا إنّك لتعلم يا بايكباك أنّ بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتى وولدي. وانظروا هل ترون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 فى منزل أحد منهم فرشا أو وصائف أو خدما أو جواري أو لهم ضياع أو مستغلات؟ سوءة لكم، ثمّ تقولون أنّى أعلم علم صالح، وهل صالح إلّا رجل من الموالي كواحد منكم، فكيف أكون معه إذا ساء رأيكم فيه؟ إن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجميعكم وإن أبيتم إلّا ما أنتم عليه فشأنكم. اطلبوا صالحا وابلغوا شفاء أنفسكم منه فأمّا أنا فما أعلم علمه.» قالوا: «فاحلف لنا على ذلك.» قال: «أنا أبذل لكم يميني ولكن أؤخّرها حتّى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والعدول وأصحاب المراتب فى غد إذا صلّيت الجمعة.» فكأنّهم لانوا قليلا ووجّه في إحضار الهاشميين فحضروا فى عشيّته فلم يذكر لهم شيئا وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة فانصرفوا وغدا الناس فلم يحدثوا شيئا [463] وصلّى المهتدى وسكن الناس وانصرفوا هادئين. وحكى بعضهم ممّن سمع كلام المهتدى مع موسى والجماعة أنّ المهتدى قال: - «إن كان صالح قد أخذ من مال قبيحة والكتّاب شيئا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك ومحمد بن بغا، فقد كانا حاضرين وهم شركاء فى جميع ما جرى.» فأحفظ ذلك أبا نصر محمد بن بغا وبايكباك وقد كان القوم من لدن قدم موسى بن بغا مضمرين هذا المعنى من الغلّ وإنّما منعهم من المطالبة قلّة الأموال وخوف الاضطراب. فلمّا ورد عليهم مال فارس ومال الأهواز تحرّكوا وكان ورود ذلك لثلاث بقين من المحرّم ومبلغه سبعة عشر ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. وانتشر الخبر فى العامّة أنّهم على خلع المهتدى والفتك به وأنّهم أرادوه على ذلك وأرهفوه. فكتبت رقاع وألقيت فى المسجد الجامع والطرقات فذكر بعض من قرأ رقعة منها أنّه كان فيها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 - «بسم الله الرحمن الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن الخطّاب أن ينصره على أعدائه ويكفيه مؤونة ظالمه ويتمّ النعمة عليه وعلى هذه الأمّة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه [464] بأن يخلع وهو يعذّب والمدبّر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مخلد. رحم الله من أخلص إليه ودعا.» ثمّ تحرّك الموالي ووجّهوا إلى المهتدى: - «إنّا نحتاج أن نلقى إلى أمير المؤمنين شيئا.» وسألوا أمير المؤمنين أن يوجّه إليهم أحد إخوته فوجّه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم ومحمد بن ياس المعروف بالكرخىّ فمضيا إليهم فسألاهم عن شأنهم فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وأنّه بلغهم أنّ موسى بن بغا وبايكباك وجماعة من قوّادهم يريدونه على الخلع وأنّهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنّهم قرأوا رقاعا فى المساجد بذلك وشكوا مع ذلك سوء حالهم وتأخّر أرزاقهم وما صار من الإقطاعات إلى قوّادهم التي قد أجحفت بالخراج وغيره وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات على الرسوم القديمة مع الدخلاء فيهم الذين استغرقوا أكثر أموال الخراج وكثر كلامهم. فقال أبو القاسم: - «اكتبوا بذلك كتابا إلى أمير المؤمنين أتولّى إيصاله لكم.» فكتبوه فأوصله إلى المهتدى وكتب جوابه بخطّه وختمه بخاتمه وغدا به أبو القاسم وقد اجتمعوا فقال: - «يقول لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطّى وخاتمي [465] فاسمعوه وتدبّروه.» فقرءوه وإذا فيه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 - «بسم الله الرحمن الرحيم، أرشدنا الله وإيّاكم وكان لنا ولكم وليّا وحافظا. فهمت كتابكم وسرّنى ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم وتولّى حياطتكم. فأمّا ما ذكرتم من خلّتكم وحاجتكم فعزيز علىّ ذلك فيكم، ووددت لو أنّ صلاحكم قد تهيّأ بألّا أطعم ولا أطعم ولدي وأهلى إلّا القوت الذي لا شبع دونه ولا ألبس أحدا من ولدي إلّا ما ستر العورة ولا والله حاطكم الله، ما صار إلىّ منذ تقلّدت أمركم، لنفسي وأهلى وولدي ومتقدّمى غلماني وحشمى إلّا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد وكلّ ذلك مصروف إليكم غير مذخور عنكم. - «وأمّا ما ذكرتم ممّا بلغكم وقرأتم به الرقاع التي ألقيت فى المساجد والطرق وما بذلتم من أنفسكم فأنتم أهل ذلك، وأين تبعدون ممّا ذكرتم، وإنّما نحن نفس واحدة فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأماناتكم خيرا، وليس الأمر كما بلغكم فعلى هذا فليكن عملكم. - «وأمّا ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر فى ذلك وأصير منه [466] إلى محبّتكم إن شاء الله، والسلام عليكم.» فلمّا قرأوا الكتاب كثر الكلام وقالوا أشياء. فقال لهم أبو القاسم: - «اكتبوا بذلك كتابا ثانيا.» فكتبوا وقالوا: - «إنّ الذي تسألون أن تردّ الأمور إلى أمير المؤمنين، وألّا يعترض عليه معترض وأن تردّ رسومهم إلى ما كانت عليه وهو أن يكون على كلّ سبعة منهم عريف وعلى كلّ خمسين خليفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 وعلى كلّ مائة قائدا وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون وألّا يدخل مولى فى قبالة ولا غيرها وأن يوضع لهم العطاء فى كلّ شهرين على ما لم يزل وأن تبطل الإقطاعات وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من يشاء ويرفع من يشاء.» وذكروا أنّهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين، فمن خالف أمير المؤمنين فى شيء أخذوا رأسه وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا موسى بن بغا وياجور وغيرهما، ودعوا الله لأمير المؤمنين. ودفعوا الكتاب إلى أبى القاسم فأوصله وتحرّك الموالي واضطرب القوّاد جدّا وقعد المهتدى للمظالم فسبق أبو القاسم فقرأ المهتدى الكتاب قراءة ظاهرة وخلا بموسى ثمّ وقّع فى كلّ باب بما أحبّوا. فقال أبو القاسم لموسى ومحمد ابني بغا وبايكباك: [467]- «وجّهوا معى إليهم رسولا تعتذرون إليهم ممّا بلغهم عنكم.» فوجّه كلّ واحد منهم رجلا وصار أبو القاسم [إليهم] وهم فى زهاء أربعة آلاف رجل وثلاثة آلاف راجل فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام ودفع إليهم الكتاب فقرءوه وكتبوا كتابا آخر يلتمسون أن ينفذ إليهم خمس توقيعات: توقيع بحطّ الزيادات وتوقيع بردّ الإقطاعات وتوقيع بإخراج الموالي البرّانيين من الخاصّة وتوقيع بردّ الرسوم إلى ما كانت عليه وتوقيع بردّ التلاجىّ ثمّ يصيّر أمير المؤمنين الجيش إلى أحد أخوته أو غيرهم ممّن يرى ليسفر بينه وبينهم ولا يكون رجلا من الموالي وأن يؤمر أن يحاسب صالح بن وصيف وموسى بن بغا على ما عندهما من الأموال ويعجّل لهم عطاء شهرين ويدرّ ذلك عليهم فى كلّ شهر. وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا ومحمد بن بغا وبايكباك ومفلح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وياجور وغيرهم من القوّاد يقولون إنّهم قد كتبوا بما كتبوا وإنّ أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إن لم يعترضوا عليه وإنّهم إن فعلوا ذلك وخالفوه لم يصبروا عليهم وإنّ أمير المؤمنين إن شاكته شوكة وأخذ من رأسه شعرة [468] أخذوا رؤوسهم جميعا وإنّه ليس يقنعهم إلّا أن يظهر صالح بن وصيف حتّى يجمع بينه وبين موسى فينظر أين مواضع الأموال، فإنّ صالحا وعدهم أن يعطيهم رزق ستّة أشهر. ثمّ دفعوا الكتاب إلى رسول موسى ووجّهوا مع أبى القاسم عدّة منهم ليوصل كتاب أمير المؤمنين وليسمعوا كلامه. فانصرفوا إلى المهتدى فأمر بإنشاء التوقيعات الخمس وأنفذها فى درج كتاب بخطّه إليهم. وكتب القوّاد أيضا جواب كتابهم وأنفذوه إليهم بإجابتهم إلى ما سألوه. وكتب أمان لصالح بن وصيف فيه: إنّ موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين ذلك وأكدّ ذلك غاية التأكيد وحمل إليهم. وقال لهم أبو القاسم: - «علام اجتماعكم وقد أجبتم إلى كلّ ما سألتم؟» فانصرف القوم وتفرّق القوّاد. فلمّا كان يوم السبت ركب ولد وصيف وأصحابهم وتنادى الناس: السلاح، واجتمعوا وعسكروا وركب أبو القاسم يريد دار المهتدى فمرّ بهم فتعلّقوا به وقالوا: - «قل لأمير المؤمنين إنّا نريد صالحا.» فمضى فأدّى ذلك فقال موسى: - «أراهم يطلبون صالحا منّى كأنّى أخفيته أو هو عندي [469] إن كان عندهم له خبر فينبغي أن يظهروه.» وصحّ عندهم أنّ القوم قد تواطئوا وأنّ الناس يتحلّبون إليهم، فتهايجوا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 دار أمير المؤمنين فركبوا فى السلاح واتصل [الخبر] بالأتراك فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوى فارس على راجل ولا كبير على صغير حتّى لحقوا بمنازلهم وزحف [موسى وأصحابه جميعا] [1] فلم يبق بسرّ من رأى قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلّا ركب معه وكان تقدير الجيش الذين ركبوا مع موسى فى هذا اليوم أربعة آلاف فارس فى السلاح والقسىّ الموتّرة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات يريدون محاربة من يريد صالحا وكان أكثرهم هواة مع صالح. فمضوا إلى الجوسق ونادوا بأنّ من لم يظهر من قوّاد صالح وأهله وأصحابه ويحضر دار أمير المؤمنين أسقط اسمه وخرّب منزله وفعل به وصنع. ثمّ جدّ هؤلاء فى طلب صالح فهجم بسببه على جماعة ممّن كان متصلا به قبل ذلك، إلى أن عثر به غلام من موالي وصيف. فحكى الغلام قال: دخلت دارا فى زقاق أطلب ماء لأشربه، فسمعت قائلا يقول بالفارسية: - «أيّها الأمير تنحّ فقد جاء غلام يطلب ماء.» فلمّا سمعت ذلك جمعت ثلاثة أنفس وهجمت [470] عليه فإذا صالح بيده مرآة ومشط وهو يسرّح لحيته. فلمّا رآني بادر فدخل بيتا فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح فتلوّمت ثمّ نظرت إلى البيت فإذا هو قد لجأ إلى زاوية فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا، فقلت له: - «ليس إلى تركك سبيل ولكنّى أمّرتك على أبواب إخوتك وقوّادك وصنائعك فإن اعترض علىّ منهم اثنان أطلقتك فى أيديهم.» قال: فأخرجته فما لقيت أحدا إلّا من أعان على مكروهه. وحمل إلى دار   [1] . زيادة من الطبري (12: 1807) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 موسى فأتاه القوّاد ليذهبوا به إلى الجوسق وهو على بغل باكاف. فلمّا صاروا به إلى حدّ المنارة ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذّه ثمّ احتزّوا رأسه فوافوا به المهتدى وهو فى بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما وقد قام لصلاة المغرب فلم يره فلمّا قضى صلاته وجاءوه برأسه لم يزدهم على أن قال: - «واروه.» وأخذ فى تسبيحه. فلمّا كان من الغد طيف به على قناة ونودى عليه: - «هذا جزاء من قتل مولاه وأمر بقتل مولاه.» ونصب بباب العامّة، فعل ذلك [471] به ثلاثة أيّام. وفى رجب من هذه السنة خلع المهتدى وقتل ذكر سبب خلعه وقتاله الأتراك وظفرهم به وقتلهم إيّاه كان ظهر مساور الشاري بناحية الموصل فكثر اتباعه وعيثه وهزم عدّة جيوش للسلطان. فندب له موسى بن بغا فوضع موسى العطاء لأصحابه وكان على مناجزة الشاري وقصده طريق خراسان. فقال بعضهم: سبب ذلك أنّ المهتدى استمال بايكباك وهو مقيم مع موسى فى وجه مساور الشاري وكتب إليه أن يضمّ العسكر الذي مع موسى إلى نفسه وأن يكون هو الأمير، وأراد منه أن يفتك بموسى ومفلح ويقيّدهما ويحملهما إليه. فمضى بايكباك بالكتاب إلى موسى وقال: - «إنّى لست أفرح بهذا وإنّما هذا تدبير علينا جميعا وإذا فعل بك شيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 اليوم فعل بى غدا مثله.» فاجتمعوا على خلعه والفتك به. فتوجّه موسى نحو طريق خراسان وقال له بايكباك: - «اذهب إليه وأظهر له الطاعة.» ودبّرا فى ذلك تدبيرا بلغ المهتدى، وظنّ أنّ بايكباك أتاه فى الفتك به. فلمّا دخل إليه أمر بحبسه وأخذ سلاحه. [472] وقال بعضهم: كان السبب فى ذلك إنّ المهتدى تكلّم فى موسى ومحمد ابني بغا وقال للموالي: - «قد احتجبنا الأموال.» فتخوّفه أبو نصر وهرب. ثمّ كتب إليه المهتدى وآمنه فرجع وظهر وقعد له المهتدى فوصل إليه هو ومن جاء معه. فسلّم فقال له المهتدى: - «ما تقول فيما يقول الموالي؟» قال: «وما يقولون؟» قال: «إنّهم يقولون إنّكم احتجزتم الأموال واستبددتم بالأعمال فما تنظرون فى شيء من مصالحهم.» قال: «يا أمير المؤمنين وما أنا والأموال ولست كاتب ديوان ولا جرى على يدي عمل.» فقال: «وأين الأموال هل هي إلّا عندك وعند أخيك وكتّابكم.» ودنا الموالي وأخذوا بيد محمد وقالوا: - «هذا عدوّ أمير المؤمنين. لا ينبغي أن تقوم بين يديه بسيف.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 فأخذوا سيفه. فوثب غلام لأبى نصر كان حاضرا يقال له: تيتك [1] ، فسلّ سيفه وخطا ليمنعهم من أبى نصر، فكانت خطوته تلى الخليفة فسبقه عبد الله بن تكين فضرب رأسه بالسيف فما بقي أحد إلّا سلّ سيفه. وقام المهتدى فدخل بيتا كان يقربه. وأخذ محمد بن بغا فأدخل حجرة وحبس أصحابه وأجمعوا على أن يكتبوا إلى موسى بن بغا بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القوّاد [473] وأن يكتبوا إلى القوّاد بتسليم العسكر إليهما ويكتبوا إلى الصغار بمثل ما سأل أصحابهم بسرّ من رأى وما أجيبوا إليه، وأن ينظروا فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمروا به من الإقبال إلى الباب فى غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمر بتسليمه إليه وإلّا شدّوهما وثاقا وحملوهما إلى الباب فى غلمانهم، ووجهوا بهذه الكتب واجتمع فى الدار منهم قوم فأجرى على كلّ واحد منهم درهمان وأخذت عليه بيعة جديدة بالنصرة والثبات. وأصبح الموالي يلتمسون أن يعزل عنهم أمراؤهم وأن يلي عليهم بعض أخوة أمير المؤمنين وأن تؤخذ أمراؤهم وكتّابهم بالخروج ممّا اختانوه من مال السلطان، وذكروا أنّ مبلغه خمسون ألف ألف درهم. فأجابهم إلى ذلك ومضى يومهم على هذا. ثمّ أصبحوا يطالبون بما وعدوا به فقيل لهم: إنّ هذا الذي تريدونه أمر صعب وإخراج الأمر عن أيدى هؤلاء ليس بسهل فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذ أموالهم فانظروا فى أموركم فإن كنتم تظنّون أنّكم تصبرون على هذا الأمر حتّى بلغ منه غايته أجابكم أمير المؤمنين وإن تكن الأخرى فإنّ أمير المؤمنين [474] يحسن لكم النظر.»   [1] . فى مط: فقال له نفتك. بدل يقال له: تيتك. فى الطبري (12: 1826) : ثيتل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 فأبوا إلّا ما سألوا أوّلا. فأخذت عليهم البيعة وأقبلت الرسل تختلف بين العسكرين والذي يريد موسى بن بغا أن يولّى ناحية ينصرف إليها والذي يريد القوم من موسى أن يقبل فى غلمانه ليناظرهم. فلمّا كان من الغد أخذ موسى ومفلح طريق خراسان ومضى بايكباك- فى هذه الرواية- ومن معه من القوّاد حتّى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم ومناطقهم، وأقبل المهتدى على بايكباك يعدّد ذنوبه من الإسلام وأبطأ خبره على أصحابه فقال لهم حاجبه أحمد بن خاقان: - «اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث.» فجاشت الترك وأحاطوا بالدار، فاستشار المهتدى صالح بن علىّ بن يعقوب بن أبى جعفر المنصور فقال: - «يا أمير المؤمنين، هو حديث أبى مسلم مع المنصور، فلو فعلت ما فعل لسكتوا.» فأمر المهتدى بضرب عنقه ورمى برأسه إليهم. ففعل ذلك فتناجزوا [1] وجاشوا وشدّ واحد منهم على من رمى بالرأس إليهم فقتله. ووجّه المهتدى إلى الأسروشنية والمغاربة والفراغنة والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين فجاءوه وكثر القتلى فيقال: [475] إنّه قتل من الأتراك نحو من أربعة آلاف. ثمّ اجتمع الأتراك كلّهم وصار أمرهم واحدا فكانوا نحو عشرة آلاف وكان مع ما اجتمع من الأتراك إلى المهتدى نحو خمسة عشر ألفا. فخرج المهتدى والمصحف فى عنقه، وعبّأ الناس وقاتل ودعا الناس إلى أن ينصروا خليفتهم. فلمّا التحم الشرّ مال الأتراك الذين مع المهتدى إلى   [1] . فى مط: فتأخروا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 أصحابهم الذين مع أخى بايكباك وبقي المهتدى فى أصحابه لا أتراك معه. فحمل طغبا [1] أخو بايكباك حملة ثائر موتور فنقض جمعهم وهزمهم وأكثر فيهم القتل وولّوا منهزمين. ومضى المهتدى يركض منهزما فى الأسواق والسيف فى يده مشهور وهو ينادى: - «يا معشر الناس انصروا خليفتكم.» حتّى صار إلى دار أبى صالح محمد بن يزداذ وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة فدخلها ووضع سلاحه ولبس البياض ليعلو الدار وينزل إلى أخرى ويهرب. وجاء أحمد بن خاقان فى ثلاثين فارسا يسأل عنه حتّى وقف على خبره فى دار ابن جميل فبادرهم ليصعد فرمى بسهم وبعج [2] ، ولم يجد المهتدى لنفسه حيلة فاستسلم فأخذه أحمد بن خاقان على دابّة وأردف خلفه سائسا حتّى صار به إلى داره. وانتهب الجوسق فلم يبق فيه شيء. وأخرجوا [476] أحمد بن المتوكّل المعروف بابن فتيان وكان محبوسا فى الجوسق وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم وجمعوا الهاشميين والخاصّة حتّى بايعوا أحمد بن المتوكّل ابن فتيان وسمّوه: المعتمد على الله. وأرادوا المهتدى على الخلع قبل ذلك فأبى ولم يجبهم فخلعوا أصابع يديه ورجليه ثمّ أمروا من وطى على خصيته حتّى قتله ولمّا أيقن المهتدى بالقتل قال: أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان   [1] . فى مط: طغيا. فى الطبري (12: 1816) : طغوتيا. [2] . بعج البطن: شقّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 وكانت خلافته كلّها أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما، وعمره ثمان وثلاثين سنة، وكان رحب الجبهة أجلح [1] ، جهم الوجه، أشهل العينين عظيم البطن عريض المنكبين طويل اللحية قصيرا.   [1] . الأجلح: من انحسر شعره عن جانبي رأسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 خلافة المعتمد على الله موافاة جعلان البصرة لحرب صاحب الزّنج وفى هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج. فزحف بعسكره حتّى صار بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه وأصحابه ووجّه إلى الزينبي وبنى هاشم وكان يواعدهم للقائه فإذا التقوا لم يكن بينهم إلّا الرمى بالنشاب والحجارة لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل، ولم يكن للخيل [477] مجال. فبقوا كذلك ستّة أشهر. فلمّا رأى صاحب الزنج ذلك هيّأ من أصحابه جماعة يأخذون على جعلان مسالك الخندق وبيّته فى خندقه فقتل جماعة من رجاله وريع الباقون روعا [1] شديدا فترك جعلان عسكره وانصرف إلى البصرة وظهر عجز السلطان. وازداد أمر صاحب الزنج عظم شأن، فأخذ أربعة وعشرين مركبا بحريّة كانت اجتمعت تريد البصرة. وكانت هذه المراكب تنتظر أن ينفصل أمر السلطان مع صاحب الزنج. فلمّا انهزم السلطان رأوا أن تشدّ المراكب بعضها إلى بعض حتّى تصير كالجزيرة ويتّصل أوّلها بآخرها ثمّ يسيروا بها فى   [1] . كذا فى الأصل والطبري (12: 1835) : روعا. فى مط: ريعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 دجلة. فندب صاحب الزنج أصحابه وحرّضهم عليها وقال: - «هذه غنيمة لم تروا مثلها.» فانتدب لها الزنج فلم يلبث أن جرّوها وقتلوا مقاتلتها وسبوا ما فيها من الرقيق وغنموا منها أموالا عظاما لا تحصى ولا يعرف قدرها. فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيّام ثمّ أمر بما بقي فحيز له. ثمّ دخل صاحب الزنج الأبلّة بعد حرب قتل فيها خلقا وأغرقها وكانت مبنيّة بناء متكاثفا بالساج فأسرعت فيه النار ونشأت ريح عاصف فأطارت الشرر إلى شاطئ عثمان [478] واحترق وقتل خلق كثير بالأبلّة وغرق خلق وكان ما احترق من الأمتعة أكثر ممّا انتهب. ولمّا جرى ذلك على الأبلّة جزع أهل عبّادان فاستسلموا لصاحب الزنج وسلّموا إليه بلدهم وحصنهم. وفيها ملك أصحابه الأهواز. ذكر دخول الزنج الأهواز لمّا فتح الأبلّة وعبّادان وأخذ مماليكهم وفرّق فيهم السلاح طمع فى الأهواز. فاستنهض أصحابه نحو جبّى فلم يثبت له أهلها فدخلها وانتهب وقتل ووافى الأهواز وبها سعيد بن تكسين وإليه حربها وإبراهيم بن المدبّر وإليه الخراج والضياع فانحاز سعيد بن تكسين [1] فى من معه من الجند وثبت إبراهيم فيمن معه من غلمانه فدخل الزنج المدينة وأسروا إبراهيم بن المدبّر بعد أن ضرب ضربة على وجهه وحووا كلّ ما ملك. فلمّا ملك الأهواز رعب أهل البصرة رعبا شديدا، فانتقل كثير من أهلها [عنها] وكثرت الأراجيف من عوامّها.   [1] . كذا فى الأصل: تكسين. فى مط: تكسير. فى الطبري (12: 1838) : يكسين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 وفى رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح الحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج. وفيها ظهر بالكوفة علىّ بن زيد الطالبي فوجّه إليه [479] الشاه بن ميكال فى عسكر كثيف فهزمه أصحابه ونجا الشاه. وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي وهو من أهل فارس ورجل من أكرادها يقال له: أحمد بن الليث، بعامل فارس وهو الحارث بن سيما الشاربانى [1] فحارباه وقتلاه وغلب محمد بن واصل على فارس. وفيها غلب الحسن بن زيد على الرىّ وشخص موسى بن بغا إلى الري لحربه وشيّعه المعتمد. وفيها كانت بين باجور وابن لعيسى بن شيخ وقعة على باب دمشق. وكان خرج باجور مرتادا لنفسه معسكرا وابن عيسى بن شيخ وقائد لعيسى فى عسكر لهما بالقرب من دمشق. فاتصل بهما خبر باجور وأنّه فى عدد يسير، فزحفا إليه ولا يعلم باجور بهما حتّى لقياه فقتل القائد الذي مع ابن عيسى وهزم وقتل خلق من أصحابه وكان فى عشرين ألفا باجور فى نحو من مائتين إلى ثلاثمائة. ودخلت سنة سبع وخمسين ومائتين وفيها صار يعقوب بن الليث إلى فارس فبعث إليه المعتمد طغّبا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصارى. وكتب إليه أبو أحمد بن المتوكّل بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي [480] ذلك من كرمان وسجستان والسند وجعل له مال فى كلّ سنة من هذه الأعمال فقبل   [1] . كذا فى الأصل: الشاربانى. فى مط: الساربانى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 ذلك وانصرف. وعقد المعتمد لأخيه أبى أحمد على الكوفة وطريق مكّة ثمّ، عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس فولّى خلفاءه وأمر أن يعقد ليارجوخ [1] على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين فولّى منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة. واستحثّ سعيد الحاجب فى المصير إلى دجلة والإناخة على صاحب الزنج ففعل ذلك ومضى إلى نهر معقل وكان هناك جيش لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب وهو معترض فى نهر معقل فأوقع بهم وهزمهم واستنقذ ما فى أيديهم من النساء وأصاب سعيدا جراحات منها جراحة فى فيه. ثمّ سار سعيد إلى الموضع المعروف بعسكر أبى جعفر واستعدّ للقاء صاحب الزنج بالفرات فقصدهم وهزمهم واستأمن إليه عمران وهو زوج جدّة ابن صاحب الزنج وتفرّق ذلك الجمع. فحكى من حضر ذلك الموضع قال: لقد لقيت المرأة من سكّان الفرات تجد الزنجىّ مستترا بتلك الأدغال [481] فتخرجه وتحمله إلى عسكر سعيد ما به عنها امتناع. ثمّ أوقع الخبيث وقعات متوالية. ثمّ إنّ الخبيث وجّه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه وهو مقيم بنهر معقل جيشا وأمره بتوجيه سليمان بن جامع وابن الليث الإصبهانى ليلا مع عسكر قوىّ حتّى يوقعا بسعيد وقت طلوع الفجر، ففعل ذلك فصادفا منهم غرّة وغفلة فأوقعا بهم وقتلا منهم مقتلة عظيمة. وأحرق الزنج عسكر سعيد فضعف سعيد ومن معه ودخل أمرهم خلل لهذا البيات وقد كانت أرزاقهم احتبست عنهم من جهة منصور بن جعفر   [1] . ما فى الأصل ومط مهمل. والإعجام من الطبري (12: 1842) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 بن الخيّاط وهو يومئذ بالأهواز، إليه حربها وله يد فى الخراج. فلمّا اضطرب أمر سعيد وضعف أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش إلى منصور بن جعفر. وذلك انّ سعيدا ترك بعد ما اتّفق عليه من البيات حرب صاحب الزنج وكان بغرا [1] يحمى البصرة ومنصور يجمع السفن التي تحمل المير، ثمّ يبذرقها إلى البصرة فضاق بالزنج الميرة. ثمّ عبّأ منصور أصحابه وقصد صاحب الزنج فى عسكره وصعد قصرا على دجلة فأحرقه وما حوله ودخل [482] عسكر الخبيث من ذلك الوجه ووافاه الزنج وكمّنوا له كمينا فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة وألجئ الباقون إلى الماء فغرقوا وحملت الرؤوس إلى يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل فأمر بنصبها هناك. ثمّ أوقع الخبيث شاهين وإبراهيم بن سيما بالأهواز فقتل شاهين وهزم إبراهيم. وكاتب علىّ بن أبان بالمصير إلى البصرة لحرب أهلها. ذكر الخبر عن دخول الزنج البصرة لمّا ضعف منصور لم يعد لقتال الزنج واقتصر على بذرقة السفن لوصول المير إلى البصرة، فامتنع أهل البصرة. فوجّه الخبيث علىّ بن أبان فشغل منصورا عن بذرقة السفن وعاد أهل البصرة إلى الضيق، وألحّ أصحاب الخبيث عليها بالحرب وأحسّ الخبيث بضعف القوم وإضرار الحصار بهم وتخريبه ما حولها من القرى. وكان نظر فى النجوم ولا يفارقه الأصطرلاب وكتب النجوم، فوقف على   [1] . كذا فى الأصل: بغرا. فى مط: نعر الحمى بدل «بغرا يحمى» فى الطبري (12: 1844) : بغراج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 كسوف القمر فقال لأصحابه: ادّعاء له - «إنّى قد ابتهلت إلى الله فى الدعاء على أهل البصرة [483] وتعجيل خرابها فخوطبت وقيل لى: إنّما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة. فأوّلت انكسار الرغيف انكساف القمر فى نصفه.» فكان هذا حديث عسكره كلّ يوم. فكثر على الأسماع. وندب قوما للخروج إلى الأعراب، ففرضوا قوما بينهم. وأتاه خلق عظيم فوجّههم الخبيث إلى ناحية منها وأمرهم بتطرّق البصرة والإيقاع بهم من تلك الجهة. فلمّا ابتدأ القمر بالكسوف انهض علىّ بن ابان فى عسكر ضخم وطائفة من العرب إلى البصرة ممّا يلي بنى سعد وكتب إلى محمد بن يحيى البحراني فى إتيانها ممّا يلي نهر عدىّ وضمّ إليه سائر العرب فواقع بغرا علىّ بن أبان يومين ومال الناس نحوه فدخل علىّ بن أبان من ناحيته ودخل يحيى من ناحيته وتفرّق الجند وانحاز بغرا بمن معه، فلم يكن فى وجهه أحد. ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلّبى فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم ونادى منادى إبراهيم بن يحيى: - «من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم.» فحضر أهل البصرة حتّى ملؤوا الرحاب. فلمّا رأى اجتماعهم أمر بأخذ أفواه السكك والطرق لئلّا يتفرّقوا، ثمّ غدر بهم ووضع فيهم السيوف [484] فقتلوا بأجمعهم ولم يفلت إلّا الشاذّ. فيقال إنّ أصوات الناس الذين قتلوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 ارتفعت بالتشهّد لما أخذهم السيف فسمعهم من بالطّفاوة. [1] فلمّا فرغ من قتلهم أتى علىّ بن أبان المسجد الجامع فأحرقه وراح إلى الكلّاء فأحرقه من الحبل إلى الجسر وأخذت النار فى كلّ شيء مرّت به من إنسان وبهيمة ومتاع وآلة. ثمّ ألّحوا على من وجدوا بعد ذلك غدوّا وعشيّا ليسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحرانىّ وهو يومئذ بسيحان [2] . فمن كان ذا مال قرّره حتّى يستخرج ماله ثم يقتله ومن كان فقيرا عاجله بالقتل. ثمّ نادى محمد بن يحيى بالأمان فلم يظهر له أحد. فكتب الخبيث إلى محمد، أن: «استخلف على البصرة شبلا فإنّهم يسكنون إليه ليظهر الناس، فإذا آمنوا وظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم.» ففعل ذلك حتّى استنظف أهل البصرة وقتلهم وهرب الباقون على وجوههم فصرف الخبيث جيشه حينئذ عن البصرة. ادّعاء آخر له فحكى قوم عن الخبيث أنّه، لمّا انتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة وكثرة ما سفك من الدماء وخرّب وأفسد هاله ذلك- وكان أمرا فظيعا هائلا- ادّعى أنّه [485] دعا عليهم فرأى خيلا [3] بين السماء والأرض وقد خفضوا أيديهم اليسرى ورفعوا أيديهم اليمنى. قال: فعلمت انّ الملائكة تتولّى إخرابها دون أصحابى، ولو كان أصحابى يتولون ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم المفرط.   [1] . انظر الطبري (12: 1855) . [2] . كذا فى مط والطبري (12: 1855) . ما فى الأصل مهمل. [3] . والرواية تختلف فى الطبري (12: 1856) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 وعقد المعتمد لأخيه أبى أحمد على ديار مضر وقنّسرين والعواصم وخلع عليه وعلى مفلح وشخصا إلى البصرة لقتال الخبيث. وظفر الخبيث بمنصور بن جعفر بعد قتال عظيم وبعد ما جاهد منصور جهادا شديدا فقتله وعامّة من معه. ذكر مقتل مفلح ولمّا شخص أبو أحمد ومفلح لحرب الخبيث تجهّز الجيش وعدّة لم ير مثله وحكى المشايخ من أهل بغداد الذين شاهدوا الجيوش أنّه ما رأوا ولا سمعوا بمثل ذلك الجيش كثرة وقوّة وآلة وسلاحا. وتبعهم خلق عظيم من متسوّقة بغداد وكان أصحاب الخبيث متفرّقين فى النواحي قد استأكلوها. فليس مع الخبيث يومئذ إلّا القليل من أصحابه فهو على ذلك حتّى وافاه أبو أحمد فى جيشه، وهرب من كان من أصحابه بنهر معقل فلحقوا به [486] مرعوبين، فدعا الخبيث رئيسين من رؤساء عسكره ممّن هرب من نهر معقل، فقال لهما: - «ما الذي دعا كما إلى الإخلال بموضعكما؟» فقالا: - «رأينا شيئا لم نر مثله.» ووصفا عظم ذلك الجيش وعدّتهم وكثرتهم. فوجّه الخبيث من يأتيه بخبر الجيش وخبر من يقوده. فرجعت رسله بتعظيم الأمر وتفخيمه ولم يقدروا أن يقفوا على خبر من يقوده. فزاد ذلك فى جزعه وبادر بالرسل إلى علىّ بن أبان يستدعيه ومن معه من الجيش وورد العسكر مع أبى أحمد فأناخ بإزائه واستدعى الخبيث دواة وقرطاسا ليكاتب علىّ بن أبان ويستعجله. فإنّه فى ذلك إذ أتاه المكتنى بأبى دلف وهو من قوّاد السودان يخبره أنّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج فليس فى وجوههم من يردّهم فصاح به وانتهره وقال: - «اغرب عنّى، فقد دخلك الجزع وانخلع قلبك فلست تدرى ما تقول.» وقد كان أمر جعفرا السجّان بالنداء فى الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب، فأتاه السجّان فأخبره أنّه ندب الزنج فخرجوا وظفروا بسميريّتين [1] . فأمره بالرجوع لتحريك الرجّالة. فرجع ولم يلبث إلّا يسيرا حتّى أصيب [487] مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي، ووقعت الهزيمة وكرّ الزنج وقووا على محاربتهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ووافى الخبيث زنجه بالرؤوس قابضين عليها بأسنانهم حتّى ألقوها بين يديه. فكثرت الرؤوس يومئذ حتّى ملأت كلّ شيء. وأتى الخبيث بأسير من أبناء الفراغنة، [2] فسأله عن الجيش فأعلمه بمكان أبى أحمد الموفّق، ومفلح فارتاع لذكر الموفّق وكان إذا راعه أمر كذّب به، فقال: - «كذبت، ليس غير مفلح ولو كان فى الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد ولما كان مفلح إلّا تابعا له، وأنا لست أسمع إلّا باسم مفلح.» ولم يلبث مفلح أن مات. ووافى علىّ بن أبان فى أصحابه وقد استغنى عنه. وهرب أبو أحمد الموفّق إلى الأبلّة، فأخذ يجمع من فرّقت الهزيمة ويجدّد الاستعداد. ثمّ مضى إلى نهر أبى الأسد وكان الخبيث لا يدرى كيف قتل مفلح. فلمّا بلغه أنّه أصيب بسهم ولم ير أحدا ينتحله ادّعى أنّه هو كان الرامي له فسمعه. من يقول: - «سقط بين يدي سهم فأمرت خادمي راحا أن يرفعه إلىّ، فرميت به   [1] . فى مط: بتسمرتين. وهو تصحيف وخطأ. [2] . انظر الطبري (12: 1864) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 فأصبت مفلحا وكانت الهزيمة.» قال محمد بن الحسن: - «وكذب، فإنّى كنت حاضرا وما زال عن فرسه [488] حتّى أتاه خبر الهزيمة وأتى بالرؤوس.» أسر يحيى بن محمد وقتله وادعاء صاحب الزنج فى نبوّته وفيها أسر يحيى بن محمد البحرانىّ قائد الزنج. وذلك أنّه وافى نهر العباس فلقيه بفوهة النهر ثلاثمائة وسبعون فارسا من أصحاب العامل بالأهواز فاستقلّهم وكان هو فى جمع عظيم فترك الاستعداد لهم، فرشقوهم حتّى أكثروا فيهم الجراح. وكان بلغ أبا أحمد خبره فأنفذ طاشتمر [1] التركىّ فى جيش، فلمّا أشرفوا عليهم ألقى الزنج نفوسهم فى الماء وبقي يحيى فى بضعة عشر رجلا، فنهض يحيى عند ذلك فأخذ درقته وسيفه واحتزم بمنديل وتلقّى القوم بمن معه، فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام فجرح البحراني بثلاثة أسهم. ولمّا رآه أصحابه جريحا تفرّقوا عنه ولم يعرف. فرجع حتّى دخل سفينة وعبر به إلى ناحية أصحابه. فلمّا راه الزنج مثقلا بالجراحات ضعفت قلوبهم فتركوا القتال وهربوا وقتل منهم خلق كثير وحاز أصحاب السلطان الغنائم التي كانت فى السفن. ومشى يحيى البحرانىّ وهو مثخن حتّى ألقى نفسه فى موضع وبات ليلته ومعه عبّاد المتطبّب، فنهض عبّاد لمّا أصبح وجعل يمشى متشوّفا لأن يرى   [1] . طاشتمر: هناك خلط فى رسم هذا الإسم بين كونه «طاشتم» وكونه «طاشتمر» ويرجع ذلك إلى كتابة الميم، أو التخفيف فى التعريب فى مط: طاشتم، وفى الطبري (12: 1868) : طاشتمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان [489] فأشار فأخبرهم بمكان يحيى وأتاه بهم حتّى سلّمه إليهم. وانتهى خبره إلى صاحب الزنج فاشتدّ جزعه عليه وعظم عليه توجّعه. ثمّ حمل يحيى البحرانىّ إلى ابى أحمد الموفّق فحمله إلى سرّ من رأى إلى المعتمد. فأمر المعتمد ببناء دكّة بالحير فى مجرى الحلبة، ثمّ رفع للناس حتّى أبصروه، ثمّ ضرب مائتي سوط بثمارها [1] ، ثمّ قطعت يداه ورجلاه، ثمّ خبط بالسيوف، ثمّ ذبح وأحرق. ولمّا بلغ خبره صاحب الزنج قال: - «كان عظم علىّ ما أصابه واشتدّ اهتمامي به، فخوطبت وقيل لى: قتله خير لك، إنّه كان شرها.» ثمّ حكى عنه حكايات فى غنائم خان فيها فاطّلع عليها، فوهبها له. وكان أصحابه يحكون عنه أنّه كان يقول: - «عرضت علىّ النبوّة فأبيتها.» فقيل له: - «ولم؟» قال: «لأنّ لها عبئا خفت ألّا أطيقها.» وفى هذه السنة انحاز أبو أحمد الموفّق من قرب الزنج إلى واسط ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك انّ الموفّق لمّا صار إلى نهر أبى الأسد كثرت العلل   [1] . ثمرة السوط: عقدة فى طرفه، تشبيها بالثمر فى الهيئة والتدلّى. ومنه: «أمر الجلّاد أن يدقّ ثمرة سوطه» أى لتلين، تخفيفا على الذي يضرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 فى أصحابه وفشا فيهم الموت. فلم يزل مقيما حتّى أبلّ [1] من نجا من الموت. ثمّ انصرف إلى باذآورد [2] [490] فعسكر به وأمر بتجديد الآلات وإعطاء من معه الأرزاق، وأصلح الشذاءات والمعابر وشحّنها بالقوّاد، ونهض يريد عسكر الخبيث وأنفذ قوما إلى نهر أبى الخصيب، فمال أكثر الناس حين وقعت الحرب إلى نهر أبى الخصيب. وتأمّل الزنج قلّة مع من هو فى جانب أبى أحمد الموفّق، فأكبّوا عليه وكثر القتل فى الجانبين. ثمّ صار أبو أحمد الموفّق إلى شذاءة وتوسّط الحرب وحرّض أصحابه فكثر عليه الزنج وعلم أنّه لا طاقة له بهم، وانقطع عنه جماعة حجز الزنج بينه وبينهم واقتطعوهم عنه. فقاتلوا قتالا شديدا، ثمّ قتلهم الزنج بأسرهم وانصرف القوم إلى باذاورد وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج فوقعت نار فى طرف من أطراف عسكره وذلك فى عصوف الرياح، فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد الموفّق إلى واسط. فلمّا صاروا إلى واسط تفرّق عنه من بقي معه وتشتّت ذلك الجمع العظيم. ودخلت سنة تسع وخمسين ومائتين [491] انصراف أبى أحمد واستخلاف أحمد المولّد لحرب صاحب الزنج وفيها انصرف أبو أحمد بن المتوكّل من واسط إلى سرّ من رأى واستخلف على حرب الخبيث أحمد المولّد. وكان خفى على صاحب الزنج أمر الحريق الذي كان فى أصحاب أبى   [1] . أبلّ من مرضه: برئ وصحّ. [2] . فى مط: باداورد. فى المراصد، باذورد: اسم مدينة كانت قرب واسط، بينها وبين البصرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 أحمد فلم يعرف خبره إلّا بعد ثلاثة أيّام فوجّه على بن أبان وضمّ إليه أكثر الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد إلى الأهواز وبها رجل يعرف باصغجور [1] يتولّى حربها ومعه نيزك فى جماعة من القوّاد. فلمّا التقى العسكران لم يثبت القوم للزنج، إنّما استشعروه من الرعب فانهزم اصغجور وقتل نيزك وأسر خلق من القوّاد فيهم الحسن بن هرثمة، وقتل من الجند عدد كثير وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج. وكتب علىّ بن أبان بالفتح وحمل أعلاما كثيرة وأسرى ودخل علىّ بن أبان الأهواز وأقام فيها يعيث ويجيء إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث. فلمّا شخص موسى شيّعه المعتمد وأخرج عبد الرحمن بن صالح إلى الأهواز وأشخص إسحاق بن كنداجيق إلى البصرة وإبراهيم بن سيما إلى باذاورد، كلّهم من قبل موسى لحرب صاحب الزنج. فأمّا عبد الرحمن بن مفلح فإنّه وافى قنطرة ارمق وأقام عشرة أيّام [492] ثمّ واقع المهلّبى فهزمه المهلّبى فانصرف واستعدّ ثمّ عاد لمحاربته فأوقع به وقتل من الزنج قتلا ذريعا وانهزم علىّ بن أبان بمن معه من الزنج إلى بيّان. وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد فقصده وكان المهلّبى قد سار يريد الموضع المعروف بالأوكر [2] فواقعه إبراهيم فهزمه وانتهى خبر هزيمته إلى عبد الرحمن فوجّه إليه طاشتمر فى جمع من الموالي فلم يصل إلى المهلّبى لأنّه كان سلك طريق الآجام والأدغال والقصب فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منه هاربين وأسر معهم قوما. وصار المهلّبى إلى نهر السدرة وكتب إلى صاحبه يستمدّه ويسأله التوجيه إليه بالشذاءات، فوجّه إليه ثلاث عشرة شذاة فيها جمع كثير من المقاتلة.   [1] . فى الطبري (12: 1875) : اصغجون. [2] . كذا فى الأصل: بالأوكر. فى مط: بالانكر. فى الطبري (12: 1878) : بالدكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 فسار المهلّبى حتّى وافى عبد الرحمن فلم يكن بينهما قتال وتواقف الجيشان يومهما. فلمّا كان الليل انتخب المهلّبى جماعة يثق بهم وبجلدهم وصبرهم وترك عسكره بمكانه ليخفى أمره ومضى حتّى صار من وراء عبد الرحمن ثمّ بيّته فقتل وانتهب وهرب عبد الرحمن على وجهه حتّى وافى الدولاب. ثمّ أعدّ رجالا وولّى عليهم طاشتمر [493] فوافوه وأوقعوا به وهزموه إلى نهر المدرة. ثمّ صار إليه طاشتمر بنهر المدره فأوقع به وانهزم علىّ إلى الخبيث مغلولا قد أخذت شذاءاته وغنم عسكره. وكان عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى الخبيث وإسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة مقيم، وأقاموا كذلك بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث وولّى مسرور البلخي. وفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور. ذكر دخول يعقوب نيسابور ذكر أنّ يعقوب بن الليث صار إلى هراة. ثمّ قصد نيسابور، فلمّا قرب منها وجّه إليه محمد بن طاهر بن محمد يستأذنه فى تلقّيه فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته يتلقّونه. ثمّ دخل نيسابور فنزل طرفا من أطرافها يعرف بداودآباذ فركب إليه محمد بن طاهر فدخل إليه فى مضربه فساءله ثمّ أقبل على توبيخه وتفريطه فى عمله وقال: - «مثلك لا يكمل لتدبير خراسان.» وأمر بالتوكيل به وصرفه وحبسه. وولّى عزيزا نيسابور وقبض على أهل بيت طاهر. وورد الخبر بذلك على السلطان. ووردت [494] رسل يعقوب على المعتمد فجلس له جعفر المعتمد وأبو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 أحمد الموفّق وحضر القوّاد وأذن لرسول يعقوب. فذكر رسول يعقوب ما لا يزال يتناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان فى الشراة والخارجين عليهم حتّى غلبوا عليها وضعف محمد بن طاهر عن ضبطها ومكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إيّاه أن يقدم عليهم واستعانتهم به وأنّه صار إليها فتلقّاه أهلها على عشرة فراسخ وسلّموها إليه وأحضر رأسا على قناة فيه رقعة مكتوب فيها: - «هذا رأس عدوّ الله الخارجي بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة قتله يعقوب بن الليث.» فتكلّم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى وقالا لرسل يعقوب: - «إنّ أمير المؤمنين لا يقارّ يعقوب على ما فعل وهو يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولّاه إيّاه فليرجع، فإنّه إن فعل كان من الأولياء وإلّا لم يكن إلّا ما للمخالفين.» وصرف رسله وخلع عليهم. ودخلت سنة ستين ومائتين وفيها قتل صاحب الزنج صاحب الكوفة علىّ بن زيد العلوي. وفيها واقع [495] يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان فهزمه، وكان ليعقوب بها ظفر ومحنة. محاربة يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان ذكر السبب فى ذلك وكان السبب فى ذلك أنّه كان بسجستان رجل يعرف بعبد الله رئيس ينافس يعقوب، فقهره يعقوب فهرب منه إلى محمد بن طاهر بنيسابور. فلمّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 ملك يعقوب نيسابور هرب عبد الله فلحق بالحسن بن زيد وشخص يعقوب فى طلبه. فلمّا صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد وكان يعقوب بعث إليه أن يوجّه إليه بعبد الله السجزىّ حتّى ينصرف عنه فإنّه إنّما قصد طبرستان لأجله لا لحربه. فأبى الحسن تسليمه إليه. فلمّا التقى عسكراهما لم يكن إلّا كلا ولا، حتّى انهزم الحسن إلى أرض الديلم ودخل يعقوب سارية ثمّ مضى منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثمّ شخص فى طلب الحسن بن زيد. فلمّا صار فى بعض جبال طبرستان تتابعت عليه الأمطار نحوا من أربعين يوما فلم يتخلّص منه إلّا بمشقة شديدة ولم يمكنه النزول إلّا على ظهور الرجال [1] وهلك ما معه من الظهر. ثمّ رام الدخول خلف الحسن بن زيد [496] [إلى الشرز [2]] فأخبر بعض من شاهده أنّه كان يقدم عسكره وأمرهم بالوقوف ليتأمّل الطريق فلمّا رآه عاد إلى أصحابه وأمرهم بالانصراف وقال: - «إن لم تكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه.» وكان نساء تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل فإنّه إن دخل كفيناكم وعلينا أخذه وأخذ من معه.» فانصرف وقد ذهب معظم خيله وإبله وأثقاله ورجاله، وكتب إلى السلطان بفتح طبرستان وهزيمة الحسن بن زيد. وسار يعقوب إلى الرىّ وبها الصلابىّ من قبل موسى بن بغا.   [1] . والعبارة فى الطبري (12: 1884) : صعد جبلا، لمّا رام النزول عنه لم يمكنه ذلك إلّا محمولا على ظهور الرجال. [2] . كذا فى الطبري (12: 1884) . وفى المراصد، الشرّر [بالراء المهملة] : جبل فى بلاد الديلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 ذكر السبب فى مسيره كان سبب مسيره إلى الرىّ انّ عبد الله السجزىّ صار بعد هزيمة الحسن بن زيد إلى الرىّ مستجيرا بالصلابىّ. فلمّا صار يعقوب إلى جوار الرىّ كتب إلى الصلابىّ يخيّره بين تسليم عبد الله السجزىّ إليه حتّى ينصرف عنه ويرتحل إلى عمله وبين أن يأذن بحربه. فاختار الصلابىّ تسليم عبد الله فسلّمه إليه فقتله يعقوب وانصرف عن الصلابىّ. ودخلت سنة إحدى وستين ومائتين [497] وفيها جمع السلطان [1] حاجّ خراسان والرىّ وطبرستان وجرجان فى صفر وقرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أنّ السلطان ما ولّى يعقوب بن الليث خراسان وانّه عاص ويأمرهم بلعنه، وذلك لدخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر وآل طاهر. فيها كانت وقعة بين محمد بن واصل وبين عبد الرحمن وطاشتمر برامهرمز فقتل ابن واصل طاشتمر وأسر ابن مفلح. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ ابن واصل قتل بفارس الحارث بن سيما عامل السلطان وتغلّب عليهم وضمّ إلى موسى بن بغا فارس والأهواز والبصرة واليمامة إلى ما كان إليه من عمل المشرق. فوجّه موسى عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز وولّاه إيّاها وفارس وضمّ إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل   [1] . وهو عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. انظر الطبري (12: 1887) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 ذلك وكان مقيما بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة، فلمّا بلغه أنّ ابن مفلح قد توجّه إلى فارس زحف إليه ابن واصل والتقيا برامهرمز وانضمّ ابو داود الصعلوك إلى ابن واصل معينا له [498] فظفر ابن واصل بابن مفلح فأسره وقتل واصطلم [1] عسكره وبعث السلطان إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل فى إطلاق ابن مفلح فلم يجبه إلى ذلك، ثمّ لم يزل ابن مفلح فى يده حتّى قتله. ولمّا فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهرا أنّه يريد واسطا لحرب موسى حتّى انتهى إلى الأهواز وبها إبراهيم بن سيما فى جمع كثير، فلمّا رأى موسى بن بغا شدّة الأمر وكثرة المتغلّبين على نواحي المشرق وأن لا قوام له بهم ولا طاقة، سأل حينئذ أن يعفى عن أعمال المشرق، فأعفى عنها وضمّ ذلك إلى أبى أحمد، وانصرف موسى بن بغا إلى باب السلطان وصرف عمّاله عن المشرق. وولّى أبو الساج الأهواز وحرب صاحب الزنج، فقدّم أبو الساج صهره عبد الرحمن فقتل، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم ودخل الزنج الأهواز فسبوا أهلها وقتلوا وانتهبوا. ثمّ صرف أبو الساج وولّى إبراهيم بن سيما. وفيها ولّى نصر بن أحمد ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بولاية ذلك. وفيها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس وابن واصل بالأهواز فانصرف منها إلى فارس [499] والتقى هو ويعقوب فهزمه يعقوب وحصر قلعة ابن واصل بخرّمة [2] فأخذها وحصّل ما فيها- فبلغت قيمة ما أخذه يعقوب منها أربعين ألف ألف درهم- وأسر مرداسا خال ابن واصل وأوقع بالأكراد الذين   [1] . فى مط: واصحكم، بدل: واصطلم. [2] . خرّمة: ناحية من نواحي فارس قرب إصطخر (مراصد الاطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 مالئوا [1] ابن واصل. وفيها جلس المعتمد فى دار العامّة فولّى ابنه جعفرا العهد وسمّاه المفوّض إلى الله وولّاه المغرب وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وحلوان ومهرجانقذق. وولّى أخاه أبا أحمد العهد من بعد جعفر وولّاه المشرق وضمّ إليه مسرور البلخي وولّاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكّة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وقم وأصبهان والكرج والدينور والرىّ وزنجان وقزوين وخراسان وجرجان وطبرستان وكرمان وسجستان والسند. ثمّ دخلت سنة اثنتين وستّين ومائتين وفيها وافى يعقوب بن الليث رامهرمز فوجّه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق [500] وبغراج وأخرج من كان محبوسا من أسباب يعقوب لأنّه لمّا حبس يعقوب محمد بن طاهر، حبس السلطان صاحبه وصيفا ومن كان قبله من أسبابه، فأطلق عنهم عند موافاة يعقوب رامهرمز، ثمّ قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب برسالته. فجلس أبو أحمد بغداد ودعا بجماعة من التجار وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والرىّ وفارس والشرطة ببغداد، وذلك بمحضر صاحب يعقوب. ثمّ انصرف الرسل الذين وجّهوا إلى يعقوب إلى السلطان فأعلموه أنّه يقول: لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى الباب السلطانىّ. وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار إليه أبو الساج فقبله وأكرمه ووصله، ولمّا   [1] . كذا فى الأصل بالضبط. فى مط: مالوا لابن واصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 رجع الرسول بجواب يعقوب عسكر المعتمد بخارج سرّ من رأى واستخلف ابنه جعفرا ثم وافى بغداد فاشتقّها [1] وجازها إلى الزعفرانية فنزلها، وقدّم أخاه أبا أحمد الموفّق وسار يعقوب بجيشه حتّى صار من واسط على فراسخ فصادف هناك بثقا بثقه مسرور [501] البلخىّ من أجله حتى لا يجوزه. فأقام عليه حتّى سدّه وعبره وصار إلى باذبين ووافى واسطا. وسار محمد بن كثير من قبل مسرور البلخىّ فنزل بإزائه بالنعمانية وسار المعتمد حتّى صار إلى سيب بنى كوما وأقام المعتمد حتّى اجتمعت إليه عساكره. وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول ثمّ زحف إلى عسكر السلطان. فأقام المعتمد ومعه عبيد الله بن يحيى وأنهض أخاه لحرب يعقوب، فجعل يعقوب يعبّئ أصحابه وجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته ومسرور البلخىّ على ميسرته وصار هو فى نخب الرجال فى القلب. فالتقى العسكران بين سيب بنى كوما ودير العاقول. فشدّت ميسرة يعقوب على ميمنة أبى أحمد فهزمتها وقتلت جماعة منها من القوّاد بينهم إبراهيم بن سيما وغيره، وسائر عسكر أبى أحمد ثابت. ثمّ ثابت المنهزمة فحملوا على عسكر يعقوب فثبتوا وحاربوا حربا شديدة، فقتل منهم جماعة وأصاب يعقوب ثلاثة أسهم فى حلقه وبدنه ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين إلى آخر وقت العصر. ثمّ ظهر فى كثير من أصحاب يعقوب كراهة قتال السلطان لمّا رأوه بإزائهم. [502] ثمّ حمل جميع أصحاب أبى أحمد على يعقوب ومن ثبت معه فانهزم أصحاب يعقوب وثبت يعقوب فى حامية أصحابه، حتّى مضوا وفارقوا موضع الحرب وغنم عسكر السلطان عسكر يعقوب. فيقال: إنّه أخذ   [1] . فى مط: واستقّها. فى الأصل: واشتفّها. فى الطبري (12: 1892) : واشتقّها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 من عسكره من الدوابّ والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس ومن العين والورق ما يكلّ عن حمله ومن جرب [1] المسك أمر عظيم. وتخلّص محمد بن طاهر وكان مثقلا بالحديد، خلّصه الذي كان موكّلا به، وكتب كتاب الفتح إلى بغداد وقرئ على الناس، ورجع المعتمد إلى المدائن ومضى أبو أحمد الموفّق وقبض على ما لأبى الساج من المنازل والضياع فأقطعها مسرور البلخي، وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد وقد ردّ إليه العمل وخلع عليه على مرتبته، فنزل دار عبد الله بن طاهر فلم يعزل أحدا ولم يولّ، وأمر له بخمسمائة ألف درهم. وفيها وجّه صاحب الزنج جيوشه إلى البطيحة ودست ميسان ذكر الخبر عن طمعه فى ذلك لمّا انصرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وصار النظر لأبى أحمد الموفّق وضمّ أبو أحمد [503] كور دجلة إلى مسرور البلخىّ وتشاغلوا بحرب يعقوب، خلت كور دجلة من عمّال السلطان وعساكره سوى المدائن. فوجّه صاحب الزنج أحمد بن مهدى من أهل جبّى فى سميريّات فيها رجال رماة إلى نهر المرأة [2] ، فجعل الجبّائى يوقع بالقرى. فكتب إلى صاحبه: - «إنّ البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وأصحابه إلى محاربة يعقوب بن الليث.» فأمر صاحب الزنج رجلا من باهلة يقال له عمير بن عمّار- كان عالما   [1] . فى مط: حرق المسك. والطبري (12: 1894) كالأصل: جرب. [2] . نهر المرأة: نهر بالبصرة، حفره أردشير الأصغر، والمرأة اسمها: طماهيج (مراصد الإطلاع) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 بطرق البطيحة ومسالكها- إلى أن يسير مع الجبّائى حتّى يستقرّ بالحوانيت. وكاتب سليمان بن جامع أن يسير إلى الحوانيت فسار الجبّائى فى طريق الماذيان فتلقّاه رميس فواقعه الجبّائى فهزمه وأخذ أربعا وعشرين سميرية ونيّفا وثلاثين صاخة [1] وأفلت رميس ووافق خروجه منهزما مع أصحابه خروج سليمان بن جامع من النهر العتيق. فتلقّاه فأوقع به فيمن أفلت معه وانحاز رميس إلى بئر مساور ولحق بسليمان من مذكورى البلالية وأنجادهم جماعة فى نحو من مائة وخمسين سميريّة فاستخبرهم الخبر فقالوا: - «ليس بينك وبين واسط أحد من عمّال السلطان وولاته.» فاغترّ سليمان بذلك وسار حتّى [504] انتهى إلى الجازرة [2] فتلقّاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه فانهزم سليمان عنه وقتل أبو معاذ جماعة وأسر جماعة فيهم قائد من قوّاد الزنج يقال له: رباح، وانصرف سليمان إلى موضعه الذي كان معسكرا به فأتاه رجلان من البلالية فقالا: - «ليس بواسط أحد يدافع عنها غير أبى معاذ فى الشذاءات التي لقيتك.» فاستعدّ سليمان وكتب إلى الخبيث مع البلاليّة الذين استأمنوا إليه واحتبس الإثنين اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه، وسار قاصدا لنهر أبان فاعترض له أبو معاذ فى طريقه ونشبت الحرب بينهما وعصفت الريح فاضطربت شذاة أبى معاذ وقوى عليه سليمان وأصحابه فأدبر عنهم. ثمّ مضى سليمان فافتتح نهر أبان فأحرق وانتهب وسبى النساء والصبيان ثمّ وجّه رجلا يعرف له خبر واسط، فأخبره أنّ مسرورا قد توجّه إليه وأنّه بواسط. فتحمّل سليمان من موضعه وطلب موضعا يقرب عليه قصد صاحبه   [1] . كذا فى الأصل: صاخة. فى الطبري (12: 1901) : صلغة. [2] . فى الأصل الجارزة فى الطبري (12: 1901) : الجارزة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 منه متى لحقه الطلب. فأشير عليه بطيها [1] فتحصّن فيها وجمع إليه كلّ من ظهر منه مكاشفة للسلطان ويثق به من أهل الطفوف وغيرهم وكاتب صاحبه [505] بذلك وبما دبّره، فكتب إليه يصوّب رأيه. ثمّ إنّه وجّه الجبّائى فى عسكر فبلغه أنّ أغرتمش وخشيشا قد أقبلا فجزع منهما وأخذ فى الاستعداد للقائهما. ورجع إليه الجبّائى منهزما وصعد سليمان سطحا فأشرف منه فرأى الجيش فنزل مسرعا وعبر النهر وأمر السودان أن يستتروا حتّى لا يظهر منهم أحد ويتواروا بالأدغال وتدعوا القوم حتّى يتوغّلوا ولا يتحرّك واحد إلى أن يسمعوا أصوات طبوله فإذا سمعوها خرجوا. وقصد أغرتمش لجيشه وشغلهم قائد من قوّاد الزنج عن دخول العسكر يقال له: أبو الندى، وشدّ سليمان من وراء القوم وضرب الزنج بطبولهم وألقوا أنفسهم فى الماء للعبور إليهم فانهزم أصحاب أغرتمش، وخرج إليهم من كان بطميشا من السودان فوضعوا فيهم سيوفهم وانهزم خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره. فتلقّاه السودان فصرعوه وأخذته سيوفهم فقتل وحمل رأسه إلى سليمان. وقد كان خشيش حين أسرعوا إليه قال لهم: - «أنا خشيش فلا تقتلوني واذهبوا بى إلى صاحبكم.» فلم يسمعوا قوله. وانهزم أغرتمش وظفر الزنج بعسكره [506] وشذاءاته ودوابّه وأسلابه وكتب إليه صاحبه بالفتح وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، فأمر فطيف به فى عسكره ونصب ثمّ حمله إلى علىّ بن أبان وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك.   [1] . فى الأصل: بطيها. وفى الموضع الآتي: بطيها. فى الطبري (12: 1905) طهيثا. (فى كلا الموضعين) فى مط. طميشا (فى كلا الموضعين) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 وفيها كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه صاحب مسرور وبين علىّ بن أبان فهزم الزنوج وقتل منهم مقتلة عظيمة وذلك أنّ مسرورا وجّه أحمد بن ليثويه إلى ناحية الأهواز وكان علىّ بن أبان بتستر فقصده ابن ليثويه فزحف علىّ بن أبان إليه وهو يبشّر أصحابه ويعدهم الظفر ويحكى ذلك لهم عن الخبيث. فلمّا وافى الباهليون- وهي قرية تعرف بذلك [1]- تلقّاه ابن ليثويه فى جماعة كثيفه من خيل السلطان واستأمن إليه جماعة من العرب فانهزم علىّ بن أبان ثمّ كرّ عليهم مع جميعة من رجّالته فاشتدّ القتال وترجّل علىّ بن أبان فباشر القتال بنفسه راجلا وبين يديه غلام يقال له فتح، وبصر بعلىّ بن أبان قوم فعرفوه وأنذروا الناس به، فانصرف هاربا حتّى لجأ إلى المسرقان، فألقى نفسه فيه وتلاه فتح فغرق فتح ولحق علىّ بن أبان نصر الرومي فتخلّصه [507] من الماء وكان أصاب ساقه سهم، فانصرف مفلولا من أنجاد السودان وأبطالهم عدد كثير. ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل وفيها ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل أخذه ابن عزيز بن السرىّ فجاء به إلى يعقوب أسيرا. وملك يعقوب فارس وسار إلى الأهواز، فلمّا صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر وارتحل عن بلدان الأهواز كلّ من كان بها من قبل   [1] . أى الباهليون اسم قرية. انظر الطبري (12: 1911) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 السلطان. ثمّ أقام علىّ بن أبان بنهر السدرة إلى أن دخل صاحب يعقوب الأهواز واسمه الخضر. فجعل يغير عليه وأغار صاحب يعقوب عليه ولم يزل كذلك الأمر مدّة. ثمّ تجاسر عليه أعنى علىّ بن أبان على الخضر فسار إليه وأوقع به وقتل من أصحاب يعقوب خلقا وهرب الخضر إلى عسكر مكرم، فلمّا استباح علىّ عسكره والأهواز رجع إلى نهر السدرة وكتب إلى بهبوذ يأمره بأصحاب الصفّار أن يوقع بهم وهم بالدورق. فمضى بهبوذ إلى الدورق وأوقع بأولئك. فكان علىّ يتوقّع بعد ذلك مسير يعقوب إليه فلم يسر. وأمدّ الخضر بأخيه الفضل وأمرهما [508] بالكفّ عن قتال أصحاب الخبيث والاقتصار على المقام بالأهواز. فأبى ذلك علىّ دون نقل طعام هناك، فتجافى له الصفّار عن ذلك الطعام وتجافى علىّ للصفّار عن علف كان بالأهواز. فنقل علىّ الطعام وترك العلف وتكافّ الفريقان: أصحاب علىّ وأصحاب الصفّار. ودخلت سنة أربع وستين ومائتين وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان من صدمة خادم له وصلّى عليه أبو أحمد ومشى فى جنازته واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، ثمّ قدم موسى بن بغا فهرب الحسن بن مخلد واستوزر مكانه سليمان [1] بن وهب. وفيها توجّه جيش من قبل الصفّار إلى الصيمرة ونفذوا إليها وأخذوا صيغون وحملوه أسيرا.   [1] . فى الأصل: لسليمان بن وهب. وما أثبتناه يؤيّده الطبري (12: 1915) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 وفيها مات موسى بن بغا ببغداد وحمل إلى سرّ من رأى فدفن بها. محاربة محمد المولّد وسليمان بن الجامع وفيها ولى محمد المولّد واسطا فحاربه سليمان بن جامع وهو قريب من تلك الناحية، فهزمه وأخرجه من واسط ودخلها. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ علىّ بن أبان لمّا هزم بأغرتمش وجعلان، أشار عليه أحمد بن مهدى [509] الجبّائى بتطرّق عسكر البخارىّ وهو على خمسة فراسخ من عسكر تكين فلمّا وافى ذلك الموضع قال له الجبّائى: - «الرأى أن نقيم هاهنا وأمضى أنا فى السميريّات فأحتر القوم وأتعبهم فيأتوك لغبين فتنال حاجتك.» فأقام سليمان وعبّأ خيله ورجّالته بموضعه ومضى الجبّائى فقاتلهم ساعة وأعدّ تكين حيلة وتطارد له الجبّائى وطال على علىّ بن أبان انتظار الجبّائى. فأقبل يقفوا إثر الجبّائى. فأنفذ الجبّائى غلاما له إلى سليمان بن جامع أنّ أصحاب تكين واردون عليك بخيلهم. فتلقّاهم الرسول فردّه إلى معسكره وجعل علىّ كمينا ممّا يلي الصحراء فى ميسرة تكين وقال: - «إذا جاوزتكم خيل تكين فاخرجوا من ورائهم.» فلمّا علم الجبّائى أنّ سليمان قد أحكم أمره رفع صوته وقال لأصحابه ليسمع أصحاب تكين: - «غررتموني وأهلكتمونى، وقد كنت أمرتكم ألّا تدخلوا هذا المدخل، فأبيتم إلّا أن تلقوني وأنفسكم فى هذه الورطة التي لا نرى أنّا ننجو منها.» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 فطمع أصحاب تكين لمّا سمعوا كلامه وجدّوا فى طلبه وجعلوا ينادونه: - «بلبل فى قفص.» وسار الجبّائى سيرا حثيثا واتبعوه بجدّ يرشقونه [510] حتّى جاوز الكمين وقارب عسكر سليمان، وهو أيضا كامن وراء الجدر فى خيله ورجله. فزحف سليمان وخرج الكمين من وراء الخيل وعطف الجبّائى فأتاهم الروع من الوجوه كلّها فانهزموا. وركبهم الزنج يقتلونهم ويأسرونهم ويسلبونهم حتّى قطعوا ثلاثة فراسخ. ثمّ وقف سليمان وقال للجبّائى: - «نرجع فقد غنمنا وسلمنا والسلامة أفضل من كلّ شيء.» فقال الجبّائى: - «كلّا قد نفذت حيلتنا فيهم ونخبت قلوبهم. والرأى أن نكبسهم فى ليلتهم هذه فلعلّنا أن نفضّ جمعهم ونجتاحهم.» فاتبع سليمان رأى الجبّائى وصار إلى عسكر تكين فقاتلهم تكين قتالا شديدا حتّى انكشف عنه سليمان. ثمّ وقف سليمان وعبّأ أصحابه ثانية ووجّه شبلا فى خيل ورجّالة إلى الصحراء وأمر الجبّائى فسار فى السميريّات فى بطن النهر وسار هو فيمن معه من أصحابه حتّى وافى تكين، فلم يثبت له أحد وانكسفوا فتركوا فى عسكرهم. فغنم ما فيه وأحرق الباقي وانصرف وكان استأذن صاحبه فى الإلمام به فألفى فى منصرفه ورود الإذن له، فاستخلف الجبّائى وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذاءات [511] التي كان أخذها من خشيش وأصحابه اغرتمش ومن كان معهم إلى عسكر الخبيث. ثمّ كانت لعلىّ بن أبان والجبّائى وغيرهما من أصحاب الخبيث وقعات منكرات وأمور هائلة ما كتبتها لخلوّها ممّا بنيت عليه كتابي هذا إلى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 دخل أصحابه واسطا. وفيها خرج سليمان بن وهب والحسن بن وهب إلى سرّ من رأى فلمّا وصل إليها حبسه المعتمد وقيّده وأنهب داره ودور بنيه واستوزر الحسن بن مخلد. وكان أبو أحمد الموفّق حسن الرأى فى آل وهب فشخص من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان بن وهب. فلمّا قرب الموفّق من سرّ من رأى، تحوّل المعتمد إلى العسكر الغربي فعسكر به واختلف الرسل بينهما. فلمّا كان بعد أيّام صار المعتمد إلى حرّاقة فى دجلة وصار إليه أخوه الموفّق فى زلّال، فخلع على الموفّق وعلى مسرور البلخي وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا. ثمّ عبر أهل عسكر أبى أحمد إلى عسكر المعتمد يوم التروية من ذى الحجّة فأطلق سليمان بن وهب ورجع المعتمد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد وكتب فى قبض أموالهما وأسبابهما ومن يتصل بهما وهرب القوّاد [512] المقيمون كانوا بسرّ من رأى إلى تكريت. ثمّ شخص إلى الموصل ووضعوا أيديهم فى الجباية. وكان عبيد الله بن سليمان كاتب الموفّق فأصلح بين سليمان بن وهب والحسن بن مخلد. ودخلت سنة خمس وستين ومائتين وفيها كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد الزنج وقعة بناحية جنبلاء فقتل من أصحاب سليمان سبعة وأربعون قائدا وخلق من الجند لا يحصى عددهم، واستباح عسكره وأحرق سفنه ومضى مفلولا حتّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 وافى طميشا [1] . وفيها لحق محمد المولّد بيعقوب بن الليث فصار إليه وقبض السلطان على أمواله وضياعه. وفيها قبض الموفّق على سليمان بن وهب وابنه عبيد الله وأمر بقبض ضياعهما وأسبابهما وصولحا على تسعمائة ألف دينار. واستكتب الموفّق صاعد بن مخلد واستوزر إسماعيل بن بلبل. وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث وكتب عمرو إلى السلطان بأنّه سامع مطيع. وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة مخالفا لأبيه أحمد وكان [513] أبوه استخلفه على عمله بمصر لمّا توجّه إلى الشام. فلمّا انصرف أحمد عن الشام راجعا إلى مصر حمل العباس ما فى بيت المال بمصر وما كان لأبيه هناك من مال وأثاث وغير ذلك ومضى إلى برقة. فوجّه إليه أبوه جيشا فظفروا به ووجّهوه إلى أبيه فحبسه عنده وقتل بسببه وما كان منه جماعة كانوا شايعوا ابنه على ذلك. وفيها دخل الزنج جبّل والنعمانية فأحرقوا وسبوا وصاروا إلى جرجرايا ودخل أهل السواد بغداد. وفيها ولّى أبو أحمد، عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند وأشهد له بذلك ووجّه إليه العهد والخلع. وفيها صار مسرور البلخي إلى النيل وكان هناك عبد الله بن ليثويه وكان يظهر الخلاف على السلطان. فلمّا قصده مسرور ومن معه تلقّوه وترجّلوا له وانقادوا له بالسمع والطاعة وعبد الله بن ليثويه قد نزع سيفه ومنطقته وعلّقهما   [1] . فى الأصل طهيا. وما أثبتناه من مط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 فى عنقه وهو يعتذر ويحلف أنّه كان محمولا على ما فعل. فقبل منه وخلع عليه وعلى عدّة من قوّاده. ودخلت سنة ستّ وستين ومائتين [514] وفيها ولّى عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسرّ من رأى وخلع أبو أحمد عليه. فلمّا صار عبيد الله إلى منزله خلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث. وبعث إليه عمرو مع خلعته عمودا من ذهب. وفيها غلب اساتكين على الرىّ وأخرج العامل كان عليها. ثمّ صار هو وابنه اذكوتكين إلى قزوين وعليها ايزون أخو كيغلغ. فصالحاه وأخذا قزوين ثمّ عادا إلى الرىّ. [1] وفيها مات أبو الساج وكان منصرفا من الأهواز عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد. وفيها ولّى عمرو بن الليث، أحمد بن عبد العزيز بن دلف أصبهان وولّى محمد بن أبى الساج الحرمين وطريق مكّة. وفيها وجّه مسرور إلى الأهواز أغرتمش ومطر بن جامع وأبا لحرب علىّ بن أبان صاحب الزنج. فكانت بينهم وقعات بنهر السدرة ثمّ ظفر على تكمين كمنه [2] وأكبّ الزنج على أصحاب السلطان فهزمهم وأسر مطر بن جامع وأتى به علىّ بن ابان فاستبقاه مطر فقال له علىّ: - «لو كنت أبقيت على صاحبنا جعفرويه بتستر لأبقينا عليك.» وكان جعفرويه محبوسا بتستر فلمّا صار إليها مطر أخرجه وقتله فقام   [1] . انظر الطبري (12: 1936) . [2] . كذا فى الأصل ومط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 علىّ [515] بيده [السيف] [1] إلى مطر فضرب عنقه وأفلت أغرتمش وأبّا ووجّه علىّ بن أبان بالرؤوس إلى الخبيث. وفيها كانت بين الأكراد وبين علىّ بن أبان وقعة، فغلبه الأكراد وقتلوا من الزنج مقتلة عظيمة. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّه كان بين محمد بن عبيد الله بن آزاذمرد الكردي وبين علىّ بن أبان شحناء، ثمّ تلاقيا على صالح وكان علىّ يرصده بشرّ، وقد عرف محمد بن عبيد الله ذلك فكان يروم النجاة منه. فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاى وسأله مسألة أبيه ضمّ ناحيته إليه فأذن له الخبيث فاستعدّ له علىّ وسار إليه وأوقع برامهرمز ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيم بها. فلم يكن بمحمد فيه امتناع. فهرب فاستباح علىّ رامهرمز وكتب محمد إلى علىّ يطلب المسالمة على مال يحمله إليه، فكتب علىّ إلى الخبيث بذلك، فكتب إليه بقبول ذلك وحمل المال، فحمله وأمسك علىّ عن محمد وأعماله. ثمّ كتب إليه يسأله أن يعينه على جماعة من الأكراد بموضع يقال له: الداريان على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم. فكتب علىّ إلى الخبيث يستأذنه فى النهوض إلى ذلك فكتب إليه [516] أن: - «وجّه الخليل بن أبان أخاك وبهبوذ وأقم أنت لا تنفذ جيشك حتّى تتوثّق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون فى يدك تأمن بهم من غدره، فقد وترته وهو غير مأمون.»   [1] . ما بين المعقوفتين أضفناه بوحي السياق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 فكتب علىّ إلى محمد بذلك وسأله الرهائن، فأعطاه محمد الأيمان والعهود، ودافعه عن الرهائن. ذكر عجلة وحرص كانا سبب ترك الحزم فدعا عليّا الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد إلى أن أنفذ الجيش قبل تحصيل الرهائن. فساروا ومعهم رجال محمد حتّى وافوا الموضع المقصود، فخرج إليهم أهله فنشبت الحرب وظهر الزنج على الأكراد. ثمّ خذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله وصدقهم الأكراد فانهزموا، وكان محمد أعدّ لهم قوما فعارضوهم وهم منهزمون، فأوقعوا بهم وسلبوهم وقتلوهم، فرجعوا بأسوإ حال فكتب المهلّبى إلى الخبيث بما ركبه محمد، فكتب إليه يعنّفه ويقول: - «خالفتني وتركت الحزم وتبعت هواك، فذاك الذي أردى جيشك.» وكتب الخبيث إلى محمد أنّه: - «لم يخف علىّ تدبيرك على جيش علىّ بن أبان ولن تعدم المكافأة على ما كان منك.» فارتاع محمد ممّا ورد عليه وكتب إليه بالتضرّع [517] والخضوع وكتب: - «إنّى ارتجع جميع ما ذهب من عسكر الخليل بن أبان وأتوعّد [1] من فعل ذلك وأقصده بكلّ مكروه.» فأظهر الخبيث غضبا وكتب إليه يتهدّده، فأعاد محمد الكتاب بالاستكانة وكتب إلى بهبوذ يضمن له مالا ولغيره ممّن يقرب من الخبيث فلم يزالوا به حتّى سلّوا سخيمته [2] على محمد وأظهر الخبيث الرضا عن محمد وقال:   [1] . فى مط: توعّد. [2] . يقال: سللت سخيمته باللطف والترضّى، أى أفرجت ضغينته من صدره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 - «لست أقبل ما يقول أو يخطب لى على منابر أعماله.» فأجابه محمد إلى ما أراد. ثمّ راوعه وقصد علىّ متّوث [1] فلم يطقها لحصانتها فاتّخذ لها سلاليم وآلات الحروب. وكان مسرور عرف قصد علىّ متّوث، فلمّا صار إليها وافاه قبيل المغرب وهو مقيم عليها. فلمّا عاين أصحاب علىّ أوائل خيل مسرور انهزموا وتركوا عسكرهم وجمع الآلات التي أعدّوها وقتل منهم جمع كثير وانصرف علىّ مذعورا مفلولا ولم يلبث حتّى تتابعت الأخبار بإقبال أبى أحمد الموفّق إلى سوق الخميس وطميشا [2] وفتح أبى أحمد إيّاها. ثمّ ورد عليه كتاب يحفزه حفزا شديدا بالمصير إليه فى عسكره. ودخلت سنة سبع وستين ومائتين [518] وفيها غلب أبو العباس ابن الموفّق على عامّة ما كان سليمان صاحب الزنج غلب عليه من قرى دجلة ذكر الخبر عن ذلك إنّ الزنج لمّا دخلوا واسطا- وكان منهم ما ذكرنا- واتصل الخبر بأبى أحمد استعظمه، فخفّ للنهوض ابنه أبو العباس. فلمّا استجمع أمره ركب أبو أحمد يعرض أصحابه ووقف على عدّتهم فكان جميع الفرسان والرجّالة عشرة آلاف رجل فى أحسن زىّ وأجمل هيئة وأكمل عدّة ومعهم الشذاءات والسميريّات والمعابر للرجّالة. فنهض أبو العباس وانصرف أبو أحمد من تشييعه وأقام أبو العباس بالفرك حتّى تكامل أصحابه وأقام أيضا بالمدائن، ثمّ رحل إلى دير العاقول. فورد عليه كتاب نصير أبى حمزة صاحب الشذاءات   [1] . كذا فى الأصل ومط والطبري (13: 1946) . [2] . فى الأصل: طهيا، والمثبت من مط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 والسميريّات وكان أمضاه على مقدّمته يعلمه أنّ سليمان بن جامع قد وافى فى خيله ورجاله وشذاءاته والجبّائى يقدمه حتّى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، فرحل أبو العباس حتّى وافى جرجرايا ثمّ فم الصّلح ثمّ ركب الظهر حتّى وافى الصّلح ووجّه طلائعه لتعرف الخبر، فأخبروه بموافاة القوم وجمعهم وأنّ أوّل [519] جيشهم بالصّلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط. فلمّا عرف ذلك عدل عن سنن الطريق وسار معترضا ولقى أصحابه أوائل القوم فتطاردوا لهم وأمعن الزنج فى طلبهم فجعل الناس يقولون: - «اطلبوا أميرا للحرب فإنّ أميركم مشغول بالصيد.» فلمّا قربوا من أبى العباس بالصّلح خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل وأمر فنودي: - «نصير، إلى أين تتأخّر عن هؤلاء الكلاب؟ ارجع إليهم.» فرجع نصير وركب أبو العباس فى سميرية وحمل الناس من كلّ جهة فانهزم الزنج وأصحاب أبى العباس يقتلونهم إلى أن وافى بهم قرية عبد الله وهي على ستّة فراسخ من الموضع الذي لقوهم. وأخذوا عدّة شذاءات وسميريّات واستأمن قوم وغرق قوم. فكان ذلك أول فتح فتح على أبى العباس. وأشار على أبى العباس قوّاده ونصحاؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه، إشفاقا عليه من مقاربة القوم. فأبى وقال: - «فأين التيقّظ.» فنزل واسطا. ولمّا انهزم سليمان بن جامع وأصحابه توافوا بنهر الأمير. وكان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأى بينهم فقالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 - «هذا فتى حدث لم تطل ممارسته للحروب [520] فالرأى أن نرميه بحدّنا كلّه، فإنّه سيرتاع ويكون سببا لانصرافه عنّا أو أسره.» ففعلوا ذلك وحشدوا فكاد يتمّ لهم ما دبّروه، ثمّ كانت الدبرة عليهم. ودخل أبو العباس واسطا من غد يوم الوقعة فى أحسن زىّ واستأمن إليه قوم ثمّ انحدر إلى العمر وهو على فرسخ من واسط فقدّم فيه عسكره وكان الناس أشاروا عليه أن يعسكر فوق واسط فأبى ونزل العمر ثمّ أخذ فى بناء الشذاءات وآلات الماء وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم. ثمّ إن سليمان استعدّ له مرة أخرى وحشد فلقيهم أبو العباس فهزمهم وقتل وأسر. ثمّ أتاه مخبر فأخبره أنّ الزنج قد اجتمعوا واستعدّوا لكبس عسكره من ثلاثة أوجه، وأنّهم قالوا فيما بينهم: «إنّه حدث غرّ قد خاطر وغرّر بنفسه فاتفق له ولا يتمّ له ذلك أبدا.» فلمّا علم بتدبيرهم حذر وكانوا كمنوا له عشرة آلاف فى موضعين وأطمعوه فى أنفسهم فمنع [1] أبو العباس من اتباعهمم. فلمّا علموا أنّ كيدهم لم ينفذ اجتمعوا له وكاثروه فهزمهم وأفلت سليمان راجلا ومضى جيشهم لا يلوى أحد على أحد. ورجع أبو العباس إلى مكانه بالعمر ثمّ إنّ الجبّائى كان يجيئه فى الطلائع فى كلّ ثلاثة أيّام. ذكر حيلة للجبّائى ما تمّت له أمر الجبائي بحفر آبار وصيّر فيها سفافيد [2] حديد وغشّاها بالبواري وواراها بالتراب وأخفى مواضعها وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهوّر فيها المجتازون وكان يوافى متعرّضا ويهيج الناس. فجاء يوما فطلبته الخيل فتقطّر   [1] . ما فى الأصل مطموس، وما أثبتناه من مط. [2] . السفّود: حديدة يشوى عليها اللحم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 فرس قائد فى بئر منها فوقف أصحاب أبى العباس على حيلته فحذروا ذلك السمت ولم يمتحن غير ذلك القائد الواحد. ثمّ عاودوا التعرّض للحرب فى كلّ يوم إلى أن استجرأ عليهم جند أبى العباس فكان أبو العباس يقصدهم ويقتل ويأسر ويستنقذ نساء المسلمين وصبيانهم ويردّهم إلى أهليهم إذ عرض لأبى العباس كركىّ يطير، فرماه بسهم فشكّه فسقط بين أيدى الزنج ورأوا موقع السهم منه، فعلموا أنّه سهم أبى العباس، فاستشعروا الرعب منه فكانوا إذا رأوا علامته انهزموا. ثمّ عزم أبو أحمد الموفّق على المصير إلى الجيش ومباشرة الأمر بنفسه فعزم [522] أبو العباس على قصد نهر سوق الخميس قبل موافاة أبيه. فقال له نصير: - «إنّ ذلك النهر ضيق فأقم أنت وأذن لى فى المسير إليه.» فأبى أن يدعه حتى يعاينه [1] فقيل له: إن كنت لا بدّ فاعلا فلا تكثر عدد من يحمل معك فى الشذاءات. فاستعدّ أبو العباس وسار نصير بين يديه واستأذنه رجل من قوّاده يقال له موسى دالحوا [2] أن يكون بين يديه فأذن له وسار حتّى انتهى إلى فوهة النهر المؤدّى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني وغاب عنه نصير حتّى خفى خبره وخرج عليه فى ذلك الموضع خلق فتحدّث من كان معه قال: لمّا حالوا بيننا وبين الانتهاء إلى السور- وكان بيننا وبينه مقدار فرسخين- حاربناهم فاشتدّت الحرب وخفى أمر نصير علينا والزنج يهتفون بنا: - «أخذنا نصيرا وأنتم فى قبضتنا.» فاغتمّ أبو العباس لذلك ورحل منه فاستأذنه محمد بن شعيب أن يأتيه   [1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 1958) : يعانيه. فى مط: يعاتبه. [2] . فى مط: والخوا. فى الطبري (13: 1958) : دالجويه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 بخبر نصير فأذن له فمضى فى سميريّة بعشرين جذّافا، فإذا هو بنصير وقد قرب من سكر كانوا سكروه، فأضرمه بالنار وهو يحارب حربا شديدة وقد رزق الظفر. فرجع وأخبر أبا العباس وبشّره بسلامة نصير ومن [523] معه وأنّه ظافر غانم فسرّ به سرورا شديدا. وكان الزنج قد علقوا بشذاءة، فركب أبو العباس فى سميريّة حتّى وافى تلك الشذاءة وعلى أبى العباس كبر [1] تحته درع فانتزع الشذاة وخلّصها. قال محمد: فنزعنا من كبر أبى العباس خمسا وعشرين نشّابة ومن لبابيد الملّاحين مثل ذلك وأقلّ وأكثر. وظفر أبو العباس بالزنج وهزمهم وعاد إلى معسكره بالعمر إلى أن وافى الموفّق. خروج الموفّق لحرب صاحب الزّنج وخرج الموفّق من مدينة السلام قاصدا حرب صاحب الزنج وذلك حين بلغه أنّ صاحب الزنج كتب إلى صاحبه علىّ بن أبان المهلّبى يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبى العباس بن أبى أحمد. فأعدّ أبو أحمد الشذاءات وآلات الماء وسار فى فرسانه ورجّالته وغلمانه إلى أن نزل على فرسخ من واسط فأقام هناك يوما وليلة، فتلقّاه أبو العباس ابنه فى جريدة خيل فيها قوّاده ووجوه جنده فسأله أبوه عن خبر أصحابه فأثنى عليهم ووصف نصحهم وبلائهم، فخلع عليه وعليهم. وانصرف أبو العباس إلى معسكره ورحل أبو أحمد من غد ذلك اليوم فى   [1] . كذا فى الأصل ومط ولم نجده فى الطبري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 الماء وتلقّاه أبو العباس وجميع الجند فى هيئة الحرب [524] ثمّ سار أمامه إلى أن نزل أبو أحمد ثمّ سار أبو أحمد وولّى ابنه أبا العباس مقدّمته ووضع العطاء فأعطى الجيش. ثمّ سار على تعبئة وأمامه أبو العبّاس فأتاه بأسرى. وذلك أنّه وافى عسكرا للشعرانى قبل مجيء أبيه فأوقع به وقتل منه مقتلة عظيمة، فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسارى. ثمّ رحل أبو أحمد يريد مدينة صاحب الزنج التي سمّاها المنيعة من سوق الخميس بمن معه من الجيش وآلة الماء. فلمّا رأى سليمان ومن معه من الزنج مسير الخيل والرجّالة على حافتي النهر قد ملؤوا الأرض ومسير الشذاءات والسميريّات فى الماء انهزموا، وعلا أصحاب أبى العباس السور ووضعوا فيهم السيوف ودخلوا المدينة وقتلوا خلقا وأسروا خلقا وحووا ما فى المدينة وهرب الشعراني واتبعوهم حتّى وقعوا فى البطائح وغرق منهم خلق ولجأ الباقون إلى الآجام، واستنقذ من المسلمات خمسة آلاف امرأة سوى الزنجيّات، فأمر أبو أحمد بحفظهن ليدفعن إلى أوليائهن. وبات أبو أحمد بإزائها فلمّا أصبح أمر بأخذ جميع ما فيها وهدم سورها وطمّ خندقها واحرق آلاتها وسفنها، وبلغ خبر الوقعة صاحب الزنج فعظمت [525] مصيبته واشتدّ جزعه وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني ويأمره بالتيقّظ. وتعرّف أبو أحمد خبر الشعراني فقيل: إنّه بالحوانيت [1] ، فأنفذ إليه جيشا فألفوا هناك قوّاده ولم يصادفوه فقتلوا قوّاده وانتهبوا هناك غلّات كثيرة. وتعرّف أبو العباس خبر سليمان بن جامع فأعلم بمكانه من مدينته التي   [1] . الحوانيت: قرية. انظر الطبري (13: 1965) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 سمّاها: المعمورة، فى الموضع الذي يعرف بطميشا [1] فرحل إليها أبو أحمد بعد أن أصلح سفن الجسور واستكثر من الضياع والآلات التي يسدّ بها الأنهار والطرق للخيل وتوطئة الأرض لسلوكها. دفن الجبّائىّ وادّعاء آخر لصاحب الزنج وفى هذه السنة دخل أبو أحمد طميشا وأخرج منها سليمان بن جامع وقتل بها أحمد بن مهدى الجبّائى وذلك بعد حروب كثيرة. ولمّا حمل الجبّائى إلى الخبيث اشتدّ جزعه عليه وصار إليه حتّى ولى غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره حتّى دفن ثمّ أقبل على أصحابه وقال: - «قد علمت بوفاته وقت قبض روحه قبل وصول خبره إلىّ، بما سمعت من زجل الملائكة بالدعاء والترحّم عليه.» ثمّ إنّ أبا أحمد أمر أهل عسكره بالتحارس ليلتهم وصحّ سور [526] المدينة بكتائب يتلو بعضها بعضا ورتّب غلمانه وأصحابه فى المواضع التي يخشى خروج الزنج منها ورتّب الفرسان فى المواضع التي يخاف خروج الكمناء منها وقدّم ابنه وتبعه بنفسه وحضّ الغلمان على الحرب وجسّرهم على الإقدام. وقد كان حصّن الزنج السور بخمسة خنادق وجعلوا أمام كلّ خندق سورا ووكّلوا بها رجالهم فما أغنى جميع ذلك شيئا عند الجدّ، فهدمت الأسوار وطمّت الخنادق وهجم على الزنج وكلّ ذلك بالمصاولة من غير حيلة، سوى أنّ الموفّق كان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وخلع عليه وأقامه حيث يراه   [1] . هنا فى الأصل: طهيثا. مثل الطبري (13: 1966) . ونحن وحدنا الضبط كما فى مط: طميشا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 أصحابه حتّى استمالهم وكثر فى أصحابه منهم وكان يفوّقهم على أصحابه ويأمر بالإحسان إليهم حتّى فتح المدينة وهدم أسوارها وحوى ما فيها. ذهاب الموفّق إلى الأهواز للإيقاع بالمهلّبى ثمّ رحل نحو الأهواز بعد أن أحكم ما أراد إحكامه ليوقع بالمهلّبى واستخلف على عسكره بواسط ابنه هارون وشخص فى خفّ من رجاله وتقدّم إلى ابنه هارون فى أن يحدر الجيش الذي خلفه فى السفن إذا كاتبه بذلك وسار حتى أتى وادي السوس وقد عقد له عليه جسر فعبره ووافى [527] السوس وكاتب مسرورا فى المبادرة إليه فقدم عليه فى جيشه فخلع عليه وعلى قوّاده وأقام ثلاثا. وصلّت خيل الخبيث وانتقض عليه تدبيره فحمله فرط الهلع على أنّ كاتب المهلّبى وهو يومئذ بالأهواز فى ثلاثين ألفا بترك ما قبله كلّه والإقبال إليه. فترك ما كان جمعه من المير والأموال والأثاث وصار إليه، واستخلف محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائى، فوجل من المقام وخرج يتبع المهلّبى وكان يجبّى والأهواز يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم. فخرجوا عن ذلك كلّه جبنا وإدبارا فحوى جميعه الموفّق. فصار قوّة على الخبيث ولو أراد جمع ذلك فى ذلك الوقت ما قدر على شيء منه. وكتب أيضا الخبيث إلى بهبوذ وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما يتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس يأمره بالقدوم عليه. فترك بهبوذ أيضا ما كان قبله من التمر والطعام وكان شيئا عظيما فحوى جميعه أبو أحمد وقوى به على الخبيث. وتخلّف عن المهلّبى قوم من الفرسان والرجّالة وكتبوا إلى أبى أحمد يسألونه الأمان لما انتهى إليهم [528] عفوه عن من ظفر به بطميشا فبذله لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 وأحسن إليهم. وأمر الموفّق بجباية الأهواز من جميع كورها. ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكردىّ من يؤنسه وعفا عنه وتقدّم إليه فى جمع الأموال وتعجيلها نحوه والمسير إليه، وتأخّرت الميرة عن أبى أحمد بالأهواز وغلظ الأمر فسأل عن السبب فوجد الجند قد قطعوا قنطرة قديمة كانت بين سوق الأهواز ورامهرمز يقال لها: قنطرة أرمق، [1] فامتنع التجّار من حمل الميرة لأجل ذلك. فركب إليها أبو أحمد وهي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان فى العسكر من السودان وأمرهم بنقل الصخر وبذل لهم الأموال فلم يرم [2] حتّى أصلحت القنطرة فى يوم واحد وردّت كما كانت، فسلكها الناس ووافت الميرة والقوافل فعاش أهل العسكر وحسنت أحوالهم. وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد جسر على دجيل فجمعت من جميع كور الأهواز الآلات. فلما تمّ عقده وتراجعت نفوس الناس والدوابّ باتصال المير والأعلاف سار وقدّم أبا العباس إلى الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون بأن يحدّر إليه جميع [529] الجيش إلى نهر المبارك لتجتمع العساكر هناك. ونزل أبو أحمد بقورج العباس ثمّ نزل الجعفرية وهذه قرية ليس فيها ماء إلّا ماء الآبار التي كان أبو أحمد تقدّم بحفرها فى عسكره فحفرت له وكان أعدّ بها بئرا، فوافاها والأمور مصلحة معدّة، ثمّ رحل حتّى ورد نهر المبارك، واستأمن قوم إلى أبى أحمد طمعا فيما بلغهم من إحسانه إلى المستأمنه فأبلغوه أنّ صاحب الزنج قد جمع آلات الماء وفيها خلق من السودان   [1] . فى الطبري (13: 1977) : أربك. [2] . فى مط: ولم يزم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 ليقصدوا نصيرا وهو بنهر المرأة ويسلكوا موضعا يخرجهم من ورائه. فأنفذ إلى نصير وأخبره بذلك فبادر نصير إلى شقّ بئرين، فلقى هناك القوم فزرق الظفر بعد مجاهدة عظيمة، فقتل وأسر وأخذ ثلاثين سميريّة. وانصرف أصحاب أبى أحمد ظافرين إلى واسط واستأمن إلى نصير زهاء ألفى رجل، فكتب بالخبر إلى أبى أحمد فأمره بقبولهم وإجراء الأرزاق عليهم وتفريقهم على أصحابه ومناهضة العدوّ بهم. ثمّ كتب إليه بموافاته إلى نهر المبارك ففعل. كتاب أبى أحمد إلى صاحب الزنج للأمان والتوبة مما ركب وادّعى وكتب أبو أحمد إلى الخبيث كتابا يدعوه إلى الدخول فى الأمان والنزوع عمّا هو عليه [1] من ادعاء النبوّة وسبى المسلمات [530] والمسلمين والفساد فى الأرض، فإنّ التوبة مبذولة له. وأطال الكتاب فى هذا المعنى. فلمّا وصل إلى الخبيث رمى بالكتاب من يده ولم يجبه بشيء، وأقام على إصراره فعرض أبو أحمد شذاءاته وجمع آلات الماء ورتب قوّاده ومواليه وتخيّر الرماة منهم فرتّبهم فى الشذاءات وسار إلى مدينة الخبيث المسماة: المختارة، فى نهر أبى الخصيب فأشرف عليها وتأمّلها فرأى من حصانتها وأسوارها وخنادقها ووعورة الطرق المؤدية إليها من كلّ وجه وكثرة من أعدّ عليها من الرماة بالقسّى الناوكيّة والمجانيق والعرّادات وسائر الآلات ما لم ير مثله. فاستغلظ أمره واستعدّ الوصول إليه. ولمّا عاين الزنج أبا أحمد ارتفعت ضجّتهم بما ارتجّت له الأرض وتقدّم   [1] . انظر الطبري (13: 1981) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 إلى بعض الشذاءات أن تقرب من السور من قصر الخبيث فتتابعت سهامهم وأحجار منجنيقاتهم وغير ذلك من عرّاداتهم ومقاليعهم حتّى ما كان يقع طرف ناظر من الشذاءات إلّا على سهم أو حجر فأمر أبو أحمد بردّ تلك الشذاءات ومعالجة من أصابه جرح أو وهن. واستأمن فى تلك الحال سميريّتان فيها مقاتلة السودان ومعهما آلات الماء فأمر أبو أحمد [531] للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلّاة ووصلهما، وأمر للملّاحين بخلع حرير حمر وثياب بيض وخضر وأمر لهم بصلات وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراه منه نظراؤهم. فكان هذا من أنجع المكائد التي كادهم بها، وذلك أنّهم لمّا رأوا ذلك حسدوهم على ما صاروا إليه من الإحسان مع الدعة والأمن فتنافسوا فيه وابتدروا إليه وحرصوا على المسارعة إليه. فصار إلى أبى أحمد فى يومه ذلك عدّة سميريات فأمر لأصحابها بمثل ما أمر لمن تقدّمهم. فتتابع القوم إلى الأمان رغبة ورهبة ثمّ استأمن أصحاب الشذاءات. وجاءه السودان والبيضان فكان يصلهم ويكتب أسماءهم ويضمّهم إلى ابنه أبى العباس. ثمّ تقدم أبو أحمد إلى موضع يقرب من القصر يعرف بحطى [1] بعد ما أصلح الطرق إليه وعقد القناطر على أنهارها- وعسكر أبى أحمد فى ذلك الوقت زهاء خمسين ألفا وعسكر الخبيث زهاء ثلاثمائة ألف، ممّن يقاتل أو يدافع من بين ضارب بسيف وطاعن برمح ورام عن قوس وقاذف بحجر عن منجنيق أو عرّادة أو مقلاع- وأضعفهم الرماة باليد وهم النظّارة الذين يكثرون السواد [2] والمعينون بالنعير والصياح [532] فأمر أبو أحمد فنودي:   [1] . كذا فى الأصل: بحطى. وما فى مط مهمل. فى الطبري (13: 1983) : جطّى. [2] . كذا فى الأصل ومط: السواد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 - «إنّ الأمان مبسوط للناس أسودهم وأحمرهم إلّا الخبيث.» وأمر بسهام فلفت عليها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودى به. فأقبل إليه المستأمنة تترى. حصانة مواضع صاحب الزنج ومطاولة أبى أحمد ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة عدّته ما لا بدّ له من المطاولة والمحاصرة. فاستعدّ لذلك وفرّق أصحابه حول الخبيث ووكّل بكلّ ركن قوّادا وقوّاهم بالرجال والآلات وأنفذ إلى عمّاله فى النواحي فى حمل الأموال والمير وسائر الأمتعة، وبنى مدينة سمّاها: الموفّقية، وعمل فيها بيت مال وأمر بحمل الأموال إليه من جميع البلدان. وبنى دور الضرب فضرب فيها دنانير ودراهم وجلب إليها الذهب والفضّة، وأرسل إلى سيراف من يأتيه بآلات الماء ويبنى فيها السفن والشذاءات ويجلب متاع البحر وكان قد انقطع جلب البحر منذ أكثر من عشر سنين لإخافة الخبيث السبل. وكتب بإثبات كلّ من يصلح للجندية إلى عمّاله فى الأمصار، ورغّب فى ذلك والمدينة الموفّقية تبنى والكتب تنفذ بما يعمرها والتجّار يجهزون [1] إليها والأسواق تكثر وأقبلت إليها مراكب البحر. وبنى أبو أحمد المسجد الجامع [533] فصارت مدينة كبيرة وحملت إليها الأموال وأدّر العطاء فى أوقاته ورغب الناس فى حلولها والمصير إليها من كلّ أوب، والخبيث يرصد غرّة يصيب فيها فرصته من أبى أحمد فلا يجد لتيقّظ الناس وتحارسهم ولحفظ الموكّلين بالمواضع المخوفة مواضعهم. وكان أبو العباس لا يغفل ليلا ولا نهارا وإذا أمكنه قصد ناحية أوقع بها   [1] . انظر الطبري (13: 1989) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 وبمن رتّب فيها من الزنج وإن أتاه مستأمن قبله وأحسن إليه والخبيث ينفذ أصحابه ويبثّ رجاله فى اقتطاع ما يرد المدينة من السفن وغيرها. فربّما أصاب من ذلك حاجته فيعوّض أبو أحمد التجّار ويشحن المواضع التي يقصد منها بالرجال. وندب لحفظ الطرق أبا العباس فكان يوقع بأصحاب الخبيث ويحمل رؤوسهم إلى الموفّقية ويرتّب الرجال فى الماء والبرّ حتّى ضاق الأمر بالخبيث، فعزم على كبس الموفّق. فاستأمن بعض قوّاد الزنج وأخبر الموفّق بذلك فأعدّ له قوما، فلمّا أتاه البيان كان مستعدا، فظهر على الزنج وأصابه مثل ذلك مرّات فى كلّ مرّة يجيئه من ينذره [534] فيستعدّ لهم حتّى ظفر يوما برجال بيّتوه وأسر وقتل من السودان نحوا من خمسة آلاف ونصب الرؤوس على سور الموفّقية. فأشاع الخبيث فى أصحابه أنّ ذلك زور وأنّ تلك رؤوس المستأمنة. فأمر الموفّق برمي تلك الرؤوس إليهم بالمنجنيقات والعرّادات التي كانت منصوبة فى السفن معمولة لأوقات الحرب فتبيّن لأصحابه كذبه، وصار سببا لضعف نيّاتهم. ثمّ زحف الموفّق بنفسه إلى المدينة المختارة ذكر السبب فى خروجه كان السبب فى خروجه أنّ قوّاد الخبيث كاتبوا أبا أحمد الموفّق يعلمونه أنّهم على الخروج إليه فى الأمان وأنّهم ليس يجدون السبيل إلى ذلك وأنّه لو قدّم قوما إلى الحرب لخرجوا ووجدوا بهم سبيلا إلى مفارقة الخبيث. [1] فأنهض الموفّق أبا العباس فى آلات الماء والشذاءات وانتخب له الرجال   [1] . فى الطبري (13: 2000) : المعروف بأنكلاى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 الشجعان وأهل النجدة والبأس وقدّمه. ثمّ سار بنفسه مع نصير [535] ورشيق وزيرك واستقبلهم أصحاب الخبيث فى أكثر من معدّاتهم وآلاتهم وخرج ابن الخبيث انكلانى [1] ومعه علىّ بن أبان وسليمان بن جامع مع السفن التي فيها المجانيق والعرّادات والقسّى الناوكية. فلمّا التقى الجمعان أمر الموفّق أصحابه بالحملة والدنو من الركن الذي فيه الجمع الأكثر وبينه وبينهم نهر يعرف بنهر الأتراك وهو نهر عريض غزير الماء. فلمّا انتهوا إليه أحجموا، فصيح بهم وحرّضوا على العبور فعبروا سباحة والزنج يرمونهم بما استطاعوا من المجانيق والعرّادات والمقاليع والسهام وحجارة الأيدى فصبروا على جميع ذلك حتّى عبروا النهر وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة ما كان أعدّ لهدمه. فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح وتسنّموه وحصرهم بعض السلاليم بعد أن قتل فيهم مقتلة عظيمة ونصب هناك علم وأسلم الزنج سورهم وأحرق ما كان عليه من منجنيق وعرّادة وآلة حرب واستلحقوا الفعلة حتّى وسّعوا المدخل فى عدّة مواضع وملكوا السور [536] الأوّل بعد مدافعات هلك فيها من الفريقين خلق ولا يعدم كلّ يوم مستأمنة يحسن إليهم فيتنصّحون ويأتون بالأخبار والتدابير التي يدبّرها الخبيث فينتقض عليه أمره. ودخلت سنة ثمان وستين ومائتين استئمان جعفر السجّان وهروب ريحان إلى أبى أحمد وفيها استأمن جعفر السجّان وهرب ريحان بن صالح المغربىّ من عسكر الخبيث إلى أبى أحمد. فأمر لهما بجوائز وصلات وأقيمت لهما الأنزال وحملا   [1] . كذا فى الأصل ومط: أنكلانى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 حتّى ظهرا لأصحاب الخبيث وعليهم الخلع فاستأمن ذلك اليوم خلق كثير. ثمّ وقعت وقعات كثيرة بعد ذلك بعضها للزنج وبعضها للموفّق، إلى أن منع من ميرة السمك الذي كان يأتيه من البطيحة ومنع العرب من حمل الميرة من جهة البادية وقتل منهم خلق وسلبوا ما كان معهم ومن ظفر به ممّن يسفر أو يعين عليه أخذ وعوقب وعذّب ثمّ قتل حتّى ضاق على الزنج الأمر وانقطعت عنهم كلّ مادّة وضعفوا جدا. فكان الأسير أو المستأمن إذا سئل عن الخبر تعجّب ويزعم بعضهم أنّ عهدهم به سنتين وأقلّ وأكثر. فولى الموفّق أن يتابع الإيقاع بهم ليزيدهم ضرا وجهدا. وأمر الموفّق [537] بعرض الزنج لمّا كثروا وصاروا أكثر من جنده فمن كان لا يستصلح للقتال مثل الشيخ الضعيف والمجروح والزمن ومن أشبه هؤلاء أن يوهب لهم شيء ويردّوا إلى عسكر الزنج فلمّا عادوا وصفوا خصب عسكر الموفّق وإحسانه إلى المستأمنة فخرج أيضا بهذا السبب خلق فى الأمان. ثمّ إنّ بهبوذ أخال بحيلة حتّى ظفر بخيل للموفّق فقتلهم وأخذ شذاءات كثيرة ونقل ميرة كبيرة. ذكر حيلته هذه احتال بأن أخذ شذاءات كثيرة فنصب عليها أعلاما كأعلام الموفّق وحمل فيها فوجا فى زىّ قومه ورجاله. ثمّ اجتهد فى أن وقع إلى معترض يؤدّى إلى نهر اليهودي. ثمّ سلك نهر نافذ حتّى خرج إلى نهر الأبلّة فانتهى إلى الشذاءات والسميريّات المرتّبة لحفظ النهر وهم غارّون، فأوقع بهم وقتل قتلا ذريعا وأسر الباقون وجمع شيئا كبيرا من الميرة وأتى أصحابه فى معترضات وأنهار غامضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 ثمّ إنّه طمع فى المعاودة. ذكر طمعه هذا فأمره لصاحبه أن يسلك [538] فى مواضع غامضة إلى أن يوافى القندل والبرشان. [1] ففعل ذلك فوقع على سميريّة فيها طعام فقصدها بهبوذ فحاربه أهلها فأصابته طعنه فى بطنه هلك منها. فعظمت فجيعة الخبيث وأحضر الموفّق الغلام فوصله وطوّقه وزاد فى أرزاقه، وأمر لمن كان معه فى سميرية بجوائز وصلات. ودخلت سنة تسع وستين ومائتين ولمّا قتل بهبوذ طمع صاحبه فى كنوزه وأمواله وكان قد صحّ عنده موضع مائتي ألف دينار وجواهر وضياعات ذهب لها قدر. فطلب أمواله وذخائره وحبس أولياءه وأصحابه وضربهم بالسياط وأباد دورا له وهدم أبنية من أبنيته طمعا فى شيء يجده من دفائنه. فكان ذلك أحد ما أفسد قلوب أتباعه ودعاهم إلى الهرب [2] منه والزهد فى صحبته. فأمر أبو أحمد بالنداء فى أصحاب بهبوذ بالأمان فسارعوا إليه ووصلهم. ورأى أبو أحمد أنّ هدم السور الذي يفضى إلى الخبيث قد امتنع عليه فأزمع أن يباشره بنفسه ليكون ذلك أدعى إلى جدّه أصحابه. فباشر الحرب حتّى وصل إلى السور [539] وأحرق قناطر كانت تحول بين أصحابه وبين السور ويعتصم بها الزنج، واستظهر ذلك اليوم. فبينا هو فى جدّه وتشميره وقد ولج أصحابه السور وهدموا المسجد   [1] . كذا فى الأصل ومط: القندل والبرشان. فى الطبري (13: 2023) . [2] . كذا فى الأصل ومط: الهرب. فى الطبري (13: 2029) : الحرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 الجامع الذي بناه الخبيث ووصلوا إلى دواوينه وخزائنه وظهرت تباشير الفتح، إذ أتاه سهم غلام رومىّ كان مع الخبيث يقال له: قرطاس، فأصاب صدر الموفّق فستر ذلك عن أصحابه وانصرف إلى موضعه من الموفّقية وعولج تلك الليلة. فلمّا كان من الغد غادي الحرب على ما به ليشدّ من قلوب أوليائه ولئلّا يدخلهم وهن. فزاد ما حمله نفسه من الحركة فى قوّة الجراحة فعظم أمرها حتّى خيف عليه واضطرب العسكر والجند والرعيّة وخافوا قوّة الخبيث عليهم. فأشار الأطباء وأهل الشفقة بأن يرجع إلى مدينة السلام، فأبى وأشفق أن ينتظم أمر الخبيث بعد ما وهن، وبلغ الغاية. ولم يبق فى أمره إلّا اليسير فأقام على صعوبة علّته وغلظ الحادثة فى سلطانه إلى أن عوفي فظهر لخاصّته وقد كان أطال الاحتجاب عنهم والخبيث فى تلك الأيّام يعد أصحابه العدات ويمنّيهم الأمانى الكاذبة. فلمّا استقل الموفّق وتماثل وقوى على [540] النهوض للحرب جعل [1] يحلف على منبره أنّ ذلك باطل لا أصل به وأنّ الذي ظهر لهم فى الشذاءة مثال مموّه. وكان أعاد بناء ما خرّب من مدينته ودواوينه ودوره. فركب الموفّق وعاود الموضع بالحرب ووصل إلى تلك المواضع فهدمها ثانية ووصل أصحابه إلى قصر من قصوره فانتهبوا ما كان فيه وأخربوه وأحرقوه واستنقذوا عددا من النساء المسلمات اللواتي كان سباهنّ وأخذوا خيلا له، ولم يبق إلّا الوصول إلى قصره. فصعب مرام ذلك على الموفّق وكثر المحامون عليه، ووافت الحرب ودامت حتّى وصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وحتّى لقد عدّ   [1] . أى الخبيث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 الجرحى فى بعض الأيّام فوجدوا زهاء ألفى جريح فى أصحاب الموفّق وذلك لتقارب الفريقين فى وقت القتال، ومنع الخنادق كلّ واحد من الفريقين من الدنو من صاحبه، وكانت الشذاءات إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بحجارة المنجنيقات وغيرها وبالنشّاب، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، حتّى أعدّ الموفّق للشذاءات أغطية طلاها بعقاقير تمنعها من الاحتراق وأحكمها وحمل فيها شجعان أصحابه وفتّاكهم، وأمر ابنه أبا العباس بقصد دار على شاطئ [541] دجلة من نهر أبى الخصيب كانت بإزاء دار الخبيث ليشغل من فيها عن منعه من دار الخبيث، وأمر أصحاب الشذاءات المطليّة بما وصفنا أن يلصقوا شذاءاتهم بحائط القصر. فحاربهم الفسقة أشدّ حرب بالنيران وغيرها وصبر لهم من فيها حتّى أزالوهم عن الرواشن وأحرقها غلمان الموفّق وسلم من كان فيها من الحجارة والرصاص المذاب، وتمكّنوا من دار الخبيث وأحرقوا البيوت التي كانت تشرع إلى دجلة من قصر الفاسق واتصلت النار بالستائر فقويت وأعجلت الخبيث ومن معه عن التّوقف على شيء من أمواله وذخائره وخرج هاربا على وجهه واستنقذ جماعة من النساء اللواتي استرقّهنّ. وانصرف الموفّق وأبو العباس وقت المغرب بأجمل ظفر وغرق نصير فى هذا اليوم. ذكر الخبر عن ذلك وسببه وكان سبب غرقه أنّه كان دخل فى أوّل المدّ نهر أبى الخصيب فحمل الماء شذاءته فألصقها بالقنطرة ودخلت خلفه عدّة شذاءات فيها غلمان الموفّق ممّن لم [542] يكن أمر بالدخول. فحملهم الماء فألقاهم على شذاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 نصير فصكّت بعضها ببعض حتّى لم يكن للاشتيامين [1] والجذّافين فيها عمل، ورأى الزنج ذلك فأحاطوا بها من جانبي النهر فألقى الجذّافون أنفسهم فى الماء ذعرا ودخل الزنج الشذاءات فقتلوا المقاتلة وغرق بعضهم وحاربهم نصير فى شذاءته حتّى خالف الأسر فقذف نفسه فى الماء فغرق. وأصاب الموفّق علّة فاشتغل بها عن الخبيث فأعاد القنطرة التي لجّج فيها نصير وأحكم ما كان هدم من قصره، وأفاق الموفّق من علّته فعاود الحرب وخرج الخبيث بنفسه للقتال مع ابنه انكلائى وعلى بن أبان وسليمان بن جامع واشتبكت الحرب وقاتلوا أشدّ قتال رئي، وقطعت القنطرة وأحرقت واستعلى عند ذلك أصحاب الموفّق ونشط غلمانه فوسّعوا المسلك وظفروا بدوره وقصوره فأحرقوها. وانتقل الخبيث من غربىّ نهر أبى الخصيب إلى شرقيّه وجمع عياله وولده حوله وضعف أمره ضعفا شديدا. تفاقم الجوع وأكل بعضهم بعضا وتهيّب الناس جلب الميرة إليهم. فبلغ الرطل من الخبز عشرة دراهم فأكلوا أصناف الحبوب ثمّ لم يزل يتفاقم الأمر بهم [543] إلى أن أكلوا لحوم الناس فكان الزنج يتبعون الناس فإذ خلا أحدهم بامرأة أو صبي وثب عليه فأكله، ثمّ قوى ذلك فصار بعضهم يأكل بعضا، ثمّ أكلوا لحوم أولادهم، ثمّ كانوا ينبشون الموتى فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم. فقصدهم الموفّق وأحرق الشرقىّ من جانب النهر كما أحرق الغربىّ وقصده من ثلاثة أوجه. فطرحوا فيها النيران فاحترق الناس من أصحاب الخبيث مع منازلهم وأسواقهم وهرب من أطاق ذلك فأخذته السيوف وهرب الخبيث   [1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2047) : للاشتيامين. فى مط: للاستيامين (بالسين المهملة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 وحاز أصحاب الموفّق جميع ما كان فى نهر أبى الخصيب من الشذاءات والمراكب البحرية والسفن الصغار والحرّاقات والزلّالات وغيرها. [1] وصار بعد ذلك رؤساء أصحاب الخبيث إذا وكّلهم بحراسة موضع أسلموه واستأمنوا حتّى استأمن الشعراني وشبل وكانا من قدماء أصحابه وذوى البصائر فى طاعته، وأمرهما الموفّق لمحاربة الخبيث لما علم أنّه لا وجه لهما عنده وضمّ إليهما قوما فكانا يأتيانه من الوجوه التي يأمنها حتّى كثر القتل فى أصحابه وذعره أمرهما ومنع ذلك أصحابه النوم ودخلهم له وحشة [544] . هزيمة الزنج وهروب صاحبهم عظيمة ثمّ جمع الموفّق السفن وفيها عشرة آلاف من الملّاحين وعرض الجند وحرّضهم حتّى شحذ نيّاتهم وهجم على مدينة الخبيث واستقبله الخبيث فى جميع أصحابه فاشتدّ القتال وحامى الخبثاء عن ديارهم وعيالاتهم فمنح الله الموفّق النصر، وهزم الزنج وقتلوهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وأسروا منهم جمعا كبيرا وأتى الموفّق بالأسرى فضرب أعناقهم. وقصد دار الخبيث فدافع عنها ثمّ لم يغنه ذلك شيئا فأسلمها فانتهب ما كان فيها من الأموال والأثاث وأخذوا حرمه وأولاده فبلغ عدّتهم أكثر من مائة امرأة وصبي، وتخلّص الخبيث ومضى هاربا نحو دار المهلّبى لا يلوى على أهل ولا مال وأحرقت داره، وأتى الموفّق بنسائه وأولاده، فوكّل بهم وأمر بالإحسان إليهم فحملوا إلى الموفّقيّة. وفى ذى الحجّة من هذه السنة وافى صاعد بن مخلد كاتب الموفّق   [1] . انظر الطبري (13: 2068) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 حضرته منصرفا إليه من سرّ من رأى ووافى معه بجيش كثيف بلغ عدد الفرسان والرجّالة فيها عشرة آلاف. فأمر الموفّق بإزاحة عللهم فى أرزاقهم وأمرهم بتجديد أسلحتهم والتأهّب لحرب الزنج. فهم فى ذلك إذ ورد [545] عليه كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون [1] وكان فارق صاحبه يسأله فيه الإذن له فى القدوم عليه ليشهد حرب الفاسق فأجابه وأذن له وأخّر ما كان عزم عليه من مناجزة الخبيث انتظارا للؤلؤ وكان لؤلؤ بالرقّة فى جمع عظيم من نخبة أصحاب ابن طولون. فشخص لؤلؤ حتّى ورد مدينة السلام، ثمّ وافى عسكر أبى أحمد فجلس له أبو أحمد وحضر ابنه أبو العباس وصاعد بن مخلد والقوّاد على مراتبهم وأدخل عليه لؤلؤ فى أحسن زىّ فأمره أبو أحمد أن ينزل معسكرا كان أعدّ له بإزاء نهر أبى الخصيب، فنزله فى أصحابه، وتقدّم إليه فى مباكرة دار الموفّق ومعه قوّاده وأصحابه للسلام. فغدا مع أصحابه فى السواد فوصل وسلّم وقرّبه وأدناه ووعده وأصحابه الإحسان، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قوّاده وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلّاة بالذهب والفضّة وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال فى البدر ما يحمله مائة غلام، وأمر لقوّاده من الصلات والكسوة على قدر محل كلّ إنسان منهم، وأقطعه ضياعا جليلة وصرفه إلى معسكره وأعدّت له ولأصحابه الأنزال [546] والعلوفات وأمره برفع جرائد لأصحابه ليعطوا رسومهم عند رفع الجرائد. ثمّ تقدّم إلى لؤلؤ فى التأهّب للعبور إلى غربىّ دجلة لمحاربة الخبيث. وكان الخبيث لمّا غلب على نهر أبى الخصيب أحدث سكرا فى النهر من   [1] . انظر الطبري (13: 2070) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 جانبيه وجعل فى وسط السكر بابا ضيّقا ليتحدّ فيه جرية الماء فيمنع الشذاءات من دخوله فى الجزر ويتعذّر خروجها فى المدّ. فرأى أبو أحمد الموفّق أنّ الحرب لا تتم إلّا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك فرام أمرا صعبا بمحاماة الزنج عليه فهم يزيدون فيه كلّ يوم وهو متوسط دورهم، فالمؤونة تسهل عليهم وتغلظ على من حاوله. فرأى الموفّق أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليضروا بمحاربة الزنج ولينظر إلى مقدار غنائهم وشدّة بأسهم. فأمر لؤلؤا بأن يحضر فى جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر وأمر بإحضار الفعلة لقلعه. ففعل. فرأى الموفّق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدّة اليسيرة فى وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سرّه، وكره أن يبذلهم فيكون الحرّة بهم ثمّ الظفر ألّا خير لهم فيذهبوا باسم الفتح. [547] فأمر لؤلؤا أن يصرف أصحابه وأظهر إشفاقا عليهم وضنّا بهم، ووصلهم وردّهم إلى معسكرهم. ثمّ ألحّ الموفّق على السكر فهو يخرّب وهم يبنون والمستأمنة يكثرون إلى آخر هذه السنة. وفى هذه السنة أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد. وفيها سمّى صاعد ذا الوزارتين. المعتمد يريد اللحاق بمصر وفيها شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وذلك قبل انحدار صاعد إلى الموفّق. وقدم قائدان لابن طولون من الرقّة فى ذلك. فلمّا صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداجيق، وهو العامل على الموصل والجزيرة، وثب عليه ابن كنداجيق وعلى جميع من معه، فقيّدهم وأخذ جميع ما صحبهم من مال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 ورقيق. وكان كتب إليه فى القبض على المعتمد ومن معه وأقطع ضياع فارس بن بغا ومن صحب المعتمد من القوّاد. فاحتال ابن كنداجيق وأظهر أنّه معهم، وفى طاعة المعتمد إذ كان الخليفة ولا يجوز له الخلاف عليه وسار معهم فلمّا نزل موضعا بينه وبين عمل ابن طولون منزلان ارتحل التّبّاع ومن شخص مع المعتمد إلّا القوّاد وأشخص ابن كنداجيق فقال لهم ابن كنداجيق: - «إنّى أحبّ أن أخلو بكم وأشير عليكم بما فى نفسي.» وقال لهم: - «قد قربتم من ابن طولون [548] والمقيم بالرّقّة من قوّاده وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون فالأمر أمره وأنتم من تحت يده. أفترضون بذلك وقد علمتم أنّه اليوم كواحد منكم؟» وأطال مناظرتهم حتّى تعالى النهار فقال لهم ابن كنداجيق: - «قوموا بنا، فإنّ الشمس قد ارتفعت حتّى نتمّ حديثنا فى غير هذا الموضع ونكرم مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت.» وكان المعتمد فى مضربه ومضرب ابن كنداجيق وسائر المضارب قد سارت فأدخلهم إلى مضرب نفسه. وكان قد تقدّم قبل ذلك إلى فرّاشيه وغلمانه وحاشيته فى ذلك اليوم ألّا يبرحوا. فلمّا صاروا إلى مضربه دخل جلد غلمانه وأصحابه على القوّاد ومعهم القيود فقيّدوهم. فلمّا فرغ منهم مضى إلى المعتمد فعذله على شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو فيها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وإزالة ملكهم، ثمّ حمله ومن معه مقيّدين إلى سرّ من رأى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 تسمية كنداجيق بذي السيفين وفيها خلع على ابن كنداجيق وقلّد سيفين بحمائل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وسمّى ذا السيفين وخلع عليه أيضا بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان وتوّج بتاج وقلّد سيفا، [549] كلّ ذلك مرصّع بالجوهر. وشيّعه هارون بن الموفّق وصاعد بن مخلد والقوّاد إلى منزله وتغدّوا عنده. ودخلت سنة سبعين ومائتين مقتل صاحب الزنج وأسر سليمان بن جامع وابراهيم بن جعفر الهمداني وفيها قتل الخبيث وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق، وذلك بعد حروب كبيرة ومنازلات شديدة ومباشرة للحرب منه ومن الموفّق بأنفسهما، ومخاطرات منهما عظيمة لم يكن فى جميعها ما يستفاد منه تجربة سوى احتمال المكاره فى الحروب والصبر على شدائدها وأخطارها. وحمل رأس هذا الخائن إلى بين يدي الموفّق فى صفر من هذه السنة وهو يحارب مع أهل الشدّة والبأس من أصحابه، فقتل وهو يجاهد على حاله غير مستسلم ولا معط بيده، وكان قد بذل له الأمان مرارا فأباه وأقام على حاله صابرا حتّى أسلمه رجاله وخانه ثقاته وذاب ذوبا [1] حتّى هلك ومضى مقتولا.   [1] . كذا فى الأصل: ذاب ذوبا. فى مط: دأب دؤوبا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 ثمّ تتابع مجيء الزنج [1] الذين كانوا أقاموا مع الخبيث إلى آخر أمره وصبروا معه حتّى وافى ذلك اليوم الذي قتل فيه ألف من الأبطال. فرأى الموفّق أن يبذل لهم الأمان لمّا رأى من كثرتهم وشجاعتهم [550] ولئلّا يبقى منهم بقية يخاف معرّتهم ويجتمعون على رئيس يعظم خطبه بهم. ثمّ وافى من الزنج فى غد هذا اليوم خمسة آلاف زنجى وانقطع منهم نحو ألفى زنجى إلى البرّ فماتوا عطشا، وظفر الأعراب بقوم منهم فاسترقّوهم. فأمّا من قتل وغرق وأسر فى الوقعة فخلق لا يوقف على عددهم. وانتهى إلى الموفّق خبر المهلّبى وانكلائى ومقامهما بحيث أقاما فيه مع من تبعهما من جلّة قوّادهم ورجالهم فبثّ أبطال أصحابه فى طلبهم فلمّا علموا ألّا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم فظفر بهم الموفّق فلم يشذّ منهم أحد وأمر الموفّق بحبس المهلّبى وانكلاى والاستيثاق منهما. استئمان درمويه وفيها استأمن درمويه [2] ، الزنجي وكان أحد الأنجاد الأبطال وكان الخبيث قبل هلاكه بمدّة طويلة وجّهه إلى أواخر نهر الفهرج وهي من البصرة فى غربىّ دجلة. فلمّا هلك الخبيث أقام درمويه هناك فى موضع وعر كثير الدغل والآجام متصل بالبطيحة فكان يقطع الطريق بمن معه فى زواريق خفاف اتخذوها، فإذا طلبهم الشذاءات ولجوا فى الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال وإذا تعذّر   [1] . انظر الطبري (13: 2094) . [2] . كذا ضبط فى الأصل: درمويه على غرار ليثويه، كما سبق. وهو ضبط حسب الأصل الفارسي لهذه اللاحقة (أويه) ، التي نجدها أيضا فى لقب المصنف: مشكويه (مسكويه) حسب ضبطه الفارسىّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 عليهم مسلك [551] نهر لضيقه خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم ولجؤوا إلى هذه المواضع الممتنعة، وفى خلال ذلك يغيرون على ما قرب منهم من القرى ويسلبون من ظفروا به. فكان ذلك دأب درمويه قبل هلاك الخبيث وبعده. وقد كان ابتدأ شرار الناس وفسّاقهم يصيرون إليه للمقام معه على مثل ما هو عليه، وكان الموفّق عزم على المقام عليه حتّى وافاه رسوله يطلب الأمان لنفسه وأصحابه، فرأى الموفّق أن يؤمنه ليقطع مادّة الشرّ الذي كان فيه الناس من الخبيث وأتباعه. ولمّا ورد عليه الأمان وافى قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبهم بؤس الحصار وضرّه لما كان يصل إليهم من أموال الناس. فذكر أنّ درمويه لمّا أؤمن وأحسن إليه وإلى أصحابه أظهر كلّ ما فى يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم وردّ كلّ شيء إلى أهله ردّا ظاهرا مكشوفا، فظهرت أمانته، فاستدعاه الموفّق وقرّبه وخلع عليه وعلى وجوه أصحابه ووصلهم وضمّهم إلى ابنه أبى العباس. وأقام الموفّق بعد ذلك بالموفّقيّة حتّى أنس الناس وعاودوا أوطانهم ووثقوا بالراحة [552] من أسباب الخبيث. وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة من حمد مذهبه ووقف على حسن سيرته وولّى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد. ثمّ قدّم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث فطيف به. وكان خروج صاحب الزنج سنة خمس وخمسين ومائتين وقتل سنة سبعين ومائتين. [1]   [1] . انظر الطبري (13: 2098) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 وفيها مات أحمد بن طولون والحسن بن زيد العلوي. ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين وقعة الطواحين وفيها كانت بين أبى العباس ابن الموفّق وبين خمارويه [1] بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين فهزم أبو العباس خمارويه فركب حمارويه [2] حمارا وهرب إلى مصر. ووقع أصحاب أبى العباس فى النهب ونزل أبو العباس مضرب خمارويه وهو لا يرى انّه بقي له طالب، فخرج كمين خمارويه كان كمنه وأصحاب أبى العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا. فشدّ كمين خمارويه عليهم فانهزموا وتفرّق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس منهزما وذهب كلّ ما فى العسكرين: عسكر أبى العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب الجميع. ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين [553] وفيها أخرج أهل طرسوس أبا العباس ابن الموفّق من طرسوس لخلاف وقع بين يازمار [3] وبينه فخرج يريد بغداد فقدمها. وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس ودخل واسطا. فأمر الموفّق جميع أصحابه من القوّاد أن يستقبلوه، فترجّلوا له وقبّلوا يده وكمّه.   [1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2106) : خمارويه. فى مط: حمارويه (بالحاء المهملة فى كلّ المواضع) وأثبت الإسم فى الأصل بالشكلين العربي والفارسي: خمارويه، خمارويه، فاحتفظنا هنا بكليهما للاعتبار. [2] . الحاء مهملة فى الأصل، هنا. ولعلّ الحقّ مع مط فى ضبط هذا الإسم. [3] . فى الطبري (13: 2108) : يا زمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 ثمّ قبض عليه الموفّق وعلى أسبابه كلّهم ببغداد وسرّ من رأى فى يوم واحد، فاستكتب الموفّق إسماعيل بن بلبل. ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين قدوم لؤلؤ من مصر وفيها قيّد أبو العباس لؤلؤا القادم عليه [1] من مصر ووجد له أربعمائة ألف دينار. فذكر لؤلؤ أنّه لا يعرف لنفسه ذنبا إلّا كثرة ماله وأثاثه. وفيها كانت بين أبى الساج وبين إسحاق بن كنداجيق وقعة فانهزم إسحاق. ثمّ واقعه وقعة أخرى فانهزم إسحاق أيضا. ودخلت سنة أربع وسبعين ومائتين ولم يحدث فيها حادثة تكتب. ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين حبس الموفّق ابنه وفيها حبس الموفّق ابنه أبا العباس فشغب أصحابه وحملوا السلاح وركب غلمانه واضطربت بغداد فركب أبو أحمد الموفّق حتى بلغ باب الرصافة وقال لأصحاب أبى العباس [554] وغلمانه: - «ما شأنكم، أترونكم أشفق على ابني منّى؟ هو ولدي واحتجت إلى تقويمه.» فانصرف الناس وهدأت بغداد.   [1] . وزاد فى الطبري (13: 2112) : بالأمان من عند ابن طولون، واستصفى ماله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 ودخلت سنة ستّ وسبعين ومائتين شخوص أبى أحمد وفيها شخص أبو أحمد من بغداد إلى الجبل وكان سبب ذلك انّ المادرائى كاتب اذكوتكين أخبره انّ له هناك مالا عظيما، وأنّه إن شخص صار ذلك إليه. فشخص أبو أحمد، فلم يجد من ذلك شيئا. فشخص من هناك إلى الكرج ثمّ إلى إصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز فتنحّى، له أحمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله وترك له داره بفرشها وآلتها لينزلها إذا قدم. وكان مع الموفّق محمد بن أبى الساج، وذلك أنّه قدم عليه هاربا من ابن طولون قبل شخوص الموفّق عن بغداد بعد أن كانت بينه وبين ابن طولون وقعات كثيرة ضعف ابن أبى الساج فى آخرها عن مقاومته. لقلّة من كان معه وكثرة من مع ابن طولون، فلحق بأبى أحمد فخلع عليه أبو أحمد وأخرجه معه إلى الجبل. انفراج تلّ عن سبعة أقبر وفيها ورد الخبر [1] بانفراج تلّ بنهر الصلة يعرف بتلّ بنى شقيق عن سبعة أقبر، فيها أبدان صحيحة وعليها أكفان جدد، لها أهداب تفوح منها رائحة المسك، أحدهم شابّ له جمّة وجبهته [555] وأذناه وخدّاه وأنفه وشفتاه ورقبته وأشفار عينه صحيحة وعلى شفتيه بلل كأنّه شرب الماء فأخرج الثقات لينظروا إلى ذلك فأخبروا أنّهم شاهدوا ذلك وانّ بعضهم جذب شعر بعضهم فوجده قوىّ الأصل قريبا من شعر الحىّ.   [1] . قس بما فى الطبري (13: 2116) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 وكان هذا التلّ انفرج عن شبه حوض من حجر فى لون المسنّ عليه كتاب لا يدرى ما هو. فأحضر أصحاب الأديان فلم يعرف أحد منهم الخطّ. ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين ولم يجر فيها ما يكتب. ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين وفيها انحدر وصيف خادم أبن أبى الساج إلى واسط بأمر أبى الصقر ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك أنّ أبا الصقر أتلف ما فى بيوت أموال أبى أحمد، حتّى لم يبق فيها شيء، بالهبات والصلات العظام التي كان يجيز بها القوّاد، والخلع التي يخلعها عليهم. فاستدعى وصيفا هذا ليكون عدّة له إن طالبه أبو أحمد، وكان اصطنع وصيفا وأجازه بجوائز كثيرة [556] وأدرّ على أصحابه أرزاقهم. ولما نفد ما فى بيوت الأموال طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضهم، وحبس بذلك جماعة وكان الذي يتولّى له ذلك المعروف بالزغل [1] . فعسف الناس وقدم الموفّق قبل أن يسنتظف [2] أداء ذلك، فشغل عنه بقدومه. انصراف أبى أحمد من الجبل إلى العراق وانصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، فاشتدّ به وجع النقرس حتّى لم يقدر على الركوب. فاتّخذ له سرير عليه قبّة، فكان يقعد فيه ويجلس معه   [1] . كذا فى الأصل ومط: الرغل. فى الطبري (13: 2119) : الزغل (بالزاء المعجمة) . [2] . كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (13: 2119) : يستوظف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 خادم يبرّد رجله بالأشياء الباردة وبالثلج. ثمّ صار به داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلا يتناوب عشرون عشرون. فإذا اشتدّ به الألم أمرهم أن يضعوه. فقال يوما للذين يحملونه وقد سمع منهم ما يدلّ على ضجر: - «قد ضجرتم بحملي وبودّى [1] إنّى كواحد منكم أحمل على رأسى وانّى فى عافية.» وقال يوما [2] : - «أطبق دفترى على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا منّى.» ولمّا ورد النهروان تلقّاه الناس فركب الماء فى النهروان ثمّ فى نهر ديالى ثمّ فى دجلة، ودخل داره لليلتين خلتا من صفر، فأرجف الناس بموته. وكان تقدّم فى حفظ أبى العباس فغلّقت عليه أبواب دون أبواب. وانصرف أبو الصقر إلى منزله واعترت أبا أحمد غشية [557] فازداد إرجاف الناس بموته. فحمل المعتمد ولده فجيء بهم إلى داره ولم يصر ابو الصقر إلى الموفّق. فلمّا رأى غلمان أبى أحمد المائلون إلى أبى العباس والرؤساء من غلمان أبى العباس ما نزل بأبى أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبى العباس. فذكر الغلام الذي كان مع أبى العباس فى الحجرة أنّ أبا العباس لمّا سمع صوت الأقفال تكسر قال: - «إنّا لله، ما يريد هؤلاء إلّا نفسي.» فأخذ سيفا كان عنده وقعد مستوفزا، فلمّا فتح الباب كان أوّل من دخل إليه وصيف موشكير وهو غلامه. فلمّا رآه رمى بالسيف من يده وعلم انّهم لم يقصدوه إلّا بخير، فأخرجوه حتّى أقعدوه عند أبيه، وكان أبوه بعقب علّته.   [1] . كذا فى الأصل: أحمل. فى مط: أحمد. والعبارة فى الطبري (13: 2130) : أحمل على رأسى وأكلّ (خ. وآكل) وانّى فى عافية. [2] . زاد فى الطبري (13: 2130) : فى مرضه هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 فلمّا فتح عينه بعد إفاقته رآه فقرّبه وأدناه. ووافى المعتمد وقد كان وجّه إليه، فحضر ومعه ابنه جعفر المفوّض إلى الله ولىّ العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه فنزل على أبى الصقر. ثمّ بلغ أبا الصقر أنّ أبا أحمد لم يمت. فوجّه إسماعيل بن إسحاق يتعرّف له الخبر، وجمع أبو الصقر القوّاد والجند وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح. فرجع إسماعيل فأعلم أبا الصقر أنّ أبا أحمد حىّ. فأوّل من مضى إليه من القوّاد محمد بن أبى الساج. [558] ثمّ جعل الناس يتسلّلون منهم من يعبر إلى باب أبى أحمد ومنهم من يرجع إلى منزله ومنهم من يخرج إلى بغداد. فلمّا صحّ عند أبى الصقر حياة أبى أحمد انحدر هو وابناه إلى دار أبى أحمد فما ذاكره أبو أحمد. شيئا ممّا جرى ولا سأله عنه. وأقام هناك فانتهبت دار أبى الصقر وكلّ ما حوته حتّى خرج حرمه حفاة بغير أزر وانتهبت دور كتّابه وأسبابه وكسرت أبواب السجون فأخرج من كان فى المطبق وانتهب مجلسا الجسر. ثمّ خلع أبو أحمد على ابنه أبى العباس وعلى أبى الصقر وركبا جميعا والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق ومضى أبو الصقر مع أبى العباس إلى دار صاعد. ثمّ انصرف إلى منزله فلم يجد فيه شيئا يجلس عليه حتّى أتوه من دار الشاه بحصير فجلس عليه. وولّى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة على الجانب الشرقىّ وعيسى النوشرى الجانب الغربىّ. وفاة أبى أحمد الموفّق وفيها توفّى أبو أحمد الموفّق ودفن فى الرصافة وجلس أبو العباس للتعزية وبايع الغلمان والقوّاد لأبى العباس بولاية العهد بعد المفوّض ولقّب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 بالمعتضد بالله، وأخرج العطاء للجند وخطب يوم الجمعة للمعتمد ثمّ للمفوّض ثم للمعتضد. وقبض على أبى الصقر وأسبابه [559] وطلب بنو الفرات وكان إليهم ديوان السواد فاختفوا. وخلع على عبد الله [1] بن سليمان بن وهب وولّى الوزارة. وبعث بمحمد بن أبى الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد. فأبى وصيف ومضى إلى الأهواز فعاث بالسوس وأنهب الطيّب. [2] ابتداء امر القرامطة وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة. وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان سواد الكوفة. فأظهر الزهد والتقشّف وكان يسفّ الخوص ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدّة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهّده فى الدنيا وأعلمه أنّ الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة فى كلّ يوم وليلة، حتّى فشا ذلك عنه. ثمّ أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه، فلم يزل على ذلك، يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما يعلّق قلوبهم. وكان يقعد إلى بقّال فى القرية بموضع يقال له: النهرين، وكان بالقرب من البقّال نخل اشتراه قوم من التجّار واتخذوا حظيرة فجمعوا فيها ما صرموا من النخل. وجاء التجّار إلى البقّال فسألوه أن يطلب لهم رجلا يحفظ ما صرموا من النخل فأومأ لهم إلى هذا الرجل وقال:   [1] . فى مط: على ابن عبد الله بن سليمان. فى الطبري (13: 2123) : خلع على عبيد الله بن سليمان. [2] . كذا فى الطبري أيضا. (13: 2123) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 - «إن أجابكم إلى حفظه فإنّه بحيث تحبّون.» [560] فناظروه فى ذلك فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة، وكان يحفظ لهم ويصلّى أكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر. فلمّا حمل التجّار تمرهم صاروا إلى البقال فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته فدفعوها إليه فحاسب الأخير البقّال على ما أخذه من التمر وحطّ من ذلك ثمن النوى، ورآه أولياء التجّار فوثبوا عليه وضربوه وقالوا: - «ألم ترض أن أكلت تمرنا حتّى بعت النوى؟» فقال لهم البقّال: - «لا تفعلوا فإنّه ما مسّ تمركم.» وقصّ عليهم قصّته، فندموا على ضربهم إيّاه، وسألوه أن يجعلهم فى حلّ، ففعل وازداد بذلك نبلا عندهم لما وقفوا عليه من زهده. ثمّ مرض فمكث مطروحا على الطريق، وكان فى القرية رجل يحمل على ثور له أحمر العينين، فكان أهل القرية يسمّونه كرميثه [1] ، وهو بالنبطية أى حارّ العينين [2] فكلّم البقّال كرميثه هذا أن يحمل العليل إلى منزله ويوصى أهله بالإشراف عليه. ففعل وأقام عنده حتّى برأ فكان يأوى إلى منزله. ودعا أهل القرية ووصف لهم مذهبه، فأجابه أهل تلك الناحية. وكان يأخذ من الرجل إذا دخل فى دينه دينارا ويزعم أنّ ذلك [561] للإمام فلمّا كثر أصحابه اتخذ منهم اثنى عشر نقيبا وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينهم وقال لهم: - «أنتم كحواريّى عيسى بن مريم.»   [1] . كذا فى الأصل ومط: كرميثه. فى الطبري: (13: 2125) كرميته. [2] . فى الطبري (13: 2125) : أحمر العينين. وفى حواشيه: حارّ العينين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 فاشتغل أكرة تلك الناحية بالصلوات الخمسين التي وظّفها عليهم. وكان للهيصم فى تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أكرته فى العمارة. فسأل عن سبب ذلك فأخبر بخبر هذا الرجل وأنّه قد شغلهم بالصلاة فشغلهم عن أعمالهم. فوجّه إليه وجيء به فسأله عن أمره فأخبره. فحلف أنّه يقتله وأمر به فحبس فى بيت وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته. وتشاغل بالشرب. وسمع بعض من فى داره من الجواري يمينه [1] فرقّت له، فلمّا نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته وردّت المفتاح إلى موضعه. فلمّا أصبح الهيصم طلب الرجل فلم يجده وشاع الخبر ففتن به أهل تلك الناحية وقالوا: - «رفع.» ثمّ ظهر فى موضع آخر، فقصده قوم من أصحابه، فسألوه عن قصّته فكتمهم وقال: - «ليس يمكن أحدا من البشر أن يبدأنى بسوء.» فعظم فى عيونهم. ثمّ خاف على نفسه فخرج إلى الشام فلم يعرف له خبر. وسمّى باسم الرجل الذي كان فى منزله: كرميثه ثمّ عرّب وخفّف [562] فقيل قرمط. ثمّ كثر مذهبه بسواد الكوفة. ووقف أحمد بن محمد الطائي وكان إليه النظر فى سواد الكوفة على أمرهم فوظّف على كلّ رجل منهم فى كلّ سنة دينارا فكان يجيء ذلك فيجتمع له منه مال جليل. ثمّ قدم الكوفة قوم من الكوفة، فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة وانّهم قد   [1] . كذا فى الأصل: يمينه. فى مط: منه. وفى الطبري (13: 2126) : بقصّته. وفى حواشيه عن العيون: أنينه. ولعل هذا هو الصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 أحدثوا دينا غير الإسلام، وانّهم يرون السيف فى أمّة محمد إلّا من تابعهم على دينهم، وأنّ الطائي يخفى أمرهم عن السلطان فلم يلتفت إليهم. مذهبهم كما جاء فى كتاب لهم ثمّ جاءوا بكتاب فيه مذهبهم ونسخته: - «بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان: إنّه داعية إلى المسيح، وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهدىّ وهو أحمد بن محمد الحنفية وهو جبرائيل. وحكى أنّ المسيح تصوّر له فى جسم إنسان وقال له: انّك الداعية وانّك الحجّة وانّك الناقة وانّك الدابّة وانّك روح القدس وانّك يحيى بن زكريا. ثمّ يوظّف صلاة ويقرأ فيها شيئا ليس من القرآن، ويذكر قبلة غير قبلة المسلمين، ويحكى أشياء عن لسان الإمام وينسب إلى الله أشياء ويحرّم النبيذ، وألّا غسل من جنابة، ولا صوم إلّا يومين فى السنة: [563] يوم النيروز ويوم المهرجان، وكلّ من حاربه وجب قتله.» [1] مناظرة بين قرمط وصاحب الزنج وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج. ويحكى عن قرمط أنّه قال: صرت إلى صاحب الزنج وقلت له: - «إنّى على مذهب وورائي مائة ألف سيف، فناظرني فإن اتفقّنا على   [1] . انظر الطبري (13: 2128) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 المذهب ملت بمن معى كلّهم إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك.» وطلبت منه الأمان فأعطانيه. فناظرته إلى الظهر فتبيّن فى آخر مناظرتي أنّه مخالف. فقام إلى الصلاة وانسللت وخرجت من عنده إلى سواد الكوفة. ثمّ دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين وفاة المعتمد وفيها توفّى المعتمد وكان شرب على الشطّ فى الحسنىّ شربا كثيرا وتعشّى فأكثر، فاختنق ومات ليلا. فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة. [1]   [1] . انظر الطبري (13: 2133) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 خلافة المعتضد وبويع لأبى العباس المعتضد بالخلافة، فولّى غلامه بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان الوزارة ومحمد بن الشاه بن ميكال الحرس وصالحا الأمين حجبة الخاصّة والعامّة فاستخلف صالح خفيفا السمرقندىّ. قدوم رسول عمرو بن الليث بهدايا وفيها قدم على المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفّار بهدايا وسأل ولاية [564] خراسان، فوصلوا إليه فى شهر رمضان من هذه السنة فخلع عليه ونصب اللواء فى صحن داره ثلاثة أيّام. وورد الخبر بموت نصر بن أحمد وقام مكانه وبما كان إليه من العمل وراء نهر [1] بلخ أخوه إسماعيل بن أحمد. ورود رسول خمارويه من مصر فى تزويج بنت خمارويه من المعتضد وفيها ورد من مصر الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص رسولا   [1] . فى مط: النهر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 لخماروية بن أحمد بن طولون ومعه هدايا من العين عشرون حملا على بغال فى عشرة من الخدم، وصندوقان فيهما نمران، [1] وعشرون غلاما على عشرين نجيبا بسروج محلاة بحلية فضّة كثيرة ومعهم حراب فضّة وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلّاة، وسبع عشر دابّة بسروج ولجم منها خمسة بذهب والباقي بفضّة، وسبع عشرة دابّة بجلال مشهرة، وخمسة أبغل بسروج ولجم وزرّافة فوصل إلى المعتضد فخلع عليه وعلى سبعة نفر معه. وسفر ابن الجصّاص فى تزويج بنت خمارويه من علىّ بن المعتضد. قال المعتضد: - «أتزوّجها.» فتزوّجها. وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف بمحاربة رافع بالرىّ. فزحف إليه أحمد، فالتقوا فانهزم رافع وخرج عن الرىّ ودخلها أحمد بن عبد العزيز. ودخلت سنة ثمانين ومائتين [565] قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدىّ وشيلمة وفيها قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدى ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة. وكان شيلمة هذا من أصحاب صاحب الزنج وكان سبب قبضه عليهما أنّه سعى بهما ساع إلى المعتضد وقال: أنّه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه وانّه قد استفسد جماعة من الجند وغيرهم. وأخذ معه رجل صيدنانىّ، فقرّره المعتضد فلم يقرّ بشيء وسأله عن الرجل الذي يدعو إليه فلم يظهره عليه   [1] . كذا فى الأصل: نمران. فى الطبري (13: 2133) : طراز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 وقال: - «لو كان تحت قدمىّ ما رفعتهما عنه ولو جعلتني كردناك [1] ما أخبرتك به.» فأمر بنار فأوقدت، ثمّ شدّ على خشبة من خشب الخيم وأدير على النار حتى تقطّع جلده، ثم ضربت عنقه وصلب عند الجسر. وحبس ابن المهتدى إلى أن وقف على براءته فأطلق. وقال لشيلمة: - «بلغني انّك تدعو إلى ابن المهتدى.» قال: «المأثور عنّى غير هذا أنا أتولّى آل أبى طالب.» وكان قرّر ابن أخيه، فأقرّ فقال: - «قد أقرّ ابن أخيك.» فقال: «هذا غلام حدث، تكلّم بهذا خوفا من القتل، فلا تقبل قوله.» فأطلقهما بعد مدّة. شخوص المعتضد إلى بنى شيبان ثمّ شخص المعتضد من بغداد إلى بنى شيبان وكانوا بناحية من الجزيرة اتخذوها معقلا فلمّا بلغه قصده إليهم ضمّوا إليهم أموالهم وعيالاتهم. [566] فأسرى إليهم المعتضد فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق كثير فى الزابين. فأخذ النساء والذرارىّ وغنم أهل العسكر من أموالهم ما أعجزهم حمله وأخذ من غنمهم وإبلهم حتّى بيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وأمر بحفظ النساء والذرارىّ.   [1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2136) : كردناك. فى مط وحواشي الطبري: كردباك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 ثمّ لقيه بنو شيبان وسألوه الصفح عنهم وبذلوا رهائنهم فأخذ منهم خمسمائة رجل. ووافاه أحمد بن أبى الأصبغ بما فارق عليه أحمد بن عيسى بن شيخ من المال الذي أخذه من مال إسحاق بن كنداجيق وبهدايا وبغال ودوابّ. وفيها ورد الخبر بأنّ محمد بن أبى الساج افتتح المراغة بعد حصار شديد وحرب عظيمة، وأنّه أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن آمنه وأصحابه فقيّده وحبسه وقرّره بجميع أمواله ثمّ قتله. وفيها ورد الخبر بوفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثمّ قام بالأمر عمر. وفيها توفّى جعفر بن المعتمد. وفيها ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وافتتاحه مدينة ملكهم وأسره إيّاه وامرأته خاتون ونحوا من عشرة آلاف، وقتل خلقا لا يحصى وغنم من الأموال والدوابّ ما لا يوقف على عدده، وأصاب الفارس من المسلمين [567] من الغنيمة فى المقسم ألف درهم. ثمّ دخلت سنة احدى وثمانين ومائتين شخوص المعتضد إلى الجبل وخروجه الثاني إلى الموصل وفيها شخص المعتضد إلى الجبل فعقد ناحية الدينور، وقلّد ابنه أبا محمد علىّ بن المعتضد الرىّ وقزوين وزنجان وأبهر وقم والدينور. وقلّد كتبه أحمد بن أبى الأصبغ ونفقات عسكره، وقلّد عمر بن عبد العزيز بن أبى دلف إصبهان ونهاوند والكرج، وتعجّل الانصراف من أجل غلاء السعر. وفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل قاصدا حمدان بن حمدون. ذلك أنّه بلغه أنّه مائل إلى هارون الشاري داع له، فورد كتابه على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 نجاح الحرمي يذكر الوقعة: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة وقد نصر الله وله الحمد على الأعراب والأكراد وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رأيتنا نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عام أوّل، ولم تزل السيوف والأسنة تأخذهم حتّى حال بيننا وبينهم الليل، ومن غد يومنا يقع الاستقصاء وكان وقاعنا بهم وقتلنا لهم خمسين ميلا. فلم يبق منهم مخبر [568] والحمد لله كثيرا وصلّى الله على محمد وآله وسلّم.» وكانت الأعراب والأكراد لمّا بلغهم خروج المعتضد تحالفوا أنّهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا وعبّأوا عسكرهم ثلاثة كراديس فكان من أمرهم ما ذكرت. قصد المعتضد قلعة ماردين ثمّ الحسينيّة ثمّ قصد المعتضد قلعة ماردين وكانت فى يد حمدان بن حمدون. فلمّا بلغه خروج المعتضد إليها هرب وخلّف ابنه فيها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة ذلك اليوم. فلمّا كان من الغد ركب المعتضد وصعد حتّى وصل إلى باب القلعة ثمّ صاح: - «يا بن حمدان.» فأجابه فقال: - «افتح الباب.» ففتحه ولم يجر بينهما غير ذلك فقعد المعتضد فى الباب ولم يدخل، وأمر من دخل فنقل ما فى القلعة من المال والأثاث. ثمّ أمر بهدمها فهدمت، ويشبه أن يكون راسله قبل ذلك. ثمّ وجّه خلف حمدان بن حمدون فطلب أشدّ الطلب وأخذت أمواله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 وكانت مودعة ثمّ ظفر به بعد. ثمّ قصد المعتضد مدينة يقال لها الحسنية وفيها رجل يقال له شدّاد فى جيش عظيم يقال انّهم عشرة آلاف وكان له قلعة فى المدينة فظفر به المعتضد فأخذه وهدم قلعته. [569] ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين المعتضد وتغيير موقع النيروز وفيها أحدث المعتضد النيروز الذي يقع فى اليوم الحادي عشر من حزيران وأنشأت الكتب إلى جميع العمّال فى النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج فى النيروز الذي كان للعجم. وورد كتابه على يوسف بن يعقوب يعلمه أنّه إنّما أراد بذلك الترفيه على الناس والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس ففعل. [1] وفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون فى المصير إليه. فأمّا إسحاق بن أيّوب سارع إلى ذلك وأمّا حمدان بن حمدون فتحصّن فى قلاعه وغيّب أمواله وحرمه. فوجّه إليه المعتضد الجيوش، فصادفوا الحسن بن علىّ كوره [2] وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان محاصرين لها وفيها الحسين بن حمدان. فلمّا رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان، فأومن وسلّم القلعة وصار إلى المعتضد فأمر بهدمها. وأعدّ الجيش فى طلب حمدان وكان قد صار بباسورين من دجلة ونهر عظيم. فكان الماء زائدا فعبر الجيش إليه، فهرب وقتل أكثر أصحابه وألقى حمدان نفسه فى زورق فى دجلة مع كاتبه   [1] . انظر الطبري (13: 2143) . [2] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2144) : كوره. ولا توجد الكلمة فى مط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 وحمل معه مالا [570] وعبر إلى الجانب الغربىّ من دجلة وقدّر اللحاق بالأعراب لمّا حيل بينه وبين أكراده فى الجانب الشرقي، وعبر فى إثره نفر يسير من الجند فاقتصّوا اثره حتّى أشرفوا على دير كان نزله. فلمّا بصر بهم خرج هاربا ومعه كاتبه وألقيا أنفسهما فى زورق وخلّفا المال فى الدير فحمل إلى المعتضد وانحدر أصحاب السلطان فى طلبه على الظهر وفى الماء. فلحقوه فخرج من الزورق حاسرا [1] إلى ضيعة له فى شرقىّ دجلة فركب دابّة لوكيله وسار ليله أجمع حتّى وافى مضرب إسحاق بن أيّوب فى عسكر المعتضد مستجيرا به. فأحضره إسحاق مضرب المعتضد فأمر بالاحتفاظ [به] وبثّ الخيل فى طلب أصحابه وظفر بكاتبه وكثير من قراباته وغلمانه وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم فى الدخول فى الأمان. نقل بنت خمارويه إلى المعتضد وفيها نقلت بنت خمارويه بن أحمد إلى المعتضد ونودى فى جانبي بغداد ألّا يعبر أحد دجلة وغلقت الأبواب التي تلى الشطّ ومدّ على الشوارع النافذة إلى دجلة الشرائج ووكّل بحافتى دجلة من يمنع الناس من أن يظهروا فى دورهم على الشطّ. فلمّا صليت العتمة وافت شذاة من دار المعتضد وفيها خدم معهم الشموع فوقفوا [571] بإزاء دار صاعد، وكانت أعدّت أربع حرّاقات شدّت مع دار صاعد. فلمّا جاءت الشذاة حدرت الحرّاقات وصارت الشذاة بين أيديهم. وأقامت الحرّة فى يوم الإثنين فى دار المعتضد وجليت عليه [2] يوم الثلاثاء.   [1] . فى الطبري (13: 2145) : خاسرا. [2] . يقال: جليت العروس على زوجها، أى عرضت عليه مجلوّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 هروب يوسف بن أبى الساج إلى أخيه بالمراغة وفيها هرب يوسف بن أبى الساج فى من أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة ولقى مالا للسلطان فى طريقه فأخذه فقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكتب به إلى المعتضد: إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ... بلا سبب يجفون والدهر يذهب وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ... وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب معاملة المعتضد، محمد بن زيد العلوي وفيها وجّه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطّار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرّقها ببغداد والكوفة والمدينة على أهله. فسعى به وأحضر دار بدر وسئل عن ذلك فاعترف به، وذكر أنّه يوجّه إليه فى كلّ سنة مثل هذا المال فيفرّقه على من يأمره بالتفرقة عليهم من أهله. فأعلم بدر المعتضدي صاحبه المعتضد بذلك وأعلمه أنّ الرجل والمال فى يده. فقال المعتضد: - «يا بدر أما تذكر الرؤيا التي خبّرتك [572] بها؟» فقال: «لا يا أمير المؤمنين.» فقال: «ألا تذكر أنّ الناصر- يعنى الموفّق- دعاني وقال: إنّى أعلم أنّ هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل أبى طالب.» ثمّ قال: رأيت فى النوم كأنّى خارج من بغداد أريد ناحية النهروان فى جيش وقد تشوّف الناس إلىّ، إذ مررت على رجل واقف على تلّ يصلّى لا يلتفت إلىّ، فعجبت منه، فلمّا فرغ من صلاته قال لى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 - «أقبل.» فأقبلت إليه، فقال: - «أتعرفنى؟» قلت: «لا.» قال: «أنا علىّ بن أبى طالب، خذ هذه المسحاة فاضرب بها الأرض.» لمسحاة [1] بين يديه فأخذتها، فضربت بها ضربات. فقال: - «إنّه سيلي من ولدك هذا الأمر قدر ما ضربت، فأوصهم بولدي خيرا.» قال بدر: فقلت: - «بلى يا أمير المؤمنين قد ذكرت.» قال: فأطلق الرجل وأطلق المال، وتقدّم إليه أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجّه ما يوجّه به إليه ظاهرا وأن يفرّق هذا الرجل ما يفرّقه ظاهرا، وتقدّم بمعونته على ما يلتمسه. ذبح خمارويه فى مصر وفيها ورد الخبر على المعتضد من مصر فى أحد عشر يوما على طريق البرّ انّ خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه الخاصّة، وقتل من خدمه الذين [573] اتهموا بقتله نيّف وعشرون خادما. وكان المعتضد بعث ابن الجصّاص إلى خمارويه بهدايا فلمّا بلغ سرّ من رأى اتصل خبر مهلك خمارويه بالمعتضد فكتب إليه يأمره بالرجوع، فرجع.   [1] . انظر الطبري (13: 2147) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين وفيها شخص المعتضد بسبب هارون الشاري إلى ناحية الموصل فظفر به. ذكر هذا الظفر وجّه الحسين بن حمدان بن حمدون فى خيل من الفرسان والرجّالة إليه. فقال الحسين: - «نعم يا أمير المؤمنين إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج يقضيها لى أمير المؤمنين.» فقال: «اذكرها.» قال: «أوّلها إطلاق أبى، وحاجتان أسألهما بعد مجيئي به [1] .» فقال المعتضد: - «لك ذلك، فامض.» فقال الحسين: - «أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم أنا.» فمكّنه من ذلك وأنفذهم مع موشكير فقال: - «أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألّا يخالفني فيما آمره به.» فأمر المعتضد موشكير بذلك. فمضى الحسين حتّى انتهى إلى مخاضة فى دجلة فقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة وقال: - «ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا فلا تبرحنّ [574] من هذا الموضع حتّى يمرّ بك هارون أو أجيئك أنا أو يبلغك أنّى قد قتلت.»   [1] . وفى الطبري (13: 2149) : مجيئي به إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 ومضى حسين فى طلب هارون فلقيه وواقعه، فكانت بينهما قتلى وانهزم هارون وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيّام فقال له أصحابه: - «قد طال مقامنا بهذا القفر وأضرّ بنا ولسنا نأمن أن يأخذ الحسين الشاري فيكون الفتح له دوننا والصواب أن نمضي فى آثارهم.» فأطاعهم ومضى وجاء هارون منهزما إلى المخاضة فعبر وجاء حسين فى إثره فلم ير وصيفا ولا أحدا من أصحابه ولا عرف لهم خبرا ولا رأى لهم أثرا، وجعل يسأل عن خبر هارون حتّى وقف على عبوره فعبر فى أثره وجاء إلى حىّ من أحياء العرب فسألهم عنه، فكتموا أمره فهمّ بالإيقاع بهم ثمّ. قال: - «إنّ المعتضد فى إثرى.» فأعلموه أنّه اجتاز بهم فأخذ بعض دوابّهم وترك دوابّه عندهم وكانت قد كلّت وأعيت واتبع أثره فلحقه بعد أيّام والشاري فى نحو من مائة. فناشده الشاري وتوعّده، فأبى إلّا محاربته فحاربه ورمى حسين بن حمدان بنفسه عليه وابتدره أصحاب الحسين، فأخذوه وجاء به إلى المعتضد سليما بغير عقد ولا عهد. فأمر المعتضد حين بلغه الخبر بحلّ قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه [575] إلى أن يقدم ابنه فيطلقه ويخلع عليه. فلمّا وصل الشاري إلى المعتضد انصرف راجعا إلى بغداد فنزل باب الشماسية، وعبّأ الجيش هناك وخلع على الحسين بن حمدان وطوّقه بطوق ذهب، وخلع على جماعة من أهله وزيّن الفيل وأدخل الشاري عليه مشهرا ببرنس حرير طويل. غزو الصقالبة الروم وفيها ورد الخبر من طبرستان أنّ الصقالبة غزت الروم فى خلق عظيم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 فقتلوا منهم وهزموا ملكهم حتّى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، ثمّ وجّه ملك الروم إلى ملك الصقالبة: - «إنّ ديننا ودينك واحد فعلام نقتل الناس بيننا؟» فأجابه ملك الصقالبة: - «إنّ هذا ملك آبائي ولست منصرفا عنك إلّا بغلبة أحدنا الآخر.» فلمّا لم يجد ملك الروم مخلصا عنه جمع من عنده من المسلمين، وسألهم معونته على الصقالبة، فأجابوه إليه، فأعطاهم السلاح فهزموا الصقالبة. فلمّا رأى ملك الروم ذلك خافهم على نفسه. فبعث إليهم فردّهم وأخذ منهم السلاح وفرّقهم فى البلدان فرقا من أن يجنوا عليه. وثوب الجيش فى مصر وورد الخبر من مصر أنّ الجند وثبوا على جيش ابن خمارويه وقالوا: - «لا نرضى بك أميرا علينا فتنحّ عنّا حتّى نولّى عمّك.» فكلّمهم [576] كاتبه علىّ بن أحمد الماذرائى [1] وسألهم أن ينصرفوا يومهم ذلك فانصرفوا، وعادوا من غد، فعدا جيش على عمّه الذي ذكروا أنّهم يؤمّرونه، فضرب عنقه وعنق عمّ له آخر ورمى برؤوسهما إليهم. فهجم الجند على جيش ابن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمّه وانتهبوا داره وانتهبوا مصر وأحرقوها، ثمّ أقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه. وفيها ورد كتاب بدر وعبيد الله بن سليمان وكانا بالجبل قرئ فى مسجد الجامع ببغداد: «انّ عمر بن عبد العزيز بن أبى دلف صار إليهما فى الأمان منقادا لأمير المؤمنين بالطاعة، وانّ عبيد الله بن سليمان تلقّاه وخلع عليه   [1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2153) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 وعلى رؤساء أهل بيته وأخذ عليهم البيعة. وكان بكر بن عبد العزيز قبل ذلك استأمن إليهما، فولّياه عمل أخيه عمر على أن يمضى فيحاربه. فلمّا دخل عمر فى الأمان قالا لبكر: - «إنّ أخاك قد دخل فى طاعة السلطان وإنّما ولّيناك عمله على أنّه عاص والرأى لكما أن تمضيا إلى باب أمير المؤمنين ليرى رأيه فى أمركما.» وولّى عيسى النوشرى [1] إصبهان على أنّه من قبل عمر، فهرب بكر وكتب إلى المعتضد بخبره. فكتب إلى بدر يأمره بالمقام إلى أن يعرف خبر بكر. وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الرىّ وبها علىّ بن [577] المعتضد ولحق بكر بالأهواز فوجّه المعتضد فى طلبه وصيفا موشكير فخرج إليه. فلمّا قرب منه رجع بكر ومضى إلى إصبهان ورجع وصيف إلى بغداد. فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه فتقدّم بدر إلى عيسى النوشرى بمحاربته فخرج إليه وحاربه وقتل أصحاب بدر وهزم بكرا. ودخل عمر بن عبد العزيز [بغداد] [2] قادما من إصبهان فأمر المعتضد باستقباله فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقوّاد وقعد له المعتضد فوصل إليه وخلع عليه وحمله على دابّة بسرج ولجام محلّى بالذهب وخلع على ابنين كانا له وعلى [3] أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى قوم من قوّاده وأنزل فى دار كانت لعبيد الله بن عبد الله [عند] رأس الجسر وكانت فرشت له. وفيها ورد كتاب من عمرو بن الليث بأنّه واقع رافع بن هرثمة فهزمه ووجّه فى أثره بقوّاده وكان صار إلى طوس من نيسابور فانهزم ولحق   [1] . كذا فى الأصل والطبري (13: 2155) : النوشرى. [2] . زيادة عن الطبري (13: 2159) . [3] . فى الطبري (13: 2159) : وعلى ابن أخيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 بخوارزم فقتل بخوارزم وإنّه يحمل رأسه. يتلوه فى المجلّدة الخامسة: «ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين، وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة فى المحرّم» . والحمد لله وصلواته على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل، طه طسم. فرغ من انتساخه محمد بن علىّ بن محمد ... [1] البلخي فى السابع عشر من رجب سنة خمس وخمسمائة. فرغ من انتساخه محمد بن حسن بن منصور فى ... والعشرين من رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. نقله علىّ بن حنظلة.   [1] . كلمة غير مقروءة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 [ المجلد الخامس ] [ تتمة العصر العباسي ] [ تتمة خلافة المعتضد ] بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله واهب العقل ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين [1] قدوم رسول عمرو بن الليث برأس ابن هرثمة وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة فى المحرّم. فأمر المعتضد برفعه ونصبه فى الجانب الشرقىّ، ثمّ تحويله إلى الجانب الغربىّ إلى الليل، ثمّ ردّه إلى دار السلطان. [2] أمور قام بها المعتضد وفى هذه السنة عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبى سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس. فخوّفه عبيد الله بن سليمان ذلك وقال: - «إنّ العامّة تضطرب.»   [1] . أسقط ايمدروز من ابتداء هذا الجزء، أى من سنة 284 إلى ابتداء خلافة المقتدر بالله فى سنة 295، ما يشغل 56 صفحة من صفحات الجزء الخامس من مخطوطة أيا صوفيا (الأصل) ، وهو يريد أن يبدأ نشر تجارب الأمم من حيث ينتهى الطبري، فبدأ بآخر خليفة ذكر فى تاريخ الطبري. [2] . انظر الطبري (13: 2160) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 فلم يلتفت إليه. فكان أوّل ما ابتدأ به من ذلك أن تقدّم [1] إلى العامّة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والعصبيّة والشهادات عند السلطان، وأن لا يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم، ومنع القصّاص من الجلوس على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت [2] بالجانبين بمدينة السلام وفى الأرباع والمحالّ والأسواق. ثمّ منع يوم الجمعة أهل الجانبين من أهل الحلق والفتيا وغيرهم من القعود فى المسجد الجامع، ومنع الباعة [3] من القعود فى رحابها، ونودى فى المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاصّ وغيره، ثمّ نودى فى الجانبين والجامعين بأنّ الذمّة بريئة [3] ممّن اجتمع على مناظرة أو جدل، وأنّ من فعل ذلك أحلّ بنفسه. [4] وتقدّم إلى من يسقى الماء وأمثالهم فى الجامعين ألّا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه. إخراج كتاب اللعن ثمّ تقدّم المعتضد بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه وفيه مثالب معاوية، ولعنه بعد ذلك فأخرج وهو كتاب طويل [5] . فحكى أنّ عبيد الله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي وأمره أن يعمل الحيلة فى إبطال ما عزم عليه المعتضد خوفا من فتنة تقع. [6]   [1] . كذا فى الأصل: تقدّم. فى مط: يقدم. وهو خطأ. [2] . فى مط: قربت. وهو خطأ. [3] . ضبط الأصل: بريّة. [4] . فى الطبري: بنفسه الضرب. (13: 2160) . [5] . انظر الطبري (13: 3165) . [6] . انظر الطبري (13: 2177) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 فمضى القاضي يوسف فكلّم المعتضد وقال: - «إنّى أخاف أن تضطرب العامّة عند سماع هذا الكتاب، وتكون لها حركة.» فقال: «إن تحركت العامّة أو نطقت، وضعت سيفي فيها.» فقال: «يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيّين الذين هم فى كلّ ناحية يخرجون ويميل إليهم خلق كثير ومآثرهم [1] فى هذا الكتاب، وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل أو كانوا هم أبسط ألسنة وأثبت حجّة [4] منهم اليوم.» . فأمسك عنه المعتضد فلم يردّ عليه جوابا ولم يأمر بعد ذلك فى الكتاب بشيء. لحوق بكر بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان وفيها لحق بكر بن عبد العزيز بمحمّد بن زيد العلوي بطبرستان وبدر مقيم بالجبل [2] ينتظر أمر بكر إلى ماذا يؤول. فورد الخبر بعد زمان أنّه مات بطبرستان. وثوب أبى ليلى على شفيع الخادم وقتله وورد الخبر من إصبهان بوثوب أبى ليلى الحارث بن عبد العزيز على شفيع الخادم الموكّل به وقتله.   [1] . فى الأصل: وما آثرهم والتصحيح منّا بوحي من الطبري حيث قال: ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول ومآثرهم وفى هذا الكتاب اطراؤهم. (الطبري 13: 2178) . [2] . الجبل: فى الأصل: بالحبل. وما أثبتناه عن الطبري (13: 2178) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 ذكر الخبر عن ذلك كان أخوه عمر أخذه فقيّده وحمله إلى قلعة لأبى دلف بالزّز [1] وحبسه فيها وكلّ ما كان لأبى دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر كان فى هذه القلعة، وشفيع مولاهم يحفظ القلعة وكلّ ما فيها [2] ومعه جماعة من غلمان عمر وثقاته. فلمّا استأمن عمر إلى السلطان وهرب بكر عاصيا للسلطان بقيت القلعة بما فيها فى يد شفيع وأبو ليلى مقيّد مسلّم إليه. فكلّمه أبو ليلى فى إطلاقه فأبى وقال: - «لا أخون صاحبي عمر.» فحكت جارية لأبى ليلى فى الحبس، أنّه كان معه غلام صغير يخدمه وآخر يخرج فى حوائجه ولا يبيت عنده، فأمّا الصغير فيبيت عنده. فقال أبو ليلى [5] لغلامه الذي يدخل ويخرج فى حوائجه: - «احتل لى فى مبرد كيف شئت.» ففعل الغلام وأدخله فى شيء من طعامه. وكان شفيع يجيء فى كلّ ليلة إذا أراد أن ينام إلى البيت الذي فيه أبو ليلى، حتّى يراه، ثمّ يقفل عليه باب البيت هو بنفسه ويمضى فينام وتحت فراشه سيف مسلول. وكان أبو ليلى قد سأل أن تدخل إليه جارية، فأدخلت إليه جارية صغيرة السن. فذكر عن دلفاء [3] جارية أبى ليلى عن هذه الجارية الصغيرة أنّها قالت: برد أبو ليلى مسمار قيده، حتّى كان يخرجه من رجله إذا شاء ويردّه.   [1] . بالزّز. كذا فى الأصل. وما فى الطبري: بالدّز (الطبري 13: 2180) . والزّز ناحية بهمذان مشهورة (مراصد الإطلاع) . [2] . فيها. فى الأصل: فيه. والتصحيح منّا. [3] . فى الأصل: دلفا. بدون الهمزة. والضبط من (الطبري 13: 2181) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 قالت: وجاء شفيع عشيّة من العشايا إلى أبى ليلى فقعد معه يحدّثه، فسأله أبو ليلى أن يشرب معه أقداحا، ففعل. ثمّ قام الخادم لحاجته، فأمرنى أبو ليلى ففرشت فراشه فجعل عليه ثيابا فى موضع الإنسان من الفراش، وصيّره كهيئة الرجل النائم وغطّاه، وأمرنى أن أقعد عند رجل ذلك الشيء المعمول من الثياب كأنّى أغمّزه [1] . وقال: - «إذا جاء شفيع لينظر إلىّ فقولي: هو نائم. ليقفل الباب على عادته، ويظنّ أنّى فى الفراش.» ثمّ خرج أبو ليلى واختفى فى موضع فيه [6] متاع فى صفّة فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر إلى الفراش وسأل الجارية عن خبر أبى ليلى، فأخبرته أنّه نائم وأقفل الباب. فلمّا [2] نام الخادم ومن معه فى الدار التي فى القلعة خرج أبو ليلى، فأخذ السيف من تحت فراش شفيع وضربه به حتّى برد. ووثب الغلمان الذين كانوا حوله نياما فزعين، فاعتزلهم أبو ليلى والسيف بيده، وقال لهم: - «أنا أبو ليلى وقد قتلت شفيعا ولئن تقدّم إلىّ واحد منكم لأقتلنّه، وأنتم آمنون، فاخرجوا من هذه الدار حتّى أكلّمكم بما أريد.» ففتحوا باب القلعة واجتمع كلّ من كان فى القلعة فكلّمهم ووعدهم بالإحسان وأخذ عليهم الأيمان. فلمّا أصبح نزل ووجّه إلى الأكراد وأهل الرموم [3] فجمعهم وفرّق فيهم مالا وخرج مخالفا على السلطان. ثمّ مضى إلى إصبهان، فواقعه عيسى النّوشرى، فأصاب أبا ليلى سهم فى   [1] . أغمّزه: أجسّه وأكبسه لأختبره. [2] . فى مط: «فامّا» بدل «فلمّا» . وهو خطأ. [3] . الرموم. كذا فى الأصل. وفى مط: الزوم. وفى الطبري (13: 2182) : الزموم. وفى حواشي الطبري: الدمور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 حلقه فنحره، فسقط إلى الأرض، وانهزم أصحابه فحمل إلى إصبهان. ودخلت سنة خمس وثمانين ومائتين خروج صالح بن مدرك على الحاج ّ وفيها خرج صالح بن مدرك على الحاجّ فى جماعة من طىّ بالأجفر [1] فى المحرّم. فحاربه الجنّى [2] [7] وكان أمير القافلة فهزمه الأعراب وظفروا بالقافلة فأخذوا جميع ما فيها وأخذوا جماعة من النساء الحرائر. وبلغ قيمة ما أخذوا من الناس ألفى ألف دينار. حمل رأس أبى ليلى إلى بغداد وحمل رأس أبى ليلى المقتول بإصبهان إلى بغداد، فاستوهبه أخوه عمر من المعتضد، فوهبه له، فدفنه، وخلع على عمر [3] فى هذا اليوم. ورود الخبر بوفاة ابن عيسى وفيها ورد الخبر بوفاة محمّد بن عيسى بن شيخ، وقام ابنه أحمد [4] بن محمّد بن عيسى بما كان فى يد أبيه [5] بآمد على سبيل التغلّب. فخرج إليه المعتضد قاصدا لحربه.   [1] . الأجفر. كذا فى الأصل والطبري (13: 2183) . ما فى مط: بالأحف. [2] . الجنّى. كذا فى الأصل ومط. فى الطبري (13: 2183) : الحىّ. وفى حواشيه: حبى، الحبى. [3] . على عمر. كذا فى الأصل. ما فى مط: ابن عمر. [4] . فى مط: محمد بن محمد. [5] . فى مط: ابنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 هارون بن خمارويه يوجّه رسلا إلى المعتضد وفيها وجّه هارون بن خمارويه بن أحمد ومن معه رسلا إلى المعتضد، يلتمسون مقاطعتهم على ما فى أيديهم من مصر والشام، ويسألونه إجراء هارون على ما كان يجرى عليه أمر أبيه. [1] فردّ المعتضد رسله مع رسول له بمشافهات وشروط. ودخلت سنة ستّ وثمانين ومائتين توجيه محمد بن أبى الساج ابنه إلى بغداد رهينة وفيها وجّه محمّد بن أبى الساج ابنه المعروف بأبى المسافر إلى بغداد رهينة، بما ضمن له من الطاعة والمناصحة. فقدم فى المحرّم منها ومعه هدايا والمعتضد غائب. [8] وكان المعتضد فى السنة المتقدمة قد حمل إليه الخلع وكتب الولاية على ما كان تغلّب عليه من بلاد أذربيجان. وصول المعتضد إلى آمد وفيها وصل المعتضد إلى آمد، فأناخ بجنده عليها وأغلق محمّد بن أحمد بن شيخ أبواب مدينة آمد وعلى من فيها من أشياعه. ففرّق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم وذلك لأيّام بقيت من شهر ربيع الأوّل. ثمّ جرت بينهم حروب، ونصب أهل آمد على سورهم المجانيق، ونصب المعتضد عليها المجانيق وتراموا بها.   [1] . فى مط: يجرى عليه مراتبه. فى الطبري (13: 2185) : يجرى عليه أبوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وفى يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى، توجّه [1] محمّد بن أحمد بن شيخ فى هذا اليوم ومن معه من أصحابه وأوليائه، فوصلوا إلى المعتضد فخلع عليه وعلى رؤساء أصحابه وانصرفوا إلى مضرب قد أعدّ [2] لهم، وتحوّل المعتضد من معسكره إلى منازل ابن عيسى بن شيخ ودوره، وكتب بذلك كتابا إلى مدينة السلام. ورود كتب هارون بن خمارويه إلى المعتضد ووردت كتب هارون بن خمارويه يبذل أعمال قنّسرين والعواصم ويحمل إلى بيت المال بمدينة السلام فى كلّ سنة أربعمائة وخمسين ألف دينار، ويسأل أن يحدّد له ولاية مصر والشام، وأن يوجّه المعتضد بخادم من خدمه إليه بذلك. فأجابه إلى ما [9] سأل وتسلّم المعتضد أعمال قنّسرين والعواصم من أصحاب هارون، وارتحل نحو الرقّة، وخلّف ابنه عليّا بآمد مع جيوش ضمّهم إليه، ليضبط الناحية وأعمال قنّسرين والعواصم وديار ربيعة ومضر. وكان كاتب علىّ بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وأمر المعتضد بهدم سور آمد فهدم. موافاة هديّة من عمرو بن الليث من نيسابور وفيها وافت هديّة عمرو بن الليث من نيسابور. فكان مبلغ ما أنفذه أربعة آلاف ألف درهم وعشرين من الدوابّ بالسروج واللجم المغرقة بالجلال المشهرة وكسوة وطيب وبزاة.   [1] . ما فى الأصل: وجّه. والتصحيح من مط. [2] . ما فى الأصل: أحدّ، ورجّحنا ما فى مط: أعدَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 ظهور أبى سعيد الجنّابى بالبحرين على مذهب القرامطة وفيها ظهر أبو سعيد الجنّابى بالبحرين على مذهب القرامطة فاجتمع إليه القرامطة والأعراب. فقوى أمره وكثر عيثه وأظهر أنّه يريد البصرة. وكتب عامل البصرة إلى المعتضد بذلك، فكتب إليه بعمل سور على البصرة فقدّرت النفقة عليه أربعة عشر ألف دينار، فأمر ببنائه. [1] ودخلت سنة سبع وثمانين ومائتين غلظة أمر القرامطة وفيها غلظ أمر القرامطة بالبحرين وأغاروا على نواحي هجر وقرب بعضهم من نواحي البصرة. وولّى المعتضد العبّاس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين ومحاربة [10] أبى سعيد الجنّابى والقرامطة وضمّ إليه زهاء ألفى رجل فشخص العبّاس إلى البصرة ومنها إلى البحرين واليمامة. [2] أسر عمرو بن الليث الصفّار وفيها ورد الخبر على المعتضد بأنّ إسماعيل بن أحمد أسر عمرا الصفّار واستباح عسكره. [3]   [1] . انظر الطبري (13: 2188) . [2] . انظر الطبري (13: 2192) . [3] . انظر الطبري (13: 2203) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 ذكر الخبر عن ذلك كان عمرو سأل المعتضد أن يولّيه ما وراء النهر، فولّاه ذلك، ووجّه إليه وهو بنيسابور بالخلع واللواء، فخرج عمرو لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل: - «إنّك قد ولّيت دنيا عريضة، وإنّما فى يدي ما وراء النهر وأنا فى ثغر، فاقنع بما فى يدك واتركني بهذا الثغر.» فأبى إجابته، فذكر له أمر نهر بلخ وشدّة عبوره فقال: - «لو شئت أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت.» فلمّا يئس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه من الجند والتّنّاء [1] والدهاقين وعبر النهر إلى الجانب الغربي. وجاء عمرو فنزل بلخ وأخذ إسماعيل عليه النواحي فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل وطلب المحاجزة، فأبى إسماعيل عليه ذلك. فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم عمرو فولّى هاربا ومرّ بأجمة فى طريقه [11] قيل له: إنّها أقرب. فقّال لعامّة من معه: - «امضوا فى الطريق الواضح.» ومضى فى نفر يسير فدخل الأجمة، فوحلت دابّته ولم يكن له فى نفسه حيلة. ومضى من معه ولم يلووا عليه، وجاءت أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا. وبلغ المعتضد خبرهما فمدح إسماعيل وذمّ عمرا.   [1] . التنّاء: المقيمون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 ورود الخبر بهروب وصيف وفيها ورد الخبر على المعتضد بأنّ وصيفا خادم ابن أبى الساج هرب من برذعة [1] ومضى إلى ملطية مراغما لمحمّد بن أبى الساج فى أصحابه. وكتب إلى المعتضد يسأله أن يولّيه الثغور ليقوم بها فكتب المعتضد إليه: يأمره أن يصير إليه، فتباطأ، وكان رسله بحضرة المعتضد. فذكر أنّ المعتضد أمر بتقرير الرسل ليخبروه عن السبب الذي من أجله فارق وصيف صاحبه ابن أبى الساج وقصد الثغور فأقرّوا بالضرب. وذكروا أنّه فارقه على مواطأة بينه وبين صاحبه على أنّه إذا استقرّ فى موضعه الذي هو به لحق به صاحبه فصارا جميعا الى مصر وتغلّبا عليها، وشاع ذلك فى الناس وتحدّثوا به. وفيها ولّى حامد بن العبّاس أعمال فارس الخراج والضياع، وكانت فى يد العبّاس بن عمرو الغنوي. خروج العباس بن عمرو الغنوي وفيها خرج العبّاس بن عمرو الغنوي [12] عن البصرة بمن ضمّ إليه من الجند مع من خفّ معه من مطوّعة البصرة نحو أبى سعيد الجنّابى، فلقيتهم طلائع أبى سعيد، فخلّف العبّاس سواده وسار نحوهم، فلقى أبا سعيد وأصحابه مساء، فتناوشوا ثمّ حجز الليل بينهم، فانصرف كلّ فريق منهم إلى موضعهم. فلمّا كان الليل انصرف من كان مع العبّاس من الأعراب والمطوّعة وأصبح   [1] . فى مط: بردعة (بالدال المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 العبّاس، فغادى القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثمّ إنّ صاحب ميسرة العبّاس حمل فى زهاء مائة من أصحابه على ميمنة أبى سعيد، فوغلوا فيهم فقتل هو وجميع من معه، وحمل الجنّابى وأصحابه على العبّاس فانهزم أصحابه واستأسر العبّاس وأسر من أصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنّابى على ما فى عسكر العبّاس. فلمّا كان الغد من يوم الوقعة أحضر الجنّابى من أسر من أصحاب العبّاس، فقتلهم جميعا ثمّ أمر بحطب فطرح عليهم وأحرقهم. وصار الجنّابى إلى هجر وآمن أهلها وانصرف فلّ العبّاس يريدون البصرة ولم يكن أفلت منهم إلّا القليل بغير أزواد. فخرج إليهم جماعة من البصرة بنحو من أربعمائة راحلة عليها [13] الأطعمة والكسى والماء فخرج عليهم بنو أسد فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعة ممّن كان مع تلك الرواحل ممّن أفلت من أصحاب عمرو، فاضطربت البصرة لذلك اضطرابا شديدا وهمّوا بأن ينتقلوا عنها وخافوا هجوم القرامطة عليهم. ثمّ وردت على السلطان خريطة من الأبلّة بموافاة العبّاس بن عمرو فى مركب من مراكب البحر، وأنّ أبا سعيد أطلقه خادما له. [1] ثمّ ورد العبّاس بن عمرو مدينة السلام وصار إلى دار المعتضد بالثريّا. فذكر أنّه بقي عند الجنّابى أيّاما بعد الوقعة ثمّ دعا به فقال: - «أتحب أن أطلقك؟» قال: «نعم.» قال: «امض وعرّف الذي وجّه بك ما رأيت.» وحمله على رواحل وضمّ إليه قوما من أصحابه وحمّلهم ما يحتاجون إليه   [1] . انظر الطبري (13: 2197) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 من الزاد والماء وأمر الرجال الذين وجّههم معه أن يردّوه إلى مأمنه فساروا به إلى بعض سواحل [1] البحر فصادف به مركبا فحمله حتّى صار إلى الأبلّة فخلع عليه المعتضد وصرفه إلى منزله. فتحدّث القاضي أبو الحسين محمّد بن عبد الواحد الهاشمي قال [2] : سمعت العبّاس بن عمرو الغنوي يقول: لمّا أسرنى أبو سعيد الجنّابى القرمطى وكسر العسكر الذي كان أنفذه [14] المعتضد لقتاله وجعلت أسيرا فى يده، يئست من الحياة. فإنّى يوما على ذلك إذ جاءني رسوله فأخذ قيودي وغيّر ثيابي وأدخلنى إليه فسلّمت وجلست فقال: - «أتدرى لم استدعيتك؟» قلت: «لا.» قال: «أنت رجل عربي ومن المحال أن أستودعك أمانة فتخفرها ولا سيما مع منّى عليك بنفسك.» فقلت: «هو كذلك.» قال: «إنّى فكّرت فى قتلك فلم أر فيه طائلا وفى نفسي رسالة إلى المعتضد لا يجوز أن يؤدّيها غيرك فرأيت إطلاقك وتحميلك إيّاها فإن حلفت لى إنّك تؤدّيها سيّرتك إليه.» فحلفت له، فقال: - «تقول للمعتضد: يا هذا لم تخرق [3] هيبتك وتقتل رجالك وتطمع أعداءك فى نفسك بإنفاذ الجيوش إلىّ، وإنّما أنا   [1] . فى مط: رواحل. وهو خطأ. [2] . لم نجد لهذا الخبر وللرسالة الآتية ذكرا فى الطبري، فى حوادث هذه السنة: 287. [3] . فى مط: تحرق (بالحاء المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 رجل فى فلاة لا زرع عندي ولا ضرع، ولا لى بلد وقد رضيت بخشونة العيش والأمن على المهجة والعزّ بأطراف الرماح. - «وانظر فإنّى ما اغتصبتك بلدا كان فى يدك ولا أزلت سلطانك عن عمل جليل ومع هذا فوالله لو أنفذت إلىّ جيشك كلّه ما جاز أن تظفر بى ولا تنالني. لأنّى رجل نشأت فى هذا القشف فتعوّدته أنا ورجالي، فلا مشقّة علينا فيه ونحن فى أوطاننا مستريحون [15] وأنت تنفذ جيشك من الحموش [1] والثلج والرياحين والندّ ثمّ يجيئون من مسافة بعيدة وطريق شاقّ وقد قتلهم السفر قبل قتالنا، وإنّما غرضهم أن يبلوا عذرا فى قتالنا ومواقعتنا ساعة ثمّ يهربون. فإن حقفوا مع ما قد لحقهم من وعثاء السفر وشدّة الجهد كان أكبر أعوانى عليهم، فما هو إلّا أن حققت عليهم حتّى ينهزموا،- «وتقول وأكثر ما يقدرون عليه أن يجيئوا فيستريحوا ثمّ تكون عدّتهم كثيرة وبصيرتهم قويّة، فحينئذ لا تكون لى بهم قبل فانهزم، فلا يقدر جيشك أن يتبعوني إلّا مسافة قريبة، فما هو [إلّا] [2] أن أبعد عشرين فرسخا أو ثلاثين وأجول فى الصحراء شهرا أو شهرين، ثمّ أكبسهم على غرّة حتّى أقتل جميعهم. وإن لم يتمّ لى هذا وكانوا متحرزين فما يمكنهم أن   [1] . لم نتأكّد من صحّة قراءة الكلمة. ما فى مط: الحوش، أو الحبوش (بإهمال الثاني) . [2] . زيادة منّا بوحي من السياق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 يطوفوا حولي وخلفي فى البراري ولا يتبعني الطلب فى البوادي. - «ثمّ لا يحملهم البلد فى المقام ولا الزاد إن كانوا كثيرين، فلا بدّ أن ينصرف الجمهور ويبقى الأقلّ فهم قتلى سيوفى أوّل يوم نلتقي فيه. هذا إن سلموا من وباء هذه الناحية ورداءة ماءها وهواءها الذي نشأوا فى غيره وضدّه. - «ففكّر فى هذا ونحوه وانظر هل يفيء [16] تعبك وتغريرك بعسكرك وجيشك وإنفاقك الأموال وتجهيزك الرجال وتكلّفك هذه الأخطار بطلبي وأنا مع هذا خالي الذرع منها سليم النفس والأصحاب من جميعها. فأمّا هيبتك فتنخرق، وأمّا الأطراف فتنتقض، وأمّا الملوك من الأعداء فتتجاسر. ثمّ لا تظفر من بلدي بطائل ولا تصل إلى حال ولا مال. فإن اخترت بعد هذا محاربتى فأقدم على بصيرة وأنفذ من شئت واضطرب كيف أحببت، وإن أمسكت فذاك إليك.» قال: ثمّ جهّزنى وأنفذ معى عشرة من أصحابه إلى الكوفة، فسرت منها إلى الحضرة ودخلت على المعتضد [1] فتعجّب من سلامتي، وسألنى عن خبري سؤالا حفيّا فقلت: - «أخبرك يا أمير المؤمنين سرّا.» فتشوّق إليه وخلا بى. فلم أزل أقصّ عليه الخبر وهو يتمعّط [2] غليظا   [1] . فى مط: المعتصم، وهو سهو من الكاتب. [2] . فى مط: يتمغط (بالغين المعجمة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 حتّى ظننت أنّه سيسير إليه بنفسه وخرجت من بين يديه، فما رأيته بعد ذلك ذكره بحرف. ورود الخبر بقتل محمد بن زيد العلوى ّ وفيها ورد الخبر على السلطان بأنّ محمّد بن زيد العلوي قتل. [1] ذكر مقتله ذكر أنّ محمّد بن زيد العلوي لمّا اتصل به أسر إسماعيل بن أحمد عمرو بن الليث، خرج فى جيش [17] كثيف نحو خراسان طامعا فيها، ظنّا منه أنّ إسماعيل لا يتجاوز عمله الذي كان يتولّاه وأنّه لا دافع له عن خراسان إذ كان عمرو قد أسر ولا عامل للسلطان بها. فلمّا صار إلى جرجان، واستقرّ بها كتب إليه يسأله الرجوع إلى طبرستان وترك جرجان فأبى ذلك محمّد بن زيد فندب [2] إسماعيل له محمّد بن هارون خليفة كان لرافع، وضمّ إليه جيشا كثيفا، فشخص نحو ابن زيد فالتقيا على باب جرجان فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر محمّد بن هارون. ثمّ رجع محمّد بن بكر وقد انتقضت صفوف العلوي فانهزم عسكر محمّد بن زيد وقتل منهم بشر كثير وأصابت محمّد بن زيد ضربات وأسر ابنه زيد، وحوى محمّد بن هارون عسكره. ثمّ مات محمّد بن زيد من تلك الضربات وحمل ابنه إلى إسماعيل. ودخل محمّد بن هارون جرجان ثمّ شخص إلى طبرستان.   [1] . انظر الطبري (13: 2200) . [2] . فى مط: بدر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين ذكر حوادث حدثت فيها وفيها توفّى محمّد بن أبى الساج فاجتمع غلمانه وجماعة أصحابه فأمّروا عليهم ديوداذ بن محمّد واعتزلهم يوسف بن أبى الساج مخالفا لهم. وفيها جيء بعمرو بن الليث. وذكر أنّ إسماعيل بن أحمد خيّره بين المقام عنده وبين توجيهه إلى باب أمير المؤمنين، فاختار توجيهه، فوجّهه [18] وأرسل المعتضد برسول إسماعيل مع رسوله وحمل معه إليه بدنة [1] وتاجا وسيفا من ذهب مركّب على جميع ذلك الجواهر وهدايا وثلاثة آلاف ألف درهم يفرّقها فى جيوش خراسان. وقيل كان المال عشرة آلاف ألف وجّه بعض ذلك من بغداد وكتب بباقيه على عمّال الجبل وأمروا أن يدفعوا ذلك إلى الرسل. وفيها أوقع يوسف بن أبى الساج وهو فى نفر يسير بابن أخيه ديوداذ، فهزم عسكره وبقي ديوداذ فى جماعة قليلة فعرض عليه يوسف بن أبى الساج المقام معه فأبى وقال: - «أمضى إلى باب السلطان.» فجعل يسايره مدّة ويسأله المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل حتّى وافى بغداد. ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين انتشار القرامطة بسواد الكوفة وفيها انتشر القرامطة بسواد الكوفة فوجّه إليهم شبل غلام أحمد بن محمّد   [1] . البدنة: قميص لا كمّين له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 الطائي فشخص إليهم فظفر بجماعة منهم وظفر برئيس لهم يعرف بابن أبى القوس [1] فوجّه به وبهم فدعا به المعتضد وساءله ثمّ أمر به فقلعت أضراسه ثمّ خلّع مدّت إحدى يديه ببكرة وعلّق فى الأخرى صخرة وترك على حاله تلك ثلاثة ساعات ثمّ قطعت يداه ورجلاه [19] من غد هذا اليوم وضربت عنقه وصلب. سياسة المعتضد فى الشيخ والمرأة المغصوبة والرجل الغاصب ومن سياسة المعتضد التي تستفاد منها تجربة ما حدّث به أبو الحسين محمّد بن عبد الواحد الهاشمي أنّ شيخا من التجار كان له على بعض القوّاد مال جليل، فماطله ثمّ جحده. قال: فعملت على التظلّم إلى المعتضد لأنّى كنت تحمّلت عليه وتظلّمت إلى عبيد الله بن سليمان فلم ينفعني ذلك فقال لى بعض إخوانى: - «علىّ أن آخذ المال لك ولا تحتاج إلى الظلامة إلى الخليفة، قم معى الساعة.» قال: فقمت معه فجاء بى إلى خيّاط فى سوق الثلاثاء وهو جالس يخيط ويقرأ القرآن فى مسجد. فقصّ عليه قصّتى، فقام معنا. فلمّا مشيت تأخّرت وقلت لصديقى: - «إنّك قد عرّضت هذا الشيخ ونفسك وإيّاى لمكروه عظيم.» قال: «كيف؟» قلت: «لأنّه قد استخفّ بى مرارا وبجماعة من شفعائي مرارا كثيرة ولم   [1] . فى الطبري (13: 2206) : ابى فوارس. وفى حواشيه: أبى الفوارس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 يلتفت إلى مثل فلان وفلان ولا إلى الوزير، وأخاف أن يصفعنا صفعا [1] وجيعا ويطردنا.» فضحك الرجل وقال: - «لا عليك، امش واسكت.» فجئنا إلى باب القائد فحين رآه غلمانه أعظموه وأرادوا تقبيل يده فمنعهم، وقالوا: - «ما جاء بك أيّها الشيخ فإنّ صاحبنا راكب؟» فقال: «أدخل وأجلس إلى أن [20] يحضر.» فبادروا إلى الإذن له وأجلسوه فى أرفع موضع. فقويت نفسي وجاء الرجل، فلمّا رأى الخيّاط أعظمه إعظاما شديدا وقال: - «لا أنزع ثيابي حتّى تأمر بأمرك.» فخاطبه فى أمرى فقال: - «والله ما عندي إلّا خمسة آلاف درهم.» فسأله أن يأخذها فى الوقت ويأخذ رهنا بباقي ماله إلى أن تجيئني غلّتى. فبادرت إلى الإجابة فأحضر الدراهم وخرجنا. فلمّا بلغنا موضع الخيّاط طرحت المال بين يديه وقلت: - «يا شيخ إنّ الله قد ردّ المال علىّ لسعيك وبركتك، فأحبّ أن تأخذ من المال نصفه أو ثلثه حتّى تطيب نفسي.» فقال: «ما أسرع ما كافأتنى على الجميل بالقبيح. انصرف بمالك، بارك الله لك فيه.» فقلت: «قد بقيت لى حاجة.»   [1] . فى مط: أن يضعفنا ضعفا. وهو تصحيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 قال: «قل.» قلت: «تخبرني عن سبب طاعته لك مع تهاونه بأكثر أهل هذه الدولة؟» فقال: «يا هذا، قد بلغت مرادك، فلا تقطعني عن شغلي ومعاشي.» تفألححت عليه. قال: «أنا رجل أؤمّ وأقرأ [1] فى هذا المسجد منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، وكنت منذ دهر قد صلّيت المغرب، وخرجت أريد منزلي، فاجتزت برجل تركىّ كان فى هذه الدار وقد تعلّق بامرأة مجتازة وكانت جميلة، وأدخلها إلى داره وهي تستغيث وليس أحد يغيثها.» [21] قال: «فرفقت بالتركىّ وسألته تركها، فضرب رأسى بدبّوس وشجّنى وشتمني، ويئست من المرأة وخلاصها، وصرت إلى المنزل وغسلت الدم وشددت الشجّة واستروحت، وخرجت أصلّى العشاء الآخرة. فلمّا فرغنا قلت لمن حضر: قوموا معى إلى عدوّ الله، هذا التركىّ، لننكر عليه ولا نبرح حتّى نخرج المرأة. فقاموا معى وجئنا وصحنا على بابه فخرج إلينا فى عدّة من غلمانه، وقصدني من بين الجماعة فضربني ضربا مبرّحا كدت أتلف منه. فحملني الجيران إلى منزلي وعالجنى أهلى ونوّمت فلم أنم إلى نصف الليل. فقلت فى نفسي هذا قد شرب إلى الآن ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت لوقع له أنّه الفجر، فلعلّه يطلق عن المرأة. وكانت المرأة لمّا تعلّق بها قالت: إنّ زوجي قد حلف بطلاقى ألّا أبيت عن منزلي وأعظم ما علىّ أن أطلّق وأبين منه فطمعت أن تلحق المرأة بمنزلها قبل الفجر وتسلم من أحد المكروهين. فخرجت متحاملا حتّى صعدت المنارة، فأذّنت وجلست أتطلّع منها إلى الطريق أرقب خروج المرأة، فإن خرجت وإلّا أقمت الصلاة لئلا يشكّ فى   [1] . فى مط: أقرئ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 الصبح ويخرجها. فما مضت إلّا ساعة فإذا الشارع قد امتلأ خيلا ورجلا ومشاعل وشموعا وهم يصيحون: - «من هذا [22] الذي أذّن الساعة، أين هو.» ففزعت وسكتّ ثمّ قلت أخاطبهم لعلّى أستعين بهم على إخراج المرأة. فصحت من المنارة: - «أنا أذّنت.» فقالوا: «انزل فأجب أمير المؤمنين.» فقلت: قد دنا الفرج، ونزلت فإذا بدر مع الجماعة فحملني وأدخلنى إلى المعتضد. فلمّا رأيته هبته وارتعدت فسكّن منّى وقال: - «ما حملك على أن تغزّ المسلمين بأذانك فى غير وقته فيخرج ذوو الحاجة فى غير حينها، ويمسك المريد للصوم فى وقت قد أتيح [1] له الإفطار، وينقطع العسس عن الطوف والحرس؟» فقلت: «يؤمنني أمير المؤمنين لأصدق؟» قال: «أنت آمن.» فقصصت عليه قصّة التركىّ والمرأة وأريته الشجّة وآثار الضرب بى. فقال: - «يا بدر، علىّ بالغلام والمرأة الساعة.» فعزلت فى موضع. ومضى بدر وأحضر الغلام والمرأة فسألها المعتضد عن الصورة فأخبرته بمثل ما قلته. فقال لبدر: - «بادر بها الساعة إلى زوجها مع ثقة من الخدم يدخلها دارها ويشرح لزوجها خبرها ويأمره عنّى بالتمسك بها والإحسان إليها.» ثمّ استدعاني فوقّفت، فجعل يخاطب الغلام وأنا قائم أسمع. وكان فيما   [1] . فى مط: قد أبيح له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 خطبه به أن قال: - «كم جرايتك؟» فقال: «كذا.» قال: «وكم عطاؤك؟» قال: «كذا.» [23] قال: «أفما كان لك فى جواريك وجاريك وفى هذه النعمة الواسعة كفاية عن معصية الله تعالى، وعن خرق هيبة السلطان، حتّى استعملت القحة وتجاوزت ذلك إلى الوثوب على من أمرك بالمعروف؟» فأسقط الغلام فى يده ولم يحر جوابا. فقال: - «هاتوا جوالقا وقيدا وغلّا ومداقّ الجصّ.» فأتى بها كلّها. فأدخله الجوالق وأمر الفرّاشين بدقّه، وأنا أرى ذلك كلّه، وهو يصيح. ثمّ انقطع صوته ومات. وأمر به فغرّق فى دجلة وتقدّم إلى بدر بحمل ما فى داره، ووصلني بألف درهم. ثمّ قال لى: - «يا شيخ أىّ شيء رأيت من أجناس المنكر ولو على هذا- وأشار بيده إلى بدر- فإن لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذّن فى هذا الوقت، فإنّى أسمع صوتك وأستدعيك وأفعل مثل هذا بمن لا يقبل منك أو يؤذيك.» قال: فدعوت له وانصرفت. وانتشر الخبر فى غلمان الدار والحاشية ثمّ الأولياء والجند والعامّة. فما خاطبت أحدا منهم بعدها فى إنصاف لأحد أو كفّ عن القبيح، إلّا طاوعنى- كما رأيت- خوفا من المعتضد وما احتجت أن أؤذن فى غير وقت الأذان إلى الآن. [1]   [1] . هذه الحكاية، لا توجد فى الطبري فى حوادث هذه السنة. انظر الطبري (13: 2206 2251) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 خلافة المكتفي بالله وفيها توفّى المعتضد [1] ليلة الإثنين من ربيع الآخر. وفى صبيحتها أحضر دار السلطان عبد الحميد بن عبد العزيز [24] أبو حازم ويوسف بن يعقوب وأبو عمر محمّد بن يوسف، فتولّى غسل المعتضد محمّد بن يوسف، وتولّى الصلاة عليه يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله وأبو حازم وأبو عمر والخدم والخاصّة. وجلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان فى دار السلطان، وأذن للناس، فعزّوه [2] بالمعتضد، وهنّأوه بالمكتفى، وتقدّم فى تجديد البيعة للمكتفى بالله، ففعلوا. وكتب بالخبر إلى المكتفي وكان بالرقّة فتقدّم إلى كاتبه بأخذ البيعة على من فى عسكره، ووضع العطاء لهم. ففعل وشخص إلى بغداد فدخلها وكنّى بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه. وفى اليوم الثاني من مقدمه هذا هلك عمرو بن الليث الصفّار.   [1] . انظر الطبري (13: 2206) . [2] . فى مط: فعزروه، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 هلاك عمرو بن الليث الصفّار ذكر الخبر عن هلاكه وكان المعتضد لمّا امتنع من الكلام عند موته أمر صافيا الحرمي بقتل عمرو بالإشارة والإيماء، ووضع يده على عينه وعلى رقبته، أى: اذبح الأعور. فلم يفعل ذلك صافى لقرب وفاة المعتضد وكره قتله. فلمّا دخل المكتفي سأل القاسم بن عبيد الله عن عمرو: - «أحيّ هو؟» قال: «نعم.» فسرّ بحياته وقال: - «أريد أن أحسن إليه.» وكان عمرو يهدى إلى المكتفي ويبرّه برّا [25] كثيرا فأراد مكافأته. فكره القاسم ذلك، ودسّ إلى عمرو من قتله. [1] وفيها كان مقتل بدر غلام المعتضد. مقتل بدر غلام المعتضد ذكر السبب فى ذلك كان سبب ذلك [2] أنّ القاسم بن عبيد الله كان همّ بنقل الخلافة عن ولد المعتضد- وناظر بدرا فى ذلك بعد أن استكتمه واستحلفه. فامتنع بدر وقال: - «ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي وولىّ نعمتي.» فلمّا علم القاسم ألّا سبيل له إلى مخالفة بدر- إذ كان بدر صاحب   [1] . انظر الطبري (13: 2208) . [2] . انظر الطبري (13: 2209) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الجيش والمستولى على أمر المعتضد والمطاع فى خدمه- اضطغنها على بدر. فلمّا حدث بالمعتضد حدث الموت، كان بدر بفارس لأنّه أخرج إلى محاربة طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث، وكان طاهر قد تغلّب على فارس فعقد القاسم للمكتفى عقد الخلافة وبايع له وهو بالرقّة، لما كان بين المكتفي وبين بدر من التباعد والتباغض فى حياة والده. فقدم المكتفي، وبدر بعد بفارس. فلمّا قدم عمل القاسم فى هلاك بدر حذرا على نفسه أن يطلع بدر المكتفي إذا قدم على ما كان همّ به القاسم. فوجّه المكتفي جماعة من القواد برسائل وكتب إلى القوّاد الذين مع بدر يأمرهم أن يفارقوا بدرا ويصيروا إلى حضرته وذلك فى السرّ من بدر. فأوصلت [26] الكتب إليهم. ثمّ وجّه إليه بياسر خادم الموفّق ومعه عشرة آلاف ألف ليفرّقها فى عطاء أصحابه للبيعة للمكتفى، فخرج بها ياسر. فلمّا كان بالأهواز وجّه إليه بدر من قبض المال منه، فرجع ياسر إلى بغداد. ولمّا وصلت الكتب إلى القوّاد من المكتفي فارق بدرا جماعة منهم وانصرفوا عنه إلى مدينة السلام. فلمّا دخلوا بغداد وصلوا [1] إلى المكتفي وخلع على نيّف وثمانين رجلا وأجاز جماعة من رؤساءهم كلّ واحد بمائة ألف، وأجاز قوما بدون ذلك، وخلع على بعضهم ولم يجزه بشيء. وانصرف بدر قاصدا واسط، واتّصل الخبر بالمكتفى بإقبال بدر. فوكّل بدار بدر وقبض على جماعة من أصحابه وقوّاده فحبسوا مثل نحرير الكبير وعريب الجبلي وغيرهما، وأمر بمحو اسم بدر من الأعلام والتراس، وكان عليها أبو النجم مولى المعتضد بالله. ودعا المكتفي القوّاد وقال لهم:   [1] . فى الأصل: ووصلوا (بزيادة الواو) . ما فى مط: وصلوا. دون الواو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 - «لست أؤمّر عليكم أحدا، فمن كانت له حاجة فليلق الوزير، فقد تقدّمت إليه فى قضاء حوائجكم.» وكتب بدر إلى المكتفي كتابا على يد الرنداق [1] وحمله على الجمّازات. فلمّا وصل إلى المكتفي قبض عليه ووكّل به وأشخص جيشا إلى واسط وقيل: إنّه قدّمهم مقدمة له. وكان المكتفي أرسل إلى بدر [27] حين فصل من أرض فارس فعرض عليه ولاية [2] أىّ النواحي شاء إن أحبّ إصبهان أو الرىّ أو الجبل، ويأمره بالمصير إلى أىّ موضع أحبّ من هذه النواحي مع من أحبّ من الفرسان والرجّالة، فيقيم بها واليا عليها معهم. فأبى بدر وقال: - «لا بدّ لى من المصير إلى باب مولاي.» فوجد القاسم مساغا للقول فيه وقال للمكتفى: - «قد عرضنا عليه الولايات، فأبى إلّا المجيء.» ثمّ خوّفه غائلته وحرّض المكتفي على محاربته وقال: - «قد أظهر العصيان واتصل ببدر أنّه قد وكّل بداره وحبس غلمانه.» - «فأيقن بالشرّ فوجّه من تحتال فى تخليص ابنه هلال وحدره إليه. فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فأمر بالتحفّظ به، ودعا أبا خازم القاضي على الشرقيّة، وأمره بالمصير إلى بدر ولقاءه وتطييب نفسه وإعطاءه الأمان من أمير المؤمنين على نفسه وماله وولده. فقال أبو خازم: - «أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين حتّى أؤدّيه عنه.» فقال له: «انصرف حتّى أستأذن فى ذلك أمير المؤمنين.»   [1] . كذا فى الأصل: الرنداق. فى مط: الديدان. فى الطبري (13: 2211) زيدان. وفى حواشيه: زنداق، رنداق. [2] . فى مط: عليهم واليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 ثمّ دعا بأبى عمر محمّد بن يوسف وأمره بمثل الذي أمر به أبا خازم. فسارع إلى إجابته. ودفع القاسم إلى أبى عمر كتاب أمان عن المكتفي، فمضى به نحو بدر. فلمّا فصل بدر عن واسط ارفضّ عنه أصحابه وأكثر غلمانه [28] وصاروا إلى المكتفي فى الأمان. وخرج المكتفي إلى مضربه بنهر ديالى ومعه جميع جيوشه فعسكر هناك ولقى أبو عمر محمّد بن يوسف بدرا بالقرب من واسط. فدفع إليه الأمان وخبّره عن المكتفي ثمّ ما قال [1] له القاسم وصاعد معه فى حرّاقة بدر، واستقرّ الأمر بين بدر وبين أبى عمر على أن يدخل بغداد سامعا مطيعا. وعبر بدر دجلة وصار إلى النعمانيّة وأمر أصحابه وغلمانه الذين بقوا معه أن ينزعوا [2] سلاحهم ولا يحاربوا أحدا وأعلمهم ما ورد عليه به أبو عمر من الأمان. فبينا هو يسير إذ وافاه محمّد بن إسحاق بن كنداجيق [3] فى شذاءة ومعه جماعة من الغلمان فتحوّل إلى الحرّاقة وسأله بدر عن الخبر فطيّب بنفسه وقال قولا جميلا وهم فى ذلك يؤمّرونه وكان القاسم وصّاه وقال له: - «إذا اجتمعت مع بدر [4] فى موضع واحد فأعلمنى.» فوجّه إلى القاسم فأعلمه. فدعا القاسم لؤلؤا أحد غلمان السلطان النجباء، فقال له: - «قد ندبتك لأمر» . فقال له: - «سمعا وطاعة.»   [1] . فى مط: وخبّره عن المكتفي بما قال له القاسم، كما فى الطبري (13: 2212) . [2] . فى مط: أن ينزحوا. [3] . فى الطبري (13: 2213) : إسحاق بن كنداج. [4] . هنا بياض فى الأصل. وما أثبتناه عن مط والطبري (13: 2213) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 قال له: - «امض فتسلّم بدرا من ابن كنداجيق وجئني برأسه.» فمضى فى طيّار حتّى استقبل بدرا ومن معه بناحية سيب بنى كوما. فتحوّل من الطيّار إلى الحرّاقة وقال لبدر: - «قم.» قال: «وما الخبر؟» قال: «إنّه لا بأس عليك.» [29] فحوّله إلى طيّاره ومضى به إلى جزيرة، ونحّى الناس ودعا بسيف فاستلّه. فلمّا أيقن بدر بالقتل سأله أن يمهله حتّى يصلّى ركعتين. فأمهله فصلّاهما، ثمّ قدّمه فضرب عنقه وذلك يوم الجمعة قبل الزوال لستّ خلون من شهر رمضان. ثمّ أخذ رأسه ورجع إلى طيّاره وترك جثّته هناك فبقيت أيّاما ثمّ وجّه عياله من أخذ جثّته سرّا فجعلوها فى تابوت وحملوها أيّام الموسم إلى مكّة فدفنوها بها، وكان أوصى بذلك. وأعتق قبل أن يقتل مماليكه كلّهم وتسلّم السلطان ضياع بدر ودوره ومستغلاته. وورد الخبر على المكتفي بقتل بدر لتسع خلون من شهر رمضان، فرحل منصرفا إلى مدينة السلام، وجيء برأس بدر، فأمر به فنظّف ووضع فى خزانة الرؤوس. ورجع أبو عمر القاضي إلى داره حزينا كئيبا. فتكلّم الناس فيه، وقالوا أشعارا كثيرة. فممّا قيل فيه: قل لقاضى مدينة المنصور ... بم أحللت أخذ رأس الأمير بعد إعطاءه المواثيق والعهد ... وعقد الأمان فى منشور أين أيمانك الّتى شهد الله ... على أنّها يمين فجور [30] يا قليل الحياء يا أكذب الأم ... مة يا شاهدا شهادة زور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 ليس هذا فعل القضاة ولا يحسن أمثاله ولاة الجسور في أبيات كثيرة. [1] وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعا كثيرة من الأعراب وغيرهم، فأتى بهم دمشق وبها طغج بن جفّ من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون فكانت بينه وبين طغج وقعات وقتل بينهما خلق كثير. ذكر خبر القرامطة ومبدأ أمرهم ومآله [2] كان زكرويه بن مهرويه داعية لقرمط. فلمّا تتابعت من المعتضد توجيه الجيوش إلى سواد الكوفة وألحّ فى طلب القرامطة وأثخن فيهم القتل ورأى أنّه لا مدفع عن أنفسهم عند أهل السواد ولا غناء [3] سعى فى استغواء من قرب من الكوفة من أعراب أسد وطىّ وتميم وغيرهم ودعاهم إلى رأيه وزعم أنّ من بسواد الكوفة من القرامطة يطابقونهم على أمره إن استجابوا له، فلم يستجيبوا له. وكانت جماعة من كلب تخفر الطريق على البرّ بالسماوة فيما بين الكوفة ودمشق على طريق تدمر وغيرها. فأرسل زكرويه [31] أولاده إليهم فبايعوهم وخالطوهم وانتموا [4] إلى علىّ بن أبى طالب، وإلى محمّد بن   [1] . انظر الطبري (13: 2215) . [2] . فى الأصل وما آله. فى مط: وماله. [3] . فى مط: غنى. [4] . فى مط: وانتهوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 إسماعيل بن جعفر، منهم، [1] وذكروا أنّهم خائفون من السلطان وأنّهم لجأوا إليهم. فقبلوهم على ذلك ثمّ دبّوا فيهم بالدعاء إلى رأى القرامطة، فلم يقبل ذلك أحد منهم إلّا الفخذ المعروفة ببني العليص ومواليهم خاصّة، فبايعوا فى آخر سنة تسع وثمانين ومائتين ناحية السماوة ابن زكرويه المسمّى: يحيى والمكنّى: أبا القاسم ولقّبوه: الشيخ على مامويه، وزعم لهم: أنّه أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد، وأنّ له بالسواد والمشرق والمغرب مائة ألف تابع، وأنّ ناقته التي يركبها مأمورة، وأنّهم إذا اتّبعوها فى مسيرها ظفروا، وتكهّن لهم. وانحازت إليه جماعة من بنى الإصبع، وأخلصوا له وتسمّوا بالفاطميين، ودانوا بدينهم. فقصدهم سبك الديلمي مولى المعتضد بناحية الرصافة فى غربىّ الفرات وديار مضر. فاغترّوه وقتلوه وحرّقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كلّ قرية اجتازوا بها حتّى صعدوا إلى أعمال الشام، فأناخ عليها وهزم كلّ عسكر لقيه لطغج حتّى حصره فى مدينة دمشق. فأنفذ المصريّون إليه بدرا الكبير وواقعوهم قريبا من دمشق، فقتل يحيى بن زكرويه. ثمّ دارت الحرب [32] على المصر فانحازت واجتمعت موالي بنى العليص ومن معهم من الأصبعيين على نصب الحسين بن زكرويه أخى المقتول، وزعم لهم أنّه أحمد بن عبد الله بن محمّد، بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد وهو ابن نيّف وعشرين سنة. فبايعوه بعد أخيه، وأظهر له شامة فى وجهه ذكر أنّها آيته. وطرأ إليه ابن عمّه عيسى فلقّبه بالمدّثّر، وعهد إليه، وذكر أنّه   [1] . كذا في الأصل ومط: منهم. ما فى الطبري (13: 2218) دون «منهم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 المعنىّ فى السورة التي ذكر فيها المدّثّر، وقلّد غلاما له قتل أسرى المسلمين، ولقّبه المطوّق، وظهر على جند حمص وغيرها من أرض الشام وتسمّى بأمير المؤمنين على منابرها. وفيها أوقع إسماعيل بن أحمد بمحمّد بن هارون بالرىّ فهزمه وكان فى ثمانية آلاف، فمضى نحو الديلم، ودخل إسماعيل الرىّ وصار ألف رجل من المنهزمة إلى باب السلطان. [1] ودخلت سنة تسعين ومائتين وفيها ورد كتاب علىّ بن عيسى من الرقّة يذكر فيها أنّ القرمطى ابن زكرويه وافى في جمع كثير، فخرج إليه جماعة من أصحاب السلطان وبينهم سبك غلام المكتفي، فواقعوه فقتل سبك وانهزم أصحاب السلطان. [2] ثمّ إنّ طغج بن جفّ أخرج من دمشق [33] جيشا إلى القرمطى عليهم غلام يقال له: بشير، فواقعه القرمطى فهزم الجيش وقتل بشيرا. ثمّ خلع السلطان على أبى الأغرّ وبعث به لحرب القرمطى بناحية الشام، فمضى في عشرة آلاف إلى حلب. ووردت كتب التجار من دمشق إلى بغداد أنّ القرمطى قد هزم من طغج غير مرّة وقتل أصحابه إلّا القليل وأنّه بقي فى قلّة وامتنع من الخروج وإنّما تجتمع العامّة ثمّ تخرج للقتال وأنّهم قد أشرفوا على الهلكة فاجتمع التجار ومضوا إلى يوسف بن يعقوب فأقرأوه الكتاب وسألوه أن يخبر الوزير ذلك.   [1] . انظر الطبري (13: 2220) . [2] . انظر الطبري (13: 2221) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وفيها قوطع صاحب طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث على أموال فارس، ثمّ عقد المكتفي لطاهر على أعمال فارس وخلع على صاحبه وحمل إليه الخلع مع العقد. وفيها ورد الخبر وكتاب قرأ فى جوامع بغداد بأنّ يحيى بن زكرويه قتله المصريّون على باب دمشق بعد أن اتصلت الحروب بينه وبين جند دمشق ومددهم من أهل مصر وكسر لهم جيوشا وقتل منهم خلقا. وكان يحيى هذا يدّعى النبوّة والكهانة. خبر الحسين أخى يحيى بن زكرويه [1] فلمّا قتل يحيى انحاز أصحابه إلى أخيه الحسين بن زكرويه فطلبوا أخاه في القتلى فلم يجدوه. وكان أخوه قد سبق إليه ودعا الحسين [34] إلى مثل ما دعا إليه أخوه، فأجابه أكثر أهل البوادي وغيرهم من سائر الناس واشتدّت شوكته. وظهر وصار إلى دمشق، فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه، فانصرف عنهم وسار إلى أطراف حمص فتغلّب عليها وخطب له على منابرها، ثمّ سار إلى حمص فأطاعه أهلها وفتحوا له بابها خوفا على أنفسهم فدخلها. ثمّ سار إلى حماة ومعرّة النعمان وغيرهما فقتل أهلها وقتل النساء والأطفال. ثمّ سار إلى بعلبك فقتل عامّة أهلها حتّى لم يبق منهم إلّا اليسير. ثمّ سار إلى سلمية فحارب أهلها ومنعوه الدخول. ثمّ أعطاهم الأمان ففتحوا له بابها. فدخلها وبدأ بمن فيها من الهاشميين فقتلهم أجمعين، وقتل بعدهم الرجال أجمعين، ثمّ قتل البهائم، وقتل صبيان الكتاتيب، ثمّ خرج منها وليس بها عين   [1] . انظر الطبري (13: 2225) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 تطرف [1] وسار فيما حولها يقتل ويسبى ويخيف السبل. وحكيت عنه حكايات في إباحة الفروج [2] لأصحابه، وأنّ جماعة منهم كانوا يجتمعون على مرأة واحدة إذا استحسنوها لا يتحاشون ذلك فيما بينهم. المكتفي والتأهّب للشخوص إلى حرب القرمطىّ ولليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة أمر المكتفي بالله بإعطاء الجند أرزاقهم والتأهّب [35] للشخوص إلى حرب القرمطى بناحية الشام. فأطلق للجند في دفعة واحدة مائة ألف دينار، وذلك أنّ أهل مصر والشام كتبوا يشكون ما لقوا من ابن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، وأنّه قد أخرب البلاد وقتل الناس. وحكوا أشياء عظيمة ممّا لقوه منه ومن أخيه قبله وقتلهم الرجال، وأنّه لم يبق منهم إلّا عدد قليل. فأخرجت مضارب المكتفي فضربت بباب الشمّاسية ومعه قوّاده وغلمانه وجيوشه. ثمّ رحل وسلك طريق الموصل ومضى أبو الأغرّ، فنزل وادي بطنان قريبا من حلب. فلمّا استقرّ ونزل معه جميع من معه نزع أكثرهم ثيابهم ودخلوا الوادي يتبرّدون بمائه وكان يوما شديد الحرّ. فبينا هم كذلك إذ وافاهم جيش القرمطى صاحب الشامة وقد تقدّمهم المطوّق فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقا كثيرا وانتهب العسكر، وأفلت أبو الأغرّ فدخل حلب، وأفلت معه ألف رجل وكانوا عشرة آلاف. وصار القرمطى إلى باب حلب فحاربهم أبو الأغرّ فيمن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فذهبوا وانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع   [1] . فى مط: تطوف. [2] . فى مط: الفراج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 والسلاح والأموال والمتاع بعد حرب كانت بينهم. [36] ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتّى انتهوا إلى الرقّة فنزلها وسرّح الجيوش إلى القرمطى جيشا بعد جيش. ثمّ ورد كتاب من بدر الحمامي صاحب ابن طولون يخبر فيه، أنّه واقع القرمطى صاحب الشامة فهزمه ووضع في أصحابه السيف ومضى من أفلت منهم نحو البادية، وأنّ أمير المؤمنين وجّه في إثره الحسين بن حمدان بن حمدون. وورد كتاب آخر من البحرين من ابن بانو يذكر فيه أنّه واقع قرابة لأبى سعيد الجنّابى وولىّ عهده من بعده فهزمه وكان مقامه بالقطيف فوجد قتيلا بين القتلى، فاحتزّ رأسه، وأنّه افتتح القطيف فدخلها. وفيها وجّه القاسم بن عبيد الله الجيوش إلى صاحب الشامة، وولّى حربه محمّد بن سليمان الكاتب وكان إليه ديوان الجيش، وضمّ إليه جميع القوّاد وكتب إلى من تقدّمه من القوّاد بالانضمام إليه وأن يسمع الجميع له ويطيعوه. ودخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين ولمّا توجّه محمّد بن سليمان مع جيوش المكتفي وتولّى حرب صاحب الشامة، والمكتفي بالرقّة، كتب إليه بمناهضة صاحب الشامة بمن معه فنهض إليه. [37] ذكر مسيره وظفره بالقرمطى [1] فلمّا صار بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا لقوا أصحاب القرمطى. وكان   [1] . انظر الطبري (13: 2237) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 القرمطى قدّم أصحابه وتخلّف هو فى جماعة من أصحابه لأجل حفظ مال كان جمعه وجعل سواده وراءه. فالتحمت الحرب بين العسكرين واشتدّت، فهزم أصحاب القرمطى فقتلوا وأسر منهم خلق كثير وتفرّق الباقون فى البوادي، وتبعهم السلطان. فلمّا رأى القرمطى هزيمة أصحابه حمّل فيما قيل أخا له يكنّى أبا الفضل مالا وتقدّم إليه أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر فى موضع فيصير. إليه وركب هو وابن عمّه المسمّى: المدّثّر والمطوّق صاحبه وغلام له رومىّ وأخذ دليلا وسار يريد الكوفة عرضا في البرّيّة حتّى انتهى إلى موضع يعرف بالدالية من أعمال الفرات وقد نفد ما كان معهم من الزاد، فوجّه بعض من كان معه ليأخذ لهم بعض ما يحتاجون إليه. فدخل الدالية المعروفة بدالية ابن طوق ليشتري ما يحتاج إليه فأنكر زيّه وسئل عن أمره فجمجم [1] فأعلم المتولّى مسلحة هذه الناحية خبره، وكان يعرف بأبى خبزة خليفة ابن كشمرد عامل [38] المكتفي بالرحبة وطريق الفرات. فركب فى جماعة وسأل هذا الرجل عن خبره وهدّده فأخبره أنّ صاحب الشامة خلف رابية هنالك فى ثلاثة نفر. فمضى إليهم فأخذهم وصار بهم إلى صاحبه. فوجّه بهم ابن كشمرد إلى المكتفي بالرقّة. ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروا أكثر أولياء القرمطى وأشياعه. وكتب محمّد بن سليمان بالفتح وكان المباشر للحرب وصاحب الظفر الحسين بن حمدان فقرّظه [2] محمّد بن سليمان فى كتاب الفتح وأثنى عليه وعلى أصحابه.   [1] . فى مط: فحمحم (بإهمال الحائين) . والطبري (13: 2238) كالأصل. [2] . فى الأصل: قرطه (بإهمال الطاء) . فى مط: وظفّر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وأدخل صاحب الشامة إلى الرقّة ظاهرا للناس على فالج وعليه برنس حرير ودرّاعة ديباج وبين يديه المدّثّر والمطوّق على جملين. رجوع المكتفي إلى بغداد بالقرمطىّ والمدّثّر والمطوّق وعاقبة أمرهم ثمّ إنّ المكتفي خلّف عساكره مع محمّد بن سليمان وشخص هو فى خاصّته وغلمانه وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقّة إلى بغداد وحمل معه القرمطى والمدّثّر والمطوّق وحمل من أسر فى الوقعة، وذلك فى أوّل صفر من هذه السنة. وأراد المكتفي أن يدخل القرمطى إلى بغداد على دقل [1] منصوب على ظهر الفيل، فلم يمكن ذلك إلّا بهدم طاقات للأبواب التي يجتاز بها الفيل مثل باب الطاق [39] وباب الرصافة. ثمّ استسمج [2] الهدم فعمل حينئذ كرسىّ نصب على ظهر الفيل وكان ارتفاع الكرسىّ ذراعين ونصفا ودخل المكتفي بغداد وقدّم الأسرى بين يديه على جمال مقيّدين عليهم دراريع حرير وبرانس حرير والمطوّق وسطهم [3] غلام ما خرجت لحيته قد جعل فى فيه خشبة مخروطة وشدّت إلى قفاه كهيئة اللجام، وذلك أنّه لمّا دخل الرقّة كان يشتم الناس إذا دعوا عليهم ويبصق عليهم، ففعل ذلك به ببغداد. ثمّ أمر المكتفي ببناء دكّة فى المصلّى العتيق من الجانب الشرقىّ تكسيرها عشرون ذراعا فى عشرين ذراعا، وارتفاعها نحو من عشرة أذرع، وبنى لها درج يصعد إليها.   [1] . الدقل: خشبة طويلة تشدّ فى وسط السفينة ويمدّ عليها الشراع، وأصله الفارسي: دكل. [2] . فى الطبري: استسمج، وفى حواشيه: استقبح (13: 2243) . [3] . فى الطبري (13: 2243) : فى وسطهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 وكان محمّد بن سليمان لمّا خلّفه المكتفي بالرقّة يلقط من كان فى تلك النواحي من قوّاد القرمطى وقضاته وأصحاب شرطه فأخذهم وقيّدهم وانحدر مع من معه من الجيش إلى بغداد على طريق الفرات، وأمر القوّاد الذين ببغداد بتلقى محمّد بن سليمان والدخول معه. فدخل بغداد وبين يديه الأسراء حتّى صار إلى الثريّا فخلع عليه وطوّق بطوق من ذهب وسوّر بسوارين من ذهب وخلع على جميع القوّاد وسوّروا. [40] ثم إنّ صاحب الشامة أخذ وهو فى الحبس سكرّجة عن المائدة التي تدخل إليه فكسرها وأخذ شظيّة منها فقطع بها بعض عروقه من يد نفسه فخرج منه دم كثير ثمّ شدّ يده فلمّا وقف المتولّى خدمته على ذلك منه سأله: - «لم فعل ذلك؟» فقال: «هاج بى الدم فأخرجته.» فترك حتّى صلح ورجعت إليه قوّته. ثمّ أمر المكتفي القوّاد والغلمان بحضور الدكّة التي أمر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها فحضروها. فحمل الأسرى وقوم كانوا ببغداد على رأى القرامطة وقوم من الرفوع [1] من سائر البلدان من غير القرامطة، فجيء بهم على جمال ووكّل بهم على كلّ رجل اثنان. ويقال إنّهم كانوا ثلاثمائة وستين. وجيء بالقرمطى الحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة وابن عمّه المعروف بالمدّثّر على بغل عماريّة وقد أسبل عليهما الغشاء ومعهما جماعة من الفرسان والرجّالة. فصعد بهما إلى الدكّة وأقعدا، ثمّ قدّم بين يديه جماعة   [1] . فى الطبري (13: 2245) : الرفوغ (بالغين المعجمة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 فقطعت أيديهم وأرجلهم وضربت أعناقهم كان يؤخذ الواحد فيبطح على وجهه فتقطع يمنى يديه ويحلّق بها إلى أسفل ليراها الناس، ثمّ رجله اليسرى ثمّ يده اليسرى ثمّ رجله اليمنى، ويحلّق بما يقطع إلى أسفل، ثمّ يقعد [41] فيمدّ رأسه فيضرب عنقه ويرمى برأسه وجثّته. وكانت جماعة قليلة من الأسرى يضجّون ويستغيثون ويزعمون أنّهم ليسوا من القرامطة. ثمّ قدّم المدّثّر ففعل به ذلك ثمّ قدّم القرمطى فضرب مائتي سوط ثمّ قطعت يداه ورجلاه وكوى فغشى عليه ثمّ أخذ خشب فأضرمت عليه النار ووضع فى خواصره وبطنه فجعل يفتح عينيه ثمّ يغمضهما. فلمّا خافوا أن يموت ضربت عنقه. وانصرف القوّاد وأكثر النظّارة وأقام صاحب الشرطة إلى وقت العشاء الآخرة حتّى ضربت أعناق باقى الأسرى ثمّ انصرف. فلمّا كان الغد حملت الرؤوس إلى الجسر، وصلب بدن القرمطى هناك، أعنى الجسر وحفرت لأجساد القتلى آبار إلى جانب الدكّة فطرحت فيها وطمّت، ثمّ هدمت الدكّة عليها. ثمّ استأمن قوم من القرامطة إلى القاسم بن سيما خوفا من القاسم [1] فقتلوا وأجريت لهم الأرزاق. فلمّا أمنوا همّوا بالغدر فوضعت فيهم السيوف وقتلوا كلّهم. ثمّ ذلّوا وارتدع قوم من بنى العليص ولزموا أرض السماوة مدّة حتّى راسلهم الخبيث زكرويه وأعلمهم أنّ ممّا أوحى إليه أنّ المعروف بالشيخ وأخاه يقتلان، فإنّ إمامه الذي يوحى إليه يظهر [42] بعدهما ويظفر. وفيها خلع المكتفي على محمّد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعة من القوّاد منهم محمّد بن إسحاق بن كنداجيق وأبو الأغرّ خليفة ابن المبارك وابن كيغلغ وغيرهم وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمّد بن سليمان فخرجوا   [1] . كذا فى مط: قس بما فى الطبري (13: 2247) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 معسكرين نحو دمشق ومصر لقبض الأعمال من هارون بن خمارويه لما تبيّن من ضعفه وذهاب رجاله بقتل من قتل القرمطى. وكان عدّة من مع محمّد بن سليمان لمّا دخل من باب الشمّاسية عشرة آلاف رجل. ودخلت سنة اثنتين وتسعين ومائتين محمد بن سليمان يخرج لحرب هارون بن خمارويه وفى المحرّم منها صار محمّد بن سليمان إلى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه. ووجّه المكتفي دميانة من بغداد وأمره بركوب البحر والمضىّ إلى مصر ودخول النيل وقطع الموادّ عمّن بمصر. ففعل ذلك وضيّق عليهم. وزحف محمّد بن سليمان إليهم في الجيوش على الظهر حتّى دنا من الفسطاط وكاتب القوّاد الذين بها. فكان أوّل من خرج إليه بدرا الحمّامىّ [1] ، وكان رئيس القوم، فكسرهم ذلك، ثمّ تتابع من يستأمن إليه من قوّاد المصريّين. فلمّا رأى ذلك هارون وبقية من معه زحفوا إلى محمّد بن [43] سليمان فكانت بينهم وقعات. ثمّ وقع من أصحاب هارون عصبيّة فاقتتلوا وخرج هارون يسكّنهم فرماه واحد برانة [2] فقتله. وبلغ الخبر محمّد بن سليمان، فدخل بمن معه الفسطاط واحتوى على آل طولون وأسبابهم فقيّدهم واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح فكوتب بأن يشخصهم إلى بغداد، ولا يترك أحدا منهم بمصر ولا بالشام ففعل. ثمّ إنّ قائدا من قوّاد مصر يعرف بالخليجى تخلّف عن محمّد بن سليمان فى آخر حدود مصر واستمال جماعة من الجند وعاد إلى مصر وحشر فى طريقه جماعة من محبّي الفتنة حتّى كثر جمعه وواقع عامل السلطان بها، وهو عيسى النوشرى، فانحاز عنه   [1] . ما فى الأصل بتخفيف الميم. ما فى الطبري (13: 2253) : الحمّامىّ (بالتشديد) . [2] . فى مط: بزانة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وأخلى مصر. فدخلها الخليجي فندب السلطان لمحاربة الخليجي. فاتكأ مولى المعتضد وضمّ إليه بدرا الحمّامى وجعله مشيرا [1] عليه فيما يعمل به وضمّ إليه قوّادا وجندا كثيرا وأمر بسرعة السير. ودخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين وفيها ورد الخبر بأنّ الخليجي المتغلّب على مصر واقع كيغلغ وجماعة من القوّاد بالقرب [44] من العريش فهزمهم أقبح هزيمة. وفيها ورد بغداد قائد من أصحاب طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث الصفّار مستأمنا يعرف بأبى القابوس مفارقا عسكر السجزيّة مع جماعة كثيرة من أصحابه. ذكر السبب فى ذلك كان السبب في ذلك أنّ طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث تشاغل باللهو والصيد ومضى إلى سجستان للصيد والنزهة فاستولى على فارس الليث بن علىّ بن الليث وسبكرى مولى عمرو بن الليث، فدبّر الأمور والإسم لطاهر، فوقع بينهما وبين أبى قابوس خلاف، فصار إلى باب السلطان فقبله وخلع عليه وعلى جماعة معه وأكرمه. وكتب طاهر إلى السلطان يسأله ردّ أبى قابوس إليه ويذكر أنّه كان استكفاه بعض أعمال فارس، وأنّه جبى المال فخرج به معه ويسأله، إن لم يردّ إليه، أن يحتسب له بما ذهب به من مال فارس ممّا صودر عليه. فلم يجبه السلطان إلى شيء من ذلك.   [1] . فى الأصل: مسيرا (بالسين المهملة) . والتصحيح من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 ظهور أخ للحسين بن زكرويه صاحب الشامة وفيها ظهر أخ للحسين بن زكرويه صاحب الشامة فى طريق الفرات، واجتمع إليه نفر من الأعراب فسار إلى ناحية دمشق [45] على طريق البرّ، فعاث وسلك سبيل أخيه فندب للخروج إليه الحسين بن حمدان، فخرج فى جماعة من الجند. ثمّ ورد الخبر بمصير هذا القرمطى إلى طبريّة وأنّ أهلها امتنعوا عليه فحاربهم فقتل عامّة من بها من الرجال والنساء ونهبها. وكان لهم داعية بنواحي اليمن فصار إلى مدينة صنعاء فحاربه أهلها فظفر بهم وقتلهم ولم يفلت منهم إلّا القليل وتغلّب على سائر مدن اليمن. ثمّ إنّ زكرويه بن مهرويه [1] بعد ما قتل ابنه صاحب الشامة أنفذ صاحبا له معلّما كان يعلّم الصبيان يسمّى: عبد الله بن سعيد ويكنّى: أبا غانم فتسمّى: نصرا ليعمّى أمره. فاستغوى طائفة من بطون كلب وقوم من بنى العليص، فقصد دمشق وأحمد بن كيغلغ يحارب ابن الخليجي الذي ذكرنا أمره. فاغتنم ذلك عبد الله وسار إلى مدينتي بصرى وأذرعات من كور حوران والبثنيّة، [2] فحارب أهلها ثمّ آمنهم. فلمّا استسلموا له قتل مقاتلتهم وسبى ذرارّيهم وأخذ أموالهم. فقصدوا طبريّة فواقعهم عامل أحمد بن كيغلغ فكسروه، ثمّ بذلوا الأمان، فلمّا سكن إليهم [46] غدروا به وقتلوه وانتهبوا مدينة الأردن وسبوا النساء والصبيان وقتلوا الرجال. واتصل بهم مسير الحسين بن حمدان نحوهم فخرجوا نحو السماوة وتبعهم الحسين فى برّيّة السماوة وهم ينتقلون من ماء إلى ماء ويعورونه حتّى انقطع الحسين عن اتباعه لعدم الماء فعاد إلى الرحبة وأسرى القرامطة إلى هيت،   [1] . انظر الطبري (13: 2256) . [2] . فى مط: والسنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 فنهبت ربضها وقتلت وأحرقت وانتهبت السفن التي فى الفرات، فأوقرت ثلاثة ألف راحلة كانت معها زهاء مائتي كرّ حنطة ومن البزّ والعطر والسّقط جميع ما احتاجوا إليه وأقاموا بها يومين. ثمّ رحلوا عنها ولمّا أصابوا ما أصابوا من الربض وتحصّن منهم أهل المدينة بسورها وندب لهم محمّد بن إسحاق بن كنداجيق ثمّ اتبع بمونس الخازن فهرب القرامطة وكتب إلى الحسين بن حمدان أن يقصدهم من ناحية الرحبة ليجتمع هو وابن كنداجيق على الإيقاع بهم. فلمّا أحسّ الكلبيّون بالجند قد قصدوهم ائتمروا بينهم، فوثبوا على المسمّى: نصرا وقتلوه وتقرّبوا به إلى السلطان ورئيسهم رجل يعرف بالذئب فأسنيت له الجائزة وكفّ [47] عن طلب قومه فمكث أيّاما ثمّ هرب. فكتب السلطان إلى الحسين بن حمدان فى معاودتهم واجتثاث أصولهم. فبعث إليهم زكرويه داعية له يعلمهم أنّ الذئب قد نفّره عنهم وثقّل قلبه عليهم وأنّهم قد ارتدّوا عن الدّين، وأنّ وقت ظهورهم قد حضر وقد بايع له بالكوفة أربعون ألفا، وأنّ يوم موعدهم اليوم الذي ذكره الله تعالى وهو يوم الزينة [1] وأنّ زكرويه يأمرهم أن يخفوا أمرهم ويظهروا الانقلاع نحو الشام، ثمّ يسيروا إلى الكوفة حتّى يصبّحوها يوم النحر، فإنّهم لا يمنعون منها وأنّه يظهر لهم وينجز وعده الذي كانت رسله تأتيهم به وأن يحملوا داعيتهم وهو القاسم بن أحمد معهم. فامتثلوا أمره ووافوا باب الكوفة وقد انصرف الناس عن مصلّاهم. وكان إسحاق بن عمران عامل السلطان بها فأوقعوا بمن لحقوه وسلبوهم وبادر الناس إلى الكوفة وتنادوا بالسلاح ونهض إسحاق بن عمران فى   [1] . س 20 طه: 59. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 أصحابه، فدخل مدينة الكوفة من القرامطة نحو مائة فارس من الباب المعروف بباب كندة، فاجتمعت العوامّ وأصحاب السلطان [48] فرموهم بالحجارة وألقوا عليهم السّتر فقتل منهم جماعة وأخرجوهم عن المدينة ثمّ صافّهم إسحاق خارج المدينة وأمر أهل المدينة بالتحارس فلم تزل الحرب قائمة إلى العصر وانهزمت القرامطة وأصلح أهل الكوفة السور والخندق. وكتب إسحاق يستمدّ السلطان فأمدّه بجماعة من القوّاد فيهم وصيف بن صوراتكين والفضل بن موسى بن بغا وجنى الصفواني وجماعة أمثالهم، فشخصوا إلى زكرويه وخلّفوا إسحاق بن عمران بالكوفة لضبطها وصاروا إلى قريب من القادسيّة إلى موضع يعرف بالصوان [1] وهو فى العرض، فلقيهم زكرويه هناك فصافّوه واشتدّت الحرب فكانت الدبرة فى أوّل الأمر على القرمطى. وكان زكرويه قد كمن لهم كمينا فخرج الكمين عليهم فانهزم أصحاب السلطان أقبح هزيمة ووضع القرمطى فيهم السيف فقتلوهم كيف شاءوا وصبر جماعة من غلمان الحجر، فقتلوا عن آخرهم بعد أن نكوا فى القرامطة نكاية عظيمة. وأخذ للسلطان من الجمّازات التي عليها السلاح والآلة ثلاثمائة جمّازة ومن البغال خمسمائة بغل، فقتل من أصحاب السلطان نحو ألفىّ رجل. فقوى القرمطى ثمّ تطرّق البيادر فأخذ من الغلّات ما حملت البغال. ووافى قوم [49] من العرب باب الكوفة فدخلوا أبياتها وكانوا ضربوا على الداعية الذي يقال له: القاسم بن أحمد قبّة ودعوا: - «يا لثارات الحسين.» يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب وشعارهم:   [1] . فى الطبري (13: 2266) : بالصوار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 - «يا أحمد يا محمّد.» يعنون ابني زكرويه المقتولين، وأظهروا أعلاما بيضا وقدّروا أنّهم يستغوون الرعاع بالكوفة لما أظهروه. فأسرع إسحاق بن عمران ومن معه نحوهم فدفعهم وقتل من ثبت له منهم وعاونه أهل البلد فانصرف عنهم القرامطة وما تمّت حيلتهم. وكان زكرويه قد ظهر فى أهل قرية الصوان ينقلونه على أيديهم ويسمّونه: ولىّ الله، فلمّا رأوه سجدوا له فقال لهم: - «إنّ القاسم بن أحمد أعظم الناس منّة عليهم، فإنّه ردّكم إلى الدين بعد خروجكم منه.» وتقدّم إليهم بأن يمتثلوا أمره، فإنّه حينئذ ينجز مواعيده [1] ويبلّغهم آمالهم. وتلا عليهم آيات من القرآن رمزها لهم، فاغترّوا به وقويت قلوبهم وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل. وسار بهم وهو محجوب عنهم يدعونه: السيّد، ولا يبرزونه لمن فى عسكره والقاسم يتولّى الأمور دونه ويمضيها على رأيه. وكان عنده أنّ أهل الكوفة وسوادها يخرجون إليه، فأعلم أصحابه ذلك وأقام نيّفا وعشرين سنة يبثّ رسله فى السواد فلم يلحق به [50] إلّا خمسمائة رجل ممّن لحقته الشهوة بنسائهم وأولادهم. [2] وسرّب إليه السلطان الجنود وتسرّع إليه جماعة من القوّاد منهم جنى الصفوانىّ وبشر الأفشينى ورائق فتى أمير المؤمنين والحجريّة من الغلمان، فأوقعوا بالقرامطة وقتلوا جماعة من فرسانهم ورجّالتهم فأسلموا بيوتهم فانهزموا، ودخلوا البيوت وتشاغلوا بها. فعطفت القرامطة عليهم فهزموهم. وأعظم الناس ما جرى على أصحاب السلطان بالصوان وغيرها، وأهمّ   [1] . فى مط: ينحرموا عنده. بدل: ينجز مواعيده. [2] . انظر الطبري (13: 2265) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 السلطان أمر مصر بسبب ابن الخليجي. فأمر المكتفي بإخراج مضاربه إلى باب الشمّاسيّة ثمّ وردت خريطة من قبل فاتك يذكر أنّهم رجعوا إلى ابن الخليجي، فكانت بينهم وقعات وحروب. وفى آخرها هزم ابن الخليجي وقتل أصحابه وإنّه هرب إلى مصر ودخل الفسطاط فاستتر بها عند رجل من أهل البلد، ودخل أصحاب السلطان الفسطاط فاستثاروه [1] وجمع من كان بالبلد. فكتب إلى فاتك بحمل ابن الخليجي ومن أسر معه إلى بغداد. وردّت مضارب المكتفي بالله إلى بغداد فحمل ابن الخليجي إلى بغداد مع أحد وعشرين رجلا على الجمال مشهرين ببرانس ودراريع حرير. وخلع المكتفي على وزيره العبّاس بن الحسن خلعا [51] لحسن تدبيره فى هذا الفتح. [2] ثمّ حمل رأس القرمطى المسمّى نصرا الذي انتهب هيت منصوبا على قناة فطيف به فى الجانبين. ودخلت سنة أربع وتسعين ومائتين زكرويه وقصده قافلة الحجيج وفيها ورد الخبر بأنّ زكرويه بن مهرويه القرمطى ارتحل من موضعه يريد الحاجّ. فذكر أنّه مضى فى البرّ من جهة المشرق قريبا من الواقصة ووافت القافلة واقصة لسبع خلون من المحرّم. فأنذرهم أهل المنزل وأخبروهم أنّ بينهم وبين القوم أربعة أميال فلم يقيموا وارتحلوا فنجوا. فأمعنت القافلة فى السير وصار القرمطى إلى واقصة فسألهم عن القافلة، فأخبروه أنّها لم تقم بواقصة، فاتّهمهم بإنذارهم فقتل من العلّافين بها جماعة وأحرق العلف وتحصّن أهلها فى حصنهم. ثمّ ارتحل نحو زبالة وسارت العساكر فى طلب   [1] . فى مط: فاستشاروه. [2] . انظر الطبري (13: 2268) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 زكرويه مدّة ثمّ انصرفت عنه. ومرّ زكرويه فى طريقه بطوائف من بنى أسد فأخذها معه وقصد الحاجّ المنصرفين عن مكّة وقصد الجادّة، ثمّ اعترضهم يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من المحرّم من هذه السنة بالعقبة [52] من طريق مكّة فحاربوه حربا شديدة فسايلهم وقال: - «أفيكم السلطان؟» قالوا: «نعم معنا سلطان ونحن الحاجّ.» فقال لهم: - «فامضوا فلست أريدكم.» فلمّا سارت القافلة تبعها فأوقع بهم وجعل أصحابه ينخسون الجمال بالرماح ويبعجونها بالسيوف، فنفرت واختلطت القافلة وأكبّ أصحاب زكرويه على الحاجّ يقتلونهم كيف شاءوا فقتلوا الرجال والنساء وسبوا من النساء من أرادوا واحتووا على ما فى القافلة. وقد كان لقى بعض من أفلت من هذه القافلة علّان بن كشمرد وكان فى قطعة من فرسان جيش السلطان أعدّ لقصد القرامطة، فسأله عن الخبر فأعلمه ما نزل بقافلة الخراسانية وقال: - «ما بينك وبين القوم إلّا قليل، والليلة أو فى غد توافى القافلة الثانية، فإن رأوا علما للسلطان قويت نفوسهم والله الله فيهم.» فرجع علّان من ساعته وأمر من معه بالرجوع وقال: - «لا أعرّض أصحاب السلطان للقتل.» ثمّ أصعد زكرويه ووافته القافلة الثانية والثالثة ومن كان فيها من القوّاد والكتّاب مع جماعة من الرسل تنكّبوا طريق الجادّة وكتبوا بخبر الفاسق وفعله بالحاجّ ويعلمهم بالتحرّز منه والعدول عن الجادّة نحو واسط [53] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 والبصرة أو الرجوع إلى فيد [1] أو المدينة [2] إلى أن تلحق بهم الجيوش. ووصلت الكتب إليهم فلم يسمعوا ولم يتلبّثوا، وتقدّم أهل القافلة الثانية وفيها المبارك القمّى وأحمد بن نصر العقيلي فوافوا الفجرة وقد رحلوا عن الواقصة وعوّروا مياهها وملأوا بركها وآبارها بجيف الإبل والدوابّ التي كانت معهم مشقّقة بطونها، ووردوا منزل العقبة لاثنتي عشرة خلت من المحرّم فحاربهم أهل القافلة الثانية. وكان أبو العشائر مع أصحابه فى أوّل القافلة ومبارك القمي فيمن معه فى ساقتها. فجرت بينهم حرب شديدة حتّى كشفوهم وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجرة من ساقتهم غرّة فركبوهم من جهتها ووضعوا رماحهم فى جنوب إبلهم وبطونها فطحنتهم الإبل فتمكّنوا منهم فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم إلّا من استعبدوه. ثمّ أنفذوا إلى ما دون العقبة فوارس لحقوا من كان أفلت من السيف، فأعطوهم الأمان، فرجعوا فقتلوهم عن آخرهم وسبوا من اختاروا من النساء وحملوا الأموال والأمتعة، وقتلوا مباركا القمّى والمظفّر ابنه وأسر أبو العشائر وجمع القتلى فوضع بعضهم على بعض [54] حتّى صاروا كالتلّ العظيم ثمّ قطعت يدا أبى العشائر ورجلاه وضربت عنقه. وأطلقوا من النساء ما لم يرغبوا فيه وأفلت من الجرحى قوم، ووقعوا بين القتلى، فتحاملوا فى الليل ومضوا. فمنهم من مات فى الطريق ومنهم من نجا وهم قليل. وكانت نساء القرامطة مع صبيانهم يطفن فى القتلى يعرضون عليهم الماء، فمنهم من كلّمهم فأجهزوا عليه. وكان فى القافلة زهاء عشرين ألف رجل قتل جميعهم غير نفر يسير ممّن   [1] . فى مط: قيد. والضبط من الطبري (13: 2271) . [2] . الكلمة مطموسة فى الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 قوى على العدوّ بغير زاد ومن وقع فى القتلى وهو مجروح فأفلت يعدو أو من استعبدوه لخدمتهم. وكانت كتب الضرّابين بمصر إلى الضرّابين بالعراق فى هذه السنة ترد أنّهم يستغنون وذاك أنّ آل طولون والقوّاد المصريّين الذين شخصوا إلى مدينة السلام ومن كان فى مثل حالهم، قد وجّهوا فى حمل مالهم من مصر إلى مدينة السلام وقد سبكوا أوانى الفضّة والذهب والحلي نقارا [1] وحمل إلى مكّة ليوافوا مدينة السلام مع الحاجّ فحمل فى القوافل الشاخصة إلى بغداد فذهب ذلك كلّه. ولمّا فرغ القرمطى من الحاجّ وأخذ الأموال واستباح الحرم، رحل من وقته من العقبة بعد أن ملأ البرك والآبار بالجيف من الناس والدوابّ. [55] ورود خبر القافلة على السلطان وورد الخبر بذلك على السلطان فاستعظم الناس جميعا ذلك. وندب السلطان أيّوب بن محمّد بن داود صاحب الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج إلى الكوفة والمقام بها لإنفاذ الجيوش إلى القرمطى. فخرج وحمل أموالا كثيرة لإعطاء الجند. ثمّ سار زكرويه إلى زبالة [2] فنزلها وبثّ الطلائع أمامه ووراءه خوفا من أصحاب السلطان المقيمين بالقادسيّة أن يلحقوه ومتوقّعا ورود القافلة الثالثة التي فيها الأموال والتجار. ثمّ ساروا إلى الثعلبيّة ثمّ إلى الشقوق وأقام هناك ينتظر القافلة وفيها جماعة من القوّاد: نفيس وصالح ومعه الشمسة. وكان المعتضد جعل فى   [1] . انظر الطبري (13: 2273) . [2] . فى مط: زيالة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 الشمسة جوهرا نفيسا. وكان فى القافلة جماعة من وجوه الكتّاب وغيرهم. فلمّا صار أهل هذه القافلة إلى فيد بلغهم خبر زكرويه وأصحابه، فأقاموا بفيد أيّاما ينتظرون تقوية لهم من قبل السلطان. وصار زكرويه إلى فيد وبها عامل السلطان. فلجأ منه إلى أحد حصنيها مع مائة رجل وشحن الحصن الآخر بالرجال. فجعل زكرويه يراسل أهل فيد فى أن يسلّموا عاملهم ومن فيهم من الجند وأنّهم إن فعلوا ذلك آمنهم [56] فلم يجيبوه إلى ما سأل، فحاربهم فلم يظفر منهم بشيء. فتنحّى إلى النّباج ثمّ إلى حفر أبى موسى. ثمّ أنهض المكتفي وصيف بن صوراتكين ومعه من القوّاد جماعة إليه، فلقيه يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأوّل. فاقتلوا يومهم ثمّ حجز بينهم الليل، فباتوا ليلتهم يتحارسون. ثمّ عاودهم القتال فظفر بهم جيش السلطان فقتل منهم مقتلة عظيمة وخلصوا إلى زكرويه فضربه بعض الجند بالسيف، وهو مولّ على قفاه، ضربة اتصلت بدماغه. فأخذ أسيرا وخليفته وجماعة من أقربائه وخاصّته فيهم ابنه وكاتبه وزوجته. وعاش زكرويه خمسة أيّام ثمّ مات، فشقّ [1] ثم حمل بهيئته. وانصرف وصيف بمن كان حيّا فى يده من الأسرى ثم التقطت القرامطة واستأمن قوم منهم. [2] ودخلت سنة خمس وتسعين ومائتين وفيها خرج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن إصبهان فى نحو عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم مظهرا الخلاف على السلطان. وفيها توفّى أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد عامل خراسان وما وراء النهر   [1] . فى الطبري (13: 2275) : فشقّ بطنه. [2] . انظر الطبري (13: 2275) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 وقام أحمد بن إسماعيل ابنه مقامه. [57] وفيها عقد المكتفي بيده لواء لأحمد بن إسماعيل وحمله إليه. وفيها روسل المسمعي وخوّف عاقبة الخلاف وأرعب فصار إلى باب السلطان. فرضي عنه المكتفي ووصله وخلع عليه. وفاة المكتفي وفيها توفّى المكتفي، فكانت خلافته ستّ سنين وستّة أشهر وتسعة عشر يوما وله اثنتان وثلاثون سنة، ويكنّى: أبا محمّد، وكان ربعة جميلا رقيق اللون حسن الشعرة وافر اللحية، وامتدّت [1] علّته شهورا ودفن فى دار ابن طاهر.   [1] . وامتدت..: زيادة فى تجارب الأمم، ليست فى الطبري (13: 2280) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 خلافة المقتدر بالله وبويع [1] جعفر بن المعتضد بالله وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكنيته أبو الفضل ذكر ما جرى فى ذلك لمّا ثقل المكتفي فى علّته فكّر العبّاس بن الحسن وهو الوزير فى من يقلّده الخلافة وترجّح رأيه، وكان يركب من داره إلى دار السلطان ويسايره واحد من الأربعة الذين يتولّون الدواوين، وهم: أبو عبد الله محمّد بن داود بن الجرّاح، وأبو الحسن محمّد بن عبدون، وأبو الحسن بن الفرات، وأبو الحسن علىّ بن عيسى. فركب معه محمّد بن داود فشاوره العبّاس، فأشار بأبى العبّاس عبد الله بن المعتزّ بالله [2] فقرّظه [3] ووصفه. ثمّ ركب معه فى اليوم الثاني أبو الحسن علىّ بن محمّد بن الفرات   [1] . ابتداء نشرة ايمدروز (Amedroz) من تجارب الأمم، مع العلم بأنّ المقتدر آخر خليفة جاء ذكره فى تاريخ الطبري (13: 2280) . [2] . فى مد: المعتزّ، دون «الله» . [3] . وفى مط: فرضية، بدل «فقرّضه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 فشاوره. فقال له: - «هذا شيء ما جرت به عادتي.» [58] واستعفاه وقال: - «إنّما أشاور فى العمّال.» فأظهر العبّاس غضبا وقال: - «هذه محاجزة وليس يخفى عليك [1] .» وألحّ عليه فقال له: - «إن كان رأى الوزير قد تقرّر على إنسان بعينه فليستخر الله ويمضى عزمه.» قال ابن الفرات: فعلم أنّى قد عنيت ابن المعتزّ لاشتهار الخبر به فقال لى: - «ليس أريد منك إلّا أن تمحضنى النصيحة.» فقلت له: - «إذا أراد الوزير ذلك فإنّى أقول: اتق الله ولا تنصب فى هذا الأمر من قد عرف دار هذا ونعمة هذا وبستان هذا وجارية هذا وضيعة هذا وفرس هذا، ومن لقى الناس ولقوه وعرف [2] الأمور وتحنّك وحسب حساب نعم الناس.» قال: فاستعاد ذلك منّى الوزير دفعات، ثمّ قال: - «فى من تشير؟» فقلت: «بجعفر بن المعتضد.» فقال: «ويحك جعفر صبىّ.»   [1] . وزاد فى مد: الصحيح. [2] . فى مط: تعرّف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 قلت: «إلّا أنّه ابن المعتضد ولم تجيء برجل يأمر وينهى ويعرف ما لنا، وبمن يباشر التدبير بنفسه ويرى أنّه مستقلّ ولم لا تسلّم هذا الأمر إلى من يدعك [1] تدبّره أنت.» ثمّ شاور أبا الحسن علىّ بن عيسى فى اليوم الثالث واجتهد به أن يسمّى له أحدا، فامتنع وقال: - «أنا لا أشير بأحد، ولكن ينبغي أن يتّقى الله وينظر للدين.» فمالت نفس العبّاس بن الحسن إلى رأس أبى الحسن ابن الفرات [59] ووافق ذلك ما كان المكتفي عهد به من تقليد أخيه جعفر الخلافة. فلمّا مات المكتفي آخر نهار يوم السبت الثاني عشر من ذى القعدة، نصب الوزير العبّاس جعفرا [2] فى الخلافة على كراهية منه لصغر سنه. ومضى صافى الحرمي فحدره من دار ابن طاهر. فلمّا اجتازت الحراقة التي حدر فيها وانتهت إلى [دار] [3] العبّاس بن الحسن صاح غلمان العبّاس بالملّاح أن: ادخل. [4] فوقع لصافى الحرمي أنّ العبّاس إنّما يريد أن يدخله إلى داره لتغيّر [5] رأيه فيه وأشفق أن يعدل عنه إلى غيره، فمنع الملّاح من الدخول وجرّد سيفه وقال للملّاح: - «إن دخلت رميت برأسك.» فانحدر وجها واحدا إلى دار السلطان.   [1] . فى مط: توغل. [2] . فى مط: العباس بن جعفر. [3] . زيادة من مد. [4] . سقط من مط، من «ادخل» إلى «وقال الملّاح» . [5] . فى مد: لتغبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 وثمّ أمر جعفر ولقبّ: المقتدر بالله. وأطلق السلطان يد العبّاس فأخرج المال للبيعة. وحكى القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي: أنّ القاضي أبا عمر محمّد بن يوسف حدّثه أنّ العبّاس بعد إتمامه أمر المقتدر استصباه، وكثر كلام الناس. فعمل على أن يحلّ أمره ويقلّد أبا عبد الله محمّد بن المعتمد على الله. وكان أبو عبد الله بن المعتمد حسن الفعل جميل المذاهب، فوسّط الوزير أمره بينه وبينه [1] القاضي أبا عمر وسامه اليمين، فقال [60] ابن المعتمد: - «إن لم تصحّ نيّته لم تغن فيه اليمين وإن صحّت استغنى عنها وله الله [2] راع وكفيل، على أنى لا أغدر به ولا أنكبه.» وكان العبّاس ينتظر بأمره قدوم بارس الحاجب غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان، فإنّه كان ورد كتابه وقدّر أنّه يستظهر به وبمن معه على غلمان المعتضد. فتمادت الأيّام بقدوم بارس ووقع بين ابن عمرويه صاحب الشرطة ببغداد وبين أبى عبد الله محمّد بن المعتمد منازعة فاجتمعا يوما [3] فى مجلس الوزير العبّاس بن الحسن وجرى بينهما خطاب فأربى عليه ابن عمرويه فى الكلام، ولم يكن علم بما رشّح له، ولم يمكن أبا عبد الله أن ينتصف منه لمحله، فاغتاظ غيظا شديدا كظمه فغشى عليه وفلج فى المجلس. فاستدعى العبّاس عمارية [4] وأمر بحمله فيها إلى داره، فحمل ولم يلبث أن مات. فعمل العبّاس على تقليد أبى الحسين من ولد المتوكّل على   [1] . فى مط: بين. وما فى الأصل هو الصحيح. [2] . فى مط: وله. دون «الله» . [3] . فى مد: يومئذ. بدل «يوما» . [4] . فى مط: حماريه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 الله مكانه. فمات أيضا وتمّ أمر المقتدر. ودخلت سنة ستّ وتسعين ومائتين وفيها كانت فتنة عبد الله بن المعتزّ ذكر الخبر عن ذلك كان التدبير وقع [1] بين محمّد بن داود بن الجرّاح مع الحسين بن حمدان على إزالة أمر المقتدر [61] بالله ونصب عبد الله بن المعتزّ مكانه، [2] وواطأ على ذلك جماعة من القوّاد والكتّاب والقضاة. [3] فركب يوما العبّاس بن الحسين يريد بستانه المعروف ببستان الورد، فاعترضه الحسين بن حمدان وعلاه بالسيف وقتله. وكان إلى جانبه فاتك المعتضدي يسايره فصاح بالحسين منكرا عليه، فعطف عليه الحسين وقتله. واضطرب الناس، وركض الحسين بن حمدان قاصدا إلى الحلبة مقدّرا أن المقتدر هناك يضرب بالصوالجة فيقتله فلمّا سمع المقتدر الضجّة بادر بالدخول إلى داره وغلّقت الأبواب دون الحسين، فانصرف إلى الدار المعروفة بسليمان بن وهب بالمخرّم، وبعث إلى عبد الله ابن المعتزّ يعرّفه تمام التدبير فنزل عبد الله من داره التي على الصراة وعبر إلى المخرّم، وحضر القوّاد والجند وأصحاب الدواوين وفيهم علىّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون، وحضر القضاة ووجوه الناس سوى أبى الحسن ابن الفرات وخواص المقتدر فبايع من حضر عبد الله بن المعتزّ وخوطب بالخلافة وانعقد له الأمر ولقّب: المرتضى بالله.   [1] . فى مد: يقع. خلافا للأصل. [2] . سقط من مط: مكانه. [3] . سقط من مط: القضاة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 واستوزر أبا عبد الله محمّد بن داود بن الجرّاح وقلّد علىّ بن عيسى الدواوين والأصول ومحمّد بن عبدون دواوين [62] [1] الأزمّة، ونفذت الكتب إلى الأمصار كلّها عن عبد الله بن المعتزّ، ووجّه إلى المقتدر بالله يأمره بالانصراف إلى دار ابن طاهر مع والدته لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجيب بالسمع والطاعة. وعاد الحسين بن حمدان من غد إلى دار الخلافة فقاتله من فيها من الخدم والغلمان والحشم ومن كان هناك من الرجّالة من وراء السور، ودفعوه عن الدار. فانصرف فى آخر النهار وحمل ما قدر عليه من ماله وحرمه وولده، وسار بالليل إلى الموصل، ولم يكن بقي مع المقتدر من رؤساء القوّاد غير مونس الخادم ومونس الخازن وغريب الخال [2] والحاشية. فلمّا راسل ابن المعتزّ المقتدر بالانصراف إلى دار ابن طاهر، قالت هذه الجماعة بعضها لبعض: - «يا قوم، نسلّم الأمر هكذا، لم لا نجرّد أنفسنا فى دفع ما قد أظلّنا؟ فلعلّ الله أن يكشفه عنّا.» فأجمع رأيهم على أن يصعدوا فى شذاءات ومعهم جماعة، ففعلوا ذلك وألبسوا الجماعة الجواشن والخوذ والسلاح وصاروا إلى دار المخرّم. فلمّا قربوا منها ورآهم من كان فيها على شاطئ دجلة قالوا: - «شذاءات مصعدة من دار السلطان.» ووقع الرعب فى قلوبهم [3] فتطايروا [63] على وجوههم قبل أن تجرى بينهم حرب وقبل وصول الشذاآت إلى الدار. وخرج عبد الله بن المعتزّ ومعه   [1] . تأخّر الترقيم فى مد بقدر خمس كلمات، أى جاء بعد كلمة «الأصول» . [2] . فى مط، وص: غريب الجمال. هو غريب الخال، أى خال المقتدر. انظر، صلة عريب ص 42. [3] . فى مط: فى صدورهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 وزيره محمّد بن داود وحاجبه يمن وقد شهر يمن سيفه وهو ينادى: - «معشر العامّة ادعوا الله لخليفتكم.» وأخذوا طريق الصحراء تقديرا منهم أن يتبعهم الجيش ويصيروا إلى سرّ من رأى فيثبت أمرهم فلم يتبعهم أحد، فلمّا رأى محمّد بن داود نزل عن دابّته لمّا حاذى داره ودخلها واستتر ونزل عبد الله بن المعتزّ فى موضع آخر ومشى إلى دجلة وانحدر إلى دار أبى عبد الله بن الجصّاص ودخلها واستجار به، ففرّ الناس على وجوههم ووقعت الفتنة والنهب والغارة والقتل ببغداد. وكان محمّد بن عمرويه صاحب الشرطة فركب وقاتله العامّة لأنّه كان من أكبر أعوان عبد الله بن المعتزّ فهزموه، وقلّد المقتدر مكانه من يومه مونسا الخازن. وكان خرج فى الوقت الذي خرج فيه ابن المعتزّ من داره أبو الحسن علىّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون مع من خرج من دار عبد الله بن المعتزّ، واستتروا فى منزل رجل يبيع البقل، ونذر بهما العامّة، فكبسوهما وأخرجوهما وسلّموهما إلى بعض خدم المقتدر [64] المجتازين فى الطرق، فأركبهما جميعا على بغل أكاف [1] كان معه، ولحقهما فى الطريق من العامّة أذى شديد حتّى حصلا فى الدار ووكّل بهما. وقبض فى ذلك اليوم على وصيف بن صوراتكين وخرطامش ويمن وفاتك وجماعة ممّن كان حاضرا دار ابن المعتزّ وفيهم القاضي أبو عمر محمّد بن يوسف والقاضي أبو المثنّى أحمد بن يعقوب والقاضي محمّد بن خلف بن وكيع واعتقل الكلّ فى دار الخلافة وسلّموا إلى مونس الخازن. ثمّ أمر بقتلهم أجمعين. فقتلهم تلك الليلة سوى علىّ بن عيسى ومحمّد بن   [1] . الأكاف: البرذعة (البردعة) : وهي كساء يلقى على ظهر الدابّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 عبدون والقاضي أبو عمر والقاضي محمّد بن خلف فإنّ هؤلاء سلموا. وزارة أبى الحسن علىّ بن محمد بن الفرات وأنفذ المقتدر مونسا الخازن إلى دار أبى الحسن علىّ بن محمّد بن الفرات التي كان ينزلها بسوق العطش بعد أن أعطاه خاتمه وأعلمه أنّه يريد أن يستوزره. وكان ابن الفرات مستترا بالقرب من داره. فلم يظهر له فأعيد إليه مرّة أخرى، فرفق بالجيران وأعلمهم أنّه يستوزر فظهر له وقت العصر من ذلك اليوم وصار به إلى دار السلطان ووصل إلى المقتدر وقلّده وزارته ودواوينه وعاد إلى داره بسوق العطش. وبكّر يوم الإثنين وهو غد ذلك اليوم، فخلع عليه خلع الوزارة وسار بين يديه [65] القوّاد بأسرهم، وخلع فى ذلك اليوم على مونس الخازن بسبب تقلّده الشرطة، وأطلق ابن الفرات للجند مالا لصلة ثانية وجدّد البيعة للمقتدر. ذكر الخبر عن الظفر بعبد الله بن المعتز ّ صار خادم لأبى عبد الله بن الجصّاص يعرف بسوسن إلى صافى الحرمي يسعى بأنّ عبد الله بن المعتزّ مستتر فى دار مولاه فأنفذ المقتدر بالله صافيا الحرمي فى جماعة حتّى كبس منزل ابن الجصّاص واستخرج منه عبد الله بن المعتزّ، فحمله وحمل معه أبا عبد الله بن الجصّاص [1] إلى دار السلطان. ثمّ صودر ابن الجصّاص على مال بذله وأطلقه إلى منزله بعد أن تكفّل به الوزير أبو الحسن ابن الفرات. وسلّم علىّ بن عيسى ومحمّد بن عبدون إلى أبى الحسن ابن الفرات   [1] . فى مط: الحصاص (بالحاء المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وناظرهما بمراسلة وصادرهما، وخفّف عن علىّ بن عيسى ونقلها على محمّد بن عبدون لعداوة كانت بينهما وقال للمقتدر: - «لم يكن لهذين فى أمر ابن المعتزّ صنع وتكفّل بهما وبالقاضي محمّد بن خلف بن وكيع وخلّصهم.» ثمّ نفى محمّد بن عبدون إلى الأهواز وأمر بتسليمه إلى محمّد بن جعفر العبرتاى ونفى علىّ بن عيسى إلى واسط بعد أن افتداه من ماله بخمسة آلاف دينار دفعها [66] إلى سوسن الحاجب واستكفّه بها عنه فإنّه كان يغرى به ويقول: كان مطابقا لعمّه. موت عبد الله بن المعتزّ وثبات أمر المقتدر وظهر موت عبد الله بن المعتزّ فى دار السلطان ودفع إلى أهله ملفوفا فى زلىّ برذون [1] وتمّ ما كان فى سابق علم الله عزّ وجلّ وحكم به من ثبات أمر المقتدر وبطل اجتهاد المخلوقين وحيلهم فى إزالته. قتل محمد بن داود فأمّا محمّد بن داود فحكى أبو علىّ محمّد بن علىّ بن مقلة قال: كنّا بحضرة الوزير أبى الحسن فى يوم هو فيه متخلّ، [2] ودخل إليه بعض غلمانه فسارّه فظهر منه غمّ شديد وإذا هو قد أبلغ قتل محمّد بن داود وقال: - «كان مع عداوته لى رجلا عاقلا كثير المحاسن يجمع إلى صناعته كتابة الخراج والجيش والبلاغة والفقه والأدب والشعر، وكان كريما سخيّا وقد جرى عليه من القتل أمر عظيم.»   [1] . فى مط: برمون. [2] . فى مط: متبجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 ثمّ لعن علىّ بن الحسين القنّاى النصراني وقال: - «هو غرّ هذا الرجل، فإنّ ما كان بينه وبينه من المودّة مشهور، فخلّص نفسه وقتل صديقه.» ذكر ما عمله القنّاى فى أمر محمّد بن داود كان سوسن عدوّا لمحمّد بن داود وكذلك صافى الحرمي. فأغريا المقتدر بالله وقالا له: [67]- «إنّ علىّ بن الحسين القنّاى يعرف موضعه.» فقبض عليه وهدّد بالقتل فحلف أنّه لا يعرف الموضع الذي استتر فيه محمّد بن داود وإنّما تأتيه رقاعه يد [1] امرأة تجيء إلى امرأة نصرانية تجيئه بها، وضمن أنّه يحتال فى إثارته فأطلق. وكاتب محمّد بن داود وأعلمه أنّه قد سفر له مع سوسن فى أمر يكون به خلاصه، وأنّ ما جرى فى ذلك لا تحتمله المكاتبة، وأنّ الوجه أن يأذن له فى المصير إليه فى الموضع الذي هو فيه مستتر. فإن لم يأذن فى ذلك صاحب داره خرج متنكّرا وصار إليه. فكتب إليه محمّد بن داود أنّه يصير إليه فى ليلة ذكرها. فمضى علىّ بن الحسين برقعته إلى سوسن وصاف، فأقرأهما إيّاها، فترصّدا تلك الليلة وأمرا صاحب الشرطة أن يتقدّم إلى أصحاب الأرباع وأصحاب المسالح بترصّده. فلمّا خرج تلك الليلة ظفر به وسلّم إلى مونس الخازن، فقتله ثمّ طرحه على الطريق، حتّى أخذه أهله فدفنوه.   [1] . كذا فى الأصل: يد. فى مد: بيد (بزيادة الباء) . فى مط: على يد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 وحكى أبو علىّ ابن مقلة وأبو عبد الله زنجى [1] الكاتب: أنّ محمّد بن داود [2] كتب إلى ابن الفرات رقعة وصلت إليه، فلم يقدر أن يكتب الجواب بخطّه وقال لموصلها وكان ثقة عنده: - «تقرأ عليه السلام وتقول له: ليس جرمك يسيرا [68] والعهد به قريب والاستتار صناعة، فينبغي أن تصبر على استتارك أربعة أشهر حتّى تنسى قصّتك، ثمّ دعني والتدبير فى أمرك، فإنّى بإذن الله أسفر بعد هذه المدّة فى صلاحك وآخذ لك أمان الخليفة بخطّه وأقول: إنّه دخل فيما دخل فيه القوّاد وكتّابهم، وقد دعت الضرورة إلى الصفح عنهم، ولهذا بهم أسوة، وأشير عليه بما يصلح أمرك.» فلم يصبر محمّد بن داود فجرى ما حكيته. وحكى أيضا ابن زنجى: أنّه كان بحضرة أبى الحسن ابن الفرات إذ كتب إليه صاحب الخبر، بأنّ متنصّحا حضر وذكر أنّ عنده نصيحة لا يذكرها إلّا للوزير، فتقدّم الوزير إلى حاجبه أن [3] يخرج إليه ويسأله عنها. فخرج وسأله فأبى أن يخبره بها وقال: - «أريد أن أشافه بها الوزير.» قال: وكنّا بين يديه جماعة فأومأ إلينا، فقمنا وخلا به. ثمّ دعا بحاجبه العبّاس الفرغاني وقال له: - «اجمع الرجال الذين برسم الدار.» ثمّ دعا أبا بشر ابن فرحويه [4] وقال له سرّا:   [1] . فى مط: ونحى. [2] . وزاد فى مط: عبد الله بن داود. بدل «أنّ محمد بن داود» . [3] . فى الأصل: لمن. والتصحيح من مط، كما يؤيّده مد، وسياق العبارة. [4] . كذا فى الأصل ومط: فرحويه (بإهمال الثالث) فى مد: فرجويه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 - «إنّ هذا الرجل تنصّح إلىّ فى أمر محمّد بن داود، وذكر أنّه يعرف موضعه وأنّه بات البارحة عنده والتمس أن أنفذ معه من يسلّمه إليه، وقد بذلت على ذلك ألف دينار إن كان صحيحا، أو نيله [1] بالعقوبة إن كان باطلا. فصر على ذلك فاكتب [69] إليه الساعة أن ينتقل عن موضعه، فإنّى أبعث إلى مكانه من يكبسه ويلتمسه.» ولم يزل يستعجل الحاجب فى جمع الرجال فيقول: - «قد فرّقت النقباء فى طلبهم فإنّهم فى أطراف البلد منهم من ينزل فى قصر عيسى ومنهم من ينزل بباب الشمّاسية.» ولم يزل يدافع بالأمر إلى أن عاد الجواب إلى أبى بشر بشكره، وأنّه قد انتقل من موضعه إلى غيره. فتقدّم حينئذ إلى المتنصّح أن يمضى إلى الموضع مع القوم، وتقدّم بالاحتياط عليه وعلى ما يليه. وكبسه بعد ذلك وحمله، فإن لم تجده فتّش الدور التي تلى الموضع، وأن يستظهر بحفظ أفواه الدروب حتّى لا تفوته الحرم [2] ويأخذ معه السلاليم. فمضى العبّاس الحاجب والمتنصّح والرجال ووكّل بأفواه الدروب والدور المجاورة للموضع، ودخل الدار التي ذكرها المتنصّح فلم يجده. فقال المتنصّح: - «فى هذا الموضع والله العظيم خلّفته وهاهنا كان بائتا.» وأقبل يسير إلى موضع موضع وما عمله فيه. ثمّ التمسه فى الدار المجاورة فلم يجده. وعاد به إلى حضرة الوزير فأنكر على المتنصّح سعايته بالباطل، وأمر بحمله إلى باب العامّة وضربه مائتي مقرعة وأن يشهر على جمل وينادى عليه:   [1] . فى مط: أرسله. [2] . كذا فى الأصل بالضبط. فى مط: حتى لا يفوته الحزم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 - «هذا جزاء من يسعى بالباطل.» [70] وكتب إلى المقتدر وعرّفه الصورة، وأنّه كبس على محمّد بن داود عدّة دور فلم يجده، فأوقع العقوبة بالساعى حتّى لا يقدم نظراؤه على السعاية بالباطل. فلمّا عاد الساعي إلى داره، تقدّم بأن يحمل إليه مائتي دينار وأن يحدر [1] إلى البصرة، وقال لنا: - «قد صدق الرجل فيما حكاه وقد عاقبناه ولو لم أفعل ما فعلته، لم آمن أن يمضى إلى دار السلطان.» وكان أبو بشر يعرف موضع محمّد بن داود بن الجرّاح وعرف الوزير موضعه فكتمه الوزير ولم يظهره. وهذا ممّا لا ينكر من أبى الحسن ابن الفرات مع كرمه وجلالة قدره ونبل أفعاله. وفيها قبض على محمّد بن عبدون وسوسن الحاجب وقتلا ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أن سوسن الحاجب كان مع ابن المعتزّ فى تدبيره، وظنّ أنّه يقرّره على الحجبة، فلمّا عدل عنه إلى يمن [2] استوحش وصار إلى دار السلطان. وكان سوسن يدخل مع العبّاس بن الحسن فى التدبير بحضرة المقتدر بالله. فلمّا تقلّد أبو الحسن ابن الفرات الوزارة تفرّد بالتدبير دون [3] سوسن فظهرت الوحشة بين سوسن وبين أبى الحسن [71] ابن الفرات لأجل   [1] . كذا فى الأصل ومط: أن يحدر. فى مد: أن يجدر. [2] . فى مط: بمن. [3] . تفرّد بالتدبير دون: كذا فى مط ومد. وفى الأصل غموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 ذلك. وذاع الخبر بصحة عزم سوسن على الفتك بابن الفرات بمواطأة عدّة من الغلمان الحجريّة على ذلك، ودبّر أن يكون الوزير محمّد بن عبدون، وأشار بذلك على المقتدر بالله، وبذل على ذلك مالا عظيما، وأنفذ بنىّ بن نفيس [1] إلى الأهواز لإحضار محمّد بن عبدون بغير مواقفة ابن الفرات وأظهر بنىّ أنّه إنّما أنفذ لأخذ أموال كانت مودعة للعبّاس بن الحسن بالبصرة. ولم يصل محمّد بن عبدون إلى واسط حتّى ظهر الخبر لابن الفرات. فقرّر ابن الفرات فى نفس المقتدر أنّ سوسنا عمل على الإيقاع به أوّلا ثمّ به، وأنّه كان من أكبر أعضاد عبد الله بن المعتزّ، وإنّما خالفه أخيرا لما علم أنّه قد استحجب غيره. وواقف [2] المقتدر على القبض عليه فقبض عليه وقتله من يومه. وكان المتولّى لذلك تكين الخاصّة وكان تكين هذا مرشّحا للحجبة ومدبّرا لها. ثمّ أنفذ الوزير إلى محمّد بن عبدون من أزعجه فى الطريق واعتقله فى دار السلطان وصادره مصادرة مجدّدة، ثمّ سلّم إلى مونس الخازن فقتله. وقلق أبو الحسن علىّ بن عيسى لذلك وهو بواسط، فكتب إلى الوزير كتابا يحلف فيه أنّه على قديم عداوته لمحمّد بن عبدون، إلّا أنّه لا يدع الصدق من فعله، وأنّ محمّد بن عبدون لم يكن ليسعى [72] على دم نفسه بتضمّنه الوزارة، بل كان راضيا بالسلامة بعد فتنة عبد الله بن المعتزّ، وأنّ سوسنا عمل ذلك بغير رأيه ولا مواقفته، وسأل فى أمر نفسه أن يبعده إلى مكّة ليسلم من الظنّة ولينسى السلطان ذكره. فأجابه ابن الفرات إلى ذلك وأخرجه من واسط إلى مكّة على حال جميلة. فشخص إليها على طريق البصرة.   [1] . كذا فى الأصل. فى مط: وأنفذ بنى أبى قيس. [2] . فى الأصل: واقف. والواو الزائدة هي من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وكتب علىّ بن عيسى هذا الكتاب مقدّرا أن يتخلّص به محمّد بن عبدون من القتل، ويسلم هو. فوقاه [1] الله فى نفسه بجميل نيّته، وحضر أجل محمّد بن عبدون، فلم ينفعه اجتهاد علىّ بن عيسى فى خلاصه. استقرار أمر المقتدر وتفويضه الأمور إلى أبى الحسن بن الفرات ولمّا استقرّ أمر المقتدر بالله فى الخلافة فوّض الأمور إلى أبى الحسن ابن الفرات فدبّرها أبو الحسن كما يدبّرها الخلفاء. وتفرّد المقتدر على لذاته متوفّرا واحتشم الرجال واطّرح الجلساء والمغنين وعاشر النساء فغلب على الدولة الحرم والخدم فما زال أبو الحسن ينفق الأموال من بيت مال الخاصّة ويبذّر تبذيرا مفرطا إلى أن أتلفها. ومن محاسن ابن الفرات أنّه افتتح أمره بإخراج أمر المقتدر بمكاتبة العمّال فى جميع النواحي بإفاضة العدل فى الرعيّة وإزالة الرسوم الجائرة عنهم وإخراج أمره لجماعة [73] بنى هاشم بجار [2] ثمّ أخرج أمره بزيادة جميعهم ثمّ أخرج أمره بالصفح عن جميع من كان خرج عن طاعته ووالى ابن المعتزّ وإلحاقهم فى الصلة بمن لم تكن له جناية وتلطّف فى أمر الحسين بن حمدان وإبراهيم بن كيغلغ حتّى رضى المقتدر عنهما وقلّدهما الأعمال وفعل ذلك بابن عمرويه. ذكر التدبير الصواب فى ذلك إنّه عرّف المقتدر بالله أنّه متى عاقب جميع من دخل فى أمر ابن المعتزّ   [1] . كذا فى الأصل: فوقاه. فى مط ومد: فوفاه. [2] . فى الأصل: بجاز. ما فى مط مهمل تماما. فى مد: بجار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 فسدت النيّات وكثر الخوارج ومن يخشى على نفسه فيطلبون الحيل للخلاص بإفساد المملكة، وأشار بإحراق جميع الجرائد التي وجد فيها أسماء المتابعين [1] لابن المعتزّ فاستجاب إلى ذلك، وأمر ابن الفرات بتغريق الجرائد فى دجلة ففعل ذلك وسكن الناس وكثر الشاكرون. ذكر ما جرى فى أمر القاضي أبى عمر كان القاضي يوسف بن يعقوب شيخا كبير السن يلزم ابن الفرات ويبكى بحضرته ويسأله تخليص ابنه أبى عمر من القتل. فيذكر له أبو الحسن أنّه لا يتمكّن من ذلك إلّا بإطماع المقتدر بالله فى مال جليل من جهته. فبذل أبوه أن يفقر نفسه وابنه طلبا للحياة. فسأل [74] ابن الفرات المقتدر بالله الصفح عنه وأطمعه فى ماله ومال ولده. فسلّمه المقتدر إليه فصادره على مائة ألف دينار، واعتقله فى ديوان بيت المال ليؤدّى المال، فأدّى أكثره ودخل فيما أدّاه وديعة. قيل إنّها كانت عنده للعبّاس بن الحسن، مبلغها خمسة وأربعون ألف دينار فلمّا أدّى تسعين ألف دينار أمر ابن الفرات بإطلاقه إلى منزله وترك له العشرة الآلاف الدينار وأمره بملازمة منزله وأن لا يخرج منه. ذكر خيانة واتفاق سيىء اتّفق فيه كان سليمان بن الحسن بن مخلد متحقّقا بأبى الحسن ابن الفرات ومدلّا [2] بأحوال كانت بين أبيه وبين والد الوزير أبى جعفر محمّد بن موسى بن الفرات. وكان سليمان يختصّ لذلك بأبى الحسن ابن الفرات. ووجد أبو الحسن كتبا فى البيعة لعبد الله بن المعتزّ بخطّ سليمان لتحقّقه كان بمحمّد بن   [1] . فى مط: المبايعين. [2] . فى مط: وملا بأحوال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 داود بن الجرّاح وللقرابة بينهما فلم يظهر أبو الحسن ذلك للمقتدر ولا ذكره. ونوّه باسم سليمان وقلّده مجلس العامّة رئاسة. ثمّ إن سليمان جنى على نفسه بالسعي لأبى الحسن أحمد بن محمّد بن عبد الحميد فى الوزارة، وعمل فى ذلك نسخة بخطّه عن نفسه إلى المقتدر بالله [75] يسعى فيها بأبى الحسن وبأمواله وضياعه وكتّابه وأسبابه وكانت الرقعة فى كمّه ودخل دار ابن الفرات وهي معه وقام ليصلّى صلاة المغرب مع جماعة من الكتّاب فى دار ابن الفرات، فسقطت الرقعة من كمّه وظفر بها الصقر بن محمّد الكاتب لأنّه كان يصلّى إلى جنبه. فأقبل بها مبادرا إلى الوزير من وقته، فقبض عليه وأحدره فى زورق مطبق إلى واسط، ووكّل به وصودر وجرى على طبعه وشاكلته، فأحسن إليه وقلّده. وفيها كوتب أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان فى قصد أخيه الحسين ومحاربته وأمدّ بالقاسم بن سيما فى أربعة آلاف، فاجتمعا ولقيا الحسين فانهزما وانحدر إبراهيم بن حمدان لإصلاح أمر أخيه الحسين، فأجيب إلى ما التمس. وكتب للحسين أمان وصار إلى الحضرة ونزل فى الصحراء من الجانب الغربي ولم يدخل دار السلطان، وقلّد أعمال الحرب بقم وحملت إليه الخلع، فلبسها ونفذ إلى قم وانصرف عنها العبّاس بن عمرو. وفيها قدم بارس غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان فى أربعة آلاف غلام أتراك وغيرهم وصار إلى بغداد مستأمنا وكان مولاه اتبعه إلى الرىّ مظهرا الاستيحاش من قبول السلطان غلامه. فكاتبه [76] ابن الفرات بما سكّن منه حتّى عاد إلى خراسان وقلّد بارس دار ربيعة فأنفذه إليها وقلّد يوسف بن أبى الساج أعمال أرمينية وأذربيجان وعقد له عليها وضمّنه إيّاها بمائة ألف وعشرين ألف دينار فى كلّ سنة محمولة إلى بيت مال العامّة بالحضرة، فسار من الدينور إليها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 ودخلت سنة سبع وتسعين ومائتين وفيها أدخل طاهر ويعقوب ابنا محمّد بن عمرو بن الليث بغداد أسيرين فى قبّة على بغل وقد كشف جلالها وهما بين يدي أبى الفضل عبد الرحمان بن جعفر الشيرازي كاتب سبكرى المتقلّد فارس ووصل إلى حضرة المقتدر ووصلا معه بعد أن حلّت قيودهما وخلع على عبد الرحمن بن جعفر ورتّب فى الفوج الأوّل وركب عبد الرحمان فى الخلع وأنزل فى دار فى مربعة الخرسى [1] وحبس طاهر ويعقوب فى دار السلطان. وكان سبكرى متغلّبا على فارس. فلمّا قدم عبد الرحمن كاتبه قرّر أمر سبكرى مع السلطان على شيء يحمله عن فارس، ثمّ عاد إلى صاحبه. فورد الخبر بعد ذلك بأنّ الليث بن علىّ خرج من سجستان وقصد فارس، فدخلها وخرج سبكرى، فندب مونس الخادم للشخوص [77] إلى فارس وخلع عليه، وسار فوجد سبكرى برامهرمز واجتمع مع مونس وسار بمسيره وسار الليث إلى أرجان ليلقى مونسا. ذكر عجلة واتفاق سيّء ثمّ إنّه بلغ ليثا أنّ الحسين بن حمدان قد سار من قم إلى البيضاء فخاف أن تؤخذ منه شيراز. فوجّه أخاه مع قطعة من جيشه إلى شيراز ليحفظها وأخذ هو دليلا يدلّه على طريق مختصر قريب إلى البيضاء ليوقع بالحسين بن حمدان. فأخذ به الدليل فى طريق الرجّالة وهو طريق صعب ضيق لا يحمل الجيوش، فلقى فى طريقه مشقّة عظيمة حتّى تلفت دوابّه وتلف رجاله فقتل   [1] . فى مط: الحرشي وجلس طاهر. بدل «الخرسى وحبس طاهر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 الدليل وعدل عن الطريق فخرج إلى خوابذان [1] وقد وصل إليها مونس. فلمّا أشرف الليث على عسكر مونس قدّر أنّه عسكر أخيه الذي أنفذه إلى شيراز. فكبّر أصحابه فخرج إليه مونس فأوقع به وأخذه أسيرا. فلمّا حصل فى يده أشار عليه قوّاده بالقبض على سبكرى. فلم يفعل وألحّ عليه أصحابه فأظهر القبول منهم وقال: - «إذا صار إلينا فى غد قبضنا عليه.» وكان سبكرى كلّ يوم يركب من مضربه إلى مونس. فيسلّم [78] عليه. فوجّه إليه مونس سرّا وعرّفه ما أشار عليه قوّاده وأشار عليه بالمسير إلى شيراز والإسراع. ففعل سبكرى بما أشار به. فلمّا أصبح وتعالى النهار قال: - «يا قوم ما جاءنا سبكرى اليوم فوجّهوا إليه وتعرّفوا خبره.» وعاد الرسول وعرّفه أن سبكرى قد سار إلى شيراز من أوّل الليل. فعاد باللوم على قوّاده وقال لهم: - «من جهتكم شاع الخبر وبلغه فاستوحش.» وسار مونس ومعه الليث راجعا إلى مدينة السلام، وانصرف الحسين إلى قم. ذكر تدبير فاسد وما آل إليه لمّا حصل سبكرى بشيراز كان معه قائد يقال له القتّال، فضرّبه على كاتبه عبد الرحمن بن جعفر وأعلمه أنه فى جنبة [2] السلطان وأنّه قد أحلف قوّاده كلّهم للسلطان وأخذ له البيعة عليهم، وليس يتعذّر عليه متى شاء أن يورد كتابا من السلطان بالقبض عليه. ففزع سبكرى من هذه الحال وقبض على   [1] . ما فى مط مهمل تماما. [2] . فى مط: فى حثة السلطان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 عبد الرحمن بن جعفر واستكتب مكانه رجلا يعرف بإسماعيل بن إبراهيم البمّى، [1] فحمله إسماعيل هذا على الخلاف وقال له: - «قد انصرف عنك عسكر السلطان وليس يمكنه أن يعود إليك سريعا، فاربح ما كنت تحمله إلى السلطان وأصلح أمورك [79] وأرض جندك، ثمّ تنظر.» واحتال عبد الرحمن بن جعفر من محبسه حتّى كتب إلى ابن الفرات بخبره وما جرى عليه وبخلاف سبكرى على السلطان، فكتب ابن الفرات إلى مونس وقد صار إلى واسط كتابا يقول فيه: - «إن كنت فتحت فقد أغلقت، وإن كنت قد أسرت فقد أطلقت، ولا بدّ من أن تعود فتحارب سبكرى.» فعاد مونس إلى الأهواز وأخذ سبكرى فى ملاطفة مونس ومهاداته ومسألته أن يبذل للسلطان عن أعمال فارس وكرمان زيادة على ما كان مقاطعا عليه القاسم بن عبيد الله فى أيّام المكتفي بالله، فإنّه كان مقاطعا على أربعة آلاف ألف. ففعل مونس ذلك وبذل عنه سبعة آلاف ألف، فلم يرض بذلك ابن الفرات. فلم يزل يزيد ألف ألف حتّى بلغ تسعة آلاف ألف خالصة للحمل، وذكر أنّ باقى الارتفاع يحتاج إليه سبكرى لإعطاء الجند بفارس وكرمان وأعلمه كثرة المؤن هناك. فأقام ابن الفرات على أنّه لا يقنع إلّا بثلاثة عشر ألف ألف فأشار مونس على سبكرى بأن يقارب السلطان والوزير، فأبى سبكرى أن يزيد على عشرة آلاف ألف شيئا. فاغتاظ الوزير من تماتن سبكرى، واتّهم مونسا بالميل إليه. [80]   [1] . فى مط: التيمىّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 ودخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين ذكر ما جرى على سبكرى من الأسر ثمّ إنّه عدل إلى إنفاذ وصيف كامه [1] مع عدّة قوّاد من مدينة السلام، وإنفاذ محمّد بن جعفر العبرتاى معهم وعوّل عليه فى فتح فارس. وكتب إلى مونس: أنّه لا يثق بأحد سواه فى حفظ الليث، وأنّ سبيله أن يوافى به إلى مدينة السلام ويدع أكثر قوّاده وأصحابه مع محمّد بن جعفر بالقرب من نواحي فارس، لئلّا ينجذبوا بأسرهم إلى بغداد قبل أن يتقرّر الأمر مع سبكرى فى مال المفارقة، فيطمع سبكرى فى السلطان. فخرج مونس عن الأهواز وكتب الوزير حينئذ إلى محمّد بن جعفر العبرتاى والقوّاد بالمبادرة إلى شيراز مع جماعة من بالأهواز من القوّاد، وانضمّ إليه وصيف كامه، [2] ثمّ أمدّه بسيما الخزري وفاتك المعتضدي ويمن الطولونى. فلمّا تكامل الجيش لمحمّد بن جعفر سار إلى سبكرى وواقعه على باب شيراز فانهزم سبكرى إلى بمّ وتحصّن بها، وتبعه إلى هناك فهزمه أيضا، ودخل مفازة خراسان وأسر القتّال. وورد الكتاب بالفتح، فخلع السلطان على الوزير عند ذلك، وقلّد محمّد بن جعفر العبرتاى فتيحا خادم الأفشين أعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان وكان يميل إلى فتيح [81] لحسن وجهه. وفيها ورد كتاب أحمد بن إسماعيل صاحب خراسان بفتحه سجستان وأسره محمّد بن علىّ بن الليث.   [1] . كامه: كذا فى الأصل ومط ومد. [2] . فى مد: كأمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 ثمّ ورد كتابه بأسره سبكرى، فكتب إلى أحمد بن إسماعيل بحمل سبكرى ومحمّد بن علىّ بن الليث إلى الحضرة. فلمّا كان فى شوّال من هذه السنة أدخل سبكرى ومحمّد بن علىّ بن الليث مشهّرين على فيلين. فخلع على الوزير ابن الفرات، ثمّ على المرزباني خليفة صاحب خراسان، وحمل مع الرسل الذين حملوا سبكرى ومحمّد بن علىّ بن الليث هدايا وخلع وطيب وجواهر إلى صاحب خراسان. وفيها ورد الخبر بوفاة العبرتاى ثمّ بوفاة فتيح، [1] وقلّد عبد الله ابن إبراهيم المسمعي أعمال المعاون بفارس. وفيها غرقت فاطمة القهرمانة فى طيّارها تحت الجسر فى يوم ريح عاصف وكانت زوّجت ابنتيها من بنىّ بن نفيس وقيصر، [2] فحضرا جنازتها وحضرها خلق من القوّاد والقضاة، وجعلت السيّدة مكانها أمّ موسى الهاشميّة قهرمانة، فكانت تؤدّى رسائلها ورسائل المقتدر إلى ابن الفرات. ودخلت سنة تسع وتسعين ومائتين القبض على الوزير ابن الفرات وفيها قبض على الوزير ابن الفرات، ووكّل بداره، وهتك حرمه أقبح هتك، ونهبت داره [82] ودور كتّابه وأسبابه. وافتتنت بغداد ونهب الناس. وكان مونس الخازن يلي شرطة بغداد وتحت يده برسمها تسعة آلاف فارس وراجل. فكان يركب إذا اشتدّت الفتنة وزاد النهب فيسكن الناس ويكفّ النهب هيبة له. فإذا نزل من ركوبه عادت الحال إلى ما كانت عليه. فلقى الناس من ذلك شدّة شديدة ثلاثة أيّام بلياليها ثمّ سكنت الفتنة.   [1] . فى مط: قبيح. [2] . فى مط: فنصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 فكانت مدّة وزارة أبى الحسن ابن الفرات هذه الأولى ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما. وزارة أبى على محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وقلّد أبو علىّ محمّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة، وذلك فى ذى الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين. فقلّد أصحاب الدواوين ورتّبهم فى مجالسهم وردّ مناظرة أبى الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه إلى أبى الحسن أحمد بن يحيى بن أبى البغل، وقلّده ديوان المصادرين وديوان الضياع العبّاسيّة وديوان زمام الفراتيّة. استتار أصحاب ابن الفرات واستتر من أصحاب ابن الفرات أبو علىّ محمّد بن علىّ بن مقلة وأبو الطيب الكلواذى وأبو القاسم هشام وأبو بشر ابن فرجويه [1] وقبض على الباقين ونهبت دورهم وهدمت، واعتقل هؤلاء الباقون وناظرهم أحمد بن أبى البغل وعذّبهم وناظر ابن الفرات، غير أنّه [83] لم يمكّن من إيقاع مكروه به ومكّن من جميع أسبابه وكتّابه. ذكر ما دبّره ابن أبى البغل وانعكاسه عليه كان أبو الحسن بن أبى البغل مبعدا فى أيّام ابن الفرات بإصبهان، فلمّا افتتنت بغداد وقلّد أخوه مناظرة ابن الفرات وأسبابه سفر أخوه لمّا تمكّن من   [1] . كذا فى الأصل ومد: فرجويه. فى مط: فرحويه (بالحاء المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 ملاقاة أمّ موسى فى الوزارة وبذل فيها مالا جليلا يثيره ويوفّره. فأطمع المقتدر فى ذلك فأرجف له بها وكاتبه أخوه بالإسراع إلى الحضرة ونفذ إليه أبو بكر أخو أمّ موسى، فخاطبه قوم بالوزارة فى طريقه، وتلقّاه القوّاد وغيرهم عند ورود بغداد. فركب أبو علىّ الخاقاني فى عشيّة من العشايا إلى دار السلطان والتمس الإذن فى الوصول فأذن له وأوصل إلى المقتدر بالله فوصف له: أنّ الأمور قد اضطربت، والأموال قد تأخّرت، والدنيا قد خربت بكثرة الأراجيف به. لأنّ ابن أبى البغل يذكر أنّه قد استحضر للوزارة. فخاطبه المقتدر بجميل، وأذن له فى إبعاد ابن أبى البغل وأخيه عن الحضرة. فقبض عليهما وأبعدهما وتنكّرت أمّ موسى القهرمانة للوزير أبى علىّ الخاقاني، فخافها وأشفق أن تفسد عليه أمره، فأرضاها بأن قلّد أبا الحسين منها [1] [84] أعمال الخراج والضياع بإصبهان، وقلّد أبا الحسن أخاه أعمال الصلح والمبارك. [2] الخاقاني يناظر ابن الفرات وكتب الوزير بإطلاق أبى الهيثم العبّاس بن ثوابة وكان معتقلا بالموصل وكان ابن الفرات نقله إليها فى نكبة محمّد بن عبدون لقرابة بينهما، وكان ابن ثوابة هذا يكتب لمحمّد بن ديوداذ وكان من الموصوفين بالشرّ، فورد بغداد فى سنة ثلاثمائة وقلّده الوزير أبو علىّ الخاقاني ديوان المصادرين والضياع العبّاسيّة والفراتيّة، وردّ إليه مناظرة أبى الحسن ابن الفرات وأسبابه وكتّابه. فأسرف ابن ثوابة فى إيقاع المكروه بهم وعذّبهم بأنواع العذاب، فجرت بينه   [1] . فى مط: أبا الحسن منهما. فى مد: أبا الحسين منهما. وفى الأصل: منها. [2] . فى الأصل إهمال وغموض. فى مط: المبارك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وبين أبى الحسن ابن الفرات مناظرات هاتر فى بعضها ابن الفرات وشتمه بحضرة أمّ موسى، فردّ عليه ابن الفرات أقبح ردّ، وشتمه أغلظ شتيمة، ونسبه فى نفسه إلى كلّ حال قبيحة، فراسل ابن ثوابة المقتدر بأنّ ابن الفرات لم يقدم على هذا إلّا لشدة بطره وكثرة أمواله واستأذن فى معاقبته، فبسط يده عليه فقيّده وغلّه وألبسه جبّة صوف، وأقامه فى الشمس مدّة أربع ساعات فكاد يتلف. فأنهى بدر الحرمي فى حاله إلى المقتدر، فأنكرها وأمر بنقله إلى بعض الحجر التي فى يد زيدان [85] القهرمانة للحرم الخواصّ، وأحسن إليه ورفّهه. وذلك بعد أن حلف له ابن الفرات بأغلظ يمين بأنّه لم يبق له مال ولا ذخيرة ولا متاع فاخر إلّا وقد أقرّ به وقت مناظرة إبن أبى البغل، فقبل المقتدر بالله قوله ومنع ابن ثوابة من مناظرته. ابن الفرات مشاورا ثمّ صار المقتدر بعد ذلك يشاور ابن الفرات فى الأمور ويقرأه رقاع الوزراء إليه ويجيبهم عنها برأيه ثمّ كثرت السعايات بأبى علىّ الخاقاني وتمكّن أبو القاسم ابن الحوارى. ذكر فساد تدبير الخاقاني لأمر الوزارة كان أبو علىّ الخاقاني متشاغلا بخدمة السلطان ومراعاة أعداءه، لا يقرأ الكتب الواردة عليه ولا النافذة، واعتمد على ابنه أبى القاسم عبد الله، وقلّده مع العرض على الخليفة خلافته على الأعمال والتنفيذ للأمور. وكان ابنه هذا متشاغلا بالشراب، إنّما يراعى أمر القوّاد والجيوش والولايات للعمّال ويدع ما سوى ذلك، وكان قد نصب لقراءة الكتب الواردة أبا نصر مالك بن الوليد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 ولقراءة الكتب النافذة أبا عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي. وكانت لأبى علىّ الخاقاني وابنه الجوامع بما يرد وينفذ، فلا يقرأها أحد منهم [86] إلّا بعد فوت الأمر الذي وردت فيه الكتب، وتبقى الكتب بالحمول والسفاتج فى خزانتهما، لا تفضّ ولا يعرف حال ما فيها. ففسدت الأمور بولاية أبى علىّ الخاقاني وضاعت. وكان يقلّد فى أسبوع واحد الكورة عدّة من العمّال، حتّى قيل: إنّه قد قلّد أعمال ماه الكوفة فى مدّة عشرين يوما سبعة من العمّال، واجتمعوا فى خان بحلوان وقلّد أعمال قردى وبريدى [1] خمسة من العمّال اجتمعوا فى خان بعكبرا فى يوم واحد وسبب ذلك ارتفاق أولاده وكتّابه من العمّال الذين يولّونهم. فسطّرت الأحاديث وحفظت له النوادر، وأطلق يده بالتوقيعات وفى الزيادات والنفل والإثبات [2] يوقّع بذلك هو وابناه وبنان ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمّد ابنا سعيد. وكان أبو علىّ الخاقاني يتقرّب إلى قلوب الخاصّة والعامّة، فمنع خدم السلطان ووجوه القوّاد أن يترجموا رقاعهم بالتعبّد، ويتقرّب إلى العامّة بأن يصلّى معهم فى المساجد التي على الطرق، فكان إذا رأى جمعا من الملّاحين أو غيرهم من العامّة يصلّون فى مسجد على الشط قدّم طيّاره وصعد وصلّى معهم. فاتّضعت الوزارة بأفعاله وذلّت. وكان [87] إذا سأله إنسان حاجة دقّ صدره وقال: - «نعم وكرامة.» فسمّى: دقّ صدره. وضاقت الأموال فقصّر فى إطلاق أموال أصحاب التفاريق والقوّاد القدماء ومن يجرى مجراهم، فشغبوا عليه وقصدوا المصلّى فأقاموا فيه وأخرجوا   [1] . ليس الأصل واضحا تماما. فى مط: فردي ويد يدي. فى مد: قردى بزيذى. [2] . فى مط: والنقل الأثاث. فى الأصل: والنفل والإثبات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 معهم أكثر القوّاد واستفحل أمرهم وبسطوا فيه ألسنتهم. فأمره المقتدر بإطلاق أرزاقهم فاعتذر بقصور الأموال ونقصان الارتفاع، وذكر أنّ الأموال المستخرجة من ابن الفرات وأسبابه قد حصلت فى بيت المال الخاصّة، وأنّه ليس ينفذ له صاحب بيت مال الخاصّة أمرا فيها، فأمر بإخراج خمسمائة ألف دينار من بيت مال الخاصّة لينفق فى الجند المشغّبين. وقلّد ديوان البريد بمدينة السلام والإشراف على الوزير وعلى الجيش وأصحاب الدواوين والقضاة وأصحاب الشرطة شفيع اللؤلؤىّ [1] . فلمّا رأى ابن ثوابة ضعف أمر الوزير تقرّب إلى المقتدر برقاع أوصلتها أمّ موسى يذكر فيها أنّه يستخرج من العمّال أموالا جليلة أهملها الخاقاني، وذكر أنّه يستخرج من محمّد بن علىّ الماذرائى وأخيه إبراهيم وحدهما سبعمائة ألف دينار. فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقوية يد ابن ثوابة، ففعل ذلك [88] واستخرج أموالا بالعسف، وتغلّب على الأمور، وكان يصرف عمّال الوزير ويولّى من يرى، وتوصّل الأشرار إلى كتب الرقاع على يد أمّ موسى إلى المقتدر يخطبون [2] الأعمال ويتضمّنون الأموال. فخرج الأمر إلى الخاقاني بتقليدهم ذلك، فانتشر أمره وشاركه الأشرار فى النظر واستخرجوا الأموال من كلّ وجه بكلّ عسف. وكان حامد بن العبّاس قد تضمّن أعمال واسط ونواحيها أربع سنين فعمل الكتّاب له عملا وحصّلوا عليه فى كلّ سنة مائتين وأربعين ألف دينار وألفين وأربعمائة كرّ بالمعدّل شعيرا للكراع فى كلّ سنة يستوفى منه مع المال الذي ذكرنا مبلغه. وإنّما كان حامد ضمن على عبرة السنة المتقدّمة وزيادة يسيرة، وكان التقصير والإضاعة والتخليط يقع من الخاقاني.   [1] . فى مد: اللؤلؤىّ (بضمّ الياء) والفتح أوجه. [2] . فى مط: يحطون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وذلك أنّ الخاقاني كان يتقلّد فى أيّام عبيد الله بن سليمان وما بعدها إلى وقت استتاره فى أيّام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال البريد والمظالم والخرائط بما سبذان. فلمّا ولى الوزارة تحيّر لقلّة الدربة ونقصان المعرفة بالأعمال، فشرع مونس فى تقليد علىّ بن عيسى. ودخلت سنة ثلاثمائة [89] يرتأى المقتدر فى إعادة ابن الفرات إلى الوزارة ولمّا رأى المقتدر بالله اضطراب الأمور وفساد التدبير وانتقاض المملكة، شاور مونسا الخادم، وعرّفه أنّ الصورة تقود إلى ردّ أبى الحسن ابن الفرات وتقليده الوزارة. وكان مونس مستوحشا من ابن الفرات لأمور حكينا بعضها فى حكاية أمره مع سبكرى وتقريره أمر فارس ونقض ابن الفرات عليه. فقال مونس للمقتدر بالله: - «إنّه يقبح أن يعلم أصحاب الأطراف أنّ السلطان صرف وزيرا ثمّ اضطرّ إليه وردّه بعد شهور من صرفه، ثمّ لا ينسبون ذلك إلّا إلى المطمع فى ماله فقط.» وقال: إنّ كتّاب الدنيا الذين دبّروا المملكة دواوينها منذ أيّام المعتضد بالله، هما ابنا الفرات، وأبو العبّاس منهما قد مات، وتقلّد الآخر الوزارة إلى أن صرف عنها، ومحمّد بن يزداذ [1] ومحمّد بن عبدون وقد قتلا فى فتنة ابن المعتزّ، وعلىّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح، ولم يبق من يصلح لتدبير المملكة غيره.   [1] . كذا فى الأصل: يزداذ. وصححه فى مد ب «داود» ، وهو ساقط من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 ووصفه بالثقة والأمانة والديانة والنزاهة والصيانة والصناعة. فأمره المقتدر بإنفاذ يلبق إليه ليحمله إلى الحضرة، وأظهر للخاقانى أنّه يحضره ليستخلفه لابنه عبد الله على الدواوين. وكان الخاقاني يقول فى مجلسه: - «إنّى قد كتبت بحمل علىّ بن عيسى [90] إلى الحضرة لأستخلفه لعبد الله.» فلمّا كان يوم الإثنين لعشر خلون من المحرّم سنة إحدى وثلاثمائة ركب الخاقاني إلى دار السلطان، فقبض عليه وعلى ابنيه عبد الله وعبد الواحد وأبى الهيثم ابن ثوابة ويحيى بن إبراهيم المالكي وأحمد ومحمّد ابني سعيد الحاجبين وبنان وسعيد بن عثمان النفّاط واعتقلوا فى يد نذير الحرمي. وكان سعيد بن عثمان النفّاط أحد من سعى للخاقانى فى الوزارة، فقضى حقّه بأن قلّده أعمالا كثيرة جليلة. وفى هذه السنة صرف عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أعمال المعاون بفارس وتقلّدهما بدر الحمامي وكان بدر يتقلّد أعمال المعاون بإصبهان فنقل إلى أعمال فارس وكرمان وقلّد مكانه علىّ بن وهسوذان الديلمي. ودخلت سنة إحدى وثلاثمائة وزارة أبى الحسن علىّ بن عيسى الوزارة وفيها تقلّد أبو الحسن علىّ بن عيسى الوزارة وقت قدومه من مكّة وخلع عليه، وركب من دار السلطان إلى داره، وركب معه مونس الخادم وغريب الخال وسائر القوّاد والغلمان، وسلّم إليه فى يوم الخلع محمّد بن عبيد الله الخاقاني وابناه، وجميع من سمّيتهم [91] فيما تقدّم، فصادرهم مصادرات قريبة الأمر، واستخرج منهم جميع ما صادرهم عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 ثمّ أطلق الخاقاني إلى منزله، ووكّل به فيه، وصان حرمه أتمّ [1] صيانة، وأوقع بأبى الهيثم ابن ثوابة مكروها. ثمّ صار ينظر فى أمر الأعمال فى دار الوزارة بالمخرّم يبكّر إليها فى كلّ يوم، ويعمل فيها إلى آخر أوقات صلاة العشاء الآخرة ثمّ ينصرف إلى داره. وكتب إلى كلّ واحد من العمّال بما جرت العادة به من تشريف أمير المؤمنين إيّاه بالخلع، وردّ أمر الدواوين والمملكة إليه، ويقرّرهم على مواضعهم ويأمرهم بالجدّ والاجتهاد فى العمارة، ويقول فى آخر كتابه: - «وهذا عنفوان السنة وأوّل الافتتاح ووقت حموم الخراج، ولست أعلم ما يجب أن أطالبك به فاذكره وأخاطبك عليه، ولكنّى آمرك أن تحمل صدرا من المال يتوفّر مقداره، وتنفذ الرسائل بذلك مع الجواب عن كتابي هذا عند نظرك فيه وتكتب إلىّ بشرح الحال فى أمور نواحيك وتنفذ مواقفه نقف عليها وبها على موقع أثرك فيها ومخائل تدبيرك فى توفيرها وتثميرها، وتتوقف عن إمضاء التسبيبات وما يجرى مجراها إلى أن ترد عليك كتبي وتوقيعاتى فى استماراتك [2] [92] عمّا يكون عملك عليه، وتمكّن فى نفسك أنّه لا رخصة عندي ولا هوادة فى حقّ من حقوق أمير المؤمنين أغضى عنه، ولا درهم من ماله أسامح فيه ولا تقصير فى شيء من أمور العمل أصبر لقريب أو بعيد عليه، ولا تكون بإظهار أثر جميل فى ذلك أشدّ عناية منك بإنصاف الرعيّة والعدل عليها ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها، فإنّى أطالبك بذلك كما أطالبك بتوفير حقوق السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها. وتابع كتبك بما يكون منك وقتا وقتا لأعرفه إن شاء الله.» وقلّد بعد ذلك الدواوين جماعة وعزل جماعة، وفعل مثل ذلك بالعمّال،   [1] . فى مط: أىّ صيانة. [2] . فى مط: فى استنماء رأيك. فى مد: فى استبار رأيك. والرسم فى الأصل لا يحتمل ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 ونظر إلى من تعوّد اقتطاع الأموال السلطانية، وإقامة مروّات نفسه منها، وقصر فى العمارة، واعتمد غيره، فعزل أمثال هؤلاء. ثمّ عمر الثغور والبيمارستانات وأدرّ الأرزاق لمن ينظر فيها وأزاح علل المرضى والقوّام، وعمر المساجد الجامعة، وكتب إلى جميع البلدان بذلك ووقّع إلى العمّال به، وكتب إلى العمّال فى أمر المظالم كتابا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، سبيل ما يرفعه إليك كلّ واحد من المتظلمين قبل النوروز من مظلمته، ويدّعى أنّه تلف بالآفة من غلّته، أن تعتمد فى كشف حاله على أوثق ثقاتك [1] [93] وأصدق كفاتك حتّى يصحّ لك أمره، فتزيل [2] بالظلم فيه، فترفعه وتضع الإنصاف موضعه، وتحتسب من المظالم بما يوجب الوقوف عليه حسبه، وتستوفى الخراج بعده، من غير محاباة للأقوياء ولا حيف على الضعفاء، فاعمل فيما رسم لك ما يظهر ويذيع ويشتهر ويشيع، ويكون العدل به على الرعيّة كاملا، والإنصاف لجميعهم شاملا، إن شاء الله.» وكتب فى إسقاط مال التكملة بفارس كتابا وفى جميع ما يشبه ذلك كتابا مشهورة مستحسنة. فساس أبو الحسن علىّ بن عيسى الدنيا أحسن سياسة، ورسم للعمّال   [1] . فى مط: أوثق نقلك. [2] . فى الأصل: فيزيل. والتصحيح من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 الرسوم [1] الجميلة وأنصف الرعيّة، وأزال السنن الجائرة، ودبّر أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة بكفاية تامّة، وعفاف وتصوّن وديانة، ونظر فى المظالم وأبطل المكس بمكّة، والتكملة بفارس وسوق بحر بالأهواز، وجباية الخمور بديار ربيعة فبانت بركته على الدنيا، وعمر البلاد وتوفّر الارتفاع، واستقام أمر السلطان وعادت هيبة الملك، وصلح أمر الرعيّة. ثمّ أسقط علىّ بن عيسى الوزير أكثر ما زاده الخاقاني فى وزارته فى دواوين الجند وإقطاعاتهم، وكانت هذه الزيادة قد لحقت القوّاد وسائر أصناف الجند، ولحقت الخدم والحاشية [94] وجميع الكتّاب والمتصرّفين، وكانت كثيرة. فلمّا أسقطها عاداه أكثر الناس وشنّعوا عليه بالضيق والشحّ وقطع الأرزاق، وإنّما اضطرّ إلى ذلك لمّا رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادة مفرطة تحوج إلى هدم بيوت الأموال وصرفها فى نفقات يستغنى عنها. مناظرة بين على بن عيسى وابن الفرات وحكى ثابت بن شيبان [2] عن علىّ بن عيسى أنّه قال: كنت عملت عملا لارتفاع المملكة وما علىّ من الخرج، فكان الخرج زائدا على الدخل بشيء كثير، فقال لى ابن الفرات يوما بعد صرفه إيّاى وقد أخرجت إليه فى دار السلطان ليناظرنى: - «أبطلت الرسوم وهدمت الارتفاع» فقلت له: - «أىّ رسم أبطلت؟»   [1] . فى مط: الرسولة الجميلة. [2] . كذء فى مط: سنان. وما فى الأصل ومد: شيبان، والرواية موجودة فى كتاب الوزراء: 323. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 قال: «المكس بمكة والتكملة بفارس.» فقلت: «وهذا وحده أبطلت؟ وقد أبطلت أشياء كثيرة فمنها ومنها- وعددت أشياء مبلغ جميعها خمسمائة ألف دينار فى السنة- ولم أستكثر هذا المقدار فى جنب ما حططته عن أمير المؤمنين من الأوزار وغسلت به عن دولته من الدرن والعار ولكن انظر مع ما حططت وأبطلت إلى ارتفاعي وارتفاعك ونفقاتى ونفقاتك.» قال ثابت: فقلت: [95]- «فبأىّ شيء أجابك؟» فقال: «خرج الخادم ففرّق بيننا قبل أن يجيب.» قال: وحدّثنى أحمد بن محمّد بن سمعون وكان ينظر فى أعمال النهروانات، قال: - «مسحنا على الناس غلّاتهم فإذا بعض التّنّاء قد ذهب إلى باب الوزير علىّ بن عيسى ونحن لا نعلم، فتظلّم أنّا زدنا عليه فى مساحة قراح له، فلم نشعر بشيء إلّا وقد جاءنا عامل يعرف بابن البدّال ومعه فوج [1] من مسّاح بادوريا وفرسان ورجّالة، فلم نشكّ فى أنّه صارف لنا، فقال لى صاحبي: أحبّ أن تتلقاه وتتنسّم الخبر. ففعلت وتلقيته وعرفت خبر المتظلّم، فعرّفت صاحبي ذلك، فقال لى: - «لا تدرى كيف جرى أمر مساحته؟» فقلت: «لا.» قال: «فاخرج حتّى تواقف وتجتهد.» قال: فخرجت ومعى مسّاح البلد الذين مسحنا بهم واستقصيت معهم، وما   [1] . فى مط: نوح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 زلت ألطف إلى أن تقرّرت المساحة، وكنّا مسحنا القراح باثنين وعشرين جريبا فخرجت مساحته احدى وعشرين جريبا وقفيز، فاحتججت بأنّ القراح مسح وفيه غلّة قائمة ومسح فى هذا الوقت بعد الحصاد، وليس بمنكر أن يكون بين [1] المساحتين فى الحالتين هذا المقدار وانصرف ابن البدّال. [2] [96] وورد عليه كتاب علىّ بن عيسى بالصواعق فى الإنكار والتوعّد، بأنّه إن وقف على أنّ أحدا من الرعية حيف عليه فى معاملة أو مساحة فعل وصنع. قال: فما جسرنا أن نستقصى على أحد فى معاملة، فلمّا كان فى السنة القابلة زاد الارتفاع فى العشرة ثلاثة لأنّ الخبر انتشر بالعدل وقيل: قد رفع الحيف والظلم فنشط الناس للازدياد من العمارة وفعل مثل ذلك فى المظالم. وحكى ابن المشرف أنّ بعض عمّال بادوريا طالب بالخراج وبقايا عليهم وحبس أهله فصبروا على الحبس فقيّدهم فصبروا على القيد ولم يجسر أن يوقع بهم خوفا من علىّ بن عيسى، فكتب بحضرتهم إلى علىّ بن عيسى يضرّبه عليهم غاية التضريب ويقول: - «إنّ هؤلاء قوم يدلّون بالجلد، وعليهم أموال وقد ألطّوا وصبروا على الحبس والقيد، ومتى لم تطلق اليد فى تقويمهم واستخراج المال منهم كسروه وتأسّى بهم أهل السواد فبطل الارتفاع والوزير أعلى عينا وما يراه [3] .» قال القوم: فجزعنا وخفنا أن يطلق يده فينا فيتلفنا لما كان فى نفسه علينا، وهممنا بأن نذعن له. ثمّ اجتمع رأينا على التوقّف إلى أن يرد الجواب. قال: فورد وإذا هو قد وقّع بخطّه على ظهر الرقعة:   [1] . بين، سقطت من مط. [2] . فى مط: البقال. [3] . فى مط: والوزير عبثا وما يراه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 - «إخراج- عافاك الله- دين وليس يجب فيه غير الملازمة فلا تتعدّ [97] ذاك إلى غيره، والسلام.» قالوا: ففرّج عنّا وأدّينا الصحيح ممّا علينا. فلمّا كانت السنة القابلة زاد ارتفاع بادوريا فى العشرة اثنين وزرعنا حتّى السطوح ثقة بالعدل والإنصاف. تزوير توقيعات الوزير المصروف ولمّا صرف أبو علىّ الخاقاني عن الوزارة أكثر الناس التزويرات عليه وعرضت توقيعاته على علىّ بن عيسى، فأنكرها وجمعها وأنفذ بها إلى أبى علىّ الخاقاني وقال: - «أنظر فى هذه التوقيعات وعرّفنى الصحيح منها والباطل الذي زوّر عليك.» واتفق [1] أن حضر رسوله وأبو علىّ الخاقاني يصلّى. فوضع الرسول التوقيعات بين يدي أبى القاسم ابنه وأدّى الرسالة، فأخذ أبو القاسم يميّزها ويفرد الصحيح منها، فأومأ إليه أبوه بالتوقّف فتوقّف، فلمّا فرغ من الصلاة أخذها فتصفّحها، ثمّ خلطها ودفعها إلى الرسول وقال: - «تقرأ على الوزير السلام وتعرّفه أنّ هذه التوقيعات كلّها صحيحة وأنا أمرت بها فما رأيت أن تمضيه أمضيته وما رأيت إبطاله أبطلته.» فلمّا انصرف الرسول قال لابنه: - «يا بنىّ، أردت أن تبغضنا إلى الناس بلا معنى ويكون الوزير قد التقط الشوك بيدك؟ نحن قد صرفنا فلم لا تتحبّب إلى الناس بإمضاء كل ما زوّر علينا، فان أمضاه كان الحمد لنا والضرر عليه، وإن أبطله كان الحمد لنا والذمّ   [1] . فى مط: واتقوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 له.» فاستحسن الناس هذا الفعل [98] من أبى علىّ، إلّا أنّ علىّ بن عيسى تذمّم إلى الخلق من الخاصّة والعامّة والحاشية بإسقاطه [1] الزيادات التي صارت عند أصحابها كالأصول واطّراحه النفقات التي تعود بتمزيق الأموال بغير فائدة، فثقلت وطأته وكره الناس أيّامه وقصدوا التشنيع عليه، وثلبوه عند المقتدر بالله، وسعى قوم لأبى الحسن ابن الفرات فى الوزارة. القبض على الحسين بن منصور الحلّاج بالسوس وفى هذه السنة قبض على الحسين بن منصور الحلّاج بالسوس، وأدخل بغداد مشهّرا على جمل، [2] وكان حمل إلى علىّ بن أحمد الراسبي، فحمله علىّ إلى الحضرة، فصلب وهو حىّ، وصاحبه وهو خال ولده معه فى الجانبين جميعا، وحبس الحلّاج وحده فى دار السلطان وظهر عنه بالأهواز وبمدينة السلام أنّه ادّعى أنّه إله وأنّه يقول بحلول اللاهوت فى الأشراف من الناس. حوادث أخرى وفيها أطلق الوزير أبا علىّ الخاقاني وأزال عنه التوكيل. وفيها مات علىّ بن أحمد الراسبي بدور الراسبي، وتقدّم مونس الخادم بمشورة علىّ بن عيسى لقبض أمواله، وكتب إلى النعمان بن عبد الله بالمصير إليه والاجتماع معه على ذلك، فكتب أنّه حصّل منها نحو ألف ألف دينار. وفيها خلع على الأمير أبى العبّاس بن المقتدر بالله، وقلّد أعمال الحرب   [1] . فى مط: بانتقاصه. [2] . فى مط: مشتهرا على الحمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 بمصر والمغرب واستخلف [99] له على مصر مونس الخادم. وقلّد الأمير على ابن المقتدر بالله الصلات وأعمال المعاون والأحداث والحرب بكور الرىّ ودنباوند وقزوين وزنجان وأبهر والطرم. وفيها ورد الخبر بقتل [1] إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان على شاطئ نهر بلخ، قتله غلمانه، وقام مقامه أبو الحسن نصر ابنه، فنفذ العهد إليه من المقتدر بالله والكتاب بتقليده خراسان مكان أبيه. قتل أبى سعيد الجنّابى وفيها ورد الخبر بأنّ خادما لأبى سعيد الجنّابى الحسن بن بهرام المتغلّب على هجر قتله. ثمّ إنّ ذلك الخادم خرج بعد قتله مولاه، فدعا رجلا من رؤساء أصحابه وقال: - «السيد يدعوك.» فلمّا دخل قتله وما زال يفعل ذلك بواحد واحد إلى أن قتل أربعة من الرؤساء. ثمّ دعا بالخامس فأحسّ الخامس بالقتل، فصاح وأطلع النساء عليه وصحن، فقبض على الخادم قبل أن يقتل الخامس. وقتل الخادم وكان صقلابيا وقد كان أبو سعيد عهد إلى ابنه سعيد فلم يضطلع بالأمر فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان بن الحسن. وقد كان القرامطة وافوا إلى باب البصرة فى سنة تسع وتسعين ومائتين، وكان المتقلّد لأعمال المعاون بالبصرة محمّد بن إسحاق بن كنداجيق وكان يوم جمعة والناس فى الصلاة، فصاح الصائح: [100]- «القرامطة القرامطة.»   [1] . وزاد فى مد: أحمد بن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 فخرج إليهم الموكّلون بالباب فوجدوا فارسين قد نزل أحدهما عند الميل، فنظر إليه البوّابون جالسا متّكئا قد وضع إحدى رجليه على الأخرى والآخر بإزائهم فصاحوا به، وبدر إليه رجل من الخول، فطعنه القرمطى وقتله وتراجعوا، فبكى أخوه فقالوا له: - «ارجع فجرّ برجله وخذه لعنكما الله.» قالوا: «ومن أنتما؟» قالوا: «نحن المؤمنون.» ثمّ تنحّى فحبا حتّى أخذ أخاه ودخلوا فأغلقوا الباب، وركب ابن كنداجيق بمن معه من الجيش حتّى صار إلى الموضع فنظر الديذبان عند صهاريج الحجّاج إليهم فقالوا: - «إنّهم نحو ثلاثين فارسا.» فخرج إليهم عطارد ابن شهاب العنبري وخواصّه وغلمان من شحنة البصرة والمطوّعة، فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلّا من هرب قبل المعاينة، وسلبوهم ولم يتركوا عليهم شيئا إلّا السراويلات بغير تكك ثمّ ضربوهم ضربات قبيحة ورجع ابن كنداجيق وغلّق الباب وجنّة الليل. فلمّا أصبح لم ير منهم أحدا، فكتب إلى ابن الفرات- وكان هو الوزير فى الوقت- يستنجده، فأمدّه بمحمّد بن عبد الله الفارقي فى جيش كثيف وقائد من الرجال يعرف بقورويه، وجعفر الزّرنجى فى نفر من الرجالة معونة لابن كنداجيق. علىّ بن عيسى الوزير والقرامطة فلمّا تقلّد أبو الحسن [101] علىّ بن عيسى الوزارة شاوره المقتدر فى أمر القرامطة فأشار بمكاتبة أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنّابى، فتقدّم إليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 بمكاتبته وإنفاذ الكتاب على يدي من يرى، فكتب كتابا طويلا جدّا يذكّرهم بالله ويدعوهم إلى الطاعة ويقول فى آخره: - «إنّ أمير المؤمنين جعل كتابه هذا ظهريّا [1] عليك وحجّة من الله بيّنة فيك، وقاطعا لعللك، وبابا يعصمك إن صدقت عمّا أراده من الخير بك، وعظمت النعمة فيما بذله من العهد لك.» ونفذ الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة انتهى إليهم قتل أبى سعيد، فتوقّفوا عن المسير وكاتبوا الوزير علىّ بن عيسى بذلك واستطلعوا رأيه، فعاد الجواب إليهم بالمسير إلى أولاده ومن قام بعده مقامه، فتمّموا المسير وأوصلوا الكتاب وأدّوا الرسالة، فأجابوا عن الكتاب وأطلقوا الأسرى الذين تكلّم فيهم الرسل، وعاد بهم الرسل إلى بغداد. ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة وفيها قبض على أبى عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص الجوهري وأنفذ إلى داره جماعة حتّى حملوه إلى دار السلطان فأخذ منه من المال والجواهر ما قيمته أربعة آلاف [2] [102] وكان هو يدّعى أكثر من ذلك بكثير ويتجاوز فى ذلك عشرين ألف ألف دينار وأكثر. وفيها خرج الحسين بن علىّ العلوي [3] وتغلّب على طبرستان ولقب الداعي فوجّه إليه أخو صعلوك جيشا فلم يثبتوا له وانصرفوا فعاد العلوي إليها.   [1] . فى الأصل: ضهريّا. والصواب «ظهيرا» كما جاء فى حواشي مد. [2] . والمبلغ كان ستّة آلاف ألف دينار. انظر، صلة عريب، ص 48. وربما سقط من الأصل: «ألف» . ومط هنا ناقصة. [3] . هو الأطروش. انظر، صلة عريب: 47. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة خروج الحسين بن حمدان عن طاعة السلطان وما كان من عاقبته وفيها ورد الخبر بأنّ الحسين بن حمدان قد خالف وخرج عن طاعة السلطان. وكان مونس الخادم غائبا قد أخرج إلى مصر لمحاربة العلوىّ صاحب المغرب [1] لمّا قصد مصر فى نيّف وأربعين ألفا. فندب له الوزير علىّ بن عيسى رائقا الكبير وخلع عليه، وكتب إلى مونس يعرّفه الخبر ويأمره بالمسير إلى ديار مضر إذا انصرف من مصر، وأن يجذب معه أحمد بن كيغلغ وعلىّ بن أحمد بن بسطام والعبّاس بن عمرو ليصلح الديار فيزيل الاختلال ويحفظ الثغور وخاصّة الخزرية منها. فقد كان جرى على حصن منصور من قصد الروم إيّاه وسبيهم كلّ من كان فى نواحيه أمر عظيم لتشاغل الناس بالحسين بن حمدان عن الغزاة الصائفة. ولمّا صار رائق إلى الحسين بن حمدان أوقع به الحسين، فصار رائق إلى مونس واتصلت [103] كتب علىّ بن عيسى الوزير إلى مونس بالإسراع نحو الحسين، فجدّ مونس فى المسير، ولمّا قرب من الحسين جاءه مروان [2] كاتب الحسين وجرت بينه وبينه خطوب، كتب بها مونس إلى علىّ بن عيسى، وذكر أنّ مروان أوصل إليه كتابا من الحسين يتضمّن خطابا طويلا قد افتتحه وختمه وكرّر القول فى فصوله: - «إنّ السبب فى خروجه عمّا كان عليه من الثقة والطاعة عدول الوزير   [1] . هو المهدى أبو القاسم عبيد الله. انظر حواشي مد. [2] . فى الأصل: مرون (بالضبط) فقرئ فى مد: «هرون» ثم: هارون (دون توجيه) فأثبتناه «مروان» كما يقرأ من رسم الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 - أيّده الله- عمّا كان عليه فى أمره إلى ما أوحشه وأنّه لم يف له بضمانات ضمنها له.» وذكر أنّه قد اجتمع له من قبائل العرب ورجال العشيرة ثلاثون ألف رجل، وأنّه سأل الرسول عمّا حمله الحسين من الرسالة إليه، فذكر أنّه يسأله المقام بحرّان إذ كانت تحمل عسكره، وأن يكاتب الوزير- أعزّه الله- فى أمره ويسأله صرفه عمّا يتقلّده من الأعمال، وتركه مقيما فى منزله وتقليد أخيه ديار ربيعة، وأنّه عرّفه أنّ هذا متعذّر غير ممكن، إذ كانت كتب الوزير متّصلة إليه بالإنجذاب، وأنّ مخالفته غير جائز وأنّه لا يدع الكتاب فيما سأله، ولا يثنيه ذلك عمّا رسمه الوزير- أعزّه الله- فإن عزم على اللقاء فبالله يستعين على كلّ من خالف السلطان- أعزّه الله- وجحد نعمته وإن انقاد للحقّ وسلك سبيله وصار [104] إليه فنزع عمّا هو عليه كان ذلك أشبه به، وإن أبى وأقام على حاله من التعزّز والمخرقة لقيه بمضر بأسرها، وصان رجال السلطان مع وفور عددهم عن التعرّض لطغامه، لا لنكول عنه منه، لكن لاستهانته بأمره، وأنّه وكلّ بكاتبه هذا المترسّل عنه، وأنّه لا يأذن له فى الانصراف إلّا بعد أن يعرف خبر الحسين. ثمّ وردت الأخبار برحيل مونس حتّى نزل بإزاء جزيرة بنى عمر ورحيل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وأمواله. ثمّ انفلّ عسكر الحسين وصاروا إلى مونس أوّلا أوّلا. وورد كتاب مونس بأنّه قد صار إليه من أقرباء [1] الحسين وغلمانه وثقاته ووجوههم سبعمائة فارس، وأنّه خلع على أكثرهم ونفد ما كان معه من الخلع والمال، وأنّه فى احتيال باقى ما يحتاج إليه.   [1] . كذا فى الأصل: أقرباء: فى مد: أمراء (خلافا للأصل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 ثمّ ورد كتابه بأسر الحسين بن حمدان وجميع أهله وأكثر من صحبه، وقبض على أملاك بنى حمدان بأسرهم ودخل مونس ومعه الحسين وابنه بغداد. فلمّا كان بعد يومين حمل الحسين من باب الشمّاسية إلى دار السلطان مصلوبا على نقنق، [1] منصوبا بأعلى ظهر فالح [2] وابنه مشهور على جمل آخر والبرانس على رؤوسهما، وسار بين يديه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر بالله، [105] والوزير أبو الحسن علىّ بن عيسى، والأستاذ مونس الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإبراهيم بن حمدان وسائر القوّاد والجيش والفيلة، فلمّا وصلوا إلى دار السلطان وقف الحسين بين يدي المقتدر بالله، ثمّ أمر بتسليمه إلى زيدان القهرمانة وحبس عندها فى دار السلطان. وشغّب الرجّالة والحجرية بعد حصول الحسين بن حمدان، وأحرقوا إصطبل الوزير وطالبوه بالزيادة فى أرزاقهم، فزيد بكلّ غلام ثلاثة دنانير فى كلّ شهر من شهورهم، وزيد الرجّالة كلّ راجل [3] نصف وربع دينار فى كلّ شهر، فسكن الشغب. وقبض على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع أخوته وحبسوا فى دار السلطان. وكان هرب ابن للحسين [4] بن حمدان فى جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته آمد، فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه، وحملت رؤوسهم إلى الحضرة وصلب قوم من أصحاب الحسين بن حمدان.   [1] . نقنق: كذا فى الأصل ومط: نقنق. [2] . كذا فى الأصل: فالح (بالحاء المهملة) . فى مط ومد: فالج. [3] . كذا فى الأصل: راجل. فى مط ومد: [4] . فى مط: ابو الحسين، بدل «ا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 ودخلت سنة أربع وثلاثمائة غلام وهسوذان يقتل أحمد بن سياه وفيها لقى بإصبهان غلام لعلّى بن وهسوذان الديلم وكان يتقلّد أعمال المعاون بها أحمد بن سياه عامل الخراج بها، أنفذه صاحبه إليه فى حاجة، واتفق أنّه لقيه وهو [106] راكب، فكلّمه فى الحاجة، فاشتدّ ذلك على أحمد بن سياه، وقال له: - «يا مؤاجر تخاطبني فى حاجة على ظهر الطريق؟» فانصرف الغلام إلى مولاه محفظا، وحدّثه بما جرى، فقال له: - «صدق فيما قال، ولولا أنّك مؤاجر لضربت رأسه بالسيف لمّا خاطبك بذلك، فعاد الغلام ووجد أحمد بن سياه منصرفا فعلاه بالسيف وقتله، فأنكر السلطان ذلك عليه وصرف علىّ بن وهسوذان لأجل ذلك من إصبهان بأحمد بن مسرور البلخي، فاستأذن علىّ بن وهسوذان فى الانصراف إلى بلد الديلم، فأذن له، ثمّ سأل بعد ذلك فى أمره مونس الخادم فرضي عنه وأقام بنواحي الجبل. وفيها قدم محمّد بن علىّ بن صعلوك مدينة السلام وهو ابن عمّ صاحب خراسان مستأمنا فخلع عليه. زبزب على السطوح وحيلة للسلطان وفيها فى فصل الصيف تفزّعت العامّة من حيوان كانوا يسمّونه الزّبزب، [1]   [1] . فى الأصل ومط: الرّبرب (بالرائين المهملتين. فى مط ومد: الزّبزب (بالإعجام) . والزبزب: دابّة كالسنّور، أى الهرّ. والرّبرب: قطيع من بقر الوحش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 ذكروا أنّهم يرونه فى الليل على سطوحهم، وأنّه يأكل أطفالهم. قالوا: وربّما قطع يد الإنسان إذا كان نائما، أو ثدي المرأة فيأكله. وكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويتزاعقون ويضربون الطسوت والصوانى والهواوين ليفزّعوه. وارتجّت بغداد لذلك، حتّى أخذ السلطان حيوانا غريبا أبلق، كأنّه من كلاب الماء، وقال: - «هو الزّبزب، وإنّه صيد.» فصلب [107] على نقنق عند الجسر الأعلى، وبقي مصلوبا إلى أن مات. فلم يغن ذلك إلى أن انبسط القمر، وتبيّن للناس أنّه لا حقيقة لما توهّموه، فأمسكوا. إلّا أنّ اللصوص وجدوا فرصتهم بتشاغل الناس فى سطوحهم، فكثرت النقوب. الوزير يصلّى على جنازة شار على أنّها جنازة ابن الفرات وفيها تقرّر عند أبى الحسن علىّ بن عيسى الوزير أنّه قد سعى لابن الفرات فى الوزارة وتحققه، فاستعفى منها، ولم يعفه المقتدر، وأظهر فى دار السلطان أنّ ابن الفرات عليل شديد العلّة. واتفق أن مات الشاري الذي كان محبوسا فى دار السلطان، والتدبير فى أمر الشراة [1] أن يكتم موت من يؤخذ منهم، ممّن تسميه الشراة إماما، فإنّه ما دام حيّا فليس ينصبون إماما غيره، فإن صحّ عندهم موته نصبوا غيره. فأظهر فى دار السلطان أنّ ابن الفرات مات، وكفّن الشاري وأخرجت جنازته على أنّها جنازة ابن الفرات، وصلّى عليه الوزير علىّ بن عيسى، ثمّ انصرف   [1] . الشّراة: الخوارج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 إلى منزله متوجّعا وقال لخواصه: - «اليوم ماتت الكتابة.» ثمّ مضت الأيّام ووقف علىّ بن عيسى من جهات كثيرة على تمام السعى لابن الفرات، وأنّه حىّ، فقال لخواصّه: - «ليس ينبغي للإنسان أن يتحدّث بكلّ ما يسمعه.» صرف على بن عيسى عن الوزارة وكان يضجر فى أوقات من سوء [108] أدب الحاشية والمطالبة بالمحالات، واستعفى من الوزارة ويخاطب المقتدر فى ذلك، فينكر عليه استعفاءه. إلى أن اتفق يوما أن صارت إليه أمّ موسى القهرمانة فى آخر ذى القعدة من سنة أربع وثلاثمائة لتواقفه [1] على ما يطلق فى عيد الأضحى للحرم والحاشية، وكان علىّ بن عيسى محتجبا، فلم يجسر سلامة حاجبه عليه أن يستأذن لها فصرفها صرفا جميلا. فغضبت من ذلك وعلم علىّ بن عيسى بحضورها وانصرافها، فأمر أن تلتمس ويعتذر إليها لترجع، فأبت أن تعود، وصارت إلى المقتدر والسيّدة، فأغرت به وتخرّصت عليه الأحاديث، فصرفه المقتدر بالله وقبض عليه غداة الإثنين لثمان خلون من ذى الحجّة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار الخلافة، ولم يعرض لشيء من أملاكه وضياعه وضياع أسبابه، ولا لأحد من أولاده، واعتقل عند زيدان القهرمانة. فكانت مدّة وزارته هذه ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما.   [1] . كذا فى الأصل: لتواقفه. فى مط: لتوافقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وزارة أبى الحسن علىّ بن محمّد ابن الفرات الثانية وفيها تقلّد أبو الحسن الوزارة والدواوين لثمان خلون من ذى الحجّة، وخلع عليه وصار [109] إلى داره بالمخرّم [1] التي كان أقطعها فى وزارته الأولى، وكتب إلى الأطراف والبلدان عن المقتدر بالله بخبر إعادته إلى الوزارة على نسخة أنشأها أبو الحسين محمّد بن جعفر بن ثوابة، وفى فصل منه: - «ولمّا لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه ولا للملك بدّا منه، وكان كتّاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرّين برئاسته معترفين بكفايته متحاكمين إليه إذا اختلفوا واقفين عند غايته إذا استبقوا مذعنين بأنّه الحوّل القلّب المحنّك المجرّب العالم بدرّة المال كيف تحلب ووجوهه كيف تطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عرف من حدّه، فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبّر الأمور كأن لم يخل منها. ورأى أمير المؤمنين ألّا يدع سببا من أسباب التكرمة كان قديما جعله له إلّا وفّاه إيّاه، ولا نوعا من أنواع المثوبة والجزاء كان أخّره عنه إلّا حباه به وآتاه.» فخاطبه بالتكنية وكان وكان. وقبض ابن الفرات على أسباب علىّ بن عيسى واخوته وكتّابه وجميع   [1] . فى مط: المحرم (بالحاء المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 عمّاله بالسواد وبالمشرق والمغرب، وصادرهم سوى أبى الحسين وأبى الحسن ابنى أبى البغل، فإنّه أقرّهما على ما كانا يتولّيانه من أعمال إصبهان والبصرة، لعناية أمّ موسى [110] بهما. وقبض على أبى علىّ الخاقاني وتتبّع أسبابه، وألزم جميعهم مصادرة ثانية أدّوها، وطالب العمّال المصروفين بالمصادرة وأن يظهروا المرافق ويؤدّوها، ونصب ديوانا للمرافق، وكان ضمن للمقتدر ووالدته من هذه الجهة كلّ يوم ألفا وخمسمائة دينار، وكانت تنسب إلى مال الخريطة، فكان يحملها ولا يمكنه الإخلال بها وكان منها للمقتدر فى كلّ يوم ألف دينار، وللسيّدة فى كلّ يوم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا، وثلث، وللأميرين أبى العبّاس وهارون ابني المقتدر فى كلّ يوم مائة وستّ وستّون دينارا وثلثا. وكان ابن الفرات قد اتّسع بما كان استسلفه [1] علىّ بن عيسى من الخراج، فإنّه قد كان جبى قطعة منه قبل الافتتاح وابتدأ بذلك قبل صرفه بعشرة أيّام، وأعدّ المال فى بيت المال لينفقه فى العيد فى إعطاء الحشم والفرسان والأتراك، فقويت نفس ابن الفرات به وانضاف إلى ذلك جملة عظيمة راجت له من مال المصادرات والضمانات، وأموال سفاتج وردت من فارس وإصبهان ونواحي المشرق فى درج كتب بحمول كتبت على أنها تصل إلى علىّ بن عيسى، فأطلق جميع ذلك فى الفرسان والحشم والخدم ومهمّ النفقات. وكان الغالب [111] على أمر الدواوين والأعمال فى أيّام وزارة ابن الفرات هذه من بين سائر كتّابه أبو بشر عبد الله بن فرجويه، وكان السبب فى ذلك أنّه سلم من النكبة وقت القبض على ابن الفرات فى الدفعة الأولى، واستتر   [1] . فى مط: استلفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 مدّة وزارة الخاقاني وعلىّ بن عيسى، وواصل بعد ما مضت سنة واحدة من وزارة علىّ بن عيسى مكاتبة ابن الفرات على يد عيسى المتطبّب، وكان ابن الفرات يجيبه عن رقاعة ويرسم له ما يكاتب به المقتدر عن نفسه، فى معايب علىّ بن عيسى وكتّابه وعمّاله، وأنّه ليس يصادر أحدا من عمّاله ويقول: - «لا أخوّن عاملا بعد أن ائتمنته.» ويذكر تأخّر أرزاق الولد والحرم والحشم، حتّى إنّه اقتصر بالولد والحرم على جارى ثمانية أشهر فى السنة، والخدم والحشم بستّة أشهر من السنة، واقتصر بالفرسان من مائة وخمسين ألف دينار تطلق لهم فى الشهر على خمسين ألف دينار. وكان المقتدر يواقف ابن الفرات على تلك الرقاع، فيعرّفه أنّ ابن فرجويه خبر بالأمور، وأنّه صادق فى كلّ ما ذكره فيهم المقتدر بصرف علىّ بن عيسى، فإذا شاور مونسا فى ذلك أشار عليه أن لا يفعل. ووصف علىّ بن عيسى بالديانة والأمانة. فلمّا خرج مونس إلى مصر لمحاربة العلوي [112] صاحب المغرب، تمكّن ابن فرجويه من الجدّ فى السعى على علىّ بن عيسى، وكان غريب الخال ونصر الحاجب يدفعان عن علىّ بن عيسى لمّا غاب مونس. فلمّا تبيّن ابن [1] فرجويه دفع غريب ونصر عن علىّ بن عيسى، كتب رقعة بخطّه إلى المقتدر، يذكر فيها أنّه إن صرف علىّ بن عيسى عن الوزارة، وقلّد مكانه علىّ بن محمّد ابن الفرات، أطلق للولد والحرم والحشم ولمن بالحضرة من تفاريق الفرسان مثل ما كان يطلقه فى أيّام وزارته الأولى على التمام   [1] . كذا فى الأصل ومط: ابن. فى مد لابن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 والكمال والإدرار، وأن [1] يوفّر بعد ذلك من مال مصادرات العمّال ومال مرافقهم والاستثبات فى النواحي فى كلّ شهر من شهور الأهلّة خمسة وأربعين ألف دينار. فواقف المقتدر ابن الفرات على هذه الرقعة، فذكر أنّ جميع ما تضمّنته صحيح، وبذل خطّه بضمانه جميع ذلك. فكانت هذه الرقاع من أكبر أسباب التحاقه على ابن فرجويه فى وزارته هذه واختصاصه به. واتفق له مع ذلك أنّ ابن الفرات أودع على يده عند جماعة من التجار والكتّاب أموالا جليلة، ولم يقرّ ابن الفرات بما كان أودعه ابن فرجويه، لأنّه لم يكن يعرف أسماء من أودع ذلك عنده. فلمّا عاد إلى الوزارة استخرج له ابن فرجويه جميع ما كان أودعه له من غير [113] أن يذهب له شيء منه. وكان أبو علىّ بن مقلة متعطّلا فى أيّام وزارة الخاقاني، وعلىّ بن عيسى ملازما منزله واستتر أيّام الخاقاني، ثمّ آمنه علىّ بن عيسى، فلزم منزله فشكر له ابن الفرات واختصّ به لهذه الحال. ذكر ما جرى من ابن أبى الساج عند تداول الوزارة الأيدى الكثيرة لمّا وقف يوسف بن أبى الساج على الخبر فى صرف علىّ بن عيسى عن الوزارة، وكان مقيما بأذربيجان ومتقلّدا أيّام وزارة ابن الفرات الأولى أعمال الصلاة والحرب والمعاون والخراج والضياع العامّة بأرمينية وأذربيجان، ومقاطعا على مال يحمله فى كلّ سنة عنها إلى بيت المال بالحضرة، وكان يزيح العلّة فى ذلك المال مدّة أيّام وزارة ابن الفرات الأولى. فلمّا ولى أبو   [1] . أن: تبدو زائدة. وهي موجودة فى كلّ من الأصل ومط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 علىّ الخاقاني الوزارة ثمّ علىّ بن عيسى، طمع فأخّر أكثر المال الذي كان يقاطع عليه، واجتمع له من ذلك ما قوى به وحمله على العصيان. ذكر ما دبّره ابن أبى الساج واحتال به أظهر أنّ علىّ بن عيسى أنفذ إليه اللواء والعهد عن المقتدر بالله بتقليده أعمال الحرب [114] بالرىّ وقزوين وأبهر وزنجان قبل صرفه عن الوزارة، وسار مبادرا إليها. فلمّا قرب منها انصرف عنها محمّد بن علىّ صعلوك، [1] وهرب إلى نواحي خراسان، وكان محمّد بن علىّ هذا متغلّبا على هذه النواحي، ثمّ قاطع عن الضياع والخراج مقاطعة خفيفة ولم يف بذلك أيضا. فلمّا وقف ابن الفرات على ما فعله ابن أبى الساج أنهى ذلك إلى المقتدر، ثمّ ورد كتاب ابن أبى الساج بعد أيّام يعتدّ بما فعله من إخراج محمّد بن علىّ صعلوك عن الرىّ وما يليها، ويبشّر السلطان بفتحه هذه النواحي، ويصف أنّه لمّا ورد عليه العهد واللواء من جهة علىّ بن عيسى سار إليها فرزقه الله الفتح والنصر، فاغتاظ المقتدر بالله من ذلك وتقدّم إلى ابن الفرات بمواقفة علىّ بن عيسى على ما كتب به ابن أبى الساج، فأخرجه من محبسه [2] ورفق به وخاطبه بجميل وقال له: - «قد يجوز أن تكون دبّرت بهذا الفعل على صعلوك وهذا غير منكر.» فحلف أنّه ما ولّاه ولا أنفذ إليه لواء ولا عهدا وقال: - «ولا بدّ للواء والعهد أن ينفذ مع خادم من خدم السلطان، أو قائد من قوّاده. وهؤلاء الخدم والقوّاد بين أيديكم، سلوهم عن ذلك، ولديوان الرسائل   [1] . فى مط: علىّ بن معلوك. [2] . فى مط: مجلسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 [115] كاتب يتقلّده بكتب العهود والولايات، سلوه هل كتب بشيء؟» فأخذ منه ابن الفرات خطّا بما حكاه وعرضه على المقتدر بالله فازداد المقتدر غيظا على ابن أبى الساج. وكتب ابن الفرات عن المقتدر بالله وعن نفسه إلى ابن أبى الساج فى هذا المعنى أغلظ كتب وتوعّده، وأنفذ إليه من الحضرة لمحاربته خاقان المفلحى، وضمّ إليه الرجال، وأنفذ بعده عدّة من القوّاد مددا له وأنفق الأموال فيهم. وكان فيهم مثل محمّد بن مسرور [1] البلخي وسيما الخزري ونحرير الصغير وجماعة أمثالهم، فواقعه ابن أبى الساج وهزمه وأسر جماعة من أصحابه وأدخلهم مشهّرين إلى الرىّ. وقدم مونس الخادم من الثغر، فندب لحرب ابن أبى الساج وشخص إليه، وكتب إلى جميع القوّاد فى طريقه بالانضمام إليه واستأمن إليه أحمد ابن علىّ صعلوك [2] فأحسن قبوله، وصرف خاقان المفلحى عمّا كان إليه من أعمال الجبل، وقلّد مكانه نحرير الصغير. واتصلت كتب ابن أبى الساج يلتمس الرضا عنه ويبذل سبعمائة ألف دينار عن أعمال الخراج والضياع بكورة الرىّ وما يليها خالصة، سوى أرزاق الأولياء فى تلك الأعمال، وسوى النفقات [116] الراتبة، فلم يجبه المقتدر بالله إلى ما التمس فكتب يبذل أن يقيم بالرىّ متقلّدا أعمال المعاون والحرب بها فقط حتّى ينفذ السلطان إلى تلك النواحي من يتقلّد أعمال الصلاة والخراج والضياع والأحكام والبريد والخبر والخرائط والصدقات. فأقام المقتدر على أنّه لو بذل كلّ بذل لما أقرّه على الرىّ يوما واحدا لإقدامه على أن سار إليها بغير أمر.   [1] . كذا فى الأصل ومط. فى مد: سرور. [2] . فى مط: علىّ بن صعلوك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 فلمّا رأى ابن أبى الساج هذه الحال انصرف عن الرىّ وأعمالها بعد أن أخربها وجبى مالها لسنة أربع وثلاثمائة فى مدّة قريب، وقلّد مونس الرىّ وقزوين وصيفا البكتمرّى، ورضى ابن أبى الساج بأن يجدّد له العهد والولاية للأعمال التي كانت إليه أوّلا، وأشار ابن الفرات بقبول ذلك منه وضمن أن يلزمه بهذا السبب حمل جملة من المال إلى بيت المال يحسن موقعها، فعارض ذلك نصر الحاجب وابن الحوارى وقالوا: - «لا يجوز أن يقرّ على أرمينية وأذربيجان إلّا بعد أن يرد الحضرة ويطأ البساط.» ونسبوا ابن الفرات إلى مواطأته، فأقام المقتدر على أنّه لا بدّ من محاربته، أو يرد الحضرة، وكتب إلى مونس بالتعجّل إليه لمحاربته. [117] فلمّا رأى ابن أبى الساج أنّ دمه على خطر، حارب مونسا بسراة من بلد أذربيجان فانهزم مونس إلى زنجان، وقتل من قوّاد السلطان سيما، واستأسر ابن أبى الساج جماعة من قوّاد مونس فيهم هلال بن بدر، وأدخلهم إلى أردبيل مشهرين وأقام مونس بزنجان يجمع ليوسف، وهو مع ذلك يكاتبه ويراسله، وابن أبى الساج يلتمس منه الصلح ومونس لا يقبل منه إلّا المصير إلى الحضرة. وكان ابن أبى الساج أبقى على مونس لمّا انهزم حتّى سلم فى ثلاثمائة غلام، ولو أراد ابن أبى الساج لأسره فكان مونس يشكر [1] ابن أبى الساج على هذه الحال. فلمّا كان فى المحرّم بعد ذلك فى أيّام وزارة حامد بن العبّاس واقع مونس يوسف بن أبى الساج الوقعة الأخرى بأردبيل، فأسر يوسف وبه   [1] . فى مط: يشكو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 ضربات، وانصرف به مونس إلى بغداد. فلمّا كان سنة سبع وثلاثمائة حمل يوسف بن أبى الساج على جمل من باب الشمّاسية وأدخل بغداد مشهرا، على رأسه برنس وبين يديه الجيش إلى أن وصل إلى دار السلطان ووقّف بين يدي المقتدر، ثمّ حبس فى دار السلطان فى يد زيدان القهرمانة، ووسّع عليه ثمّ خلع على مونس وطوّق وسوّر [118] وخلع على جماعة من قوّاده وزيد الرجّالة نصف دينار لكلّ واحد فى الشهر. ولمّا بعد مونس من أذربيجان وانكفأ راجعا إلى مدينة السلام ومعه يوسف بن يوداذ [1] غلب سبك غلام يوسف عليها، فأنفذ مونس إليه محمّد بن عبد الله الفارقي وقلّده البلد، وكان فى حدود أرمينية، فسار إلى سبك وحاربه فانهزم الفارقي وصار إلى بغداد وتمكّن سبك من البلد. ثم كتب إلى السلطان يسأل أن يقاطع عن الناحية، فأجيب وفورق [2] على أن يحمل فى كلّ سنة مائتين وعشرين ألف دينار، وأنفذت إليه الخلع والعقد ولم يف بما ووقف عليه. وكان مونس لمّا ظفر بيوسف بن أبى الساج وقبل انصرافه عن أذربيجان قلّد بن وهسوذان أعمال الحرب بالرىّ ودنباوند [3] وقزوين وزنجان وأبهر وسلّمها إليه وجعل أموالها له ولرجاله، وقلّد أحمد بن علىّ صعلوك أعمال المعاون بإصبهان وقم وجعل مال الخراج والضياع بقم وساوة له ولرجاله، مبلغه فى كلّ سنة أكثر من مائتي ألف دينار. ثمّ وثب أحمد بن مسافر صاحب الطرم على ابن أخيه علىّ بن وهسوذان وهو معه مقيم بناحية قزوين فقتله على فراشه [119] وهرب فى الوقت إلى   [1] . فى مط: ديوداذاد. [2] . فى مط: فأجيب بورق. [3] . كذا فى الأصل ومط: دنباوند. حاء فى مد: ديناوند، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 بلده وكان أحمد بن علىّ أخو صعلوك مقيما بقم، فسار منها إلى الرىّ ودخلها فأنكر عليه السلطان فعله، وقلّد وصيف البكتمرى أعمال علىّ بن وهسوذان وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج والضياع وكوتب أحمد بن علىّ بالانصراف إلى قم، ففعل. ثمّ جرت بينه وبين محمّد بن سليمان وحشة، فأظهر الخلاف وصرف عمّال الخراج والضياع عن قم، وأخذ فى الاستعداد للمسير إلى الرىّ. وكوتب نحرير الصغير وهو متقلّد همذان بالمسير إلى الرىّ والاجتماع مع وصيف البكتمرى ومحمّد بن سليمان على دفع أحمد بن علىّ. وسار أحمد بن علىّ إلى باب الرىّ فواقعوه، وانهزم وصيف ونحرير إلى همذان، وقتل محمّد بن سليمان فى الوقعة، وحصلت الرىّ فى يد أحمد بن علىّ، فشرع فى إصلاح ما بينه وبين السلطان وعنى به نصر الحاجب فقاطع عن عمال الخراج بالرىّ ودنباوند وقزوين وزنجان وو أبهر على مائة وستّة وستين ألف دينار محمولة فى كلّ سنة إلى الحضرة، وقلّد الناحية، وقلّد محمّد بن خلف النيرمانى الضياع بهذه النواحي وأخرج أحمد بن علىّ عن قم فقلّد من نظر فيها. ونعود إلى حديث ابن الفرات. [120] لمّا تبيّن الوزير أبو الحسن ابن الفرات عداوة نصر الحاجب وأبى القاسم ابن الحوارى وشفيع اللؤلؤي ونسبهم إيّاه إلى مواطأة ابن أبى الساج على العصيان عاداهم ومنعهم أكثر حوائجهم وصرف نصرا وشفيعا عن أكثر أعمالهم. وكان ابن الفرات قلّد أبا علىّ ابن مقلة كتابة نصر الحاجب، ثمّ استوحش أبو علىّ ابن مقلة من ابن الفرات لأجل استخدامه سعيد بن إبراهيم التستري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 فذكر لنصر أنّ ابن الفرات قد استخرج من ودائعه التي سلمت له خمسمائة ألف دينار بعد أن حلف فى وقت نكبته أنّه ما بقيت له وديعة لم يقرّ بها، فذكر نصر للمقتدر ذلك ليغيظه على ابن الفرات وغرّ نصر وابن الحوارى أبا علىّ ابن مقلة وأطمعاه فى الوزارة ليستخرجا ما عنده من أخبار ابن الفرات التي يضرّبون بها المقتدر عليه، حتّى ظهر الأمر فى ذلك واشتهر وكثرت به الأراجيف، فذهب أبو الخطّاب ابن أبى العبّاس ابن الفرات إلى عمّه فشرح له ما يتحدّث به الناس فقال له: - «إن شككت فى أبى علىّ ابن مقلة مع تربيتي له ورفعي [1] منه شككت فى ولدي وفيك.» ثمّ تبيّن ابن الفرات بعد ذلك صحة ما نسب إلى ابن مقلة وأطلع [121] أبا علىّ ابن مقلة على بعض ما وقع إليه من الخوض فى أمره على طريق التعجّب ليصرفه عمّا شرع فيه، فاستوحش أبو علىّ منه وخاف معاجلته إيّاه بالنكبة، فجدّ فى السعى عليه واعتصم بنصر الحاجب. ودخلت سنة خمس وثلاثمائة ورود رسولين لملك الروم بهدايا وألطاف كثيرة التماسا للهدنة وفيها ورد رسولان لملك الروم إلى مدينة السلام على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف كثيرة يلتمسان الهدنة. وكان دخولهما يوم الإثنين لليلتين خلتا من المحرّم، فأنزلا فى دار صاعد بن مخلد، وتقدّم أبو الحسن ابن الفرات بأن يفرش لهما ويعدّ فيه كلّ ما   [1] . ويحتمل أن يقرأ: ودفعى، كما قرئ فى مد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 يحتاجان إليه من الآلات والأوانى وجميع الأصناف، وأن يقام لهما ولمن معهما الأنزال الواسعة والحيوان الكثير والحلاوة، حتّى يتّسع بذلك كلّ من معهما، والتمسا الوصول إلى المقتدر بالله ليبلّغاه الرسالة التي معهما. فأعلما أنّ ذلك معتذّر صعب لا يجوز إلّا بعد لقاء وزيره ومخاطبته فيما قصد إليه وتقرير الأمر معه والرغبة إليه فى تسهيل الإذن على الخليفة [122] والمشورة عليه بالإجابة إلى ما التمسا. فسأل أبو عمر عدىّ بن عبد الباقي الوارد معهما من الثغر أبا الحسن ابن الفرات الإذن لهما فى الوصول إليه فوعده بذلك فى يوم ذكره له. وتقدّم الوزير بأن يكون الجيش مصطفّا من دار صاعد إلى الدار التي أقطعها بالمخرّم، وأن يكون غلمانه وحده وخلفاء الحجّاب المرسومين بداره منتظمين من باب الدار إلى موضع مجلسه، وبسط له فى مجلس عظيم مذهّب السقوف فى دار منها يعرف بدار البستان بالفرش الفاخر العجيب، وعلّقت الستور التي تشبه الفرش واستزاد فى الفرش والبسط والستور ما بلغ ثمنه ثلاثين ألف دينار، ولم يبق شيء تجمّل [1] به الدار ويفخّم به الأمر إلّا فعل، وجلس على مصلّى عظيم من ورائه مسند عال والخدم بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله، والقوّاد والأولياء قد ملأوا الصحن، ودخل إليه الرسولان فشاهدوا فى طريقهما من الجيش وكثرة الجمع ما هالهما. ولمّا دخلا دار العامّة أجلسهما الحاجب فى رواقها والرجال قد امتلأت بهم الدار، ثمّ أخذ بهما فى ممرّ طويل من وراء هذا الرواق حتّى أخرجهما إلى صحن البستان، ثمّ عدل بهما إلى المجلس الذي كان [123] الوزير جالسا فيه، فشاهدا من بهاء المجلس والفرش الذي فيه وكثرة الجمع منظرا   [1] . فى مط: فحمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 عجيبا جليلا. وكان معهما أبو عمر بن [1] عبد الباقي يترجم عنهما ولهما. وحضر نراد بن محمّد صاحب الشرطة فى جميع رجاله فأقيما بين يدي الوزير أبى الحسن ابن الفرات، فسلّما وترجم لهما، ابن عبد الباقي ما قالا فأجابهما بما ترجمه لهما ورغبا إليه، فى إيقاع الفداء ومسألة المقتدر بالله الإجابة إليه فأعلمهما أنّه يحتاج إلى مخاطبته فيما ذكراه، ثمّ العمل فيه بما يرسمه، والتمسا منه إيصالهما إليه فوعدهما به. وأخرجا من بين يديه وأخذ بهما فى الطريق الذي دخلا منه وعادا إلى دار صاعد والجيش منتظم طول الطريق بأحسن زىّ وأكمل هيأة. وكان زيّهما دراريع ديباج ملكيّة ووقايات وفوق الوقايات قلانس ديباج محدودة الرؤوس. وخاطب ابن الفرات المقتدر بالله فى إيصالهما إليه، وواقفه على ما يجيبهما به، وتقدّم إلى سائر الأولياء والقوّاد وسائر أصناف الجند بالركوب إلى دار السلطان، وأن يكونوا منتظمين للظهر من دار صاعد إلى دار السلطان. فركبوا ووقفوا فى الطريق على هذا الترتيب [124] فى الزىّ الحسن والسلاح التامّ، وتقدّم بأن تشحن رحاب [2] الدار والدهاليز والممرّات بالرجال والسلاح وأن يفرش سائر القصر بأحسن الفرش ولم يزل يراعى ذلك حتّى فرغ من جميعه. ثمّ أنفذ إلى الرسولين بالحضور، فركبا إلى الدار على الظهر وشاهدا فى طريقهما من الجيش وكثرته وحسن زيّه وتكامل عدّته أمرا عظيما، ولمّا   [1] . فى مط: أبو عمران عبد الباقي. [2] . فى مط: رجات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وصلا إلى الدار أخذ بهما فى ممرّ يقضى إلى صحن من تلك الصحون، ثمّ عدل بهما إلى ممرّ آخر، وأخرجا منه إلى صحن أوسع من الأوّل، ولم تزل الحجّاب يخترقون بهما فى الصحون والممرّات حتّى كلّا من المشي وانبهرا. وكانت تلك الصحون والممرّات محشوّة بالغلمان والخدم. إلى أن قربا من المجلس الذي فيه المقتدر بالله والأولياء وقوف على مراتبهم، والمقتدر جالس على سرير ملكه، وأبو الحسن ابن الفرات واقف بالقرب منه، ومونس الخادم، ومن دونه من الخدم وقوف عن يمينه ويساره. فلمّا دخلا إلى المجلس قبّلا الأرض ووقفا حيث استوقفهما نصر الحاجب، وأدّيا إليه رسالة صاحبهما فى الفداء، ورغبا إليه فى إيقاعه فأجابهما الوزير عنه بأنّه يفعل ذلك رحمة للمسلمين ورغبة فى فكّهم وإيثارا لطاعة الله عزّ وجلّ [125] وخلاصهم، وأنّه ينفذ مونسا لحضور ذلك. ولمّا خرجا من حضرته خلع عليهما مطارف خزّ مذهّبة وعمائم خزّ، وخلع على أبى عمر أيضا وانصرف على الظهر معهما والجيش على حاله منتظم للفداء. فتأهّب لذلك وابتيع من التمس الرسل ابتياعه من الروم المطلوبين وأطلق له وللقوّاد الشاخصين معه من بيت المال بالحضرة مائة ألف وسبعون ألف دينار. وكتب إلى العمّال فى طريقه بإزاحة علّته فيما يلتمسه، وحمل إلى كلّ واحد من الرسولين عشرون ألف درهم صلة لهما، وخرجا مع مونس ومعهما أبو عمر وتمّ الفداء فى هذه السنة على يد مونس. وفيها أطلق أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإخوته من الحبس فى دار السلطان وخلع عليهم خلعة الرضا. وفيها مات العبّاس بن عمرو الغنوي، وكان متقلّدا أعمال الحرب والمعاون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 بديار مضر، [1] فقلّد مكانه وصيف البكتمرى فلم يضبط العمل فقلّد مكانه جنّى الصفواني فضبطه أحسن ضبط. ودخلت سنة ست وثلاثمائة القبض على ابن الفرات وانتهاء وزارته الثانية وفيها قبض على الوزير أبى الحسن ابن الفرات وكانت مدّة وزارته هذه الثانية سنة واحدة [126] وخمسة أشهر وتسعة عشر يوما. ذكر السبب فى ذلك كان السبب الظاهر فى صرف ابن الفرات عن وزارته هذه الثانية، أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان الذين مع القوّاد واحتجّ بضيق الأموال، لأجل ما احتيج [2] إليه من صرفها إلى محاربة ابن أبى الساج، وأيضا لأجل نقصان الارتفاع بأخذ يوسف مال الرىّ، فشغب الفرسان فى أوّل سنة ستّ وثلاثمائة شغبا عظيما، وخرجوا إلى المصلّى. والتمس ابن الفرات من المقتدر بالله إطلاق مائتي ألف دينار من بيت مال الخاصّة ليضيف إليها مائتي ألف دينار ينفق فى الفرسان، فغلظ ذلك على المقتدر وراسله بأنّه قد كان ضمن له أن يقوم بسائر النفقات على رسمه كان فى وزارته الأولى، وبحمل ما ضمن حمله إلى حضرته مفردا، وأنّه لم يظنّ أنّه يقدم عليه بطلب مال. فاحتجّ ابن الفرات بما ذكرته فلم يسمع حجّته وتنكّر له. وكان عبد الله بن جبير لمّا أقام فى وزارة علىّ بن عيسى بواسط، وقد عرف مقدار ارتفاع أعمالها وما يحصل لحامد بن العبّاس من الفضل على   [1] . فى مط: بديار مصر. [2] . فى مط: احتج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 الضمان، شرح ذلك لابن الفرات [127] وبيّن له وجوهه لمّا عاد إلى بغداد وعند عوده إلى مجلس الأصل فى ديوان السواد. فعظم ذلك فى نفس ابن الفرات. فلمّا أتى على ذلك مدّة استأذن ابن جبير ابن الفرات فى أن يكاتب حامدا فى بعض ما كان أنهاه إليه من ضمان حامد، فأذن له فيه إذنا ضعيفا فكتب من مجلسه- وهو مجلس الأصل فى ديوان الخراج- إلى حامد وأجاب حامد وتردّدت بينهما مكاتبات فى هذا المعنى. وتبع ذلك كتب بشر بن علىّ، وهو خليفة حامد، يعتب على ابن جبير لما كان يتكلّم به فى مجلسه، فاستوحش حامد من ذلك وتخوّف أن يكون ما يظهره ابن جبير عن مواطأة الوزير ابن الفرات ولشيء قد عرفه من نيّته، فأنفذ من يسفر له فى الوزارة ويخاطب له نصرا الحاجب، فسعى له فى ذلك وعرّف نصر سعة نفس حامد وضمن له تصحيح أموال جليلة من جهة ابن الفرات وأسبابه، وراسل أيضا السيّدة فى هذا الباب. ووافق ما سعى له فيه وما بذله له سوء رأى نصر فى ابن الفرات وتخوّفه منه والإضافة التي عرضت فى الوقت حتّى طلب ما طلب، فتمّ لحامد ما قدّره بما اجتمع من هذه الأحوال. فروسل حامد بالخروج إلى الحضرة من واسط [128] وأن يكتب كتابا بخروجه إلى أجنحة الطير. فلمّا وقف عليه المقتدر أنفذ نصرا الحاجب وشفيعا المقتدري فقبضا على ابن الفرات وعلى ابنه المحسّن وموسى بن خلف وعيسى بن جبير وسعيد بن إبراهيم التستري وأمّ ولد له وابنها منه، وحملوا إلى دار السلطان فاعتقل أبو الحسن ابن الفرات وحده فى يد زيدان القهرمانة واعتقل الباقون فى يد نصر. ووصل حامد إلى مدينة السلام وأقام ليلته فى دار الحجبة من دار السلطان، وتحقّق به أبو القاسم ابن الحوارى. وجلس حامد يتحدّث، فبان للقوّاد وجميع خواصّ المقتدر حدّته وقلّة خبرته بأمر الوزارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وحدّث المقتدر بذلك فاستدعى أبا القاسم ابن الحوارى وعاتبه على مشورته به، فوصفه ابن الحوارى باليسار العظيم وباستخراج الأموال وهيبته عند العمّال ونبل النفس وكثرة الغلمان. وكان مع حامد لمّا قدم أربعمائة غلام يحملون السلاح فيهم عدّة يجرون مجرى وجوه القوّاد وأكابر أصحاب السلطان. وأشار ابن الحوارى على المقتدر فى عرض كلامه بإطلاق علىّ بن عيسى وتقليده الدواوين بأسرها ليخلف حامدا عليها فامتنع المقتدر من ذلك إلّا بعد أن يلتمسه حامد [129] منه، فاحتال ابن الحوارى على حامد وقال له: - «التمس ذلك من المقتدر إذا وصلت إلى حضرته وعظّم عليه أمر الأعمال والدواوين وحوائج الحاشية وخوّفه من سوء أدبهم [1] وصوّر لحامد أنّه إن لم يفعل ذلك فعل مراغمة له.» وحلف أنّه ناصح له. فلمّا وصل حامد إلى المقتدر بالله وتقلّد وزارته قبّل الأرض بين يديه، وبعقب ذلك سأله إطلاق علىّ بن عيسى والإذن له فى استخلافه على الدواوين والأعمال. فقال له المقتدر بالله: - «ما أحسب علىّ بن عيسى يجيب إلى ذلك ولا يرضى أن يكون تابعا بعد أن كان متبوعا رئيسا.» فقال حامد بحضرة الناس: - «لم لا يستجيب إلى ذلك وإنّما مثل الكاتب مثل الخيّاط يخيط ثوبا قيمته ألف دينار ويخيط ثوبا بعشرة دراهم.» فضحك الناس منه.   [1] . فى مط: من سوادهم. بدل «من سوء أدبهم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وزارة حامد بن العباس ولمّا خلع على حامد خلع الوزارة صار إلى دار الوزارة بالمخرّم، فنزلها وجلس فيها للتهنئة ولم يقرّر شيئا من الدواوين فتركها مختومة ذلك اليوم، وتحقّق به أبو علىّ بن مقلة واختصّ به واستحضر حامد أبا عبد الله زنجىّ الكاتب فألزمه داره وردّ إليه مكاتبة العمّال عنه على رسمه مع ابن الفرات. وتحقّق بجميع الأمور ابن الحوارى [130] وصار هو السفير بين حامد وبين المقتدر بالله، وكتب عن المقتدر إلى جميع أصحاب الأطراف وعمّال المعاون بخبر تقليده حامدا الوزارة، أنشأ ذلك أبو الحسن محمّد بن جعفر بن ثوابة. ثمّ قرّر حامد وعلىّ بن عيسى أمر الدواوين على اتفاق منهما جميعا ثمّ ابتدأ بعد ذلك يغيّر ما رأى تغييره. وكان علىّ بن عيسى فى أوّل أيّام وزارة حامد بن العبّاس يحضر دار حامد فى كلّ يوم دفعتين [1] مدّة شهرين، ثمّ صار يحضر فى كلّ أسبوع دفعة واحدة ثمّ سقطت منزلة حامد عند المقتدر بالله أوّل سنة سبع وثلاثمائة وتبيّن هو وخواصّه أنّه لا فائدة فى الاعتماد عليه فى شيء من الأمور، فتفرّد حينئذ أبو الحسن علىّ بن عيسى بتدبير سائر أمور المملكة، وأبطل حامدا فصار لا يأمر فى شيء بتّة حتّى قيل فيه: هذا وزير بلا سواد ... وذا سواد بلا وزير فلمّا رأى حامد بن العبّاس نفسه لا يأمر ولا ينهى ولا يزيد على لبس السواد والركوب فى أيّام المواكب إلى دار السلطان، فإذا حضر لم يدخله المقتدر فى شيء من التدبير، وكان الخطاب كلّه مع علىّ بن عيسى، شرع   [1] . فى مط: مرفقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 فى تضمّن أعمال الخراج والضياع [131] والخاصّة والعامّة المستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة بالسواد والأهواز وإصبهان، وتردّدت بينه وبين علىّ بن عيسى فى ذلك بحضرة المقتدر مناظرات إلى أن تضمّن هذه الأعمال. فضمّن حامد أبا علىّ أحمد بن محمّد بن رستم إصبهان بزيادة مائة ألف دينار فى كلّ سنة على ما كان يرتفع به على يده ويد ابن أبى البغل ويد أحمد بن سياه، ولمّا زال ضمان حامد عقد علىّ بن عيسى على أبى علىّ ابن رستم إصبهان بهذه الزيادة ثمّ شرح أبو الحسين ابن أبى البغل عظيم ما يرتكب [1] أبو علىّ ابن رستم من الظلم لأهل إصبهان، فبحث عنه علىّ بن عيسى حتّى تحقّقه، فاستشار ابن أبى البغل فأشار بعقد الضمان على صاحبين له كانا يتولّيان له بإصبهان مدّة تقلّده إيّاها وهما أبو مسلم محمّد بن بحر وأبو الحسين أحمد بن سعد. فعقد ذلك عليهما بثمانين ألف دينار زيادة وحطّ من جملة المائة الألف عشرين ألفا، ليكون فى ذلك ترفيه للرعيّة، وسلّم إليهما ابن رستم. ولمّا تبيّن حامد اتّضاع [2] حاله عند المقتدر ورأى أنّه لا يأمر ولا ينهى فى شيء من أمر المملكة استأذن فى العود إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل، فأذن له [132] المقتدر فى ذلك وأقام بواسط وله اسم الوزارة فقط. ذكر ما عامل به حامد بن العبّاس علىّ بن محمّد بن الفرات وأسبابه ركب حامد بن العبّاس وعلىّ بن عيسى ثالث يوم تقلّد حامد الوزارة إلى   [1] . فى مط: ما يركب. [2] . فى مط: اقطاع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 المقتدر ووصل الناس ووصلا [1] إليه، والتمس حامد الإذن لرجل من الجند وذكر أنّه وجده قبل تقلّده الوزارة وأقرّ له بأنّه كان رسول ابن الفرات إلى يوسف بن أبى الساج فى العصيان، فأحضره كتابا منسوبا إلى ابن أبى الساج من ابن الفرات فغلظ ذلك على المقتدر واغتاط على ابن الفرات وأقبل على أبى عمر القاضي وقال له: - «ما عندك فى هذا الفعل من ابن الفرات؟» قال له: - «يا أمير المؤمنين لئن صحّ أنّه أقدم على هذا الفعل لقد سعى فى إفساد أمر المملكة.» ثمّ أقبل بعده على أبى جعفر ابن البهلول القاضي فقال له: - «ما عندك فى هذا؟» قال له: - «عندي أنّ الله عزّ وجلّ قد أمر بالتثبّت ونهى عن قبول قول الفاسق.» ثمّ ناظر ابن البهلول الرجل مناظرة أدّت إلى أنّه كذب، فأقرّ الرجل بالكذب فيما ادّعاه فسلّم الرجل إلى صاحب الشرطة وأمر بضربه مائة سوط، فضرب [133] وحبس فى المطبّق ثمّ نفى إلى مصر. ثمّ إنّ حامدا وعلىّ بن عيسى أحضرا أبا علىّ الحسين بن أحمد المادرائى مناظرة ابن الفرات فى دار السلطان، فكاشف الحسين بن أحمد المادرائى ابن الفرات بأنّه حمل إليه فى وزارته الأولى أربعمائة ألف دينار من مال المرافق بأجناد الشام وإنّ أبا العبّاس بن بسطام وأبا القاسم ابنه بعده حملا إليه ثمانمائة ألف دينار من مال الاستثناء والمرافق بكور مصر حسابا فى كلّ   [1] . قرئ الكلمة فى مد: ودخلا. فى مط: ووصلا، كما أثبتناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 سنة مائتي ألف دينار. وحضر المناظرة القضاة والكتّاب وجلس المقتدر بحيث يسمع ما يجرى ولا يراه أحد واحتجّ ابن الفرات بأن قال: - «إنّ هذا العامل قد تولّى أعمال مصر والشام فى أيّام وزارة علىّ بن عيسى وقد اعترف بأنّ هذه أموال واجب استخراجها وادّعى أنّه حمل بعضها إلىّ حيث كان متقلّدا أعمال أجناد الشام وأنّ ابني بسطام حملا إلىّ ما ذكره.» وقد ولى علىّ بن عيسى الوزارة مدّة أربع سنين وليس يخلو هذا المال من أن يكون حمله إلى علىّ بن عيسى فهو واجب عليه أو لم يحمله فهو واجب على هذا العامل فى نفسه. ثمّ قد اعترف أنّه قد جبى فى أيّام وزارتي الأولى ما قال وهو أربعمائة ألف دينار [134] وادّعى حملها إلىّ فصار مقرّا على نفسه ومدّعيا علىّ وأنا أقول إنّه كاذب فى ادّعائه علىّ وحكم الله تعالى ورسوله والفقهاء معروف فى أمثاله. فأسمعه حامد ما يكره وشتمه شتما قبيحا، فقال له ابن الفرات: - «أنت على بساط السلطان وفى دار المملكة وليس هذا الموضع ممّا تعرفه من بيدر تقسمه [1] ولا هو مثل أكّار تشتمه ولا عامل تلاكمه.» ثمّ أقبل على شفيع اللؤلؤي وقال له: - «يجب أن تكتب عنّى بما أقوله إلى مولانا، أيّده الله: إنّ حامدا إنّما حمله على الدخول فى الوزارة وليس من أهلها أنّى أوجبت عليه أكثر من ألف ألف دينار من فضل ضمانه أعمال واسط وجدّدت فى مطالبته بها فقدّر بدخوله فى الوزارة أن يفوز بذلك الفضل وبما يحصّله مستأنفا وقد كان ينبغي   [1] . فى مط: من يبدر بقسمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 له وهو وزير أمير المؤمنين أن يدع ضمان أعمال واسط حتّى يتبيّن أمربح هو أم مخسر [1] فيدبّره أبو الحسن علىّ بن عيسى فإنّه لا يشكّ أحد فى بعد ما بينه وبين حامد فى الصناعة والاحتياط، فأمّا وهو وزير وهو ضامن فهذا أوّل خيانته واقتطاعه.» فأمر حامد بن العبّاس أن تنتف لحيته فلم يمتثل أحد أمره، فوثب هو بنفسه إليه وجذب لحيته. وكان [135] الخطاب قد انتهى أن بذل الحسين بن أحمد المادرائى خطّه بخمسمائة ألف دينار سلّم إليه ابن الفرات، وكان ذلك قبل شتيمة حامد له ومدّ يده إلى لحيته. وكان حامد أحضر أبا علىّ ابن مقلة وواقفه على أن يواجه ابن الفرات بأنّه قد استخرج من ودائعه التي كتمها فى وزارته خمسمائة ألف دينار فلم يبرز أبو علىّ صفحته لابن الفرات وراسله حامد فى المجلس أن [2] يفي بوعده ويوافقه فى وجهه فقال أبو علىّ: - «أنا أكتب خطّى بذلك فأمّا أن أواجه ابن الفرات فلا أفعل.» فغلظ ذلك على حامد وتنكّر لابن مقلة منذ هذا اليوم. وكان علىّ بن عيسى لا يزيد على أن يكلّم ابن الفرات فى مواضع الحجّة بكلام جميل وحامد مشغول بالسفه والشتم. وكان ابن الحوارى يرى ابن الفرات أنّه متوسّط بينه وبين حامد وتبيّن فى خطابه أنّه متحامل على ابن الفرات ولمّا سمع المقتدر شتم حامد لابن الفرات و [3] وقف على مدّ يده إلى لحيته أنفذ خادما [4] أقام ابن الفرات من مجلسه وردّه إلى محبسه، فقال علىّ   [1] . فى مط: أيربح، أم يخسر. [2] . تكررت «أن» فى الأصل. [3] . فى مط: وقف (دون الواو) . [4] . كذا فى الأصل: خادما. وفى مط: حامدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 بن عيسى وابن الحوّارى لحامد: - «قد جنيت علينا بما فعلته بابن الفرات.» وكان الحسين بن أحمد المادرائى بعد مكاشفته لابن الفرات قال له: - «إن تأدّى إلى المصادرة [136] تحمّلت عنك خمسين ألف دينار.» فلمّا خرج من المجلس قال له نصر الحاجب وعلىّ بن عيسى وابن الحوارى: - «دخلت لتناظر الرجل فلم تبرح حتّى بذلك له مرفقا وصانعته.» فقال لهم: - «أدخلتمونى إلى رجل قال لى بعضكم لمّا دخلت إليه: أنظر لمن تخاطب. وقال آخر: أنظر بين يديك. وقال آخر: الله الله فى نفسك. فلم أجد شيئا أقرب إلى الصواب ممّا فعلته بعد أن سمعت كلامه.» فمن جميل ما عمله ابن الفرات أنّه لمّا تقلّد بعد هذا الوقت الوزارة وهي وزارته الثالثة قبض على ابن الحسين بن أحمد [1] المادرائى وهو أكبر أولاده فأخذ خطّه بخمسة [2] وعشرين ألف دينار كانت واجبة عليه من مال السلطان ولم يطالبه بها واعتقله إلى أن وافى أبوه الشام، فذكّره ابن الفرات ما كان بذله من الخمسين الألف الدينار التي تحمّلها عنه وقال له: - «قد كنت مخيّرا أن تفعل وأن لا تفعل وإنّما وعدت وعدا وهذه رقعة بخطّ ابنك بخمسة وعشرين ألف دينار وهي واجبة عليه حاصلة قبله ولا حجّة له ولا لك فيها وقد رددتها عليك مكافأة لك على ما بذلت. وقد كان أنفذ أبو أحمد بن حمّاد لمناظرة ابن الفرات بحضرة شفيع اللؤلؤي وغيره فافتتح ابن حمّاد الخطاب بأن قال:   [1] . سقط من مط «بن أحمد» . [2] . فى مط: بخمس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 - «إنّ [137] الوزير والرئيس أدام الله عزّهما يقولان لك: أصدق نفسك فقد وصل إليك من ضياعك وغلّاتك فى كلّ سنة ألف ألف ومائتا ألف دينار ومن وجوه ارتفاقاتك مثلها وهذا مال عظيم، فاكتب خطّك بألف ألف دينار معجّلة تقدّمها إلى أن ينظر فى أمرك حتّى تسلم نفسك وإلّا سلّمت إلى من يعاملك بما يعامل به مثلك من الخونة الذين دبّروا على المملكة فقد صحّ عند السلطان أنّك كاتبت ابن أبى الساج وأمرته بالعصيان.» فقال له ابن الفرات: - «قد كان ينبغي أن يشغلك أمرك وما عليك فى نفسك عن تحمّل الرسائل قد تصرّفت لعلّى بن عيسى أربع سنين واقتطعت أموالا، فلمّا نظرت فى الأمر استترت عنّى وكتبت إلىّ من تصرّف مكانك باستدراكات عليك وارتفاقات لك كثيرة والكتب بأعيانها فى ديوان السلطان محفوظة.» فأقبل شفيع على ابن حمّاد فقال له: - «لست من رجال ابن الفرات، فقم إلى ابنه المحسّن فناظره.» فقام وأخذ خطّ المحسّن بثلاثمائة ألف دينار. ثمّ ناظر موسى بن خلف وسأله عن ودائع ابن الفرات وأمواله فقال له موسى: - «ما له عندي وديعة ولا أعرف أخبار ودائعه ولا [138] له على يدي مال ولا وليت له عملا سلطانيا وإنّما كنت أنظر فى نفقات داره.» وكان موسى ابن خلف شيخا كبيرا قد أتت عليه نحو تسعين سنة وكان مع ذلك عليلا به ذرب لا فضل فيه [1] للمكروه فشتمه ابن حمّاد. وكان يتردّد بعد ذلك إلى أصحاب ابن الفرات ويناظرهم فلا يرتفع له شيء. وكان علّق المحسّن بفرديد من حبل الستارة فلم يصح له من جهته شيء. فلمّا رأى   [1] . فى مط: درب لا فصل فيه. وفى مد: لا فضل له (خلافا للأصل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 ذلك استعفى منهم فأعفى وأحضر حامد موسى بن خلف فقال له: - «دلّ على أموال ابن الفرات فإنّك تعرفها ولا تحوج إلى مكروه يقع بك.» فقال له: «أحلف بما شئت من الأيمان إنّى لا أعرف شيئا من ودائعه.» فأمر بصفعه فصفع إلى أن سأل علىّ بن عيسى فيه وأشار إلى الغلمان بالكفّ. ثمّ عاوده حامد بالمكروه مرّات حتّى أحضره ليلة بين يديه وضربه حتّى مات تحت الضرب فقيل له: - «إنّه قد تلف [1] .» فقال: «اضربوه.» فضرب بعد موته سبعة عشر [سوطا] [2] فلمّا علم بموته أمر بجرّ رجله، فجرّ وتعلّقت أذنه فى رزّ عتبة الباب فانقلعت وحمل إلى منزله ميتا. واستحسن من فعل موسى بن خلف ووفائه أنّه كان يقف على أموال مودعة لصاحبه عند جماعة فلم يقرّ عليه [139] إلى أن تلف. وأحضر حامد المحسّن وطالبه فذكر المحسّن أنّه لا يقدر على أكثر من عشرين ألف دينار فأمر بصفعه فصفع فرأى على رأسه شعرا كثيرا فقال: - «هذا لا يتألم بالصفع، هاتوا من يحلق شعره.» فأخرج من بين يديه فحلق شعره ثمّ أعيد [3] إليه فصفعه حتّى كاد يتلف وذلك بين أيدى جماعة كثيرة، فشفع إليه علىّ بن عيسى وسأله أن يقتصر منه على خمسين ألف دينار، فحلف أنّه لا يقنع منه بدون سبعين ألف دينار، فبذل خطّه بها وألبسه جبّة صوف وعذّبه ألوانا ثمّ سلّمه إلى أبى الحسن   [1] . فى مط: أتلف. [2] . زدناه كما زيد فى مد. [3] . كذا فى الأصل: أعيد. وفى مط: اعتد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 الثعبانى فأدّى ستين ألف دينار بعد أن استماح الناس وأسعفه علىّ بن عيسى بعشرة آلاف درهم وأقام شهورا كثيرة يستميح الناس حتّى صحّح ما بذل خطّه به وكثرت الشفاعات فيه فردّه حامد إلى منزله. وجهد حامد فى أن يسلّم إليه ابن الفرات فقال المقتدر: - «أنا أسلّمه إليك وأوكّل به خادما يحفظ نفسه.» فقال حامد: - «إذا علم ابن الفرات أنّه يحرس من المكروه تماتن.» فقال المقتدر: - «أنا أسلّمه [1] إلى علىّ بن عيسى أو إلى شفيع اللؤلؤي فإنّى أثق بهما.» وكان المقتدر يروّى [2] فى أمر ابن الفرات فتارة تشره نفسه إلى [140] المال وتارة يكره أن يتلف فى يد حامد. فعرفت زيدان القهرمانة هذه الحالة من المقتدر وأعلمتها ابن الفرات، فأظهر ابن الفرات أنّه رأى أخاه أبا العبّاس فى النوم ووصّاه وقال له: - «أدّ المال فإنّ القوم ليس يريدون نفسك وإنّما يريدون مالك.» وأنّه قال: - «قد أدّيت إليهم جميع مالي.» وأنّ أخاه أجابه بأن قال [3] : - «لم تؤد إليهم المال الفلاني.» فقلت: «إنّ معظم ذلك لورثتك.» فقال: «أدّه فإنّا جمعناه من أسلافهم وادّخرناه لمثل هذا اليوم.»   [1] . أسلّمه: كذا فى الأصل. وما فى مط: أصله. [2] . يروّى فى أمر ابن الفرات: العبارة سقطت من مط، ولا بدع. [3] . فى مد: قال له: بزيادة «له» على الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 ثمّ كتب إلى تاجرين بحمل ما عندهما وهو سبعمائة ألف دينار إلى حضرة المقتدر. وكتب إلى أبى بكر ابن قرابة بشيء آخر وإلى ابن إدريس الحمّال بشيء آخر، فأنفذ المقتدر رقاعة إلى حامد وعلىّ بن عيسى فغلظ ذلك عليهما ويئسا معهما [1] من تسلّم ابن الفرات وقال علىّ بن عيسى وابن الحوارى لحامد: - «أىّ شيء عندك فيما فعله ابن الفرات؟» فقال حامد: - «هذا من إقبال مولانا أمير المؤمنين.» فقال له علىّ بن عيسى: - «هذا لا شكّ فيه كما قال الوزير، أيّده الله، ولكن ما أشكّ أنّ ابن الفرات ما فعل هذا حتّى توثّق بنفسه ولا سمح بهذا المال العظيم عفوا بغير مكيدة [2] وقد كان يجوز أن يقنع [3] منه [141] ببعضه إلّا لشروعه فى تضمّن أنفسنا وأحوالنا.» فقال حامد وابن الحوارى: - «هذا لا شكّ فيه.» ثمّ تشاغل حامد وعلىّ بن عيسى باستحضار من عليه المال وأوصلوا إليهم رقاع ابن الفرات فاعترفوا بحصّته سوى ابن قرابة فإنّه قال فى عشرة آلاف دينار كان أودعه إيّاها: - «قد كان أودعنى [4] هذا المال ثمّ ابتاع منّى فى أوّل سنة ستّ وثلاثمائة   [1] . فى مد: معها (تغييرا للأصل) . [2] . فى مط: عفوا بغير تعيين مكروه. بدل «عفوا بغير مكيدة» . [3] . فى الأصل: يقنع (بشيء من الغموض) فى مط أيضا: يقنع. فى مد: يقع. [4] . فى مط: أوجعنى، بدل «أودعنى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 عنبرا ومسكا كثيرا أهدى أكثره إلى المقتدر بالله واليسير منه لنفسه ومعى توقيعاته بخطّه بتواريخ أوقاته.» واستدعى أن يجمع بينه وبين ابن الفرات فأنفذه حامد إلى دار السلطان وأوصله مفلح إلى ابن الفرات حتّى ذكر له ذلك فصدّقه وقال له: - «لا تلمني على ما كتبت به فقد كنت أنسيت ما جرى فيه ولعمري لقد كنت جعلت مال الوديعة محسوبا لك فى ثمن العطر.» وكتب ابن الفرات خطّه بصحة ما قاله ابن قرابة فسلّمت الدنانير لابن الفرات وكان هذا الفعل من ابن قرابة أوكد أسباب تحقّقه فيما بعد ذلك بابن الفرات. وقد كان ابن الفرات أودع القاضي أبا عمر مالا لابنه الحسن بن دولة فلحقت أبا عمر رهبة شديدة من حامد لبسطه يده على القضاة والشهود [142] فاعترف أبو عمر القاضي أنّ لابن الفرات عنده وديعة لمّا سأله حامد هل عنده وديعة. فأمر بإحضاره فأحضره وأدّاه وبلغ ذلك ابن الفرات فتنكّر لأبى عمر. فحكى أنّ أبا بكر ابن قرابة قال: لمّا خلع على ابن الفرات للوزارة الثالثة كنت أوّل من لقيه فى دهليز الحجبة المتصل بباب الخاصة فقال: - «يا با بكر تقرّب أبو عمر بوديعتى وعرّضنى [1] .» قال: فقلت: - «الوزير أيّده الله صادق فمن أخبره؟» فأومأ إلى زيدان القهرمانة وأن القاضي أبا عمر عرف تنكّر الوزير له. ووصل إلى منزله وقت العشاء الآخرة فإذا فأبى عمر وابنه جالسين فى مسجد على [2] بابه فأكبر ذلك ونزل إليهما فحلفا عليه أن يدخل إلى منزله   [1] . فى مط: وغرضي. [2] . على: سقطت من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 ودخلاه بدخوله فقالا له: - «خبر المجلس عندنا، فما الذي ترى؟» فقال لهما: - «إزالة الاعتذار والإحتجاج وردّ المال.» فاستجابا، وكان مبلغ المال ثلاثة آلاف دينار وسألاه التسكين عنهما لئلا يعاجلا فبكّر ابن قرابة إلى ابن الفرات فقال له: - «قد جاءني أبو عمر القاضي وابنه قلقين، وذكرا أنّ المال بحاله.» فقال: - «الحمد لله ربّ العالمين.» فلمّا كان فى اليوم الثاني من ذلك حمل أبو بكر الثلاثة الآلاف الدينار فى برنيّة [1] كانت ضمّنت الوديعة فلمّا رآها ابن الفرات عجب [143] وأمر بتسلّمها: وعدنا إلى خبر حامد فى وزارته ولمّا رأى حامد وعلىّ بن عيسى تمكّن ابن الحوارى من المقتدر بالله خرج توقيع حامد بخطّ علىّ بن عيسى بتقليد ابن الحوارى جميع أعمال الإعطاء [2] فى العساكر لسائر نواحي المغرب من حدّ هيت إلى آخر حدود مصر، وأن يقام له من الرزق مثل ما كان يقام لجميع من كان ينظر فى ذلك فى آخر أيّام وزارة ابن الفرات الثانية، وأن يقلّد ابنه- وكانت سنّة فى الحال نحو عشر سنين- ويجرى عليه ما مبلغه فى الشهر مائة وخمسون دينار وقلّد ابنه هذا بيت مال الإعطاء بالحضرة بحقّ الأصل بجاري مائة وثمانين   [1] . الكلمة مهملة تماما فى مط. [2] . كذا فى الأصل: الإعطاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 دينارا فى الشهر واستخلف له عليه المعروف بقاطر ميز الكاتب. وزاد بعد ذلك اختصاص ابن الحوارى وخدمته له فى خلواته وكان يشاوره فى أموره فقلّد أعمالا أخر وأجرى عليه واستخلف له عليها. فكان يصل إليه مال عظيم ولا يباشر شيئا من الأعمال ولا يدرى ما يجرى فيها. وصرف نزار عن الشرطة بمدينة السلام وقلّد نجح الطولونى واستخلف عليها وأقام فى الأرباع فقهاء يعمل أصحاب الشرط فى أمر الجناة بما يفتون به فى أمرهم فضعفت هيبة الشرطة بذلك واستلان [1] اللصوص والعيّارون جانب نجح [144] فكثرت الجراحات والفتن وتفاقم الأمر فى التلصّص وكان العيّارون يقولون: أخرج ولا تبالي ... ما دام نجح والى. ودخلت سنة سبع وثلاثمائة كان غرض حامد فى الضمانات على النواحي التي ذكرناها تفرّد علىّ ابن عيسى بتدبير المملكة وإبطاله أمر حامد. فتضمّن حامد بهذه النواحي ليكون له بالحضرة أمر ونهى وليوفّر من هذه الأعمال ما يبطل به السوق التي قامت لعلىّ بن عيسى عند المقتدر بالكفاية والعفاف. وإنّما لم يدخل أعمال فارس فى ضمانه لأنّها كانت فى ضمان أبى القاسم ابن بسطام وكان النعمان يشير على حامد بترك الدخول فى الضمان فإنّه زعم أنّه تسقط هيبته عند الناس ويصير علىّ بن عيسى المطالب له بالأموال والمتحكّم عليه. وكان أبو عيسى أخو أبى صخرة قديم الصداقة لحامد وكان يشير عليه بالضمان ليتبيّن أثره وأن يتضمّن بعبرة سنى علىّ بن عيسى خاصّة ليكون ما   [1] . فى مط: واستيلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 يثيره- وهو شيء كثير وافر- استدراكا على علىّ بن عيسى. فمال حامد إلى هذا الرأى وخاطب علىّ بن عيسى بحضرة المقتدر وقال له: - «قد تفرّدت بتدبير الأمور دوني وليس ترى أن تشاورنى فى شيء تعمله ولا بدّ من صدق أمير المؤمنين. فقد أضعت بالسواد والأهواز وإصبهان أربعمائة [145] ألف دينار فى كلّ سنة وأنا أضمن هذه الأعمال أربع سنين بعبرة المحمول والمسبّب [1] فى سنى وزارتك وزيادة أربعمائة ألف دينار فى كلّ سنة.» فأجابه علىّ بن عيسى بأنّه لا يستصوب تضمينه هذه الأعمال لأنّ مذهبه فى خبط [2] الرعيّة وإحداث السنن وضرب الأبسار معروف ومن عمل بهذه السيرة فهو لا محالة يوفّر سنة أو أكثر ثمّ تخرّب خرابا لا يتلافى فى سنين فيبطل الارتفاع ويسيء الذكر. فتخاصما خصومة طويلة فقال المقتدر: - «هذا توفير من حامد ولا يجوز تركه فإن ضمنت أنت هذه النواحي بما ضمنه حامد ضمّنتك.» فقال علىّ بن عيسى: - «أنا كاتب وليست بعامل وحامد أولى بالضمان لا سيّما وقد بذل ما بذل راغبا والأثر فى ذلك يا أمير المؤمنين، لأنّى قد عمرت البلدان لرفقى بالرعيّة وتقليدي من العمّال من أزال المؤن عنهم، وسنة سبع قد تناهت عمارتها وليس يقدر أن يقول إنّه يتضمّنها ليستزيد فى عمارتها لأنّ أيّام العمارة قد انقضت منذ مدّة.» فأمر المقتدر بعقد الضمان على حامد وأخذ خطّه به فخرجا. وتقدّم علىّ بن عيسى إلى أصحاب الدواوين بإخراج العبر من دواوينهم   [1] . ما فى الأصل نصف مطموس. وما أثبتناه هو من مط. فى مد أيضا: المسبّب. [2] . فى مط: خط الرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 بعبر السنين القريبة لأنّها أوفر [146] فأخرج عبرة المحمول والمسبّب مع مال النفقات الراتبة فى نواحي السواد والأهواز لسنة من ثلاث سنين أولاهن سنة ثلاث وأخراهن [1] سنة خمس وثلاثمائة- ثلاثة وثلاثين ألف ألف درهم. وأخرج عبرة الضياع الخاصّة والمستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة للمحمول والمسبّب ثمانية آلاف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم وأخرج عبرة مال إصبهان مع النفقات الراتبة بقسط سنة واحدة من ثلاث سنين ستّة آلاف ألف وثلاثمائة [2] ألف درهم تصير الجميع لسنة واحدة ثمانية وأربعين ألف ألف درهم ومائة ألف درهم والزيادة التي بذلها حامد وهي عن قيمة أربعمائة ألف دينار خمسة آلاف ألف وثمانمائة ألف درهم مبلغ الجميع ثلاثة وخمسون ألف ألف وتسعمائة ألف درهم. والتمس حامد بن العبّاس من المقتدر بالله أن يأمر بتسليم جماعة من الكتّاب إليه ليوليهم كتابته على ديوان ضمانه واختار عبيد الله بن محمّد الكلواذى وأحمد بن محمّد بن زريق وغيرهما، فتقدّم المقتدر بإجابته إلى ما سأله بعد أن عقد علىّ بن عيسى عليه الضمان باسم صاحبه محمّد بن منصور وأخذ خطّ حامد بتضمّنه عنه ما عقده باسمه واعتمد حامد بن العبّاس على عبيد الله بن محمّد الكلواذى فكان ينظّم الأعمال التي يخرجها كتّاب حامد ويتولّى المواقفة عن [147] حامد فى دار السلطان ويرفق فى المناظرة ويستعمل الحجّة فقط. واعتمد علىّ بن عيسى على الصقر بن محمّد فى مناظرة كتّاب حامد، فكان حامد إذا حضر لا يزيد على الشتم والسبّ لعلىّ بن عيسى وذكره بالقبيح فى نفسه وأسلافه واستعمل فى ذلك ما فضح به المملكة وشاع فى   [1] . فى مط: أخواهنّ، وهو تصحيف. [2] . فى مط: ستّمائة ألف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 الخاصّ والعامّ الخبر به ثمّ أصلح المقتدر بينهما بحضرته. وأسرف علىّ بن عيسى فى الإلحاح على حامد فى حمل المال واحتاج حامد إلى أن يستأذن فى الخروج إلى الأهواز فأذن له وذكر أبو القاسم الكلواذى أنّه يضعف عن مقاومة علىّ بن عيسى عند غيبته، فنصب حامد صهره أبا الحسين محمّد بن أحمد ابن بسطام للنيابة عنه فى دار السلطان عند المناظرة ولإعزار [1] الكلواذى ليستوفى حجّته وظهرت فى ذلك الوقت صناعة الكلواذى وكفايته وصحة عمله فكان ذلك من أكبر أسباب نباهته. وجرى خلاف كثير بين كتّاب حامد وبين كتّاب علىّ بن عيسى يطول ذكرها، ورضى حامد بوساطة النعمان فيها وكتب بذلك وتوسّط النعمان وقرّر الأمر من سائر أبواب الخلاف على مائة ألف دينار بقسط سنة واحدة. وكتب ابن بسطام والكلواذى إلى حامد وهو [148] بالأهواز بصورة ما تقرّرت عليه الحكومة، فدبّر حينئذ حامد فى ذلك تدبير الشيوخ المجرّبين. فكتب إلى المقتدر كتابا وأنفذ مع غلام له فأوصل نصر الكتاب مختوما إلى المقتدر فوجده قد ذكر فيه أنّه لم يدخل فى هذا الضمان لاستجلاب فائدة لنفسه ولا للربح على السلطان وإنّما أراد أن يبيّن عن خبرته بالأعمال وحفظ الأموال وقبح آثار علىّ بن عيسى فيما تولّاه قديما وحديثا وأنّه كان بذل زيادة أربعمائة ألف دينار فى كلّ سنة، وأنّه لمّا صار بالأهواز لاحت له زيادة مائتي ألف دينار فى سنة سبع على أربعمائة ألف دينار، فوفّر ذلك وكتب كتابه بخطّه حجّة عليه لينضاف ذلك إلى الزيادة الأولى ويثبت فى الدواوين. فسرّ المقتدر بذلك وأمر بتقوية يد حامد وأن يقتصر بعلىّ بن عيسى على   [1] . لم نتأكّد من صحّة القراءة. ما فى مط مهمل دون أىّ نقط. وقرئ فى مد: اغرار. والنقطة فى الأصل على الراء بفاصلة غير معتادة. والإعزار: الإعانة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 النظر فى حوائج القوّاد والحاشية والاحتياط فيما يطلق من الأموال فى النفقات فإنّه بذلك أبصر من حامد، وبإفراد حامد بجباية الأموال والنظر فى النواحي. وخاف علىّ بن عيسى أن تقوى يد حامد فيسلّم إليه. واتفق بعقب ذلك أن تحرّكت العامّة ثمّ الخاصّة بسبب زيادة السعر وشغبوا [149] شغبا عظيما متصلا أشفى به الملك على الزوال وبغداد على الخراب. فادّعى كتّاب حامد وأسبابه ومن يميل إليه أنّ علىّ بن عيسى حمل العامّة وأكثر الخاصّة على الشغب لأنّ السعر لم يكن زاد زيادة توجب ما خرجوا إليه وإنّما بلغ الخبز الحوارى ثمانية أرطال بدرهم. ذكر ما اضطرب لأجله أمر حامد بن العبّاس حتّى فسخ ضمانه تجمّع الناس وقوم من أماثل العامّة فتظلّموا من زيادة السعر وضجّوا فى وجه علىّ بن عيسى لمّا ركب، ثمّ نهب العامّة دكاكين الجماعة من الدقّاقين ببغداد ثمّ اجتمعوا إلى باب السلطان فضجّوا. فتقدّم المقتدر إلى ابن الحوارى بأن يكتب إلى حامد بأن يبادر إلى الحضرة [1] وينظر فى أمر الأسعار فيزيل التربّص ببيع الغلّات لتنحطّ الأسعار، فنفذ الكتاب بذلك فخرج حامد من الأهواز وأنفذ المقتدر ماهر [2] الخادم لاستعجاله. وخرج أصحاب الدواوين والقوّاد لتلقّيه وخرج نصر وابن الحوارى فتلقّياه وخرج علىّ بن عيسى فتلقّاه، ووصل إلى المقتدر بالله فخاطبه بجميل وعرّفه   [1] . فى مد: الحضور (تغييرا للأصل) . [2] . فى مط: ما هو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 إحماده إيّاه على ما وفّره وأمر بأن يخلع عليه فخلع عليه وحمل على شهرىّ وانصرف إلى منزله. [150] وتحرّك الجند لغد [1] ذلك اليوم فى دار السلطان وضجّوا لارتفاع السعر، وتحرّكت العامّة فى المساجد الجامعة ببغداد وكسروا المنابر وقطعوا الصلاة بعد الركعة الأولى واستلبوا الثياب ورجموا بالآجرّ وكثرت الجراحات واجتمع منهم فى المسجد الجامع الذي فى دار السلطان عدد كثير على نصر الحاجب فوثبوا عليه ورجموه بالآجرّ. ثمّ صاروا فى ذلك اليوم إلى دار حامد بن العبّاس فأخرج إليهم غلمانه فرموهم بالآجرّ والنشّاب وقتل خلق من العامّة فحملوا على الجنائز وشنّعوا بهم. ووجّه حامد جماعة من غلمانه ومعهم ديوداذ بن محمّد وهو ابن أخى يوسف بن أبى الساج، فدخلوا المسجد الجامع بالجانب الغربي على دوابّهم فقتلوا جماعة وقتل أيضا من الجند عدّة وبات الناس ليلة السبت على صورة قبيحة من الخوف على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وضعف صاحب الشرطة عن مقاومتهم لكثرة من تجمّع من العامّة. فلمّا أصبحوا يوم السبت صار من العامّة عدد كثير إلى الجسور فأحرقوها وفتحوا السجون ونهبوا دار صاحب الشرطة ودار غيره، فأنفذ المقتدر جماعة من الغلمان الحجرية [151] فى شذاءات عدّة لمحاربة العامّة وركب هارون بن غريب [2] الخال فى جيش عظيم إلى باب الطاق فأحرق مواضع وتهارب العامّة من بين يديه إلى المسجد الجامع بباب الطاق ووكّل هارون بباب المسجد وقبض على جميع من وجده ولم يفرّق بين المستور والعيّار وحملهم   [1] . قرئ الأصل فى مد: بعد. [2] . فى مط: عريب الحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 إلى مجلس الشرطة فضرب بعضهم بالسوط وبعضهم بالدرّة وقطع أيدى قوم عرفوا بالإفساد. ثمّ ركب يانس [1] الموفقى يوم الأحد فسكّن الناس ونادى فيهم وزالت الفتنة، ثمّ ركب حامد فى طيّاره يريد دار السلطان فقصده العامّة ورجموه بالآجرّ، فأمر المقتدر شفيعا المقتدري بالركوب لتسكين العامّة، فركب وسار فى الجانب الغربي وفيه كانت الفتنة، فسكّن الناس ثمّ قبض على جماعة من العامّة فضرب بعضهم بالسوط وقطعت أيدى قوم عرفوا بالرجم. وضجّت الرجّالة المصافية [2] فى دار السلطان من زيادة السعر فتقدّم المقتدر بالله بفتح الدكاكين والبيوت التي لحامد وللسيّدة والأمراء أولاد الخليفة والوجوه من أهل الدولة وبيع الحنطة بنقصان خمسة دنانير فى الكرّ وبيع الشعير بحسب ذلك وبمطالبة التجار والباعة أن يبيعوا بمثل هذا [152] السعر فركب هارون بن غريب ومعه إبراهيم بن بطحاء المحتسب فسعّر الكرّ المعدّل بخمسين دينارا وتقدّم إلى الدقّاقين بذلك فرضي العامّة وسكنوا وانحلّ السعر. فسخ الضمان عن حامد بن العبّاس وخرج توقيع المقتدر إلى حامد بن العبّاس بفسخه عنه الضمان لأجل الفتنة وضجيج العامّة من زيادة السعر وتوقيع إلى علىّ بن عيسى بأن يدبّر هو الأعمال بالسواد والأهواز وإصبهان ويقلّدها [3] العمّال من قبله وأن يكتب عنه كتابا إلى العامّة يقرأ فى الشوارع والأسواق ثمّ على المنابر بأنّه قد زال   [1] . ما فى مط: مهمل من دون نقط. [2] . فى مط: المصافة. [3] . قرئ الأصل فى مد: وتقليدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 ضمان حامد بن العبّاس وحظر على جميع الوجوه والقوّاد والغلمان أن يتضمّنوا بشيء من الأعمال. وكتب حامد إلى عمّاله بالانصراف من الأعمال وتسليمها إلى عمّال علىّ بن عيسى وانخزل حامد بن العبّاس لذلك. ودخلت سنة ثمان وثلاثمائة وفيها ورد الخبر من مصر بحركة الفاطمي إليها فأخرج مونس الخادم إليها. وفيها خلع على أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان وقلّد طريق خراسان والدينور وخلع على أخويه أبى العلاء وأبى السرايا. وفيها ورد رسول أخى صعلوك [1] بالمال والهدايا فخلع [153] عليه. ودخلت سنة تسع وثلاثمائة وفيها وردت الكتب وقرأت على المنابر بهزيمة المغربي واستباحة عسكره. وفيها لقّب مونس: المظفّر، وأنشئت [2] الكتب به عن المقتدر بالله إلى أمراء النواحي وعقد له على مصر والشام. وفيها دخل رسول صاحب خراسان برأس ليلى بن النعمان الديلمي الذي خرج بطبرستان. وفيها اشتهر أمر الحلّاج واسمه الحسين بن منصور حتّى قتل وأحرق.   [1] . والعبارة فى مط: وفيها وصل أخى صعلوك (بتغيير وإسقاط) . [2] . فى مط: وأنبثّت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 ذكر خبر الحسين بن منصور الحلّاج وما آل إليه أمره من القتل والمثلة انتهى إلى حامد بن العبّاس فى أيّام وزارته أنّه قد موّه على جماعة من الحشم والحجّاب وعلى غلمان نصر الحاجب وأسبابه وأنّه يحيى الموتى وأنّ الجنّ يخدمونه فيحضرونه ما يشتهيه وأنّه يعمل ما أحبّ من معجزات الأنبياء. وادّعى جماعة أنّ نصرا مال إليه وسعى قوم بالسمرّى وببعض الكتّاب وبرجل هاشمىّ أنّه نبىّ الحلّاج وأنّ الحلّاج إله- عزّ [1] الله وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا. فقبض عليهم وناظرهم حامد فاعترفوا بأنّهم يدعون إليه وأنّه قد صحّ عندهم أنّه إليه يحيى الموتى وكاشفوا الحلّاج بذلك [154] فجحده وكذّبهم وقال: - «أعوذ بالله أن أدّعى الربوبيّة والنبوّة وإنّما أنا رجل أعبد الله عزّ ذكره وأكثر الصوم والصلاة وفعل الخير ولا غير.» واستحضر حامد بن العبّاس أبا عمر القاضي وأبا جعفر ابن البهلول القاضي وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود واستفتاهم فى أمره، فذكروا أنّهم لا يفتون فى قتله بشيء إلى أن يصحّ عندهم ما يوجب عليه القتل وأنّه لا يجوز قبول قول من ادّعى عليه ما ادّعاه- وإن واجهه- إلّا بدليل وإقرار منه. فكان أوّل من كشف أمره رجل من البصرة تنصّح فيه وذكر أنّه يعرف أصحابه وأنّهم متفرّقون فى البلدان يدعون إليه وأنّه كان ممّن استجاب له ثمّ   [1] . فى مط: أعز الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 تبيّن مخرقته ففارقه وخرج عن جملته وتقرّب إلى الله بكشف أمره. واجتمع معه على هذه الحال أبو علىّ هارون بن عبد العزيز الأوارجى [1] الكاتب الأنبارى وقد كان عمل كتابا ذكر فيه مخاريق الحلّاج وحيله فيه وهو موجود فى أيدى جماعة والحلّاج حينئذ مقيم فى دار السلطان موسّع عليه مأذون لمن يدخل إليه وهو عند نصر الحاجب. وللحلّاج اسمان: أحدهما الحسين بن منصور والآخر محمّد بن أحمد الفارسي، وكان استهوى [155] نصرا وجاز عليه تمويهه وانتشر له ذكر عظيم فى الحاشية فبعث به المقتدر إلى علىّ بن عيسى ليناظره فأحضر مجلسه وخاطبه خطابا فيه غلظة فحكى أنّه تقدّم إليه وقال له فيما بينه وبينه: - «قف حيث انتهيت ولا تزد عليه شيئا وإلّا قلبت عليك الأرض.» وكلاما فى هذا المعنى. فتهيّب علىّ بن عيسى مناظرته واستعفى منه ونقل حينئذ إلى حامد بن العبّاس. الحلّاج وبنت السّمرّيّ وكانت بنت السمرّى صاحب الحلّاج قد أدخلت إلى الحلّاج وأقامت عنده فى دار السلطان مدّة وبعث بها إلى حامد ليسألها عمّا وقفت عليه من أخباره وشاهدته من أحواله. فذكر أبو القاسم بن [2] زنجى [3] أنّه حضر دخول هذه المرأة إلى حامد بن العبّاس وأنّه حضر ذلك المجلس أبو علىّ أحمد بن نصر البازيار من قبل أبى   [1] . فى مط: الأوراحى (بالحاء المهملة) . [2] . فى الأصل ومط: ابو القاسم الزّنجى. وفى المواطن الآتية: ابو القاسم بن زنجىّ، فوحّدنا الضبط. وهو يوافق ما فى صلة عريب: 88، 91. [3] . الزنجي: كذا فى الأصل ومط. فى مد: زنجى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 القاسم ابن الحوارى ليسمع ما تحكيه. فسألها حامد عمّا تعرفه من أمر الحلّاج، فذكرت أنّ أباها السمرّى حملها إليه وأنّها لمّا دخلت إليه وهب لها أشياء كثيرة عدّدت أصنافها. قال أبو القاسم: وهذه المرأة كانت حسنة العبارة عذبة الألفاظ مقبولة الصورة فكان ممّا أخبرت عنه أنّه قال لها: - «قد زوّجتك من سليمان ابني وهو أعزّ أولادى علىّ [156] وهو مقيم بنيسابور وليس يحلو أن يقع بين المرأة والرجل [1] كلام أو تنكر منه حالا من الأحوال وأنت تحصلين عنده وقد وصّيته [2] بك فإن جرى منه شيء تنكرينه فصومي يومك واصعدي آخر النهار إلى السطح وقومي على الرماد والملح الجريش [3] واجعلي فطرك عليهما واستقبليني بوجهك واذكري لى منه ما تنكرينه منه، فإنّى أسمع وأرى.» قالت: وأصبحت يوما وأنا أنزل من السطح إلى الدار ومعى ابنته وكان قد نزل هو فلمّا صرنا على الدرجة بحيث يرانا ونراه قالت لى ابنته: - «اسجدي له.» فقلت لها: - «أو يسجد أحد [4] لغير الله؟» قالت: فسمع كلامي لها فقال: - «نعم، إله فى السماء وإله فى الأرض.» قالت: ودعاني إليه وأدخل يده فى كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعه   [1] . فى مط: الزوج، بدل «الرجل» . [2] . فى مط: قصته. [3] . فى مط: وملح الحريش. [4] . أحد: الكلمة سقطت من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 إلىّ ثمّ أعادها ثانية إلى كمّه وأخرجها مملوءة مسكا ودفعها إلىّ وفعل ذلك مرات ثمّ قال: - «واجعلي هذا فى طيبك فإنّ المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إلى الطيب.» قالت: ثمّ دعاني وهو جالس فى بيت على بواري فقال: - «ارفعى جانب البارية من ذلك الموضع وخذي ممّا تحته ما تريدين.» وأومأ إلى زاوية البيت فجئت إليها ورفعت البارية فوجدت تحتها الدنانير مفروشة [157] ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك. فأقيمت المرأة وحصلت فى دار حامد إلى أن قتل الحلّاج. الجدّ فى طلب أصحاب الحلّاج وجدّ حامد فى طلب أصحاب الحلّاج وأذكى العيون عليهم وحصل فى يده منهم حيدرة والسمرّى ومحمّد بن علىّ القنّاى [1] والمعروف بأبى المغيث الهاشمي، واستتر ابن حمّاد وكبس منزله فأخذت منه دفاتر كثيرة وكذلك من منزل محمّد بن علىّ القنّاى فكانت مكتوبة فى ورق صينى وبعضها مكتوب بماء الذهب مبطّنة بالديباج والحرير مجلّدة بالأدم الجيّد. ووجد فى أسماء أصحابه ابن بشر وشاكر. فسأل حامد من حصل فى يده من أصحاب الحلّاج عنهما فذكروا أنّهما داعيان له بخراسان. قال أبو القاسم بن زنجى: فكتبا فى حملهما إلى الحضرة أكثر من عشرين كتابا فلم يرد جواب أكثرها. وقيل فيما أجيب عنه منها: إنّهما يطلبان ومتى حصلا حملا، ولم يحملا إلى هذه الغاية.   [1] . فى مط: الفناى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وصاياه للدّعاة إليه وكان فى الكتب الموجودة له عجائب من مكاتبات أصحابه النافذين إلى النواحي وبوصيته إيّاهم بما يدعون إليه الناس وبما يأمرهم به من نقلهم من حال إلى حال أخرى ومرتبة إلى مرتبة حتّى يبلغوا الغاية القصوى وأن يخاطبوا [158] كلّ قوم على حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة لا يعرفها إلّا من كتبها ومن كتبت إليه. كلام غريب من غلام حامد فى الحلّاج وحكى أبو القاسم بن زنجى قال: كنت أنا وأبى يوما بين يدي حامد إذ نهض من مجلسه وخرجنا إلى دار العامّة وجلسنا فى رواقها وحضر هارون بن عمران الجهبذ بين يدي أبى ولم يزل يحادثه فهو فى ذلك إذ جاء غلام حامد الذي كان موكّلا بالحلّاج وأومأ إلى هارون بن عمران أن يخرج إليه فنهض مسرعا ونحن لا ندري ما السبب، فغاب عنّا قليلا ثمّ عاد وهو متغير اللون جدّا فأنكر أبى ما رأى منه فسأله عن خبره فقال: - «دعاني الغلام الموكّل بالحلّاج فخرجت إليه فأعلمنى أنّه دخل إليه ومعه الطبق الذي رسمه أن يقدّم إليه فى كلّ يوم فوجده قد ملأ البيت بنفسه فهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه حتّى ليس فيه موضع. فهاله ما رأى ورمى بالطبق من يده وعدا مسرعا وأنّ الغلام ارتعد وانتفض وحمّ. فبينا نحن نتعجب من حديثه إذ خرج إلينا رسول حامد وأذن فى الدخول إليه فدخلنا وجرى حديث الغلام فدعا به وسأله عن خبره فإذا هو محموم، وقصّ [159] عليه قصّته فكذّبه وشتمه وقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 - «فزعت من نيرنج الحلّاج- وكلاما فى هذا المعنى- لعنك الله اعزب عنّى.» كيف حلّ دم الحلّاج فانصرف الغلام وبقي على حالته من الحمّى مدّة طويلة. ثمّ وجد حامد كتابا من كتبه فيه: - «إنّ الإنسان إذا أراد الحجّ فلم يمكنه أفرد فى بيته بناء مربعا لا يلحقه شيء من النجاسات ولا يتطرّقه أحد. فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله وقضى من المناسك ما يقضى بمكّة، ثمّ يجمع ثلاثين يتيما ويعمل لهم أسرى [1] ما يمكنه من الطعام ويحضرهم ذلك البيت ويقدّم لهم ذلك الطعام ويتولّى خدمتهم بنفسه، ثمّ يغسل أيديهم ويكسو كلّ واحد منهم قميصا ويدفع إلى كلّ واحد سبعة دراهم أو ثلاثة دراهم- الشكّ من أبى القاسم بن زنجى- وإنّ ذلك يقوم له مقام الحجّ.» قال: وكان أبى يقرأ هذا الكتاب فلمّا استوفى هذا الفصل التفت أبو عمر القاضي إلى الحلّاج وقال له: - «من أين لك هذا.» قال: «من كتاب الإخلاص للحسن البصري.» قال له أبو عمر: - «كذبت يا حلال الدم.» قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكّة وليس فيه شيء ممّا ذكرت. فكلّما [2] قال له أبو عمر: «يا حلال الدم» قال له حامد:   [1] . الأسرى: الأسخى. من قولهم: سرا، أى كان سريّا، أى صاحب مروءة وسخاء. [2] . فكلّما: كذا فى الأصل ومط: وقرئ فى مد: فكما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 - «أكتب ما قلت.» فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلّاج فلم يدعه حامد يتشاغل [160] وألحّ عليه إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة، فكتب بإحلال دمه وكتب بعده من حضر المجلس. فلمّا تبيّن الحلّاج الصورة قال: - «ظهري [1] حمى ودمى حرام وما يحلّ لكم أن تتأوّلوا علىّ بما يبيحه. اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنّة، ولى كتب فى الورّاقين موجودة فى السنّة، فالله الله فى دمى.» كتاب القوم وجواب المقتدر ولم يزل يردّد هذا القول والقوم يكتبون خطوطهم حتّى كمل الكتاب بخطوط من حضر فأنفذه حامد إلى المقتدر بالله. فخرج الجواب: - «إذا كان فتوى القضاة فيه بما عرضت فأحضره مجلس الشرطة واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فتقدّم بقطع يديه ورجليه، ثمّ اضرب رقبته وانصب رأسه وأحرق جثّته.» فأحضر حامد صاحب الشرطة وأقرأه التوقيع وتقدّم إليه بتسلّم الحلّاج وإمضاء الأمر فيه. فامتنع من ذلك، وذكر أنّه يتخوّف أن ينتزع من يده. فوقع الاتفاق على أن يحضر بعد العتمة [2] ومعه جماعة من غلمانه وقوم على بغال يجرون مجرى الساسة [3] ليجعل على بغل منها ويدخل فى غمار القوم. وأوصاه بأن لا يسمع كلامه. وقال له:   [1] . فى مط: طهرى. وضبط العبارة من الأصل. [2] . فى مط: المعتمد بدل «العتمة» ! [3] . فى مط: الثلة، بدل: الساسة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 - «لو قال لك: أجرى لك دجلة والفرات ذهبا وفضّة فلا ترفع عنه [161] الضرب حتّى تقتله كما أمرت.» تنفيذ أمر المقتدر فى الحلّاج ففعل محمّد بن عبد الصمد صاحب الشرطة ذلك وحمله تلك الليلة على الصورة التي ذكرت وركب غلمان حامد معه حتّى أوصلوه إلى الجسر وبات محمّد بن عبد الصمد ورجاله حول المجلس. فلمّا أصبح يوم الثلاثاء لستّ بقين من ذى القعدة أخرج الحلّاج إلى رحبة المجلس واجتمع من العامّة خلق كثير لا يحصى عددهم وأمر الجلّاد بضربه ألف سوط فضرب وما تأوّه ولا استعفى. قال: فلمّا بلغ ستمائة سوط قال لمحمّد بن عبد الصمد: - «ادع بى إليك فإنّ عندي نصيحة تعدل عند الخليفة فتح قسطنطينية.» فقال: «قد قيل لى إنّك ستقول هذا وما هو أكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل.» فسكت حتّى ضرب ألف سوط ثمّ قطعت يده ثمّ رجله ثمّ يده ثمّ رجله [1] ثمّ ضرب عنقه وأحرقت جثّته ونصب رأسه على الجسر، ثمّ حمل رأسه إلى خراسان. وادّعى أصحابه أنّ المضروب كان عدوّا للحلّاج ألقى شبهه عليه. وادّعى بعضهم أنّه رآه وخاطبه فى هذا المعنى بجهالات لا يكتب مثلها. وأحضر الورّاقون وأحلفوا أن لا يبيعوا شيئا من كتب الحلّاج [162] ولا يشتروها.   [1] . ثم يده ثمّ رجله. جاء فى الأصل أيضا بالتكرار. وليس هذا من خطأ الناسخ. بل للتعبير عن ترتيب القطع. وحذف التكرار فى مد ظنّا أنّه تكرار زائد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 ودخلت سنة عشر وثلاثمائة إطلاق يوسف بن أبى الساج والعقد له على أعمال وفيها إطلاق يوسف بن أبى الساج بمسألة مونس المظفّر من الحبس وشفاعته ثمّ حمل إليه مال وكسوة ثمّ وصل إلى المقتدر بالله وكان ركب فى سواد فقبّل البساط ثمّ يد المقتدر وخلع عليه خلع الرضا وحمل على فرس بمركب ذهب. ثمّ جلس المقتدر فى دار العامّة بعد أيّام وعقد له على أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بالري وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان وركب معه مونس المظفّر ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وجميع من بالحضرة من القوّاد والغلمان وكانت الدار قد شحنت له بالرجال والسلاح واحتشد له. واستكتب يوسف بن أبى الساج محمّد بن خلف النيرمانى وقوطع عن الأعمال التي تقلّدها على خمسمائة ألف دينار محمولة فى كلّ سنة على أنّ عليه القيام بمال الجيش الذي فى هذه الأعمال والنفقات الراتبة. وخلع على وصيف البكتمرى وعلى طاهر ويعقوب ابني محمّد بن عمرو بن الليث. من بعض حوادث السنة وفيها قلّد نازوك الشرطة ببغداد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع عليه وعزل عنها محمّد بن عبد الصمد وخلع على وصيف البكتمرى خلعة أخرى [163] وضمّ إلى يوسف بن أبى الساج وشخص يوسف بن أبى الساج إلى عمله على طريق الموصل، فلمّا وصل إلى أردبيل وجد غلامه سبك قد مات. وفيها وصل إلى بغداد هدية أبى زنبور الحسين بن أحمد المادرائى من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 مصر وفيها بغلة معها فلوّ [1] وكان يتبعها ويرتضع منها وغلام طويل اللسان يلحق طرف أرنبته. وفيها قبض على أمّ موسى القهرمانة وعلى أختها وأخيها ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ أمّ موسى زوّجت بنت أخيها أبى بكر أحمد بن العبّاس من أبى العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان من أولاد الخلفاء النجباء وكانت له نعمة حسنة ظاهرة وكان حسن المروءة واللبسة والدوابّ والمراكب، وكان صديقا لعلىّ بن عيسى حتّى قيل: إنّه كان يرشّحه للخلافة. فلمّا وقعت المصاهرة بينه وبين أمّ موسى أسرفت فيما نثرت من المال وفيما أنفقت على دعوات دعت فيها الصغير والكبير من أهل المملكة فى بضعة عشر يوما. فتمكّن أعداؤها من السعى عليها ومكّنوا فى نفس المقتدر بالله ووالدته السيدة أنّها إنّما صاهرت ابن المتوكّل ليزيلوا المقتدر بالله عن [164] الخلافة وينصبوا فيها ابن المتوكّل. فتمّت النكبة عليها وسلّمت إلى ثمل القهرمانة مع أختها وأخيها. وكانت ثمل موصوفة بالشر لأنّها كانت قهرمانة أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف وكان أحمد يسلّم إليها من يسخط عليه من جواريه وخدمه فاشتهرت بالقسوة والسرف فى العقوبات. واستخرجت ثمل منها ومن أختها وأخيها أموالا عظيمة وجواهر نفيسة ومن الثياب والكسوة والفرش والطيب ما يعظم مقداره حتّى نصب علىّ بن عيسى لذلك ديوانا وسمّاه: ديوان المقبوضات عن أمّ موسى وأسبابها، أجرى   [1] . كذا فى الأصل: فلوّ. ما فى مط مهمل. والفلوّ: ولد الجحش والمهر والبغل فى سنّ سنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 فيها أمر ضياعهم وأملاكهم وقلّده أبا شجاع المعروف بابن أخت أبى أيّوب أبى الوزير وقلّد الزمام عليه أبا عبد الله اليوسفى الكاتب. ويقال: إنّه حصل من جهتهم نحو ألف ألف دينار. ولمّا قبض على أمّ موسى صرف علىّ بن عيسى ابن أبى البغل عن أعماله بفارس وقلّدها أبا عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي وصادره. ثمّ لمّا تقلّد ابن الفرات الوزارة الثالثة كتب إلى الكرخي بتجديد مصادرة ابن أبى البغل واعتقاله. ذكر وفاة محمد بن جرير الطبري وفيها توفّى محمّد بن جرير الطبري وله نحو تسعين سنة، ودفن ليلا، لأنّ العامّة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا، وادّعت عليه الرفض [165] ثمّ ادّعت عليه الإلحاد. وفيها دعا المقتدر مونسا المظفّر فشرب بين يديه وخلع عليه خلع منادمة وكانت مثقلة بالذهب. ودخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وفيها صرف حامد بن العبّاس عن الوزارة وعلىّ بن عيسى عن الدواوين. ذكر صرف حامد بن علىّ بن عيسى وردّ الوزارة [1] إلى ابن الفرات كانت لذلك أسباب كثيرة منها أنّ حامدا شرع [2] فى تضمن علىّ بن   [1] . هي الوزارة الثالثة لابن الفرات. [2] . فى مط: أنّ حامدا أسر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 عيسى لمّا فسخ ضمانه لتلك الأعمال والبلدان التي ذكرناها وبذل أن يقوم بالأمور ويدبّر الأعمال. وكان الذي حمله على ذلك ما كان يبلغه من عزم المقتدر بالله على تقليد ابن الفرات لمّا كثر ضجيج الحاشية من علىّ بن عيسى لتأخيره عنهم أرزاقهم وأرزاق الحرم والولد، واقتصر بالخدم والحاشية والفرسان على البعض من استحقاقاتهم وحطّ من أرزاق العمّال شهرين فى كلّ سنة ومن أرزاق المنفقين وأصحاب الأجناد والبرد [1] والقضاة أربعة أشهر فزادت عداوة الناس له وخشي حامد بن العبّاس من ابن الفرات لمّا سلف [166] منه إليه ولما عامل به ابنه المحسّن وسائر كتّابه وأسبابه. فأمره المقتدر أن يكتب رقعة بخطّه بما يضمنه ويبذله وبتسمية من يقلّده الدواوين، ففعل حامد ذلك وعرض المقتدر بالله رقعته على ابن الفرات وهو فى حبسه وشرح له أمره. فقال ابن الفرات: - «لو اجتمع مع حامد بن العبّاس الحسن بن مخلد وأحمد بن إسرائيل وسائر من شهر بالكفاية لما كان موضعا لتدبير المملكة ولا لضبط أعمال الدواوين وأنّه إن قلّد ذلك انخرقت الهيبة وزالت الحشمة وإن علىّ بن عيسى على تصرّف أحواله أقوم منه وأعرف بالأعمال والتدبير.» ثمّ إنّه قال: - «أنا أتضمّن خمسة أضعاف ما ضمنه حامد إن أعاده ومكّنه ممّا يريد.» فوعده المقتدر بذلك. وكان حامد مقيما ببغداد لا يدخل نفسه فى شيء من الأمور ولا يزيد على أن يحضر فى أيّام المواكب وينصرف. وضجر حامد من مقامه ببغداد لقبح حاله فى الذلّ، ولأنّه افتضح بما كان يعامله به علىّ   [1] . ما فى الأصل: البرد، بفتح الباء. والبرد جمع البريد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 بن عيسى فى توقيعاته، وذلك أنّه كان يوقّع إلى كتّاب الوزير حامد وإلى كتّاب الدواوين إذا ذكره بما لا صبر له عليه، وكان يوقّع: - «ليطالب جهبذ الوزير- أسعده الله- بحمل وظيفة واسط» . - «وليكتب إلى الوزير- أسعده الله- بأن يبادر بحمل شعير الكراع» . [167] وإذا تظلّم إليه متظلّم من أعمال حامد وعمّاله وقّع على ظهر رقعة: - «هذا ممّا ينظر فيه الوزير، أسعده الله.» وذكر علىّ بن عيسى أنّه يحتجّ فى ذلك برسم قديم كان للوزراء. فاستأذن حامد المقتدر فى الخروج إلى واسط والمقام بها لينظر فى أمور ضمانه بنواحيها فأذن له وخرج. ومنها [1] ما جرى من أمّ موسى وما ذكرناه من خبرها وما تحدّث به الناس من أمر ابن المتوكّل وأنّ ابن الحوارى دبّر ذلك لميل أمّ موسى إليه وكشفها له أسرار الخلافة. وكان بعض أسباب ابن الفرات طرح رقعة فى دار المقتدر فيها بيت شعر: يهنيك يهنيك هذا ... يا ديك دار الخليفة [2] ولم يذكر فى الرقعة غير هذا البيت وهي أبيات فاحشة ليست فيها أصلح من هذا البيت، وتعمّد أن جعلت الرقعة فى ممرّ الخليفة إلى دار حرمة له. فقرأ المقتدر الرقعة وقبّحت عنده صورة ابن الحوارى جدّا واعتقد فيه ذلك اليوم استحلال دمه وسفكه ونكبة أمّ موسى، ويظنّ أنّ هذا البيت كان من أوكد أسباب نكتبها ونكبته. ومنها أنّ مفلحا الأسود كان شديد التحقّق بالمقتدر مثابرا على خدمته ثمّ   [1] . فى مط: وفيها. [2] . فى مط: ناديك دار الخلافة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 عظم أمره حتّى [168] أقطع الإقطاعات وملّك الضياع الجليلة ووقعت بينه وبين حامد مماحكة وذكر مفلح حامدا بالقبيح وقال حامد: - «لقد هممت أن أشترى مائة خادم أسود وأسمّى كلّ واحد منهم مفلحا وأهبهم لغلماني.» فحقد مفلح ذلك عليه ووقف على ذلك المحسّن وعلى ما يشبه ذلك، فوجّه إلى كاتب مفلح واجتمع معه وضمن له الأعمال والأموال والولايات حتّى عقد حالا بينه وبين مفلح. تضريب من ابن الفرات عند المقتدر وكتب المحسّن رقعة إلى المقتدر بالله على يد مفلح يذكر فيها أنّه إن سلم منه حامد وعلىّ بن عيسى ونصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وابن الحوارى وأمّ موسى وأخوها والمادرائيون استخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار، وكان أبو الحسن ابن الفرات لا يقصّر وهو فى الحبس فى التضريب على هؤلاء وإطماع المقتدر فيهم. وكان من طريف ما عمله وعجيبة أن راسل المقتدر يوما على يدي زيدان القهرمانة يلتمس منه قيمة اثنى عشر ألف دينار أو هذا المقدار دنانير بعينها لشيء من أمره، فتذمّم المقتدر مع ما أخذه من أمواله أن يمنعه. فحملها إليه، ثمّ سأله أن يدخل إليه إذا اجتاز بموضعه ليلقى إليه شيئا لا تحتمله المكاتبة ولا المراسلة، وكان المقتدر كثيرا [169] ما يدخل إليه ويشاوره فدخل إليه. فلمّا رآه ابن الفرات قام وأخذ الكيس الذي فيه الدنانير، ففتحه وفرّغه بين يديه وقال له: - «يا أمير المؤمنين قد عرّفتك أن أموالك تنتهب وتضيّع وتقضى بها الذمامات. ما تقول فى رجل واحد يرتزق فى كلّ شهر من شهور الأهلّة هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 المقدار من مالك وهو اثنا عشر ألف دينار؟» فاستعظم المقتدر ذلك واستهوله وقال: - «ويحك، من هذا الرجل؟» قال له: «علىّ بن محمّد ابن الحوارى، وهذا سوى ما يصل إليه من المنافع لمكانه منك وموضعه من الإختصاص بك، وسوى ارتفاع ضياعه وسوى المرافق التي تصل إليه من الأعمال التي يتولّاها وسوى وسوى.» وردّ الدنانير إلى المقتدر بالله وقال: - «إنّما أردت أن تشاهد ما يصنع بك وتراه بعينك فليس الخبر كالمعاينة.» فقام المقتدر بالله وقد عظم عنده أمر ما يجرى واعتقد لابن الحوارى غاية المكروه. خرج المحبوس وزيرا فلمّا اجتمعت هذه الأسباب قوى عزم المقتدر على ردّ الوزارة إلى ابن الفرات. فلمّا كان يوم الخميس لتسع [1] بقين من شهر ربيع الآخر وقد انحدر علىّ بن عيسى إلى دار السلطان قبض عليه وحبس عند زيدان القهرمانة فى الحجرة التي كان فيها ابن الفرات، فأخرج منها [170] ابن الفرات ليقلّد الوزارة. ابن الفرات يتحدّث فى أيّام وزارته الثانية قال أبو محمّد علىّ بن هشام: كنت حاضرا مع أبى مجلس أبى الحسن   [1] . فى مط: لسبع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 ابن الفرات فسمعته يتحدّث فى وزارته الثانية قال: - «دخل إلىّ أبو الهيثم العبّاس بن محمّد بن ثوابة الأنبارى فى محبسى [1] من دار المقتدر بالله فطالبني أن أكتب خطّى بثلاثة عشر ألف ألف دينار.» فقلت: «ما جرى قدر هذا على يدي للسلطان فى طول ولايتي فكيف أصادر على مثله؟» فقال: «إنّى حلفت بالطلاق أن تكتب خطّك بذلك.» فكتبت بثلاثة عشر ألف ألف من غير أن أذكر ما هي أو ضمانا فيها. فقال: - «فاكتب دينارا لتبرّئنى من يميني.» فلمّا كتبت دينارا ضربت عليه وأكلت الرقعة وقلت: - «قد برئت عن يمينك ولا سبيل لك إلى غير هذا.» فاجتهد جهده فلم أجبه إلى شيء، فلمّا كان من الغد دخل إلى الحبس ومعه أمّ موسى فطالب بذلك وأسرف فى سبّى وشتمي ورمانى بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق والأيمان المغلظة أنّى ما دخلت فى شيء من محظور هذا الجنس منذ نيّف وثلاثين سنة وسمته [2] أن يحلف بمثل ذلك إنّ غلامه القائم على رأسه لم يأته فى ليلته تلك. فأنكرت أمّ موسى هذه الحال وغطّت وجهها حياء منه. فقال لها ابن ثوابة: - «هذا إنّما تبطره الأموال التي وراءه، ومثله فى ذلك [171] مثل المزيّن مع كسرى والحجّام مع الحجّاج بن يوسف، فاستأمرى السادة فى إنزال المكروه به حتّى يذعن بالأموال.»   [1] . فى مط: فى مجلس. [2] . سمته: كذا فى الأصل. وفى مط: شتمه. سامه الأمر: كلّفه إيّاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 قال أبو الحسن: يعنى بالسادة المقتدر ووالدته وخالته وخاطف ودستنبويه أمّ ولد المقتدر [1] لأنّهم إذ ذاك يدبّرون الأمر معا لحداثة المقتدر. قال ابن الفرات: فمضت أمّ موسى ثمّ عادت فقالت لابن ثوابة: - «يقولون لك قد صدقت ويدك مطلقة فيه وكنت فى حجرة ضيّقة وحرّ شديد فأمر بكشف البواري حتّى صرت فى الشمس ونحّى الحصير من تحتي وأغلقت أبواب البيوت حتّى حصلت فى الشمس ثمّ قيّدنى بقيد ثقيل وألبسنى جبّة صوف قد نقّعت فى ماء الأكارع وغلّنى بغلّ وأقفل باب الحجرة وانصرف فأشرفت على التلف. فلمّا مضت نحو أربع ساعات إذا صوت غلمان مجتازين فى الممرّ الذي فى الحجرة التي أنا فيها محبوس.» فقال لى الخدم الموكّلون: - «هذا بدر الخادم الحرمي وهو لك صنيعة.» فاستغثت به فصحت: - «يا أبا الخير، الله الله فىّ، لك مكان من السادة ولى عليك حقوق، وقد ترى حالي والموت أسهل علىّ ممّا أنا فيه. فخاطب السيّدة [2] وذكّرهم حرمتي وخدمتي فى تثبيت دولهم إذ خذلهم الناس وافتتاحى [172] البلدان والمنغلقة وإثارتى الأموال المنكسرة فإن كان ذنبي يوجب القتل فالموت أروح.» فرجع إليهم فخاطبهم ورقّقهم ولم يبرح حتّى حلّ الحديد كلّه عنّى ثمّ أذنوا فى إدخالى الحمّام وأخذ شعري وتغيير لباسى وتسليمي إلى زيدان وترفيهى فجاءني مبشّرا بذلك فلم يبرح حتّى فعل جميع ذلك وقال: - «يقولون لك: لن ترى بعدها بؤسا.»   [1] . لعلّ الصحيح: المعتضد، كما أشار إليه مد. [2] . كذا فى الأصل ومط: السيّدة. ولعلّ الصحيح: السادة، كما اقترح فى مد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 ذكر الخبر عن وزارة أبى الحسن ابن الفرات الثالثة وتقلّد أبو الحسن علىّ بن محمّد بن الفرات الوزارة الثالثة فى ذلك اليوم وخلع عليه واستدعى المقتدر بالله المحسّن ابنه من منزله بسوق العطش فخلع عليه مع أبيه [1] ولم يوصل المقتدر بالله إليه فى ذلك اليوم أبا القاسم ابن الحوارى وظهر أولاد ابن الفرات وأسبابه واستتر بعض أسباب حامد وقبض المحسّن فى طريقه على جماعة من أسباب حامد. وكان أبو علىّ ابن [2] مقلة يتقلّد لعلىّ بن عيسى زمام السواد طول أيّام وزارة حامد، فلمّا تقلّد ابن الفرات هذه الوزارة تجلّد ولم يستتر وصار إليه وظهر من إعراض ابن الفرات عنه ما غضّ منه ولم يقبض [3] عليه للمودّة التي بينه وبين [173] ابن الحوارى فلمّا قبض بعد ذلك على ابن الحوارى قبض عليه. وانتقل ابن الفرات إلى داره الأولى التي بالمخرّم وركب إليه ابن الحوارى ليهنّئه فأطال عنده وآنسه ابن الفرات وشاوره وخلا به فتحقّق به وأظهر السرور بولايته مع ما يبطنه من الخوف الشديد منه. وكان أسباب أبى القاسم ابن الحوارى قد أشاروا عليه بالاستتار وقالوا له: - «إنّ المقتدر بالله لم يأذن لك عند تقليده ابن الفرات مع علمه بالعداوة بينكما إلّا لسوء رأيه فيك.» فقال ابن الحوارى:   [1] . فى مط: ابنه. [2] . فى مط: وكان علىّ بن مقلة، بإسقاط «أبو» . [3] . فى مط: ولم يقض عليه المودّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 - «لو كان كذلك لقبض علىّ قبل تقليد ابن الفرات.» فلمّا كان يوم الإثنين ركب ابن الفرات وركب ابن الحوارى إلى دار السلطان فأذن لابن الفرات ولم يؤذن لابن الحوارى فاستوحش ابن الحوارى. ثمّ صرف الأمر إلى ابن الفرات وقد كان شرط على ابن الفرات أن يجريه على رسمه فى وزارته الثانية، فإنّه لم يكن يصل مع ابن الحوارى ظاهرا وإنّما كان يصل سرّا. فلمّا خرج ابن الفرات من عند المقتدر بالله وانفرد دخل إليه ابن الحوارى فأقبل عليه وشاوره فى جميع أموره وقال: - «قد غبت عن مجاري الأمور منذ خمس سنين وأنت عارف بها وأريد أن تعاضدنى وتستعمل ما يلزمك بحقّ المودّة.» فتلقّى ابن الحوارى [174] قوله بالشكر وإظهار المناصحة وأنشأ ابن الفرات معه حديثا طويلا ونهض قبل أن يستتمّه [1] ونزل إلى طيّاره وأنزل معه ابن الحوارى وأحمد بن نصر البازيار ابن أخيه ومحمّد بن عيسى صهره وعلىّ بن مأمون الإسكافى كاتبه وعلىّ بن خلف النيرمانى. وكان أخوه محمّد بن خلف مصاهرا له وأظهر لجماعتهم الإكرام والإختصاص وما زال يضاحكهم إلى أن حصل فى داره. ثمّ أسرّ إلى العبّاس الفرغاني حاجبه بأن يقبض على ابن الحوارى وجميع أسبابه، فقبض عليهم واعتقلهم فى حجرة الدار واستحضر ابن الفرات فى الوقت شفيعا اللؤلؤي فأنفذه إلى دار ابن الحوارى ليحفظها من النهب وضمّ إليه جماعة من الفرسان والرجّالة وأمر بمعاملته بالجميل فى مطعمه ومشربه وأفردت له دار واسعة وفرشت بفرش نظيف وأفرده عن كتّابه ومن يأنس به وراسله ابن الفرات فى   [1] . فى مط: فتفرّدت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 المصادرة وتوسّط ابن قرابة بينهما. وكان ابن قرابة متحقّقا بابن الفرات وشديد الأنس بابن الحوارى، فتقرّرت [1] مصادرته بعد خطاب كثير على سبعمائة ألف دينار فى نفسه دون كتّابه وأسبابه واشترط إطلاق أحمد بن نصر البازيار لينصرف فى أداء مال التعجيل [175] وهو مائتان وخمسون ألف دينار فأطلق وأزيل التوكيل [2] عن دار ابن الحوارى وأسبابه وسلّم جميعها إلى أحمد بن نصر. وأمر ابن الفرات بكبس مواضع فيها أسباب حامد وكتّابه فأثارهم، وكان المحسّن يسرف فى المكروه الذي يوقعه بمن يحصل فى يده منهم حتّى إنّه أحضر ابن حمّاد الموصلي وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار وسلّمه إلى مستخرجه، فصفعه المستخرج صفعا عظيما فلم يرض المحسّن ذلك وأخرجه إلى حضرته وصفعه على رأسه حتّى خرج الدم من أنفه وفمه ومات ولم ينكره المقتدر وقد كان أشفق المحسّن من إنكاره وخافه خوفا شديدا. فلمّا كان بعد أيّام أنفذ المقتدر إلى المحسّن خلع منادمته وأجرى عليه من الرزق كلّ شهر ألفى دينار زيادة على رزق الدواوين، فضرى المحسّن على مكاره الناس وأسرف المقتدر فى استصابة أفعاله إلى أن بلغ الأمر فيه إلى أن غنّى الجواري بحضرته: أحسن المحسِّن أحسن وكان استتر أبو الحسين محمّد بن أحمد بن بسطام صهر حامد بن العبّاس فاستخرجه واستخرج منه ستين ألف دينار وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار بعد مكروه غليظ وغضبه على خادم يعرف بموج [3] كان مشهورا بالميل [176]   [1] . فى مط: فتفرّدت. [2] . فى مط: التوكيد. [3] . كذا فى الأصل ومط: موج. فى مد: مرج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 إليه وقبض على جماعة فأخذ خدمهم وغلمانهم الروقة وأوقع بهم المكاره. ذكر الخبر عن قبض الوزير ابن الفرات على حامد بن العبّاس كان المقتدر قد شرط على ابن الفرات أن لا ينكب حامدا وأن يناظره على ما يجب عليه من فضل الضمان فإذا وجب عليه شيء بقول الكتّاب والقضاة أخذ بعضه وقال: - «قد خدمني ولم يأخذ منّى إلّا رزق سنة واحدة وشرط علىّ أن لا أسلمه لمكروه ولا أدع عليه حقّا.» فاضطرّ ابن الفرات إلى إقراره على أعمال واسط وخاطبه بأجلّ دعاء، ثمّ عمل له الأعمال واستقصى عليه الحجّة وخرّج عليه أموالا عظيمة وكاتب أصحابه بمطالبته والإلحاح عليه فإن تقاعد بها وكّل به من يطالبه بالمال الواجب عليه للمصالح والبذور إذ كان ممّا لا سبيل إلى تأخيره، فإنّ أمير المؤمنين ليس يأذن فى تضمينه مستأنفا. فأظهر صاحب الوزير ابن الفرات هذا الكتاب فى مجلسه وبلغ حامدا [1] الخبر فى الوقت فأظهر بواسط أن كتاب المقتدر ورد عليه يأمر فيه بالمسير إلى بغداد وخرج من واسط مع جميع كتّابه وحاشيته ورجّالته وحمل معه من الفرش والآلات والكسوة جميع ما كان يخدم به بعد أن احتاط [177] فى أمواله وأمتعته الفاخرة وأودعها عند ثقاته بواسط وضرب عند خروجه بالبوقات وأجلس غلمانه وحاشيته بأسرهم فى الزواريق والسميريّات وبادر بخبره على أيدى الفيوج [2] وعلى أجنحة الطير إلى ابن الفرات وقاد دوابّه   [1] . فى الأصل: حامد (من دون الالف) . [2] . الفيوج: جمع فيج، فارسىّ معرّب، أصله الفارسىّ «پيك» ، وأصبح بالإنجليزية. «Lpage» :الفيج: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 ودوابّ حاشيته. وأصحابه على الشطّ فوصل خبره إلى ابن الفرات فاستشار ابنه المحسّن ومن يختصّه فيما يعمل به فأشاروا عليه بأن يبادر إلى المقتدر ويقرئه [1] كتاب حامد ففعل ذلك. وقال المقتدر: - «ما وقفت على ما عمله حامد ولا كتبت بشيء ممّا ادّعاه علىّ.» فقال ابن الفرات: - «فإن كان كذلك فالصواب أن ينفذ نازوك فى جمع من الغلمان الحجريّة والفرسان والرجّالة بعضهم فى الماء وبعضهم فى الظهر حتّى يقبض على حامد وأسبابه.» فأذن له فى ذلك فانصرف ابن الفرات إلى داره وأنفذ نازوك وتقدّم إليه بالمبادرة حتّى يقبض على حامد وعلى أسبابه حتّى لا يفوته أحد منهم. فسار نازوك وأخطأ بأن قبض على أوّل من لقيه من أسباب حامد وعلى دوابّه وغلمانه وبلغ حامدا خبره فاستتر من الطريق ونهب أسباب نازوك بعض ما كان مع القوم [178] من الأمتعة واستظهر نازوك على الكتب والحسبانات والأعمال وصار بالجميع إلى الحضرة. فأمر المقتدر بتسليم جميع الكتب والأعمال إلى ابن الفرات وفرّق الأمتعة فى خزائنه والدوابّ فى اصطبلاته، ووجد ابن الفرات فى الكتب المحمولة إليه عجائب من كتب من تقرّب إليهم فقبض عليهم، وكان حين ورد كتاب حامد بالمسير من واسط واستظهر بالتوكيل بجهبذه إبراهيم الذي كان بالحضرة.   [ () ] رسول السلطان الذي يسعى على رجليه. [1] . يقرئه: كذا فى الأصل ومط. وغيّر فى مد إلى «ويقرأه» وليس بصحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 فلمّا تمّ قبض نازوك على أسباب حامد أمر ابن الفرات هشاما بالرفق بهذا الجهبذ مرّة وبالغلظة أخرى ويسأل عن ودائع حامد، ففعل هشام به ذلك فأقرّ عفوا أنّ لحامد عنده مائة ألف دينار عينا ثمّ حلف على أنّه ليس عنده لحامد ولا لأحد من أسبابه وديعة غيرها. فآمنه ابن الفرات على نفسه وأن لا يسلّمه [1] إلى المحسّن ولم يطلع ابن الفرات المقتدر بالله على خبر هذه المائة الألف إلّا بعد أن تسلّم [2] حامدا. وانتشر الخبر فى رجب أنّ حامدا إنّما استتر لأنّ المقتدر كتب إليه ينكر خروجه من واسط على تلك الحال التي خرج عليها ويأمره أن يستتر ويوافى بغداد حتّى يتوثّق منه ويأخذ خطّه بما بذل أن يضمن [179] به ابن الفرات والمحسّن وكتّابهما وأسبابهما ليسلّم الجماعة إليه فاستتر المحسّن والفضل والحسين والحسن أولاد أبى الحسن ابن الفرات وحرمهم وأكثر الكتّاب ولم يبق فى دار ابن الفرات من كتّابه الذين يحضرون مجلسه إلّا أبو القاسم ابن زنجى وحده. وكانت مدّة سعادة حامد قد انقضت فصار إلى دار السلطان فى زىّ الرهبان ومعه يونس خادمه وصعد إلى دار الحجبة [3] التي فيها نصر الحاجب فاستأذن له فارس بن رنداق [4] على نصر وقال: - «حامد بن العبّاس قد حضر الباب وهو يستأذن على الأستاذ.» فقال: - «قل له يدخل.»   [1] . فى مط: يسأله، بدل «يسلّمه» . [2] . فى الأصل ومط: يسلّم. [3] . فى مط: دار الحجة. [4] . فى مط: ريداق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فلمّا دخل قال له قبل أن يجلس: - «إلى أين جئت؟» قال: «جئت بكتابك.» فقال له: - «فإلى هاهنا كتبت إليك أن تجيء.» ولم يقم له، واعتذر إليه أنّه تحت سخط الخليفة، ووجّه نصر إلى مفلح يسأله الخروج إليه، وكان مفلح يتولّى الاستئذان على المقتدر إذا كان عند حرمه. فخرج مفلح وكلّمه نصر فى أمر حامد وقال له: - «هو فى هذا الوقت فى حال رحمة ومثلك من استعمل معه الجميل ولم يؤاخذه بما كان منه فى تلك الأمور.» ثمّ قال حامد لمفلح: - «تقول لمولانا أمير المؤمنين [180] عنّى، بأنّى أرضى أن أكون معتقلا فى دار أمير المؤمنين كما اعتقل فيها علىّ بن عيسى ويناظرني الوزير والمحسّن والكتّاب بحضرة الفقهاء والقضاء ووجوه القوّاد، فإن وجب علىّ مال خرجت منه بعد أن أكون مالكا لاستيفاء حججي [1] ومحروسا فى نفسي ولم يمكّن المحسّن من دمى فيجازينى على المكاره التي كنت أوقعها به فى طاعة مولانا أمير المؤمنين وهو شابّ وأنا شيخ قد بلغت هذه السنّ العالية واليسير من المكروه يتلفنى.» فوعده مفلح بذلك ودخل على المقتدر بالله فخاطبه فى أمره بضدّ ما وعده به، فتكلّمت السيّدة فى أمر حامد وقالت: - «لا يضرّ أن يعتقل فى الدار ويناظر حتّى تحرس نفسه.»   [1] . كذا فى الأصل ومط: حججي. فى مد: حجّتى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 فقال مفلح: - «إن فعل هذا لم يتمّ لابن الفرات عمل، لأنّ الأراجيف قد كثرت به وخربت الدنيا وبطلت الأموال.» فقال المقتدر لمفلح: - «صدقت.» وأمره أن يخرج إلى نصر فيأمره أن ينفذ حامدا إلى ابن الفرات. فخرج مفلح إلى نصر بذلك فأخذ نصر يطيّب نفس حامد بأن يقول: - «لا بدّ من أن تصير إلى حضرة الوزير مع ثقة لى ثمّ أردّك إلى دار أمير المؤمنين.» فالتمس حامد من نصر ثيابا يغيّر بها ما عليه من زىّ الرهبان، فامتنع مفلح من الإذن له فى ذلك وقال: - «قد أمرنى مولاي أن أوجّه به [181] فى الزىّ الذي حضر فيه.» فما زال نصر يشفع له حتّى أذن له فى تغيير زيّه وأنفذه مع ابن رنداق الحاجب وبادر مفلح بإنفاذ كاتبه إلى ابن الفرات يبشّره بحصول حامد وما أمر به المقتدر من تسليمه إليه. وكان ابن الفرات على قلق وانزعاج لمّا وقف على حصول حامد فى دار السلطان واستتر كتّابه وأولاده كلّهم. فلمّا جاءته رسالة مفلح سكن بعض السكون وصلّى الظهر وجلس وليس بين يديه غير ابن زنجى وهو ينظر فى العمل نظرا خفيفا إلى أن ذكر بعض الغلمان أنّ طيّارا من طيّارات الخدمة قد أقبل، ثمّ قدّم عند درجة داره وبادر البوّابون بخبره ودخل ابن الرنداق ومعه حامد بن العبّاس فلمّا رآه ابن الفرات قال له: - «لم تركت عملك وجئت؟» قال: «بكتابك جئت.» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 قال: «فلم لم تقصد دارى إن كنت جئت بكتابي؟» قال: «حرمت التوفيق.» ولم يزل يخاطبه بالكاف [1] من غير ذكر الوزارة. وأخرج ابن الرنداق رقعة نصر الحاجب إلى الوزير بإنفاذ حامد إليه فألقاها إلى ابن زنجى وقال: - «اكتب بوصوله.» فكتب وسلّم الجواب إلى ابن رنداق فنهض من المجلس. فلمّا انصرف ضعفت نفس حامد وأقبل يخاطب ابن الفرات بالوزارة ولان كلامه وبان فيه [182] الخضوع. وأمر ابن الفرات يحيى بن عبد الله قهرمان داره بأن يفرد لحامد دارا واسعة فى داره، ويفرشها فرشا حسنا ويتفقّده فى طعامه وشرابه وطيبه، حتّى يخدم [2] بمثل ما [3] كان يخدم به وهو وزير، وأن يقطع له كسوة فاخرة ويجعل معه لخدمته إذا كان خاليا خادمين أسودين أعجميين، وأمره أن يؤنسه عند الأكل وأن يخدمه فى تلك الحال من الخدم والفرّاشين من يوثق به. ففعل يحيى ذلك. ذكر ما عومل به حامد وما عمله هو دخل إلى حامد وقت العصر من ذلك اليوم عبد الله بن فرجويه وأحمد بن الحجّاج بن مخلد صهر موسى بن خلف وقد كان حامد استعمل معهما فى أيّام وزارته من المكاره ما لم يسمع بمثله قطّ. فوبّخاه على ما فعل بهما فجحد أن يكون رآهما أو وقع بصره عليهما. فلمّا أكثرا عليه قال لهما:   [1] . الكاف: كاف الخطاب: «ك» ، مثل قوله: بكتابك جئت. [2] . فى مط: حتّى يخدمه بمثل ما كان يخدمه به وهو وزير. [3] . ما: ساقطة من الأصل، وهي موجودة فى مط ومزيدة فى مد، كما هو الصحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 - «قد أكثرتما علىّ، وأنا أجمل القول لكما. إن كان ما استعملته من الأحوال التي تصفان وما عاملت الناس به قد أثمر لى خيرا فاستعملا مثله وزيدا عليه، وإن كان قبيحا وهو الذي أصارونى إلى أن تمكّنتم منّى فتجنّبوه. فإن السعيد من وعظ بغيره.» [183] فذهبا وأعادا ذلك على ابن الفرات فاسترجح حامدا وقال: - «ما أدفع رجلته [1] ولا أنكر دربته ولكنّه رجل من أهل النار يقدم على الدماء ومكاره الناس.» قال ثابت [2] فى كتابه فى التاريخ: ومن أعجب العجب أن يقول أبو الحسن ابن الفرات هذا القول ويصدّق قول حامد ويستجيده ويقول إنّه بأفعاله القبيحة من أهل النار وهو لا ينكر مع كرم طبعه وجلالة قدره وسلامة أخلاقه وإيثاره الإحسان إلى كلّ أحد على المحسّن ابنه طرائقه [3] المنكرة وأفعاله العظيمة التي أنكرها على حامد بن العبّاس وقد زاد عليها للواحد واحدا ولا ينهاه ولا يعظه بما لحق حامدا فيرجع ويكون السعيد الذي وعظ بغيره فإنّ من يقدم على الله تعالى على بصيرة وبعد التنبيه والتذكير خلاف من يقدم وهو مغترّ غافل. ثمّ راسل ابن الفرات حامد بن العبّاس فى الإقرار بماله بمائتي ألف دينار منها المائة التي كانت له عند إبراهيم جهبذه، لأنّه قد كان وقف على حصول هذا المال من جهة الجهبذ فى يد ابن الفرات. وأخذ المحسّن شيئا آخر من جهة مونس خادمه إلى حضرة المقتدر بالله، وكتب إليه أنّه أخذ ذلك عفوا بغير مناظرة ولا مكروه [184] وأطمع المقتدر   [1] . فى مط: رحلته. [2] . فى مط: فأنت! [3] . فى مط: طرائفه المنكرة! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 من جهة حامد فى أموال كثيرة واستخرج من مونس بعد ذلك بعد مكروه كثير أربعين ألف دينار وصودر جماعة من حاشيته بأموال أخر [1] . واستحضر ابن الفرات حامد بن العبّاس بحضرة الفقهاء والقضاة والكتّاب وناظره مناظرة طالت واستوفى حامد حججه إلى أن أخرج ابن الفرات عملا وجده فى صناديق غريب غلام حامد. وكان هذا الغلام يتولّى لحامد بيع غلّاته فى الفرضة، فواقف حامدا عليه وأحضر غريبا فاعترف بذلك العمل وكان حمله سهوا منه، لأنّ حامدا كان فى كلّ سنة يجمع جميع حسباناته ويغرّقها فى دجلة. فلمّا جرى المقدار على حامد بما جرى أنسى أن يطلب من هذا الغلام هذا العمل وكان فى جملة الظهور. فكان ما ثبت فى ذلك العمل من أثمان الغلّات لسنة واحدة خمسمائة ألف دينار ونيّفا وأربعين ألف دينار سوى شعير الكراع المحمول إلى الحضرة. فبان أنّ فى الضمان من الفضل أكثر من الضعف وظهر أيضا أنّ أسعار تلك السنة الثانية فى العمل أسعار مناقصة وأنّ أسعار السنين التي بعدها بأسرها أزيد، واتّجهت حجّة ابن الفرات على حامد وأخذ ابن الفرات خطوط القضاة والكتّاب وشفيع اللؤلؤي بما ظهر من الحجّة على حامد. وكان [185] ابن الفرات يرفق فى المناظرة ولا يسمعه [2] ولا يخرق به ولا يزيد على إيجاب الحجّة عليه ويدعه حتّى يستوفى منه لنفسه الحجّة. وكان المحسّن ابنه يشتمه بحضرة الناس أقبح شتم ويقول: - «ليس يخرج المال منك إلّا مثل المكاره التي كنت تجريها على الناس.»   [1] . وغبّره فى مد إلى «أخرى» . [2] . فى مط: ولا يمنعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 ويقول: «إنّى أعطى خطّى إن سلّم منّى أن أستخرج منه ألفى ألف دينار معجّلة ويبذل دمه إن لم يف بذلك.» ويستكفّه [1] أبوه وينهاه عن الشتم فلا ينتهى. فقال حامد: - «أيّها الوزير قد أكثر من شتمي واحتملته وليس الاحتمال له وإنّما أكرم مجلس الوزير وليس بعد الحال التي أنا فيها شيء يخاف أعظم من القتل فلولا ما يلزمني من توقير مجلس الوزير لرددت عليه.» فحلف أبو الحسن لئن عاد المحسّن لشتم حامد ليستعفينّ الخليفة من مناظرته. فحينئذ أمسك عن الشتم ثمّ أعاده إلى المناظرة مرّات وكان يحصل فى آخره أنّه لا مال له وكان قد باع ضياعه ومستغلاته وفرشه وداره ولم يبق له حيلة. فلمّا أعيت [2] ابن الفرات الحيلة فيه خلا به فى داره من دور حرمه من حيث لم يحضر معهما أحد من خلق الله ورفق به وحلف له على أنّه إن صدقه عن أمواله وذخائره لم يسلّمه إلى المحسّن ولم يخرجه عن داره [186] وحفظ نفسه. فإمّا أقام فى داره مكرما وإمّا خرج إلى فارس متقلّدا لها أو إلى أىّ بلد أحبّ مع خادم من خدم السلطان يحفظ نفسه، ووكّد اليمين على ذلك. ثمّ قال له: - «أنت تعلم أنّك ضمنتنى من أمير المؤمنين لأسلّم إليك فافتديت نفسي بسبعمائة ألف دينار وأقررت بها عفوا من مالي حتّى سلمت منك وأنت فقد تناسيت كلّ جميل فعلته وفعله أخى بك، والخليفة الآن مقيم على أن يسلّمك إلى المحسّن وهو حدث وقد أسلفته من المكاره ما لم يستعمله أحد مع وزير ولا مع ولد وزير، وأنا أرى لك أن تفتدى نفسك بمالك حتى تلحقك الصيانة   [1] . فى مط: وسكّته أبوه. [2] . فى مط: أحبّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 من التسليم إلى المحسّن.» ووكّد له الأيمان. فعند ذلك ركن حامد إلى قوله ويمينه وأقرّ له من الدفائن فى البلاليع احتفرها وتولّى هو بنفسه دفن المال فيها بخمسمائة ألف دينار، وأقرّ بأنّ له عند جماعة من الوجوه والشهود نحو ثلاثمائة ألف دينار وأقرّ بأنّ له كسوة وطيبا مودعة بواسط. فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وبادر بالركوب إلى المقتدر من غير أن يحضر معه المحسّن ولا عرّفه شيئا من الخبر. فسرّ المقتدر بذلك ووعده أن يسلّم إليه كلّ من ضمنه من نصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وغيرهما وأشار ابن الفرات [187] بإنفاذ شفيع لتسلّم هذا المال بواسط. فخرج شفيع فوجد تلك الأموال المدفونة واستخرج تلك الودائع وصار بها إلى المقتدر بالله. وما زال حامد فى دار ابن الفرات مصونا إلى أن توصّل المحسّن إلى المقتدر بالله على يد مفلح، فالتمس منه أن يوقّع إلى أبيه بأن يستخلفه على سائر الدواوين وجميع أمر المملكة. فتردّد [1] مفلح برسائل من المقتدر بالله إلى أبى الحسن ابن الفرات وتنكّر ابن الفرات لابنه وجرت فيه ألوان مناظرات إلى أن خلع على المحسّن وركب معه أبوه والقوّاد ثمّ انصرف أبوه إلى داره ومضى المحسّن إلى داره. ثمّ ركب المحسّن مع أبيه إلى دار السلطان وخاطب الخليفة بحضرة أبيه وقال: - «قد بقيت على حامد جملة وافرة من مال مصادرته، وإن سلّم إلىّ   [1] . فى مط: فيردّه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 استخرجت منه خمسمائة ألف دينار.» فأمر المقتدر أبا الحسن بتسليمه إليه. فقال ابن الفرات: - «قد عاهدته أن لا أسلّمه إليه.» فراجع المحسّن المقتدر إلى أن أمر المقتدر أمرا لم يمكن أبا الحسن مخالفته فيه. فسلّمه إليه وحمله المحسّن إلى داره وطالبه وأوقع به مكروها وأقام حامد على أنّه لم يبق له مال ولا حال، فأمر بصفعه فصفع خمسين صفعة وسقط كالمغشى عليه وما زال [188] يصفع إلى أن تكلّم وقال: - «أىّ شيء تريد [1] منّى؟» قال: «أريد المال.» قال: «ما بقي غير ضيعتي.» قال: «فاكتب بوكالة لابن مكرم- وكان أحمد بن كامل القاضي حاضرا- تقرّ فيها أنّك قد وكّلته فى بيعها.» فكتب ذلك ووقعت الشهادة على حامد. ثمّ إنّ المحسّن عامله بعد ذلك بمعاملة تجرى مجرى السخف من إذلاله والوضع منه. ثمّ سلّمه إلى خادم له مع خمسة من الفرسان وعشرة من الرجّالة ليحدروا به إلى واسط، ويبيع ضياعه وأملاكه. وشاع ببغداد أنّ حامدا طلب ليلة انحداره بيضا فحمل إليه وتحسّى منه وقت إفطاره عشر بيضات، وأنّ خادم المحسّن الموكّل به طرح فيه سمّا فما استقرّ فى جوفه حتّى صاح ولحقه ذرب عظيم ودخل واسط وهو لمآبه [2] . فسلّمه الخادم إلى محمّد بن علىّ البزوفري وجعله فى داره وبادر الخادم بالانصراف، وقام حامد أكثر من مائة مجلس ولم يتغذّ إلّا بسويق السّلت.   [1] . فى الأصل: تريدين، وهو سهو. فى مط: تريدون، وله وجه من الصّحّة. [2] . فى الأصل ومط ومد: لمابه، والتصحيح منّا، أى دخل واسط وهو مشرف على الموت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 وأراد البزوفري الاستظهار لنفسه فاستحضر القاضي والشهود بواسط وكتب كتابا يقول فيه: - «إنّ حامدا وصل إلى واسط وتسلّمه البزوفري وهو عليل من ذرب شديد لحقه فى طريقه بين بغداد وواسط وإنّه إن تلف من ذلك الذرب فإنّما مات [189] حتف أنفه، ولا صنع للبزوفرى فى شيء من أمره.» ووجّه بالكتاب إلى حامد فأظهر له حامد الاستجابة إلى الإشهاد على نفسه بما فيه. فلمّا دخل إليه القاضي والشهود قال لهم: - «ابن الفرات الكافر الفاجر المجاهر بالرفض عاهدني وحلف لى بأيمان البيعة والطلاق، على أنّى إن أقررت بجميع أموالى لم يسلّمنى إلى ابنه المحسّن وصانني عن كلّ مكروه وأطلقنى إلى منزلي وولّانى أجلّ الأعمال، فلمّا أقررت له بجميع ما ملكته سلّمنى إلى ابنه المحسّن فعذّبنى بأصناف العذاب وأخرجنى مع فلان الخادم واحتال علىّ وسقاني بيضا وطرح فيه سمّا فلحقني الذرب [1] ولا صنع للبزوفرى فى دمى فى هذا الوقت، ولكنّه فعل وصنع. ثمّ أخذ قطعة من أموالى وأمتعتى وجعل يحشوها فى المساور [2] البزيون المخلقة [3] فتباع المسورة بخمسة دراهم وفيها أمتعة تساوى ثلاثة آلاف دينار فيشتريها هو فاشهدوا على ما شرحته لكم.» وتبيّن البزوفري حينئذ أنّه أخطأ فيما فعله. وكتب صاحب الخبر بواسط إلى ابن الفرات بجميع ما تكلّم به حامد. وتوفّى حامد بن العبّاس ليلة الثالثة عشر من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. [190]   [1] . كذا فى الأصل: الذرب. فى مط: الكرب. [2] . المسور: متكأ من جلد. [3] . والعبارة فى مط: وجعل نحوها فى المساور النريون المخلفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 ما جرى فى أمر علىّ بن عيسى وتسليمه إلى ابن الفرات لمّا قبض المقتدر على علىّ بن عيسى وجعله فى يد زيدان القهرمانة، راسله بأن يقرّ بأمواله. فكتب رقعة يقول فيها: إنّه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار. واتفق أن ورد الخبر بدخول أبى طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى إلى البصرة سحر يوم الإثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر فى ألف وسبعمائة راجل، وأنّه وصل إليها بسلاليم نصبها بالليل على سورها وصعد إلى أعلى السور، ثمّ نزل إلى البلد وقتل البوّابين الذين على أبواب السور وفتح الأبواب وطرح بين كلّ مصراعين منها حصى ورملا كان معه على الجمال لئلا يمكن إغلاق الباب عليه، وأنّه لم يعرف سبك المفلحى والى البصرة إلّا فى سحر يوم الإثنين ولم يعلم أنّه ابن أبى سعيد الجنّابى، وقدّر أنّهم أعراب. فركب مغترّا ولقيه وجرت بينهم حرب شديدة وقتل سبك ووضع أبو طاهر فى أهل البصرة السيف وأحرق المربد وبعض المسجد الجامع ومسجد قبر طلحة ولم يعرض للقبر. وهرب الناس إلى الكلّاء [1] ، فكانوا يحاربونهم عدّة أيّام ثمّ أخذهم السيف فطرحوا أنفسهم فى الماء فغرق أكثرهم. وأقام أبو طاهر بالبصرة [191] سبعة عشر يوما ويحمل على جماله كلّ ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان، ثمّ انصرف إلى بلده فأنفذ إلى ابن الفرات فى الوقت الذي ورد فيه   [1] . فى الأصل: كلّا (دون مدّ) . وما فى مط دون تشديد. كلّاء: محلّة مشهورة وسوق بالبصرة (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 خبر القرمطى بنىّ بن نفيس وجعفرا الزّرنجى إلى البصرة وقلّد محمّد بن عبد الله الفارقي أعمال المعاون بالبصرة وخلع عليه وانحدر فى الطيّارات والشذاءات. وورد الخبر بوصوله إليها بعد انصراف أبى طاهر الجنّابى عنها فأقام فيها الفارقي رجاله وانصرف بنىّ والزّرنجى. وكان بنىّ بن نفيس أنفذ جماعة من القرامطة إلى بغداد ذكر أنّهم استأمنوا إليه وأنّهم زعموا أنّ علىّ بن عيسى كاتبهم بالمصير إلى البصرة وأنّه وجّه إليهم فى عدّة أوقات بهدايا وسلاح فوافوا بغداد وأنهى ابن الفرات الحال فى ذلك إلى المقتدر بالله. ذكر مناظرة ابن الفرات علىّ بن عيسى وعرض الكتاب بعينه عليه فأمره المقتدر بإخراج علىّ بن عيسى إليه ليناظره، والجمع بينه وبين القرامطة حتّى يواجهوه بما قالوا فيه، ففعل ابن الفرات فاحتجّ علىّ بن عيسى بأن قال: - «إنّه من كان فى مثل حالتي وتحت سخط السلطان كاشفه الناس بالكذب [192] والباطل لا سيّما إذا كان الوزير منحرفا [1] ومغتاظا.» ثمّ أخذ ابن الفرات يخاطبه فى أمر الأعمال وكان فيما ناظره عليه أمر المادرائيين وقال: - «قد كان [2] أخذ ابن بسطام خطوطهما فى أيّام وزارتي الثانية صلحا عمّا وجب عليهما من خراج ضياعهما بمصر والشام وما أخذاه من المرافق بها مدّة تقلّدهما فى أيّامك الأولى بألفي ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وأدّيا   [1] . كذا فى الأصل ومط ومد: منحرفا. ولعله «منخرقا» . [2] . قد كان: ساقط من مد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 فى أيّامى نحو خمسمائة ألف دينار فصرفت على ابن [1] بسطام ساعة وليت الدواوين وقلّدت هذين العاملين المجاهرين باقتطاع مال السلطان وأنشأت إليهما كتابا عن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بإسقاط ذلك بأسره عنهما، ثمّ ادّعيت أنّ أمير المؤمنين أمر بذلك وقد أنهيت هذه الحال إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فقال: - «لم آمر بشيء من هذا ولا ظنّ أنّ أحدا يقدم عليه بمثلها.» فأجاب علىّ بن عيسى بأنّه كان فى الوقت [كاتبا] [2] لحامد بن العبّاس يخلفه على العمل، وكان أمير المؤمنين أمرنى بقبول قوله وأنّ حامدا ذكر أنّ أمير المؤمنين أمر بإسقاط هذا المال عن هذين العاملين ووقّع بذلك توقيعا فوقّعت تحت توقيع حامد بامتثال أمره كما يفعل خليفة الوزير فيما يأمره به صاحبه. فقال [193] ابن الفرات: - «أنت كنت تعارض حامدا وتخاصمه أبدا فى اليسير تخرجه عليه فى عبرة ما كان ضمنه حتّى جرى بينكما ما تحدّث به الناس. فكيف تركت أن تستأذن أمير المؤمنين فى هذا المال العظيم الجسيم؟» فقال علىّ بن عيسى: - «كنت فى أوّل الأمر كاتبا لحامد مدّة سبعة أشهر، ثمّ بان لأمير المؤمنين ما أوجب أن يعتمد علىّ، وكان الذي جرى من أمر المادرائيين فى صدر أيّام حامد.» فقال له ابن الفرات: - «فلمّا اعتمد عليك أمير المؤمنين ألّا صدقّته عن خطأ حامد فى هذا   [1] . فى الأصل: بن. وفى مط: ابن. [2] . ما بين المعقوفتين غير موجود فى الأصل، أضفناه من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 الباب وتلافيته؟» فقال: «أغضيت عن ذلك لأنّى كنت فى ذى القعدة سنة ستّ أوصلت الحسين بن أحمد إلى حضرة أمير المؤمنين وأخذت خطّه فى مجلسه بما عقدته عليه من ضمان أعمال الخراج والضياع لمصر [1] والشام فى كلّ سنة [2] بعد النفقات الراتبة وإعطاء الجيش فى تلك النواحي وهو ألف ألف دينار فى كلّ سنة خالصة للحمل إلى بيت المال لا ينكسر منه درهم واحد وذلك بعد أن أخذت خطّه بجميع ما تصرّف فيه من عطاء الجيش والنفقات الراتبة فى ناحية ناحية ووقفت عليه أيضا فى كلّ سنة لما ينكسر ويتأخّر فى هذه الأعمال مائة وثلاثين ألف دينار [194] وخطّه بذلك فى ديوان [3] المغرب وهذا غاية ما قدرت عليه.» فقال ابن الفرات: - «أنت تعمل أعمال الديوان منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب سنين كثيرة ثمّ تولّيت الوزارة ودبّرت أمر المملكة مدّة طويلة هل رأيت من يدع مالا واجبا يؤدّى معجّلا ويأخذ عوضا منه مالا مؤجّلا يحال به على ضمان، وهبك أغضيت كما ذكرت ورأيت ذلك صوابا فى التدبير، فهل استوفيت مال هذا الضمان من هذا الضامن [4] فى مدّة خمس سنين دبّرت فيها المملكة؟» فأجاب عن ذلك بأنّه قد كان ورد من مال الضمان للسنة الأولى جملة. ثمّ سار العلوي من إفريقية حتّى تغلّب على أكثر النواحي بمصر فنفذ مونس المظفّر إلى مصر لمحاربته فانصرف أكثر المال إلى أعطيات الجند ونفقات   [1] . كذا فى الأصل: لمصر. وفى مط ومد: بمصر. [2] . فى كل سنة: العبارة سقطت من مد. [3] . فى الأصل: الديوان. [4] . فى مط: الضمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 العساكر وانكسر باقيه لأجل استخراج العلوىّ ما استخرجه من أموال النواحي المجاورة لمصر. - «فقال ابن الفرات: - «فقد انهزم العلوىّ منذ صفر سنة تسع ووجب على هذا الضامن مال سنتين كاملتين بعد هزيمة العلوىّ فهل استخرجت من هذا الضامن ألفى ألف دينار؟» فأجاب عن ذلك ما لم يحفظ. ثمّ قال له فى آخر خطابه: - «فقد [195] أمر أمير المؤمنين بمطالبتك بالأموال التي جمعتها وخنته فيها فينبغي أن تقرّ بها عفوا وتصون نفسك عن المكروه.» فقال علىّ بن عيسى: - «لست من ذوى المال وما أقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار.» ثمّ ناظره على أموال الحاشية، فقال لعلىّ بن عيسى: - «أنت قد أسقطت من أرزاق الحرم والولد والحشم والفرسان الذين كنت أوفّيهم أرزاقهم على الإدرار فى أيّامى الأولى والثانية مدّة خمس وسنين دبّرت فيها أمر المملكة ما يكون مبلغه فى كلّ شهر مع ارتفاع الضياع التي هي ملك خاصّة خمسة وأربعين ألفا يكون فى السنة خمسمائة وأربعين [1] ألف دينار وفى هذه المدّة ستّة آلاف ألف دينار ولست تخلو من أن تكون احتجنتها [2] لنفسك أو أضعتها.» فقال علىّ بن عيسى: - «ما استغللته من هذه الضياع، ووفّرته من أرزاق من يستغنى عنه تمّمت   [1] . فى الأصل ومط ومد: أربعون (فى كلا الموضعين) . [2] . كذا فى الأصل: احتجنتها. وفى مط: احتججتها. احتجن المال: ضمّه إلى نفسه واحتواه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 به عجز الدخل عن النفقات المسرفة حتّى اعتدلت الحال فلم أمدّ يدي إلى بيت مال الخاصّة فأمّا الخمسة والأربعون الألف الدينار التي كنت تحملها من أموال المرافق فإنّى ما استصوبت [1] ما استصوبته أنت من أخذها والإذن للعمّال فى أن يرتفقوا، بل حضرتها ورفعتها فلم أعرض لها، لأنّها كانت طريقا إلى تلف أموال السلطان وظلم الرعيّة [196] وخراب البلاد، وأنت كنت تعوّل فى النفقات على ما كنت تحوّله من بيت مال الخاصّة إلى بيت مال العامّة، فترضى به الحاشية وتخرب به بيت المال.» وتكرّر الخطاب فى هذا المعنى. ثمّ ناظره على ما حمله إلى القرامطة من الهدايا والسلاح وما تردّد بينه وبينهم من المكاتبات مرّة والمقاربات أخرى فقال: - «أردت استمالتهم وإدخالهم فى الطاعة وكففتهم عن الحاجّ وأعمال الكوفة والبصرة مدّة ولايتي دفعتين، وأطلقوا من الأسارى الذين كانوا من المسلمين عدّة.» فقال له ابن الفرات: - «فأىّ شيء أعظم من أن تشهد أنّ أبا سعيد وأصحابه الذين جحدوا القرآن ونبوّة النبي عليه السلام واستباحوا عمان وقتلوا أهلها وسبوهم مسلمين وتكاتبهم بذلك وتؤخّر إطلاق أرزاق من يحفظ السور بالبصرة حتّى أخلوا بمراكزهم فدخلها القرمطى وقتل أهلها.» فاحتجّ بحجج يطول شرحها. فسأل نصر الحاجب والمحسّن أبا الحسن ابن الفرات أن يدعهما يخلوان به، فخلوا وأشارا عليه بالمصادرة فاستجاب إليها، وألزماه ثلاثمائة ألف دينار   [1] . كذا فى الأصل ومط: ما استصوبت. وفى مد: ما أستصوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 يعجّل منها فى مدّة شهر مائة ألف دينار [1] أوّلها يوم خروجه من دار السلطان إلى حيث يأمن فيه على نفسه ويصل إليه الناس. [197] فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وأنفذه إلى المقتدر بالله فأمضاه. ثمّ كتب ابن الفرات كتبا عن نفسه إلى كلّ واحد من أصحاب الدواوين يذكر فيها خيانة علىّ بن عيسى وسرقته وما واجهه به وما بذله من المصادرة. وحكى أبو الفرج ابن هشام عن ابن المطوّق أنّ أبا الحسن علىّ بن عيسى كان سأل أبا الحسن ابن الفرات أن يتجافى له عن ارتفاع ضيعته لسنة إحدى عشرة وثلاثمائة ليؤدّيه من جملة المصادرة وأنّ ابن الفرات قال له: - «هو خمسون ألف دينار.» فقال علىّ بن عيسى: - «قد رضيت بعشرين ألف دينار.» وذكر أنّه دون ذلك. فلمّا نفى إلى مكّة وجد فى ضيعته نحو الخمسين الألف الدينار [2] . قال أبو الفرج: فسمعت الهمانى الواسطي يقول: سمعت أبا الحسن علىّ بن عيسى يوبّخ أبا عبد الله البريدي ويقول له: - «يا با عبد الله، أما خفت الله حيث حلفت بما حلفت به ونحن مجتمعون فى دار السلطان أطال الله بقاءه أنّ استغلالك واستغلال إخوتك من ضيعتكم بواسط عشرة آلاف دينار وقد وجدته من حساب رفعه إلىّ- يعنى الهمانى [3]- ثلاثين ألف دينار.»   [1] . فى مط: ألف دينار. بإسقاط «مائة» . [2] . فى مط: الألف الألف الدينار. [3] . فى مط: إليهما فى. بدل «الهمانى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 فقال أبو عبد الله: - «افتديت بسيّدنا- أيّده الله- حيث سأله أبو الحسن ابن الفرات عن ارتفاع ضيعته فلم يصدقه وساتره [198] وعلمت أنّه مع ديانته لو لم يعلم أنّ التقيّة مباحة عند من يخاف ظلمه، لما حلف بتلك اليمين.» فكأنّه ألقم علىّ بن عيسى حجرا. ونعود إلى تمام خبر علىّ بن عيسى مع ابن الفرات امتنع المقتدر من تسليم علىّ بن عيسى إلى ابن الفرات. فذكر علىّ بن عيسى أنّه لا يمكنه أن يؤدّى مال مصادرته إلّا بعد أن يخرج من دار الخليفة. وأحضره المحسّن دفعتين وطالبه ورفق به فلم يؤدّ إلّا ثمن دار باعها فقيّده المحسّن، فلمّا رأى نصر ذلك نهض عن المجلس وطالب المحسّن علىّ بن عيسى فقال: - «لو كنت أقدر هاهنا على أداء المال لما قيّدت.» فألبسه جبّة صوف وأقام على أمره فحينئذ صفعه عشر صفعات. فقام نازوك من المجلس، فقال المحسّن: - «إلى أن تقوم؟» فقال: «ما أحبّ أن أحضر مكروه هذا الشيخ.» وأعيد علىّ بن عيسى إلى محبسه، وبلغ أبا الحسن ابن الفرات ما عامل به المحسّن علىّ بن عيسى فأقلقه ذلك وقال لابنه: - «قد جنيت علينا بما فعلته، كان يجب أن تقتصر على القيد.» ابن الفرات يشفع لعلىّ بن عيسى ثمّ كاتب المقتدر بالله يشفع لعلىّ بن عيسى وذكر أنّه لمّا وقف على ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 جرى عليه لحقه من الغمّ أمر لا يذكر مثله وأنّه لم يطعم طعاما منذ عرف خبره، لأنّه شيخ من مشايخ الكتّاب وقد خدم أمير المؤمنين [199] وتحرّم بداره ومثله يخطئ وأمير المؤمنين أولى بالصفح، وسأل أن يزال عنه القيد والجبّة الصوف. فأجابه المقتدر بأنّ علىّ بن عيسى مستحقّ لأضعاف ما جرى عليه وأنّ المحسّن قد أصاب فيما عامله به، وأنّه قد شفعه فى أمره، وأمر بحلّ قيده ونزع جبّة الصوف عنه، وتقدّم بعد ذلك بتسليم علىّ بن عيسى إلى ابن الفرات ليؤدّى مال التعجيل من مصادرته. فلمّا حمل إليه [قال] [1] : - «لست أحبّ أن يكون فى دارى لئلّا يلحقه مرض وهو شيخ فينسب إلىّ، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يأذن فى تسليمه إلى شفيع.» فقيل للمقتدر ذلك. فقال: - «أنا أسلّمه إليك لأنّك الوزير فاحفظ نفسه ولا تسلّمه إلى المحسّن، فأمّا غير هذا فأنت أولى وما تراه.» فأنفذ ابن الفرات إلى شفيع وأحضره. وأخذ ابن الفرات فى توبيخ علىّ بن عيسى وعاتبه على أمر وقوف وقّع أمير المؤمنين بردّها عليه وأنّ مالها كان ينصرف إلى أشياء يتقرّب بها إلى الله- عزّ وجلّ- وينصرف بعضها إلى ولده وغلمانه وأنّ ما فعله لا يجوز فى الدين ولا فى المروءة. فأخذ علىّ بن عيسى يعترف بالتفريط الذي وقع منه وسأله قبول عذره، وكان المحسّن حاضرا [200] فأطنب فى توبيخه وتقريعه على هذا الباب، فأجابه بمثل ما أجاب به والده وزيادة. وقال فى عرض كلامه:   [1] . ما بين المعقوفتين ساقط فى الأصل، فأضفناه من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 - «أنا والله أستحليك. [1] .» فقامت على المحسّن القيامة من هذه الكلمة وغلظت على أبيه أيضا، فأجابه المحسّن بجواب فيه غلظة وأقبل أبوه يسكّنه ويرفق به، ثمّ قال لعلىّ بن عيسى: - «أبو أحمد كاتب أمير المؤمنين وصنيعته.» وأخذ يصف محلّه منه وتفويضه إليه. وأخذ علىّ بن عيسى فى الاعتذار من تلك الكلمة. ونهض علىّ بن عيسى مع شفيع فأجلسه شفيع فى صدر طيّاره وحمله إلى داره. وحكى أبو الحسن ابن أبى هشام أنّه كان حاضرا المجلس وأنّه رأى الحسن بن دولة ابن أبى الحسن ابن الفرات خرج فى تلك الحال، فقام له علىّ بن عيسى وقبّل رأسه وعينيه فاستكثر ذلك ابن الفرات وقال له: - «لا تفعل يا أبا الحسن، هذا ولدك.» ثمّ فتح دواته ووقّع إلى هارون بن عمران الجهبذ أن يحمل إلى أبى الحسن علىّ بن عيسى بلا دعاء ألفى دينار يستعين به على أمره فى مصادرته، وقال لابنه المحسّن: - «وقّع أنت أيضا بشيء.» فوقّع بألف دينار، ثمّ أحضرا بشر [2] بن هارون وكتب قبضا لعلىّ بن عيسى من مال مصادرته بهذه الثلاثة الآلاف الدينار. [201] فانصرف علىّ بن عيسى شاكرا. ولم يقبل علىّ بن عيسى من أحد من الكتّاب معونة فى مصادرته مع بذل جماعتهم له وحملهم إليه ما أطاق كلّ واحد منهم، إلّا من ابن فرجويه وابني   [1] . كذا فى الأصل: استحليك. فى مط: استحلّك. والمثبت فى مد: يستجليك. [2] . فى مط: بسر (بالسين المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 أبى الحسن بن الفرات الفضل والحسين، فإنّه قبل من كلّ واحد منهما خمسمائة دينار وحمل إليه أبو الهيجاء ابن حمدان عشرة آلاف دينار، فردّها وقال: - «لو كنت متقلّدا فارس لقبلتها منك ولكنّى أعلم أنّ هذه جميع حالك [1] وما أحبّ أن أثلمك.» فحلف أبو الهيجاء أن لا يرجع إلى ملكه، ففرّقت فى الطالبيين وفى الصدقة على الضّعفى وبذل له شفيع اللؤلؤي ألفى دينار، فامتنع من قبولها وقال: - «لا أجمع عليك مؤونتي ومعونتى فى مصادرتى.» وقبل من هارون بن غريب ومن نصر الحاجب وشفيع والمقتدري. إبعاد على بن عيسى إلى مكّة ثمّ إلى صنعاء فلمّا أدّى علىّ بن عيسى أكثر مال مصادرته قال ابن الفرات للمقتدر: - «إنّ فى مقام علىّ بن عيسى فى دار شفيع ضررا عليه، فإنّ الأراجيف قد كثرت وإن ردّ إلى دار السلطان زاد الإرجاف.» والتمس الإذن فى إبعاده إلى مكّة فأذن له المقتدر فى ذلك، فأطلق ابن الفرات لما قدر [2] له من نفقته وما يحتاج إليه سبعة آلاف درهم، فخرج إليها. ثمّ كتب ابن الفرات بإبعاده إلى صنعاء اليمن [202] فأبعد إليها. ابن الفرات وأسباب علىّ بن عيسى ثمّ استخرج ابن الفرات من أسباب علىّ بن عيسى وعمّاله وكتّابه مالا   [1] . ما فى الأصل يشبه أن يكون «حلك» . وفى مط: حالك. ما فى مد: مالك. [2] . فى مط: ورد، بدل «قدر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 عظيما بالمكاره وبسط يد ابنه فأنكر الناس أخلاقه وما كان يعرف من كرمه ونبله. فأمّا أبو علىّ ابن مقلة فإنّه كتب إلى أبى عبد الله محمّد بن إسماعيل [بن] [1] زنجى رقعة وكانت بينهما مودّة وضمّنها أبياتا له ما أثبتها لأنّى لم أستجدها. وكتب رقعة إلى ابن الفرات يذكّره بحرمته وقديم خدمته ويستعطفه وجعلها فى درج تلك الرقعة وسأله إيصالها فلمّا وقف ابن الفرات عليها تقدّم بحلّ قيده وتقرّير مصادرته على ما ينهض به ثمّ خفّف عنه بعد ذلك وأطلقه. فأمّا ابن الحوارى فإنّ ابن الفرات سلّمه إلى ابنه المحسّن فصفعه صفعا عظيما فى دفعات وضربه بالمقارع ثمّ أخرجه إلى الأهواز مع مستخرج له، فلمّا وصل إليها قتله المستخرج. فأمّا المادرائيّان فانّه كتب بإشخاصهما، فحمل الحسين بن أحمد وهو أبو زنبور [2] فاعتقله ابن الفرات فى داره واستحضر القضاة وأصحاب الدواوين إلى داره وحضر المحسّن وأحضروا أعمالا عملوها لأبى زنبور وناظره ابن الفرات عليها وأخذ خطّه من الأبواب التي نوظر عليها بألفي ألف وأربعمائة ألف دينار. ثمّ استكثر [203] ابن الفرات هذا المال فقرر مصادرته على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وعرض خطّه بذلك على المقتدر بالله فاستصاب فعله. وتناهى ابن الفرات فى معاملته بالجميل، وكان يسترجله ويصف فهمه ويقول: إنّه ما خاطب عاملا أفهم منه ولا أجلد، وسامه أن يواجه علىّ بن   [1] . ما بين المعقوفتين ساقط فى الأصل ومط، وأضيف فى مد أيضا. [2] . فى مط: أبو دينور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 عيسى بأنّه أرفقه فى أيّام تقلّده ديوان المغرب وفى أيّام وزارته فاستعفاه من ذلك. فقال له ابن الفرات: - «فكيف واجهتني أنا بأمره ولا تواجهه بأمرى؟» فقال: «ما حمدت معه تلك الحال ولا أستحسنها إلى أحد مع الظاهر من إساءة الوزير إلىّ بتسليمه إيّاى إلى ابن بسطام وبسطه يده علىّ فى أيّام وزارته الثانية، فكيف تستحسنون لى هذه الحال فى معاملة علىّ بن عيسى مع قديم وحديث إحسانه إلىّ.» فأعفاه ابن الفرات من ذلك. ثمّ قدم محمّد بن علىّ المادرائى ولم يكن تقلّد فى أيّام وزارة حامد ابن العبّاس شيئا من الأعمال، فناظره ابن الفرات على المال الباقي عليه وعلى الحسين بن أحمد من ضمان أجناد الشام ومصر وعن حقّ بيت المال فى ضياعه [1] وهو حينئذ شريك للحسين بن أحمد فى الضمان فاحتجّ فى بعضه. فقال له ابن الفرات: - «لست بأفهم من الحسين وقد احتجّ بأكثر ما ذكرت [204] فلم تثبت له حجّة.» وأخذ خطّه بلا تهديد ولا مكروه بألف ألف وسبعمائة ألف دينار، ثمّ سلّمه إلى المحسّن وكان فى داره على أتمّ صيانة، وأقام فيها يوما واحدا. وكان المحسّن يتطاول عليه [2] إذا حضر. ثمّ أطلقه وكان السبب فى ذلك أنّه حمل إليه مالا جليلا وثيابا فاخرة وجواهر نفيسة وخدما روقة.   [1] . كذا فى الأصل ومط: ضياعه. وما فى مد: ضمانه. [2] . فى الأصل: يتطاول عليه له. فى مط: يتطاول له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 ذكر ما دبّره ابن الفرات فى أمر مونس حتّى أبعده كان ورد مونس من الغزو بعد أن ظفر بالروم ظفرا حسنا، فتلقّاه المحسّن ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وسائر القوّاد ولقى المقتدر بالله، فتحدّث الناس أنّ مونسا أنكر ما جرى على الكتّاب والعمّال من المكروه العظيم من ابن الفرات والمحسّن وما ظهر من وفاة حامد بن العبّاس، وأنّ أكثر الفرسان التفاريق بالحضرة قد عملوا على الانضمام إلى عسكر مونس المظفّر لتروج أرزاقهم. فغلظ ذلك على ابن الفرات وصار إلى المقتدر بالله بعد أسبوع من قدوم مونس المظفّر فخلا به وأعلمه ما عمل مونس عليه من ضمّ الرجال إليه، وأنّه إن تمّ له ذلك صار أمير الأمراء وتغلّب على أمر المملكة ولا سيّما والقوّاد [205] والغلمان منقادون له. وعظّم عليه الأمر وأغراه به إغراء شديدا. فلمّا ركب مونس المظفّر إلى دار المقتدر بالله، قال له المقتدر بحضرة ابن الفرات: - «ما شيء أحبّ إلىّ من مقامك، لأنّى أجمع إلى الأنس بك والتبرّك برأيك الانتفاع بحضورك فى أمر الحضرة كلّه، ولكن أرزاق الفرسان برسم التفاريق عظيمة، وما يتهيّأ أن تطلق أرزاقهم على الإدرار ولا النصف من استحقاقهم وليس يطيعون فى الخروج إلى نواحي مصر والشام، لأنّهم يحتجّون بقصور أحوالهم عن ذلك. وقد علمت أنّ الرىّ وأبهر وزنجان متعلّقة بأخي صعلوك وكذلك أرمينية وأذربيجان بيوسف بن أبى الساج، وإن أقمت ببغداد التمس الرجال الانضمام إليك، فإن لم أجبهم شغبوا وأفتنوا البلد، وإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 أقمت لم يرج [1] من مال ديار ربيعة ومضر [2] والشام شيء، وليس يفي مال السواد والأهواز وفارس بنفقات الحضرة ومال عسكرك. والوجه أن تخرج إلى الرقّة وتتوسّط عملك وتنفذ عمّالك فى اقتضاء الأموال وتستخرج ما يجب على المادرائيّين من الأموال العظيمة التي بذلوا بها خطوطهم وتهابك [3] عمّال المعاون والخراج بمصر والشام فيستقيم أمر [206] الملك.» ورسم له الشخوص من وقته [4] فى سائر الغلمان الحجريّة والساجيّة برسمه. فعلم مونس أنّ هذا من رأى ابن الفرات وتدبيره وعرف شدّة عداوته له، فسأل المقتدر بالله أن يأذن له فى المقام بقية شهر رمضان حتّى يعيّد ببغداد، فأجابه إلى ذلك. فلمّا عيّد صار إلى ابن الفرات لوداعه، فقام له قياما تامّا فاستعفاه مونس وحلف عليه أن يجلس فى المصلّى فامتنع، وسأله مونس فى عدّة أمور فوقّع له بجميع ما التمسه وأراد القيام عند خروجه من حضرته فاستحلفه برأس الخليفة ألّا يفعل، ثمّ ودّع الخليفة وخرج إلى مضربه فى يوم مطير. ما دبّره ابن الفرات بعد مونس فى أمر الحاشية ولمّا فرغ ابن الفرات من مصادرة جميع الكتّاب وأخرج مونسا شرع فى القبض على نصر الحاجب وشفيع المقتدري. فوصف للمقتدر ما فى جنب   [1] . الضبط من الأصل. [2] . ما فى الأصل يحتمل «مصر» و «مضر. فى مط: مصر. وفى مد: مضر. [3] . كذا فى الأصل: تهابك. [4] . فى الأصل ومط: من وقته. فى مد: من رقّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 نصر خاصّة من الأموال والضياع وكثرة ما يصل إليه من الأعمال التي يتولّاها، ثمّ من سائر وجوه مرافقه فأجابه المقتدر إلى تسليمه إليه، واتّصل الخبر بنصر فلجأ إلى السيّدة واستغاث إليها. [207] فكلّمت ابنها وقالت له: - «قد أبعد ابن الفرات مونسا عنك وهو سيفك وثقتك ويريد الآن أن ينكب حاجبك ليتمكّن منك فيجازيك على ما عاملته به من إزالة نعمه وهتك حرمه. فليت شعري بمن تستعين عليه إن أراد بك مكروها من خلعك والتدبير عليك، لا سيّما مع ما أظهر من شرّه وإقدام ابنه المحسّن على كلّ عظيمة.» وقد كان نصر مضى إلى منزله واستظهر بتفريق ماله فى الودائع واستتره فراسلته السيّدة بالرجوع إلى داره، فوثق وعاد وهو مع ذلك شديد التذلّل لابن الفرات وابنه وابن الفرات يعرّف المقتدر من أحواله ومن إفساده ابن أبى الساج حتّى ضيّع على الخلافة خمسة آلاف ألف دينار من ارتفاع نواحيه ما يهمّ معه المقتدر بتسليمه إليه. فلمّا كان فى ذى الحجّة من هذه السنة ورد الخبر على ابن الفرات بإيقاع ابن أبى الساج بأحمد بن علىّ أخى صعلوك وقتله إيّاه وأنّه أخذ رأسه وهو على حمله إلى بغداد. فركب المحسّن إلى المقتدر والتمس من مفلح أن يوصله إليه من غير حضور نصر الحاجب فأوصله وبشّره بالفتح وبشّره بالفتح وأعلمه أنّ نصر الحاجب يكره ذلك وأنّه عدوّ لابن أبى الساج وهو الذي [208] أفسده على السلطان فلذلك كتمه الخبر. ودخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة فلمّا كان بعد أيّام ظهر فى دار للسيّدة كان المقتدر يكثر الجلوس فيها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 عند والدته رجل أعجمى على سطح مجلس من مجالسها وعليه ثياب فاخرة وتحتها ممّا يلي بدنه قميص صوف ومعه محبرة ومقدحة وسكّين وأقلام وورق وسويق وحبل، يقال إنّه دخل مع الصّنّاع فحصل فى الموضع وبقي أيّاما فعطش وخرج ليطلب الماء فظفر به وسئل عن خبره فقال: - «ليس يجوز أن أخاطب غير صاحب الدار.» فأخرج إلى الوزير أبى الحسن ابن الفرات فقال له: - «أنا أقوم مقام صاحب الدار فقل ما شئت.» فقال: «ليس يجوز غير خطابه فى نفسه ومسألته عمّا احتاج إليه.» فرفق به فلم يغن الرفق. فلمّا لم تكن فيه حيلة أخذ الخدم يقرّرونه بالضرب والعنف فعدل عن الكلام بالعربية فقال بالفارسية: - «ندانم [1] .» فصلب ولفّ عليه حبل من قنّب ومساقة [2] ولطّخ بالنفط وضرب بالنار. وخاطب ابن الفرات نصرا الحاجب بحضرة [209] المقتدر فى أمر هذا الرجل، وقال له: - «ما أحسبك ترضى لنفسك أن يجرى عليك فى دارك مثل هذا الذي جرى على أمير المؤمنين وأنت حاجبه وحافظ داره وما تمّ مثل هذا على أحد من الخلفاء فى قديم ولا حديث وهذا الرجل هو صاحب أحمد بن علىّ أخى صعلوك لا محالة، والدليل على ذلك أنّه أعجمى، فإمّا أن يكون أحمد   [1] . ندانم: الضّمة من الأصل. ولا ضمّة فى مط. ندانم: لست أعرف. [2] . كذا فى الأصل ومط: مساقة. فى مد: مشاقة (بإعجام الثاني) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 بن علىّ- قبل أن يقتل- واطأك [1] حتّى أوصلته إلى هذا الموضع وإمّا أن تكون أنت دسسته ليفتك بأمير المؤمنين لتخوّفك على نفسك منه ولأجل عداوتك لابن أبى الساج وصداقتك لأحمد بن علىّ ولأجل عظيم ما وصل إليك من أحمد بن علىّ من الأموال.» فقال له نصر الحاجب: - «ليت شعري أدبّر على أمير المؤمنين لأنّه أخذ أموالى وهتك حرمي أو قبض ضياعي أو حبسني عشر سنين؟» فقال المقتدر: - «لو تمّ هذا على بعض العوامّ لكان عظيما.» وتمكّن ابن الفرات منه واندفع عنه المكروه بما ورد به الخبر ممّا جرى على الحاجّ من القرمطى وسنشرحه فيما بعد. فشغل ابن الفرات بنفسه وقوى أمر نصر وسلم من ابن الفرات. وفى هذه السنة ورد الكتاب بشرح الخبر فى مصير ابن أبى الساج من أذربيجان إلى الرىّ ومحاربته [210] أحمد بن علىّ وحمل رأس أحمد بن علىّ وجثّته إلى مدينة السلام. تفريق المال على طلّاب الأدب وفيها فرّق ابن الفرات على طلّاب الأدب مالا وعلى من يكتب الحديث مثله، وكان السبب فى ذلك أنّه جرى حديثهم فى مجلسه فقيل لعلّ الواحد منهم يبخل على نفسه بدانق [2] فضّة أو دونها ويصرفه إلى ثمن ورق وحبر.   [1] . فى مط: واصلك. بدل «واطأك» . [2] . كذا فى مط ومد. وما فى الأصل: بدنق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 وكان ابن الفرات موصوفا بسعة الصدر وحسن الخلق، وكان فرّق فى الشعراء مالا. فقال لمّا جرى حديث هؤلاء: - «أنا أولى من عاونهم على أمرهم.» وأطلق لهم لما يصرفونه إلى ذلك عشرين ألف درهم.» فذكر أنّه لم يسبق ابن الفرات إلى ذلك إلّا ما حدّث به الضبعي عن رجاله أنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى عند وفاته بالثلث من ثلثه لطلّاب الأدب وقال: - «هم مجفوءون [1] .» وكان يستعمل كلّ يوم فى مطبخ ابن الفرات من لحوم الحيوان وفى دوره من الثلج الكثير ومن الأشربة التي تعرض على كلّ من دخل ومن الشمع ومن القراطيس ما لم يستعمله أحد قبله ولا بعده. وكان إذا ولى الوزارة ارتفعت أسعار الشمع والثلج والقراطيس خاصّة وإذا عزل رخصت. وكان أهدى إلى مونس [211] المظفّر عند موافاته من المغرب وإلى بشرى ويلبق وإلى نازوك وغيرهم من الغلمان والخدم لمّا حضر النوروز هدايا عظيمة لم تسمح نفس أحد بمثلها وقدّر أنّهم يستكفّهم بها فلم يقع موقعه الذي أراد. ذكر السبب فى ضعف أمر ابن الفرات بعد تناهيه فى القوّة والاستقامة اتّفق أن ورد الخبر إلى بغداد على ابن الفرات بأنّ أبا طاهر ابن أبى سعيد   [1] . فى مط: محفوفون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 الجنّابى ورد إلى الهبير ليتلقّى حاجّ سنة إحدى عشرة وثلاثمائة فى رجوعهم، فأوقع [1] بقافلة فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرها واتّصل خبره بهم وهم بفيد [2] فأقاموا حتّى فنى زاد من فيها وضاق بهم البلد فارتحلوا على وجوههم. وأشار عليهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان- وكان إليه طريق الكوفة وطريق مكّة وبذرقة الحاجّ- لمّا بلغهم خبر الهجري، أن يعدل بهم من فيد إلى وادي القرى لئلّا يجتازوا بالهبير فضجّوا من ذلك وامتنعوا عليه وساروا وسار معهم ضرورة إلى الهبير. فلمّا قربوا من الهبير عارضهم أبو طاهر ابن أبى سعيد الجنّابى وقاتلهم فظفر بهم وقتل [212] منهم خلقا كثيرا وأسر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد بن كشمرد وغرير العمرى وأحمد بن بدر عمّ السيّدة أمّ المقتدر وجماعة من خدم السلطان وحرمه. وأخذ أبو طاهر جمال الحاجّ فى سائر القوافل وسبى ممّن كان فيها من اختار من النساء والرجال والصبيان وسار بهم إلى هجر وترك باقى الحاجّ فى مواضعهم بلا زاد ولا جمال. وكانت سنّ أبى طاهر فى ذلك الوقت سبعة عشر سنة ومات أكثر من خلّف من الحاجّ بالعطش والحفا والرجلة. وانقلبت بغداد وطرقها فى الجانبين وخرج النساء حفاة منشّرات الشعور مسوّدات الوجوه يلطمن ويصرخن فى الشوارع وانضاف إليهن حرم المنكوبين الذين نكبهم ابن الفرات وذلك فى يوم السبت لسبع خلون من صفر فكانت صورة فظيعة [3] قبيحة شنعة لم ير مثلها.   [1] . والعبارة فى مط: ما وقع فقابله لها ... [2] . فى مط: يفيد. [3] . فى مط: فضيعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 وتقدّم ابن الفرات إلى نازوك بالركوب إلى المساجد الجامعة فى الجانبين ببغداد بسبب حركة العامّة فركب فى جميع جيشه من الفرسان والرجّالة والنفّاطين حتّى سكّن العامّة. ثمّ قدم سائق الحاجّ فشرح الصورة [213] لابن الفرات، فركب ابن الفرات آخر هذا اليوم وقد ضعفت نفسه إلى المقتدر وشرح له الحال واستدعى نصرا الحاجب وأدخله فى المشاورة وتمكّن نصر من خطاب ابن الفرات بحضرة المقتدر وانبسط لسانه عليه وقال له: - «الساعة تقول: أىّ شيء الرأى، بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرّضتها للزوال بإبعادك مونسا الذي يناضل الأعداء ويدفع عن الدولة، فمن يمنع الآن هذا الرجل عن السرير ومن الذي أسلم رجال السلطان وقوّاده وحرمه وخدمه إلى القرمطى سواك وقد ظهر الآن أمر الأعجمىّ الذي وجد فى دار السلطان وأنّه إنّما كان صاحب القرمطى.» وأشار نصر على المقتدر بمكاتبة مونس بالتعجّل إلى الحضرة، فأمر أن يكتب بذلك. ووثبت العامّة على ابن الفرات ورجمت طيّاره وبالآجرّ، وركب المحسّن من داره يريد طيّاره فرجموه وضجّت العامّة فى الطرقات بأنّ: - «ابن الفرات القرمطى الكبير وليس يقنعه إلّا إتلاف أمّة محمّد.» وتحرّكت العامّة فامتنعت من الصلاة فى المساجد الجامعة ذلك اليوم وارتجّت بغداد بأسرها من الجانبين. [214] وأشار ابن الفرات بإنفاذ ياقوت إلى الكوفة لضبطها لئلّا تردها الهجريّة [1] ويضمّ الغلمان الحجريّة ووجوه القوّاد إليه وإن كان الهجري مقيما سار لمحاربته.   [1] . هجر (الهجر) : هي قاعدة البحرين، أو ناحية البحرين كلّها (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 فتقدّم المقتدر إلى ياقوت بالشخوص، وإلى ابن الفرات بإزاحة علّته فالتزم ابن الفرات له ولولديه وهما المظفّر ومحمّد وللزيادة فى إقطاعهم وموائدهم ولمن ضمّ إليه أموالا عظيمة. وخرج ياقوت بمضربه إلى باب الكناسة، وورد الخبر على ابن الفرات بانصراف الهجري إلى بلده. فوقّع إلى ياقوت بالرجوع فرجع وبطل نفوذه إلى الكوفة. وأصلح المقتدر بين ابن الفرات وبين نصر وأمر الجماعة بالتضافر على ما فيه الصلاح للدولة وكفاية الهجري. دخول مونس بغداد ودخل مونس بغداد وتلقّاه الناس فلم يتأخّر عنه أحد وركب إليه ابن الفرات للسلام عليه ولم تجر له بذلك عادة ولا لأحد قبله. فلمّا عرف مونس خبره خرج إلى باب داره وتلقّاه وسأله أن ينصرف فلم يفعل، وصعد إليه من طيّاره حتّى هنّاه بمقدمه. فلمّا خرج لينصرف خرج معه مونس إلى أن نزل إلى طيّاره. [215] ما عامل به المحسّن المنكوبين لمّا اضطرب أمره وأمر أبيه استوحش المحسّن بعد إيقاع الهجري بالحاجّ من المنكوبين ونظر إلى سقوط حشمته [1] ، فخاف أن يظهر ما أخذه وارتفق به وما أسقطه من أداء المصادرين وفاز به، فنصب أبا جعفر محمّد بن علىّ الشلمغاني المعروف   [1] . فى مط: خشيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 بابن أبى العزاقر [1] وكان هذا يدّعى من حلول اللاهوت فيه ما ادّعاه الحلّاج. وكان المحسّن قد غنى بهذا الرجل فاستخلفه بالحضرة لجماعة من العمّال وكان له صاحب يعرف بملازمته مقدام على الدماء من أهل البصرة. فسلّم المحسّن إلى صاحب ابن الفرات هذا البصري جماعة فيهم النعمان بن عبد الله وعبد الوهّاب ابن ما شاء الله ومونس خادم حامد وأظهر أنّه يطالبهم بما بقي عليهم من المال، فلمّا حصلوا فى يده ذبحهم كما يذبح الغنم. وكان جماعة مستترين، فكتب ابن الفرات إليهم كتبا جميلة حتّى ظهروا، ثمّ صادرهم واستخرج منهم أموالا كثيرة. ذكر القبض على أبى الحسن ابن الفرات وهرب ابنه المحسّن [216] واشتدّ الإرجاف بابن الفرات حتّى استتر أولاده وكتّابه فراسله المقتدر على لسان نسيم. فحكى أبو القاسم ابن زنجى أنّه كان بين يديه إذ جاءه نسيم فتقدّم إليه فأدّى الرسالة التي كانت معه، فسمعته يقول فى جوابها: - «قل له: أنت تعلم يا أمير المؤمنين أنّى عاديت فى استيفاء حقوقك الصغير والكبير واستخرجت لك المال من الدنيء والشريف وبلغت غاية ما أمكننى فى تأييد دولتك ولم أفكّر فى أحد مع سلامة نيّتك وما قرّبنى منك واجتلب لى حسن رأيك، فلا تقبل فىّ قول من يريد إبعادى عن خدمتك ويغريك بما لا فائدة فيه ويدعوك إلى ما تذمّ [2] عواقبه.   [1] . فى الأصل ومط: الغواقر، وهو تصحيف. تجد ذكره فى إرشاد الأريب 1: 298 وذكر قصّة للوزير المهلّبى مع العزاقريّة بالبصرة، عند ابن الأثير فى حوادث سنة 340 (مد) . [2] . فى مط: ندم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 «وبعد فطالعى وطالعك واحد وليس يلحقني شيء ولا يلحقك مثله، فلا تلتفت إلى ما يقال، فقد علمت الخاصّة والعامّة أنّى أطلقت للرجال النافذين إلى طريق مكّة ما لم يطلقه أحد تقدّمنى واخترت رؤساء الجند والقوّاد وشجعان الرجال وأزحت العلّة فى كلّ ما التمس منّى، فحدث من قضاء الله عزّ وجلّ على الحاجّ ما قد حدث مثله فى أيّام المكتفي بالله رحمه الله فما أنكره [217] على وزيره ولا ألزمه جريرته ولا أفسد عليه رأيه.» وتكلّم فى هذا المعنى بما يشاكله وانصرف نسيم والغلمان بانصراف نسيم. واحتدّت الأراجيف وكثرت بأبى الحسن ابن الفرات والمحسّن ابنه، وأراد المقتدر أن يسكّن منهما فكتب إليهما رقعة يحلف فيها على ما هو عليه لهما وما يعتقده من الثقة بهما، وأنّه ينبغي لهما أن يثقا بما تقرّر فى نفسه من موالاتهما وأمرهما أن يظهرا رقعته إليهما لأهل الحضرة ويكتب بنسختها إلى جميع عمّال الحرب والخراج فى البلدان. ثمّ ركب بعد ذلك ابن الفرات والمحسّن إلى الدار، فوصلا إلى المقتدر فى شهر ربيع الأوّل سنة اثنتي عشرة، ولمّا خرجا أجلسهما نصر الحاجب وكان راسل الغلمان الحجريّة المقتدر فى القبض عليهما فدخل مفلح برسالتهم، ثمّ أشار عليه بتأخير الأمر وقال له: - «إنّ صرف [1] الوزير بكلام الأعداء خطر وخطأ فى التدبير وإطماع للغلمان.» فأمره أن يتقدّم إلى نصر بإطلاقهما ويعرّف الغلمان أنّ الأمر يجرى فيما راسلوه على محبّتهم فتقدم مفلح وقال: - «لينصرف الوزير.»   [1] . فى مط: انصرف، بدل «إنّ صرف» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 فأذن نصر للوزير وابنه فى الانصراف [218] فقام [1] ابن الفرات فى الممرّات كالمهزول حتّى وصل إلى طيّاره وكذلك ابنه المحسّن. فلمّا وصلا إلى دار الوزير دخل إليه المحسّن فسارّه سرارا طويلا ثمّ خرج من عنده وانصرف إلى منزله وجلس فيه ساعة وتقدّم بما أراد ثمّ خرج فاستتر. وجلس أبوه غير مكترث ينظر فى العمل وبين يديه وجوه الكتّاب وانصرفوا آخر النهار وقد تشكّكوا فيما بلغهم من صورة الأمر لمّا رأوه من نشاطه وانبساطه وجريه على رسمه فى الحديث والأنس والأمر والنهى. وتحدّث بعض خواصّه قال: سمعته يقول فى آخر الليل وهو فى مرقده يتمثّل بهذا البيت: وأصبح لا يدرى وإن كان حازما ... أقدّامه خير له أم وراؤه [2] فدلّ ذلك على سهره وتفكّره فى أمره، وجلس من الغد ينظر فى أمره. قال أبو القاسم ابن زنجى: فبينا هو كذلك إذ وردت رقعة لطيفة مختومة فقرأها فما عرفت ممّن هي فى الوقت ثمّ عرفت أنّها كانت من مفلح. ثمّ وردت رقعة أخرى من رجل يجرى مجرى الجند كان ملازما لدار السلطان. فلمّا قرأها أمسك [219] قليلا ثمّ دعا يحيى قهرمانه فأسرّ إليه بشيء وانصرف. ثمّ صرف الناس وواعدهم البكور ونهض ابن الفرات عن مجلسه إلى دور حرمه وتفرّق الناس. فلمّا صرت إلى الرّوشن ذكرت شغلا علىّ كان شغلي به فانصرفت وجلست لذلك، فإذا بنازوك قد دخل عليه سيفه وبيده دبّوس وإذا بيلبق   [1] . فى مط: مقام. [2] . فى مط: أو مراؤه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 يتلوه وهما بخلاف ما أعهدهما [1] من الانبساط ومع كلّ واحد منهما نحو خمسة عشر غلاما بسلاح. فلمّا لم يجدوه فى مجلسه دخلوا إلى دار حرمه فأخرجوه منها حاسرا وأجلس فى طيّار وحمل إلى دار نازوك وقبض معه على ابنيه الفضل والحسين ومن وجد من كتّابه. ومضى نازوك [2] ويلبق إلى مونس المظفّر وعرّفاه الخبر وكان قد خرج إلى باب الشمّاسية وأظهر أنّه خرج للنزهة، فانحدر معه هلال بن بدر وجماعة من قوّاده وذهب يلبق إلى دار نازوك وأخرج ابن الفرات من هناك مع ولديه وأسبابه وأخرج نازوك من داره رداء قصب وطرحه على رأسه لأنّه كان حاسرا. فلمّا رأى ابن الفرات مونسا أظهر الاستبشار [220] بحصوله فى يده فأجلسه معه فى الطيّار وخاطبه بجميل مع عتاب وتذلّل ابن الفرات وخاطبه بالأستاذيّة فقال له مونس: - «الساعة تخاطبني بالأستاذيّة وبالأمس تخرجني على سبيل النفي إلى الرقّة والمطر يصبّ على رأسى ثمّ تذكر لمولانا أمير المؤمنين أنّى أسعى فى فساد مملكته!» وانحدر به إلى دار السلطان وتقدّم بحمل ولديه وكتّابه إليها وتسليمهم إلى نصر. فتكاثر العامّة على ابن الفرات ومعهم أسباب المنكوبين يدعون عليه ويضجّون واجتهد مونس فى دفعهم فما قدر على ذلك ورجموا طيّار مونس لمكان ابن الفرات فيه وصاحوا: - «قد قبض على القرمطى الكبير وبقي القرمطى الصغير.» ولمّا وصلوا إلى باب الخاصّة صعد جمع عظيم من السميريّات لرجم ابن الفرات وولديه وكتّابه بالآجر حتّى حوربوا واحتيج إلى رميهم بالسهام وجرح   [1] . فى مط: عهدهما. [2] . فى مط: باروك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 بعضهم فانصرفوا وتسلّمهم نصر. فكانت مدّة ابن الفرات فى هذه الوزارة الثالثة عشرة أشهر وثمانية عشر يوما. تسليم ابن الفرات إلى شفيع اللؤلؤى ّ ثمّ اجتمع وجوه القوّاد إلى دار السلطان وأقاموا [221] على أنّ ابن الفرات إن حبس [1] فى دار الخلافة خرجوا بأسرهم إلى المصلّى وأسرفوا فى التهدّد. فدعا المقتدر مونسا ونصرا وشاورهما فأشارا بتسكين القوّاد وبأن يخرج ابن الفرات ويسلّم إلى شفيع اللؤلؤي ويعتقل عنده. فاستحضر شفيع وسلّم إليه. ذكر توصّل أبى القاسم عبد الله بن محمّد بن عبيد الله الخاقاني إلى الوزارة كان أبو القاسم عبد الله بن محمّد الخاقاني استتر فى أيّام وزارة ابن الفرات الثالثة وأبوه أبو علىّ شديد العلّة وقد أسنّ وتغيّر فهمه [2] ولمّا اضطرب أمر ابن الفرات عند ما جرى على الحاجّ ما جرى، سعى عليه أبو القاسم الخاقاني وعلى ابنه المحسّن وعمل لهما عملا وسعى له فى ذلك نصر الحاجب وثمل القهرمانة وغيرهما [3] . وكان مونس أشار بأبى القاسم الخاقاني قبل ذلك. فقال المقتدر: - «أبوه خرّب الدنيا وهو شرّ من أبيه ولكن نقلّد الحسين بن أحمد   [1] . فى الأصل ومط: جلس. انظر صلة عريب: 120. [2] . فى مط: ويغرفهم، بدل «وتغيّر فهمه» . [3] . كذا فى الأصل ومط ومد: وغيرهما، ولعله: وغيرهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 المادرائى.» فعرّفه مونس أنّه قد نفذ إلى مصر وأنّ استحضاره يبعد. ثمّ ساعده نصر وابن الخال [222] فى ذلك، ثمّ استحضره المقتدر وشافهه بتقليده الوزارة والدواوين وخلع عليه وركب معه مونس المظفّر وهارون بن غريب إلى داره. ذكر ما جرى عليه أمر ابن الفرات وأسبابه بعد تقلّد أبى القاسم الخاقاني الوزارة ذكر أبو الحسن أنّه سلّم إلى شفيع كما ذكرنا فراسله شفيع على يد المعروف بالجمل كاتبه، فيما يبذله من المصادرة عن نفسه ليسلم من أعدائه ومن تسليمه إلى الخاقاني وأبى العبّاس ابن [1] بعد شرّ وهو كاتب الخاقاني فأجابه ابن الفرات بأنّه لا يفعل أو يثق من المقتدر بالله فى حفظ نفسه من تسليمه إلى أحد من هذه الطبقة. وقال للكاتب الملقّب بالجمل: - «قل لصاحبك إنّى قد خلّفت فى يد هارون الجهبذ وابنه مائة ونيّفا وستين ألف دينار حاصلة قبلهما من المصادرين ليعرف الخليفة ذلك ويتقدّم بحملها إلى بيت مال الخاصّة من وقته هذا حتّى لا يوهمه الخاقاني أنّه هو استخرجه ثمّ يصرفه فى النفقات التي سبيلها أن ينفق من بيت مال العامّة.» فركب شفيع للوقت وأنهى ذلك إلى المقتدر [223] فوجّه إلى الجهبذين وكانا فى دار الخاقاني لم يكلّمهما بعد لتشاغله بالتهنئة فأحضرا واعترافا بالمال وحملاه وصحّحاه فى بيت مال الخاصّة. وتقدّم المقتدر إلى نصر الحاجب بتسليم أولاد ابن الفرات وكتّابه وأسبابه إلى الخاقاني، فسلّمهم إليه وأخذ خطّه بتسلّمهم وسلّمهم الخاقاني إلى أبى   [1] . ابن: ساقطة فى مط. وأبقيت فى مد أيضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 العبّاس ابن بعد شرّ فقيّدهم وأجلسهم على الأرض فى الحرّ الشديد ثمّ أخذ خطّ كلّ واحد من ولدي ابن الفرات بمائة ألف دينار وخطّ سعيد بن إبراهيم بمائتي ألف وخطّ أبى غانم كاتب المحسّن بمائتي ألف دينار، ووقع النداء على المحسّن وهشام وابني فرجويه والتهديد لمن وجدوا عنده بعد النداء بالنهب وإحراق المنازل وضرب ألف سوط. وواقف أبو الحسن شفيعا على أن يضمن عنده مالا إن ردّ إلى دار السلطان ولم يسلّم إلى أحد. فذهب شفيع فخاطب فى ذلك المقتدر فقال له المقتدر: - «إنّ مونسا ونصرا وهارون بن غريب قد أجمعوا [1] على أنّه لا يمشى للخاقانى أمر إلّا بتسليم ابن الفرات إليه وضمن أن يستخرج منه ومن ابنه وأسبابه [224] ألفى ألف دينار. فانصرف شفيع ووجّه إلى ابن الفرات بكاتبه يشرح الصورة له. كلام لابن الفرات فى وزارة الخاقاني فقال هذا الكاتب وهو الملقّب بالجمل: كنت أدخل إلى ابن الفرات فى كلّ يوم لتفقّد أحواله. فكنت أجده أقوى الناس نفسا وأصبرهم على نوائب الدهر. قال: ولقد سألنى: عمّن تقلّد الوزارة. فعرّفته أنّه أبو القاسم بن أبى على الخاقاني. فقال: «السلطان نكب وما نكبت أنا.» وسألنى: «عمّن تقلّد الديوان- يعنى ديوان السواد، فقلت: - «محمّد بن جعفر بن حفص.»   [1] . كذا فى الأصل ومط: أجمعوا. فى مد: اجتمعوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 فقال: «رمى بحجره [1] .» وسألنى: عمّن تقلّد باقى الدواوين. فعرّفته أنّهم يحيى بن نعيم المالكي ومحمّد بن يعقوب المصري وإسحاق بن علىّ القنّاى. فقال: - «لقد أيّد الله هذا الوزير بالكفاة.» مناظرة ابن الفرات لاستخراج ماله وكان المناظر لابن الفرات ابن بعد شر فرفق به فوعده أن يتذكّر ودائعه ويعرّفه إيّاها فعاوده بالرفق فأقرّ أنّ له عند التجّار مائة وخمسين ألف دينار. وكان المقتدر رسم أن يكون مال مصادرة ابن الفرات وحده يحصّل فى بيت المال الخاصّة ومال مصادرة أسبابه فى بيت مال العامّة. ولمّا [225] استخرج ما ذكره ابن الفرات من التجّار أعاد ابن بعد شر مطالبة ابن الفرات، فذكر أنّه لم يبق له مال فأوقع به مكروها يسيرا، ولم يكن ابن الفرات ممّن يستجيب بالمكروه فتقاعد وامتنع دفعة واحدة من أداء شيء. فمضى هارون بن غريب إلى المقتدر وعرّفه أن الخاقاني جنى على السلطان بتسليمه ابن الفرات إلى ابن بعد شر وأنّه كان ينبغي أن يرفق به ويداريه، فإنّه ممّن لا يستجيب بالمكروه. فتقدّم المقتدر إلى الخاقاني بأن تكون مناظرة ابن الفرات بحضرة هارون بن غريب وأن يرفق به. وكان ابن بعد شر قد ضيّق على ابن الفرات فى مطعمه ومشربه حتّى أنّه أدخل إليه خبز خشكار [2] وقثّاء وماء الهواء، فوجّه إليه بطعام واسع وشراب وثلج كثير   [1] . كذا فى الأصل ومط: رمى بحجره. فى مد: بحجره رمى (بالتقديم والتأخير) . [2] . فى الأصل: خشكاز. وفى مط ومد: خشكار. وهي فارسية. خبز من دقيق غير منخول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 وفاكهة واعتذر إليه عمّا جرى وحلف أنّه لم يعلم بما عومل به. ثمّ إنّ الخاقاني راسله على يد خاقان بن أحمد بن يحيى برفق ومداراة بأن يقرّ بماله ولا يلاجّ السلطان فليس ذلك بمحمود. فأجابه بأن قال: - «قل للوزير ليست حدثا غرّا فتحتال علىّ فى المناظرة، ولست [226] أقول إنّى لا أقدر على المال ولكن إذا وثقت لنفسي بالحياة فديتها بالمال. وإنّما أثق بذلك إذا كتب أمير المؤمنين بخطّه لى أمانا وشهد الوزير والقضاة بخطوطهم ويكتب لى الوزير أيّده الله أمانا بخطّه ويسلّمنى إلى أحد رجلين: إمّا مونس المظفّر وإن كان عدوّى وإمّا شفيع اللؤلؤي فإن لم يفعل ذلك فقد وطّنت [1] نفسي وعلى التلف.» فوجّه إليه الخاقاني: - «بأنّى لو قدرت على التوثّق لك لتوثّقت، ولكن إن تكلّمت فى هذا المعنى عاداني خواصّ الدولة لأجلك، ثمّ لم تنتفع أنت بذلك وقد ردّ الخليفة أمرك إلى هارون بن غريب.» فتواعدوا إلى دار الخاقاني بالمخرّم واستحضر ابن الفرات وناظره ابن بعد شر بحضرته فتماتن ابن الفرات. فبدأ ابن بعد شر يسمعه المكروه فأنكره هارون وزبره [2] وقال: - «بهذا تريد أن تستخرج مال ابن الفرات؟» وأقبل هو على ابن الفرات وداراه وخاطبه بجميل وقال له: - «أنت أعرف بالأمور من كلّ من يخاطبك والخلفاء لا يلاجّهم وزراؤهم إذا سخطوا عليهم.» فقال له ابن الفرات:   [1] . كذا فى الأصل ومط: وطّنت. فى مد: وطئت. [2] . زبره: منعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 - «أشر علىّ أيّها الأمير فإنّ من كان فى مثل حالي عزب عنه الرأى.» فلم يزل معه فى مناظرات إلى أن أخذ [227] خطّه بمصادرة ألفى ألف دينار على أن يعجّل منها الربع وعلى أن يحتسب له من الربع بما أدّاه وما أخذ بعد ذلك ممّا لعلّه استخرج من ودائعه بغير إقرار منه ويطلق له بيع أملاكه وما يستبيع من ضياعه وأمتعته وينقل إلى دار شفيع اللؤلؤي أو غيره من ثقات السلطان ويطلق الكلوذانى ليتصرّف فى جمع أمواله ويطلق له الدواة ليكاتب من يرى مكاتبته فأخذ هارون بن غريب خطّه بجميع ما كتب به وحمله إلى المقتدر بالله. ذكر اتّفاق سيّء اتّفق على المحسّن حتّى ظفر به وصودر وقتل كان المحسّن استتر عند حماته حنزابة وهي حماته ووالدة الفضل بن جعفر بن الفرات فكانت تحمله كلّ يوم، بكرة إلى المقابر فى زىّ النساء وتردّه إلى المنازل التي يثق بها بالليل. فمضت به يوما إلى مقابر قريش فى زىّ النساء على رسمه وأمست فبعد عنها الطريق إلى الكرخ فوصفت لها امرأة كانت معها منزل امرأة تثق بها ليس معها رجل لأنّ زوجها مات منذ سنة. فصارت حنزابة [1] مع النسوة والمحسّن [228] إلى هناك فقالت لصاحبه الدار: - «إنّ معنا امرأة لم تتزوّج بعد، وقد عادت من مأتم وضاقت عليها [2] فأفردى لها بيتا.»   [1] . فى مط: جيرانه. [2] . كذا فى الأصل ومط ومد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 فأفردت لها [1] بيتا فى صفّة وأدخلت إليه المحسّن ثمّ ردّت عليه الباب وجلس النسوة مع المحسّن فى البيت. فجاءت جارية سوداء بسراج معها فوضعته فى الصفّة وأدخلت حنزابة إلى المحسّن بسويق وسكّر وكان المحسّن قد نزع ثيابه فاطّلعت الجارية السوداء من حيث لا يشعر المحسّن ولا حنزابة فى البيت، وعلمت أنّه رجل، فانصرفت وأخبرت مولاتها. فلمّا جنّ الليل جاءت مولاتها وطالعت البيت فرأت المحسّن وكان ذلك من نحس المحسّن وخذلان الله إيّاه، لأنّ تلك المرأة كانت زوجة لمحمّد بن نصر وكيل علىّ بن عيسى وكان المحسّن طلبه فأدخل إلى ديوانه فرأى ما يلحق الناس من المكاره بحضرة المحسّن فمات من الفزع فجأة من غير أن يكلّمه المحسّن. فمضت المرأة فى الوقت إلى دار السلطان حتّى وصلت إلى دار نصر الحاجب وشرحت له الصورة فأنهى نصر الحاجب الخبر إلى المقتدر بالله، فتقدّم بالبعثة إلى نازوك ليركب إلى الموضع ويقبض على المحسّن. فركب [229] نازوك من وقته إلى الموضع وكسبه وقبض على المحسّن، وضربت الدبادب لذلك نصف الليل عند الظفر به حتّى ارتاع الناس ببغداد وظنّوا أنّ القرمطى قد كبس بغداد. وحمل المحسّن إلى دار الوزارة بالمخرّم وتسلّمه ابن بعد شر [وجرّعه] [2] فى وقته مكروها عظيما وأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف دينار. وحضرت هارون بن غريب دار المخرّم وناظر المحسّن فوعده أن يتذكّر وودائعه ويقرّ بها ولحقه فى يومين متواليين مكروه عظيم فلم يذعن بدرهم واحد وقال: - «ليس يجمع بين نفسي ومالي.»   [1] . التأنيث بناء على أنّ المحسّن مرأة. [2] . زيادة من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 وحضر بعد ذلك هارون بن غريب ومعه شفيع اللؤلؤي وأحضر المحسّن والكتّاب وابن بعد شرّ وناظر المحسّن وأوقع به مكروها عظيما وقال له: - «هبك لا تقدر أن تؤدّى المال الذي أخذ خطّك به [1] لا تقدر أن تؤدّى مائة ألف دينار.» فقال له: - «بلى إذا أمهلت وزال عنّى المكروه.» فقال له: - «نحن نمهلك فاكتب خطّك بمائة ألف دينار.» وكتب [2] بذلك خطّه وأنّه يؤديها فى مدّة ثلاثين يوما. فلمّا قرأ هارون بن غريب الرقعة قال: - «كأنّك ترجو أن تعيش ثلاثين يوما.» فخضع له المحسّن وقال له: [230]- «أفعل ما يأمر به الأمير.» قال: «أكتب بأنّك تؤدّيها فى مدّة سبعة أيّام.» فارتجع الرقعة ليكتب بدلها. فلمّا حصلت فى يده مضغها وبلعها وامتنع أن يكتب غيرها. فقيّد وغلّ وألبس جبّة صوف وضرب على رأسه بالدبابيس على أن يكتب ما كان كتبه فلم يكتب، فأعيد إلى محبسه وعذّب فيه بأنواع العذاب فلم يذعن بدرهم واحد. الخاقاني يناظر ابن الفرات فلمّا كان بعد ذلك حضر الأستاذ مونس ونصر الحاجب والقضاة والكتّاب   [1] . فى مط: ولا تدر، بزيادة الواو. [2] . كذا فى الأصل ومط: وكتب. وفى مد: وثبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 مجلس الوزير الخاقاني وأحضر أبو الحسن ابن الفرات وناظره الخاقاني ولم يكن الخاقاني من رجاله، فكاد أبو الحسن ابن الفرات أن يأكله فكان فيما قال له: - «إنّك استغللت ضياعك فى مدّة أحد عشر شهرا ألف ألف دينار.» فقال: «قد كانت هذه الضياع فى يد علىّ بن عيسى عشر سنين أيّام وزارته وأيّام وزارة حامد بن العبّاس وما ارتفع له منها إلّا أربعمائة ألف دينار فقد ادّعيت لى [1] المعجزات.» فقال له: - «أضفت حقوق ضياع السلطان إلى ضياعك.» فقال: «الدواوين لا يمكن أن يكتم ما فيها فتنظر فى ارتفاع النواحي السلطانية فى أيّام نظري فيها وفى ارتفاعها أيّام علىّ بن عيسى ووزارة [231] حامد بن العبّاس ووزارة أبيك التي دبّرتها أنت حتّى تعلم هل زادت ارتفاع ضياع السلطان فى أيّامى أم نقصت.» ونوظر فيمن قتل وشنّع عليه بهم فقال: - «ليس يخلو من ذلك من أحد أمرين: إمّا أن يقال إنّى أنا قتلتهم فلم أغب عن الحضرة والقتل لا ينسب إلىّ والمدّعى قتله بالبعد منها، وإمّا أن يقال كتبت خطّك بقتلهم وهؤلاء أصحاب المعاون وثقات السلطان وعمّال الخراج ووجوه متصرّفى عمّال السلطان قد حكّمتهم على نفسي.» فقيل له: - «قد قتلهم ابنك.» فقال: «أنا غير ابني وأنتم تناظروننى.»   [1] . فى مط: فى المعجزات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 فقال له ابن بعد الشرّ [1] : - «إذا قتل ابنك الناس فأنت قتلتهم.» فقال له ابن الفرات: - «هذا غير ما حكم الله ورسوله، فإنّه عزّ وجلّ يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 6: 164. [2] وقال النبي عليه السلام لرجل من أصحابه: أهذا ابنك؟ فقال: نعم. قال: أما إنّه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه، ومع هذا فهو فى أيديكم سلوه فإن وجب عليه قود بادّعاء قتل [3] فى موضع ناء عنه يقال فيه إنّ غيره تولّى قتله فالحكم فى هذا معروف.» فتحيّر القوم فى الجواب. فقال عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش لنصر الحاجب: - «إن رأى الحاجب أن يقول له حيث كنت تقول لمن تطالبه: إن أدّيت وإلّا سلّمتك [232] إلى المحسّن، أكنت تسلّمه ليسقيه [4] السويق والسكّر أو ليعذّبه؟ ومن أطلق التعذيب فقد أطلق القتل، لأنّ الإنسان قد يتلف بمقرعة واحدة يضرب بها فضلا عن غيرها.» فخاطبه نصر بذلك فقال فى الجواب: - «إنّ الخليفة أطال الله بقاءه ولّى المحسّن وأنا إذ ذاك محبوس وهو مطلق فضمن ما ضمنه وجرى ذلك على يد مفلح وتوسّطه جماعة من ثقات السلطان. ثمّ لمّا تقلّدت الأمر كنت أحبّ الرفق بالناس وإذا ناظرتهم ورفقت بهم لم يذعنوا بما يلزمهم فإذا أقاموا على الامتناع سلّمتهم إلى من نصبه   [1] . بعد الشرّ: كذا فى الأصل. بعد الشرّ. وفى مط: بعد شرّ، كما هو فى سائر المواطن. [2] . 6 الأنعام: 164، 17 الإسراء: 15، 35 فاطر: 18، 39 الزمر: 7، 53 النجم: 38. [3] . فى الأصل: قيل. وفى مط: قبل، وكلاهما خطأ. [4] . فى مط: ليسفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 السلطان وأمر بتسليمهم إليه.» فقال له مونس: - «كأنّك تحيل على الخليفة فى قتل الناس فإنّ الخليفة قال: ما أمرت بقتل أحد سوى ابن الحوارى فقط.» ثمّ أقبل نصر عليه فقال له: - «معى رسالة من الخليفة إليك فتسمعها وتجيب عنها.» قال: «وما هي؟» قال: «يقول: سلّمت إليك قوما بمال ضمنته لى وأريد منك أحد أمرين: إمّا وفّيتنى المال أو رددت علىّ القوم.» فقال ابن الفرات: - «أمّا المال فقد صحّ فى بيت المال، وأمّا الرجال فما ضمنت أرواحهم ولا بقاءهم وقد تلفوا حتف آنافهم.» فقال له مونس المظفّر: - «هب [1] أنّ لك فى كلّ شيء عذرا وحجّة، أىّ عذر [233] لك فى إخراجى إلى الرقّة حتّى كأنّى من العمّال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟» قال: «أنا أخرجتك؟» قال: «فمن أخرجنى؟» قال: «مولاك [2] أمرنى بإخراجك.» قال: «مولاي لم يأمر بذلك.» قال: «معى حجّة بخطّه كتب إلىّ رقعة احتفظت بها لأنّها بخطّه يشكو   [1] . فى مط: هب لك أنّ لك. [2] . كذا فى الأصل ومط: مولاك. وفى مد: مولانا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 فيها أفعالك وقتا بعد وقت وفتحك البلدان بالمؤمن الغليظة ثمّ إغلاقك إيّاها بسوء تدبيرك وآثارك القبيحة.» قال: «وأين الرقعة؟» قال: «فى أيديكم فى جملة المهمّات التي أمرت بحفظها فى السفط الخيزران المكتوب عليه بخطّى بالتحفّظ به من المهمات وفيها الأمر بإخراجك إلى الرقّة والتوكيل [1] بك حتّى تخرج.» فأمر الخاقاني بإحضار السفط فوجده مختوما بخاتم ابن الفرات ووجد فيه الرقعة بعينها وفيها جميع ما ذكر ابن الفرات بخطّ المقتدر فأخذها. ومضى مونس من وقته إلى المقتدر حتّى لقيه وأقرأه الرقعة فاغتاظ المقتدر على ابن الفرات غيظا شديدا، فأمر هارون بضربه بالسوط. فمضى هارون حتّى ضرب ابن الفرات بين الهنبازين خمس درر فقط وقال له: - «يا هذا أذعن بمالك.» فأعطى خطّه بعشرين ألف دينار وقال: - «هذا مالي.» ثمّ أخرج المحسّن [234] فى الوقت فضربه ضرب التلف، فلم يذعن بشيء بتّة. فصار هارون بن غريب إلى المقتدر بالله واستعفى من مناظرة ابن الفرات وابنه وقال: - «هؤلاء قوم ليس فى عزمهم أن يؤدّوا شيئا البتّة وقد استقتلوا.» فأمر بتسليمهما إلى نازوك وبسط المكروه عليهما فأوقع نازوك بالمحسّن أنواع المكاره حتّى تدوّد بدنه ولم يبق فيه فضل لمكروه. وضرب أبا الحسن   [1] . فى مط: التوكل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس [1] فلم يذعن بدرهم واحد. واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني الوزير وقال له: - «ما رأيت شيئا ممّا ضمنته من أموال ابن الفرات وابنه صحّ.» فقال: «لأنّه لم يترك والتدبير.» وإنّ ابن الفرات لمّا عدل به عن مناظرة الكتّاب وسلّم إلى أصحاب السيوف يئس من الحياة فضنّ [2] بالمال ونظر إليه ابنه فاقتدى به.» وقال نازوك للمقتدر: - «قد انتهيت بهؤلاء القوم من المكاره إلى الغاية حتّى إنّ المحسّن مع ترفه [3] قد تدوّد بدنه وصبر بعد ذلك على مكاره عظام لم يسمع بمثلها وقد مضت له الآن أيّام لم يطعم طعاما وإنّما يشرب الماء شربا يسيرا وهو فى أكثر أوقاته مغشىّ عليه.» فقال المقتدر بالله: - «إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من حملهما إلى دارى.» فأظهر مونس [235] والجماعة: - «إنّ الصواب فى ذلك.» وقال الخاقاني: - «قد وفّق الله [4] أمير المؤمنين.» وخرجت الجماعة من حضرته. فأسرّ الخاقاني إليهم وهم بعد مجتمعون فى دار السلطان وقال:   [1] . فى مط: بالفلوس. والقلس: حبل للسفينة ضخم. [2] . فى مط: نص. بدل «فضنّ» وهو تصحيف. [3] . فى مط: ترفهه. [4] . وزاد فى مد: رأى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 - «إن حمل ابن الفرات إلى دار الخليفة بذل أسبابه [1] عنه وعن ابنه الأموال، وإذا وثق مع ذلك بالخليفة وحصل فى داره أخرج أمواله وتوثّق لنفسه ولابنه، فإذا أمن على نفسه تضمّن الجماعة وحمل الخليفة على تسليمها إليه ويطمعه فى أن يوفّر أرزاقها وإقطاعاتها وضياعها ويجمع له أموالا جليلة خطيرة. والوجه أن يقع التجمّع من القوّاد واليمين على أنّهم إن وقفوا على أنّ ابن الفرات وابنه حملا إلى دار الخليفة [2] خلعوا الطاعة.» فقال مونس: - «هذا شيء إن لم نفعله لم يصف لنا عيش.» وتجرّد لهذه الحال هارون بن غريب ونازوك فجمعا القوّاد ووجوه الغلمان الحجريّة وكان يلبق [3] يستحلفهم. ذكر مقتل أبى الحسن ابن الفرات وابنه المحسّن ثمّ اجتمعوا بأسرهم إلى مونس ونصر وأظهروا ما فى نفوسهم. فأشار مونس بأن يلتمس القوّاد نقل ابن الفرات وابنه إلى دار مونس فإن مات المحسّن استبقى أبوه. فقال له [236] هارون بن غريب: - «إذا مات المحسّن لم يصلح أن يستبقى أبوه وكيف يوثق به وقد قتل ابنه حتّى يؤمن على الملك؟» ثمّ كاشفوا المقتدر بالله وقالوا بأجمعهم: - «إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء بأسرهم الطاعة.»   [1] . فى مط: اشابه، وهو تصحيف. [2] . فى مد: دار الخليفة. [3] . فى مط: بليق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 وواصل هارون بن غريب مخاطبة المقتدر فى قتل هذين وقال: - «ليست آمن أن يجتمع الأولياء على البيعة لبعض بنى هاشم، ثمّ لا يتلافى الأمر.» وأرادت الجماعة من الوزير الخاقاني التجريد فى ذلك فقال: - «لست أدخل فى سفك الدماء وإنّما أشرت بألّا يحملا إلى دار السلطان، فأمّا قتله فخطأ، لأنّه ليس ينبغي أن يسهّل على الملوك ولا يحسّن لهم قتل أحد، فإنّهم متى فعلوا ذلك خفّ عليهم قتل خواصّهم حتّى يأتوا عليهم بأدنى ذنب وخطإ يكون منهم.» فلمّا كان يوم الأحد لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر قدّم إلى ابن الفرات طعامه فأمر برفعه وقال: - «أنا صائم.» وحضر وقت الإفطار فقدّم إليه لمّا حضر وقت الطعام فقال: - «لست أفطر الليلة.» فحضر عنده من اجتهد به أن يفطر فقال: - «أنا مقتول فى غد لا محالة.» فقيل له: [237]- «أعيذك بالله.» فقال: «بلى رأيت البارحة أخى أبا العبّاس رحمه الله فى النوم وقال لى: أنت تفطر عندنا يوم الإثنين بعد غد وما قال قطّ فى النوم [1] شيئا إلّا صحّ وغدا الإثنين وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علىّ صلوات الله عليه [2] .» فلمّا كان من الغد وهو يوم الإثنين انحدر الناس إلى دار الخليفة، فلم   [1] . فى الأصل: اليوم. وفى مط: النوم، كما أثبتناه. [2] . فى مط: رضي الله عنهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 يصلوا [1] فكتب هؤلاء الرؤساء بقتل ابن الفرات وابنه فأجابهم المقتدر أن: - «دعوني أنظر فى ذلك.» فكتبوا إليه: أنّه إن تأخّر قتل ابن الفرات وابنه عن هذا اليوم جرى على المملكة ما لا يتلافى. وكتب المقتدر إلى نازوك بأن يضرب أعناقهما ويحمل رؤوسهما إلى حضرته فقال نازوك: - «هذا أمر عظيم لا يجوز أن أعمل فيه بتوقيع.» فأمر المقتدر الأستاذين والخدم بالخروج إليه برسالته بإمضاء ما كتب به فخرجوا إليه بذلك فقال: - «لا أعمل على رسالة ولا بدّ من مشافهة بذلك.» وابن الفرات يراعى الخبر فلمّا قيل له إنّ الناس قد انصرفوا وإنّ نازوك انصرف إلى منزله سكن قليلا ثمّ قيل له: إنّ نازوك قد عاد إلى دار السلطان. فاضطرب جدا وصار نازوك إلى دار الوزارة بعد الظهر من ذلك اليوم فجلس [238] فى الحجرة التي كان ابن الفرات معتقلا فيها ووجّه بعجيب خادمه ومعه السودان حتّى ضرب عنق المحسّن وصار برأسه إلى أبيه فوضعه بين يديه فارتاع لذلك ارتياعا شديدا وعرض هو على السيف فقال لنازوك: - «يا با منصور ليس إلّا السيف؟ راجع أمير المؤمنين فى أمرى فإنّ لى أموالا عظيمة وودائع كثيرة وجواهر جليلة.» فقال له نازوك: - «قد جلّ الأمر عن هذا.»   [1] . كذا فى الأصل ومط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 وأمر به فضربت عنقه وحمل رأسه ورأس ابنه إلى المقتدر بالله فأمر بتغريقهما، فغرّقا فى الفرات وغرّقت الجثتان فى التمارين [1] ببغداد. وكانت سنّ أبى الحسن ابن الفرات رحمه الله يوم قتل إحدى وسبعين سنة وشهورا وسنّ ابنه المحسّن ثلاثا وثلاثين سنة. حكم المنجّم فى ابن الفرات وابنه وقد كان حكم العاصمي المنجّم فى تلك السنة أنّه يخاف فيها على ابن الفرات نكبة وتلفا بالسيف وذكر ذلك فى مولده الذي كان بين يديه، وحكم على مولد المحسّن أنّ عمره ثلاث وثلاثون سنة، فصحّ حكمه. إطلاق القرمطىّ الحاجّ الأسرى عنده وفى هذه السنة ورد كتاب الفارقي من البصرة يذكر أنّ كتاب أبى الهيجاء ابن حمدان ورد عليه من هجر يذكر أنّه كلّم أبا طاهر القرمطى فى أمر من استأسر من الحاجّ [239] وسأل إطلاقهم فوعده بهم وأنّه أحصى من عنده منهم فكانوا من الرجال ألفين ومائتين وعشرين رجلا ومن النساء نحو خمسمائة امرأة. ثمّ وردت الأخبار بورود قوم بعد قوم إلى أن كان آخر من ورد منهم أبو الهيجاء وأحمد بن بدر عمّ السيّدة. وقدم بقدوم أبى الهيجاء رسول أبى طاهر القرمطى يستدعى الإفراج عن البصرة والأهواز ونواح أخر فأنزل الرسول وأكرم وأقيمت له الأنزال الواسعة ثمّ صرف ولم يقع إجابة إلى شيء ممّا التمس.   [1] . كذا فى الأصل ومط: التمارين. فى مد: الثمانين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 عدة حوادث وفيها خلع على نجح الطولونى وردّ إلى إصبهان لولاية أعمال المعاون بها. وفيها ورد رسول ملك الروم ومعه أبو عمير ابن عبد الباقي ووصل إلى السلطان وأوصله معه هدايا والتمس الهدنة والفداء فأجيب إلى ذلك بعد الغزاة الصائفة وخلع عليهما ورجع الرسول إلى بلد الروم. وفيها خلع على جنّى الصفواني وكان ورد من ديار مضر واستدعى محاربة أبى طاهر القرمطى. قدوم سليمان وابن مقلة وعلىّ بن عيسى إلى بغداد وكان سليمان بن الحسن بن مخلد وأبو علىّ ابن مقلة مبعدين بشيراز فى يد أبى عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي. فذكر أبو علىّ أنّه كان مجتمعا مع سليمان فى دار [240] واحدة مصونين مكرمين، فورد عليه الخبر بالقبض على ابن الفرات، وكان أبو الحسن ابن أبى البغل معتقلا فى يد صارفه جعفر بن القاسم الكرخي. قال: فاطّلعت الجماعة على الخبر وكان ابن أبى البغل قد وقف على ما كان رسمه ابن الفرات والمحسّن فى أمره فحين وقف على الخبر وقّع فى حاشية التقويم: - «وفى هذا اليوم ولد محمّد بن أحمد بن يحيى وله إحدى وثمانين سنة.» ولمّا وقف الكرخي على الخبر أطلق أبا علىّ ابن مقلة وسليمان بن الحسين وهنّأهما بالسلامة قبل أن يرد عليه كتاب بإطلاقهما، ثمّ ورد كتاب الخاقاني على المسمعي والكرخي بإطلاقهما ومراعاتهم حتّى لا يخرجا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 شيراز فأقام سليمان مدّة أسبوع حتّى أحكم أمره. ودعا المسمعي جعفر بن القاسم الكرخي دعوة عظيمة وأقام على حال سرور [1] يومين متواليين، فخفى عنهما الخبر فى خروج سليمان وكان خرج فى زىّ الفيوج. فلمّا كتبا إلى الخاقاني بهرب سليمان عظم عليه واشتدّت الأراجيف بوزارة سليمان ودخل سليمان بغداد مستترا وأقام أبو علىّ ابن مقلة بشيراز إلى أن توصّلت زوجته إلى أسباب الخاقاني وعنى به شفيع المقتدري وأمر الخاقاني بإطلاقه [241] والإذن له فى المصير إلى الأهواز، وكتب له بإجراء مائتي دينار فى كلّ شهر عليه ومنعه من الخروج، فأقام مدّة ثمّ أذن له فى قدوم بغداد بشفاعات الناس له [2] . وفيها خاطب مونس المظفّر الوزير الخاقاني فى أمر علىّ بن عيسى وأن يكتب إلى أبى جعفر صاحب اليمن بالإذن له بالرجوع إلى مكّة فكتب إليه بذلك فأذن له أبو جعفر وحمل إليه طيبا وكسوة وآلات نحو خمسين ألف دينار وعاد علىّ بن عيسى إلى مكّة مع حاجّ اليمن. فلمّا حصل بها قلّده الخاقاني بمسألة مونس الإشراف على مصر والشام. وكتب علىّ بن عيسى لمّا وصل إلى مكّة وقبل تقلّده الإشراف على مصر والشام إلى الوزير الخاقاني كتابا يهنّئه فيه بالوزارة ويعزّيه بأبى على أبيه ويسأله صيانة أهله وولده والعناية بهم فى ضيعته ومعيشته. فأجابه الخاقاني بجواب جميل وأنّه قد رعى [3] حقّه فى أهله وولده وحاشيته غير معتدّ عليه ولا متحمّد به.   [1] . كذا فى الأصل: سرور. وفى مط: مرور. [2] . فى مط: إليه. [3] . كذا فى الأصل ومط: يديه. وفى مد: بدنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 ذكر الأسباب التي اتّفقت على الخاقاني حتّى صرف عن الوزارة كان أبو العبّاس ابن الخصيبى وقف على مكان زوجة المحسّن بنت حنزابة فسأل أن يولّى النظر [242] فى أمرها واستخراج مالها. ففعل ذلك واستخرج منها سبعمائة ألف دينار وصحّحها فى بيت مال الخاصّة. فتمهّدت له بذلك حال جليلة عند المقتدر ورشّحه للوزارة وبلغ ذلك الخاقاني فحمل ابن بعد شرّ على أن بذل خطّه أنّه يستخرج من الخصيبى [1] مائة ألف دينار معجّلة وصلت إليه من مال المحسّن وزوجته زيادة على ما صحّحه من هذه الجهة. وعرض الخاقاني الرقعة فلم تقع موقعها واتصل الخبر بأبى العبّاس الخصيبى فكتب إلى المقتدر رقعة يذكر فيها معايب الخاقاني وابنه وكتّابه وضياع الأموال وفساد التدبير وسلّمها إلى من يعرضها على المقتدر والسيّدة. وبلغ ذلك الخاقاني واشتدّت به الأراجيف وضعفت نفسه وكان عليلا فزادت عليه حتّى أقام شهورا لا يقدر على أكل لحم حمل ولا طائر وكان يأكل كلّ يوم وزن أربعين درهما خبزا، ثمّ صار عشرين درهما، وظهر به ورم فى يديه [2] ورجليه ووجهه وكان يتجلّد ويركب فى كلّ شهر مرّة أو مرّتين إلى دار السلطان وينوب عنه ابنه فى أيّام المواكب. فشغب الفرسان لطلب أرزاقهم وخرجوا إلى المصلّى فوعدوا به وتأخّر عنهم [243] فعادوا وطمعوا فى النهب. وأشرفت بغداد على فتنة عظيمة وخرج إليهم ياقوت بتوقيع المقتدر بالله   [1] . فى مط: الحصنى. [2] . كذا فى الأصل ومط: يديه. وفى مد: بدنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 إلى الخاقاني بإطلاق رزقة تامّة لهم وضمن ياقوت ذلك. فراسل المقتدر الوزير الخاقاني بإطلاق نفقاتهم، فذكر أنّه لا يقدر على ذلك وكان عليلا، فعاوده برسالة يأمره فيها أن يحتال فى مائة ألف دينار ليضيف إليها مائتي ألف دينار ينفق فيهم. فأقام على أنّه لا يقدر على احتيال مائة ألف درهم وأنّ له فى توجيه مال النوبة للرجّالة ومال الغلمان الحجريّة والحشم وخلفاء الحجّاب شغلا طويلا. فتقدّم المقتدر بإخراج ثلاثمائة ألف دينار من بيت مال الخاصّة واعتمد على ياقوت فى تفرقتها. وكان مونس المظفّر بواسط فاستدعاه المقتدر لمّا شغب الفرسان فوافى [1] وتلقّاه الأمير أبو العبّاس والوزير الخاقاني ونصر وسائر الأستاذين والقوّاد ولقى المقتدر فعرّفه ضيق الأموال وتبلّح الخاقاني وشاوره فى صرفه، فأشار عليه بالتوقف ليلقاه ويواقفه. فلقيه مونس فعرّفه الخاقاني أنّه لا حيلة له فى شيء يصرفه فى المهمّ واحتجّ بأنّه عليل لا فضل فيه للعمل. فأشار مونس [244] لمّا رأى تبلّح الخاقاني الشديد باستحضار علىّ بن عيسى وتقليده الوزارة، فاستبعد المقتدر ذلك فأشارت السيدة والخالة بأبى العبّاس الخصيبى فقبض على الخاقاني واستتر ابنه عبد الوهّاب وإسحاق بن على القنّاى وأخوه وابن بعد شرّ وخاقان بن أحمد بن يحيى بن خاقان وظهر الباقون. فكانت مدّة وزارته سنة واحدة وستة أشهر. ذكر سبب وزارة أبى العبّاس الخصيبى واستحضر المقتدر أبا العبّاس الخصيبى وهو أحمد بن عبيد الله يوم   [1] . فى مط: فوافاه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. فقلّده الوزارة والدواوين وخلع عليه وركب معه هارون بن غريب وياقوت ونازوك وأكثر القوّاد، واستكتبت ثمل القهرمانة مكانه على ديوان ضياع السيّدة أبا يوسف عبد الرحمن بن محمّد وكان قد تاب من عمل السلطان. فلمّا أسند إليه هذا العمل الجليل كسر التوبة فسمّاه الناس المرتد، واستدرك أموالا جليلة كان الخصيبى أضاعها، فتنكّرت ثم للخصيبى فى الباطن. وكان أبو العبّاس الخصيبى يواصل شرب النبيذ بالليل والنوم [245] بالنهار فى أيّام وزارته كلّها، وإذا انتبه يكون مخمورا لا فضل فيه للعمل، فردّ فضّ الكتب الواردة من عمّال الخراج والمعاون وقراءتها والتوقيع عليها وإخراجها إلى الدواوين، وقراءة الكتب النافذة والتعليم عليها إلى مالك بن الوليد، ويعمل جوامع مختصرة للمهمّ ممّا يرد وينفذ فيعرضه عليه إذا انتبه فربّما قرأه وربّما لم يقرأه فيقرأه أبو الفرج إسرائيل ويوقّع فيه على حسب رأيه. وكانت الجوامع تعمل بخطّ أبى سعيد وهب بن إبراهيم بن طازاذ فتبقى أيّاما بحضرته فإذا كثرت تقدّم بأن يقرأ عليه ويتقدّم بالتوقيع تحت كلّ فصل بما عنده فيه ويخرج ذلك الجامع إلى مالك بن الوليد فيبقى عنده يوما أو يومين ثمّ يخرج إلى صاحب الديوان فيقرأه ويوقّع تحته بما يراه ويجاب عن الكتاب من الديوان بما ينفذ إلى صاحب الديوان فيقرأه ويعلم عليه وإلى أن ينفذ الجواب ما قد تمرّدت البثوق واتسعت [1] الفتوق واحتملت الأعراب الغلّات وحدثت الحوادث المفسدة لمعنى ذلك الكتاب. فلمّا رأى الكلوذانى ذلك ورأى الضرر يزيد والخطأ لا يتلافى كتب إلى العمّال بأن ينفذوا نسخة لما يكتبونها إلى الوزير إليه [246] فكانوا يكتبون   [1] . فى مط: وانشقّت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 إليه نسخا بما ينفذ منهم إلى الوزير فيوقّع على ظهرها بما يجابون به وتخرج إليه الكتب المكتوبة عن الوزير بعد جمعة وأكثر. وتقدّم الوزير الخصيبى إلى الحسن بن ثوّابة بأن يقرأ قصص المتظلّمين ويوقّع عنه فيها فى غير يوم المظالم ويجمع القصص فى يوم المظالم ويختصر ما فى الرقعة فإذا قرأها وقّع بحسبه وكان أكثر اعتماده على أموال المصادرين. وكان أوّل المصادرين أبو القاسم الخاقاني واعتنق مونس أمره وذكر للمقتدر أنّه لا فضل فيه للحركة [1] وأنّه قد قرّر أمر مصادرته عن نفسه وابنه وكتّابه المختصين به على مائتي ألف وخمسين ألف دينار. فأمضى المقتدر ذلك وأنفذ خطّه به إلى الخصيبى ووضع الخصيبى، يده على العمّال والكتّاب وجازفهم [2] فيما صادرهم عليه، فصادر جعفر بن قاسم الكرخي على مائة وخمسين ألف دينار وقبض على المالكي وعلى هشام وعلىّ بن الحسين بن هندي وورثة أبى أحمد الكرخي والحسن بن أبى الحسن ابن الفرات ويحيى بن عمرويه وأبى الحسن بن مابنداذ وإسحاق بن إسماعيل النوبختي ومحمّد بن يعقوب المصري وورثة نصر بن الفتح صاحب بيت المال [247] وابن عبد الوهّاب وعبد الله بن جبير. وكثرت الأراجيف بالخصيبى وأنّه مصروف عن الوزارة، لأنّه حمار لا يحسن شيئا غير المصادرات وهو مشغول بالشرب واللعب وأنّ الأمور كلّها ضائعة والمهمّات واقفة، وأرجف بالوزارة لجماعة. وفيها كانت وقعة أبى طاهر سليمان بن الحسن القرمطى بالكوفة وأسر قوّاد السلطان.   [1] . فى مط: لا فضل للحركة. [2] . فى مد: جاذمهم، خلافا للأصل ومط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 ذكر الخبر عن دخول القرمطى الكوفة كان جعفر بن ورقاء يتقلّد أعمال الكوفة وطريق مكّة. فلمّا شخص الحاجّ من بغداد تقدّمهم خوفا من أبى طاهر القرمطى وكان معه ألف رجل من بنى عمّه من بنى شيبان، ثمّ خرج فى القافلة الأولى ثمل صاحب البحر وفى قافلة الشمسة [1] جنّى الصفواني وطريف السبكرى وسياشير الديلمي. فكانت عدّة من بذرق بالقوافل من أصحاب السلطان ستة آلاف رجل [2] فتلقاهم أبو طاهر الجنّابى وكان أوّل من لقى جعفر بن ورقاء فناوشه قليلا، ثمّ طلع على جعفر قوم من أصحاب أبى طاهر على نجب يقودون خيلا فنزلوا عن النجب وركبوا الخيل وخالطوا جعفر بن ورقاء فلم يثبت لهم وانهزم [248] بمن معه من بنى شيبان فلق القافلة وقد نزلوا من العقبة فردّهم وأخبرهم الخبر فولّوا مبادرين حتّى دخلوا الكوفة. وتبع أبو طاهر رجال السلطان والقوافل حتّى بلغ باب الكوفة فخرج قوّاد السلطان الذين ذكرناهم، فأوقع بهم وهزمهم وأسر جنّيّا الصفواني، وأقام أبو طاهر بظاهر الكوفة ستّة أيّام يدخل البلد بالنهار ويخرج بالليل فيبيت فى معسكره ويحمل كلّ ما قدر على حمله. فكان فى جملة ما حمل أربعة آلاف ثوب وشى وثلاثمائة راوية زيت. فلمّا حمل كلّ ما قدر عليه رحل إلى بلده. ودخل جعفر بن ورقاء وجماعة المنهزمين إلى بغداد فتقدّم المقتدر بالله إلى مونس بالخروج إلى الكوفة لمحاربة القرمطى، واضطرب أهل بغداد اضطرابا شديدا وانتقل أكثر أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي ودخل   [1] . وفى صلة عريب (ص 119) : وأسر مازج الخادم صاحب الشمسة ... وأخذت القرامطة الشمسة. [2] . فى مط: فى ألف رجل، بدل «ستة آلاف رجل» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 مونس الكوفة وقد رحل أبو طاهر الجنّابى عنها فاستخلف مونس بها ياقوتا وسار هو إلى واسط ولم يتمّ الحجّ لأحد. ودخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة [249] وفيها ورد الخبر بمسير [1] علىّ بن عيسى إلى مكّة حاجّا فى هذه السنة من مصر وورد سلامة حاجبة بغداد ومعه سفاتج بمائة ألف وسبعة وأربعين ألف دينار وبآثار واستدراكات أثرها. وكان الخصيبى قد أقرّ علىّ بن عيسى على ما كان إليه من الإشراف على مصر والشام. وفيها فتح إبراهيم المسمعي ناحية القفص [2] وأسر منهم خمسة آلاف إنسان وحملهم إلى فارس. وفى هذه السنة كثرت الأرطاب ببغداد حتّى عمل منها التمور وحملت إلى البصرة فنسبوا إلى البغي. وفيها كتب ملك الروم إلى أهل الثغور يرسم لهم أداء الخراج إليه ويقول: - «إن فعلتم ذلك طائعين وإلّا قصدتكم فقد صحّ عندي ضعفكم.» ودخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة وفيها دخل الروم ملطية فأخرجوا وسبوا وأقاموا ستّة عشر يوما. وفيها وصل ثمل إلى عمله من الثغور عند انصرافه من بغداد. وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن محمّد الخاقاني وكان أطلق إلى منزله. فلمّا ارتفعت الصرخة [250] بوفاته كبست داره لطلب عبد الوهّاب ابنه فلم   [1] . فى الأصل: بمصير. فى مط: بمصر. والأنسب والأصحّ: بمسير. [2] . القفص (القفس) : جبل بكرمان أهله كالاكراد. يصفه صاحب المراصد بقلّة الرحمة والفساد فى الأرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 يوجد. وفيها دخل أهل ملطية بغداد مستغيثين ممّا نزل بهم من الروم. وفيها خرج أهل مكّة منها ونقلوا حرمهم وأموالهم لاتصال خبر القرمطى بهم وأنّه قريب منهم فتخوّفوا على أنفسهم وأموالهم منه. وكتب الكلوذانى [1] إلى الخصيبى بأنّ أبا طالب زيد بن علىّ النوبندجانى قد صار يجرى مجرى أصحاب الأطراف وأنّه قد تغلّب على ضياع السلطان وأنّه يلزمه ممّا استغلّه منها ثلاثة آلاف ألف درهم. وعمل بذلك عملا أحال فيه على ما كان كتبه أبو القاسم علىّ بن أحمد بن بسطام وقت تقلّده فارس. وكتب إلى الحسن بن إسماعيل وكان شخص ليقرّر خلافا كان بين المسمعي والكرخي بأن يصادره على مائة ألف دينار فاستدعى الحسن بن إسماعيل أبا طالب زيد بن علىّ وأخذ خطّه بمائة ألف دينار. ذكر تدبير سيئ دبّره الخصيبى أخرج به أكثر المماليك عن يده ولم يمكن تلافيه دبّر الوزير أبو العبّاس الخصيبى أن يقلّد يوسف بن ديوداذ جميع نواحي المشرق ليسلّم أموالها إليه فيكون مع مال ضمانه أرمينية وأذربيجان مصروفة إلى قوّاده وجنده [251] وغلمانه، وكاتبه فى المصير إلى واسط لينفذه إلى هجر لمحاربة أبى طاهر الجنّابى وأشار بتكنيته وبأن يكون مونس المظفّر ببغداد ليقوى بمكانه أمر الخلافة وتعظم الهيبة فى قلوب الأعداء. فلمّا قرب [2] ابن أبى الساج من واسط وكان فيها مونس المظفّر رحل   [1] . فى مط: الكلواذاني. [2] . فى مط: خرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 مونس إلى بغداد ودخل ابن أبى الساج واسط وأنفذ قبل وصوله إليها أبا علىّ الحسن بن هارون كاتبه وكان يخدمه فى خاصّ أمره على سبيل الخلافة لأبى عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى كاتبه واختصّ به وخفّ على قلبه، فصار إلى بغداد ليواقف الخصيبى على مال رجاله وأموال الأعمال التي كانت معقودة عليه والأموال التي جعل مالها مصروفا إلى رجاله زيادة على الأموال المتقدّم ذكرها، فإنّ الخصيبى جعل أموال الخراج والضياع بنواحي همذان وساونة ورونة وقمّ وماه البصرة وماه الكوفة والإيغارين [1] وما سبذان ومهرجانقذق لابن أبى الساج لمائدته لمحاربة الجنّابى. فأمضى المقتدر ذلك وتقدّم بتقليده أعمال الصلاة والمعاون والخراج والضياع بسائر كور [2] الجبل وأنفذ إليه اللواء وكنّاه. فكان يوسف يتكنّى [252] على جميع الناس إلّا على الوزير ومونس المظفّر. والتمس الحسن بن هارون أن يجعل لابن أبى الساج مائدة مبلغها فى الشهر خمسة ألف دينار وقال: - «ليس هو بدون أحمد بن صعلوك.» وكان قد جعلت له مائدة فى أيّام وزارة حامد بن العبّاس مبلغها ثلاثة آلاف دينار فى الشهر وجعل له عشرة آلاف دينار فى كلّ شهرين من شهور المماليك لأرزاق غلمان لا يحضرون. وسام الكتاب الحسن بن هارون أن يشرط على نفسه أن ينفذ السلطان منفقا ينفق أموال تلك النواحي فى رجالة غلمانه، [3] فاستجاب إلى جميع ما طالبوه به وأعطى خطّه إلّا أمر المنفق [4]   [1] . الإيغاران: سمّيا بذلك، لأنّهما أوغرا لعيسى ومعقل، وهما: الكرج والبرج (مراصد الإطلاع) . [2] . فى مط: كون. [3] . فى مد: رجاله وغلمانه. وما أثبتناه مطابق لما فى الأصل ومط. [4] . كذا فى الأصل: أمر المنفق. فى مط: الأمر المتفق. وفى مد: إلّا بأمر المنفق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 فانّه زعم أنّ صاحبه لا يصوّر نفسه عند أصحاب الأطراف بصورة من لم يوثق به على مال رجاله. ولمّا عقد لابن أبى الساج على الجبل وندب لمحاربة القرمطى عقد لصاحب خراسان على الرىّ فصار إلى الرىّ وأنفذ إليه من يخاطبه على المال الذي ووقف على حمله من الرىّ. وصار ابن أبى الساج إلى الرىّ وحمل إليه المقتدر خلعا سلطانيّة وسيفا ومنطقة ذهب وخيلا بمراكب ذهب وفضّة وطيبا وسلاحا. [253] ذكر الخبر عن القبض على الخصيبى وتقليد علىّ بن عيسى الوزارة أضاق أبو العبّاس إضاقة شديدة واضطرب أمره وأشار مونس بعلىّ بن عيسى فأنفذ ضحوة نهار يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة إلى الخصيبى حتّى قبض عليه وعلى ابنه وكتّابه وحملوا إلى دار السلطان وحبسوا عند زيدان القهرمانة. وفرّق بين الخصيبى وبين ابنه وحمل باقى المعتقلين إلى دار الوزارة بالمخرّم فاعتقلوا فيها، وأنفذ نازوك وقت قبضه على الخصيبى حتّى حفظت داره القديمة من النهب. واستدعى المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى وأوصله إلى حضرته وعرّفه أنّه قد قلّد أبا الحسن علىّ بن عيسى الوزارة وأنّه قد استخلفه له ويقدم إليه بالنيابة عنه واستحضر سلامة الطولونى وتقدّم إليه بالنفوذ فى البرّيّة إلى دمشق واستحضار علىّ بن عيسى منها. وانصرف أبو القاسم الكلوذانى من دار السلطان فى الطيّار الذي قبض على الخصيبى إلى دار الوزارة بالمخرّم ونظر فى الأعمال وكتب إلى العمّال فى النواحي وإلى جميع الأمراء وأصحاب البرد والخبر والقضاة بما قلّد علىّ بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 عيسى من [254] الوزارة واستخلاف أمير المؤمنين إيّاه وأمر ونهى وصرف وولّى. وظهر فى ذلك اليوم أبو علىّ ابن مقلة وأبو الفتح الفضل بن جعفر ابن حنزابة وصارا إلى الكلوذانى وسلّما عليه. ذكر خلافة أبى القاسم الكلوذانى لعلىّ بن عيسى وتمشيته للأمور قد كان جمع الخصيبى عنده جميع رقاع المصادرين وكفالات من كفل منهم وضمانات العمّال بما ضمنوا من المال بالسواد والأهواز وفارس والمغرب، وكان عنده خطّ كاتب المسمعي عن مال فارس [1] بما يعجّله عن الزيادة فى ضمانه وهو ألف ألف درهم وخطّ سليمان بن الحسن بما استدركه على ابن [2] عبد الوهّاب وهو أربعمائة ألف دينار وكسر، وما ضمن حمله عن أعمال الشام وهو خمسمائة ألف دينار، وخطوط ضمناء واسط والبصرة وطريق خراسان والنهروانات ونهر بوق والذئب الأسفل وجازر والمدينة والعتيقة وغيرهم. فحفظ جميع ذلك الكلوذانى إلى أن قدم علىّ بن عيسى فسلّمه إليه. وأدّى نصير بن علىّ إليه مائتي ألف درهم وأحمد بن إسحاق بن زريق عشرة آلاف دينار وورد بعد أسبوع من صرف الخصيبى فيج بكتب سليمان بن الحسن وفى درجها سفاتج [255] بثمانين ألف دينار. وورد ما كان حمله علىّ بن عيسى على الظهر من مال مصر ووصل من جهة البرجمالى من قمّ عشرة آلاف دينار ووردت من جهة أبى علىّ ابن رستم من مال الضمان   [1] . فى مط: على حال فارس، بدل «عن مال فارس» . [2] . كذا فى الأصل ومط: ابن عبد الوهّاب. فى مد: ابني عبد الوهّاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 سفاتج بأربعمائة ألف درهم فكان ذلك سبب تمشيته الأمور. واتفق الكلوذانى فى سائر المرتزقة وفى الفرسان قبل العيد ولم يزل أبو القاسم الكلوذانى يدبّر الأمور وقد تمكّنت الهيبة لعلىّ بن عيسى فى الصدور فاستعان بذلك على أمره. وسار علىّ بن عيسى من دمشق إلى جسر منبج [1] ، ثمّ انحدر فى الفرات إلى بغداد وشخص الناس فى استقباله سنة خمس عشرة، فمنهم من أبعد إلى الرقّة. ودخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة [2] ذكر ما دبّره علىّ بن عيسى فى وزارته هذه وما جرى فى أيّامه وصل علىّ بن عيسى إلى بغداد وبدأ بدار المقتدر ووصل إلى حضرته بعد عشاء الآخرة ومعه مونس. فخاطبه أجمل خطاب وانصرف إلى منزله ووجّه المقتدر إليه فى ليلته بكسوة فاخرة وفرش ومال يقال إنّه بقيمة عشرين ألف دينار، وخلع عليه [256] من الغد، وسار معه مونس المظفّر إلى أن بلغ داره وحلف عليه علىّ بن عيسى فنزل فى داره، وسار بين يديه هارون ابن غريب وشفيع ومفلح ونسيم وياقوت ونازوك وجميع القوّاد حتّى وصل إلى داره بباب البستان. وكان قد ضرّب علىّ بن عيسى على هشام فتأخّر عنه واستوحش فكاتبه وونّسه حتّى حضر مجلسه ثمّ قال له:   [1] . منبج: على وزن مسجد، بلد قديم كبير واسع بينه وبين الفرات ثلاثة فراسخ، وإلى حلب عشرة فراسخ (مراصد الإطلاع) . [2] . السطر ساقط فى مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 - «ما مذهبي أن أذكر إساءة لأحد من الناس ولما خلّصنى الله من صنعاء وعدت إلى مكّة عاهدت الله على ترك الإساءة إلى أحد ممّن سعى علىّ فى ولايتي ونكبتى ووكلت جميعهم إلى الله ولك خدمة متقدّمة توجب لك [1] حقّا وعليك أضعافه فإن كنت لا ترعى ذلك فلن أدع رعايته.» وقلّد علىّ بن عيسى الكلوذانى ديوان السواد وقال له: - «هذا أجلّ الدواوين ومتى تشاغلت بخلافتى اختلّ وليس يقوم به أحد كقيامك.» ثمّ نظّم الأعمال [2] وقلّد العمّال ورتّب الدواوين واعتمد على إبراهيم بن أيّوب فى إثبات أمر المال [3] بحضرته وفى موافقه صاحب بيت المال على ما يطلقه وينفقه فى كلّ يوم ومطالبته بالرّوزنامجات [257] فى كلّ أسبوع ليتعجّل معرفة ما حلّ وما قبض وما بقي. وكان الرسم إذا عملت الختمة لم يرفع إلى الديوان للشهر الأوّل إلّا فى النصف من الثاني. وقلّد أبا الفتح الفضل بن جعفر بن حنزابة ديوان المشرق، وأبا بكر محمّد بن جنّى ديوان المغرب، وأبا علىّ ابن مقلة ديوان الضياع الخاصة والمستحدثة، وأبا محمّد الحسين بن أحمد المادرائى ديوان الضياع الفراتيّة، وأبا محمّد بن روح ديوان زمام الخراج والضياع العامّة بالسواد والأهواز وفارس وكرمان وما يجرى فيه. وقلّد أبا القاسم ابن النّفاط ديوان زمام النفقات والخزائن. وأبا جعفر القمّى ديوان الدار، وأبا أحمد عبد الوهّاب بن الحسن ديوان البرّ وديوان الصدقات، وأبا الفتح محمّد بن أحمد قلنسوة ديوان زمام الجيش، ومحمّد بن عيسى   [1] . فى مط: ذلك، بدل «لك» . [2] . فى مط: الأموال. [3] . فى مط: الحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 ديوان الحرم، وأبا يوسف ديوان الفصّ والخاتم. وقلّد أيضا كفاة العمّال واقتصر فى أرزاقهم على عشرة أشهر فى كلّ سنة وبأصحاب البرد والمنفقين على ثمانية أشهر فى كلّ سنة. وحطّ من مال الرجّالة برسم النوبة ومن مال الفرسان وجميع أرزاق من كان يرتزق بهذين الرسمين [258] من الكتّاب والتجار ومن لا يحمل السلاح. وحطّ أولاد المرتزقة الذين فى المهود وحطّ من مال الخدم والحشم وجميع أرزاق الجلساء والندماء والمغنّين والتجّار وأصحاب الشفاعات، وحطّ أرزاق غلمان وأسباب أصحاب الدواوين. ولازم النظر بنفسه فى العمل ليلا ونهارا والجلوس لأصحاب الدواوين فى الليل وكان يسهر أكثر الليل حتّى استقامت الأمور وتوازن الدخل والخرج. وكان إلى أبى عبد الله البريدي فى الوقت الضياع الخاصّة ضمانا واقطاع الوزراء. وكان أبو يوسف البريدي يتولّى لعلىّ بن عيسى الخراج برامهرمز سهلها وجبلها. شرح ما جرى بين الوزير أبى الحسن علىّ بن عيسى وبين أبى العبّاس أحمد بن عبيد الله من المناظرة تقدّم المقتدر إلى أبى الحسن علىّ بن عيسى بمناظرة أبى العبّاس الخصيبى. فأخرج إليه وناظره فى دار السلطان بحضرة الأستاذين والقوّاد والقضاة مناظرة جميلة وسأله عن مبلغ ما أنفق بالحضرة من بيت المال فلم يحفظه، وسأله عمّا صحّ له من مال المصادرين وعن رقاعهم [259] بالمصادرات وعن كفالات من كفل منهم وعن ضمانات ما ضمنه عنهم. فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 - «أمّا المصادرات فقد صحّ لى منها فى مدّة أربعة عشر شهرا تولّيت فيها الوزارة نحو ألف ألف دينار.» فقال له: - «كم منها من جهة الخاقاني فإنّ أمير المؤمنين عرّفنى أنّك ضمنتهم بخمسمائة ألف دينار.» فقال: «دفع [1] عنه مونس المظفّر.» فردّت الجماعة قوله وقالوا له: - «قد سلّم إليك حتّى شنّع عليك بأنّك سممته ثمّ أطلقته.» ثمّ قال له علىّ بن عيسى: - «لأىّ شيء استحضرت يوسف بن أبى الساج إلى واسط وسلّمت إليه أعمال المشرق بأسرها سوى إصبهان وكيف وقع لك أنّه يجوز أن يخرج هو مع قوم اعتادوا الجبل والمقام فيه فى طريق البرّ يقصدون طريق السواحل فى بلدان حوالى [2] هجر؟» قال: «كان عندي أنّ هذا صواب.» فقال له: - «فحيث فعلت ذلك لم لم تقتصر على أن يعرض [3] رجاله وغلمانه ويجرى مال عسكره مجرى مال عسكر مونس المظفّر، فانّه يسبّب له مال ويطلق على أيدى منفقين من قبل السلطان ويرفع الحساب بذلك إلى دواوين الجيش ولا يقتصرون على ديوان منها دون جميعها ولا يزاد أحد [260] ولا ينقل عنه من رسم إلى رسم إلّا على استقبال معروف ثمّ يوفّر المعطون كلّ   [1] . فى مط: أرفع، بدل «دفع» وهو خطأ ليس فريدا من مط. [2] . فى مط: حوال. [3] . فى مط: تعرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 شهر من التوفيرات بسبب الغرم ولأجل سقوط من يسقط جملة من المال ولم لم تترك الأعمال فى أيدى عمّال السلطان ويسبّب له عليهم مال رجاله كما يسبّب مال رجال أبى الحسن مونس المظفّر؟» قال: «لم أفعل هذا لأنّه تكلّف من هذا الأمر عظيما احتيج معه إلى فضل مسامحة.» فقال له: - «فلأىّ سبب ضمّنت إبراهيم بن عبد الله المسمعي أعمال فارس وكرمان؟» فقال: «لأجل زيادة بذلها.» فقال له: - «أما علمت أنّ حفظ الأصول أولى من طلب الأرباح؟ وهبك رغبت [1] فى الزيادة لم لم تستدعه إلى الحضرة فإذا وردها وأردت تضمينه أقام بها واستعمل على العمل خلفاءه وأقام لك الضمناء الثقات بالمال ومضى بعد ذلك.» فقال: «إنّما رغب فى الضمان ليعمله بنفسه.» فقال علىّ بن عيسى: - «أرجو أن يسلّم الله.» ثمّ قال: - «لم قبضت جارى ابنك محمّد ألفى دينار فى كلّ شهر وهو لا يقرأ كتابا ولا يحضر ديوانا ولا يحسن أن يعمل شيئا؟» قال: «سألت أمير المؤمنين له رزق المحسّن وعبد الوهّاب بن الخاقاني   [1] . فى مط: رغبة، بدل «رغبت» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 [261] فأجابنى إليه.» قال: «المحسن ربّى فى الدواوين ودبّر الأمور وكان مع شرّه واستحلاله وقبح ديانته كاتبا، وابن الخاقاني كان ينوب عن أبيه ويأمر وينهى ويخدم وهو فهم وابنك لا يجرى مجرى واحد منهما فاكتب خطّك انّك تردّ ما قبضه.» فقال: «كيف أردّ مالا قبضه ابني وأنفقه؟» فقال له: - «على أىّ شيء أنفقه؟» قال: «على ما ينفق مثله الأحداث.» ثمّ سأله عن أموال المصادرين وما صحّ من جهتهم فقال: - «لا أحفظه إلّا انّه ثابت فى ديوان المصادرين.» قال: «فعنه أسألك.» قال: «هو عند هشام وإن سئل عنه خبّر به، [1] فإنّ رقاع المصادرين والكفالات والأعمال فى يده.» فقال له: - «ما سبقك أحد إلى تسليم خطوط المصادرين إلى صاحب ديوان المصادرات لأنّ سبيل الخطوط أن تكون فى خزائن الوزراء محفوظة يتسلّمها وزير بعد وزير فإن كنت أردت عمارة الديوان فكان ينبغي أن تأخذ [2] الخطوط على نسختين: نسخة للديوان ونسخة تكون عندك، فلو باع صاحب الديوان رقاع المصادرين والكفالات وضمانات الضّمناء هل كان على السلطان مضرّة [262] فى هذا المال أعظم منك، وإذا كان هذا تدبيرك   [1] . والعبارة فى مط: وإن سأل عنه خبّرته، بدل «وإن سئل عنه خبّر به» . [2] . فى مط: أن أخذ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 فيما لم تكن تحسن سواه فأىّ شيء دبّرت غيره من أعمال الدواوين؟ فإمّا أن تكون خنت الأمانة وإمّا أن لم تحسن ضبط شيء من الأعمال؟» وكلّ ذلك يخاطبه به عن غير إسماع مكروه ولا صياح. ثمّ قال: - «غررت المملكة فضرب النساء والحرم بالمقارع وهتكت الستور بما فعلت من تسليمهنّ إلى الرجال فلأيّة حال سلّمت بنت جعفر بن الفرات إلى أفلح وهو رجل شاب جميل الوجه يتصنّع حتّى تزوّج بها فى حبسك [1] ولأيّة حال ضربت دولة وإنها بحضرتك، ثمّ لم ترض بذلك حتّى اعتقلت الجماعة فى يد غلمانك وحجّابك عدّة شهور؟» ثمّ قال: - «ارتزقت لنفسك خمسة آلاف دينار فى الشهر يكون فى مدّة أربعة عشر شهرا سبعين ألف دينار سوى ما ارتزقه ابنك وأخذت من أقطاعك فى مدّة سنة وشهرين ما ثبت فى الختمات الموجودة لجهبذك [2] فى ديوانك مائة وثمانين ألف دينار يصير الجميع مائتين وخمسين ألف دينار.» ثمّ أخرج عملا بخطّ علىّ بن محمّد بن روح بهذا المبلغ وبأنّه أنفق فى كلّ شهر من النفقات الراتبة ألفى وخمسمائة دينار تكون فى أربعة عشر شهرا خمسة وثلاثين ألف دينار [263] وفى النفقات الحادثة والصلات والمؤونة مع ثمن [3] الطيب والكسوة عشرين ألف دينار وفى ثمن عقارات أضافها إلى داره مع ما أنفقه على البناء أربعين ألف دينار وفى ثمن الهدايا فى النوروز والمهرجان إلى الخليفة وإلى الأميرين أبى العبّاس وهارون ابنيه وإلى السيدة   [1] . فى مط: جيشك، بدل «حسبك» . [2] . والعبارة فى مط: ما ثبت فى الضمانات الموجودة لجندك. [3] . فى مط: الثمن الطيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 والخالة وزيدان ومفلح خمسة وثلاثين ألف دينار. وفى ثمن بغال ودوابّ وجمال وخدم وغلمان عشرة آلاف دينار. وفيما يحتاج إلى إنفاقه وصرفه إلى من برسم [1] دار الوزارة من خلفاء الحجّاب والبوّابين وأصحاب الرسائل وإنزال الفرسان والرجّالة عشرين ألف دينار.» فقال فى الجواب: - «هذا عمل صحيح وليس كلّ ما أنفقته كتبته فقد كنت أصوغ لحرمي وأولادى وأنفق نفقات أسترها عن كاتبي وما سرقت ولا خنت.» فقال له علىّ بن عيسى: - «ما يقول أحد أنّك سرقت أو خنت ولكنّك أضعت وأسأت التدبير ودخلت فيما لا تحسنه ولو أخذت أضعاف ما أخرجناه وعليك لما ناظرك أمير المؤمنين فيه لا سيّما وهو منسوب إلى أرزاقك وإقطاعك ونفقات معروفة لك، وكيف نناظرك فى ذلك وما نعيش [264] ولا أحد من كتّاب أمير المؤمنين إلّا فى نعمته وإحسانه ولنا ضياع استفدناها فى خدمته وخدمة أسلافه رضى الله عنهم.» ولم يزل يرفق به إلى أن أخذ خطّه بأربعين ألف دينار يؤدّيها فى مدّة أربعين يوما بعد أن حلف إنّه لا يتّجه له حيلة فى غيرها، وسلّم علىّ بن عيسى رقعته بها إلى مفلح وقال له: - «تعرضها على أمير المؤمنين وتقول: إنّ هذا وإن كان قد غرّ [2] من نفسه وأضاع وأهمل فقد تحرّم بخدمة أمير المؤمنين وحلف بأيمان بيعته على أنّه غاية ما يقدر عليه وليس له ذنب وإنّما الذنب لمن غرّك منه ولم ينصحك   [1] . فى مط: يرسم. [2] . فى مط: غيّر من نفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 فى أمره.» ثمّ كتب رقعة إلى المقتدر بقبول ما بذله الخصيبى ويحمله إلى ثمل القهرمانة إلى أن يؤدّى ما فورق عليه. ذكر ما دبّره علىّ بن عيسى من الأمور فى وزارته هذه لمّا نظر علىّ بن عيسى فى الأمور وجد أهمّ ما يحتاج إليه أمر الرجّالة المصافيّة وكان مبلغ مالهم فى أيّامه ثمانين ألف دينار ومال رجال مونس المظفّر وهو ستمائة ألف دينار فى كلّ سنة سوى مال الرجّالة معه ومال الحجريّة برسمه فانّه يطلق [265] مع أرزاق نظرائهم. وكان يسبّب مال رجال مونس [1] على نواح اختارها مونس فإذا أزاح العلّة فيما ذكرناه نظر بعد ذلك فى أمر مال خلفاء الحجّاب والحشم والمتطبّبين والفرسان برسم التفاريق والمنجّمين والفرّاشين والطبّاخين والساسة وسائر المرتزقة من الخدم. فخرج علىّ بن عيسى يوما من حضرة المقتدر بالله ليركب فى طيّاره فوثب به الخدم والحشم بألسنتهم وثوبا قبيحا. وورد الخبر على علىّ بن عيسى بأنّ إبراهيم بن المسمعي اعتلّ علّة حادّة وتوفّى بالنوبندجان فأشار علىّ بن عيسى بتقليد ياقوت أعمال الحرب والمعاون بفارس وتقليد أبى طاهر محمّد بن عبد الصمد أعمال المعاون بكرمان فخلع عليهما وعقد لهما لواءان. وكتب علىّ بن عيسى إلى القاسم بن دينار بالمبادرة إلى فارس وقلّده أعمال الخراج والضياع بها وقلّد ما كان إليه من أعمال الأهواز أبا الحسن   [1] . فى مط: يونس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 أحمد بن محمّد بن مابنداذ وابن السلاسل. فحكى أبو الفرج ابن هشام قال: لمّا بلغ أبا عبد الله البريدي ما تقلّده هؤلاء من أعمال الأهواز وما حولها قال: - «يقلّد هؤلاء هذه الأعمال ويقتصر بأخي أبى يوسف على سرّق [1] وبى على ضمان الضياع [266] الخاصّة، خذ يا أبا هشام هذا الكتاب- يعنى الكتاب الوارد عليه بما قلّد- وأعطه ابنك حتّى يمثّل عليه ويتعلّم منه الخطّ، فإنّ لطبلى صوتا سوف تسمعه بعد أيّام.» وكان أبو عبد الله البريدي أنفذ أخاه أبا الحسين إلى الحضرة لمّا بلغه اضطراب أمر علىّ بن عيسى ووافقه على أن يخطب له عمل الأهواز إذا تجدّدت وزارة لمن يرتفق، فإنّ علىّ بن عيسى يعفّ ولا يرتفق. فلمّا تمّت الوزارة لأبى علىّ ابن مقلّة صار أبو الحسين إلى أبى أيّوب السمسار وبذل له عشرين ألف دينار فقلّد أخوه أبو عبد الله البريدي أعمال الأهواز سوى السوس وجنديسابور وقلّد أبو الحسين الفراتيّة وأبو يوسف الخاصّة والأسافل على أن يكون المال فى ذمّته إلى أن يقع الوفاء لهم فوفى لهم وقبض المال. وكتب أبو علىّ ابن مقلة فى القبض على أبى السلاسل فخرج أبو عبد الله بنفسه إلى تستر حتّى حصله وأسبابه ووجد له فى صناديقه وعند جهبذه عشرة آلاف دينار فأخذها ووافقه على أن يصكّ بما كان عند الجهبذ بنفقات باطلة وأخذ من كاتبه ألفى دينار ومن خليفته ثلاثة آلاف دينار [267] ومن حاجبه ألفى دينار. وكان أبو عبد الله البريدي أحد دجّالى الدنيا وشياطينها.   [1] . فى مط: على سوق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 ثمّ كثّر على أبى علىّ ابن مقلة بأنّه أهلّه لما لا يستحقّه فصرفه بأبى محمّد الحسين بن أحمد المادرائى وقلّده إشرافا وقلّد الأصل جماعة من العمّال فما أحلى أبو محمّد ولا أمرّ وكان كاتبه علىّ بن يوسف وخليفته صحبته من الحضرة فبان من تجلّفه [1] وسقوطه ما صار به نكالا وحديثا. وحسبك أنّ أبا عبد الله البريدي أخذ عليه الطرقات فكان كلّ ما كتب به يؤخذ من رسله فما قرئ له كتاب منذ دخل الأهواز إلى أن صرف عنها. ثمّ صرفه بعد ذلك أبو علىّ بأبى عبد الله البريدي وقال: - «اغتررت بطلل ذلك الشيخ وما كلّ من يصلح للكتابة ينفذ فى العمالة [2] .» وعدنا إلى تمام حديث علىّ بن عيسى وما دبّره به المملكة ولمّا أخرج إليه الارتفاعات كان فيه مبلغ ارتفاع لضياع إقطاع الوزراء بعد نفقاتهم الراتبة مائة وسبعين ألف دينار. فكتب إلى المقتدر بأنّه غنىّ عن هذا الإقطاع وأنّه قد وفّر ماله فإنّ أمر ضيعته قد صلح وكذلك [268] وقفه [3] بإعادته إيّاه إلى خدمته وأنّه يوفّر أيضا رزق الوزارة وهو مع ألفى دينار أجريت لابن الخصيبى سبعة آلاف دينار فى كلّ شهر. وكتب إليه المقتدر بالشكر وانّه لا بدّ من أن يقبض الرزق على الرسم فحلف علىّ بن عيسى إنّه لا يقبض رزقا لهذه الخدمة لأنّ مذهبه ترك التنعّم.   [1] . فى الأصل إهمال وغموض (تخلّف، تجلّفه؟) . فى مط: تخلّفه. ورجّح فى مد: تجلّفه. وهو أنسب للسياق. [2] . الضبط فى الأصل: العمالة، بضم العين. [3] . كذا ضبط ما فى الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 حوادث أخرى وفيها شغب الفرسان برسم التفاريق وخرجوا إلى المصلّى فنهبوا القصر المعروف بالثريّا وذبحوا الوحش الذي فى الحائر وذبحوا البقر التي لأهل القرى التي حوله وخرج إليهم مونس وضمن لهم أرزاقهم فرجعوا إلى منازلهم. وفيها خلع على مونس للخروج إلى الثغر لأنّ ملك الروم دخل سميشاط وضرب فى مسجد الجامع بالنواقيس وصلّى فيه الروم صلاتهم. وفيها ظهرت وحشة مونس المظفّر ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ خادما من خدم المقتدر بالله حكى لمونس انّ المقتدر تقدّم إلى خواصّ خدمه بحفر زبية [1] فى الدار المعروفة بدار الشجر من دار [269] السلطان حتّى إذا حصل مونس فيها عند الوداع إذا أراد الخروج إلى الثغر، حجب الناس وأدخل مونس وحده إلى ذلك الصحن، فإذا اجتاز على تلك الزبية وهي مغطاة وقع فيها ونزل إليه الخدم وخنقوه ويظهر أنّه وقع فى سرداب فمات. فامتنع مونس من دار السلطان وركب إليه جميع القوّاد والغلمان والحاشية وعبد الله بن حمدان وأخوته وأكثر العرب وخلت دار السلطان من الجند. وقال عبد الله بن حمدان: - «نقاتل بين يديك أيّها الأستاذ إلى أن تنبت لك لحية.»   [1] . الزّبية: الحفرة تحفر لصيد السباع، أو حفيرة يشتوى فيها ويخبز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 فوجّه إليه المقتدر بنسيم الشرابي ومعه رقعة بخطّة إليه يحلف له فيها على بطلان ما بلغه. فصرف مونس جميع من اجتمع إليه من الجيش وأجاب عن الرقعة بما يجب فى مثل ذلك وانّه لا ذنب له فى حضور من حضر عنده، لأنّه لم يستدعهم. وامتنع ابن حمدان من الانصراف وحلف إنّه لا يبرح من دار مونس ليلا ونهارا إلى أن يركب معه إلى دار السلطان ويطمئن إلى سلامته، ولازم مونسا أيّاما كثيرة. وانضاف إلى ذلك أنّ إسحاق بن إسماعيل كان سبّب عليه مال مونس [270] ومال رجاله فبلّح [1] فيها. وكان علىّ بن عيسى متنكّرا له لأشياء بلغته عنه فى غيبته فشغب الفرسان لتأخّر أموالهم، فجدّ علىّ بن عيسى بإسحاق بن إسماعيل واعتقله وأخذ خطّه بخمسين ألف دينار من مال ضمانه واعتقل أحمد بن يحيى الجلخت كاتبه وعدّة من أصحابه حتّى استوفى ذلك، ثمّ صرفه عن أعماله وجدّ بعمّال السواد حتّى صحّ له فى مدّة ثلاثة أيّام ما أنفقه فى أصحاب مونس. وكتب المقتدر إلى جماعة من وجوه القوّاد بأنّه قد صفح عمّا كان منهم فى نهب الثريّا وإحراقها وقرئت عليهم فشكروا وسألوا أن يضمّ جماعة منهم ممّن اتّهم بذلك إلى مونس المظفّر لينحدر معهم إلى حضرته. فانحدر معهم ووصل إلى المقتدر بالله وقبّل الأرض بحضرته وحلف المقتدر له على صفاء نيّته وودّعه مونس. وقرأ عليه علىّ بن عيسى كتابا ورد عليه من وصيف البكتمرى بأنّ المسلمين عقبوا على الروم وظفروا بهم وبجميع من فى عسكرهم وقتلوا منهم وغنموا غنائم جليلة. وخرج مونس من داره إلى مضربه بباب الشماسيّة   [1] . بلّح: أعيا وعجز ولم يوجد عنده شيء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 وشيّعه الأمير أبو العبّاس والوزير علىّ بن عيسى ونصر الحاجب وهارون ابن غريب. [271] وورد رسول ملك الروم ومعه كتاب من وزير الملك وهو اللعثيط [1] إلى الوزير علىّ بن عيسى يلتمس فيه الهدنة. ظهور الديلم وفى هذه السنة [2] ظهر الديلم، وكان أوّل من غلب على الرىّ منهم بعد خروج ابن أبى الساج منها، ليلى بن النعمان ثمّ ما كان بن كاكى. ودخل هذا الرجل فى طاعة صاحب خراسان لأنّه كتب إليه واستدعاه، فمضى إليه وغلب على الرىّ أسفار بن شيرويه وكان مرداويج بن زيار أحد قوّاده. عاقبة عسف أسفار بن شيرويه وكان اسفار بن شيرويه لمّا غلب على قزوين ألزم أهلها مالا جليلا وعسفهم عسفا شديدا وخبطهم وأحلّ بهم من تسليط الديلم [3] على مهجهم وأموالهم واستباحتهم وتعذيب عمّالهم ما استعظمه هو فى نفسه فضلا عن غيره، ورقّت القلوب منه وضاقت النفوس وبلغت الحناجر ويئس الناس من الحياة وتمنّوا الموت. فخرج الرجال والنساء والأطفال إلى المصلّى مستغيثين إلى الله تعالى وراغبين إليه فى كشف ضرّهم فمضى لهم يوم على ذلك. وأنهى الخبر إلى اسفار فتهاون بالدعاء.   [1] . كذا فى الأصل: اللعثيط (بإهمال العين) . وفى مط: اللعيط. وفى مد: اللغثيط، (بالغين المعجمة) . [2] . سنة 315. [3] . والعبارة فى مط: وخطبهم وحذّرهم من تسليط الديلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 فلمّا كان فى اليوم الثاني خرج عليه مرداويج فواقعه وهزمه [272] فمرّ على وجهه فتبعه يومه أجمع فلم يظفر به، ولحقت أسفار مجاعة فى اليوم الثاني فأوى إلى رحى طحّان فى قرية وسأله أن يطعمه فأخرج إليه خبزا ولبنا، وكان يأكل وأطلّ مرداويج على الموضع فوجد آثار الحافر قد انقطع هناك، فوقف يتأمّل فرأى أكّارا فتشبّث به وسأله عن اسفار فأنكر وأرهبه فقال له: - «ما أعرفه ولكنّى رأيت فارسا قد دخل إلى هذه الرحى.» وكبس مرداويج الموضع فوجده يأكل خبزا فاحتزّ رأسه، وعاد إلى قزوين فسكّن أهلها وتلافاهم وأزال تلك المطالبة عنهم ووعدهم بالجميل وانصرف عنهم ووهب [1] دعاءهم. ثمّ أنّ مرداويج ذهب فتغلّب على الرىّ وإصبهان وأساء السيرة بإصبهان خاصّة وتبسّط فى أخذ الأموال وانتهاك الحرم وطغى وجلس على سرير ذهب دونه سرير فضّة يجلس عليه من يرفع منه وأقام جنده يوم السلام عليه صفوفا بالبعد منه. وسام مرداويج رجاله الخسف [2] وكانوا يرهبونه رهبة عظيمة وكان يقول: - «أنا سليمان بن داود وهؤلاء الشياطين.» وكان يغضّ من الأتراك [273] غضّا شديدا. فساءت نيّاتهم له فطلبوا كيدا يكيدونه به وتمكّنت له فى نفوس الخاصّ والعامّ البغضاء وضجروا منه وضعفت نفوس أهل مملكته فى أيّامه.   [1] . فى مط: ورهب. [2] . فى الأصل: الخشف. وما فى مط: الخسف، كما أثبتناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 مقتل مرداويج قال: وركب يوما فى موكب عظيم وخرج إلى الصحراء وكان ينفرد عن جيشه ويسير وسطا لا يجسر أحد على القرب منه فكان العالم يتعجّبون منه ومن تمرّده وطغيانه إذ اشتقّ العسكر رجل شيخ لا يعرف، على دابّة، فقال: - «زاد أمر هذا الكافر واليوم تكفونه [1] قبل تصرّم النهار ويأخذه الله اليه.» فلحقت الجماعة دهشة وتبلّدوا. قال أبو مخلد عبد الله بن يحيى: وكنت فى الموكب فنظر بعض الناس إلى بعض ولم ينطق أحد منهم بحرف ومرّ الشيخ كالريح، ثمّ قال الناس: - «لم لا نتبعه ونستعيده الحديث ونسأله من أين علم أو نأخذه ونمضي به إلى مرداويج لئلّا يبلغه الخبر فيلومنا على تركه.» فركضوا يمينا وشمالا إلى كلّ طريق وسبيل فى طلبه فلم يوجد وكأنّ الأرض ابتلعته. ثمّ عاد مرداويج ولم يلو على أحد ودخل داره ونزع ثيابه، ثمّ دخل الحمّام وأطال، وكان كورتكين قريبا منه وخصّيصه [2] يحرسه ويراعيه فى خلواته وحمّامه فأمره أن لا يتبعه وتأخّر عنه مغضبا فتمكّن منه الأتراك [274] وهجموا عليه فى الحمّام فقتلوه بعد أن مانع عن نفسه وقاتل بكرنيب فضّة [3] كان فى يده، فشقّ بعض الأتراك بطنه. فلمّا خرجت حشوته ظنّ أنّه   [1] . تكفونه: كذا فى الأصل. وفى مط: تكفر به. وفى مد: تكفنونه. وليس الأصل كذلك. [2] . فى مط: وخصّصه. [3] . فى مط: بكسر فضّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 قد قتله فلمّا خرج إلى أصحابه قالوا له: - «أين رأسه؟» فعرّفهم أنّه قد شقّ بطنه. فلم يرضوا بذلك وعاوده لحزّ رأسه فوجدوه قد قام على سريرين فى الحمّام وردّ حشوة بطنه وأمسكها بيده وكسر جامة الحمّام وعاونه قيّم الحمّام وهمّ بالخروج من ذلك الموضع إلى سطح الحمّام. فلمّا رأوه كذلك حزّوا رأسه فظهر أمره بين الظهر والعصر بخروج الأتراك الذين كانوا معه إلى رفقائهم وإخبارهم إيّاهم بخبره وركوبهم إلى الإصطبلات للنهب. وفيها ارتفع ذكر أبى جعفر بن شيرزاد وعنى به علىّ بن عيسى. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ ابن شيرزاد كان يكتب لهارون بن غريب وينظر فى جميع أموره. فأطمع هارون فيه وقرّف بجنايات عظيمة فقبض عليه يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وسلّمه إلى خادمه [275] مونس وأمره بالتضييق عليه ومنعه من الدواة فتأخّرت رقعته عن أخيه أبى الحسن زكريّا. وكان يكتب للخالة على ديوان ضياعها. فعرف الخالة صورة أخيه فشكت الخالة ذلك إلى السيدة فوجّهت السيدة بخادم لها إلى هارون حتّى انتزعه من يده وحمله إلى دار السلطان وتقدّمت بإطلاقه. وخاطب هارون بن غريب علىّ بن عيسى فى أمر ابن شيرزاد وقال له: - «قد كان اقترض منّى للخاقانى أموالا كثيرة وأخذ بها تسبيبات وفاز بها وقد عمل له المومّل كاتبي بمال عظيم وأنا أرضى بنظر ثقة من ثقات الوزير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 فى العمل.» فتقدّم الوزير علىّ بن عيسى إلى أبى يوسف كاتب السيّدة بالمصير إلى دار هارون وحضر المؤمّل وكتّابه فنظروا فى العمل. فكان أوّل باب فيه أنّه وجد فى دفتر من دفاتر ديوانه ثبت [1] ما قبض من التسبيبات التي سبّبها الخاقاني لابن شيرزاد من مال القروض التي اقترضها من مال هارون بن غريب. وقد حكى فيه أنّه قبض خمسة عشر ألف دينار وأنّه لم يجد هذا المال فى ختمات الجهبذ الثابتة فى الديوان. وكان كاتب ابن شيرزاد على ذلك الديوان ابن أبى الميمون، فقال [276] ابن أبى الميمون: - «قد صحّ فى ختمة الجهبذ ومع صاحبي خطّ الأمير بقبضه إيّاه، لأنّه حمله إلى حضرته وصرفه فى ثمن دار المحسّن التي ابتيعت [2] من وكيل الخليفة فى وزارة أبى القاسم الخاقاني.» فأخرجت الختمة بعينها فوجد ذلك فيها. ووجد محرّر هذه الختمة قد كتب هذا المال كأنّه تفصيل المال المتقدّم وكان سبيله أن يكون مخرجا بارزا عن التفصيل الأوّل. فوجد أبو يوسف ومحمّد بن جنّى الأمر على ما قال كاتب ابن شيرزاد وأخرج ابن شيرزاد خطّ هارون بن غريب بصحّة هذا المال منسوبا إلى تلك الجهة وأنّه أدّى فى بيت المال لثمن الدار وأحضر قبض صاحب بيت المال به. ثمّ نظر فى الباب الثاني أنّ المطلق للفرسان فى عسكر هارون من مالهم فيه الربع الدراهم [3] تساوى ستّة عشر درهما بدينار وأنّه لم يضع الصرف من   [1] . ثبت: كذا فى الأصل. وفى مط: ثلث. [2] . فى مط: تتبعت. [3] . كذا فى مط. وما فى الأصل: الربع دراهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 مال الرجال وأنّه يلزمه منه فى مدّة ولايته كتابة هارون نيّف وعشرون ألف دينار، فأخرجوا الختمات فوجدوا الجهبذ قد احتسب بما صرفه فى أعطيات الرجال ورقا من غير أن يوضع منه شيء لفضل الصرف. فاحتجّ كاتب ابن شيرزاد بأنّ فضل [277] الصرف فى ختمة تورد فى أصول الأموال فى آخر باب من أبواب الأصول وهو ما يتوفّر من هذا الباب وغيره من سائر نفقات هارون بن غريب فأخرج ذلك من الختمات. فلمّا بطل هذان البابان وهما معظم ما كان فى العمل نهض أبو يوسف ومحمّد بن جنّى وقام معهما ابن شيرزاد وأقبل عليه هارون فقال: - «قد هتكني كاتبي هذا الجاهل الناقص قبّحه الله وقد جنيت على نفسي بصرفك ولكن إن تصرّفت لأحد فعلت وصنعت.» وتهدّده. فذهب ابن شيرزاد وشرح لعلىّ بن عيسى ذلك فصار ذلك سببا لعناية علىّ بن عيسى به واشتهر حديثه وفاض فى الكتّاب. وفيها ورد الخبر وكتاب الفارقي من البصرة بأنّه قد اجتاز بباب البصرة ممّا يلي البريّة جيش للقرمطى كثير العدد يقصد الكوفة فكتب المقتدر إلى مونس المظفّر يأمره بالرجوع إلى بغداد فرجع من تكريت ودخل بغداد بعد صلاة العصر بعد أن أنفذ قطعة من جيشه إلى الثغر. وخرج ياقوت إلى مضربه بالزعفرانيّة متوجّها إلى عمله بفارس. القبض على ابن أبى الساج وتقليد الحسن بن هارون وفى هذه السنة قبض يوسف بن أبى الساج على كاتبه [278] أبى عبد الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 محمّد بن خلف النيرمانى وقلّد مكانه أبا علىّ الحسن بن هارون وقيّد محمّد بن خلف بقيود ثقال وأخذ منه يوم قبض عليه من المال والفرش والكسوة والغلمان ما قيمته مائة ألف دينار وأخذ خطّه بخمسمائة ألف دينار مصادرة عن نفسه. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك ما استعمله بواسط من السرف فى التكبّر والتجبّر والتوسّع فى النفقات حتّى إنّه جعل فى داره بواسط فى شراب العامّة ثلاثين غلاما وفى شراب الخاصّة عشرين غلاما وكان يخرج من داره إلى دار صاحبه يوسف ويبكّر إليه جميع قوّاد ابن أبى الساج ورؤساء غلمانه ورؤساء العمّال ويسلّمون عليه كما يفعل الناس ببغداد بالوزراء فى أيّام المواكب. وكان قبل ذلك فى مسير ابن أبى الساج من الرىّ إلى واسط قد لبس القباء والسيف والمنطقة إلّا أنّه لم يكن يركب إلى دار صاحبه بسواد فرقا بينه وبين وزير السلطان واحتمله ابن أبى الساج على ذلك. ثمّ أطمع نفسه أيّام مقامه بواسط فى الوزارة للسلطان، وتبيّن [279] عداوة نصر الحاجب لابن أبى الساج فكاتبه ووجّه إليه بمن يثق به يلتمس منه أن يشير على المقتدر بتقليده الوزارة مكان علىّ بن عيسى وضمن أن يستخرج من علىّ بن عيسى وأخيه وسليمان بن الحسن وأبى زنبور المادرائى والكلوذانى وأسبابهم ألف ألف دينار ويقوم بنفقات السلطان وأرزاق الأولياء. سعاية وسعى بصاحبه وقال: إنّه كان يستر عنه مذهبه فى الدين وإنّه لمّا سار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 إلى واسط أنس به وانبسط إليه فكشف له أنّه يتديّن بأن لا طاعة عليه للمقتدر ولا لبنى العبّاس على الناس طاعة وأنّ الإمام المنتظر هو العلوي الذي بالقيروان وأنّ أبا طاهر الهجري صاحب ذلك الإمام، وإنّه قد صحّ عنده أنّه يتديّن بدين القرامطة وإنّه إنّما صيّر العلوي متحقّقا به وبجميع أسراره بهذا السبب، وإنّه ليس له نيّة بالخروج إلى هجر، وإنّه إنّما يحتال بالوعد بالخروج إلى هجر حتّى يتمّ له أخذ الأموال، وإنّه قال فى شهر ربيع الآخر: - «أىّ شيء بقي لنا على الخليفة ووزيره من الحجّة ولم ليس تخرج إلى هجر ولا أراك تستعدّ لذلك؟» فقال له فى الجواب: - «لم لا تكون لك معرفة [280] بالأمور من فى نيّته [1] الخروج إلى هجر.» وإنّه قال له: - «فلم غررت السلطان من نفسك ووعدته بهذه الحال حتّى سلّم إليك جميع أعمال المشرق؟» فأجابه بأنه يرى انتقاض الخليفة وسائر ولد العبّاس الغاصبين أهل الحقّ فرضا لله- عزّ وجلّ عليه- وأنّ طاعته طاغية الروم أصلح من طاعته الخليفة.» وإنّه قال: - «فهبك فعلت ذلك، ما الذي يؤمنك من القرمطى أن يوافى إلى واسط وإلى الكوفة فلا تجد بدّا من لقائه ومحاربته؟» فقال فى الجواب:   [1] . كذا فى الأصل: فى نيّته. وفى مط: فى بيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 - «ويحك كيف أحارب رجلا هو صاحب الإمام وعدّة من عدده؟» فقال له: - «فإن أراد هو حربك أى شيء تعمل؟» فقال له: - «ليس لهذا أصل، وقد ورد عليه كتاب الإمام من القيروان بأن لا يطأ بلدا [1] أكون فيه ولا يحاربني بوجه ولا بسبب.» وإنّه ختم القول بأن قال: - «إنّى إنّما انتظر أن يقبض رجالي بأسرهم أموال سنة أربع عشرة وثلاثمائة فإذا قووا بذلك منعت أوّلا من أعمال واسط والكوفة وسقى الفرات وأنفذت إليها العمّال، فلا بدّ للسلطان أن ينكر حينئذ ما أفعله فأكاشفه وأخطب للإمام وأظهر [281] الدعوة وأسير إلى بغداد، فإنّ من بها من الجند قوم يجرون مجرى النساء قد ألفوا الدور على دجلة والشراب والثلج والخيش [2] والمغنيات فآخذ نعمهم وأموالهم ولا أدع الهجري يفوز بالاسم وأكون أنا سائق الدولة إلى الأمام، فإنّ أبا مسلم خرّاز النعال لم يكن له أصل وقد بلغ ما بلغ ولم يكن معه لمّا ارتفع النصف ممّن معى. وما هو إلّا أن أظهر الدعوة حتّى قد اجتمع مائة ألف ضارب سيف.» ويقول محمّد بن خلف: - «قد صدقت أمير المؤمنين عن هذا الأمر، فإن ولّانى الوزارة انقمع ابن أبى الساج وبطل عليه تدبيره وأخبّب [3] حينئذ رجاله وغلمانه: فإمّا أسروه   [1] . وفى مط: وقد ورد عليه كتاب ابن المعتز ولا يطأ بلدا» بدل «وقد ورد عليه كتاب الإمام من القيروان بأن لا يطأ بلدا» . [2] . الخيش: الرجل الدنىّ. [3] . خبّبه: خدعه وأفسده. يقال: «خبّب على فلان صديقه» أى أفسده عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 وإمّا هرب طائرا على وجهه إلى أذربيجان. فإنّى إذا تولّيت الوزارة جدّدت به فى المطالبة بالخروج إلى هجر فإن كاشف دبّرت عليه.» فأنهى نصر الحاجب كلّه إلى المقتدر وعرّفه انّ محمّد بن خلف قد كتب إليه يحلف له على أنّه ما حمله على هذا الفعل إلّا الغضب للدين أوّلا ثمّ الأنفة من أن يتمّ لهذا القرمطى على الخليفة وسائر الخاصّة والعامّة ما دبّره. وكان الحسن بن هارون يخلف محمّد بن خلف [282] ويقف دائما بين يديه على رجله ويخدمه كما يخدم ابن أبى الساج. فلمّا رأى اختصاصه بابن أبى الساج تنكّر له وعمل على القبض عليه وإتلافه وأظهر ذلك لأبى بكر ابن المنتاب وكان قد اختصّ به وغلب عليه. فاتّفق أن شرب ابن المنتاب مع جماعة من إخوانه بواسط وفيهم عبد الله بن علىّ الجرجرائى عامل الصلح والمبارك، فسأله عبد الله بن علىّ أن يشكر له أبا علىّ الحسن بن هارون لما يوليه من الجميل وقال له: - «تعرض لى رقعة على سيّدنا أبى عبد الله محمّد بن خلف أسأله فيها أن يعرّفه شكرى ويأمره بالزيادة فيما شكرته عليه.» فقال له ابن المنتاب: - «اتّق الله فى نفسك ولا تفعل، فإنّ أبا عبد الله على غاية التنكّر للحسن بن هارون ولن يبعد أن يقبض عليه ويبلغه [1] .» فحفظ ذلك عبد الله بن علىّ وتقرّب به إلى الحسن بن هارون. ووقعت بين محمّد بن خلف وبين عبد الله بن علىّ مماحكة فيما سبّب عليه لقوم يعتنى بهم محمّد بن خلف فشتمه محمّد بن خلف وهدّده وأمر بإخراجه من مجلسه على أقبح صورة.   [1] . فى الأصل: ويبلغه (بضمّ الغين) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 فاجتمع عبد الله بن علىّ والحسن بن هارون على التدبير على محمّد بن خلف ونصبا عليه أصحاب الأخبار إلى أن وقفا [283] على ما عمله فى السعى فى تقلّد الوزارة للمقتدر وسعايته بصاحبه. فاطلع عبد الله بن علىّ ابن أبى الساج على ذلك وتقرّب إليه فنصب يوسف بن أبى الساج أصحاب أخبار على محمّد بن خلف إلى أن وقف على أنّ خادما له يثق به قد أنفذه دفعات إلى بغداد وأظهر أنّه إنّما ينفذه لابتياع كسوة وفرش ودوابّ وغلمان له وأنّه هو السفير بينه وبين نصر الحاجب فى التدبير على ابن أبى الساج فتقدّم ابن أبى الساج إلى عبد الله بن علىّ فى أخذ الطرق على هذا الخادم وإلى الحسن بن هارون بمراعاة الوقت الذي ينفذ فيه الخادم. فلمّا نفذ من واسط عرّفه الحسن ذاك فوجّه بثقاته وأمرهم أن يرصدوا الخادم فى الطريق، فإذا عاد من بغدا قبضوا عليه وسلّموه إلى صاحب عبد الله بن علىّ بجرجرايا. وتقدّم إلى عبد الله بن علىّ بأن يوجّه بمن ينتظره بجرجرايا وأنفذت الكتب التي معه إلى ابن أبى الساج فوجدها بخطّ كاتب نصر جوابات عن كتب محمّد بن خلف إليه تدلّ على إشارات ورموز وتراجم وفيها كلّ مكروه وسعى على دم [1] ابن أبى الساج وحاله وإطماع فى ماله وحاله [284] وتحذير من تأخّر القبض على علىّ بن عيسى. فبادر ابن أبى الساج فى إنفاذ الحسن بن هارون إلى الحضرة بكتب ورسائل إلى علىّ بن عيسى على رسمه ووجّه بتلك الكتب بعينها وقال له: - «تقول للوزير عنّى: قد سعى هذا الرجل على دمى ودمك ودماء أصحابك وأريد أن أقبض عليه وأكثر ذنوبه عندي سعيه عليك.» فلمّا وقف علىّ بن عيسى على جميع كتبه ورسائله تعجّب وقال له:   [1] . فى مط: ذم (بالذال المعجمة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 - «تقول لأخى أبى القاسم: إن كنت تريد أن تفعل ذلك لتريح نفسك من هذا الرجل الخائن المستحلّ فالله يوفّقك ويحسن معونتك. وإن كنت تفعل هذا بسببي فو الله ما أشكر أحدا كما أشكر من يسعى فى صرفى عن الوزارة، فالحبس والنفي أسهل ممّا أقاسيه منها.» وزوّر عبد الله بن علىّ عن الخادم كتبا على أنّها من بغداد إلى محمّد بن خلف بأنّه: قد أحكم أكثر ما تحتاج إليه وأنّه سريع العود إلى واسط. فسكنت نفس محمّد بن خلف إلى ذلك. وصار عبد الله بن علىّ إلى محمّد بن خلف وترضّاه وبذل له أن يحمل إليه من ماله مائة ألف درهم مرفقا ليزول ما فى نفسه عليه. فظنّ محمّد بن خلف أنّ ذلك صحيح ودعا عبد الله بن علىّ وواكله وشاربه. [285] ولم يلبث الحسن بن هارون أن عاد من بغداد فبدأ بدار محمّد بن خلف ووقف بين يديه فقال محمّد بن خلف: - «يا عاضّ [1] ، قد بلغني أنّك شنّعت علىّ عند علىّ بن عيسى وذكرت له أنّى أطلب الوزارة مكانه وأنّك مع ذلك قد ضرّبت علىّ حاشية الأمير وغلمانه. وو الله يا كلب لأضربنّك خمسمائة سوط ولآخذنّ منك ثلاثين ألف دينار قد أبطرتك.» والحسن بن هارون لا يزيد على أن يقول له: - «الله بيني وبين من أغرى مولاي ومن أنا عبده وغرسه.» ومحمّد بن خلف يشتمه إلى أن قال له: - «لقيت الأمير؟» فقال الحسن بن هارون:   [1] . فى مط: يا عاصي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 - «ما لقيته بعد.» فقال له: - «فامض إلى لعنة الله فالقه وعد إلىّ.» فمضى إلى ابن أبى الساج وشرح له جميع ما وقف عليه من سعى محمّد بن خلف عليه وما خاطبه به لمّا لقيه بعد قدومه من بغداد. فقال ابن أبى الساج لخازنه الذي يتسلّم من محمّد بن خلف الأموال المحمولة إليه التي ينفقها فى رجاله وغلمانه ونفقاته: - «قد كنت أحضرتنى منذ مدّة مالا نصفه غلّة ودراهم بهرجة [1] وخراسانيّة، وذكرت أنّ ابن خلف حمله إليك لتنفقه فى الأولياء [286] وغيره، وذكرت أنّ الأمر [2] مسرف فى فضل الصرف وأنّه كثير فعرّفنى الآن الحال فيما يحمله إليك؟» فقال: «الذي يحمله الآن شرّ من كلّ ما تقدّم وقد أخرجت من مائة ألف درهم حملها اليوم ألف وخمسمائة درهم جديد وألفى درهم صحاح لا سيّئة [3] واثنين وأربعين ألف درهم غلّة رديّة.» وعظم عليه الأمر فى فضل الصرف فى ذلك فقال له: - «فإذا حضر محمّد بن خلف العشيّة فادخل إلىّ واحمل المال كهيئته وعرّفنى أنّ جميع غلماني ورجالي قد فسدت نيّاتهم بهذا السبب.» ففعل الخازن ذلك. فقال ابن أبى الساج: - «يا أبا عبد الله أنت تعلم أنّ هذا المال لا يجوز لأحد أن يقبض مثله وإذا فوّت رجالي شهرا وأعطيتهم مالا جيّدا أو مقاربا للجودة كان أصلح من   [1] . فى مط: نهردية. [2] . فى مط: الأمير. [3] . فى مط: لا شبه (بإهمال ما قبل الأخير) ، وفى الأصل غموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 هذا.» فغضب محمّد بن خلف وقال له: - «ما جرّأ هذا الكلب على خطابي بحضرتك فى هذا الباب إلّا لأنّه قد وقف على فساد رأيك فىّ، وإنّما أفسدك علىّ من قدّر أن يتولّى كتابتك وهو هذا العلج الحسن بن هارون وأهون به وبهذا الخازن وبجميع غلمانك ورجالك علىّ، وأنا عقدت لك هذه الحال وهذا الأمر [287] والآن فو الله لا نظرت فى شيء من أمرك، فاعمل ما شئت.» ونفض يده فى وجهه وخرج من مجلسه. فجعل ابن أبى الساج يحلف له أن يعود فلا يفعل ويحلف إنّه لا يرجع. فلمّا طال ذلك بينهما وبلغ أن يعطف إلى دهليز يغيب به عن عينه قال ابن أبى الساج لغلمانه: - «ضعوا أيديكم فى قفا الكلب اللاحد الخنزير [1] فأسمعونى صوته بالصفع.» فصفع نحو من مائة صفعة وأخذ سيفه ومنطقته. واستدعى ابن أبى الساج عبد الله بن علىّ وأحضر للوقت فوجّه به إلى دار محمّد بن خلف ليحفظها ويقبض على سائر غلمانه وأسبابه وخزائنه، وكان عبد الله بن علىّ مشهورا بالعفاف والثّقة. وتقدّم إلى الحسن بن هارون بأن يتقلّد كتابته مكانه واستحلفه أن يدخل إلى الحجرة التي اعتقل فيها ويقيّده بخمسين رطلا ويلبسه قميص بايباف ففعل به الحسن بن هارون ذلك فقال له: - «يا محمّد بن خلف أخبرنى أغرّك أنّى أقول لك: يا مولاي؟ إنّما كنت أسخر منك، أيّنا كان أبعد غورا وتدبيرا، أنا أم أنت؟»   [1] . كذا فى مط ومد: الخنزير. وفى الأصل: الجنزير. واللاحد: الذي يعمل اللحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 وأخذ الحسن بن هارون خطّه بستمائة ألف دينار بعد أن أهانه وصفعه وضربه بالمقارع، فأدّى نحو خمسين ألف دينار [288] إلى أن رحل ابن أبى الساج من واسط إلى الكوفة لمحاربة الهجري وحمله معه مقيّدا وشغل عنه بالحرب وأسر، فأفلت محمّد بن خلف. ذكر وقعة ابن أبى الساج مع القرمطى وما استعمله من ترك الحزم واستهانته بالعدوّ حتّى أسر وما اتفق عليه بعد الأسر حتّى قتل كتب يوسف بن ديوداذ من واسط إلى الوزير أبى الحسن علىّ بن عيسى يلتمس منه حمل مال إليه ليصرفه فيما يحتاج من إعداد الأنزال [1] والعلوفات بين واسط والكوفة ويحتجّ بأنّ أموال المشرق [2] متأخّره عنه وأنّ الأمر ليس يحتمل مع قرب موافاة الهجري بأن ينتظر ورود مال من الجبل ويقول إنّه لا يقنعه لذلك أقلّ من مائة ألف دينار. فعرض علىّ بن عيسى كتابه على المقتدر، فتقدّم بأن يحمل من بيت المال الخاصّة سبعون ألف دينار وينفذ إليه. وورد الخبر بخروج أبى طاهر من هجر بنفسه يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، فنزل فى الموضع المعروف بالحس وبينه وبين الاحساء مسيرة يومين وأقام به إلى يوم السبت ورحل من غد وكتب [289] السلطان إلى ابن أبى الساج بما ورد من خبره ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة. وكتب علىّ بن عيسى إلى عمّال الكوفة باعداد الميرة والعلوفات ليوسف.   [1] . فى مط: فى اعذار الأتراك. [2] . فى مط: المسرف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 وسار يوسف من واسط يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رمضان نحو الكوفة وعاد سلامة الطولونى منصرفا من عنده وكان حمل إليه المال. ولمّا قرب أبو طاهر الهجري من الكوفة أطلق جميع من كان معه من أسارى الحاجّ وهرب عمّال السلطان من الكوفة فأخذ أبو طاهر جميع ما أعدّ ليوسف من المير والعلوفات وهو مائة كرّ دقيقا وألف كرّ شعيرا وقد كان خفّ ما مع أبى طاهر من الميرة، ولحقه وأصحابه [1] شدّة فقوى ومن معه بما صار إليهم. ووافى يوسف إلى ظاهر الكوفة يوم الجمعة لثمان خلون من شوّال وقد سبقه أبو طاهر إليها بيوم واحد فحال بينها وبينه. وحكى عن أبى طاهر أنّه قال: إنّ عسكره قرب من عسكر يوسف فى الطريق بين واسط والكوفة، وكان يوم ضباب، فلم ير أحدهما صاحبه وانّه أحسّ به [2] ولو شاء لأوقع به. ووجّه يوسف إلى أبى طاهر يدعوه [290] إلى الطاعة، فإن أبى فإنّ الوعد للحرب يوم الأحد. فحكى الرسول: انّه لمّا صار إليه حمل إلى موضع فيه جماعة متشاكلو الزىّ وقيل له: - «تكلّم فإنّ السيّد يسمع.» ولم يعرف من هو منهم. فأدّى الرسالة فأجيب بأنّه غير مستجيب لما دعاه إليه ولا لتأخير المناجرة. فكانت الحرب بينهما يوم السبت لتسع خلون من شوّال سنة خمس عشرة وثلاثمائة على باب الكوفة. فيقال إنّ ابن أبى الساج لمّا عاين عسكر أبى طاهر ووقف على عزّته أزرى عليه واحتقره [3]   [1] . فى مط: وأصابه. [2] . فى مط: وأنّه أحر به، بدل «وأنّه أحسّ به» . [3] . فى مط: وأصغره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وقال: - «من هؤلاء الكلاب؟ هؤلاء بعد ساعة فى يدي.» وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء تهاونا به وزحف كلّ واحد منهما إلى صاحبه. فلمّا سمع الهجري صوت البوقات والدّبادب والزّعقات عن عسكر ابن أبى الساج- وكانت عظيمة جدّا- التفت رجل منهم إلى رفيق له وهو يسايره فقال له: - «ما هذا الزجل؟» فقال له رفيقه: «فشل.» فقال له: «أجل.» ما زاده لفظة. ورسم عسكر أبى طاهر أن لا تكون فيه بوقات ولا دبادب ولا صياح. وعبّأ ابن أبى الساج رجاله وانفرد هو مع غلمانه على عادة له فى الحرب وكان ابتداء الحرب بينهما مذ ضحوة نهار يوم السبت إلى وقت غروب [291] الشمس. وما قصّر ابن أبى الساج فى الثبات وأثخن أصحاب أبى طاهر بالنشّاب وجرح منهم خلقا. فلمّا رأى أبو طاهر ذلك وكان واقفا فى عمّاريّة له مع من يثق به من أصحابه نحو مائتي فارس بالقرب من حيطان الحيز نزل من العمّاريّة فركب فرسا له وحمل بنفسه مع ثقاته وحمل يوسف بنفسه وغلمانه عليه واشتبكت الحرب بينهما فأسر ابن أبى الساج آخر النهار وبه ضربة على جبينه بعد أن اجتهد به غلمانه أن ينصرف فامتنع عليهم وحصل أسيرا فى يد أبى طاهر مع جماعة من غلمانه بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير وانهزم الباقون. ولمّا أسر يوسف وقت المغرب حمل إلى معسكر أبى طاهر وضربت له خيمة وفرش له فيها ووكّل به وأحضر رجل معالج يعرف بابن السبيعي. فقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 ابن السبيعي هذا: لمّا دخلت إليه إلى الخيمة التي حبس فيها وجدته جالسا وعليه درّاعة ديباج فضّى وجرّبانها [1] ولبّتها [2] من ديباج أحمر وقد تلوّنت [3] بالدم الذي سال من الضربة التي فى جبينه، ووجدت الدم قد جمد على وجهه، فالتمست ماء حارّا. فقال لى بعض أصحاب أبى طاهر: - «والله ما ذاك عندنا، ولا عندنا ما يسخن فيه.» وكانوا [292] خلّفوا سوادهم بالقرب من القادسيّة وتجردوا للقتال، فغسلت وجهه بماء بارد وغسلت موضع الضربة وعالجته وسألنى عن اسمى وبأىّ شيء أعرف، فذكرت له ذلك فوجدته يعرف أهلى أيّام كان بالكوفة وهو صبىّ مع أخيه الأفشين وكان يتقلّد الكوفة، فعجبت من ذكره وفهمه وقلّة اكتراثه بما هو فيه. وورد خبر الوقعة وأسر ابن أبى الساج على علىّ بن عيسى، فراح إلى دار السلطان واجتمع مع نصر الحاجب ومونس المظفّر على إنهاء الخبر إلى المقتدر بالله وانتشر الخبر، فدخلت الخاصّة والعامّة لأبى طاهر هيبة عظيمة ورهبة شديدة، وعملت الجماعة على الهرب إلى واسط ثمّ إلى الأهواز، وابتدأ المنهزمون بالدخول إلى بغداد، وأخرج مونس المظفّر مضربه إلى ميدان الأشنان وخرج على أن يمضى إلى الكوفة. وورد كتاب العامل بقصر ابن هبيرة على علىّ بن عيسى بأنّ أبا طاهر وأصحابه رحلوا عن الكوفة يوم الثلاثاء لاثنى عشرة خلت من شوّال قاصدين عين التمر، وورد كتابه بعد ذلك بنزولهم عين التمر، فبادر علىّ بن عيسى باستئجار خمسمائة سميريّة وجعل فيها ألف رجل ومعها عدّة [293]   [1] . جرّبانها: والجرّبان: طوق القميص. فارسيّة أصلها: گريبان. واللّبّة: موضع القلادة من الصدر. [2] . فى مط: وجريانها ولبنها. [3] . فى مط: تلوّثت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 من شذاءات وطيّارات وحوّلها من دجلة إلى الفرات وفيها جماعة من الغلمان الحجريّة لمنع الهجري من عبور الفرات، وتقدّم إلى جماعة من القوّاد بالمسير على الظهر من بغداد إلى الأنبار لضبطها. فلمّا كان يوم الجمعة رأى أهل الأنبار ومن بها من القوّاد خيل أبى طاهر مقبلة من الجانب الغربي فبادروا إلى قطع جسر الأنبار وأقام أبو طاهر إلى أن أمكنه العبور بالسفن فعبر يوم الثلاثاء نحو مائة رجل ولا يعلم بهم أصحاب السلطان إلى ان حصلوا بالأنبار ونشبت الحرب بينهم وبين جماعة من القوّاد. فلمّا خلا البلد من أصحاب السلطان عقد أبو طاهر جسر الأنبار وعبر وخلّف سواده فى الجانب الغربي وفيه ابن أبى الساج، ولمّا علم من فى الشذاءات من أصحاب السلطان أنّ أبا طاهر قد عقد الجسر ساروا إليه بالليل فضربوه بالنار فبقى أبو طاهر فى جماعة من أصحابه فى الجانب الشرقي من الفرات وسواده فى الجانب الغربي منه وحالت الشذاءات والطيّارات بينهم. ولمّا ورد الخبر بعبور أبى طاهر إلى الأنبار وقتله من بها من القوّاد خرج نصر الحاجب ومعه [294] الحجريّة والرجّالة المصافيّة وجميع من كان بقي ببغداد من القوّاد وبين يديه علم الخلافة وهو شبيه باللواء أسود وعليه كتابة بياض: - «محمّد رسول الله.» وكان مونس قد صار بباب الأنبار واجتمع مع نصر وكان عدد من معهما من الفرسان والرجّالة وغيرهم يزيد على أربعين ألف رجل، وخرج أبو الهيجاء ومن إخوته أبو الوليد وأبو العلاء وأبو السرايا فى أصحابه وأعرابه وسار نصر وسبق مونسا على قنطرة النهر المعروف بزبارا بناحية عقرقوب [1]   [1] . كذا فى الأصل ومد: عقرقوب. فى مط: عقرقوق (بإهمال الأخير) وفى المراصد: عقرقوف، وهي قرية من نواحي نهر عيسى، بينها وبين بغداد أربعة فراسخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 على نحو فرسخين من بغداد ولحق به مونس واجتمعا على النهر وأشار أبو الهيجاء على نصر الحاجب بقطع قنطرة نهر زبارا وألحّ عليه فى ذلك. فلمّا رآه يتثاقل عن قبول رأيه قال له: - «أيّها الأستاذ اقطعها واقطع لحيتي معها.» فقطعها حينئذ. وسار أبو طاهر ومن حصل معه من أصحابه من الجانب الشرقي من الفرات قاصدين نهر زبارا. فلمّا صار على فرسخ واحد من عسكر السلطان آخر يوم الاثنين لعشر خلون من ذى القعدة بات بموضعه ليلته وباكر المسير إلى قنطرة نهر زبارا. وتقدّم من رجّالته راجل أسود يقال له: صبح، [1] فكان أمام عسكره فما زال نشّاب أصحاب السلطان تأخذه وهو يتقدّم ولا يهوله وقد صار بالنشّاب كالقنفذ، فلمّا صعد القنطرة ورآها مقطوعة رجع، وما زال أصحاب أبى طاهر يمتحنون غور [2] الماء فى النهر، فلمّا علموا انّه ليس يخيض انصرفوا راجعين القهقرى من غير أن يولّوا ظهورهم وصاروا إلى الحسينية فوجدوا الماء قد أحاط به لأنّ نصرا ومونسا وجّها قبل ذلك بمن بثق هناك بثوقا كبارا فصار الماء المخر محيطا بعسكر أبى طاهر. فأقام هناك يوم الثلاثاء وسار هو وأصحابه إلى الأنبار ولم يجسر أحد من أصحاب السلطان أن يتبعه أو يصلح قنطرة زبارا أو يعبرها. وكان ما أشار به أبو الهيجاء من قطع هذه القنطرة توفيقا من الله فانّها لو كانت صحيحة لعبر أصحاب القرمطى عليها وما هالهم وفور عسكر السلطان ولا نهزم أصحاب السلطان وملك القرمطى بغداد. وذاك انّ أكثر أصحاب   [1] . فى مط: صيح. [2] . فى مط: غرر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 السلطان كرّوا إلى بغداد منهزمين لمّا بلغهم وصول أبى طاهر إلى النهر من غير أن يروهم أو يقع عين عليهم لعظيم ما تداخل القلوب من الرعب بعد الحادث بابن أبى الساج. [296] ولم يحدّث أحد نفسه بعد ذلك أن يجوز له أن يثبت فى وجهه. وكان مع أبى طاهر جماعة من الأولاد فعدلوا به عن المخر وسار نحو الأنبار ولمّا ولّى أبو طاهر وأصحابه عن موضع العسكر بزبارا ارتفع التكبير والتهليل من أصحاب السلطان ليذيع الخبر به وبادر أصحاب الأخبار إلى علىّ بن عيسى بالسلامة وبانصراف أبى طاهر ورجوعه إلى الأنبار وبأنّه لا طريق له ولا مخاضة ولا حيلة فى الوصول إلى معسكر عسكره ولا إلى نواحي بغداد. وطمع مونس فى الظفر بسواده وباقى رجاله الذين خلّفهم فى الجانب الغربي من الأنبار وفى تخليص ابن أبى الساج فأنفذ يلبق حاجبه وجماعة من القوّاد ومن غلمان ابن أبى الساج فى ستّة آلاف رجل وظنّوا أنّه لا يتم لأبى طاهر العبور إلى خيله وسواده. وبلغ أبا طاهر ذلك فاحتال حتّى انفرد عن رجاله ومشى مشيا طويلا حتّى خرج عن الأنبار إلى الصحراء التي تتّصل بالفرات، ثمّ عبر فى زورق صيّاد يقال: إنّه دفع إليه ألف دينار حتّى عبر به إلى سواده. فلمّا حصل فى سواده واجتمع مع أصحابه حارب يلبق ومن معه [297] فلم يثبت له يلبق وانهزم ومن معه وقتل جماعة من أصحابه. وبصر أبو طاهر فى الوقت بابن أبى الساج وقد خرج من خيمته التي كان معتقلا فيها متطلّعا إلى الطريق لينظر ما يكون من حال الوقعة فوقع له انّه أراد أن يهرب فدعا به إلى حضرته وقال: - «أردت الهرب؟» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 ويقال: إنّ غلمانه كانوا نادوه فقال له القرمطى: - «طمعت أن يخلّصك غلمانك؟» فأمر به فضربت عنقه بحضرته وضرب أعناق جماعة كانوا فى الأسر. واحتال بعد ذلك أبو طاهر حتّى عبر جميع أصحابه الذين كانوا معه فى الجانب الشرقي من الفرات بالأنبار فحصلوا معه فى الجانب الغربي الذي يلي البرّيّة وعاد يلبق منهزما مفلولا إلى مونس المظفّر. وحكى أبو القاسم ابن زنجى أنّه كان عدّة أصحاب أبى طاهر ألف وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل وأنّه عرف ذلك من رجل أنبارىّ كان يقيم له ولرجاله الخبر. وقد قيل: إنّهم كانوا ألفى وسبعمائة. قال: وسمعت بعض مستأمنة أبى طاهر وقد سئل عن السبب فى سرعة هزيمة أصحاب السلطان وثباتهم هم [298] فقال: - «السبب فى ذلك انّ أصحاب السلطان يقدّرون أنّ السلامة فى الهرب فيقدّمونه ونحن نقدّر أنّ السلامة فى الصبر فنثبت ولا نبرح.» ورتب علىّ بن عيسى بين بغداد ونهر زبارا [1] المرتبين وسلم إليهم مائة طير إلى مائة رجل منهم يكتبون على أجنحتهم كتبا بخبر العدوّ فى كلّ ساعة. وكان السبب فى سلامة بغداد وأهلها يوم قصد القرمطى زبارا مع كثرة العيارين والمتشبّهه بالجند وتشوّقهم إلى النهب أنّ علىّ بن عيسى تقدّم إلى نازوك بمواصلة الركوب والتطواف فى جميع جيشه كلّ يوم غدوة وعشيّة فى الجانبين ففعل ذلك. ثمّ تقدّم إليه فى يوم موافاة أبى طاهر إلى نهر زبارا أن   [1] . زبارا: يقال: إنها من نواحي الكوفة (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 يبكّر إلى باب حرب بجميع جيشه ويقيم فيه إلى وقت العتمة وأن يواصل النداء فى الجانبين بأنّه: - «من ظهر من العيّارين والمتشبّهه بالجند ومن وجد معه حديد ضرب عنقه.» فانجحر العيارون وأغلق أهل باب المحوّل ونهر طابق والقلائين وغيرهم دكاكينهم وتحرّز الناس فنقلوا أمتعتهم إلى منازلهم. وأمّا وجوه الناس فأكثروا والزواريق وجعلوها فى [299] الشوارع فى دجلة ونقلوا إليها أمتعتهم ومنهم من حدرها إلى واسط. ونقل قوم من المهجّرين أمتعتهم إلى حلوان لتحمل إلى خراسان مع الحاجّ ولم يكن عند أحد من الخواصّ والعوامّ شكّ فى أنّ القرمطى يملك بغداد. وأقام نازوك فى ذلك اليوم كما رسم له علىّ بن عيسى، على ظهر دابّته من أوّل النهار إلى أن مضى صدر من الليل لا ينزل [1] هو ولا أحد من أصحابه عن دوابّهم إلّا للصلاة وضربت له ولهم الخيم فنزلوها بالليل وكان ذلك سببا لسلامة البلد. وقصد القرمطى إلى هيت وبادر هارون بن غريب وسعيد بن حمدان إلى هيت لدفعه عنها فسبقا القرمطى إلى هيت وصعدا إلى سورها وقويت بهما قلوب أهل هيت. فلمّا وصل القرمطى إليها قاتلوه بالمنجنيقات فقتل من القرامطة جماعة وانصرف أبو طاهر عنها. وورد الخبر بذلك إلى بغداد فسكنت النفوس واطمأنّت القلوب وتصدّق المقتدر والسيّدة لمّا بلغهما خبر انصرافه بمائة ألف درهم. وكان مونس ونصر أحضرا جرائد جميع الرجال الذين اجتمعوا على نهر   [1] . فى مط: لا يترك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 زبارا ممّا يلي بغداد سوى [300] الأعراب فوجدوهم إثنين وأربعين ألف رجل سوى غلمانهم وأسبابهم فانّهم كانوا أضعاف هذه العدّة. وكان علىّ بن عيسى لمّا بلغه أسر ابن أبى الساج بادر فى الوقت إلى المقتدر وقال له: - «إنّما جمع الخلفاء المتقدّمون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين ولم يلحق المسلمين منذ قبض النبي- صلّى الله عليه وسلّم- شيء أعظم من هذا الأمر، لأنّ هذا الرجل كافر وقد أوقع بالحاجّ فى سنة اثنتي وثلاثمائة ما لم يعهد مثله وقد تمكّنت له هيبة فى قلوب الأولياء والخاصّ والعامّ. - «وانّما جمع المعتضد والمكتفي فى بيت مال الخاصّة ما جمعوا لمثل هذه الحوادث والآن فلم يبق فى بيت مال الخاصّة كبير شيء، فاتّق الله يا أمير المؤمنين.» - «وتخاطب السيّدة فانّها ديّنة فاضلة فإن كان عندها مال قد ذخرته لشدّة تلحقها أو تلحق الدولة فهذا وقت إخراجه، وإن تكن الأخرى فاخرج أنت وأصحابك إلى أقاصى خراسان فقد صدّقتك ونصحتك.» فدخل إلى والدته ثمّ عاد فأخبر أنّ السيّدة استرأته وأمرت بإخراج خمسمائة ألف دينار من مالها إلى بيت [301] مال العامّة لينفق فى الرجال. وسأل علىّ بن عيسى عن مقدار ما بقي فى بيت مال الخاصّة من المال فعرّفه علىّ بن عيسى أنّ فيه خمسمائة ألف دينار. وتجرّد علىّ بن عيسى لحفظ الأموال وتقدّم ألّا يضيّع منها درهم واحد فى قضاء الذّمامات، وجمع أموال النواحي وأنفذ المستحثين إلى العمّال فاجتمعت له جملة أخرى. وتنصّح إلى علىّ بن عيسى رجل من التجّار بأنّه وقف على خبر رجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 شيرازى يتخبر للقرمطى ويكاتبه. فأنفذ معه جماعة فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وناظره علىّ بن عيسى بحضرة القاضي أبى عمر والقوّاد وقال: - «أنا صاحب أبى طاهر وما صحبته إلّا على انّه على حقّ وأنت وصاحبك ومن يتبعكم كفّار مبطلون ولا بدّ لله فى أرضه من حجّة وإمام عدل وإمامنا المهدىّ فلان بن فلان بن إسماعيل بن جعفر الصادق وليس نحن مثل الرافضة الحمقى الذين يدعون إلى غائب منتظر.» فقال له علىّ بن عيسى: - «اصدقنى عمّن يكاتب القرمطى من أهل بغداد والكوفة.» قال: «ولم أصدقك عن قوم مؤمنين حتّى أسلّمهم إلى قوم كافرين فيقتلونهم؟ [302] لا أفعل ذلك أبدا.» فأمر بصفعه بحضرته وضربه بالمقارع وقيّده وغلّه بغلّ ثقيل [1] وجعل فى فمه سلسلة وسلّمه إلى نازوك وحبسه فى المطبق فمات بعد ثمانية أيّام لأنّه امتنع من أن يأكل ويشرب حتّى مات وشغب الجند. ودخلت سنة ستّ عشرة وثلاثمائة ودخل مونس المظفّر بغداد من الأنبار ودخل بعد نصر وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من المحرّم وكان الجند قد شغبوا بالأنبار لطلب الزيادة فى أرزاقهم فأقاموا ببغداد على مطالبتهم، فزيد كلّ واحد منهم دينارا وأنفق فيهم على الزيادة. وورد الخبر بدخول أبى طاهر القرمطى الدالية من طريق الفرات فلم يجد فيها شيئا وقتل من أهلها جماعة ثمّ سار إلى الرحبة فدخلها بعد أن حارب   [1] . ما فى الأصل غير واضح. فى مد: ثقيف. وفى مد: ثقيل، كما أثبتناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 أهلها ووضع السيف فيهم بعد أن ملكهم وندب مونس المظفّر للخروج إليهم بالرقّة، وكان أهل قرقيسيا وجّهوا إلى القرمطى يطلبون الأمان منهم ووعدهم بجميل. ثمّ أنفذ إليهم من نادى بقرقيسيا ألّا يظهر بها أحد بالنهار فلم يجسر أحد بها أن يظهر [303] فعبرت سريّة له إلى الأعراب على جسر عقده بالرحبة فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ جمالهم وأغنامهم فرهبه الأعراب رهبة شديدة، وصاروا لا يسمعون بذكره إلّا تطايروا، وجعل عليهم أتاوة إلى هذه الأيام وهي من كلّ بيت دينار فى السنة. ثمّ أصعد من الرحبة إلى الرقّة. وسار مونس المظفّر إلى الموصل ومنها إلى الرقّة فانصرف أبو طاهر عن الرقّة على طريق الفرات ووصل إلى الرحبة فحمل ما معه من الزاد وغيره فى زواريق وانحدر فى الماء وعلى الظهر ليعاود هيتا. وكان أهلها قد نصبوا على سورها عرّادات ومنجنيقات، فحاربوه وقتلوا من أصحابه، فانصرف عنها إلى ناحية الكوفة، وورد [1] الخبر بذلك فأخرج بنىّ بن نفيس وهارون بن غريب على مقدّمة نصر. وجاءت خيل القرمطى ومعها ابن سنبر إلى قصر ابن هبيرة وعبروا الفرات بمخاضة فقتلوا جماعة من أهل القصر. فخرج نصر الحاجب ومعه القوّاد والرجّالة المصافيّة يريدون مواقعة أبى طاهر وحمّ نصر حمّى حادّة فلم يمنعه ذلك من المسير إلى سورا. ووافى [304] أبو طاهر إلى شاطئ سورا وقت المغرب، فلم يكن فى نصر نهوض للركوب لشدّة علّته، فاستخلف أحمد بن كيغلغ وأنفذ معه الجيش فانصرف القرمطى قبل أن يلقاه أحمد بن كيغلغ. واشتدّت علّة نصر وجفّ لسانه من شدّة الحمّى فردّ إلى بغداد فى عمارية   [1] . كذا فى الأصل ومط: وورد الخبر. وفى مد: وزاد الخبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 ومات فى الطريق. فخرج شفيع المقتدري برسالة المقتدر إلى الجيش الذي كان مع نصر بأنّه قد جعل الرئيس عليهم مكان نصر هارون ابن غريب فدخل هارون بن غريب مع الجيش بغداد. ذكر الحال التي أدّت إلى صرف علىّ بن عيسى وتقليد أبى علىّ ابن مقلة لمّا رأى علىّ بن عيسى اختلال النواحي فى أيّام وزارة الخاقاني والخصيبى ونقصان الارتفاع وزيادة النفقات وما لحق من زيادة الرجّالة بعد انصرافهم من الأنبار من حرب القرمطى وأنّ زيادتهم بلغت مائتي وأربعين ألف دينار فى السنة مضافة إلى النفقات المفرطة هاله ذلك واستعظمه ووجد رجال السلطان قد ضعفوا عن القرمطى وتبيّن انحراف نصر الحاجب عنه، وذلك لميل مونس إليه، استعفى [305] المقتدر من الوزارة فأمره بالصبر وقال له: - «أنت عندي بمنزلة المعتضد بالله ولى عليك حقوق.» فواصل الاستعفاء فشاور المقتدر مونسا المظفّر وأعلمه أنّه قد سمّى له ثلاثة: الفضل بن جعفر ابن حنزابة فلم يشر به لأجل من قتل [1] من آل الفرات، وأبو علىّ ابن مقلة فلم يشر به لحداثته وقال: - «لا يصلح للوزارة إلّا شيخ له ذكر وفيه فضل.» ، ومحمّد بن خلف النيرمانى فلم يشر به، وعرّفه أنّه جاهل لا يحسن [2] أن يتهجّى اسمه وأنّه متهوّر، وأشار بمداراة علىّ بن عيسى.   [1] . قتل: الشكل من الأصل. [2] . فى مط: لا يحس أن ينهى اسمه، بدل «لا يحسن أن يتهجّى اسمه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 ثمّ لقى مونس علىّ بن عيسى ورفق به وداراه فقال له علىّ بن عيسى: - «لو كنت مقيما بالحضرة لاستعنت بك وعملت ولكنّك خارج إلى الرقّة.» وبلغ أبا علىّ ابن مقلة ذلك فجدّ فى السعى، وشاور المقتدر نصر الحاجب فى أمر الثلاثة فقال: - «أمّا الفضل بن جعفر فلا يدفع عن صناعة ومحلّ ولكنّك بالأمس قتلت عمّه وبنو الفرات يدينون بالرفض، وأمّا ابن مقلة فلا هيبة له.» وأشار بمحمّد بن خلف لما كان بينهما ممّا ذكرناه فيما تقدّم. فنفر المقتدر منه لما عرفه من جهله وتهوّره، وواصل ابن مقلة [306] مداراة نصر الحاجب فأشار على المقتدر به وقال: - «يقلّد، فإن قام بالأمر كما يجب وإلّا فالصرف العاجل بين يديه.» واضطرّ المقتدر إلى أن استوزر أبا علىّ بن مقلة. وكان ما مال به المقتدر إلى أبى علىّ أنّ أبا طاهر القرمطى لمّا قرب من الأنبار تشوّف إلى علم خبره ولم يكن يكاتب بشيء من خبره غير الحسن بن إسماعيل الإسكافى عامل الأنبار. فلمّا عرف أبو علىّ ابن مقلة الصورة طلب أطيارا وأنفذها إلى الأنبار وكوتب عليها أخبار القرمطى وقتا بعد وقت فكان ينفذها إلى نصر لوقته ويعرضها نصر على المقتدر ووجد بذلك نصر السبيل إلى تقريظ [1] ابن مقلة وقال للمقتدر: - «إن كان هذه مراعاته لأمورك ولا تعلّق له بخدمتك فكيف يكون إذا اصطنعته؟»   [1] . فى مط: تفريط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 ذكر القبض على علىّ بن عيسى وتقليد ابن مقلة فلمّا كان يوم الثلاثاء للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة ستّ عشرة وثلاثمائة أنفذ هارون ابن غريب للقبض على علىّ بن عيسى فصار هارون إلى دار علىّ بن عيسى ومعه أبو جعفر بن شيرزاد وكان أبو جعفر متعطّلا فى الوقت فوجّه بأبى جعفر إليه لأنّه [307] استحيا منه وعرّفه ما أمر فيه. فلمّا أدّى إليه الرسالة قال له: - «أنا جالس متوقّع له.» وكان قد لبس علىّ بن عيسى خفّا وعمامة وطيلسانا وفى كمّه مصحف ومقراض وسأل هارون أن يصون حرمه وولده ففعل، وحمله مع أخيه أبى علىّ عبد الرحمن إلى دار السلطان فسلّم علىّ بن عيسى إلى زيدان القهرمانة واعتقل عبد الرحمن عند نصر فكانت وزارته هذه سنة واحدة وأربعة أشهر ويومين. فلمّا كان فى آخر نهار يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر أحدر أبو علىّ ابن مقلة الحاجب فى دار السلطان ولم يصل إلى المقتدر وأقام عند نصر الحاجب فى دار السلطان. وجدّ محمّد بن خلف فى طلب الوزارة وضمن ثلاثمائة ألف دينار [1] معجّلة غير أموال النواحي. فقلق أبو علىّ ابن مقلة لذلك وحضر من غد دار السلطان ولم يصل أيضا. واجتمعت الألسن على المقتدر بإمضاء أمره وبالذمّ لمحمّد بن خلف، فأمضاه وحضر يوم الخمسين للنصف من الشهر ووصل وخلع عليه وحمل   [1] . كذا فى الأصل ومط: ثلاثمائة ألف دينار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 إليه من دار السلطان طعام على رسم الوزراء إذا تقلّدوا. وكان أبو الحسن [308] علىّ بن عيسى قبل صرفه عن الوزارة بعشرين يوما كتب إلى أبى عبد الله البريدي يأمره باستخراج ما كتب به ابن ما بنداذ [1] أنّه قد اجتمع فى بيت مال الأهواز من مال الأهواز وهو ألف ألف وخمسون ألف درهم وانضاف إلى ذلك ما حمله القاسم بن دينار من مال فارس وكرمان على الظهر وهو سبعمائة ألف درهم سوى ما حمله أبو على ابن رستم من مال إصبهان وهو أربعمائة وخمسون ألف درهم فيصير الجميع ألفى ألف ومائتي ألف درهم. وكان فى أبى عبد الله البريدي حركة ورجلة يحتاج إليهما فى ذلك الوقت. فكتب إلى ابن مابنداذ يطالبه بالمال فكتب بأنّ المال حاصل. وكان ابن مابنداذ بتستر، فوجّه إليه يستعجله ولم ينتظره واستحضر كاتبه فحمل فى الشذاءات ألفى ألف ومائتي ألف درهم، وكتب أنّه إن عادت الشذاءات حمل فيها باقى المال، فصرف علىّ بن عيسى قبل موافاة بقية المال. وقد كنّا ذكرنا انحراف نصر الحاجب عن علىّ بن عيسى لميل مونس المظفّر إليه، فلمّا نكب علىّ بن عيسى ادّعى نصر الحاجب أنّه وجد رجلا يعرف بالجوهرى أقرّ أنّه صاحب القرمطى [309] وأنّه جعل سفيرا بينه وبين علىّ بن عيسى. وحكى عنه أنّ علىّ بن عيسى كان يكاتب القرمطى على يده وجمع بينه وبين علىّ بن عيسى حتّى واجهه بذلك فقال له علىّ بن عيسى: - «بهتني وما خلق الله لما يقوله أصلا.» وعاون أبو علىّ ابن مقلة نصرا الحاجب فى هذه القصّة إلى أن كاد يتمّ   [1] . فى مط: مابيداذ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 المكروه على علىّ بن عيسى وهمّ المقتدر أن يضربه بالسوط على باب العامّة بحضرة الفقهاء والقضاة وأصحاب الدواوين، فاحتالت السيّدة واستكشفت الحال فيما ادّعى عليه فوقفت على بطلانه وقررت ذلك فى نفس ابنها وأزالت ما كان أمره به فيه. وأخذ أبو علىّ ابن مقلة خطوط العمّال والضمناء بنحو مائة ألف دينار وبلغ أبا عبد الله البريدي وهو بالأهواز تقلّد أبى على ابن مقلة الوزارة وكان بينهما مودّة فأنفذ إليه من وقته سفاتج بثلاثمائة ألف دينار من حمله الباقي بالأهواز بعد ما كان حمله. وكان القاسم بن دينار وأحمد بن محمّد بن رستم قد حملا إلى علىّ بن عيسى سفاتج بستمائة ألف درهم، فوصلت بعد صرفه [1] فقبضها ابن مقلة فمشى أمر أبى علىّ ابن مقلة بهذه الاتفاقات. وكتب [310] أبو علىّ ابن مقلة كتابا برفع كلّ الجبايات [2] والمصادرات وسكّن من الناس لينبسطوا فى أعمالهم. وفى هذه السنة وقعت حرب بين نازوك وهارون بن غريب خال ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ سوّاس هارون بن غريب وسوّاس نازوك تغايروا على غلام أمرد ووقع الشّر بينهم وأخذ نازوك سوّاس هارون بن غريب وأودعهم حبس الجرائم بعد أن ضربهم، فصار أصحاب هارون بن غريب إلى مجلس الشرطة ووثبوا على أبى الجود خليفة نازوك وانتزعوا أصحابهم من   [1] . فى مط: صرفها. [2] . الجبايات. كذا فى الأصل. وفى مط: الجبات. وفى مد: الجنايات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 يده. وركب نازوك إلى المقتدر وشكا إليه هذه الحال فلم يكن من المقتدر إنكار رضيه [1] نازوك فانصرف محفظا وجميع رجاله وجمع هارون ابن غريب رجاله وباتا جميعا مستعدين. فلمّا أصبحوا زحف أصحاب نازوك إلى دار هارون بن غريب وأغلق هارون بابه دونهم وخارج الباب جماعة من غلمان هارون وأصحابه فقتل منهم قوم وفتح باب هارون حينئذ وخرج أصحابه واستحكمت الحرب بينهم واشتدّت. فوجّه نازوك إلى أصحابه بمن صرفهم، ثمّ ركب [311] الوزير أبو علىّ ومعه مفلح الأسود لتوسط القصّة، فبدأ بابن الخال وأدّى إليه رسالة المقتدر بالكفّ. ثمّ صار الى نازوك فأدّى إليه مثل ذلك فسكنت القصّة. واستوحش نازوك وأقام فى داره وفيها غلمانه وأصحابه ورجاله وظهر فى ساقه توتة [2] وقلعها وجعلها سببا فى ترك الركوب وبعد ثلاثة أيّام صار إليه هارون بن غريب بدرّاعة فاصطلحا وأقام نازوك فى داره وصار هارون بن غريب إلى البستان النجمى فأقام فيه ليبعد عن نازوك وكثر الناس عليه وأرجفوا له بإمرة الأمراء فاشتدّ ذلك على أسباب مونس المظفّر وكتبوا به إليه وهو بالرقّة فأسرع الشخوص منها على طريق الموصل إلى بغداد ووصل إليها ولم ينحدر إلى المقتدر ولا لقيه وصاعد إليه الأمير أبو العبّاس والوزير أبو علىّ فسلّما عليه وانحدر نازوك. ظهور الوحشة بين مونس والمقتدر وأقام هارون بن غريب فى دار السلطان منابذا لمونس المظفّر ودخل أبو   [1] . رضيه: فى الأصل غموض، وما أثبتناه يوافق مط ومد. [2] . فى مط: قومه، بدل «توتة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 الهيجاء عبد الله بن حمدان من الجبل وصار إلى مونس المظفّر وما زالت المراسلات تتردد بين مونس والمقتدر. [312] ودخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة ذكر فتنة نازوك وأبى الهيجاء التي أدّت إلى خلع المقتدر وذكر قتلهما ورجوع المقتدر بالله إلى الخلافة لمّا كان يوم السبت لثمان خلون من المحرّم خرج مونس المظفّر إلى الشمّاسيّة وخرج الجيش معه وركب نازوك من داره فى غلمانه وأصحابه فى السلاح. فلمّا وصل إلى الجسر وجده مقطوعا فأقام بمكانه إلى أن أصلح وعبر هو وأصحابه عليه وصاروا إلى مونس وخرج أبو الهيجاء ابن حمدان إليه وسائر القوّاد، ثمّ انتقلوا من باب الشمّاسيّة إلى المصلّى وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والحجريّة والرجّالة المصافيّة. فلمّا كان آخر النهار انفضّ أكثر من كان فى دار السلطان وصاروا إلى مونس وصرف مونس نحرير الصغير عن الدينور وردّها إلى أبى الهيجاء مضافة إلى أعماله. وراسل مونس المقتدر بأنّ الجيش عاتب منكر للسرف فيما يصير إلى الخدم والحرم من الأموال والضياع ولدخولهم فى الرأى والتدبير ويطالبون بإخراجهم من الدار [313] وإبعادهم وأخذ ما فى أيديهم. فكتب المقتدر إلى مونس رقعة نسختها: - «بسم الله الرحمن الرحيم، أمتعنى الله بك ولا أخلانى منك ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 أرانى سوء فيك. تأمّلت الحال التي خرج أولياؤنا [1] وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسّكوا بها وأقاموا عليها، فوجدتهم لم يريدوا [2] إلّا صيانة نفسي وولدي وإعزاز أمرى وملكي واجتلاب الخير والمنفعة من كلّ جهة وتطلبها بكلّ سبيل، بارك الله عليهم وأحسن إليهم وأعاننى على صالح ما أنويه فيهم. - «وأمّا أنت يا أبا الحسن المظفّر- لا خلوت منك- فشيخى وكبيرى ومن لا أزول ولا أحول عن الميل إليه والتوفّر عليه والتحقق به والإيجاب له اعترض ما بيننا هذا الحادث أم لم يعترض. وانتقض الأمر الذي يجمعنا أم لم ينتقض، وأرجو ألّا تشكّ فى ذلك إذا صدقت نفسك وحاسبتها وأزلت الظنون السيّئة عنها أدام الله حراستها والقوّة بالله والذي خاض لأصحابنا فيه من أمر الخدم والحرم الذين يخرجون من الدار ويباعدون عنها وتسقط رسومهم فى الخدمة ويمنعون منها ويبرّءون من نعمهم ويحال بينهم وبينها إلى أن يفرجوا عمّا فى أيديهم من المال [314] والضياع ويردّوها إلى حقوقها قول إذا تبيّنوه حقّ تبيّنه وتصفّحوه كنه تصفّحه علموا أنّه قول جاف والبغي علىّ فيه غير مستتر ولا خاف. - «ولإيثارى موافقتهم واتّباعى مسرّتهم ما أجبتهم إلى المتيسّر فى أمر هذه الطبقة خاصّة، فأتقدم بقبض بعض   [1] . أولياؤنا: كذا فى الأصل. وفى مط: آباؤنا. [2] . لم يريدوا: كذا فى الأصل. وفى مط: لم يدبّروا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 إقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم وبسط إيغاراتهم وإخراج من يجوز إخراجه من دارى ولا أطلق للباقين الدخول فى تدبيري ورأيى وأوعز بمكاتبة العمّال فى استيفاء [1] حقّ بيت المال فى ضياعهم الصحيحة الملك دون ما يقال إنّه قد لابسه [2] الريب والشكّ. - «وأنظر بنفسي فى أمر الخاصّة والعامّة وأبلغ فى إنصافها والإحسان إليها الغاية، ولا أعتمد فى ذلك على وزير ولا سفير البتّة وانتصب لإثارة الأموال وجمعها ووضعها فى مواضعها وأحميها من كلّ ما يثلمها وينتقصها وأشمّر فى ذلك وأبلغ فى مناهضة الأعداء قربا وبعدا وهذا إنّما قعدت عنه اعتمادا عليكم وتفويضا إليكم وثقة بأنّكم شركائى وسهمائى والمخصوصون بخير أيّامى شرّها وحلوها ومرّها ولو علمت انّه يجعل ذلك ذنبا لى وجرما يتجنّى به علىّ لكنت أوّل شاخص إلى كلّ [315] تعب وأوّل مبادر نحوه من غير إبطاء عنه ولا ريث. - «فأمّا أنتم فمعظم نعمكم منّى وما كنت لأغور عليكم فى شيء سمحت به لكم ورأيته فى وقته وأراه الآن زهيدا فى جنب استحقاقكم وأنا بتثميره أولى وبتوفيره أحرى والله المطّلع على جميل معتقدي للجماعة فيها والشاهد على محبّتى لإيصالها إلى أقصى أمانيها. - «ونازوك، فلست أدرى من أىّ شيء عتب ولا لأيّة حال   [1] . استيفاء: كذا فى الأصل. وفى مط: استيفاد. [2] . لابسه: كذا فى الأصل. وفى مط. لا يشتبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 استوحش واضطرب لأنّى لم ألمه على محاربة هارون بن غريب الخال ولم أمنعه من الإنتصار منه والأخذ بثأره عنده ولا أمرت بمعاونة هارون عليه ولا قبضت يده عمّا كانت طويلة إليه منبسطة فيه متمكّنة منه ولا غيّرت له حالا ولا حزت له مالا ولا سمع منّى ولا بلغه عنّى ما يسوء موقعه وينفر منه والله يغفر لنا وله. - «وعبد الله بن حمدان فالذي أحفظه صرفه عن الدينور وقد كان يتهيّأ إعادته إليها إن كان راغبا فيها فيسعف بمسألته وأن يستدعى تعويضه من الأعمال ما هو أعظم خطرا من الدينور فلا نقصر عن إرادته وما عندي له ولنازوك وللعصاة كلّها إلّا التجاوز والإبقاء والإغضاء وقبل هذا وبعده، فلي فى أعناقكم بيعة قد [316] وكّدتموها على أنفسكم دفعة بعد دفعة، ومن بايعنى فإنّما بايع الله ومن نكث إنّما نكث عهد الله. - «ولى أيضا عليكم نعم وأياد وعندكم صنائع وعوارف آمل أن تعترفوا بها وتلتزموها ولا تكفروها وتشكروها وإن راجعتم الجميل وتلافيتم هذا الخطب الجليل وفرّقتم جموعكم ومزّقتموها وعدتم إلى منازلكم واستوطنتموها وأقبلتم على شئونكم وتشاغلتم بها وأجريتم فى الخدمة على عادتكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزلة من لم يبرح من موضعه ولم يأت بما يعود بتشعث [1] محله وموقعه وكنت الذي تعرفونه فى الثقة بكم والإيثار لكم والسكون إليكم   [1] . بتشعّث: كذا فى الأصل. وفى مط: ويتشعّث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 والاشتمال عليكم لكم بذلك عهد الله إن عهده كان مسئولا. - «وإن أبيتم إلّا مكاشفة ومخالفة وإثارة فتنة وتجديد محنة فقد ولّيتكم ما تولّيتم وأغمدت سيفي منكم وتبرّأت إلى الله أن أمدّ باعى إلى أحد منكم ولجأت فى نصرى ومعونتى وكفايتي إلى الله عزّ وجلّ ولم أخرج من منزلي ولم أسلّم الحقّ الذي جعله الله لى إلّا كما خرج عثمان بن عفّان عن داره وكما سلّم حقّه لمّا خذله عامّة ثقاته وأنصاره وكان ذلك حجّة فيما بين الله عزّ وجلّ وبيني ومعذرة وسببا [317] بإذن الله لما أؤمّله من الفوز فى الدنيا والآخرة والله بصير بالعباد وللظالمين بالمرصاد وحسبي الله ونعم الوكيل.» ولمّا وصلت هذه الرقعة إلى مونس ووقف نازوك وأبو الهيجاء على ما تضمّنت عدلوا إلى مكاتبته بإخراج هارون بن غريب عن بغداد، فأجابهم إلى ذلك وقلّد هارون الثغور الشاميّة والجزريّة من يومه ومضى إلى قطربّل [1] فأقام بها. ولمّا كان يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم دخل مونس المظفّر والجيش بغداد وعدلوا عن دار السلطان كراهية لمعرّة الجند وظهر عند الناس ظهورا بيّنا وأرجفوا إرجافا قويّا أنّ نازوك وأبا الهيجاء واقفا مونسا المظفّر على الاستبدال به ونصب غيره فى الخلافة. فلمّا كان يوم الأربعاء لاثنى عشرة ليلة خلت من المحرّم خرج مونس   [1] . قطربّل: قرية بين بغداد والمرزقة، وهي الآن خراب (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 إلى باب الشمّاسيّة دفعة ثانية وخرج معه أبو الهيجاء ونازوك وبنىّ بن نفيس وجميع القوّاد والجيش وزحفوا إلى دار السلطان. ذكر الخبر عن خلع المقتدر بالله وتقليد القاهر بالله الخلافة لمّا زحف القوم بأسرهم إلى دار السلطان هرب المظفّر بن ياقوت وسائر الحجّاب والحشم [318] والخدم والوزير أبو علىّ ابن مقلة منها ودخل مونس من باب الزاوية وحصل الجيش كلّه فى دار السلطان. فلمّا كان بعد عتمة بساعة أخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواصّ جواريه من الدار وأصعد بهم إلى دار مونس المظفّر ودخل هارون بن غريب من قطربّل سرّا إلى بغداد واستتر بها. ومضى أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى دار ابن طاهر ليحدر منها محمّد بن المعتضد بالله فلم يفتح له كافور الموكّل بحفظ الدار وطالبه بعلامة من مونس، فلم تكن معه فانصرف، وأصعد ونازوك بعد أن أخذ العلامة وطرح فى طريقه النار فى دار هارون بن غريب وأحدر محمّد بن المعتضد ووصل إلى دار السلطان فى الثلث الأخير من ليلة السبت للنصف من المحرّم وسلّم عليه بالخلافة وبايعه مونس والقوّاد ولقّب القاهر بالله. وزارة على بن مقلة وأخرج مونس علىّ بن عيسى من الحبس فى دار السلطان وأطلقه إلى منزله وأحضر أبا علىّ ابن مقلة وقلّده وزارة القاهر بالله وقلّد نازوك الحجبة مضافة إلى ما إليه من الشرطة بمدينة السلام وأضاف إلى ما كان إلى أبى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 الهيجاء من أعمال طريق خراسان وحلوان والدينور وطريق [319] سرّ من رأى وبزرج سابور والراذانين ودقوقاء [1] وخانيجان والموصل أعمال المعاون بهمذان ونهاوند والصيمرة والسيروان وماسبذان ومهرجانقذق وأرزن. ووقع النهب فى دار السلطان ومضى بنىّ بن نفيس إلى تربة السيدة بالرصافة فوجد لها هناك ستّمائة ألف دينار فحملها إلى دار السلطان. وخلع المقتدر بالله من الخلافة يوم السبت النصف من المحرّم وأشهد على نفسه بذلك القضاة وسلّم الكتاب بذلك إلى القاضي أبى عمر محمّد بن يوسف. ذكر حزم استعمل وانتفع به فحدّث أبو الحسين ابن أبى عمر أنّ أباه سلّم الكتاب إليه بالخلع وقال له: - «يا بنىّ احفظه واستره ولا يراه أحد من خلق الله عندك.» قال: فقلت له: - «وما الفائدة فى كتمانه وقد علم به الخلق؟» قال: فقال لى: - «وما الفائدة فى إظهاره ومن أين تعلم ما يكون؟» قال: فامتثلت أمره. فلمّا أعيد المقتدر بالله إلى الخلافة بعد يومين أخذ القاضي أبو عمر ذلك الكتاب فسلّمه إلى المقتدر بالله من يده إلى يده وحلف له على أنّه [320] ما رآه أحد من خلق الله عنده غيره. فحسن موقع ذلك من المقتدر جدّا وشكره له وقلّده بعد مديدة قضاء القضاة. قال: فقال لى: - «يا بنىّ ما ضرّنا كتمان الكتاب وستره شيئا»   [1] . دقوقاء (بالمدّ) بلدة بين أربل وبغداد (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 وانصرف الناس من دار السلطان يوم السبت ولمّا كان من غد وهو يوم الأحد جلس القاهر بالله وحضر الوزير أبو علىّ ابن مقلة ووصل إليه وأمره بالجلوس بين يديه وسكن النهب وكتب أبو علىّ ابن مقلة بخبر تقليد القاهر بالله الخلافة كتابا أنشأه إلى الولاة فى النواحي. وأمر نازوك الرجّالة المصافيّة بقلع خيمهم من دار السلطان وأقام رجّالته مكانهم فاضطربوا من ذلك ثمّ تقدّم إلى خلفاء الحجّاب والبوّابين ألّا يدخل الدار إلّا من كانت له مرتبة فاضطربت [1] الحجريّة من ذلك وتكلّموا وصار ذلك سببا لردّ المقتدر إلى الخلافة. ذكر السبب فى ردّ المقتدر إلى الخلافة فلمّا كان يوم الإثنين السابع عشر من المحرّم بكرّ الناس إلى دار السلطان لأنّه يوم موكب ودولة جديدة، فامتلأت الدهاليز والممرّات والرحاب وشاطئ دجلة [321] منهم وحضر الرجّالة المصافيّة بالسلاح يطالبون بالبيعة ورزق سنة ولم ينحدر مونس إلى دار السلطان ذلك اليوم وأقام فى منزله. وارتفعت زعقات الرجّالة وسمعها نازوك وأشفق أن يجرى بين أصحابه وبينهم قتال، فتقدّم إلى غلمانه وأصحابه ألّا يعرضوا لهم. وزاد شغب الرجّالة وهجموا يريدون الصحن التسعينى فلم يمنعهم أحد لما كان نازوك تقدّم به إلى أصحابه ودخل منهم من كان على الشطّ من الروشن بالسلاح المشهور وقربت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله وكان جالسا فى رواق التسعينى وبين يديه أبو علىّ ابن مقلة ونازوك وأبو الهيجاء، فوجّه نازوك ليخاطبهم وكان نازوك مخمورا كالسكران قد شرب طول ليلته، فلمّا برز إلى الروشن ونظر   [1] . كذا فى الأصل: فاضطربت. وفى مط: فيضطرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 إليه الرجّالة أسرعوا نحوه فخافهم لأنّهم شهروا السلاح عليه، فولّى منهم وعدا وأطمعهم فى نفسه وعدوا خلفه وانتهى به الهرب منهم إلى باب كان هو سدّه أمس ذلك اليوم بالآجر والجصّ ولم يمكنه النفوذ ووصلوا إليه وقتلوه وقد كانوا قتلوا قبله [1] عجيبا وصاحوا: - «مقتدر يا منصور.» فتهارب كلّ من فى الدار من الوزير والحجّاب والحشم وسائر الطبقات حتّى بقيت الدار خالية. وصلب [322] الرجّالة نازوك وعجيبا على خشب الستارة التي على شاطئ دجلة [ثمّ صار [2] الرجّالة إلى] دار مونس يطالبون بالمقتدر بالله، وبادر الخدم فى دار السلطان فغلقوا أبوابا وكان جميعهم خدم المقتدر وحاشيته وصنائعه، وأراد أبو الهيجاء أن يخرج من الدار فتعلّق به القاهر وقال: - «يا أبا الهيجاء تسلّمنى؟» فدخلت أبا الهيجاء الحميّة والأنفة، فرجع معه وقال: - «والله لا أسلمتك.» وعاد فوجد الأبواب مغلقة فدخلا دار السلام وارتفعت ضجّة وتكبير. فقال فائق وجه القصعة، لبعض الخدم الصغار الرسائليّة [3] : - «أنظر ما هذه الضجّة؟» فمضى وعاد وقال: - «قتل أبو الهيجاء.»   [1] . قبله: كذا فى الأصل: وفى مط: قتله. [2] . فى مط: وصار إلى مونس. بدل «ثم صار الرجّالة إلى دار مونس» . وما بين المعقوفتين من مد. [3] . فى مط: رساطية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 فقال له: - «أنظر ويلك ما تقول.» فأعاد ذلك ثلاثا فقال أبو الهيجاء: - «هو ذا أنا [1] ويلك.» فقال الخادم: - «غلطت، قتل نازوك.» فقال القاهر لوجه القصعة: - «افتح لى الباب لأخرج إلى الشطّ.» فقال: «إنّ وراءه أبوابا كثيرة يتعذّر منها الوصول إلى الشطّ، ولكن نفتحه على كلّ حال.» ففتح فأفضى بالقاهر المشي إلى درجة الدواليب المنصوبة على دجلة فوق موضع التاج فصعدها ويده فى يد أبى الهيجاء ابن حمدان، وأشرفا على دجلة، فرأيا الرجّالة فى السلاح من نهر المعلّى منتظمين متراصّين إلى التاج وإلى باب الخاصّة لا يحصيهم [323] العدد فنزل مبادرا فقال له أبو الهيجاء: - «امض يا مولاي فو تربة حمدان لا فارقتك أو أقتل دونك.» ومضيا حتّى دخلا الفردوس وخرجا من باب الفردوس إلى الرحبة، فلقيا غلاما لمقبل الخادم راكبا فلمّا رآهما ترجّل وقالا له: - «من أين جئت؟» قال:- «من باب النوبى [2] .» فنزع أبو الهيجاء سواده ومنطقته ودفعها إلى الغلام وقال له: - «أعطنى جبّتك.»   [1] . فى الأصل غموض. وفى مط: أنا. [2] . كذا فى الأصل: النوبى. وفى مط: النونى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 وكانت عليه جبّة صوف مصرى فأعطاه إيّاها فلبسها وركب دابّة الغلام وترك القاهر مع الخدم وقال: - «يا مولاي قف بمكانك حتّى أعود إليك.» فلم يطل أبو الهيجاء حتّى عاد فقال له القاهر: - «ما وراءك؟» فقال: «صرت إلى باب النوبى [1] فلقيني جعفر البوّاب فقلت له: - «افتح الباب.» فقال: «لا يمكنني لأنّ وراءه من الرجّالة والجيش من لا يحصى لأنّه قد جيء برأس نازوك إلى ها هنا.» ثمّ قال للقاهر: - «هذا أمر من السماء فعد بنا.» ودخلا الفردوس فجالا فيه ثمّ خرجا إلى القرب من القلّاية ثمّ دخلا الصحن الحسنى الصغير ثمّ دخلا إلى دار الأترجّة وخفّ من معهما من الخدم وتأخّر هناك فائق وجه القصعة وقال لمن وقف بوقوفه من الخدم: - «ادخلوا إليهما فافرغوا من عدوّ مولاكم.» فدخل نحو عشرة منهم بعضهم بقسىّ وبعضهم [324] بدبابيس. فلمّا رآهم أبو الهيجاء صاح بهم وجرّد سيفه ونزع الجبّة الصوف التي كانت عليه، فلفّها على يده وأسرع نحوهم فانجفلوا من بين يديه ودهشوا وسقط بعضهم فى البركة وغشيهم فرموه ضرورة، فرجع ودخل بيت ساج فى بستان دار الأترجّة. فلمّا حصل فى البيت خرج من كان فى البركة من الخدم وصاروا إلى قرب البيت وأحسّ بهم فخرج إليهم بسيفه فولّوا بين يديه إلى جانب من   [1] . فى مط: النونى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 الصحن وفتحوا بابا من زاوية هذا الصحن فدخل منه خمارجويه [1] أحد أكابر الغلمان بسيفين ودرقتين وأقبل على الخدم وقال لهم: - «أين هو يا أصحابنا؟» فقالوا: - «هو فى البيت الساج.» فقال لهم: - «تحرّشوا به حتّى يخرج.» فشتموه فخرج كالجمل الهائج وقال: - «يا آل تغلب أأقتل بين الحيطان، أين الكميت أين الدهماء؟» فرماه خمارجويه بسهم أصابه تحت ثديه وأتبعه بسهم آخر فأصاب ترقوته ورماه بسهم ثالث وقد اضطرب فشكّ فخذيه. قال بشرى وهو الحاكي لهذه الصورة عن مشاهدة: فقد رأيت أبا الهيجاء وقد ضرب السهم الذي [325] شكّ فخذيه فقطعه وجذب السهم الذي أصابه تحت ثديه فانتزعه ورمى به ومضى نحو البيت فسقط قبل أن يصل إليه على وجهه فأسرع إليه أحد الأسودين فضرب يده اليمنى فقطعها وفيها السيف وأخذ السيف وغشيه الأسود الآخر فحزّ رأسه فأسرع بعض الخدم فأنتزع الرأس من يد الأسود ومضى مبادرا به. وكان الرجّالة لما انتهوا إلى دار مونس وسمع زعقاتهم قال: - «ما الذي يريدون؟» فقيل له: - «يريدون المقتدر بالله.»   [1] . خمارجويه: كذا فى الأصل. وفى مط: كمارحوته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 فقال: «سلّموه إليهم.» فلمّا قيل للمقتدر: - «امض معهم إلى الدار حتّى تعود إلى أمرك.» خاف أن يكون حيلة عليه فامتنع فحمل حملا على رقاب الرجال من دار مونس إلى الطيّار ومن الطيّار إلى درجة الصحن التسعينى فحين وضع رجله فى الدار صار إلى دار زيدان القهرمانة وقال: - «ما فعل أبو الهيجاء؟» فقيل: «هو فى دار الأترجّة.» فدعا بدواة فأبطأ بها الغلمان ولم يزل يطلبها حتّى جاءوه بها فكتب له أمانا بخطّه ودفعها إلى بعض الخدم وقال: - «ويلك بادر به لئلّا يحدث عليه حادثة.» فلقى الخادم الخادم الذي معه الرأس فعاد معه فلمّا رآه قال له: - «ويحك [326] ما وراءك؟» قال: «عمر الله أمير المؤمنين.» فقال: «ويلك من قتله؟» فغمزه مفلح الأسود فقال: - «لا أدرى من قتله ولا يعرف قاتله فإنّ أخلاط الرجّالة قاتلوه.» قال: «فإنّا لله.» وأقبل يكرّرها وقال: - «ما كان يدخل إلىّ فى هذه الأيام وأنا فى دار مونس من يسلّينى [1] ويظهر لى الغمّ حتّى كأنّه بعض أهلى سواه. هذا إلى ما له ولأهله من   [1] . يسلّينى ... : والعبارة فى مط: يسلمني ويظهر لى العمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 الحقوق.» وظهر فيه من الكآبة أمر عظيم. فبينا هو كذلك إذ ارتفعت ضجّة فشغل عن أمر أبى الهيجاء وقال: - «ما هذا؟» فجاءه خادم يعدو وقال: - «محمّد» - يعنى القاهر بالله. وقد أخذ وجيء به. فأحضر القاهر بالله فأجلسه بين يديه واستدناه ثمّ جذبه إليه وقبّل جبينه وقال له: - «يا أخى أنت لا ذنب لك وقد علمت أنّك قهرت.» والقاهر بارك يقول: «نفسي نفسي الله الله يا أمير المؤمنين.» فلمّا كرّر ذلك قال له: - «وحقّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا جرى [1] عليك سوء منّى أبدا ولا وصل أحد إلى مكروهك وأنا حىّ، ولأحرصنّ على انصرافك إلى منزلك من دار ابن طاهر فى هذه الليلة، فطب نفسا ولا تجزع.» وأخرج رأس نازوك ورأس أبى الهيجاء وشهرا [327] فى الشوارع ونودى عليهما: - «هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته.» سكون الهيج ورجوع الخلافة إلى المقتدر وسكن الهيج وعاد أبو علىّ ابن مقلة إلى وزارته وكتب عن المقتدر بالله   [1] . فى مط: لا اجرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 برجوع الخلافة إليه وتجديد البيعة له إلى الولاة فى النواحي. ولمّا تمكّن المقتدر من دار الخلافة وأقرّ أبا علىّ ابن مقلة على وزارته أطلق للجند البيعة. أمّا للرجّالة فستّ نوائب وزيادة دينار لكلّ راجل، وأمّا الفرسان فثلث رزق وزيادة ثلاثة دنانير لكلّ فارس. ولمّا نفذت الأموال فى ذلك أخرج ما فى الخزائن من الكسوة وغيرها فباع ذلك ثمّ أطلق لهم بها العهد بالأشرية [1] على وكيل نصبه المقتدر وهو علىّ بن العبّاس النوبختي وأشهد على نفسه بتوكيله إيّاه فى البيع، وشرط للمبتاعين فى كتب الأشرية أن يحملوا فى حقّ بيت المال فيما اشتروه على معاملة القطائع المعشورة، ثمّ بيع منهم بالصلة فضل ما بين المعاملتين فى أملاك الرعيّة وهو فضل ما بين الأستان [2] والقطيعة ووقعت لهم الشهادة بذلك على علىّ بن العبّاس وحسبت عليهم الضياع والأملاك بأرخص الأثمان. فحكى ثابت بن سنان أنّه حضر مجلس [328] الوزير أبى علىّ ابن مقلة ولم يكن له شغل غير التوقيع للجند ببيع الضياع وفضل ما بين المعاملتين بالصلة ولا كان لأصحاب الدواوين عمل غير إخراج العبر لما يباع. وكان الناس مجتمعين عليه وهو يوقّع إذ استؤذن لعلىّ بن عيسى عليه فأذن له، فلمّا رآه قام له قياما تامّا وأجلسه معه على دسته وأقبل عليه وترك ما كان فيه، فلمّا سأله عن خبره رأى الناس منكبّين عليه فقال له: - «يشتغل الوزير أيّده الله بشغله.» وأقبل أبو على ابن مقلة على الناس يوقّع لهم، فلمح علىّ بن عيسى خرجا قد أخرج بعبرة ضياع جبريل والد بختيشوع فوجد الثمن بالإضافة إلى ما اشترى نزرا يسيرا فقال:   [1] . فى مط: بالأشربة. [2] . فى الأصل: الأستار. وفى مط ومد: الاستان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 - «لا إله إلّا الله، بلغ الأمر إلى هذا؟» فترك ابن مقلة ما كان فى يده وأقبل عليه فقال: - «حدّثنى شيخنا أبو القاسم رحمه الله- يعنى عيسى بن داود- أنّ المتوكّل على الله لمّا غضب على بختيشوع المتطبّب أنفذ إلى داره لإحصاء ما فى خزائنه فوجد فى خزانة كسوته رقعة فيها ثبت ما اشتراه من الضياع وهو ببضعة عشر آلاف ألف درهم فقد آل أمرها إلى أن تباع بهذا القدر النزر، فعجبا جميعا من ذلك وعاد ابن مقلة إلى شغله وقام علىّ بن عيسى لينصرف [329] فقام له الوزير أبو علىّ كما قام لدخوله. وفى هذه السنة خلع على أبى على ابن مقلة وكنّى وكتب إلى جميع النواحي. وفيها قلّد أبو عمر قضاء القضاة وكتب عهده. وفيها أوقع القرمطى بالحاجّ فى البيت الحرام بمكّة وقتل أميرها. ذكر الخبر عن إيقاع القرمطى بالحاجّ وتخريبه مكّة كان منصور الديلمي بذرق بالحاجّ فى هذه السنة فسلموا فى طريقهم فلمّا وصلوا إلى مكّة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكّة يوم التروية فقتل الحاجّ فى المسجد الحرام وفى فجاج [1] مكّة وفى البيت قتلا ذريعا، وقلع الحجر الأسود، وقتل ابن محلب [2] أمير مكّة وعرّى البيت وقلع الباب وأصعد رجلا من أصحابه ليقلع المرزاب فتردّى الرجل على رأسه ومات، وأخذ أموال   [1] . فى مط: ومن يحاج. بدل «وفى فجاج» . [2] . كذا فى الأصل ومط: محلب. فى مد: مجلب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 الناس وطرح القتلى فى بئر زمزم ودفن باقيهم فى مصارعهم فى المسجد الحرام وغيره من غير أن يصلّى عليهم، وأخذ أسلاب أهل مكّة وانصرف إلى بلده وحمل معه الحجر الأسود. وفيها قلّد ابنا رائق شرطة بغداد مكان نازوك. ودخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة [330] وشغّب الفرسان وتهدّدوا بأمور عظيمة، فأحضر المقتدر قوّادهم وخاطبهم بجميل ووعدهم بإطلاق أرزاقهم فى الشهر الجديد، فانصرفوا وسكنوا، وشغّب الرجّالة فأطلقت أرزاقهم. وفى شوّال منها خلع المقتدر على الأمير هارون ابنه وركب معه الوزير والجيش وكانت ولاية فارس وكرمان وسجستان ومكران إليه. وفى ذى القعدة منها خلع المقتدر على ابنه الأمير أبى العبّاس وركب معه الوزير، مونس المظفّر وجميع الجند وكان مرسوما بولاية المغرب ومونس يخلفه عليه. وفيها صرف ابنا رائق عن الشرطة وقلّدها أبو بكر محمّد بن ياقوت. وفى هذه السنة كان هلاك الرجّالة المصافيّة. ذكر السبب فى هلاكهم كان قد عظم الأمر فى تسحّب [1] الرجّالة المصافيّة وأدلوا بأنّهم كانوا   [1] . فى مط: تشحب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 السبب فى ردّ المقتدر إلى الخلافة بعد ما خلع وثقل مالهم واحتدّت مطالبتهم وكثر شغبهم وزاد تعدّيهم وبلغ ما لهم فى كلّ شهر من شهور الأهلّة مائة وثلاثين ألف دينار. فاتّفق أن شغّب الفرسان وطالبوا بأرزاقهم وناوشهم [1] الرجّالة فقتل منهم جماعة واحتجّ [331] السلطان على الفرسان بأنّ المال منصرف إلى الرجّالة، فحاربوهم حتّى طردوهم من دار السلطان، وركب محمّد بن ياقوت فنادى فيهم ألّا يقيموا ببغداد وكان من وجد منهم بعد النداء قبض عليه وأودع حبس الجرائم. وهدمت دور عرفاء الرجّالة وركب فى ذلك ابن ياقوت وجدّد النداء فيهم ثمّ ظفر بنفر منهم فضربوا وشهّروا وقبضت أملاك الرجّالة المصافيّة وهدمت دورهم. ثمّ هاج السودان بباب عمّار فركب محمّد بن ياقوت والقوّاد الحجريّة فأوقعوا بهم وضربوا الصقع بالنار. وكانت لأبى سعيد بن حمدان فيهم نكاية مشهورة وهربوا متفرّقين ثمّ اجتمع منهم جماعة من البيضان من رجّالة المصافيّة وغيرهم فكثر عددهم وانحدروا إلى واسط ورأّسوا على أنفسهم رجلا من الفرسان يعرف بنصر الساجي وطردوا عمّال السلطان بواسط، فانحدر إليهم مونس وأوقع بهم بواسط وقتلهم فلم يرتفع لهم راية بعد ذلك. وفيها قبض على الوزير أبى علىّ ابن مقلة ذكر السبب فى القبض عليه كان المقتدر متّهما لابن مقلة لممايلة [332] مونس المظفّر وكان مستوحشا من مونس يظهر له الجميل، وانحرف عنه ياقوت لميل مونس   [1] . فى مط: وناق سهم. بدل «وناوشهم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 إليه. واتفق أن خرج مونس المظفّر إلى أوانا [1] متنزّها وانحدر أبو علىّ ابن مقلة إلى دار السلطان فتغنّم المقتدر بالله فيه غيبة مونس فقبض عليه. وكان محمّد بن ياقوت معاديا له، فلمّا قبض عليه أنفذ إلى داره بالليل من أحرقها [2] . وكان المقتدر قد عمل على أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله فرحل مونس من أوانا ودخل بغداد وراسل المقتدر بالله بكراهته للحسين ابن القاسم وسأله ردّ أبى علىّ ابن مقلة، فاغتاظ المقتدر وعزم على قتل ابن مقلة. وكان السفير علىّ بن عيسى. فكان يداريه إلى ان سكّنه وقال: - «ما ذنب وزيرك فى شفاعة مونس له؟» ولم يزل به حتّى انصرف عن رأيه. وكان المقتدر من محبته لأن يستوزر [3] الحسين بن القاسم، استحضره وبيّته عنده وخلع عليه ووعده أن يصل فى غد تلك الليلة بحضرة الناس ويخلع عليه الوزارة. فلمّا اتصل ذلك بمونس غلظ عليه أن يتفرّد المقتدر بهذا التدبير ولا يشاوره فيه وقد كان طعن عليه قديما وقال: - «لا يصلح للوزارة.» فترددت الرسائل بينه وبين [333] المقتدر على لسان علىّ بن عيسى، فاستشار المقتدر علىّ بن عيسى. فأشار بردّ أبى علىّ ابن مقلة موافقة لمونس وذلك بعد أن سأله أن يتقلّدها هو فامتنع فقال المقتدر: - «هذا غير ممكن، فاذكر سواه.» فذكر سليمان بن الحسن وأشار به أو عبد الرحمن بن عيسى. فمال   [1] . أوانا: بليدة من دجيل بينها وبين بغداد عشرة فراسخ (مراصد الإطلاع) . [2] . فى مط: احرافها. [3] . فى مط: لا يستوزر، بدل «لأن يستوزر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 المقتدر إلى سليمان لما كان قدّمه من الطعن على ابن مقلة وما ظهر من عداوته له، فأمره بإحضاره وانصرف الحسين بن القاسم من دار السلطان واستتر. وكانت مدّة وزارة أبى علىّ محمّد ابن علىّ ابن مقلة سنتين وأربعة أشهر. ذكر ما جرى فى أمر الوزارة بعد أبى علىّ وتقلّد سليمان بن الحسن لها أحضر سليمان بن الحسن يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى دار السلطان ولم يوصله المقتدر بالله إليه فى ذلك اليوم وعاد من غد وهو يوم الخميس فوصل وخلع عليه. وتقدّم المقتدر إلى علىّ بن عيسى بالإشراف على سائر الأمور من الأعمال والدواوين وبمعاضدة سليمان وألّا يتراخى فى ذلك فصار يصل مع سليمان إلى المقتدر ولا يقلّد سليمان أحدا ولا يصرفه ولا يعمل شيئا إلّا بموافقة علىّ بن عيسى. [334] وفيها قبض على البريديين وصودروا ذكر الخبر عن ذلك حكى أبو الفرج ابن أبى هشام قال: كان أبى يكتب لأحمد بن نصر القشوري وكان أحمد يطمع أن يجعل مكان أبيه نصر ويستحجب. قال: فبينا [1] نحن بين يدي أحمد بن نصر بالأهواز- وكان يتولّى أعمال المعاون بها- إذ ورد عليه توقيع من المقتدر بالله بخطّه مع ركابىّ يعرفه سرّا يقول فيه:   [1] . كذا فى الأصل ومط: فبينا. وفى مد: فبينما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 - «يا أحمد قد عرفت ذنبك الذي جنيته وحرمت به نفسك رأيى، وقد تيسّر لك تلافيه بامتثال أمرى فيما أضمّنه توقيعى هذا، اقبض على البريديين الثلاثة وحصّلهم فى دارك، وإيّاك أن تفرج عنهم إلّا بتوقيع يرد عليك بخطّ كهذا الخطّ الذي فى هذا التوقيع وثق منّى بالعود لك إذا فعلت ذلك إلى ما يرفع منك ويصلح حالك ويعيد منزلتك.» قال: فأقرأنى أحمد بن نصر هذا التوقيع وسجد شكرا لله على ثقة المقتدر به وعبر فى الوقت إلى دار أبى عبد الله وأنفذ حاجبه أبا يعقوب إلى دار أبى يوسف وأنفذ أحمد بن مقبل إلى دار أبى الحسين فوجدوهم قد خرجوا قبل ركوبه بلحظة وركبوا طيّاراتهم. وكان الخبر قد سبق إليهم فأظهروا أنّهم يريدون مسجد [335] الرضا المتصل بالشاذروان بالأهواز فاتبعهم وعرف أنّهم ساروا إلى البصرة، فقامت قيامته من ذلك. وأنفذ أبا يعقوب والغلمان وراءهم، فاتّفق أن عصفت الريح على البريديين فمنعتهم عن السير ولحقهم الطلب فأخذوا. وبذل أبو عبد الله لأبى يعقوب خمسين ألف دينار على أن يفرج عنهم فما أجابه، ثمّ سأله أن يفرج عن أحد أخويه ويقبل منه عشرين ألف دينار فأبى، وردّهم وحصلوا فى دار أحمد بن نصر ولم تمض خمسة أيّام حتّى ارتفعت ضجّة. فقال لى أحمد بن نصر: - «اخرج فاعرف ما سبب هذه الضجّة.» قال: وكان سلّم إليهم داره الشطيّة واعتزل فى حجرة، فخرجت مبادرا فرءانى أبو عبد اله فقال: - «قل له وبشّره أنّ الفرج قد أتى وأنّ هذا كتاب الوزير بالإطلاق وإقرارى وأن أنظر فى الأعمال.» وأعطانى الكتاب وبادرت به إلى أحمد بن نصر فقرأه وخرج إليه وإلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 أخويه وقال: - «هذه نعمة يلزمني فيها الشرك والصدقة والوفاء بالنذر ولكن هذا خطّ أمير المؤمنين إلىّ بما رسمه وأريد خطّا مثله بما ينقضه.» فتغيّرت وجوه الأخوة من ذلك واضطربوا حتّى ظهر على وجوههم ما فى قلوبهم ثمّ أخذوا فى مداراته ومسألته الرفق. [336] فلمّا كان من الغد شغّب الرجّالة بالأهواز تعصّبا لهم وقالوا: - «لا بدّ من إطلاقهم.» وحملوا السلاح وكان مع أحمد بن نصر طوائف من البصريّة وعدّة كثيرة من السودان والغلمان والحجريّة فجمعهم ثمّ حلف بالطلاق أنّه إن هجم على داره أحد منهم قتلهم وأخذ رؤوس الثلاثة وحملها إلى الخليفة. وقال: - «هذا كتاب مزوّر وإلّا فلم لا يقع [1] تثبّت وإنّما ضرّبتم علىّ الرجّالة وراسلتموهم فى حمل السلاح وأخذكم من منزلي لئلّا [2] يظهر ما زوّرتموه وتتعجّلون الخروج والهرب.» فلمّا رأوا المصدوقة اعتذروا ووضعوا جنوبهم له وأرسلوا الرجّالة فى الانصراف بعد أن حلفوا أنّهم تبرّعوا بالتعصّب لهم وأقاموا بمكانهم. ووافى بعد عشرة أيّام ابن موسى دانجو بتوقيع مثل ذلك التوقيع وذلك الخطّ فتسلّمهم وحملهم وعلم أنّهم كانوا زوّروا واحتالوا وتأكّدت الوحشة بينهم وبين أحمد بن نصر القشوري ولم يزالوا عليها حتّى فرّق بينهم الدهر. ولمّا ورد البريدون الحضرة نوظروا على المصادرة فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي وكان فى الوقت عدوّا لهم: - «بكرت إلى أبى جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وقلت له: الأهواز   [1] . فى مط: لا يقلع، بدل «لا يقع» . [2] . فى مط: ليلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 [337] خطّة القاسم أبيك وهي دارك ودار أخيك وأنتم تتصرّفون فيها منذ ستين سنة فلم تركتموها لهؤلاء الفعلة الصنعة [1] وهلّا سعيت على سحقهم وسحبهم حتّى لا يبقى لهم جناح يطيرون به؟» فقال: «يا أبا زكريا ما الذي تقدّره فى مصادرتهم التي تؤدّيهم إلى هذه الحال؟» فقلت معظما [2] : «ثلاثمائة ألف دينار يزهق الله به نفوسهم.» فقال لى: - «يا أخ قم بنا حتّى نعبر إلى دار الوزير.» وكان يومئذ أبو القاسم سليمان بن الحسن. فخرجت معه فنزلنا الطيّار فلمّا وصلنا وتوسّطنا الدار وجدنا أبا القاسم الكلوذانى فى جانب منها والبريديّين بين يديه والكتّاب. فقال لى أبو جعفر: - «ترى أن نقضي حقّه ونعرّج عليه ونعرف الصورة من أمرهم فنبنى ما نخاطب الوزير به بحسبه [3] ؟» فقلت: «صواب.» فعدلنا إلى أبى القاسم وجلسنا عنده فقال لأبى جعفر: - «قد فصلنا أمر أصحابنا وأنت وجه الحضرة وتاجها وحرّها وهم إخوتك وما أحقّك بمعونتهم؟» فقال: «إنّ أيسر ما يكون لهم أيّدهم الله مشاركتهم فى المحنة فأمّا المعونة فما أقنع من نفسي بها فعلام انفصل أمرهم؟» فقال: «على تسعة آلاف ألف درهم.»   [1] . فى مط: الفعل الصنيعة، بدل «الفعلة الصنعة» . [2] . فى مط: فقلت معظما: ... [3] . به بحسبه: كذا فى الأصل. وفى مط: فحسب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 قال أبو زكريا: [338] فنظر إلىّ أبو جعفر وقد بهت. ونهضنا فقال: - «يا أبا زكريا هذا خلاف ما كان عندك.» فقلت: «هذا الأمر يراد والله ما يملكون هذا المال فإنّى أعرف بمكاسبهم ولكن لأبى [1] عبد الله نفس أبيّة وهمة عليّة فعرفت نفسه على سلطانه فأعطاه أكثر ممّا أطمع فيه وممّا سعى به أعداؤه متربّصا بالأيّام والأوقات ومتوقّعا الدوائر وإن يسمع الخليفة التزامه هذا المال الجليل فيستكثر قدره ويرغب فى تجديد الصنيعة عنده وما كلّ أحد يغرّر هذا التغرير وما هذا آخر أمره وسيكون له شأن عظيم كفافا الله شرّه.» قال أبو زكريا: وعدلت مذ ذلك اليوم إلى مداراته وخدمته واستصلاحه. مناظرة أبى على بن مقلة وتقدّم المقتدر بالله إلى سليمان بن الحسن وأبى الحسن علىّ بن عيسى بمناظرة أبى علىّ ابن مقلة فاختارا لذلك أحمد بن محمّد بن صالح العكبري وأنفذه إلى دار السلطان فناظره ولم يزد على توبيخه ومواقفته على قبيح آثاره. فالتمس أبو علىّ ابن مقلة أن يكون المناظر له علىّ بن عيسى. فاجتمع الوزير سليمان وعلىّ بن عيسى على مناظرته فى دار الحجبة بحضرة ياقوت الحاجب، فاغلظ له سليمان فى الخطاب [339] والتخطئة والاحتقار ونسبه إلى التضريب بين السلطان وأوليائه إلى أن قرّر علىّ بن عيسى أمره على مائتي ألف دينار على جمل [2] ، يعجّل منه النصف ويؤدّى الباقي فى نجوم المصادرات، وكانت تلك النجوم إنّما هي رسم لا يطالب من يؤخذ خطّه بها.   [1] . فى مط: أبا، بدل «لأبى» . [2] . جمل: وفى الأصل: جميل، والكلمة ساقطة من مط، فأثبتناها كما أثبتت فى مد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 فكتب مونس المظفّر إلى المقتدر يشفع لابن مقلة ويسأله أن يعفيه من المصادرة وأن يكون معتقلا فى يد مرشد الخادم فأجابه إلى ذلك. ودخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة وفى هذه السنة استوحش مونس المظفّر زيادة استيحاش. ذكر السبب فى استيحاش مونس وخروجه كان محمّد بن ياقوت منحرفا عن سليمان ومائلا إلى الحسين بن القاسم ومونس المظفّر، وأسبابه [1] يميلون إلى سليمان لمكان علىّ بن عيسى وثقتهم به وينحرفون عن الحسين بن القاسم. وقوى أمر محمد بن ياقوت وقلّد مع الشرطة الحسبة [ببغداد] [2] واستضمّ رجالا وقويت بهم شوكته فشقّ ذلك على مونس وسأل المقتدر صرفه عن [340] الحسبة وتقليد ابن بطحاء ففعل ذلك. وتقدّم مونس إلى أصحابه بالاجتماع إليه، فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال فى دار السلطان وفى دار محمّد بن ياقوت. وقيل لمونس إنّ محمّد بن ياقوت قد عمل على كبس داره بالليل وما فارقه أصحابه حتّى أخرجوه إلى باب الشمّاسيّة وخرجوا معه وصار إليه علىّ بن عيسى فعرّفه خطأ هذا الرأى وأشار عليه بأن يعود إلى داره فلم يقبل منه وأقام على أمره. وطالب بصرف محمّد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة وياقوت عن الحجبة وإبعادهما عن الحضرة، فوجّه المقتدر قاضى القضاة أبا عمر وابنه الحسن وابن أبى الشوارب وجماعة من شيوخ الهاشميين أصحاب المراتب   [1] . وفى مط: اشبابه. [2] . الزيادة من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 إلى مونس برسالة يرفق فيها ويسأله الرجوع إلى داره، فقال قاضى القضاة: - «الوجه أن يكتب رقعة بما حمّلناه من الرسالة نرجع إليها ونثنى الكلام على معانيها، فإنّا جماعة والقول يختلف والنسيان غير مأمون.» فقال الوزير: - «وما معنى هذا؟» فقال علىّ بن عيسى: - «هذا هو الصواب.» وكتب بذلك رقعة. وقعد الوزير وعلىّ بن عيسى فى دار السلطان ينتظران عود الجماعة، فعادوا وذكروا أنّهم [341] لم يصلوا إلى مونس وأنّهم أجلسوا فى الحديدى وراسلهم مونس فى إعلامه بما وردوا فيه فذكروه له فصار إليهم كتّابه يخاطبونهم خطابا جميلا عنه. فبينا [1] هم كذلك إذا هجم الجيش على الحديدى فكادوا يغرقونه وقالوا: - «لا نرضى إلّا بإخراج ياقوت وابنيه.» وتكلّموا بكلام قبيح فراح فى آخر النهار الوزير سليمان بن الحسن وعلىّ بن عيسى ومن معهما من الخدم الخاصّة إلى باب الشمّاسيّة فشافهوا مونسا بالرسالة فلم يبعد [2] عليهم وخرجوا من عنده فقبض عليهم عند مغيب الشمس وحبسهم فى الحديدى. فخرج ياقوت فى تلك الليلة ونزل المدائن ومعه ابناه فلمّا كان من غد ذلك اليوم وعرفت المونسيّة انّ ياقوتا وابنيه قد خرجوا عن الحضرة أفرجوا   [1] . فبينا: كذا فى الأصل ومط: فبينا. والمثبت فى مد: فبينما، وكلاهما صحيح، إلّا أنّ للترجيح ليس من مرجّح. [2] . كذا فى الأصل ومط ومد: فلم يبعد. وفى حاشية مد: لعله «لم يعتد» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 عن الوزير والجماعة وانصرفوا إلى منازلهم. وقلّد المقتدر ياقوتا أعمال الخراج والمعاون بفارس وكرمان وكتب إلى أبى طاهر محمّد بن عبد الصمد بالانضمام إليه وانضمّ إليه وخاطبه بالأستاذيّة، وقلّد المظفّر بن ياقوت إصبهان وتقلّد ابنا رائق: إبراهيم ومحمّد، مكان ياقوت وأقام ياقوت بشيراز مدّة وكان علىّ بن خلف [342] بن طيّاب [1] متضمنا أموال الضياع والخراج بها فتظافروا وتعاقدوا فقطعا الحمل عن السلطان إلى أن ملك علىّ بن بويه الديلمي فارس يوم السبت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وفيها دخلت قوافل الحاجّ من مكّة سالمين مع مونس الورقائى فاستبشر الناس بتمام الحجّ وانفتاح الطريق وضربت له القباب ببغداد. وفيها قبض على الوزير سليمان بن الحسن ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ سليمان أضاق إضافة شديدة وكثرت عليه المطالبات وبلّح واتصلت الرقاع ممّن يلتمس الوزارة بالسعاية فقبض على سليمان بن الحسن وأبى القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى فشقّ [2] من ذلك وجزع جزعا عظيما وحملا إلى دار السلطان. وكان المقتدر شديد الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع عليه مونس وأشار بتقليد الكلوذانى فاضطرّ المقتدر إلى تقليده. وكانت مدّة وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين وأيّاما.   [1] . طيّاب: كذا فى الأصل: طيّاب. وما فى مط مهمل فى الثاني، والمثبت فى مد: طناب. [2] . فشقّ: كذا فى مط: فشق، والأصل غير واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 استحضار الكلوذانى لتقليده الوزارة واستحضر المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى من دار مونس يوم السبت لخمس بقين من رجب وخرج إليه [343] مفلح برسالة المقتدر بأنّه قد قلّده وزارته ودواوينه ولم يوصله إليه وتقدّم إليه بأن ينحدر إليه يوم الإثنين ليخلع عليه. فخاف الكلوذانى من حيلة تتمّ للحسين بن القاسم فى تقلّده الوزارة لأنّه بلغه أنّ الحسين قد جدّ بعد القبض على سليمان وراسل مونسا المظفّر وقال: - «لا يؤمن أن يحتجّ الخليفة فى تأخّر الخلع على الكلوذانى بأنّه لم تعدّ له الخلع.» وأشار بأن يوجّه مونس بخلع من عنده إلى دار السلطان ليخلعها عليه، ففعل مونس ذلك وخلع المقتدر على أبى القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى يوم الإثنين وخاطبه بتقليده الوزارة والدواوين وتقدّم إليه بأن يقلّد الحسين بن القاسم ديوانا جليلا ليظهر ويزول عنه الأراجيف بالوزارة. ووصل علىّ بن عيسى بوصول الكلوذانى فأمره المقتدر بحضرة الكلوذانى بأن يجرى على عادته فى الإشراف على الأمور والحضور معه وعرّفه أنّه قد أفرده بالنظر فى المظالم دون الكلوذانى فركب الكلوذانى فى الخلع من دار السلطان إلى داره فأخذ خطّ سليمان بن الحسن بمائتي ألف دينار. وقدم أبو الفتح الفضل بن جعفر [344] من الشام وأبو جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله من نواحي جند قنّسرين والعواصم وكان أبو الفتح منصرفا إلى ناحية قومس فأشار مونس بتقليده ديوان السواد فقلّده الكلوذانى مكرها وانقطعت بتقليده موادّ كانت تصل إلى الكلوذانى وأبى الفياض من أرزاق قوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 لا يحصرون [1] وتسبيبات بأسماء قوم لم يخلقوا وما كان يسبّب للغلمان والوكلاء فى الدار والحاشية برسم الفقهاء والكتّاب وما كان يستطلق لهم من الورق والقراطيس ويبتاع ببعضه ما يحتاج إليه وأشياء تشبه هذه ولم تنبسط يد [2] الكلوذانى على قوم لعناية مونس المظفّر بهم. وكان أبو بكر ابن قرابة متحققا بمفلح الأسود فأوصله مفلح إلى المقتدر وجعله واسطة للمرافق التي أخلق بها الخلافة. وكان ابن قرابة ذكر له أنّ الوزراء كانوا يرتفقون بها وأنّ الضمناء قد بذلوا أن يرفقوا به الخليفة ليصرفه فى مهمّ نفقاته لشدّة الإضافة. وكان ابن قرابة يظهر للمقتدر ولمفلح الأسود أنّه يمشّى أمر الوزارة وأنّ الوزراء لا يتمّ أمرهم من دونه وكان يلزم دار الكلوذانى ويقرضه عن [345] بنى البريدي وغيرهم بربح درهم فى كلّ دينار فأقرضه مائتي ألف دينار مشّى بها أمر الكلوذانى وبمال المصادرات. مرداويج يملك الجبل بأسره وفيها ورد الخبر بوقعة كانت بين هارون بن غريب وبين مرداويج بنواحي همدان وأنّ هارون انهزم وملك مرداويج الجبل بأسره إلى حلوان [3] ونزل هارون بدير العاقول. قصد لشكرى الديلمي إصبهان وفيها قصد لشكرى الديلمي إصبهان وحاربه أحمد بن كيغلغ فانهزم أحمد   [1] . فى الأصل ومد: لا يحضرون، وفى مد: لا يحصرون. [2] . فى مط: ولم يبسط الكلوذانى، بدل «ولم تنبسط يد الكلوذانى» . [3] . فى مط: هلوان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 وملك لشكرى إصبهان وهذا لشكرى من أصحاب أسفار بن شيرويه، فلمّا قصد هارون بن غريب ابن الخال أسفار استأمن إليه لشكرى، ثمّ لمّا انهزم ابن الخال انهزم لشكرى بانهزامه إلى قنسرين، فلمّا تأهّب ابن الخال ثانيا وجهزت إليه العساكر من بغداد لحرب مرداويج أنفذ لشكرى إلى نهاوند من الدينور مع جماعة من الغلمان لحمل مال إليه ورسم أن يحمل المال إلى همذان ويقيم بها حتّى يلحقه هناك فلمّا صار لشكرى إلى نهاوند رأى يسار أهلها وكثرة أموالها وطمع فيهم وصادرهم على نحو ثلاثة آلاف ألف درهم واستخرجها فى مدّة أسبوع وأثبت جندا ثمّ خرج إلى الكرج ففعل مثل ذلك. [346] واتّصل الخبر بابن الخال فطلبه فرحل من بين يديه وسار حتّى وقع إلى إصبهان والوالي عليها أبو العبّاس أحمد بن كيغلغ. ذكر اتّفاق حسن لأحمد بن كيغلغ بعد هزيمته ودخول أصحاب لشكرى إصبهان حكى أبو الحسن المافرّوخى أنّه كان بإصبهان فى الوقت وأنّ أحمد بن كيغلغ انهزم أقبح هزيمة ثمّ لجأ إلى بعض القرى فى ثلاثين نفسا معه وراء حصنها. ودخل أصحاب لشكرى إصبهان ونزلوا فى الدور والخانات [1] والحمّامات وتأخّر لشكرى بنفسه عن العسكر ثمّ سار قليلا ونزل عن دابّته لإهراق ماء فرأى كوكبة أنكرها وقال: - «ما هذه؟»   [1] . كذا فى الأصل ومد: وفى مط: الخانات (بالحاء المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 فقيل: «شرذمة من الكيغلغية.» فركب فى الوقت يريدها فلمّا قرب منها أسرع أحمد بن كيغلغ إليه بعد أن علم أنّه هو فتناوشا وكاد لشكرى يستأسره فخرج أهل تلك القرية فزعقوا به فضعفت نفس لشكرى وتقارب وهو أحمد فضربه أحمد بسيفه ضربة قدّ المغفر والخوذة ونزل السيف فى رأسه فقتله وخرّ لشكرى ساقطا فنزل أحمد إليه وحزّ رأسه وعرف أصحابه الخبر فطاروا [347] هاربين وكان فتحا طريفا واتفاقا عجيبا. وكانت سنّ [1] أحمد بن كيغلغ يومئذ تجاوز سبعين سنة. وفيها صرف الكلوذانى عن الوزارة وقلّدها الحسين بن القاسم. ذكر السبب فى تقلّد الحسين بن القاسم الوزارة وما تمّ له من الحيلة فيها كان أبو القاسم ابن زنجى يحكى فى توصّل الحسين بن القاسم إلى الوزارة خبرا طريفا ويقول: كان أبو علىّ الحسين بن القاسم يعرف بأبى الجمال وكان لى صديقا يسكن [2] إلىّ ويستدعينى إلى الموضع الذي كان مستترا فيه ويشاورني فالزمنى بذلك حقّا وحرمة فاجتهدت فى السعى له والتوصّل بكلّ سبب وحيلة إلى أن تقلّد الوزارة. فكان من أنجع ما عملته أنّ رجلا بمدينة السلام يعرف بالدانيالى كان يلزمني ويبيت عندي ويخرج إلىّ بسرّه [3] ويحدّثنى أنّه يظهر كتبا ينسبها إلى دانيال بخطّ قديم ويودع تلك الكتب أسماء قوم من أرباب الدولة على حروف مقطّعة إذا جمعت فهمت واستوى له بذلك جاه وقامت له به سوق.   [1] . فى مط: بين. [2] . وفى مط: فشكا. [3] . وفى مط: ويخرج إلى سرّى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 ووصلت إليه جملة من القاضي أبى عمر وابنه أبى حسين ووجوه الدولة وغلب على مفلح واختصّ به [348] لأنّه عرّفه أنه وجد فى الكتب أنّه من ولد جعفر بن أبى طالب فجاز ذلك عليه ووصل إليه منه برّ كثير. فانفتح لى أن سألته إثبات فصل فى كتب يكتبها بشرح ما أسأله فأجابنى إلى ذلك فوصفت له الحسين بن القاسم واقتصرت من وصفه على ذكر قامته وآثار الجدري فى وجهه والعلامة التي فى شفته العليا وخفة الشعر هناك وأنّه إن وزر للثاني عشر من خلفاء بنى العبّاس استقامت أموره كلّها وعلا على أعدائه وانفتحت البلاد على يده وعمرت الدنيا فى أيّامه. ودفعت النسخة إلى الدانيالى وواقفنى على عمل دفتر يذكر فيها أشياء ويجعل هذا الباب فى تضاعيفها فسألته تقديم ذلك ولم أزال أطالبه حتّى أعلمنى أنّه لا يستوى على ما يريد حتّى لا يشكّ فى قدمه وعتقه فى أقلّ من عشرين يوما وأنّه يحتاج أن يجعله فى التبن أيّاما ثمّ يجعله فى الخفّ ويمشى فيه أيّاما وأنّه يصفرّ ويعتق. فلمّا بلغ المبلغ الذي قدّر صار إلىّ وهو معه وأرانيه فوقفت على الفصل ورأيت دفترا لولا ما عرفته من الأصل فيه لحلفت على أنّه قديم [349] لا شكّ فيه. ومضى بذلك إلى مفلح فقرأه عليه فى جملة أشياء قرأها، فقال له مفلح: - «أعد علىّ هذا الفصل.» فأعاده. ومضى مفلح إلى المقتدر بالله فذكر له ذلك فطلب الدفتر منه فأحضره إيّاه فقال له: - «من تعرف بهذه الصفة؟» وأقبل المقتدر يكرّرها فذكر مفلح أنّه لا يعرف أحدا بها وحرص المقتدر على أن يعرف إنسانا يوافق هذه الصفة صفته. فقال مفلح: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 - «لست أعرف بهذه الصفة إلّا الحسين بن القاسم الذي يقال له: أبو الجمال.» فقال له المقتدر: - «إن جاءك صاحب له برقعة فخذها منه وإن حمّلك رسالة فعرّفنيها واكتم [1] ما يجرى فى أمره ولا تعلم أحدا به.» وخرج مفلح إلى الدانيالى فقال له: - «هل تعرف أحدا بهذه الصفة؟» فأنكر أن يعرف ذلك وقال: - «إنّما قرأت ما وجدته فى كتب دانيال ولا علم لى بغير ذلك.» وانصرف إلىّ فحدّثنى بهذا الحديث فقمت من فورى إلى الحسين بن القاسم فأعدته عليه فسرّ به غاية السرور وابتهج نهاية الإبتهاج وظهر فى وجهه استبشار عظيم وقال لى: - «اعلم أنّ أبا بشر الكاتب [350] كان أمس عند مفلح برسالة لى إليه فانصرف كاسف البال ظاهر الانخزال مغموما بما شاهده من إعراضه عنه.» فغمّنى ذلك. فقلت: - «الآن يتبيّن لنا صدق الدانيالى من كذبه. ابعث بأبى بشر فى غد إلى مفلح برسالة منك فإنّه سيتبيّن له فيما يعامله به صحّة ما حكاه من بطلانه.» فدعا أبا بشر النصراني كاتبه وحمّله إليه رسالة ووكّد عليه فى البكور إليه. فلمّا كان من غد آخر النهار مضيت إليه أتعرّف خبره وما جرى، فدعا أبا بشر وقال له: - «أعد عليه خبرك.»   [1] . واكتم: كذا فى الأصل ومد: واكتم. وفى مط: واكتب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 فأعلمنى أنّه دخل إليه وفى مجلسه جماعة فرفعه عليهم فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه يحدّثه ثمّ استدناه وسأله سرّا عن خبر الحسين بن القاسم واستمع رسالته وقال: - «تقرأ عليه سلامي وتعرّفه تكفّلى بأمره وقيامي به.» وكلاما فى هذا المعنى، وأن ينفذ إليه رقعة [1] ليوصلها وينوب معه. قال لى أبو بشر: وانصرفت وأنا فى نهاية قوّة النفس والثقة بالله عزّ وجلّ وبتمام ما يسفر فيه. فأعلمت الحسين أنّ الرجل قد صدق فيما ذكره وقد بان لنا أثره. قال: [351] ثمّ إنّ الدانيالى طالبني بالمكافأة فطيّبت نفسه واستمهلته إلى أن تقلّد الحسين الوزارة فأذكرته حقّ الرجل فقلّده الحسبة ببغداد وأجرى له مائة دينار فى كلّ شهر واختصّ به وكان يحضر مجلسه فيجلسه إلى جانب مسورته. ثمّ مضت أيّام فقال: - «لا يقنعني ما أجرى لى.» وسأله زيادة. فكلّمت الحسين بن القاسم فى أمره فأجرى له مائة دينار أخرى تسبّب برسم الفقهاء. وكان ما ذكرته من حديث الدانيالى من أوكد الأسباب فى تقليد الحسين الوزارة مع كثرة الكارهين له والمعارضين فى أمره. وانضاف إلى هذا الخبر [2] الذي أخبر به أبو القاسم ابن الزنجي أنّ الكلوذانى عمل عملا لما يحتاج إليه من مهمّ النفقات وأخذ خطّ صاحبي ديوان الجيش والنفقات بأعمال أخر مفردة عملوها لما يحتاج إليه بزيادة   [1] . فى مط: رقاعة، والأصل مطموس غير واضح بعد الحرف الثاني. [2] . والعبارة فى مط: وأيضا فهذا الخبر الذي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 مائتي ألف دينار على ما عمل هو حتّى تبيّن [1] للمقتدر بالله وقوع الاحتياط منه فيما عمل واقتصر عليه فكان العجز سبعمائة ألف دينار وعرض ذلك على المقتدر وقال له: - «ليس لى معوّل إلّا على ما يطلقه أمير المؤمنين [352] لأنفقه.» فعظم ذلك على المقتدر. فلمّا بلغ الحسين بن القاسم خبر العمل الذي عمله الكلوذانى كتب رقعة إلى المقتدر يضمن فيها القيام بجميع النفقات من غير أن يطلب منه شيئا وانّه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون فى بيت مال الخاصّة. فأنفذ المقتدر رقعته إلى الكلوذانى وقال: - «هذه رقعة فلان ولست أسومك الاستظهار بالمال وما أريد منك إلّا القيام بالنفقات فقط.» فقال الكلوذانى: - «قد يجوز أن يتمّ لهذا الرجل ما لم يتمّ لى.» وسأله تقليد من [2] ضمن هذا الضمان فأعفاه من الأمر. فلمّا وقف المقتدر على تبلّح الكلوذانى وحصل فى نفسه ما بذله الحسين بن القاسم عمل على أن يستوزره وعلم شدّة كراهية مونس المظفّر لذلك فراسله على يد مفلح بأن يجتهد فى إصلاح أعدائه فابتدأ الحسين بنى رائق فكان [3] يمضى بنفسه إلى كاتبهم إبراهيم النصراني ويضمن لهم الضمانات حتّى صلحوا له ثمّ فعل ذلك بأبى نصر الوليد بن جابر كاتب شفيع ثمّ فعل مثله باصطفن بن يعقوب كاتب مونس وقال له:   [1] . فى مط: يئس المقتدر، بدل «تبيّن للمقتدر» . [2] . فى مط: فى، بدل «من» . [3] . فى مط: فقال، بدل «فكان» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 - «إن تقلّدت الوزارة فأنت قلّدتنيها.» فأشار عليه بملازمة أبى علىّ يحيى بن عبد الله الطبري كاتب يلبق ففعل ذلك. وكان يلبق قد سمع أنّه متّهم فى دينه شرير فجمع أبو علىّ الطبري بينه وبين يلبق حتّى حلف له الحسين بكلّ يمين يحلف مسلم ومعاهد إنّه مكذوب عليه فى كلّ ما يطعن به عليه فى ديانته أوّلا ثمّ فى عداوته لمونس وخاصّته وأصحابه لا ينوي لأحد من الناس سوء ولا يأخذ الأموال إلّا من بقايا صحيحة على تجار ملاء [1] كسروا مال السلطان من أثمان الغلّات ومن ضمناء قد ربحوا ربحا عظيما. وضمن الحسين ليلبق ضياعا جليلة كذلك لكاتبه فسعى له يلبق وسأل مونسا فى أمره وسأل مونس المقتدر فتقرّرت الوزارة له وبلغ ذلك الكلوذانى فواصل الاستعفاء. واتّفق أن دخل خمسمائة فارس كانوا مقيمين بالجبل فى ماه الكوفة وحلوان وهذه نواح لم يتغلّب عليها مرداويج وكانت أرزاقهم قد تأخّرت فطالبوا الكلوذانى وأمرهم الكلوذانى بالرجوع لينفق فيهم هناك فلم يسمعوا ورجموه بالآجر وهو منصرف فى طيّاره فجعل ذلك حجّة وأغلق بابه وحلف على أنّه لا ينظر فى أعمال [354] الوزارة. فكانت مدّة وزارته شهرين وثلاثة أيّام. وزارة الحسين بن القاسم وكتب المقتدر إلى الحسين بن القاسم توقيعا بتقليد الوزارة وركب إليه وجوه الكتّاب والعمّال والقوّاد وبلغ ذلك أبا الفتح الفضل بن جعفر فصار إليه   [1] . الملاء: مفرده المليء: الغنىّ المقتدر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 مع قاضى القضاة أبى عمر محمّد بن يوسف وابنه والقاضي ابن أبى الشوارب وكتب عن المقتدر بخبر تقليده الوزارة إلى خراسان وجميع النواحي والأطراف وكان تقلّده للوزارة يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر رمضان فعدل عن الجلوس للتهنئة وتشاغل بالنظر فى أمر المال وما يحتاج إليه فى نفقة العيد ولزمه الفضل بن جعفر وهشام بن عبد الله لأنّهما كانا يتولّيان ديوان المشرق وزمامه وديوان بيت المال وأخذ خطوط عدة من العمّال [1] والضمناء بسبعين ألف دينار. وصار إليه علىّ بن عيسى آخر النهار فهنّأه وقد كان الحسين شرط لنفسه ألّا ينظر علىّ بن عيسى فى شيء من الأمور ولا يجلس للمظالم فأجيب إلى ذلك. وتبسط كاتب بنى رائق وكلّ من كان سعى له فى الوزارة فى طلب الأموال حتّى قبضوا على شذاءة وردت من الأهواز [355] فيها مال الأهواز وإصبهان وفارس. فكتب الحسين الوزير إلى المقتدر يشكو هذه الحال فلم ينكر كلّ الإنكار. فوقع الاتفاق بين الحسين وبين ابني رائق على أن يأخذوا من المال النصف ويفرجوا عن الباقي ففعلوا ذلك. وكانت دمنة جارية المقتدر حظيّة عنده وكانت توصل رقاع الحسين إلى مولاها وتقوم بأمره فحمل إليها جملة عظيمة من المال وبعث إلى ابنها وهو الأمير أبو أحمد إسحاق أيضا جملة. واستأذن المقتدر أن يستكتب له ابنه القاسم بن الحسين فأذن له فى ذلك وضمن لدمنة أن تحمل إلى ابنها [2] فى كلّ يوم مائة دينار وتدفع عن صرفه. واختصّ به بنو البريدي وأبو بكر ابن قرابة وقدّم له جملة من المال عن الضمناء بربح درهم فى كلّ دينار على رسمه. واختصّ به من القوّاد جعفر   [1] . فى مط: العلماء، بدل «العمال» . [2] . فى مط: إلى أبيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 بن ورقاء وأبو عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى وقلّده أعمال الحرب والخراج والضياع بحلوان ومرج القلعة وماه الكوفة وألبسه القباء والسيف والمنطقة وتسمّى بالأمارة وخوطب بها وضمن أن يجمع الرجال ويفتح أعمال كور [356] المشرق وينتزعها من يد مرداويج. وكان قد احتجن أموال السلطان من بقايا ضمان كانت [1] عليه فى أيّام سليمان بن الحسن لأعمال الضياع والخراج الخاصّة والعامّة وكانت جملة عظيمة. وكان تقلّد كرمان فى بعض الأوقات واستخرج من مالها شيئا كثيرا فحملها وانصرف فكتب صارفه أنّه ما أنفق منها درهما واحدا وأنفقت له أشياء تجرى هذا المجرى. وتجرّد الحسين بن القاسم لإخراج علىّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن إلى مصر والشام فراسل المقتدر علىّ بن عيسى فى ذلك ودفع عنه مونس المظفّر وقال: - «هذا شيخ يرجع إلى رأيه ويعتضد بمكانه.» إلى أن تقرّر أمره على أن يخرج إلى الصافية فخرج. وابتدأ مونس فى الاستيحاش والتنكر فى يوم السبت لثلاث خلون من ذى الحجّة. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك ما بلغه من اجتماع الوزير الحسين بن القاسم مع جماعة من القوّاد على التدبير عليه. وبلغ الحسين تنكّر مونس له وأنّه عزم على كبسه بجماعة من خواصّه   [1] . فى مط: كاتب، بدل «كانت» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 فى الليل للقبض عليه [357] فتنقّل فى مدّة عشرة أيّام فى نحو عشرة مواضع وكان لا يعرف له دار ولا موضع يلقاه فيه أحد وكان لا تلقاه أصحاب الدواوين إلّا إذا طلبهم ثمّ ختم الأمر بأن أقام فى دار الخليفة. وراسل مونس المظفّر المقتدر بالله فى صرف الحسين بن القاسم عن الوزارة فأجابه إلى صرفه والتقدّم إليه بلزوم منزله فلم يقنع مونس بذلك وطالب بالقبض عليه ونفيه إلى عمان فامتنع المقتدر من ذلك وتردّدت بينهما فيه رسائل. وأوقع الحسين بن القاسم للمقتدر أنّ مونسا قد عمل على أخذ الأمير أبى العبّاس من داره بالمخرّم والخروج به إلى مصر والشام ليعقد له الأمر فى الخلافة هناك وأشار بردّ الأمير أبى العبّاس إلى داره من دار الخلافة ففعل المقتدر ذلك. ووقف الأمير أبو العبّاس على ما فعله الحسين ابن القاسم فحقد عليه فى نفسه إلى أن أفضت إليه الخلافة فأنزل به من المكروه ما سنشرحه فى موضعه إن شاء الله. وكتب الحسين بن القاسم إلى هارون بن غريب وهو بدير [1] العاقول بعد هزيمته من بين يدي مرداويج بالمبادرة إلى الحضرة فزادت وحشة مونس بهذه الأحوال وصحّ عنده أنّ الحسين بن القاسم [358] فى تدبير عليه فخرج من داره لخمس خلون من المحرّم وجلس فى حديدي وامتدّ إلى باب الشمّاسيّة وخرج أكثر رجاله وضربوا مضاربهم هناك. وكتب مونس إلى المقتدر بأنّ مفلحا الأسود مطابق للحسين بن القاسم فى التدبير عليه وأنّ نفسه لا تسكن إلّا بإنفاذ مفلح إليه ليقلّده أجلّ الأعمال ويخرج. فكتب المقتدر بأنّ مفلحا خادم يثق به فى خدمته وأنّه ليس ممّن   [1] . وفى مط: يدبر العاقول. قال فى المراصد: بين مدائن كسرى والنعمانيّة، كان، وأمّا الآن فقد بعدت دجلة عنه وكان عنده بلد عامر وأسواق أيّام عمارة النهروان، وأظنّه من شرقىّ دجلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 يدخل نفسه فيما ظنّه به وبلغ مونسا أنّ الحسين قد جمع الرجال والغلمان الحجريّة فى دار السلطان وأنّه قد ابتدأ بالنفقة فيهم وأنّ هارون بن غريب قد قرب من بغداد فأظهر الغضب وسار إلى الموصل ووجّه ببشرى خادمه ليؤدّى رسالة إلى المقتدر. فلمّا حصل بشرى فى دار السلطان بحضرة الحسين ابن القاسم قال له الحسين: - «هات الرقعة التي معك.» فقال له: - «ليس معى رقعة وانّما معى رسالة.» قال: «فتذكرها.» فقال: «قد أمرت ألّا أذكرها إلّا للخليفة.» فوجّه الحسين إلى المقتدر بالله وعرّفه ذلك فوجّه المقتدر إلى بشرى يأمره أن يؤدّى الرسالة إلى الحسين فقال بشرى: - «حتّى أمضى وأستأذن صاحبي [359] فى ذلك وأعود.» فشتمه الحسين وشتم صاحبه وأمر به فقبض عليه وضربه بالمقارع وقال: - «لا أرفع عنك الضرب أو تكتب خطّك بثلاثمائة ألف دينار.» فكتب وأمر به إلى الحبس ثمّ وجّه للوقت إلى داره وقبض على امرأته وصادرها وحمل ما فيها. ولمّا بلغ مونسا ما جرى على خادمه بشرى امتدّ وأصعد ومعه من كان برسمه من قوّاده وأصحابه، وكتب الحسين بن القاسم إلى من كان معه من القوّاد والغلمان بالانصراف عنه والمصير إلى باب السلطان، فانصرف عنه جماعة منهم ومضى مونس فى خواصّه وغلمانه مسرعا إلى الموصل ووقّع الحسين بقبض أملاك مونس وضياعه وضياع أسبابه وأفرد لها ديوانا سمّاه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 ديوان المخالفين وردّه إلى محمّد بن جنّى [1] . وزاد محلّ الحسين بن القاسم عند المقتدر وأنفذ إليه طعاما من بين يديه وأمر بأن يكنّى ويلقّب عميد الدولة وأن يضرب لقبه على الدنانير والدراهم، ففعل ذلك وخلع عليه يوم الاثنين لأربع بقين من المحرّم وأنشأ فى ذلك كتابا نفذ إلى جميع الأعمال والأطراف. وصرف قوما وقلّد قوما فكان فيمن قلّد [360] أبو يوسف يعقوب بن محمّد البريدي وذلك بمسألته فقلّده أعمال البصرة من الخراج والضياع والمراكب وسائر وجوه الجبايات بها فضمنه ذلك بمقدار نفقات البصرة وفضل له بعده ثلاثون ألف دينار وقّع بتسبيبها على مال الأهواز. فلمّا وقف أبو الفتح الفضل بن جعفر على ذلك استعظم ألّا يفي ارتفاع البصرة بنفقاتها حتّى يحتاج إلى أن يسبّب على غيرها وتقدّم بإخراج الجماعات والحسبانات إليه وتقدّم إلى كلّ واحد من أصحاب المجالس أن يخرج إليه ما عنده من ارتفاع البصرة لثلاث سنين وأخرجت الجماعات إليه وهو ينظر فيها وفى أعمال كتّاب المجالس ويضيف من عمل إلى عمل ويعمل بيده من صلاة الغداة إلى بعد العتمة إلى أن انتظم العمل على ما أراد. ثمّ أحضر أبا يوسف البريدي وواقفه [2] عليه ولم يتهيأ له انكار شيء ممّا أخرجه فأعطاه خطّه بالقيام بجميع ما يجب للأولياء وأن يثبت لحفظ السور ألف رجل زيادة على رسم من يحفظه ومن ينضمّ إليه وسائر النفقات الراتبة ويحمل إليه بعد ذلك كلّه ستين ألف دينار إلى بيت المال [361] بالحضرة. فصار الفضل بن جعفر بالخطّ إلى الوزير الحسين بن القاسم متبجّحا به وعرضه عليه وعرّفه ما جرى بينه وبين ابن البريدي حتّى تقرّر على ما كتب   [1] . جنّى: ما فى مط مهمل تماما. [2] . واقفة: كذا فى الأصل. وفى مط: وافقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 به خطّه. فلم يقع ذلك من الحسين بن القاسم الموقع الذي قدّره الفضل وتبين منه تكرّها له وظنّ أنّه كالتوبيخ والتقريع وكالزيادة على عمله. فلمّا تبيّن الفضل الصورة راسل المقتدر بما فعله فوقع ذلك عنده أحسن موقع وشاع [1] ما عمله فى الدواوين وتناقلته الرؤساء والكتّاب بينهم. واتّصل ذلك بالحسين فغلظ عليه وأراد أن يضع منه، فواقف ابن جبير على مهاترته فى المجلس والغضّ منه ففعل ابن جبير ذلك حتّى تكلّم بما لم تجر العادة بمثله والحسين ممسك عن الجميع لا يكفّ أحدهما عن الآخر، فلمّا تبيّن أبو الفتح ذلك وعرف الغرض نهض عن المجلس وقال: - «ليس المكلّم لى أنت بل المكلّم غيرك.» فلمّا ولّى خارجا عرف الحسين الخطأ فيما جرى فقال لأبى عبد الله بن زنجى: - «إنّ أبا الفتح صديقك وهو يطيعك وما أحبّ أن يخرج على هذه الجملة فأحبّ أن تلحقه وترضيه وتردّه.» فبادر إليه أبو عبد الله وما زال يرفق به حتّى [362] ردّه واعتذر إليه الحسين من خطاب ابن جبير له. وانصرف وهو مستوحش واستتر عند أبى بكر ابن قرابة وبقي ديوانه شاغرا إلى أن يئس الحسين من ظهوره فقلّد أبا القاسم الكلوذانى الديوان ولم يزل أبو الفتح يسعى له فى طلب الوزارة حتّى تمّ له كما سنذكره. ولمّا لم يعد [2] مونس إلى بغداد وجّه الحسين إلى ابن مقلة فصادره وكان معتقلا فأعطى خطّه بمائتي ألف دينار وأنفذ إلى علىّ بن عيسى وهو بالصافية   [1] . شاع: كذا فى الأصل. وفى مط: ساغ. [2] . فى الأصل ومط: ولمّا يعد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 يستحضره وأطمع المقتدر من [1] جهته فى مائتي ألف دينار. فلمّا وصل الرسول إلى الصافية وجد بها هارون بن غريب وكان هارون شديد العناية بعلىّ بن عيسى فمنعه من حمله وقال: - «أنا أخاطب أمير المؤمنين فى أمره.» فلمّا وقف الحسين على عناية هارون بعلىّ بن عيسى أمسك عنه. ولمّا وصل هارون بن غريب إلى دار السلطان وصل إليه فى خلوة وانصرف إلى داره فقصده الوزير وابنا رائق [2] ومحمّد بن ياقوت ومفلح وشفيع وعظم أمره فخاطب المقتدر فى أمر علىّ بن عيسى فأعفاه من المصادرة وخاطبه فى أمر أبى علىّ ابن مقلة فحطّ من مصادرته خمسين ألف دينار وأمر بحمله إليه. ثمّ لم يستصوب ذلك [363] وخاف أن يكاتب مونسا أو يراسله فسأل ابن مقلة هارون أن يعاود الخطاب فى بابه ويستحلفه بأيمان مغلّظة ألّا يكاتب ولا يراسل مونسا ولا أحدا من أسبابه ففعل ذلك وحمل إليه. قال: فحدّثنا أبو علىّ ابن مقلة فى وزارته للراضى [3] أنّه أخذ فى استماحة الناس وأدّى المال كلّه بما وصل إليه من المال من الجهات وفضل له عشرون ألف دينار وأنّه اشترى بها ضياعا باسم عبد الله بن علىّ النّفّرى [4] ووقفها على الطالبيين. وكتب الحسين إلى ياقوت بالقبض على الخصيبى وحمله وكان بشيراز فبادر خليفته علىّ بن محمّد بن روح بالخبر إليه فخرج من يومه من شيراز   [1] . فى مط: فى جهته. [2] . رائق: كذا فى الأصل ومد. وفى مط: راتق وهو تصحيف، كما هو معهود من مط فى أكثر المواضع. [3] . فى مط: المراضي. [4] . فى مط: المقري، بدل «النّفّرى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 مستترا حتّى وافى بغداد واستتر عند أبى بكر ابن قرابة وكان الفضل بن جعفر مستترا عنده أيضا فلم يعلم أحدهما خبر صاحبه وقدم محمّد بن ياقوت من الأهواز وقبض على محمّد بن المعتضد بالله وعلى أبى أحمد ابن المكتفي بالله وحدرا إلى دار السلطان واعتقلا فيها ولم تقصر السيّدة فى التوسعة على محمّد بن المعتضد وفى إكرامه وأهدت إليه عدّة من الجواري. وابتدأ أمر الحسين الوزير بالاضطراب [364] ذكر السبب فى ذلك اشتدّت الإضافة فباع الحسين من الضياع نحو خمسمائة ألف دينار واستسلف من مال سنة عشرين وثلاثمائة شطره قبل افتتاحها بشهور ولم يبق له وجه حيلة لتمام نفقات سنة تسع عشرة وثلاثمائة الخراجيّة. وعرف هارون بن غريب ذلك فصدق المقتدر عنه فعزم على تقليد الخصيبى الوزارة وكتب له أمانا، فظهر فخوطب فى تقلّد الوزارة فذكر أنّه لم يبق للسلطان فى النواحي من مال سنة تسع عشرة شيء وقد بقي منها نحو ثلاثة أشهر وأنّ الحسين قد استسلف من مال سنة عشرين قطعة وافرة وأنّه لا يغرّ السلطان من نفسه فأشار عليه هارون أن يتقلّد أزمّة الدواوين من قبل المقتدر وتكون دواوين الأصول فى يد الحسين ليضبط الأموال مستأنفا فرضي الحسين بذلك وتقلّد الخصيبى دواوين الأزمّة وأجرى عليه وعلى كتّابه ألفى وسبعمائة دينار فى كلّ شهر. وخلع المقتدر على الحسين ليزول عنه الأرجاف [1] . ثمّ إنّ الحسين بن القاسم عمل أعمالا أخذ فيها [365] خطوط أصحاب الدواوين الأصول والأزمّة بصحّتها وفيها ارتفاع الأموال من النواحي وما   [1] . فى مط: الإرجاف، بدل «الإرجاف» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 يرجى حصوله منها وقدّر النفقات تقديرا متقاربا للارتفاع، فسكن بذلك قلب المقتدر فسلّم المقتدر ذلك العمل إلى الخصيبى وأمر بتتبّعه، فوجد الخصيبى الحسين بن القاسم قد احتال بأن أضاف إلى ما يقدّر حصوله من النواحي أموال نواح قد خرجت عن يد السلطان بتغلّب من تغلّب عليها مثل الديلم على أعمال الرىّ والجبل ومونس على أعمال الموصل والشام منذ أربع سنين وذلك جملة عظيمة، وأسقط من النفقات الزيادات التي زادها هو للجند والحاشية وغيرهم ولم يسقط من الأموال التي يقدّر حصولها من النواحي ارتفاع ما باع من الضياع، فعمل الخصيبى عملا عرضه على المقتدر فأمر المقتدر أن يواقف عليه الوزير [1] فاجتمع الكتّاب وأمره المقتدر بمناظرتهم فلمّا خاطبوه أخذ فى التشنيع عليهم وأنّهم سعوا به وقال: - «فى أىّ شيء غالطت السلطان؟ أليس هذه خطوط الضمناء؟» فقالوا: «معاذ الله أن يقول [366] أحد فى الوزير ذلك ولكن العمل أخرج بما اضطر الوزير أيّده الله إلى التسبيب به على مال سنة عشرين وثلاثمائة من الأموال المستحقّة فى سنة تسع عشرة وقد رفع الضمناء إلى ديوان الزمام أعمالا لما أطلقوه من مال سنة عشرين وما كانوا ضمنوا إطلاقه من مال هذه التسبيبات عند إدراك الغلّات ولهذا أحضرنا.» فقال الحسين: - «أفتعلم كم مبلغه؟» فقال: «نعم.» وأحضر عملا كان عمله بمبلغ ذلك فوجد أنّ الذي سبّب على مال السواد والأهواز وفارس لسنة عشرين وثلاثمائة قبل افتتاحها بشهور، أربعون ألف   [1] . وفى مط: الغرير، بدل «الوزير» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 ألف درهم وأنّ الذي يبقى إلى آخر سنة عشرين على الضمناء إلى افتتاح سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وعشرون ألف ألف درهم وقد كان قيل فى العمل: إنّ هذا ما لم يجر به فى قديم الدهر ولا حديثه رسم بمثله. فلمّا وقف الحسين على ذلك استعظمه وأراد أن يقطع المجلس بالمشاغبة [1] وقال: - «يكتب فى الأعمال التي عملت ما لم يعمله أحد من الوزارء قطّ ثمّ يعرض علىّ.» فقال هشام: - «هذا غلط كتب على سبيل السهور وليس ممّا يزيد فى المال ولا ينقص منه.» وضرب على تلك الحكاية وقال: - «إنّما أحضرنا لننظر فى أمر المال [367] ونصدق الوزير عنه.» فعدل إلى الخصيبى يهاتره فترك الحجّة فنهض الخصيبى عن المجلس لمّا ظهرت الحجّة على الحسين وصار مع الضمناء ومع أبى جعفر ابن شيرزاد إلى هارون بن غريب فشرحوا له ما جرى. وأعيد المجلس كهيئته [2] إلى المقتدر ثمّ شافه الخصيبى بمثله الحسين بحضرة المقتدر فانحلّ أمر الحسين وقبض عليه فكانت وزارته سبعة أشهر. وزارة أبى الفتح الفضل بن جعفر واستوزر أبو الفتح الفضل بن جعفر وخلع عليه يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر فركب فى الخلع وركب معه القوّاد وخواصّ المقتدر   [1] . فى مط: الساعية. [2] . فى مط: لهيئة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 وسلّم المقتدر الحسين بن القاسم إلى الوزير أبى الفتح الفضل بن جعفر فأجمل عشرته وقرر أمره على أربعين ألف دينار فلمّا أدّاها استأذن الوزير أبو الفتح المقتدر فى تقليد الإشراف على مصر والشام فأذن له فى ذلك. ثمّ ظهر أنّه أراد أن ينقب الموضع الذي كان فيه. وقال الخصيبى [1] : - «هذا رجل فى جنبه للسلطان مال عظيم وليس يصلح أن يخرج وأن يدبّر شيئا من الأعمال.» فتأخّر أمره وصودر أيضا ثمّ تسلّمه الوزير فبقى عنده مدّة ثمّ أبعده إلى البصرة وأقام له فى كلّ شهر خمسة آلاف درهم. مناظرة عن مرداويج وفى هذه السنة حضرت من ناظر عن مرداويج بن زيار [2] والتمس [368] أن يقاطع عن الأعمال التي غلب عليها من أعمال المشرق وتكفّل هارون بن غريب بأمره فقرّره على أن يسلّم إلى السلطان أعمال ماه الكوفة وهمذان ويقلّد باقى الأعمال ويحمل عنها مالا وكتب له العهد وأنفذ إليه اللواء ومعه خلع. المقتدر يهمّ بتقليد ابن مقلة الوزارة ثمّ إنّ المقتدر همّ بتقليد أبى على ابن مقلة الوزارة وبلغ ذلك هارون بن غريب فكره ذلك لميل أبى على إلى مونس فاجتمع مع الوزير أبى الفتح وألزما أبا عبد الله البريدي مائة ألف دينار وسلّم ابن مقلة إليه فمشى أمر الوزير أبى الفتح وحمل ابن مقلة إلى شيراز مع رشيق الأيسر.   [1] . فى مط: الحضيني، بدل «الخصيبى» . فى عدة فى مواضع. [2] . كذا فى الأصل: زيار. وفى مط: زياد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 موت أبى عمر القاضي وفيها مات أبو عمر القاضي فأغرى أبو بكر ابن قرابة بورثته إغراء شديدا وقال للمقتدر: - «ينبغي لابنه أن يحمل مائة ألف دينار فانّه من ورائها وإلّا حضر من يتقلّد قضاء القضاة ويوفّر هذا المال من جهته.» فرسم المقتدر لهارون بن الخال أن ينفذ كاتبه وللوزير أن يضمّ إليه ثقته حتّى يصيرا مع ابن قرابة إلى أبى الحسين ابن أبى عمر ويخاطبه بحضرتهما. فمضى أبو بكر ابن قرابة ومعه أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو على أحمد بن نصر البازيار. فلمّا حصلوا عند أبى الحسين القاضي وجدوا عنده عالما من الناس معزّين له فعزّوه وجلسوا وأمسكوا [369] كما يحسن أن يعمل فى المصائب. فقال ابن قرابة: - «ما لهذا حضرنا، قم يا أبا الحسين معنا حتّى نخلو.» فنهض واستوفى عليه ابن قرابة استيفاء شديدا فقال أبو الحسين: - «إنّ نعمت ونعمة والدي من أمير المؤمنين المقتدر ولست أدّخر دونه شيئا.» وسأل أن يمهل يومه حتّى يحصّل أمره ويبكّر فيصدق عنه. وكان شهر رمضان فلمّا جنّة الليل قصد أبا بكر ابن قرابة وقت الإفطار فاستأذن عليه ودخل والمائدة بين يديه فدعاه إلى الإفطار فغسل يده وسمّى وأكل ومصيبته طرية وأنّها ليومه ولكنّه ليستكفى شرّه. فلمّا انقضى الإفطار قال له: - «يا سيدي قد جئتك مستسلما إليك فدبّرنى بما تراه.» فقال له: - «قم فامض بسلام وما بك حاجة إلى أن توصيني ولا تفكّر فى أمرك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 فانّى أفصله وأعمل فيه ما يرضيك.» وكان على مائدة أبى بكر ابن قرابة أبو عبد الله وأبو يوسف ابنا البريدي. فلمّا فرغوا من الأكل قرب البريديّان من القاضي أبى الحسين كالمتوجّعين له ووصفا مشاركتهما إيّاه واستصوبا قصده أبا بكر وإفطاره معه وقالا له: - «أنت مقبل.» وعرض عليه أبو يوسف ثلاثة آلاف دينار وقال: - «إن احتجت إليها فخذها وافتد نفسك وإن أوجبت الصورة أن تستتر [370] فأنفقها فى استتارك فلن ينفذ حتّى يأتيك الفرج.» ولم يحتج أبو الحسين إلى الاستتار وتعطّف عليه المقتدر بالله وعاونه البريديون وإخوانه أحسن معاونة فقلّده قضاء القضاة فقويت نفسه ومشى أمره. ثمّ إنّ المقتدر وصف لابن قرابة الإضاقة [1] ، فقال له: - «يا أمير المؤمنين لم لا يعاونك هارون بن الخال وعنده آزاج مملوءة مالا؟» فأعاد المقتدر ذلك على ابن الخال فقال: - «يا أمير المؤمنين إن كنت أملك ما قال فلست أبخل عليك به لأنّى أسلم بسلامتك وفى جيشك أنفقه وإليك معاده، وابن قرابة معه من المال ما لا يحتاج أبدا إليه وأنا أستخرج لك منه خمسمائة ألف دينار وليس بينه وبين أمير المؤمنين الذي يجمعني وإيّاه، فلم يترك عليه وأنا أؤدّيها [2] من ماله إليك؟» فقال له:   [1] . كذا فى الأصل ومد: الإضاقة. وفى مط: الإضافة. [2] . فى مط: وأنا أورد بها، بدل: وأنا أؤدّيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 - «اذهب فتسلّمه.» فقبض عليه وجرى عليه من المكروه ما أشفى به على التلف حتّى قتل المقتدر بالله فتخلّص ولا عجب من أمر الله. وكان قد وقّع الوزير أبو الفتح بأن يعمل لابن قرابة عمل بما صار إليه من الربح فى الأموال التي قدّمها عن الضمناء وبقايا مصادرته فى أيّام عبد الله الخاقاني وما يجب عليه من الفضل فيما ابتاعه من الضياع فأخرج عليه من هذه الجهات [371] ألف ألف دينار فصحّ له من هذه الجملة تسعون ألف دينار. ثمّ شغل الوزير وهارون بورود الخبر عليهما بانحدار مونس من الموصل وكان هارون قيّده وسلّمه إلى حاجبه وعدّة من غلمانه ليخرجوه إلى واسط فقتل المقتدر فى ذلك اليوم فهرب من كان موكّلا به وبقي معه غلامان كان هو اشتراهما لابن الخال فعنيا به وصارا معه إلى فرضة جعفر وأدخلاه إلى مسجد وأحضرا حدّادا وحلّا قيوده وأطلقاه فمشى إلى منزله بسويقة غالب [1] ووهب لهما خمسمائة دينار. استشارة فى الأمر الواضح وعاقبة المستشير وحكى ثابت بن سنان فى كتابه أنّ أباه سنان بن ثابت كانت بينه وبين أبى بكر ابن قرابة مودّة فصرنا إليه لنهنّئه بخلاصه فقال لوالدي: - «يا أبا سعيد قد اجتمع لى فيك المحبّة والعقل وجودة الرأى وأريد أن أستشيرك فى أمرى.» فقال له أبى:   [1] . سويقة غالب: هي من محالّ بغداد (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 - «قل فانّى أمحضك [1] النصيحة.» فقال: «أنت تعلم أنّى كنت فى بحار من التخليط وكانت علىّ تبعات فيما كنت أدخل فيه وأقدّمه من مالي عن الضمناء لم يكن على أحد مثلها، وقد غسلت هذه النكبة وما أدّيت [2] فيها من المصادرة دون ما كنت فيه وقد حصل لى الآن ما يرتفع منه عشرون ألف دينار خالصة وحصل لى من البساتين [372] والمستغلات بعد ذلك ما ليس لأحد مثله ولى من الفرش والآلات والبلور والمخروط والصيني والجوهر والطيب والكسوة ما ليس لأحد مثله ومن الرقيق والخدم الروقة [3] والغلمان والكراع ما ليس لأحد مثله، ولى بعد ذلك كلّه ثلاثمائة ألف دينار صامت لا أحتاج إليها وبيني وبين هذا الوزير- يعنى أبا علىّ ابن مقلة وقد كان القاهر استوزره وهو بفارس- مودّة وكيدة فهل ترى لى إذا قدم أن أقتصر على لقائه فى الأوقات لعمارة الحال بيني وبينه ولا أداخله ولا أعاود ما كنت فيه أو أعاود وأرجع إلى التخليط.» فقال له والدي: - «ما رأيت أعجب من هذه المشاورة وإنّما يشاور فى المشكل من الأمر فأمّا الواضح فيستغنى فيه عن الرأى. انظر- أعزّك الله- فإن كان ذلك التخليط أثمر لك ما تحبّ فارجع إليه وإن كان إنّما أثمر ما تكره وعرضك لزوال المهجة وزوال النعمة فلا تعاوده ومع هذا فإنّ الإنسان إنّما يكدّ ويكدح ويتعرّض للمكاره ليحصل له بعض ما حصل لك فاحمد الله وتمتّع بالنعمة وقد حصل لك من الجاه ما يحرسها واربح [4] الصيانة وحسن   [1] . فى مط: أنصحك، بدل «أمحضك» . [2] . فى مط: أذنت. [3] . فى مط: والروقة. [4] . كذا فى الأصل ومد: واربح. وفى مط: وارتج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 العافية [1] .» فسمع ذلك كلّه [و] قال: - «قد علمت والله أنّك قد نصحت وبالغت ولكنّ لى نفسا مشؤومة لا تصبر [373] وسأعاود ما كنت فيه.» فقال له والدي: - «خار الله لك.» وانصرفنا فقال لى والدي: - «يا بنىّ ما رأيت قطّ أجهل من هذا الرجل ولا يموت مثله إلّا مقتولا أو فقيرا بأسوأ حال.» فكان الأمر على ما قدّر وأدّاه التخليط إلى أن قبض عليه القاهر فأزال نعمته وقبض أملاكه وهدّمت داره وأراد قتله حتّى زال أمر القاهر. ثمّ عاد أيضا إلى التخليط ومضى إلى البريديين لمّا خالفوا السلطان، ثمّ مضى إلى أبى الحسين أحمد بن بويه لمّا غلب على الأهواز، ثمّ وقع أسيرا لمّا انصرف الأمير أبو الحسين من نهر ديالى وصودر حتّى لم يبق له بقية واضطرّ إلى أن يخدم ناصر الدولة أبا محمّد ابن حمدان برزق مائة دينار فى كلّ شهر فكثرت فى عينه وكان ينفق مثلها كلّ يوم. ومات بالموصل، ونعوذ بالله من الجهل والإدبار. ودخلت سنة عشرين وثلاثمائة وفيها انحدر مونس من الموصل إلى بغداد وقتل المقتدر بالله ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك ما ذكرناه من استيحاش مونس. فلمّا تمّ له الانصراف إلى الموصل كتب الحسين بن القاسم إلى داود وسعيد ابني [374] حمدان   [1] . العاقبة: كذا فى الأصل. وفى مط: العافية، كما أثبت فى مد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 والحسن بن عبد الله بن حمدان بمحاربة مونس ودفعه عن الموصل فإنّه عاص. وكان مونس يكتب فى طريقه إلى رؤساء العرب فى ديار ربيعة بأنّ السلطان أنفذه لمحاربة بنى حمدان يريد بذلك أن يقعدهم عنهم فامتنع داود من لقاء مونس لإحسانه إليه فإنّه كان عظيما جدّا، فما زال أهله به حتّى فثؤوا [1] رأيه وقالوا له: - «نحن بعد ما غسلنا قبيح ما عمله الحسين بن حمدان ثمّ ما عمله أبو الهيجاء بالأمس نريد أن نعمل لنا حديثا ثالثا.» وما زالو به حتّى استجاب على تكرّه شديد وقال: - «يا قوم! بأىّ وجه ألقى مونسا مع إحسانه العظيم إلىّ؟» وكان يعدّدها ثم يقول: - «والله ما آمن أن يجيئني سهم عائر [2] فيقع فى هذا الموضع منّى- يعنى حلقه- فيقتلني.» قال: فو الله ما هو إلّا أن لقيه مونس حتّى أتاه السهم العائر فوقع فى موضع إصبعه فذبحه ولم يقتل غيره. وكان بنو حمدان فى ثلاثين ألفا ومونس فى ثمانمائة رجل فانهزموا وقتل داود. وكان مونس إذا قيل له: - «قد أقبل داود لمحاربتك.» يعجب ويقول:   [1] . من قولهم: فثأ القدر، أى سكّن غليانها، وقولهم: فثأ الغضب، اى سكّن حدّته. وفى مط: ثنوا، بدل «فثؤوا» . [2] . فى مط: منهم غابر، بدل «سهم عائر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 - «يا قوم يلقاني داود وفى حجري طهّر [1] ولى عليه من الحقّ ما ليس لوالده.» خروج مونس وقصده بغداد فلمّا ملك مونس أموال بنى حمدان وغلّاتهم وضياعهم [375] واستولى على أعمال الموصل خرج إليه الناس من الأولياء إرسالا وكثروا عنده فحملوه على الخروج من الموصل وقصد [2] بغداد وكان أقام بالموصل تسعة أشهر. فانحدر مونس وبلغ الجند بالحضرة ذلك فشغبوا وطالبوا بالرزق فأطلق المقتدر المال وجلس فى الجوسق وأنفق فيهم وأخرج مضربا ليه يسمّى مضرب الدم إلى باب الشمّاسيّة. ووافى مونس وأصحابه إلى باب الشمّاسيّة وكان المقتدر قد وجّه أبا العلاء سعيد بن حمدان وصافيا البصري فى خيل إلى سرّ من رأى ثمّ أنفذ أبا بكر محمّد بن ياقوت فى ألفى فارس ومعه الغلمان الحجريّة [إلى المعشوق] [3] . ثم أنفذ مونسا الورقائى على سبيل الطلائع، فلمّا قرب مونس أقبلوا يراجعون حتّى اجتمعت الجماعة بعكبرا، فلمّا قرب مونس من عكبرا انكفأت الجماعة مع محمّد بن ياقوت إلى البردان، فلمّا نزل مونس عكبرا انكفأت [4] الجماعة إلى باب الشمّاسيّة فعسكروا هناك. واضطربت الأمور وتقاعد الضمناء   [1] . فى مط: ظهر. [2] . فى مط: فصل، بدل «قصد» . [3] . ما بين المعقوفتين إضافة من مد، ولا يوجد لا فى الأصل ولا فى مط والمعشوق قصر عظيم بالجانب الغربىّ من سامرّا دون تكريت، هو الآن يسكنه الفلّاحون وغيرهم، وهو عظيم مكين، عمّره المعتمد بالله (مراصد الإطلاع) . [4] . فى مط: انكفاف، وهو تصحيف مع إسقاط سطر من «انكفأت» الأولى إلى «انكفأت» الثانية» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 والعمّال بحمل الأموال. واجتهد المقتدر بهارون أن يشخص إلى حرب مونس فتقاعد واحتجّ بأنّ معظم أصحابه ممّن انضمّ إليه من رجال مونس أو ممّن كان معه فى وقت محاربته مرداويج [376] فى المشرق أو من استأمن إليه من عسكر الديلم وقد عرف محاربتهم وأنّهم ينهزمون ولا يثبتون للحرب وليس يثق بأحد منهم لأنّه يعلم أنّهم يستأمنون ويسلّمونه ودافع بالخروج إلى أن صار أصحاب مونس بباب الشمّاسيّة بإزاء عسكر محمّد ابن ياقوت. فجاء محمّد بن ياقوت إلى الوزير الفضل بن جعفر فانحدر [1] إلى المقتدر ومعهما ابنا رائق ومفلح فشرح محمّد بن ياقوت الصورة وقال له: - «إنّ الرجال لا يقاتلون إلّا بالمال وإن أخرج استغنى عن القتال واستأمن أكثر رجال مونس ودفعت الضرورة مونسا إلى الهرب أو الاستتار.» وقال له: - «إنّ الوزير أطلق مالا لم يعمّ.» وسألوه أن يحتال مائتي ألف دينار من جهته وجهة والدته ليصرف فى المهمّ. فعرّفه أنّه لم يبق له ولا للسيّدة حيلة فى مال يطلق وتقدّم الشذاءات والطيّارات لينحدر هو وحرمه إلى واسط ويسلّم البلد إلى مونس ويكتب من واسط إلى من بالبصرة والأهواز وفارس يستنجدهم ويستحضرهم لقتال مونس ودفعه. فقال له محمّد بن ياقوت: - «اتّق الله يا أمير المؤمنين فى جماعة غلمانك وخدمك ولا تسلّم بغداد بغير حرب.»   [1] . فى مط: فانحدا، بدل «فانحدر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 وجعل يفثأه [1] عن رأيه [377] ويشير بأن يخرج بنفسه إلى المعسكر حتّى يراه الناس ويقاتلون وقال له: - «إن رآك رجال مونس وأحجموا عن محاربتك.» فقال له المقتدر: - «أنت والله رسول إبليس.» ثمّ أمر هارون على لسان الوزير الفضل بن جعفر أن يخرج ووبّخه فمضى إليه ووافقه [2] على أن يخرج يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوّال إلى دار السلطان. وركب المقتدر وهم معه وعليه البردة التي توارثها الخلفاء وبيده القضيب وبين يديه الأمير أبو علىّ بن المقتدر والأنصار ومعهم المصاحف المنشورة والقرّاء يقرأون القرآن وحوله جميع رجاله بالسلاح وخلفه جميع القوّاد مع الوزير واشتقّ بغداد إلى الشمّاسيّة وكثر دعاء الناس له جدّا وسار فى الشارع الأعظم إلى المعسكر، فلمّا وصل إليه أشير عليه أن يقوم إلى موضع عال بعيد عن موضع الحرب. واشتدّت الحرب بين أصحاب مونس وأصحاب المقتدر بالله وكان مونس مقيما بالراشديّة لم يحضر الحرب وثبت محمّد بن ياقوت وهارون بن غريب واشتبكت الحرب، وصار أبو العلاء سعيد بن حمدان إلى المقتدر بالله برسالة هارون بن غريب ومحمّد بن ياقوت بأن يحضر الحرب. وقال له: - «إنّ [378] رآك أصحاب مونس استأمنوا.» فلم يبرح من موضعه ومضى أبو العلاء ووافاه صافى البصري فقال له مثل هذا القول فلم يسمع منه.   [1] . فى مط: هناه (كذا) . [2] . فى الأصل: واقفه (بتقديم القاف) . وفى مط ومد: وافقه (بتقديم الفاء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 ثمّ حضر محمّد بن أحمد القرايطى كاتب محمّد بن ياقوت فاستدعى الوصول إلى المقتدر بالله فأوصل إليه وهو واقف على ظهر دابّته فقبّل الأرض وقال له: - «يا أمير المؤمنين، القوّاد وعبدك محمّد بن ياقوت يقول: يا مولانا أمير المؤمنين الله الله سر بنفسك إلى الموضع فإنّ الناس إذا رأوك انفلّوا.» فلم يبرح وبقي واقفا على دابّته وخلفه الوزير أبو الفتح ومفلح الأسود وجماعة من الغلمان الخاصّة. فهم على تلك الحال إذ وافت رسالة القوّاد المحاربين فتقدّم بعضها بأن ينادى بين يديه: - «من جاء بأسير فله عشرة دنانير ومن جاء برأس فله خمسة دنانير.» فنودي بذلك. ثمّ جاءته رقعة فسلّمت إليه فقرأها ثمّ استدعى مفلحا والقراريطى فسارّهما [1] ثمّ استدعى الوزير فسارّه وأجابه بشيء ما سمع به. ثمّ وردت رقعة أخرى فقرأها ثمّ وافته الرسائل علانية من القوّاد تؤدّى إليه ويسمع الناس أنّ الرجال فى الحرب يقولون: - «نريد أن نرى مولانا حتّى نرمي بأنفسنا على هؤلاء الكلاب.» ولم يزل [379] القراريطى وغيره يسهّلون عليه ويسألونه المسير حتّى سار مع مفلح ومن بقي معه. وتخلّف الفضل بن جعفر عنه وسار نحو الشطّ [2] وانكشف أصحاب المقتدر وانهزموا من قبل أن يصل المقتدر إلى موضع المعركة وكان آخر من ثبت وحارب حربا شديدا محمّد بن ياقوت واستؤسر أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد.   [1] . فى مط: فشاورهما. [2] . فى مط: النيط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 ولقى علىّ بن يلبق المقتدر وهو فى الطريق لم يصل إلى المعركة فى صحراء منبسطة، فلمّا وقعت عينه عليه ترجّل وعليه سلاحه وقال: - «مولاي أمير المؤمنين.» بربرىّ من أصحاب مونس يقتل المقتدر وقبّل الأرض ثمّ قبّل ركبته، ووافى البربر من أصحاب مونس فأحاطوا بالمقتدر وضربه رجل منهم من خلفه ضربة سقط منها إلى الأرض وقال: - «ويحكم أنا الخليفة.» فقال البربري: - «إيّاك أطلب.» وأضجعه فذبحه بالسيف. وكان معه رجل من خلفاء الحجّاب طرح نفسه عليه فذبح أيضا ووقع رأس المقتدر على سيف ثمّ على خشبة وسلب ثيابه حتّى سراويله وترك مكشوف العورة إلى أن مرّ به رجل من الأكرة فستر عورته بحشيش ثمّ حفر له فى الموضع ودفن حتى عفا أثره. [380] ونزل يلبق وعلىّ ابنه فى المضارب وأنفذ للوقت إلى دار السلطان من يحفظها وانحدر مونس من الراشديّة إلى الشمّاسيّة فبات [1] بها ومضى عبد الواحد بن المقتدر ومفلح وهارون بن غريب ومحمّد بن ياقوت وابنا رائق على الظهر إلى المدائن. فكان ما فعله مونس من ضربه وجه المقتدر بالسيف وقتله إيّاه ودخوله بغداد على تلك السبيل سببا لجرأة الأعداء وطمعهم فيما لم تكن أنفسهم تحدّثهم [2] به من الغلبة على الحضرة، وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة مذ   [1] . فى مط: مات، بدل «مات» . [2] . فى مط: تحديهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 ذلك وتفاقم حتى انتهى إلى ما نشرحه فيما بعد إن شاء الله. تبذير المقتدر وحكى ثابت حكاية فى تبذير المقتدر للأموال ما رأيت أن أثبته مشروحا لئلّا يغترّ أحد من الملوك ومدبّرى أمر المملكة بكثرة الأموال فيترك تثميره ويعدل عن التعب به إلى الراحة اليسيرة فإنّه حينئذ يتبدّد [1] ولا يلحق ويكون مثله مثل البثق الذي ينفجر بمقدار سعة الدرهم ثمّ يتّسع فلا يضبط. قال صاحب الكتاب: ولقد ووعظت أنا بذلك بعض مدبّرى الملك فأكثرت عليه فتبسّم تبسّم المدلّ بكثرة الذخائر والأموال [381] فما أتت عليه سنتان [2] حتّى رأيته فى موضع الرحمة لا ينفعه الرحمة، وسأشرح خبره وحاله إذا انتهيت إليه بمشيئة الله. [3] فأمّا المقتدر فإنّه أتلف نيّفا وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه فى موضعه وأخرجه فى وجوهه وهذا أكثر ممّا جمعه الرشيد وخلّفه. ولم يكن فى ولد العبّاس من جمع أكثر ممّا جمعه الرشيد، فإنّ القاسم بن عبيد الله قال للمعتضد وقد سأله عن مقدار ما خلّفه واحد واحد [4] من ولد العبّاس من المال: - «إنّه لم يكن فيهم من خلّف أكثر ممّا خلّفه هارون الرشيد فإنّه خلّف فى بيت المال ثمانية وأربعين ألف ألف دينار.» وهذه نسخة لما أثبته بعض كتّاب أبى الحسن ابن الفرات لمّا وزّره   [1] . يتبدّد: كذا فى الأصل ومط، والمثبت فى مد: يبتدر، خلافا للأصل. [2] . من «ولقد ووعظت» إلى قوله «سنتان» ساقط فى مط. [3] . انظر إلى حرص مسكويه على الإعتبار بالتاريخ، واستخراج تجاربه الواعظة. وإلى مستوى صلته بأعاظم زمانه. [4] . كذا فى الأصل: واحد واحد (بالتكرار) ولا تكرار فى مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 المقتدر بالله. - «بسم الله الرحمن الرحيم. الذي كان فى بيت مال [1] الخاصّة لمّا تقلّد المقتدر الخلافة أربعة عشر ألف ألف دينار، وافتتح أبو الحسن ابن الفرات أعمال فارس وكرمان سنة تسع وتسعين ومائتين فارتفع من مال الخراج والضياع العامّة والمعروف بالأمراء فى كلّ سنة ثلاثة وعشرون ألف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم، منها من مال فارس ثمانية عشر ألف ألف درهم، ومن مال كرمان خمسة آلاف ألف درهم، [382] يكون ذلك فى مدّة احدى وعشرين سنة آخرها سنة عشرين وثلاثمائة الخراجيّة بعد وضع ثمانمائة ألف درهم كانت تنكسر فى كلّ سنة من مال البقايا أربعمائة ألف ألف درهم وثلاثة وثمانين ألف درهم. «وإذا وضع من ذلك ما كان يحمله من يتغلّب [2] على فارس وكرمان إلى بيت مال العامّة بالحضرة وهو نحو أربعة آلاف ألف درهم فى السنة ومبلغه فى هذه السنين ثلاثة وثمانين ألف ألف درهم وكان الباقي بعد ذلك أربعمائة ألف ألف درهم قيمتها ثمانية وعشرون ألف ألف دينار. «ومن أموال مصر والشام فى هذه السنين زيادة على ما كان يحمل منها فى أيّام المعتضد: ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف دينار.   [1] . فى مط: المال. [2] . فى مط: معك، بدل «من يتغلّب» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 «وأخذ المقتدر من أموال علىّ بن محمّد بن الفرات فى مصادرته ومصادرات كتّابه وأسبابه: أربعة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، منها فى الدفعة الأولى: ألفى ألف وثلاثمائة ألف دينار، وفى الدفعة الثانية: ألف ألف ومائة ألف دينار، وفى الثالثة مع ما أخذ من زوجة المحسّن دولة: تسعمائة ألف دينار. «وما حصل من ارتفاع ضياع ابن الفرات الملك سوى الإقطاع والإيغار [1] فى مدّة سبع عشرة سنة مع ما انصرف فى ذلك من المبيع والمقطع والموغر للحاشية حسابا [383] فى السنة مائتي وخمسين ألف دينار: أربعة آلاف ألف ومائتي وخمسون ألف دينار. «وما صحّ ممّا أخذ لأبى عبد الله الجصّاص الجوهري دون ما كان يذكره وهو يتكثّر به من العين: ألفى ألف دينار. - «وما حصل من ضياع العبّاس بن الحسن بعد قتله فى مدّة أربع وعشرين سنة حسابا فى السنة مائة وعشرين ألف دينار: ألفى ألف وثمانمائة ألف دينار. - «وما أخذ من أموال حامد بن العبّاس وأسبابه ومع ما يرتفع من ضياعه إلى أن ردّت على ولده ألفى ألف ومائتي ألف دينار. «وما أخذ من أموال الحسين بن أحمد ومحمّد بن علىّ المادرائيين فى أيّام وزارة أبى علىّ الخاقاني ووزارات ابن   [1] . فى مط: الابعاد، بدل «الإيغار» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 الفرات الثلاث وأيّام أبى القاسم الخاقاني وأبى العبّاس الخصيبى [1] وأبى الحسن علىّ بن عيسى الثانية وأبى علىّ ابن مقلة: ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار. «وما أخذ من أموال علىّ بن عيسى وابن الحوارىّ وسائر الكتّاب ووجوه العمّال المصادرين: ألفى ألف دينار. «وما أخذ من تركة الراسبي، خمسمائة ألف دينار. «وما أخذ من تركة إبراهيم المسمعي: ثلاثمائة ألف دينار. «وما حصل من ثمن المبيع فى أيّام الوزراء وازداده الفضل بن جعفر: ثلاثة ألف ألف دينار. «وما حصل من أموال أمّ موسى [384] وأخيها وأختها وأسبابها: ألف ألف دينار. «فصار الجميع من العين: ثمانية وستين ألف ألف وأربعمائة وثلاثين ألف دينار. وضع [2] من ذلك لارتفاع ما خرج من المبيع منذ سنة سبع عشرة وثلاثمائة إلى آخر سنة عشرين وثلاثمائة حسابا فى السنة على التقريب تسعمائة ألف دينار: ثلاثة ألف آلاف وستّمائة ألف دينار.» الباقي بعد ذلك ممّا حصل فى خزانة المقتدر زائدا على ما كان يحمل إلى بيت مال الخاصّة فى أيّام المعتضد والمكتفي من أموال الضياع والخراج بالسواد والأهواز والمشرق والمغرب: أربعة وستين ألف ألف وثمانمائة وثلاثين ألف دينار.   [1] . كذا فى الأصل ومد: الخصيبى. وفى مط: الحصيني. [2] . فى مط: ومع، بدل «وضع» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 وقد كان كلّ واحد من المعتضد والمكتفي يستفضل فى كلّ سنة من سنى [1] خلافته من أموال النواحي بعد الذي يصرف فى أعطيات الرجال والغلمان والخدم والحشم وجميع النفقات الحادثة مع ما كان يحصّله فى بيت مال الخاصّة: ألف ألف دينار. وكان سبيل المقتدر أن يستفضل مثلها فيكون مبلغه فى خمسة وعشرين سنة: خمسة وعشرين ألف ألف دينار. فيكون جملة ما يجب أن يحضر فى بيت مال الخاصّة للمقتدر بالله فى هذه السنين إلى آخر سنة عشرين: [385] تسعة وثمانين ألف ألف دينار وثمانمائة ألف وثلاثين ألف دينار. خرج من ذلك ما ليس يجرى مجرى التبذير وهو ما أطلق فى البيعة ثلاث [2] دفعات وما أنفق على فتح فارس وكرمان: بضعة عشر ألف [3] ألف دينار. وبقي [4] بعد ذلك ما بذّر وأتلف: نيّف وسبعون ألف ألف دينار.» وكانت مدّة وزارة أبى الفتح الفضل بن جعفر للمقتدر خمسة أشهر وتسعة وعشرين يوما.   [1] . فى مط: من سبى. [2] . فى مط: ثلاثة. [3] . فى مط: آلاف ألف. [4] . من هنا إلى «سبعون ألف ألف دينار» ساقط فى مط. وأمثال ذلك وغيره كثيرة فى مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 خلافة القاهر بالله أبى منصور محمّد بن المعتضد سنة عشرين وثلاثمائة لمّا قتل المقتدر بالله وحمل رأسه إلى بين يدي مونس بكى وقال: - «قتلتموه والله لتقتلنّ [1] كلّنا فأقلّ ما يكون أن تظهروا بأن ذلك جرى بغير قصد منكم ولا أمر به وأن تنصبوا فى الخلافة ابنه أبا العبّاس فإنّه تربيتي وإذا جلس فى الخلافة سمحت نفس جدّته والدة المقتدر وإخوته وغلمان أبيه بإخراج المال.» فعارض هذا الرأى أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي لحينه [2] وما سبق له فى حكم الله تعالى وقال: - «بعد الكدّ استرحنا ممّن له والدة وخالة وخدم فنعود إلى تلك الحالة؟» وما زال بمونس [386] وأسبابه حتّى فثأ رأيهم [3] عن أبى العبّاس وعدل به إلى محمّد بن المعتضد بالله ليتمّ المقدار من جرى [4] قتله على يده. وحضر فائق وجه القصعة الحرمي فذكر لمونس أنّ والدة المقتدر لمّا بلغها   [1] . فى مط،: ليقتلنّ. [2] . لحينه: كذا فى الأصل ومط وهو الصحيح. وما فى مد: لحسنه. [3] . فى مط: فشاراتهم، وهو تصحيف قبيح. [4] . ضبط العبارة من الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 قتل ابنها أرادت الهرب وأنّه وكّل بها وتوثّق منها. وذكر أنّ محمّد بن المعتضد ومحمّد بن المكتفي معتقلان فى يده. فوجّه به مونس وأمره بإحضارهما وأصعد بهما إلى دار مونس بعد أن أطلق بشرى خادمه. وابتدأ مونس بخطاب محمّد بن المكتفي فامتنع من قبول الأمر وقال: - «عمّى أحقّ به.» فخاطب حينئذ محمّد بن المعتضد فاستجاب واستحلف لمونس المظفّر وليلبق ولعلىّ ابنه وليحيى بن عبد الله الطبري كاتب يلبق. فلمّا توثقوا منه بالأيمان والعهود بايعوه وبايعه من حضر من القضاة والقوّاد ولقّب: «القاهر بالله» . وكان ذلك سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوّال. وأشار مونس بأن يستوزر له علىّ بن عيسى ووصف سلامته واستقامة أموره ومذهبه ودينه فقال يلبق وابنه: - «الحال الحاضرة لا تحتمل أخلاق علىّ بن عيسى وأنّه يحتاج إلى من هو أسمح منه وأوسع أخلاقا.» فأشار بأبى علىّ ابن [387] مقلة وبأن يستخلف له إلى أن يقدم من فارس أبو القاسم الكلوذانى. فأمضى مونس ذلك وكتب إلى أبى على ابن مقلة بالإسراع، وإلى ياقوت بحمله وتعجيله. وانحدر القاهر إلى دار الخلافة وصعد الدرجة. وانحدر مونس وأسبابه إلى دورهم وصرف محمّد بن المكتفي إلى داره فى دار ابن طاهر واستحجب القاهر بالله علىّ بن يلبق واستكتب علىّ بن يلبق أبا علىّ الحسن بن هارون. ووجّه مونس المظفّر فاستقدم علىّ بن عيسى من الصافية فراسله القاهر على يد الحسن بن هارون واستدعاه فلقى مونسا ثمّ انحدر إلى القاهر فوصل إليه وخاطبه بجميل وذلك قبل ورود ابن مقلة. واستحضر مونس أبا القاسم الكلوذانى وانحدر معه إلى دار السلطان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 وأوصله إلى القاهر فعرّفه أنّه قد استوزر أبا علىّ ابن مقلة واستخلفه له إلى أن يقدم وأمره أن ينتقل [1] إلى دار مفلح ليقرب عليه إذا طلبه ففعل ولقيه أصحاب الدواوين وهنّأوه وأمر ونهى. تشاغل القاهر بالبحث عمّن استتر وتشاغل القاهر بالبحث عمّن استتر من أولاد المقتدر وحرمه وبمناظرة والدته وكانت فى علّة عظيمة من فساد مزاج وابتداء [388] استسقاء ولمّا وقفت على ما لحق ابنها من القتل وأنّه لم يدفن جزعت جزعا شديدا ولطمت رأسها ووجهها وامتنعت من المطعم والمشرب حتّى كادت تتلف ورفق بها رفقا كثيرا إلى أن اغتدت بيسير من الخبز والملح وضربت الماء. ثمّ دعاها القاهر فقررها بالرفق مرّة وبالتهديد مرّة فحلفت له على أنّه لا مال لها ولا جوهر إلّا صناديق فيها صياغات وثياب وفرش وطيب وأنّ هذه الصناديق فى دار تتصل بالدار التي كانت تسكنها من دار السلطان ووقفته على تلك الدار وتلك الصناديق وقالت: - «لو كانت عندي مال لما سلّمت ولدي للقتل.» فضربها حينئذ بيده وعلّقها بفرد رجل وأسرف فى ضربها على المواضع الغامضة من بدنها [2] ولم يرع لها إحسانها وقت اعتقال المقتدر إيّاه ولمّا أوقع بها المكروه لم يجد زيادة على ما اعترفت به طوعا. فلمّا كان مستهلّ ذى القعدة حضر يلبق وعلىّ ابنه ومعهما أبو القاسم الكلوذانى دار السلطان فأوصلهم إلى حضرته فطالبوه بحمل مال إلى مونس المظفّر لينفق فى صلة البيعة فحدّثهم بما فعله بوالدة المقتدر [389] وأنّه   [1] . فى مط: يقفل، بدل «ينتقل» . [2] . فى مط: يديها، بدل «بدنها» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 ضربها بيده مائة مقرعة ضرب التقرير على المواضع الغامضة من بدنها فما أقرّت بدرهم واحد غير ما كانت أقرّت به عفوا وقال لهم: - «هي بين أيديكم.» ثمّ أدخلهم إلى الدار التي فيها الصناديق فإذا فيها ثياب وشى وديباج رومي [1] وتسترىّ مثقّلة بالذهب وفرش أرمنىّ [2] وخزّ رقم وديباج وصناديق فيها ثياب فاخرة وصياغات يسيرة ذهب وصياغات كثيرة فضّة وطيب كثير من عود هندىّ وعنبر ومسك وكافور وتماثيل كافور [3] قيمة ذلك نحو مائة وثلاثين ألف دينار وقيمة التماثيل نحو ثلاثمائة ألف درهم فتسلّم أكثر ذلك مونس المظفّر ليباع فتركوا بعضه ليخدم به القاهر. وصودر جميع أسباب المقتدر وظهر الفضل بن جعفر فعنى به مونس ويلبق وابنه وخاطبوا فيه القاهر فقال: - «هذا كان وزير المقتدر ولا بدّ من مصادرته.» فبذل عشرين ألف دينار عاجلة فقال مونس: - «أنا أزن هذا المال عنه فإنّه ثقة عفيف كاتب ديّن.» ورسم أن يقلّد ديوان الضياع المقبوضة عن والدة المقتدر وديوان أولاد المقتدر وما قبض عنهم وعن سائر الأسباب وأكرم كل إكرام وصار إلى [390] الكلوذانى فقام له لمّا حضر ولمّا انصرف ووقّع له القاهر بجميع تلك الدواوين التي ذكرتها فتسلّم الدواوين ولم يؤثر فيها شيئا لأنّه لم يستحسن وكان بالأمس وزير المقتدر أن يتقلّد اليوم ديوان المقبوضات عن والدته وأولاده وأسبابه فاستحضر الكلوذانى هشاما وقلّده ذلك أزمّة وقلّد أبا محمّد   [1] . فى مط: ثقفىّ، بدل «رومىّ» . [2] . كذا فى الأصل ومط: أرمنىّ. والمثبت فى مد: ادمىّ، خلافا للأصل. [3] . تماثيل كافور: كذا فى الأصل ومط ومد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 المادرائى ديوان الأصول فكانت مدّة ولاية الفضل هذه الدواوين سبعة عشر يوما. وكانت مصادرة أبى بكر ابن ياقوت قد اشتهرت وأنّه لم يؤدّ منها إلّا تسعين ألف دينار فطولب بتمامها. وأخرج القاهر والدة المقتدر لتشهد على نفسها القضاة والعدول بأنّها قد حلّت وقوفها ووكّلت فى بيعها علىّ بن العبّاس النوبختي ونوظرت على ذلك فامتنعت منه وذكرت أنّها وقفته على مكّة والثغور على الضعفى [1] والمساكين ولا أستحل حلها فأمّا أملاكى الطلق فقد وكّلت علىّ بن العبّاس فى بيعها. فنهض القاضي عمر بن محمّد والشهود إلى حضرة القاهر فأشهدهم على نفسه بأنّه قد حلّ وقوفها ووكّل فى بيعها علىّ بن العبّاس النوبختي وفى بيع سوى ذلك من الضياع الخاصّة والفراتيّة والعبّاسية [391] والمستحدثة والمرتجعة وما يجرى مجراها فى سائر النواحي ووكّل أبا طالب النوبختي وإسحاق بن إسماعيل وأبا الفرج جلخت فى بيع المستغلات بالحضرة المقبوضة وما أمكنهم بيعة من فضل ما بين المعاملتين. ورأى أسباب مونس أنّه لا يتمّ البيع إلّا بأن يبتدءوا بالشراء منهم فابتاعوا أشياء بنحو خمسمائة ألف دينار. وزارة ابن مقلة وقدم أبو على ابن مقلة من شيراز فى يوم النحر وكان كتب إلى القاهر بالله ويسأله أن يجلس له فى الليل لأنّه كان اختار لنفسه أن يلقاه بطالع الجدى وفيه أحد السعدين والآخر فى وسط السماء فوصل فى الوقت الذي   [1] . الضعفى: كذا فى الأصل ومط. فى مد: الضعفاء، خلافا للأصل، وكلاهما بمعنى واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 قدّره وصادف القاهر ينتظره فلقيه وخرج من عنده وقد أعدّت له دار هارون بن المقتدر وفرشت فدخلها ووقّع فيها بتقليد قوم وخلع عليه من الغد خلع الوزارة وصار إلى مونس المظفّر فسلّم عليه وانصرف إلى داره. وحضر الناس للتهنئة وراح إليه فى آخر النهار علىّ بن عيسى فلم يقم له واستقبح الناس له ذلك وصار إليه أبو بكر ابن قرابة ووفى بوعده فى مداخلته إيّاه والعود إلى التخليط كما كنّا شرحناه من أمره. ودخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة [392] كان أبو علىّ ابن مقلة عاتبا على الكلوذانى وذاك أنّه لم يعرف خبر أحد من إخوته وولده وحرمه وأسبابه بعد تقليده خلافته ولا صار إلى داره ولا قلّد أحدا من أسبابه شيئا من الأعمال ولا تفقّد حرمه وولده بشيء، وأعظم من هذا كلّه أنّ أبا عبد الله ابن ثوابة استأذن أبا القاسم الكلوذانى فى وقت خلافته أبا علىّ فى ذكر كنيته على الكتب النافذة إلى العمّال فلم يأذن له فقبض على الكلوذانى وأسبابه وكان هذا أوّل ما وبّخه به وأخذ خطّه بمائتي ألف دينار ونقله مع كاتبه وأسبابه إلى أبى بكر ابن قرابة ثمّ قبض على جماعة من العمّال وكتّاب الدواوين وقبض على إسحاق بن إسماعيل النوبختي وعلى بنى البريدي وضمن أعمالهم من محمّد بن خلف النيرمانى بما كانت عليهم وزيادة ثلاثمائة ألف دينار وضمن أيضا أن يصادرهم على ستمائة ألف دينار وتسلّمهم وحملهم إلى داره وجميع ذلك بتوسط ابن قرابة فاعتقلهم محمّد بن خلف فى داره وفرّق بينهم. وجمع أبو على ابن مقلة لمحمّد بن خلف مع هذه الأعمال أعمال المعاون فخاف إسحاق بن إسماعيل وبنو البريدي على أنفسهم لما يعرفونه من شدّة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 إقدام محمّد بن خلف وتهوّره [1] فأمّا أبو عبد الله البريدي [393] فإنّه دارى محمّد بن خلف ورفق به وأوهمه أنّه يعمل من قبله ويقوم بمال النواحي وبالزيادة التي بذلها وأن يطيعه فى المال كلّه ويعمل بما يأمره فيه ولا يخالفه فرفّهه من بين الجماعة وأوقع بأخويه وعلّق عليهما الجرار المملوءة ودهقهما [2] فلم يذعنا بشيء وضيّق على إسحاق بن إسماعيل ولم يوقع به مكروها. وكانت بين أبى جعفر ابن شيرزاد وبين إسحاق بن إسماعيل مودّة وكيدة فخاطب أبو جعفر الوزير أبا علىّ فى لقاء إسحاق وقال: - «أحتاج أن أواقفه على ما سبّب لصاحبي هارون بن غريب عليه فى أيّام المقتدر وما أطلقه حتّى لا يحيل علىّ بما لم يطلقه.» فوجّه معه بحاجب من حجّاب الوزارة فأوصله إلى إسحاق فلمّا وقعت عين إسحاق عليه قال له: - «يا سيدي الله الله فى أمرى بادر إلى الأستاذ المظفّر ولا تفارقه حتّى يخلصني من يد هذا المجنون.» فمضى أبو جعفر إلى مونس ولم يزل يسأله حتّى دعا يلبق وأمره أن يمضى إلى أبى على ابن مقلة ويخاطبه فى أمره فإن أطلقه وإلّا انتزعه من يد محمّد بن خلف وحمله إليه. فمضى يلبق إلى ابن مقلة فخاطبه فلم يجد ابن مقلة بدّا من الاستجابة لتقريب أمر إسحاق. فحكى أبو الفرج ابن أبى هشام عن أبى سعيد ابن قديدة أنّ السبب فيما لحقهم عتب أبى بكر ابن قرابة [394] عليهم لتأخيرهم مالا كان له عليهم وهو الذي قدّمه عنهم فتقاعدوا عن الوفاء له فعاهد محمّد بن خلف يوم   [1] . كذا فى الأصل ومط: تهوّره. والمثبت فى مد: قهوره، خلافا للأصل. [2] . دهقه: ضربه. دهق الشيء: كسره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 تضمّنهم من أبى علىّ ابن مقلة بستمائة ألف دينار على أن يستوفى له من جماعتهم ما قدّمه عنهم ويردّه عليه. فلمّا حصلوا فى يد محمّد بن خلف استخرج من أبى عبد الله وأخويه عشرين ألف دينار وأنفذ قبض بعض الصيارف بدرب عون إلى أبى بكر ابن قرابة بها وجعل ذلك من دينه عليهم وجدّ بهم. واستسلم له أبو يوسف وأبو الحسين ولحقهما منه مكاره عظيمة وأطمعه أبو عبد الله إطماعا لم يصحّ ورفق به. فلمّا كان فى اليوم الثالث ركب محمّد بن خلف إلى أبى علىّ ابن مقلة فقال له أبو علىّ: - «يا أبا عبد الله غررتنا والقوم فى يدك فنفذت مخاريقهم عليك وذهبت بريحك.» فخجل محمّد واغتاظ وقال: - «قد حملت من جهتهم عشرين ألف دينار وإنّما ضمنت المال فى مدّة ثلاثة أشهر فأىّ عتب للوزير علىّ حتّى يخاطبني بهذا الخطاب البشع.» فقال الوزير: - «ما سمعت بهذا إلّا منك فإلى من سلّمت المال؟» قال:- «إلى ابن قرابة.» فدعا بابن قرابة وسأله [1] عمّا ذكر محمّد بن خلف فقال: - «أنفذ أيّها الوزير هذا الخط وو الله ما قبضت [395] ماله من الصيرفي وزعم أنّه من دين لى عليهم ولو قال إنّه من الحمل لأنهيت حاله فى الوقت وإذ قد بدا له فها هي الرقعة بارك الله له فيها.» وسلّمهما إلى محمّد بن خلف فقال محمّد:   [1] . كذا فى الأصل ومط: وسأله. والمثبت فى مد: وهنّأ له، خلافا للأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 - «ولا والله ما جعلتها من دينك وكيف يجوز أن أقدّم مالك على مال السلطان؟» فاستوحش كلّ واحد منهما من صاحبه وبلغ أبا عبد الله البريدي خبر المجلس فسرّى عنه واجتهد فى أن يكتب رقعة إلى ابن قرابة يسأله فيها المصير إليه فلم يجد دواة ولا من يحملها واتفق أن أنفذ أبو سعيد ابن قديدة غلامه أحمد ليشاهد حاله فاستأمن إليه أبو عبد الله ورغّبه فى الإصطناع والإحسان ووعده أن يغنيه إذا أوصل رقعة له إلى ابن قرابة فاستجاب له الغلام واحتال له فى جوزة جعل فيها كرسفا [1] وأحضره قلما صغيرا وقطعة من كاغذ فكاتب أبا بكر ابن قرابة وحلف له إنّه إن أخذه إليه وفّاه ماله عن آخره وخدمه أحسن خدمة. فبكر أبو بكر ابن قرابة إلى محمّد بن خلف وأظهر له أنّه قد قصده لمعاتبته حتّى استوفى المفاوضة معه. ثمّ قال له: - «أخرج ابن البريدي إلىّ فإنّه يستقيم إلى كلامي حتّى أقرر مصادرته وأعرف ما عنده [396] فى ديني.» فأخرج إليه أبا عبد الله فقال أبو عبد الله: - «أوّل إقبالى إن قلت لمحمّد بن خلف: لم يبق من السحر إلّا السرار فيتفضّل الأمير ويخلى لنا مجلسنا.» فنهض محمّد بن خلف من مجلسه وسلّمه إلىّ برقاعته وقال: - «أنا داخل إلى دار الحرم.» فتخاطبنا وجلست مجلسه وقعدت مقعده فتفاءلت وقلت: - «هذا مجلس كان لى فأنتقل إليه وقد عاد إلىّ.»   [1] . فى مط: كرفسا. والكرسف: القطن. ليقة الدواة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 فاستصلحت أبا بكر ابن قرابة ووعدني بتخليصى ووفى ومضى ففصل أمرنا وضمن الوفاء عنّا. فلمّا كان فى اليوم الثاني رضى عنّا أبو علىّ ابن مقلة واستدعاني وإخوتى فدعانا محمّد بن خلف وسكّن منّا [1] وأنفذنا إليه فلمّا أردت الخروج قلت لمحمّد ابن خلف: - «أيّها الأمير، أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل خادمك ومونس يعتنى به وسينفذ الساعة من يأخذه فدعني حتّى أستصلحه لك وأعقد بينك وبينه عهدا ويمينا.» فقال: «افعل.» فخلوت بإسحاق بن إسماعيل وقلت له: - «قد سخرت من هذا النفس [2] وأنا منصرف فعاقده واحلف له ثمّ قل له: بيننا الآن عهد ولا بدّ من صدقك ابن مقلة يبغضك ويتّهمك بأنّك تطلب الوزارة وإنّما أراد أن يستنفر لك الأعداء ويأخذ أموالنا بيدك ثمّ يحملنا على أن نتضمّنك وقد ضمنك أبو عبد الله البريدي [397] بثلاثمائة ألف دينار وحدّثنى بهذا فلا تركب أيّاما فإن كان الوزير سأل عنك فقد حماك منه الخليفة وإن طلبك فإنّما يريد أن يسلّمك إليه.» ثمّ انعطفت إلى محمّد بن خلف وقلت: - «قد فرغت من القصّة والرجل يخدم الأمير كما يريد.» وخرجنا فأعاد عليه إسحاق ما سمعه منّى فانصرف قبل العصر بعدي. فلمّا جلس محمّد بن خلف فى منزله ولم يركب إلى أبى علىّ ابن مقلة مضى أبو عبد الله البريدي إلى ابن مقلة وقال له:   [1] . كذا فى الأصل: منّا. فى مد: بنا. وفى مط: وتمكن منّا، بدل «وسكّن منّا» . [2] . فى مط: البلس، بدل «النفس» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 - «قد عرفت من دار محمّد أنّه يطلب الوزارة وأنّ رسله منبثّون إلى أسباب مونس وإلى القاهر فلا تدعه يقيم فى البلد.» وكان ابن مقلة جبانا فطلبه وكان ذلك القول الأوّل قد تقدّم إلى محمّد بن خلف، فوثب بخدم ابن مقلة وغلمانه وحاجبه وضربهم وحصّلهم فى بيت وقفل الباب عليهم وتسوّر السطوح وهرب فلم يظهر إلّا فى وزارة أبى جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله للقاهر بالله. وكان أبو عبد الله البريدي مقيما بالأهواز وعرف محمّد بن خلف من بعد أنّ الحيلة تمّت عليه، فقال لمن بلّغ أبا عبد الله البريدي: - «ظننت بك ظنّا جميلا ولم أعلم أنّك فى الحيلة علىّ وكنت قد صدقت عنك فلم أقبل.» [398] فقال أبو عبد الله البريدي لأبى علىّ الكاتب: - «اكتب إلى فائق الغلام بأن يقول لمحمّد بن خلف: هذه الحيلة يجوز أن تخفى عليك، فقد خفى مثلها على من هو أكبر منك ولكنّ أعظم من ذلك أنّه كان لنا من الموضع الذي حسبنا فيه طرق إلى دور حرمك وذهبت عليك ولم تعرفها فاحترس منها فى المستأنف.» وتوسّط أبو بكر ابن قرابة أمور الجماعة وفصلها مع ابن مقلة فوقّع ابن مقلة بإعادة ابني البريديين إلى أعمالهم فاستقامت أمورهم. ولمّا بطل ضمان محمّد بن خلف ما كان ضمنه من ضمانات البريديين وإسحاق بن إسماعيل صرف أيضا عن أعمال المعاون فى هذه النواحي وطلبه ابن مقلة وكان من وثوبه برسله وحاجبه واستتاره ما ذكرناه. ووجّه ابن مقلة إلى دار محمد بن خلف من [1] فتح الباب عن خدمه   [1] . من فتح: فى الأصل ومد: ثمّ فتح. والتصحيح من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 وغلمانه وحاجبه وانصرفوا. بين ابن مقلة وأبى الخطّاب وكان أبو علىّ ابن مقلة يعادى أبا الخطاب ابن أبى العبّاس ابن الفرات ولم يكن يجد إلى القبض عليه طريقا ديوانيّا لأنّه كان ترك التصرف عشرين سنة ولزم منزله وقنع بدخل ضيعته. وكان سبب عداوة أبى علىّ له أنّه كان استسعفه أيّام نكبته فاعتذر بالإضاقة ولم يسعفه. [399] ثمّ إنّ أبا الخطّاب طهّر أولاده فتجمّل كما يتجمّل مثله ودعا أولاد أبى علىّ ابن مقلة فشاهدوا مروّة تامّة وآلات جليلة وصياغات كثيرة وكان بعضها عارية فانصرفوا وحدّثوا أباهم الحديث وعظّموا وكثّروا وصار أبو الخطّاب ابن أبى العبّاس ابن الفرات إلى الوزير أبى علىّ ابن مقلة على رسمه يوم الموكب للسلام عليه فقبض عليه. فحكى أبو الفرج ابن أبى هشام أنّ أبا زكريا يحيى بن أبى سعيد السوسي حدّثه أنّه كان حاضرا حين قبض على أبى الخطّاب وأنّ الوزير أبا علىّ أنفذ إليه وسائط وأنّه كان فيهم وطالب بثلاثمائة ألف دينار وأنّ أبا الخطّاب قال: «بماذا يتعلّق الوزير علىّ وقد تركت التصرف منذ عشرين سنة ولمّا تصرفت كنت عفيفا سليما ما آذيت أحدا ولى على الوزير حقوق وليس يحسن به أن يتناساها مع اشتهاره بالكرم ويقبح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 بى أن أهجّنه بخطوط له عندي قبل هذه الحال الغالية [1] فقولوا له: أيّها الوزير أبو علىّ، ذكّرتك بما لو طالبتك برعايتها أو بالمجازاة على ما أسلفتك فى أوقات انحراف الزمان عنك أو سألتك ولاية أو إماحة أو إحسانا فى معاملة فى ضيعة أو إرفادا [400] وهل من الجميل ألّا أجد عندك إذا رفّهتك من هذا كلّه سلامة فى نفسي فيما قد ركبته منّى ممّا إذا صدقت نفسك خفت العقوبة من الله عزّ وجلّ ثمّ قبح الأحدوثة من الناس. - «أما ما ظننته عندي، فما الأمر كما وقع لك لأنّ هذا المال إن كان موروثا عن أبى رحمه الله فلست وارثه وحدي ولو كان لاقتسمناه ونحن عدّة فلم يكن بدّ من أن يشيع ويعرف خبره وإن ظننته من كسبي فتصرفى وما وصل إلىّ منه معروف وما خفيت عنك نزارته ومن بحضرتك من أصحاب الدواوين يشهدون لى بأنّى ما حظيت ببعض مؤونتي [2] وإن ظننته من استغلال فما استغلّه مقسوم بين الورثة وإن رجعت إليهم بالمسألة لم تجد ما يخصّنى فى زمان تصرفى إلّا بعض ما انصرف إلى مئونتي ومروّتى. - «وقد خلف الوزراء والأكابر وأولادا مثلي فى كفايتي ودوني فتعرضوا لمواقف واستشرفوا لرتب وراسلوا وروسلوا فهل رأيتنى إلّا فى طريق التسلّم وراضيا بامتداد ستر الله تعالى والزهد فى هذه الدنيا. فأىّ شيء تقول الله تبارك اسمه، ثمّ لعباده إذا   [1] . فى مط: العالية (بالعين المهملة) . [2] . كذا فى الأصل ومط: مؤونتي. وفى مد: مروءتى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 أسأت إلىّ؟» فلمّا أعيد هذا الكلام على ابن مقلة من غير جهتنا فإنّه كان [401] أنفذ من يتسمع، خجل وتبلّد وتحيّر ثمّ قال: - «هذا يدلّ علىّ بالفراتيّة وأمير المؤمنين ليس يمكّننى من رعاية حقوق أمثاله وأنا أنفذه إلى الخصيبى فإنّه أعرف بدوائه.» فقمنا وجئت إلى الخصيبى فحدّثته بما جرى فى المجلس وقلت له: - «أعيذك بالله أن تنتصب للتشرّر [1] على الناس وأن يقال: إنّ النعم تزال بك وأنت وزير ابن وزير وقد رفع الله قدرك من ذلك وأجلّك بصناعتك وعفافك وأبوّتك.» فقال: «أحسن الله جزاءك ستعلم أنّى أردّه إليه بعد أن أعذر باليسير إليه.» ثمّ إنّ أبا علىّ ابن مقلة استدعى الخصيبى وسلّمه إليه بعد أن اضطرّه إلى كتب خطّه بثلاثمائة ألف دينار يصحّحها فى مدّة عشرين يوما. فأحضر له الخصيبى صاحب الشرطة وجرّده وضربه عشر درر وخلّع تخليعا يسيرا، ثمّ ضربه بالمقارع، فأقام على أنّه لا مال له وأنّ ضياعه قد وقفها ولا يمكنه بيعها. فاستعفى الخصيبى منه وردّه إلى دار ابن مقلة فحبسه ثمّ سلّمه إلى المعروف بابن الجعفري النقيب وأحضر له غلاما من غلمان القاهر وذكر له أنّه قد أمر بضرب عنقه إن لم يؤدّ قدرا من المال. فما زال يعلّلهم إلى آخر الوقت ولم يؤدّ [402] شيئا. فلمّا حضر الوقت أحضره السيف وشدّ رأسه وعينيه. فقال له أبو الخطّاب: - «وجّهنى رحمك الله إلى القبلة.»   [1] . فى مط: للشرّ، بدل «التشرّر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 فوجّهه. ثمّ قال له: - «برفق [1] » . وتشاهد. فبادر بالخبر ابن الجعفري إلى ابن مقلة فقال ابن مقلة: - «لا يجوز أن يكون بعد هذا شيء.» وقال مونس المظفّر لابن مقلة: - «أىّ طريق على رجل لم يعمل عملا منذ آخر سنة تسع وتسعين ومائتين؟» فأخذه ابن مقلة وسلّمه إلى حاجبه وأمره أن يعتقله. فأقام فيه يومين وحضر أبو يوسف البريدي فشكا إليه ابن مقلة ما أقام عليه أبو الخطّاب من التجلّد ووسّطه بينه وبينه. فصار إليه أبو يوسف وقرّر أمره على عشرة آلاف دينار فحلف أبو الخطّاب ألّا يؤدّى منها درهما ولو قتل أو يطلق إلى منزله. فوجّه إليه ابن مقلة بخلعة من ثيابه وحمله على دابّة بمركب واستدعاه ووثب إليه حتّى كاد أن يقوم له ثمّ قال له: - «كثّر على الخليفة فى أمرك وعزيز علىّ ما لحقك فامض مصاحبا إلى منزلك.» فانصرف وأدّى المال فى مدّة عشرة أيّام وأطلق ضياعه وأملاكه. وأحضر ابن مقلة إسحاق بن إسماعيل وأخذ خطّه بأن يحمل [403] فى كل شهر من شهور الأهلّة مثل ما كان يحمله إلى المقتدر بالله لخريطته على   [1] . فى مط: ترفّق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 سبيل المرفق وهو ألفا دينار وأخذ خطّ أبى عبد الله البريدي بحمل ثلاثة آلاف دينار فى كلّ شهر على هذه السبيل وخطّ أبى يوسف وأبى الحسين أخويه بألف وخمسمائة دينار فى كلّ شهر. ذكر ما جرى فى أمر الذين هربوا من قوّاد المقتدر وما آل أمرهم إليه كتب هارون بن غريب إلى أبى جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد من واسط بأن يقطع أمره على مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له ضياعه الملك فى سائر النواحي ومستغلّاته دون الإجارات والوقوف التي كانت فى يده وعلى أن يؤدّى حقوق بيت المال على الرسوم القديمة ويرتجع إقطاعاته. وعنى به مونس المظفّر وأسبابه وكتب له القاهر أمانا وقبلت مصادرته التي بذلها وقلّد أعمال المعاون بماه الكوفة وماسبذان ومهرجانقذق. وخرج عبد الواحد بن المقتدر ومحمّد بن ياقوت الباهلي وابنا رائق وسرور ومفلح من واسط مفارقين [404] لهارون بن غريب من واسط إلى السوس وجنديسابور فأفسدوا أمر الأعمال هناك وعاثوا وخرّبوا ومدّوا أيديهم إلى التنّاء والتّجار ثمّ خرجوا على الظهر إلى سوق الأهواز. فلمّا طال مقامهم بالأهواز شخص يلبق والجيش معه نحوهم فلقيه هارون بن غريب بجرجرايا ثمّ نفذ لحرب القوم. فأمّا ما حكاه أبو الفرج ابن أبى هشام عن مشاهدة وعيان فإنّه قال: إنّ الهاربين من قوّاد المقتدر مع عبد الواحد ابنه دخلوا سوق الأهواز من طريق الطيب وما دخلوا السوس ولا جنديسابور واستبدّ محمّد بن ياقوت بالأمور على ابني رائق والجماعة. وقلّد أبا إسحاق القراريطى كاتبه النظر فاستخرج وأمر ونهى وكانت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 الأموال تنصبّ إلى ابن ياقوت ويعطى منها ابنا رائق وغيرهما ما يريد فتغيرت له القلوب واعتقدوا الخلاف عليه. وتحقق أبو عبد الله البريدي بأبى علىّ ابن مقلة. وكانت الكتب ترد عليه من الأهواز بجميع ما يجرى فأشار بأن يتلاحق أمرهم وقال: - «إنّ القوم متخاذلون وابن ياقوت مستبدّ عليهم وقلوبهم شتّى وإنّ ابني رائق صديقاه فإن أخرج إليهم جيش اختلفت كلمتهم [405] وإن تركوا قويت شوكتهم بأموال الأهواز وعقدوا لعبد الواحد الخلافة وطلبوا الحضرة.» فأنفذ أبو علىّ إبن مقلة أبا عبد الله البريدي إلى مونس حتّى شافهه بذلك كلّه فقال مونس: - «قد ترى الحيرة فى مال البيعة وقد استحقّ الناس رزقه لأنّ الحادثة المقتدر منذ ثلاثة أشهر فمن أين المال؟» فقال أبو عبد الله البريدي: - «أنا أضمنه ويسبّب علىّ وأقدّم بالحضرة ثلاثين ألف دينار وأصحّح [1] بالسوس خمسين ألف دينار وبتستر عشرين ألف دينار والباقي بالأهواز.» وأحضر صاحب ديوان الجيش وعمل جريدة لمن تجرّد مع يلبق وأجمل ما لهم فبلغ مائتي وخمسين ألف دينار فحمل أبو عبد الله الثلاثين الألف الدينار التي ضمن تعجيلها بالحضرة وخوطب القوّاد وتكاثرت العساكر مع يلبق وأبو عبد الله البريدي معه. وخرج بدر الخرشنى [2] فى الماء وكوتب أحمد بن نصر القشوري وكان يتقلّد البصرة أن يسير معه فلمّا تحصّلت الجيوش بواسط تغيّرت القلوب على محمّد بن ياقوت وتبيّن ذلك فقال للجماعة:   [1] . فى مط: أضح. [2] . فى مط: الحرشي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 - «أنا واحد منكم ولست أخالفكم فى رأى ولكنّ الوجه أن نجتمع بتستر [406] فإنّها حصينة منيعة وندبّر أمرنا بما يوفق الله عزّ وجلّ له ولا نحارب.» وواقفهم على مال يعطيهم وساروا للوقت إلى عسكر مكرم وأفرجوا عن قصبة الأهواز فعمل القراريطى بها ما لا يعمله الدمستق وفتح الدكاكين بالليل وبعث إليها البغال وحمل منها أمتعة التجّار وصادر الأسود والأبيض. ولمّا ورد الخبر بنزول يلبق السوس نفذت الجماعة إلى تستر وورد البريدىّ وسلك طريق القراريطى وزاد وما زال يحتال حتّى وفّى الخمسين الألف الدينار ثمّ وافى يلبق والجيوش جسر تستر فوجده مقطوعا وحال بينه وبين تستر دجيل. فحكى عن أبى عبد الله البريدىّ بعد ذلك أنّه قال: هممت بالتغلّب ووضعت فى نفسي الإمرة وتدبير الرجال منذ ذلك لمّا رأيت انحلال يلبق وسقوط ابن الطبري كاتبه لأنّى رأيتهما متخلّفين ساقطين. وكان الشارد قد طار وضجّ يلبق واضطرب رجاله فهمّ بالانصراف فثبّته أبو عبد الله البريدىّ وما زال يتردّد إلى القوّاد ويهزّهم ويهاديهم ويسكّنهم ويكاتب ابني رائق بالمودة ويشير عليهما بمفارقة ابن ياقوت ويذكر لهما سوء أخلاقه وشدّة عجبه وتطاوله [407] عليهما حتّى استجابا إلى تقلّد البصرة والانصراف عن تستر. فما عرف ابن ياقوت الخبر حتّى ضربا بالبوق بكرة ورحلا فلم يكن له بهما يدان لأنّه لو كاشفهما لعبر العسكر الذي بازائه إليه وقتل أو أسر. ولمّا توجّه ابنا رائق إلى البصرة استأذن مفلح وسرور فى العبور بعبد الواحد إلى يلبق وقالوا لمحمّد بن ياقوت: - «قد ضعفت نفوسنا وأنت معتصم برجالك ونحن فلا عدّة لنا ولأصحابنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 إلّا غلماننا.» فردّ الإختيار إليهم، كاتبوا وتوثّقوا لنفوسهم من يلبق وعبروا إليه وتحيّر محمّد بن ياقوت فراسل يلبق فى أن يحلف بسلامة نيّته إذا لقيه ليعبر إليه ويفاوضه ويعود إلى معسكره. فأجابه وحلف له على ذلك وعبر إليه محمّد بن ياقوت بدرّاعة بيضاء وعمامة وجمشك [1] فى رجله ومعه غلام واحد وقت العصر فقام له يلبق وتفرّدا وتطاولا حديثا ما عرف فى الوقت. واشتعلت النيران فى ثياب البريدي وتردّد دفعات إلى ابن الطبري يشير بالقبض على ابن ياقوت وراسل ابن الطبري يلبق بذلك وقال له: - «البريدي خليفة الوزير وثقة الأستاذ مونس يشير بذلك ولست أقول أنا شيئا.» فقال يلبق: - «ما كنت بالذي أخفر أمانتى [408] وأحنث فى يميني ولو ذهبت نفسي.» وحضر وقت الصلاة فقام محمّد بن ياقوت تحت الفازة فى موضع فسيح فأذّن وأقام وتقدّم للصلاة يلبق وأكثر العسكر وراءه ولمّا استتمّ المكتوبة انثنى إلى يلبق معانقا له فقام إليه وودّع كلّ واحد منهما صاحبه وعاد محمّد بن ياقوت إلى عسكره [2] وظهر السرّ وكان تعاتبهما أوّلا ثمّ تحالفا وتعاقدا واصطلحا على أن يسيرا إلى الحضرة بشروط الأمان على أن يكون بينهما فى المسير منزل فمنزل. ورحل محمّد بن ياقوت بعد ثلاثة أيّام من تستر إلى عسكر مكرم ودخل   [1] . فى مط: حمل، بدل «جمشك» بضم الجيم كما ضبط فى الأصل. أصلها الفارسي: جمشك (چمشك) ، أى الحذاء. [2] . فى مط: معسكره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 يلبق تستر فعمل بها البريدي أعظم ممّا عمل القراريطى بكثير لأنّ الناس توقّوا منه، فلمّا رأوا أصحاب السلطان أنسوا. فأتى البريدي عليهم وكبس اليهود وهم معظم التّجار وتجاوز كلّ قبيح ووفى بالمائة الألف الدينار. وسار يلبق إلى الأهواز وأهلها هاربون من محمّد بن ياقوت فسلّموا لأنّهم مضوا إلى البصرة. وابتلى بالبريدى [1] أهل عسكر مكرم وتستر. فأيسر ما عمل أن ركب إلى دور الصيارف فأخذ ما وجد من الأموال لهم ولمن يضاربهم وخسف بالسواد حتّى صحّح ليلبق مائتي ألف دينار [409] وبقيت على البريدىّ خمسون ألف دينار وعنى به ابن الطبري لأنّ البريدىّ خدمه خدمة تامّة حتّى إنّه كان يحضر أبواب البيع فى البلدان ويجلس على غاشيته ينتظر خروجه، فإذا خرج سأله أن يعطيه برشائه فإذا أعطاه قبّله وجعله فى كمّه وأشهد له بضياع ارتفاعها عشرة آلاف دينار فكان ذلك سبب عناية ابن طبرى به. وخاطب له يلبق وقال له: - «أبو عبد الله ثقة ونجعل هذه الخمسين الألف الدينار فيما يخصّ الأمير- وكان ماله فى الجملة- وقد خدم وبيّض وجه الأمير فيما خدم ودبّر وبدّد شمل هؤلاء وإنّه لأحقّ بمجلس أبى علىّ ابن مقلة منه وأنفذ فى التدبير والأمور.» فأجابه يلبق إلى ما سأل وخلّف غلاما عند البريدي يقال له ايتاخ. ورحل ابن ياقوت إلى شابرزان [2] وتبعه يلبق ودخلوا مدينة السلام. وأطلقت أملاك ابني رائق ومحمّد بن ياقوت ومفلح وسرور دون إقطاعاتهم وأطلق لعبد الواحد بعض أملاكه القديمة وأعفى هو ووالدته من المصادرة   [1] . كذا فى الأصل ومط: بالبريدى. وما فى مد: البريدىّ. [2] . شابرزان: بليدة بين السّوس والطّيب من أعمال خوزستان (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 وعادت يد ابن البريدي إلى عمالة الأهواز واستقامت الأمور وخلع القاهر على يلبق وطوّقه وسوّره [410] بطوقين وسوارين مرصّعين بالجواهر. وخرج أمر القاهر ببيع دار المخرّم التي كانت برسم الوزارة وكانت قديما لسليمان بن وهب فقطعت وبيعت من جماعة من الناس بمال عظيم لأنّ ذرعها يشتمل على أكثر من ثلاثمائة ألف ذراع وصرف ثمنها فى مال الصلة لبيعة القاهر بالله. وورد الخبر بموت تكين الخاصّة بمصر فأشار الوزير أبو علىّ ابن مقلة بإنفاذ علىّ بن عيسى إليها للإشراف عليها فابتدأ بالاستعداد للخروج، ثم صار إلى أبى علىّ ابن مقلة فى بعض العشايا وصادفه خاليا فعرّفه كبر سنه وضعف حركته ونقصان قوّته وأنّه لا يستشفع إليه بغير كرمه ولا يوسّط بينه وبينه أحدا غيره وحلف على موالاته أيمانا أكّدها وسأله إعفاءه من الشخوص وتذلل له وانكبّ على يده ليقبّلها فمنعه من ذلك وخاطبه بمعرفته بحقّه وعلمه بمكانه فأعفاه من الشخوص فانصرف علىّ بن عيسى شاكرا. وورد كتاب محمّد بن تكين يخطب مكان أبيه فأجيب إلى ذلك وحمل إليه الخلع والعهد. وكتب القاهر رقعة بخطّه إلى أبى علىّ ابن مقلة بالتكنية وبزيادة فى التشريف والرتبة وأمره [411] أن يكتب بذلك إلى الأمصار والأعمال كلّها، ففعل ذلك ثمّ حمل إليه خلعة بعد خلعة للمنادمة وحمل إليه صينية فضّة مذهّبة فيها ندّ [1] وعنبر وغالية ومسك وصينية أخرى فيها رطلية بلّور فيها شراب مطبوخ عتيق وقدح بلّور وكوز ومغسل فضّة. وشغب الجند بمصر على محمّد بن تكين فقاتلهم وهزموه [2] .   [1] . النّدّ: عود يتبخّر به (فارسية) . [2] . فى مط: وهزموا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 استيحاش مونس ويلبق وابنه وابن مقلة من القاهر وفى هذه السنة استوحش مونس المظفّر ويلبق وعلىّ ابنه والوزير أبو علىّ ابن مقلة من القاهر بالله فضيّقوا عليه وعلى أسبابه. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك انحراف الوزير أبى علىّ ابن مقلة عن محمّد بن ياقوت فمكّن فى قلب مونس المظفّر ويلبق وعلى ابنه أنّه فى تدبير عليهم مع القاهر بالله وأنّ عيسى المتطبّب يترسّل للقاهر إليه فوجّه مونس بعلىّ بن يلبق إلى دار السلطان وسأل عن عيسى فعرّف أنّه بحضرة القاهر فهجم عليه غلمان علىّ بن يلبق فوجدوه واقفا بحضرة القاهر فقبضوا عليه وأخرجوه إليه فنفاه من وقته إلى الموصل. واجتمع رأى مونس ويلبق وابنه والوزير أبى علىّ على الإيقاع بمحمّد بن ياقوت والنداء فى أصحابه [412] ألّا يقيموا ببغداد. فلمّا كان يوم الأربعاء لليلة خلت من جمادى الآخرة خرج علىّ بن يلبق فى الجيش ومعه طريف السبكرى للإيقاع بمحمّد بن ياقوت وبلغ محمّد ابن ياقوت ذلك فانكشف من معسكره من ميدان الأشنان وطلبه علىّ بن يلبق فلم يقف على خبره وذلك أنّه دخل إلى بغداد واستتر بها وتفرّق رجاله وانصرف علىّ ابن يلبق من فوره إلى دار السلطان وأوقع التشدّد على القاهر ووكّل بالدار أحمد بن زيرك وأمره أن يفتّش كلّ من يدخل ويخرج من الرجال والنساء والخدم ويفتّش كلّ ما يدخل إلى القاهر ففعل أحمد بن زيرك ما أمره به حتّى بلغ الأمر به أن فتّش لبنا حمل إلى القاهر وأدخل يده فيه لئلّا يكون فيه رقعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 ونقل علىّ بن يلبق المحبوسين فى دار السلطان إلى داره من والدة المقتدر وغيرها ومنع القاهر أرزاق حشمه وأكثر ما كان يقام له، وطالب علىّ بن يلبق القاهر أن يسلّم إليه ما بقي عنده من الفرش وأمتعة والدة المقتدر وابن الخال، فسلّم ذلك إليه وبيع وحصّل ثمنه فى بيت المال وأطلق للجند. وباع أبو علىّ ابن مقلة من الضياع وأملاك السلطان لتمام [413] الصلة للبيعة بألفي ألف وأربعمائة ألف دينار مع ما باعه الكلوذانى أيّام خلافته إيّاه قبل قدومه من شيراز. ومكثت والدة المقتدر عند والدة علىّ بن يلبق مكرّمة مرفّهة مدّة عشرة أيّام وماتت لستّ خلون من جمادى الآخرة لزيادة العلّة عليها ولما جرى عليها من مكاره القاهر فحملت إلى تربتها بالرصافة ودفنت فيها. وفيها همّ علىّ بن يلبق والحسن بن هارون كاتبه بلعن معاوية بن أبى سفيان على المنابر فاضطربت العامّة من ذلك وتقدّم علىّ بن يلبق بالقبض على البربهارى [1] رئيس الحنبليّة فنذر به وهرب وقبض على جماعة من كبار أصحابه وجعلوا فى زورق مطبق وأحدروا إلى البصرة. تدبير ابن مقلة وحيلة القاهر وفيها نفذت حيلة القاهر على مونس المظفّر وانعكس ما دبّره الوزير أبو علىّ ابن مقلة من القبض على القاهر حتّى قبض على مونس ويلبق وابنه وهرب أبو علىّ بن مقلة والحسن بن هارون. ذكر انعكاس هذا التدبير لمّا ضيّق علىّ بن يلبق على القاهر وعومل بما ذكرناه أخذ القاهر فى   [1] . فى مط: البرنهارى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 الحيلة على مونس وأصحابه وبلغه فساد نيّة طريف السبكرى وبشرى [1] ليلبق وابنه [414] ومنافستهما إيّاهما على مراتبهما الجليلة ثمّ علم أنّ مونسا ويلبق أكثر اعتمادهما إنّما هو على الساجيّة وكانا وعداهم بالموصل إذا دخلا بغداد أن يجعلاهم برسم الحجريّة وأنهما ما وفيا لهم بذلك وأنّ نيّاتهم متغيّرة لهما. فراسل القاهر الساجيّة وهزّ بهم على مونس ويلبق وضمن لهما أن ينقلهم إلى رسم الحجريّة- وكان الساجيّة يقبضون فى كلّ ستين يوما برسم المماليك، والحجريّة يقبضون فى كلّ خمسين يوما- وأن يلحقهم فى النزل والعلوفة بالحجريّة. وكان بين اختيار القهرمانة وبين أبى جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله معرفة قديمة وبينها وبين والدته مخالطة، فأشارت على القاهر بمكاتبته أن يعده بوزارته ليعاونه على التدبير على مونس وأصحابه وأشارت على محمّد بن القاسم بأن يكاتب القاهر ويصدقه عن تدبير أبى علىّ ابن مقلة وابن يلبق عليه. وكانت اختيار هذه تخرج من دار السلطان إلى دار القاهر القديمة التي فى دار ابن طاهر وتظهر أنّ خروجها فى حوائج حرم القاهر وولده، فإذا كان بالليل صارت إلى محمّد بن القاسم ولقيته. وبلغ أبا علىّ ابن مقلة أنّ القاهر قد جدّ فى التدبير عليه وعلى مونس ويلبق وابنه [415] والحسن بن هارون وحملهم على الجدّ والمبادرة إلى خلعه من الخلافة واتّفق رأيهم على تقليدها أبا أحمد ابن المكتفي بالله وواقفوا شاذمروز [2] حماة إبراهيم بن خفيف صاحب ديوان النفقات وكانت متحققة بأبى أحمد على ما دبّروه وعقدوا الأمر سرّا لأبى أحمد ابن المكتفي بالله وحلف له يلبق وابنه وأبو علىّ ابن مقلة والحسن بن هارون ثمّ كشفوا ما   [1] . فى مط: تسترى، بدل «بشرى» . [2] . فى مط: ساده مرور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 فعلوه لمونس فقال لهم مونس: - «لست أشكّ فى شرّ القاهر وقد أسرفتم فى الاستهانة وبه وأخطأتم فى تقليده الأمر فلا تعجلوا الآن وترفّقوا حتّى تؤنسوه ويأنس وينبسط إليكم ثمّ حينئذ تقبضون عليه.» فقال علىّ بن يلبق والحسن بن هارون: - «الحجبة إلينا والدار فى أيدينا وما نحتاج أن نستعين بأحد فى القبض عليه لأنّه بمنزلة طائر فى قفص.» وعملوا على معاجلته. فاتّفق أن ركب يلبق إلى الميدان فصدمه خادم له فسقط واعتلّ ولزم منزله وتمكّن علىّ بن يلبق من متابعة ابن مقلة وحسنوا الأمر عند مونس وهوّنوه عليه وعلى يلبق حتّى أذنا فيه. فلمّا كان يوم السبت سلخ رجب انصرف أبو علىّ ابن مقلة من دار السلطان واجتمع إليه كتّابه وأخوه ومن جرى عادته بمواكلته [416] وفيهم أبو بكر ابن قرابة فلمّا فرغ من طعامه التفت إلى أبى بكر ابن قرابة فقال له: - «قد وافى صديقك القرمطى إلى الكوفة فى ثلاثة آلاف راحلة ومعه صاحبه فلان ودخل الكوفة ونادى بأنّه قد آمن الرعيّة سوى أصحاب المعروف بمحمّد المتلقّب بالقاهر.» فقال ابن قرابة: - «أيّها الوزير هذا باطل لأنّ ابن بسر [1] الكوفي جارى واليوم كان عندي وقد وقعت عليه أطيار بأخبار السلامة.» فقال أبو علىّ:   [1] . كذا فى الأصل: بسر. وفى مط: بشير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 - «سبحان الله أنت وابن بسر أعرف من صاحب المعونة بالكوفة وقد سقط من عنده طائر على أبى الحسن ابن يلبق وقد جاءني سعيد بن حمدان ومعه رجل من الأعراب قد قتل نفسه وقطع عدّة من الأفراس فخبر عن معاينة ومشاهدة.» وكان ابن مقلة قد واطأ سعيد بن حمدان على ذلك. ثمّ دعا بالدواة وثلث قرطاس وكتب بخطّه إلى القاهر رقعة يقول فيها: «إنّ القرمطى الهجري المعروف بأبى طاهر قد وافى الكوفة فى ثلاثة آلاف راحلة فنزلها وسقط علىّ من عامل الخراج وعلى علىّ بن يلبق من عامل المعونة طائران بكتابين بتاريخ يومنا هذا بنزوله ونزول أصحابه بها وأنّى أنا ويلبق سترنا ذلك عن القوّاد [417] والجند وخواصّ الدولة لئلّا يذيع الخبر وتضعف قلوب الأولياء وقد اتفقت مع مونس على إخراج علىّ بن يلبق مع أكثر قوّاده وقوّاد أبيه إلى نواحي الكوفة ليدفع القرمطى عن الرحيل منها إلى بغداد وهو يخرج فى سحر غد مارّا إلى صرصر من حيث لا يضرب بباب بغداد مضربا حتّى يلحق به الرجال. وقد وجّه النقباء فى عشية يومنا وقد واقفت علىّ بن يلبق على الرواح إلى دار مولانا أمير المؤمنين ليصل إليه ويودّعه وعملت على التأخّر لئلّا يشيع الخبر بحضوري فى غير وقت حضور مثلي الدار ويفسد التدبير فى خروج علىّ بن يلبق بكرة غد، وأنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين ليقف عليه ويسكن إلى ما دبّرته وينعم بإيصال علىّ بن يلبق إذا حضر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 العشيّة إن شاء الله.» وأنفذ الرقعة ونام. فكتب القاهر فى جوابها: - «وإنّه استصوب فعله وبأنّه يوصل ابن يلبق إذا حضر.» ولمّا انتبه ابن مقلة من النوم لم ينتظر ورود جواب رقعته إلى القاهر وأعاد إليه رقعة ثانية بمثل ما كتب به. فلمّا وصلت الثانية إلى القاهر ولم تكن الحال تقتضيها لنفوذ جوابه عن الأولى استراب وخاف أن تكون حيلة عليه. ثمّ نمّ إليه [418] الخبر من جهة طريف السبكرى بما عمل عليه علىّ بن يلبق من القبض عليه إذا أوصله إليه فأخذ القاهر حذره وراسل الساجيّة بالحضور وعرّفهم أنّ علىّ بن يلبق يحضر لحيلة يوقعها، فحضروا متفرّقين. فلمّا كان بعد العصر حضر علىّ بن يلبق وفى رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف فى طيّاره، وأنفذ جماعة من غلمانه بسلاح إلى دار السلطان وصعد من طيّاره فى الروشن وراسل القاهر يسأله إيصاله إليه فدافعه القاهر إلى أن حضر الساجيّة كلّهم بالسلاح فبرزوا إليه وشتموه وعملوا على القبض عليه وحامى عنه غلمانه وحاجبه ابن خندقوقى [1] وحالوا بينه وبينهم ونادى بهم وطرح نفسه من الروشن إلى الطيّار وعبر واستتر من ليلته. وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر من ليلته واستتر الحسن بن هارون وأبو بكر ابن قرابة وانحدر يلبق إلى دار السلطان وانحدر بانحداره جميع من حضر دار مونس من القوّاد وقدّر يلبق أنّه يمسح القاهر ويعتذر لابنه فلمّا حصل   [1] . ما فى مط مهمل تماما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 فى الدار قبض عليه وحبس وقبض على أحمد بن زيرك وعلى يمن الأعور [1] صاحب الشرطة وحصل الجيش [419] كلّه فى دار السلطان. فراسل حينئذ القاهر مونسا وسأله الانحدار إليه ليشاوره فيما يعمل وقال له: - «أنت عندي كالوالد وما أحبّ أن أعمل شيئا ولا أمضى عزما إلّا عن رأيك.» فاعتذر مونس بثقل الحركة عليه وألحّ القاهر فى طلبه وسأله الحمل على نفسه فاستقبح له طريف السبكرى التأخّر وحمله على الانحدار. فلمّا حصل فى الدار قبض [2] عليه وحبس. فكانت وزارة علىّ ابن مقلة للقاهر تسعة أشهر وثلاثة أيّام. وزارة أبى جعفر محمّد بن القاسم ووجّه القاهر إلى أبى جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله فاستحضره يوم الأحد مستهلّ شعبان فلقّبه وقلّده وزارته ودواوينه وخلع عليه من غد وهو يوم الإثنين خلع الوزارة، ووجّه القاهر من يومه بمن استقدم عيسى المتطبب من الموصل وطرحت النار فى دار أبى علىّ ابن مقلة بباب البستان وأحرقت ووقع النهب ببغداد. وظهر محمّد بن ياقوت وصار إلى دار السلطان وخدم فى الحجبة يومه ذاك ثمّ وقف على كراهية طريف السبكرى والساجيّة والحجريّة فاحتال إلى أن تمّ له الهرب واستتر وانحدر إلى أبيه وهو بفارس [420] فلم يتجاوز كورة أرّجان ولا لقى أباه.   [1] . فى مط: ابن الأعور، بدل «يمن الأعور» . [2] . فى مط: قنص، بدل «قبض» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وكان جلس فى الماء بزىّ أصحاب المحابر [1] وركب البحر ووافى مهروبان وجاء ليلا إلى أرّجان فنزل على أبى العبّاس ابن دينار وحمل إليه أبوه مالا وكسوة ودوابّ وكانت له على فارس تسبيبات فاستوفاها ولحق به رجاله، وكاتبه القاهر بما يسكّته منه وأعلمه أنّه عجّل على نفسه واستوحش وقلّده المعاون بكور الأهواز فأقام بارجان حتّى اعتلّ وكان يفسد مزاجه ثمّ انتقل إلى رامهرمز. وكان القاهر قد كاتب مرداويج بالإفراج عن إصبهان ليقلّده الرىّ والجبل ويصير فى جملة الأولياء ويزول عنه العصيان فأتمر [2] له، وكاتب وشمكير بالانصراف عن إصبهان فانصرف وبقيت شاغرة سبعة عشر يوما خالية من مدبّر. وكاتب القاهر محمّد ابن ياقوت بتقليده إصبهان وأمره أن يسير إليها وكان ذلك بعقب هزيمة المظفّر بن ياقوت وبعد انصراف علىّ بن بويه من إصبهان. فأخذ محمّد بن ياقوت فى التأهّب فبقى هو كذلك إذ ورد عليه الخبر بخلع القاهر فانتكث أمره. ولمّا استتر علىّ بن يلبق وهرب محمّد بن ياقوت استحجب القاهر سلامة الطولونى وطلب المستترين وقلّد أبا العبّاس أحمد بن [421] خاقان الشرطة ببغداد وطلب أبا أحمد ابن المكتفي فوجده مستترا فى دار عبد الله بن الفتح فقبض عليه وتقدّم القاهر بأن يقام فى فتح باب ويسدّ عليه بالجصّ والآجرّ وهو حىّ، ففعل، وأمر بنهب دور بنى مقلة ودار الحسن بن هارون ودار أبى بكر ابن قرابة. ووجد علىّ بن يلبق مستترا بقرب باب المقبرة وكبس وأخذ من تنور كان دخله لمّا أحسّ بالكابس وأطبق على نفسه بغطاء التنور وقد كان خفى أمره   [1] . فى مط: المخاور. [2] . فأتمر: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: فأتمّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 وخرج من كان يفتّش عنه حين لم يجده. فاتّفق أن تأخّر بعض الرجال لطلب شيء يأخذه من الدار فانتهى إلى التنور وطلب فيه خبزا يابسا، فلمّا كشفه وجد علىّ بن يلبق فصاح حتّى رجع القوم وأخذوه وحملوه إلى دار السلطان وضرب بحضرة القاهر ضربا مبرحا فأقرّ بعشرة آلاف دينار فوجدت وصحّحت فى بيت المال ثمّ أعيد الضرب عليه فلم يوجد له غيرها وحبس. وكان الحسين بن عبيد الله مستترا فراسله أخوه الوزير محمّد ابن القاسم بن عبيد الله وسأله أن يظهر ويعينه حتّى يقلّده ديوان السواد وديوان الجيش وديوان النفقات ويستخلف له الكلوذانى وإبراهيم بن خفيف وعثمان بن سعيد [422] وحلف له بحضرة السفير الذي كان بينهما بالله العظيم وبسائر أيمان البيعة بعتق مماليكه وبطلاق نسائه على صحّة ضميره له وبأنّ باطنه له مثل ظاهره فيما بذله له، وكتب له بذلك رقعة بخطّة أشهد فيها الله على نفسه وتسلّم ذلك السفير وحمله إلى الحسين فأعاد عليه ما جرى ولم يزل محمّد يتوقّع أخاه إلى آخر النهار. فحكى ابن أخيه القاسم بن الحسين أنّ عمّه الوزير أبا جعفر صار فى الليلة إلى الحسين أخيه وليس معه غلام فخاطبه فى الظهور وسأله معاونته بنفسه وأعاد عليه تلك الأيمان حتّى وعده بالرواح إليه وعرّف الحسين أصحابه فاجتمعوا بالعشىّ له وركبوا بركوبه وصار إلى أخيه وكان الوزير أخوه قد أعدّ له زورقا مطبقا. فلمّا حصل عنده أمر بتحصيله فى الزورق. فوقفت [1] والدته على خبره فجاءت حتّى وقفت له على شاطئ دجلة فى الموضع الذي ينزل منه إلى طيّارة وهناك خلق من الناس، فاستغاثت إليه وكشفت شعرها بين يديه وأظهرت ثديها [2] وحلّفته بكلّ حقّ لها عليه أن   [1] . فى مط: فوثقت. [2] . فى مط: وأظهرت بدنها، بدل «وأظهرت ثديها» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 يطلق ابنها، فلم يلتفت إليها ولا يفكر فيها وجلس فى طيّاره وانحدر إلى دار السلطان فلم يبق أحد ممّن حضر [423] إلّا استقبح فعله ودعا عليه وذهب. فحكى للقاهر أنّه إنّما طلب أخاه الحسين ونفاه إلى الرقّة لما كان يعتقد من مذهب إبن أبى العزاقر [1] وأنّه خاف منه على الدولة. فوكّل القاهر بدور بنى بسطام لما كان يذكر عنهما فى اعتقادهما لدين ابن أبى العزاقر. ذكر مقتل مونس ويلبق وعلىّ ابنه اضطرب رجال مونس ويلبق وشغبوا وشغب معهم سائر الجيش وخرجوا إلى الصحراء ثمّ قصدوا دار الوزير أبى جعفر محمّد بن القاسم وأحرقوا روشنه ونادوا بذكر مونس فكان ذلك سبب القتل لمونس. ودخل القاهر إلى الموضع الذي كان فيه مونس ويلبق وابنه معتقلين فذبح علىّ بن يلبق بحضرته ووجّه برأسه إلى أبيه [2] . فلمّا رءاه جزع وبكى بكاء عظيما ثمّ ذبح يلبق ووجّه برأسه ورأس أبيه إلى مونس. فلمّا رءاهما لعن قاتلهما فأمر به فجرّ برجله إلى البالوعة وذبح كما يذبح الشاة والقاهر يراه وأخرجت الرؤوس الثلاثة فى ثلاث طسّات [3] إلى الميدان حتّى شاهدها الناس وطيف برأس علىّ بن يلبق فى جانبي بغداد ثمّ ردّ إلى دار السلطان وجعل مع سائر الرؤوس فى خزانة الرؤوس [424] على الرسم. قال ثابت: فحدّثنا سلامة الطولونى الحاجب أنّه لمّا أخرج إليه رأس مونس ليصلحه فرّغ الدماغ منه ووزنه فكان ستّة أرطال وسمعت أنا ذلك من   [1] . فى مط: أبى العوافر، بدل «أبى العزاقر» . [2] . فى مط: ابنه. [3] . فى مط: طاسات. والطسّ: الطشت. أصلها الفارسي: تشت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 الجفنى [1] وكان حاضره. وممّا جرى فى ذلك أنّه كبس جماعة من الفرسان والرجّالة أبا بكر ابن نباته العدل الدقاق فى درب الريحان وأظهروا أنّ السلطان وجّه بهم لطلب الحسن بن هارون وأخذوا من منزله ثلاثين ألف دينار وطرحوا منديلا على رأس واحد منهم وأخرجوه وأظهروا أنّه الحسن بن هارون. فركب أحمد بن خاقان فى طلب القوم فظفر بواحد منهم وقرّره فأقرّ على جماعة ظفر ببعضهم ووجد اليسير من المال وقتل من وجد من هؤلاء الكبّاسين. القاهر يأمر بتحريم القيان والخمر وفيها خرج أمر القاهر بتحريم القيان والخمر وسائر الأنبذة وقبض على من عرف بالغناء من الرجال والمخانيث والجواري المغنّيات فنفى بعضهم إلى البصرة وبعضهم إلى الكوفة وبيع الجواري على أنهنّ سواذج. وكان القاهر مع ذلك مولعا بشرب الخمر ولا يكاد يصحو من السكر ويسمع الغناء ويختار من جواري القيان من يريد. وسعى بأبى عبد الله ابن مقلة [425] فوجد وقبض عليه ووجد عنده خطوط أخيه أبى على فى رقاع، فحمل إلى دار الوزير أبى جعفر فسأله عمّن كان يوصل إليه الرقاع فذكر أنّ أبا عبد الله محمّد بن عبدوس الجهشيارى كان ينفذها إليه فقبض عليه وعلى أخيه وسئلا عمّا يعرفان من خبر أبى علىّ بن مقلة، فحلفا أنّهما لا يعرفان له خبرا منذ استتر وعرّف القاهر أنّهما من قوّاد السلطان وسهّل أمرهما فأطلقا ولم يستترا وكانا يركبان فى أيّام المواكب إلى دار السلطان.   [1] . فى مط: الجهني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 وقبض الوزير أبو جعفر على أبى جعفر محمّد بن شيرزاد واحتجّ عليه بأنّه قد تقلّد أعمالا جليلة وابتاع من المبيع ضياعا كثيرة وأنّ ارتفاعه قد بلغ ألف ألف درهم فى السنة، فتوسّط بينه وبينه إسحاق بن إسماعيل وأخذ خطّه بعشرين ألف دينار وأطلق إلى منزله من يومه. ذكر السبب فى تقليد أبى العبّاس الخصيبى الوزارة كان بنو البريدي بعد استتار ابن مقلة والجماعة استتروا فقلّد الوزير مكانهم على أعمالهم أبا جعفر محمّد بن القاسم الكرخي فتوسّط إسحاق بن إسماعيل أمرهم فأخذ لهم [426] أمانا من الوزير حتّى ظهروا. ثمّ أشار إسحاق على الوزير أبى جعفر بأن يخاطب القاهر فى أمر بنى البريدي ويعرّفه أنّ الوجه ردّهم إلى ضمانهم بالبصرة والأهواز، فقبل الوزير مشورته وخاطب الخليفة وعرّفه أنّه ذامّ لمحمّد بن القاسم الكرخي لتقصيره فى أمر استخراج الأموال وحملها وأنّ البريديّين أقوم بذلك، وأطمعه فى أن يزداد عليهم فى مقدار مال الضمان فوعده القاهر وقال: - «حتّى أنظر فى ذلك.» واستدعى القاهر عيسى المتطبّب وأعاد عليه ما جرى، وكان عيسى كارها للوزير محمّد بن القاسم لأنّه لم يكن له مدخل فى تقليده الوزارة لغيبته بالموصل فطعن على هذا الرأى وعلى الوزير أبى جعفر وأشار بتقليد الخصيبى الوزارة. فأمر القاهر بلقاء الخصيبى ومسألته عمّا عنده فى أمر البريديين وغيرهم، فصار إليه وتقرر الأمر معه وضمن استخراج أموال جليلة. وكتب إلى القاهر على يد عيسى أنّه متى ظهر أنّه تقلّد الوزارة استتر من عنده الأموال التي وعد باستخراجها وأنّ الوجه أن يتقدّم إلى الوزير بالقبض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 على جماعة سمّاهم على مهل، فإذا قبض عليهم وجّه القاهر فحملهم إلى داره وانتزعهم من يد الوزير فتركهم معتقلين أيّاما ثمّ قبض على الوزير محمّد بن القاسم. ففعل القاهر ذلك [427] وتقدّم إلى سابور الخادم بالمصير إلى دار الوزير والقبض على بنى البريدي وإسحاق بن إسماعيل. فوجّه سابور بثقة له إلى دار الوزير لينظر هل يجد فيها بنى البريدي وإسحاق بن إسماعيل فيرجع إليه بالخبر. وكان بنو البريدي قد نصبوا أصحاب أخبار على سابور وسلامة وأصحاب القاهر فبلغهم ما تقدّم به سابور إلى الرجل الذي وجّه به يتعرّف أخبارهم فاستتروا. وكان سابور قد قال لثقاته: - «إنّ الخليفة أمرنى بتفتيش دار إسحاق لأنّه قد بلغه أنّ جواريه قد سترن جماعة من جواري القيان.» وأمرهم أن يستعدّوا للركوب معه فبلغ الخبر إسحاق من وقته ولم يقع له أنّ ذلك لمكروه يراد به فقال لجواريه: - «إن صار إليكم سابور بطلب المغنّيات فلا تمنعوه ودعوه يفتّش.» وانحدر هو إلى دار الوزير وصار سابور إلى دار الوزير أبى جعفر فوجد إسحاق بحضرته فقبض عليه وحمله إلى دار السجّان [1] . ووجّه القاهر بمن كبس دور البريديين فلم يوجدوا وكبست دور إسحاق فى النوبختيّة وعلى شاطئ دجلة وتهارب حرمه وولده وسلموا وقبض على أحمد بن علىّ الكوفي كاتبه. واستحضر القاهر علىّ بن عيسى وعرّفه أنه ليس [428] لوزيره نظر فى أعمال واسط وسقى الفرات وكانت فى ضمان إسحاق وقلّده هذه الأعمال   [1] . فى مط: السلطان، بدل «السجّان» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 واعتمد فى تدبير المعاون فيها عليه ووقّع [1] له بخطّه فتقلّده علىّ بن عيسى. وورد الخبر بموت أبى علىّ أحمد بن محمّد بن رستم بإصبهان وأنّ المظفّر بن ياقوت مدّ يده إلى ماله ودوابّه فحازها لنفسه. وكان المظفّر إليه أعمال المعاون بإصبهان فتنكّر القاهر له ولأبيه ولأخيه. وسعى بأبى يوسف البريدي فكبس عليه وأخذ وحمل إلى دار الوزير محمّد بن القاسم فأجمل عشرته وكتب القاهر إلى الوزير بأن يقرّر معه مصادرته ومصادرة أخويه فأحضره الوزير وخاطبه وسامه أن يقرّر الأمر معه فى مصادرتهم فقال له أبو يوسف: - «إذا وثقنا بأنّ الأمر لك وأنّك مقرّ على الوزارة فقرّرنا الأمر معك فأمّا ونحن نتحقق أنّ الوزارة لغيرك فلا يجوز فصل الأمر معك.» فلمّا كان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من ذى القعدة انكسف القمر وقبض القاهر على الوزير محمّد بن القاسم وأنفذ إليه سابور الخادم فأخذه وأخذ من وجد فى داره وفيهم أبو يوسف البريدي وغيره فنقلهم إلى دار السلطان. فكانت [429] مدّة وزارة أبى جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان للقاهر ثلاثة أشهر واثنى عشر يوما. إحضار للوزارة أو للحبس ووجّه القاهر إلى إسحاق بن علىّ القنّاى [2] وأحضره وأحضر معه عبد الوهّاب بن عبد الله الخاقاني على أن يقلّد أحدهما الوزارة والآخر   [1] . فى مط: وقطع له. [2] . القنّاى: كذا فى الأصل ومط. وفى مد: القنّائى. وجاء فى الفهارس الملحقة بصورة الأصل. القنّائى، بإرجاعه إلى عدة صفحات من الأصل، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 الدواوين. فلمّا حضرا قبّل القوّاد أيديهما وجلس بين أيديهما سلامة الحاجب فلم يلبث أن خرجت رسالة القاهر بالقبض عليهما وإدخالهما الحبوس [1] الغامضة. ثمّ وجّه القاهر إلى سليمان بن الحسن واستحضره للوزارة وحضر فى طيّاره وتلقّاه القوّاد والناس وقبّلوا يده وجلس الأستاذون بين يديه فى دار السلطان ووجّه القاهر من قبض عليه وأدخله الحبوس الغامضة ووجّه إلى الفضل بن جعفر للوزارة وقد ظهر ما عمله بالخاقانى وبسليمان فاستتر الفضل ولم يتقرّر الوزارة لأحد فى ذلك اليوم. وزارة الخصيبى فلمّا كان من الغد تقدّم القاهر إلى عيسى المتطبّب أن يحضر الخصيبى يوم الخميس ويأمره بالتأهّب للوزارة وأن يحضر بسواد وسيف ومنطقة فراسله عيسى بذلك فحضر كما رسم له وخلع عليه خلع الوزارة وركب فيها إلى داره ولقيه الناس فهنّئوه [430] ونظر فى الدواوين وقلّدها من استصلحه ونصب ديوانا للمبيع وأحضر الناس وناظرهم وألزمهم لفضل ما بين المعاملتين خمسين ألف دينار وكتب لهم شروطا ووقّع لهم فيها بالإمضاء وصادر الناس وقبض على خلق. وتوسّط عيسى وسلامة الحاجب أمر البريديين بعد مكاره عظيمة لحقت أبا يوسف على اثنى عشر ألف ألف درهم وكتبت الأمانات لأحمد وعلىّ ابني البريدي بخطّ الخليفة والوزير وأشهدا القضاة والعدول فيها على أنفسهما فظهرا. فحكى أبو زكريا السوسي وأبو سعيد ابن قديدة أنّ أبا عبد الله البريدي   [1] . فى مط: الجيوش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 حضر عند أبى العبّاس الخصيبى بطيلسان وعمامة وخفّ وهما معه فاستخلاه المجلس فأخلاه له فعاتبه عتابا طويلا وذكّره بحقوق كثيرة وضروب من الخدمة خدمه بها فى أوقات مختلفة عند نكبات كانت للخصيبى وقال له فى آخر كلامه: - «إنّما أعددتك بجميع هذا للدنيا لا للآخرة وأنت معذور فى أمر المال لأنّك تزعم أنّه بأمر الخليفة وطاعته واجبه وفى ضربك أبا يوسف لأنّه تماتن [1] عليك لم ذكرت أمّ أبى يوسف وهي أمّى ولم استحسنت قذفها [2] أما استحققت عليك بجميع [431] حقوقي هذه أن تصونها عن الذكر بالقبيح لأجلى؟» فخجل الخصيبى وقال: - «صدقت، كان يجب أن أفعل ذلك ولكن لم أضبط نفسي عند الغيظ وأنا معتذر إليك ودع ما مضى. الخليفة مقيم على أنّه لا بدّ من ألف ألف دينار وقد وصفتك لأمير المؤمنين وقلت: أبو يوسف حرج الصدر وأبو عبد الله أخوه رحب الصدر ولا يخالف أمير المؤمنين ولولا ذلك لنقل أبا يوسف إليه ولما أمنت عليه فأحبّ أن تكفيني أمركما فحسبي حيائى ممّا مضى واكتب خطّك بزيادة ألفى ألف درهم.» فقال أبو عبد الله: - «لقد أغنيتنى أيّها الوزير وما قصّرت وأحسنت العذر والتلافي.» فقال له: - «بحياتى لمّا كتبت.»   [1] . كذا فى الأصل: تماتن. وفى مط: تماهن. [2] . فى مط: قبضها، بدل «قذفها» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 فقال: «أكتب وأنا آمن أيّها الوزير ممّا أقول والله ما أملك ولا إخوانى هذا المال فإن عطف الله بقلب الخليفة وقلبك علينا تصرّفنا وأدّينا وإن حرمنا ذلك استدفعنا القتل إلى مدّة فإنّ الله قد أجرى عادتنا بالكفاية ونحن نرجو تفضّله.» فقال الخصيبى ولم يكن فى المجلس إلّا أبو زكريا وابن قديدة مستخرج الخصيبى: - «يا أبا عبد الله وقد قسمت ووفيت الرأى [حقّه] [1] » وضحك وأخذ خطّه بألفي ألف درهم زيادة وانصرف. [432] وكان أبو عبد الله البريدي قد تحقق بأبى بكر محمّد بن رائق وتناهى أبو بكر فى إكرامه وواقفه أبو بكر على أن يتنجّز تسبيباته وتسبيبات رجاله على الأهواز ويخرج إليها ويتغلّب عليها. وشخص هو عن البصرة لئلّا يتمّ هذا الرأى بمقامه عنده فينسب إليه فلمّا وافى واسطا وجد بها أبا الحسن علىّ بن عيسى وقد عمر واسطا فعقدها عليه القاهر- لأنّه كان من قبله لا من قبل الوزير- بثلاثة عشر ألف ألف درهم. وأشهد على أبى عبد الله البريدي بالضمان واستخلف أبو عبد الله أبا الحسن محمّد بن حمد بن حمدون الواسطي وأقام مدّة خمسين يوما بالنعمانيّة ينظر فى أعمال الموفقى ثمّ مضى إلى بغداد وركب يوما هو وأخوه إلى سوق الثلاثاء ينتظرون خروج الخصيبى فراسله عيسى المتطبّب بأنّ القاهر قد عزم على القبض عليهم فانحطّوا عن دوابّهم وغيّروا زيّهم واستتروا فما ظهروا حتّى خلع القاهر من الخلافة وتقلّدها الراضي بالله.   [1] . ما بين المعقوفتين زدناه من مط، مكان بياض كان هنا فى الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 ظهور علىّ بن بويه وفى يوم الاثنين لأربع خلون من ذى الحجّة من هذه السنة ورد كتاب علىّ بن خلف بن طناب إلى الخصيبى يذكر فيه مصير رجل من وجوه قوّاد الديلم الذين كانوا مع مرداويج إلى نواحي أرّجان يقال له علىّ بن بويه [433] وأنّ هذا الرجل كان ضامنا لنواحى ماه البصرة فانكسر عليه مال لمرداويج ففزع منه وعصى عليه وصار فى أربعمائة من الديلم إلى أرّجان [1] وتغلّب عليها. ذكر السبب فى ظهور علىّ بن بويه والاتّفاقات التي اتّفقت له حتّى ملك ما ملك كان أبو الحسن على بن بويه وأخوه أبو علىّ الحسن بن بويه من قوّاد ما كان بن كاكى ولم يزل الحال بين ما كان وبين مرداويج جميلا منذ اتفقا على قصد أسفار بن شيرويه وانصرافه عن قلعة سميران بالطرم وكانا يتهاديان ويتلاطفان إلى أن قتل مرداويج أسفار كما كتبنا أخبارهما فيما تقدّم وملك نواحي الرىّ والجبل واستعلى أمره وقوى بالمال والرجال. وقصد ما كان نواحي آمل وطبرستان فملكها وامتدّ إلى نيسابور عند انصراف نصر بن أحمد صاحب خراسان عنها واشتغاله بأخويه الخارجين عليه. فلمّا فرغ من استصلاح خراسان عاد إلى نيسابور وراسل ما كان يسأله أن يعود إلى مكانه وأن يفرج عن نيسابور ويلطف له ويستبقى الحال بينهما. ففعل ما كان ذلك وعاد إلى جرجان وطبرستان.   [1] . أرّجان، أو أرغان كما يسمّيها العجم، مدينة كبيرة كثيرة الخير، بها نخل وزيتون وفواكه الجروم والصرود، وهي من كورة فارس (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 وابتدأت الحال [1] تنقدح بينه وبين مرداويج على طريق التحاسد والتباغي فاستدعى [434] مرداويج خلفاءه بالجبل وإصبهان وسائر نواحيه وجميع جيوشه وسار إلى ما كان فثبت له ما كان واستظهر عليه مرداويج وهزمه وملك طبرستان ورتب فيها بلقسم بن بلحسن [2] وكان اسفهسلاره ومدبّر جيشه وكان رجلا نجدا جيّد الرأى فى الحرب. ثمّ مضى إلى جرجان وكان فيها من قبل ما كان شير زيل بن سلّار وبأعلى بن تركي، فهربا جميعا وملكها مرداويج ورتّب فيها سرخاب بن بلوس على خلافة بلقسم بن بلحسن لأنّ سرخاب خال ولد بلقسم. فجمع بلقسم جرجان وطبرستان وعاد إلى إصبهان ظافرا غانما. ثمّ قصد ما كان أبا الفضل الثائر مستنجدا له فأكرمه وعظّمه، ثمّ سار معه بنفسه إلى طبرستان وبها بلقسم بن بانجين وكان مستعدّا لهما فبرز إليهما وتحاربوا فانهزم الثائر وما كان جميعا. فأمّا الثائر فعاد إلى بلده بالديلم وأمّا ما كان فامتدّ على طريق الساحل مفلولا ضعيفا حتّى ورد جرجان ثمّ منها إلى نيسابور قاصدا بها أبا علىّ أحمد بن محمّد بن محتاج صاحب جيش خراسان فدخل فى طاعته واستنجده. وأقام بلقسم بن بالحسن بجرجان إلى أن بلغه مسير أبى على أحمد بن محمّد بن محتاج إليه مع ما كان فكتب إلى مرداويج يستمدّه [435] فأمدّه بأكثر عسكره ووجوه أصحابه وبالغ فى تقويته. ووافى ابن محتاج وما كان فبرز إليهما وواقعهما فظهر عليهما وهزمهما فانصرفا إلى نيسابور. ثمّ كرّ ما كان كرّة أخرى على نواحي الدامغان طامعا فى أن يستولى عليها   [1] . الحال: كذا فى الأصل ومط، وهو صحيح، فلا لزوم لما جاء فى حواشي مد حيث قال: «لعله نار» . [2] . بلحسن: ما فى الأصل: بالقسم بن بالحسن. وفى كتاب العيون: أبو القاسم بن أبى الحسن (حواشي مد) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 وكان فيها من قبل مرداويج الجيش [1] بن اوميذوار فسار إليه بلقسم بن بانجين حتّى اجتمعا على دفع ما كان، فانهزم ثانيا ويئس من هذه الأعمال فأنفذه صاحب خراسان إلى كرمان وقلّده إيّاها وكان بها أبو علىّ محمّد بن الياس بن اليسع وواقعه وهزم أبا علىّ وملك كرمان على طاعة صاحب خراسان. فأمّا أبو الحسن علىّ بن بويه وأخوه أبو علىّ الحسن فإنّهما عند هزيمة ما كان الأولى وضعفه انحازا إلى مرداويج بعد أن استأذناه وقالا: - «إنّ الأصلح لك مفارقتنا إيّاك لتخففّ عنك مؤونتنا ويقع كلّنا على غيرك فإذا تمكنت عاودناك.» فأذن لهما واقتدى بعلىّ بن بويه جماعة من القوّاد لما صار علىّ بن بويه وأخوه أبو علىّ إلى مرداويج فقبلهما وأكرمهما وخلع عليهما وقلّد كلّ واحد من قوّاد ما كان ناحية من نواحي الجبل. أمّا علىّ بن بويه فإنّه تقلّد الكرج، وأمّا اللشكرى بن مردى فإنّه ردّه إلى عمله وكان متقلّدا ... [2] وأمّا [436] سليمان بن سركلة فإنّه قلّده همذان وكذلك سائر القوّاد. ذكر سبب تمّ به [3] لعلىّ بن بويه ولايته وصرف الباقون بأجمعهم قبل وصولهم إلى أعمالهم كان السبب فى ارتفاع علىّ بن بويه وبلوغه ما بلغ سماحة كثيرة كانت فى طبعه وسعة صدره. واقترن بهذا الخلق الشريف خلق آخر أشرف منه وهي شجاعة تامّة كانت له واتّصل بجميع ذلك اتفاقات محمودة ومولد   [1] . كذا فى الأصل ومد: الجيش. وفى مد: الحسن. [2] . هنا كلمة غامضة لم نتأكّد من قراءتها. وهي فى مد: ديناوند. وفى مط: نهاوند. [3] . فى مط: ذكر السبب فى بمزية..! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 سعيد. [1] فمن ذلك أنّه لمّا قلّد الكرج وقلّد الجماعة المستأمنة معه النواحي التي ذكرناها وكتبت لهم العهود ووردوا الرىّ وبها وشمكير وأبو عبد الله الحسين بن محمّد الملقّب بالعميد- وهو والد أبى الفضل ابن العميد وزير ركن الدولة- وكان ناظرا فى الأمور بالرىّ فعرضت عليه بغلة حسنة كانت لعلىّ بن بويه أراد بيعها والاستعانة بثمنها وكان ثمنها ثلاثة آلاف درهم قيمتها مائتا دينار، فاشتراها وحمل المال إليه فظهر لعلىّ بن بويه أنها تشترى لأبى عبد الله العميد فقادها إليه وحلف ألّا يأخذ ثمنها، ثمّ تابع ذلك بملاطفات كثيرة إلى أن غمره بالبرّ ثمّ أوجب [2] الرأى عند مرداويج أن يتعقّب ما أمر به من تولية [437] أولئك القوّاد. وكتب إلى أخيه وشمكير وإلى أبى عبد الله العميد بمنعهم من الخروج من الرىّ وإن كان بعضهم خرج منع من بقي. وكانت الكتب تصدر أوّلا إلى العميد فيقف عليها ثمّ تعرض على وشمكير جملها. فحين وقف على الكتاب تقدّم إلى علىّ بن بويه سرّا أن يبادر إلى عمله، فسار من وقته وساعته وطوى المنازل. وأصبح العميد من الغد فأظهر الكتب فلمّا عرضها على وشمكير كان قد صار علىّ بن بويه على مسافة بعيدة فمنع من لم يكن خرج من أولئك القوّاد. وفاز علىّ بن بويه بالولاية التي كانت سبب ملكه وتمكّنه وليس يعرف لجميع ذلك بعد قضاء الله عزّ وجلّ سبب إلّا سخاءه وسعة صدره. فلمّا وصل إلى الكرج ابتدأ بالإحسان إلى الرجال وملاطفة عامل البلد فكان العامل يكتب بشكره وضبطه الناحية وحمايته واتّفق أن افتتح قلاعا   [1] . فى مط: سعد. [2] . والعبارة فى مط: إلى أن غره تاليه بما أوجب! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 كانت فى أيدى الخرّميّة فى تلك الأطراف ووقع بين أربابها خلاف فانحاز بعضهم إليه وأظهره على ذخائر جليلة صرفها كلّها إلى استمالة الرجال واستعطاف القلوب. فلمّا عاد مرداويج إلى الرىّ سبّب أموال جماعة من قوّاده [438] على ناحية الكرج وفيهم إبراهيم بن سيارهى [1] المعروف بكاسك وجماعة أكبر منهم، فاستمالهم علىّ بن بويه وأفضل عليهم حتّى أوجبت الجماعة طاعته. فاتّصل ذلك بمرداويج فأوحشه ذلك وندم على إخراج أولئك القوّاد الأكابر إليه وكاتبه بالمصير إليه وكاتب القوّاد بمثل ذلك فدافعه وتعلّل عليه ورفق به إلى أن أخذ العهود والمواثيق عليهم. وعلم استيحاش الجماعة وخوّفهم من غدر مرداويج وسطوته، فحينئذ خرج بهم عن الكرج وجمع أكثر ما قدر عليه من المال واستأمن إليه من جرباذقان شيرزاد أحد قوّاد الديلم فى أربعين رجلا فقويت نفسه وعرض رجاله فكانوا ثلاثمائة رجل وكسرا، لكنّهم أعيان ونخب مستظهرين بالآلات والعدد، وتوجّه إلى إصبهان وبها أبو الفتح ابن ياقوت فى نحو عشرة آلاف وأبو علىّ ابن رستم يلي الخراج، فقدّم إليهما كتبا جميلة وعرّفهما أنّه ينحاز إليهما داخلا فى طاعة السلطان فدافعاه عن ذلك. وكان أبو علىّ بن رستم أشدّ الناس كرها له وإنكارا لقدومه، واتّفق موت أبى علىّ ابن رستم، وبرز أبو الفتح ابن ياقوت [439] حتّى صار من إصبهان على ثلاثة فراسخ. وكان فى أصحاب ابن ياقوت ديلم وجيل [2] كثير مقدارهم ستمائة رجل وكانوا يسمعون فضل علىّ بن بويه وعطاءه وسعة صدره فاستأمنوا إليه، وواقعه الوقعة وانهزم ابن ياقوت لما ضعف باستئمان   [1] . سيارهى: كذا فى الأصل ومط، ومد. [2] . فى مط: وخيل كثير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 هؤلاء. ولما ظهر له من ثبات الديلم واضطراب أصحابه ومضى نحو فارس. وملك علىّ بن بويه إصبهان فقوى شأنه وكبر فى عيون الناس لأنّه هزم بمائتين من أصحابه ألوفا وألوفا من أصحاب السلطان. وبلغ ذلك مرداويج فأقلقه ودبّر فى أمرهم تدبيرا لم يتمّ له. ذكر حيلة مرداويج التي لم تتمّ له أشفق مرداويج أن يستأمن أصحابه إلى علىّ بن بويه لما يسمعون من إقباله ولما انتشر من صيته وفيض عطائه، ولأنّ سيرة مرداويج كانت سيرة صعبة لا يسكن إليها أحد ولا يصبر عليها من له نفس أبيّة. فرأى أن يراسل علىّ بن بويه بعتاب وتأنيس ويرفق به ويستدعى جوابه. وضمن ضمانات له يرغب فى مثلها. ووجّه فى أثره أخاه وشمكير فى عسكر عظيم كثيف قوى. فعلم علىّ بن بويه أنّ الرسالة لا تشبه التأهّب له [440] فنذر به فرحل عن إصبهان بعد أن جباها شهرا وتوجّه إلى أرجان وبها أبو بكر ابن ياقوت فانهزم بين يديه إلى رامهرمز من غير حرب ودخلها علىّ بن بويه واستخرج منها أموالا قوى بها. ووردت عليه كتب أبى طالب زيد بن علىّ النوبندجانى يستدعيه ويشير عليه بالمسير إلى شيراز ويهوّن عنده أمر ياقوت وأصحابه لتهوّره فى جباية الأموال وكثرة مؤونته ومؤنة جنده وثقل وطأتهم على الناس مع فشلهم وخورهم، فأشفق علىّ بن بويه أن يلقى ياقوتا مع صيته وكثرة رجاله وأمواله وحصول ابنه أبى بكر بن ياقوت من ورائه، فأبى علىّ بن أبى طالب وتمنّع عليه ولم يقبل مشورته، فشجّعه أبو طالب وأعلمه أنّه إن توقّف لم يأمن أن يتّفق بين ياقوت ومرداويج أمر يجتمعان له عليه وإنّ أعداءه كثير، ومتى اجتمعوا عليه لم يقم لهم وتمكّنوا بطول الزمان من التدبير عليه، وربّما لحق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 مدد السلطان فتجتمع الجيوش من كلّ وجه، والصواب لمن كان فى مثل صورته أن يبادر ويعاجل من بين يديه ولا ينتظر بهم الاحتشاد وإنشاء التدابير عليه. ولم يزل يراسل علىّ بن بويه ويهوّن عليه الخطب إن بادر ويعظّمه إن توانى [441] وتأخّر إلى أن سار نحو النوبندجان وسبقه مقدّمة ياقوت وهي فى نحو ألفى رجل وفيهم وجوه أصحابه وشجعانهم مثل المعروف بكورمرد [1] الخراساني وابن خركوش [2] وكانا شديدين مذكورين بالبأس ومعهما أشباههما من أهل النجدة. فوافاهم علىّ بن بويه إلى النوبندجان فلم يثبتوا وانهزموا إلى كركان وجاءهم ياقوت وأصحابه إلى هذا الموضع فنصب أبو طالب النوبندجانى وكلاءه وثقاته لخدمة علىّ بن بويه وتنحّى بنفسه إلى ضيعة له مغالطة لياقوت وراسل ياقوتا انّ الخوف الذي شمله والناس ألجأه إلى الهرب والتباعد واستشاره فيما يعمل وهو مع ذلك مجتهد فى نصيحة علىّ بن بويه وإرشاده إلى صواب الرأى وإهداء الأخبار إليه ودلالته على المسالك والطرق. وأقام لمئونته وإنزاله من يزيح علّته فى الجميع حتّى أضافه وجميع عسكره أربعين يوما ولزمته مؤونة عظيمة يذكر أنّ مبلغها مائتا ألف دينار. وأنفذ علىّ بن بويه أخاه أبا علىّ إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فاستخرج منها أموالا عظيمة وأثار ذخائر جليلة كانت للأكاسرة يتوارثها قوم هناك، فزاد [442] استخراجه على استخراج أخيه. وأنفذ ياقوت عسكرا ضخما إلى الحسن بن بويه فواقعهم بالنفر اليسير الذين معه فهزمهم وصار موفورا إلى أخيه علىّ بن بويه. ثمّ اتّفق أن تمّ عليه مواطأة ياقوت ووشمكير ومرداويج، وبلغه من ذلك ما أوجب أن يسير إلى   [1] . فى مط: بكور مرو الخراساني. [2] . فى مط: خركوس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 كرمان. فتوجّه من النوبندجان إلى إصطخر ومنها إلى البيضاء وياقوت يتبعه بجميع عسكره ويقفو أثره. وانتهى بعلىّ بن بويه المسير إلى قنطرة كان الطريق عليها إلى كرمان، فسبقه ياقوت إلى القنطرة وحال بينه وبين عبورها واضطرّه إلى الحرب. ودخلت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وابتدأت الحرب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين، وأصبحوا يوم الأربعاء على أشدّ ما تكون الحرب. فاستدعى علىّ بن بويه أصحابه ليلة الخميس وأعلمهم أنّه يترجّل معهم ويقاتل كأحدهم ووعدهم ومنّاهم واستوثق منهم الأيمان فى الثبات والجهاد والجدّ. ذكر اتفاق جيّد اتّفق لعلىّ بن بويه ورديء جدّا على ياقوت مع تدبير سيّئ وتسرّع من ياقوت غير صواب أمّا التدبير السيّئ الذي استعمله ياقوت وتسرّع فيه فإنّه استأمن إليه من أصحاب علىّ بن بويه [443] رجلان من وجوه الديلم فحين وقفت عينه عليهما أمر بضرب أعناقهم وتيقّن الديلم أنّه لا أمان لهم عنده، فشحذ ذلك بصائرهم وجاهدوه جهاد المستقتلين. وأمّا الاتفاق الذي اتّفق عليه، فإنّه باكر الحرب يوم الخميس وقدّم على مصافه رجّالة كثيرة من أصحابه يحاربون بمزاريق النفط والنيران. فانقلبت الريح واشتدّت للوقت فاحترق شيء من مصافّ ياقوت وأكبّ الديلم على أولئك الرجّالة فقتلوهم وانهزم الفرسان وزحف الديلم على تعبيتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 ذكر تدبير دبّره ياقوت فى حال الهزيمة فلم ينفذ له واحترز منها علىّ بن بويه فظفر لمّا أشرف الديلم على سواد ياقوت عند هزيمته وهزيمة أصحابه طلب نشزا [1] من الأرض عاليا فى طريقه، فصعد إليها وركّز عليها رايته، فاجتمع إليه نحو من أربعة آلاف رجل. وظنّ أن الديلم يتسرعون إلى خزائنه ويشتغلون بالنهب فيضطرب نظامهم ويكرّ عليهم- وهذه لعمري مكيدة طال ما صارت سببا لظفر قوم بعد هزيمتهم- فقال لأصحابه: - «لا تفرّقوا وتأهّبوا للكرّة فإنّها الظفر لا محالة.» وأحسّ علىّ بن بويه بذلك فبرز أمام مصافّه ونادى أصحابه وقال لهم: - «لا تبعدوا ولا تنقضوا تعبيتكم فإن الخصم [444] واقف ينتظر اشتغالكم بالنهب ثمّ يعطف عليكم ولم يبق له غير هذه المكيدة.» وأعلمهم أنّ الغنيمة لا تفوت. فلمّا رأى ياقوت ثباتهم وامتناعهم من النهب واحترازهم من مكيدته مضى على وجهه منهزما وملك علىّ بن بويه جميع ذلك السواد. ووجد لياقوت صناديق فيها برانس وقيود وما أشبه ذلك كان أعدّها للأسارى. فأشار جماعة من قوّاد علىّ بن بويه بأن يجعل ذلك لأسارى رجال ياقوت وأن يجعل البرانس على رؤوسهم والقيود فى أرجلهم ويشهّر بهم فى المعسكر ثمّ فى البلد. فأبى ذلك علىّ بن بويه وقال: - «بل نعدل عن هذا إلى العفو عمّن أظفرنا الله بهم من أعدائنا ونشكر الله على هذه النعمة، فإنّه أدعى للمزيد وأبعد من البغي والطغيان.» ثمّ امتدّ إلى الزرقان [2] يوم الجمعة وإلى الدينكان يوم السبت وتولّت   [1] . النّشز والنّشاز: المكان المرتفع. [2] . كذا فى مط ومد: الزرقان. وفى الأصل شيء من الغموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 المستأمنة والشحنة وأكابر الناس إليه وتتابعوا فتقبّل الجميع وأحسن إليهم قولا وفعلا وصفح عن كلّ من بلغه عنه فحش فى الخطاب أو إساءة فى عمل، وأحسن فى سيرته حتّى اطمأن إليه الناس وأمنه أعداؤه. وعسكر بظاهر شيراز ونادى فيها ببث العدل [445] وأمان الناس من جميع ما يكرهون، وأمر العامّة بالانتشار فى معايشهم والخروج إلى مصالحهم آمنين، ففعل الناس ذلك. ثمّ اضطرّ بعد ذلك إلى سيرة أخرى لكثرة مطالبات الجند واقتراحاتهم وبلغ من أمره ما سنكتبه فى موضعه بمشيئة الله وعونه. ورود خبر دخول أصحاب مرداويج إصبهان وفيها ورد كتاب أبى جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وكان يتقلّد أعمال الخراج والضياع بالبصرة والأهواز بتاريخ يوم الثلاثاء لأربع خلون من المحرّم بأنّ الكتب وردت عليه بدخول أصحاب مرداويج إصبهان وأنّه خرج من جملة مرداويج قائد جليل كان يتقلّد ماه البصرة وفاز بمال جليل وهرب إلى أرجان يقال له علىّ بن بويه وأنّه كتب إليه أنّه فى طاعة السلطان وهو يستأذن الوزير فى ورود الحضرة أو النفوذ إلى شيراز لينضمّ إلى ياقوت مولى أمير المؤمنين. حرق مراكب القرامطة وفى هذه السنة صار أصحاب أبى طاهر القرمطى إلى نواحي توّج [1] وسينيز [2] فى مراكب وخرجوا منها إلى البلد. فلمّا بعدوا من المراكب أحرقها   [1] . مدينة بفارس قريبة من كازرون (مراصد الإطلاع) . [2] . سينيز بلد على ساحل بحر فارس أقرب إلى البصرة من سيراف بقرب جنّابة (مراصد الإطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 صاحب لياقوت كان يتقلّد البلد. ثمّ اجتمع مع أهل البلد وأوقع بالقرامطة وقتل منهم وأسر ثمانين رجلا فيهم رجل يعرف بابن الغمر [1] [446] فقدم رسول محمّد بن ياقوت بهؤلاء الأسارى فأدخلهم مشهّرين، فوضع على رأس ابن الغمر منهم قرونا وكانوا على جمال بدراريع وديباج وبرانس حتّى دخلوا دار السلطان فاعتقلوا بها. وفيها قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل وأبا السرايا نصر ابن حمدان ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى قتله إسحاق أنّه كان أراد شراء الجارية المعروفة برتبة [2] قبل الخلافة وكانت موصوفة بالجمال والغناء فزايده إسحاق بن إسماعيل فيها واشتراها. وسبب قتله أبا السرايا أنّه كان أراد شراء جارية أخرى قبل الخلافة فاشتراها أبو السرايا. فحكى ثابت عن خادم حضر قتلهما قال: جاء القاهر فوقف على رأس بئر كانت فى موضع ذكره ثمّ استحضر إسحاق فأحضر وهو مقيّد فأمر بطرحه فى تلك البئر فرمينا به فيها بقيده وهو حىّ. ثمّ أمر بإحضار أبى السرايا فأحضرناه وهو مقيّد فأمر بطرحه فى تلك البئر فما زال أبو السرايا يتضرّع إليه ويسأله العفو وهو لا يلتفت إليه وتعلّق بسعف نخلة كانت بقرب البئر فأمرنا بضرب يده فضربناها فخلّى عن السعفة [3] ودفعناه [447] فى   [1] . فى مط: ابن العم (فى كلا الموضعين) . [2] . لعلّه مصحّف «بزينة» . فى مط: شراء الجارية الزينة قبل الخلافة، بدل: «شراء الجارية المعروفة برتبة» . ومد كالأصل. [3] . وزاد فى مط: ووقعناه عن السعفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 البئر ثمّ أمر بطمّ البئر فطرحنا عليهما التراب حتّى أمتلأت وهو واقف. فسبحان الله العظيم ما أعجب أمر المقادير أراد مونس لمّا قتل المقتدر أن ينصّب فى الخلافة أبا العبّاس بن المقتدر فما زال إسحاق بن إسماعيل مجتهدا قائما قاعدا إلى أن عدل بها إلى القاهر بالله وهو لا يعلم أنّه إنّما يسعى فى حتف نفسه ليتمّ الأمر المقدور. وفيها حضر دار سلامة الحاجب أبو بكر بن مقسم وقيل أنّه ابتدع قراءة لم تعرف للقرآن وأحضر ابن مجاهد والقضاة وناظروه فاعترف بالخطإ وتاب فأحرقت كتبه. وفيها خرج رجل من الصغد يعرف بأبى على محمّد بن إلياس واجتاز بكرمان حتّى بلغ باب إصطخر وأظهر لياقوت أنّه يريد أن يستأمن إليه ثمّ عرف ياقوت أنّ ذلك حيلة منه فخرج إليه ياقوت فلم يثبت له ابن الياس وانكفأ راجعا إلى كرمان وصار إليه من قبل صاحب خراسان ما كان بن كاكى الديلمي فواقعه وانهزم ابن الياس وصار إلى أعمال فارس فواقعه ياقوت وانهزم ابن الياس. وفيها استوحش الحجريّة والساجيّة من القاهر فدبّروا عليه وتمّ لهم القبض عليه. [448] ذكر السبب فى القبض على القاهر كان السبب فى ذلك أنّ أبا علىّ ابن مقلة كان يراسل الساجيّة والحجريّة فى استتاره ويضرّبهم على القاهر ويوحّشهم منه والحسن بن هارون يفعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 مثل ذلك ويلقاهم بالليل وهو يتزيّا برىّ السؤال وفى يده زبّيل [1] وفى وقت بزىّ النساء إلى أن شحذ نيّاتهم وجمع كلمتهم على قصد القاهر والفتك به وحذّرهم منه وعرّفهم أنّه قد بنى لهم المطامير. واحتال من جهة منجّم كان لسيما حتّى لقّنه أن يقول لسيما من جهة النجوم أنّه يخاف عليه من القاهر ويحذّره منه. وأعطى الحسن بن هارون هذا المنجّم مائتي دينار فملأ عينه حتّى مكّن فى نفس سيما الخوف من القاهر وكان سيما يقبل منه ويستحسن إصاباته. ثمّ دسّ إليه من جهة منامات يدعيها أشياء حتّى اشتدّ خوف سيما من القاهر. فلمّا كان يوم الإثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر وقع بين الغلمان الحجريّة وبين الغلمان الساجيّة خلاف وذكر الساجيّة أنّ القاهر يريد أن يفتك بسيما وهو رئيس الساجيّة وخرج سيما من دار السلطان مبادرا إلى داره واجتمع إليه الساجيّة بأسرهم والقوّاد فى السلاح [449] وأقاموا عنده إلى آخر النهار، ثمّ انصرفوا وباكروه فاجتمع قوّاد الساجيّة مع قوّاد الحجريّة وتحالفوا أن تكون كلمتهم واحدة ثمّ استحلفوا باقى الحجريّة والساجيّة. واتّصل ذلك بالقاهر وبالوزير وبالحاجب، فوجّهوا من يسألهم عمّا أوحشهم فقالوا: - «قد صحّ عندنا أنّ القاهر عزم على القبض على سيما وعلى حبسنا [2] فى مطامير قد بناها لنا.» وكان الفضل بن جعفر يتولّى بناء مطامير من ماله ويحتسبها من مال مصادرة عليه فعرف القاهر ما يقولونه فتقدّم إلى سلامة بالخروج إليهم وحلف القاهر له على أنّه لم يفعل ذلك ولا همّ به وإنّما بنى حمامات روميّة للحرم، وخرج سلامة لذلك.   [1] . الزبّيل: الزنبيل. [2] . فى مط: جيشنا، بدل «حبسنا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 وخلا الخصيبى وعيسى المتطبّب بالقاهر فذكرا له أنّ الآفة فى هذا كلّه الفضل بن جعفر وأنّه هو الذي قال للساجيّة والحجريّة ذلك لأنّه شيء لم يعرفه غيره. وكان سلامة أشار بالفضل حتّى أعفى من المصادرة عناية به واقتصر منه على ما ينفقه على المطامير. فتقدّم القاهر بالقبض على الفضل بن جعفر وطالبه الوزير الخصيبى بحضرة عيسى بثلاثمائة ألف دينار فقال الفضل: - «لو كنت ذا مال لكانت لى ضياع ودور [450] وخدم ومروءة بحسبها.» فاغتاظ الخصيبى وظنّ أنّه قد عرّض به وخاطبه بمخاطبة فيها جفاء فاستوفى الفضل عليه الجواب. فهمّ الوزير الخصيبى أن يوقع به فقال سابور الخادم: - «أمرت بصيانته وألّا يلحقه مكروه.» وردّه إلى دار السلطان وحبس فى الموضع الذي كان إسحاق بن إسماعيل محبوسا فيه. وورد يوم الثلاثاء لخمس خلون من جمادى الأولى [1] كتاب أبى جعفر الكرخي وكتاب أبى يوسف عبد الرحمن بن محمّد الذي كان يكتب للسيدة بأنّ أصحاب ابن رائق كبسوا سوق الأهواز وأنّهم استولوا على سائر عمل الأهواز وصار كلّ من يتقلّد المعاون فى أعمال الأهواز من قبله سوى محمّد بن ياقوت فإنّه كان يتقلّد المعاون بالسوس وجنديسابور فلم ينفذ لابن رائق لأنّه نظيره فكتب الخصيبى رقعة بما ورد عليه من ذلك إلى القاهر. وكان القاهر قد ابتدأ بشرب فدعا بسلامة وأقرأه الكتاب وقال له:   [1] . من «خلون» إلى «الأخرى» مطموس فى الأصل، وما أثبتناه هو من مط. وفى مد: «بقين من جمادى الأخرى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 - «امض إلى الخصيبى واجتمع معه على التدبير فى ذلك.» وعاود شربه فمضى سلامة وعيسى معه إلى الخصيبى وأطالا عنده إلى نصف الليل ولم يتقرر لهم رأى عليه شيء. فانصرف [451] سلامة إلى منزله لعلمه بأنّ القاهر قد سكر ولا فضل فيه باقى ليلته وصدر نهار [1] الغد، وبكّر سلامة إلى الخصيبى فوجد عنده عيسى المتطبّب وبلغهم خبر الساجيّة والحجريّة واجتماعهم لقصد دار السلطان. فتقدّم الخصيبى إلى عيسى بأن يبادر إلى دار السلطان ويعرّف القاهر الخبر ليتحرّز وإن وجده نائما أنبهه، فمضى عيسى واجتهد فى إنباه القاهر فلم تكن فيه حيلة وقيل له: كان يشرب إلى أن طلعت الشمس وأنّه لو أنبه [2] لما فهم عنه ما يقوله لشدّة سكره. وكانت الحجريّة والساجيّة قد اجتمعوا عند سيما وتحالفوا على اجتماع الكلمة فى كبس دار الخليفة والقبض على القاهر فقال لهم سيما: - «إن كان قد صحّ عزمكم على هذا فقوموا بنا الساعة حتّى نمضيه.» فقالوا: - «بل نؤخّره إلى غد فهو يوم الموكب ويظهر لنا فنقبض عليه.» فقال لهم سيما: - «إن تفرّقتم الساعة وأخّرتموه إلى ساعة أخرى اتّصل الخبر به فتحرّز ودبّر علينا فأهلكنا كلّنا.» فقبلوا رأيه وركبوا معه إلى دار السلطان بالسلاح فرتّب سيما على كلّ باب من أبوابها غلاما من الساجيّة وغلاما من الحجرية ومعهما قطعة وافرة [452] منهما فلمّا أحكم أمر الأبواب كلّها وقف على باب العامّة وأمر بالهجوم فهجموا كلّهم من جميع الأبواب فى وقت واحد، وبلغ سلامة   [1] . فى مط: صدر بها، بدل «صدر نهار» . [2] . فى مط: انتبه، بدل «أنبه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 والخصيبى وهما مجتمعان فى دار الخصيبى فخرج الخصيبى فى زىّ امرأة واستتر وانحدر سلامة إلى مشرعة الساج واستتر. ولمّا دخل الساجيّة والحجريّة الدار لم يدخلها سيما وأقام بمكانه من باب العامّة إلى أن قبض على القاهر فلما قبض عليه دخل. ولمّا علم القاهر بحصول الغلمان فى الدار انتبه من سكره وأفاق وهرب إلى سطح حمّام فى دور الحرم فاستتر فيه ولمّا دخل الغلمان إلى المجلس الذي كان فيه ولم يجدوه وأخذوا من كان بالقرب [منه] مثل زيرك الخادم وعيسى المتطبّب واختيار القهرمانة فوكّلوا بهم ووقع فى أيديهم خادم صغير فضربوه بالطبرزينات حتّى دلّهم على موضعه فدخلوا فوجدوه على سطح الحمّام على رأسه منديل ديبقي [1] وفى يده سيف مجرّد واجتهدوا به على سبيل الرفق أن ينزل إليهم وقالوا: - «نحن عبيدك وما نريد بك سوءا وإنّما نتوثق لأنفسنا.» فأقام على الامتناع من النزول إلى أن فوّق إليه واحد منهم بسهم [453] وقال: - «إن لم تنزل وضعته فى نحرك.» فنزل حينئذ وقبضوا عليه- وكان ذلك ضحوة نهار يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة- وصاروا به إلى موضع الحبوس وقصدوا البيت الذي فيه طريف السبكرى ففتحوه ووجدوا فيه طريفا [2] فكسروا قيده وأطلقوه وأدخلوا القاهر إلى [3] موضعه وحبسوه فيه ووكّلوا بالباب جماعة من الساجيّة والحجريّة ووقع النهب ببغداد وانقضت خلافة القاهر بالله.   [1] . فى مط: ويبقى، بدل: «ديبقىّ» . [2] . فى مط: طريقا، بدل «طريفا» . [3] . فى مط: وأدخلوا القاهر إلى القاهر. وهو سهو من الكاتب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 خلافة الراضي بالله أبى العبّاس محمّد بن المقتدر فى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة واستدلّ الغلمان الساجيّة والحجريّة حين اقبضوا على القاهر على الموضع الذي فيه أبو العبّاس ابن المقتدر فدلّهم عليه خليفة لزيرك الخادم. ففتحوا عنه الباب ودخلوا عليه وسلّموا عليه [1] بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على السرير وبايع له قوّاد الساجيّة والحجريّة وطريف السبكرى وبدر الخرشنى ولقّب: الراضي بالله. وتقدّم بإحضار علىّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وأحضرا، فوصلا إليه وشاورهما واعتمد عليهما فيما يعمل. فعرّفه علىّ بن عيسى أنّ سبيله أن يعقد لواء لنفسه على الرسم فى ذلك [454] فاستحضر اللواء وعقده بيده، ثمّ أمر بالاحتفاظ به [2] وأشار عليه بتسلّم الخلافة، فسلّمها من كان فى يده وهو خاتم فضّة فصّه من حديد صينى وعليه كتابة ثلاثة أسطر: - «محمّد رسول الله.» وأشار عليه بتسلّم خاتم الخلافة من القاهر بالله. فوجّه إليه الراضي، ثمّ   [1] . وسلموا عليه: العبارة سقطت من مط. [2] . فى مط: الاحتفاظ، بدون «به» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 فتح عنه الباب وطالبه بخاتمه فسلّمه وكان فصّه ياقوتا أحمر وعليه منقوش: - «بالله محمّد الإمام القاهر بالله أمير المؤمنين يثق.» وصار به إلى الراضي فأمر أن يسلّم إلى حاذق من حذّاق الخزانة ليمحو ذلك النقش منه، ففعل ذلك ونقش له خاتم آخر عليه: - «الراضي بالله» وتقدّم علىّ بن عيسى بأن يحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمّد، والقاضي أبو محمّد ابن أبى الشوارب، والقاضي أبو طالب البهلول، وجماعة من الشهود وممّن يقرّب من دار السلطان فحضروا. فحكى القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي ابن أمّ شيبان أنّه لمّا استدعى القاضي أبو الحسين عند القبض على القاهر بالله وجم جميع أطرافه وأخذ معه خمسين دينارا فى حجزة سراويله استظهارا واستخلفه فى داره ومضى وانصرف بعد أن مضى أكثر الليل إلى [455] منزله قال: فقال لى: - «أنا أعرف ضيق صدرك وتطلّعك إلى معرفة [1] حديثنا فاسمعه: اعلم أنّى مضيت فأدخلت إلى حجرة فيها القاهر بالله ومعى ثلاثة من الشهود وطريف السبكرى. فقال له طريف: تقول يا سيّدى.» وكرّر ذلك دفعات. فقال له: - «اصبر.» ثمّ التفت إلىّ فقال: - «ألست تعرفني؟» فقلت: «بلى.» فقال: «أنا أبو منصور محمّد بن المعتضد بالله رحمة الله عليه ثمّ القاهر   [1] . فى مط: منزلة، بدل «معرفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 بالله بيعتي فى عنقك وأعناق أهلى وسائر الأولياء ولست أبرّئكم منها ولا أحلّكم [1] بوجه ولا سبب، فانهضوا.» فقمنا فلمّا بعدنا عذلت طريفا ولمته ملاما كثيرا وقلت: - «أىّ رأى كان إحضارنا إلى رجل لم يوطّأ ولم يؤخذ خطّه ويشهد عليه الكتّاب والجند؟ كان ينبغي أن تقدّم ذلك ثمّ تحضرنا له.» وعدل بنا إلى علىّ بن عيسى فسألنا عمّا جرى فحدّثناه به فقطّب وجهه ثمّ قال: - «يخلع ولا يفكّر فيه فإنّ أفعاله مشهورة وأعماله معروفة وما يستحقّه غير خاف.» فقلت له: - «بنا لا تعقد الدول وإنّما يتمّ بأصحاب السيوف ونصلح نحن ونراد لشهادة واستيثاق وقد سمعت من الرجل ما حدّثتك به ولم يكن الرأى أن يجمع بيننا وبينه إلّا بعد إحكام أمره.» [456] فتغاضب وحضر وقت الصلاة فقمنا. فقال القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح: فسمعت ذلك منه وبكّرنا إلى دار السلطان فقيل له: إنّ القاهر سمل البارحة. فلمّا حضر أبو علىّ ابن مقلة استدعينا وكنت مع القاضي أبى الحسين وثلاثة من الشهود واجتمعنا بحضرة الراضي بالله فأومأ إلى مفلح الأسود فأحضر ثلاثة من إخوته فأجلسهم عن يمينه وأخرج أبو علىّ ابن مقلة قرطاسا من كمّه ونشره فاستحلفهم على البيعة ثمّ أومأ الراضي إلى مفلح إيماء ثانيا فأحضر اثنان آخران من إخوته فأجلسهما عن شماله وأخذت   [1] . فى مط: أحملكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 البيعة عليهما ثمّ أعطى أبو علىّ القرطاس القاضي أبا الحسين فأخذ عليه البيعة وكتبنا خطوطنا فى ذلك القرطاس على من بايع وانصرفنا. وكان سيما أشار بسمل القاهر تلك الليلة فستر الراضي ذلك عن علىّ بن عيسى واستحضرا بختيشوع بن يحيى المتطبّب وسأله عمّن يحسن أن يسمل فذكر له رجلا فأحضره وسمل القاهر. وما زال علىّ بن عيسى يوم الأربعاء إلى الليل يأخذ البيعة للراضى بالله على القضاة والقوّاد وكتّاب الدواوين والغلمان وطالبه الراضي أن يتقلّد الوزارة [457] فامتنع وذكر أنّه لا يفي بالأمر، فأشار سيما بأبى على بن مقلة. قال: - «هو يضمن أن يقوم بسائر الأمور.» فقال علىّ بن عيسى: - «قد أشرت به على أمير المؤمنين وما يصلح للوقت غيره.» وكان علىّ بن عيسى يسأل فى الفضل بن جعفر فأطلق بمسألته ووقّع الراضي إلى أبى علىّ ابن مقلة [1] فبكّر يوم الخمسين لسبع خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحضر علىّ بن عيسى وأخوه عبد الرحمن ووقفا بين يديه يستحلفان من يحضر ويأخذان البيعة عليه وتأخّر الفضل بن جعفر والحسن [2] بن هارون وخلع على أبى علىّ ابن مقلة خلع الوزارة وركب معه سيما وطريف السبكرى وسائر القوّاد والغلمان والخدم الخاصّة وظهر الحسن بن هارون وأبو بكر ابن قرابة وصاروا إلى أبى علىّ ابن مقلة ثمّ انصرفوا إلى منازلهم. واستأنف أبو علىّ ابن مقلة سيرة حسنة وقال: - «قد عاهدت الله فى استتاري ألّا أسىء إلى أحد ونذرت نذورا.»   [1] . فى التكملة: وهو فى دار ابن عبدوس الجهشيارى. [2] . فى مط: والحسين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 فوفى وأطلق كلّ من كان فى حبس القاهر من كاتب وجندىّ وأطلق عيسى المتطبّب وإسحاق بن علىّ القنّائى وكان الراضي أنفذهم إليه. ثمّ تعقّب الرأى فى عيسى المتطبّب فصادره. [458] وكان القاهر قد اعترف بوديعة أودعها إيّاه من العين والورق والطيب، فاستخرج كلّه منه. وسأل فى أمر أبى العبّاس الخصيبى فكتب له أمان وقّع الراضي فيه بخطّه وتسلّمه الوزير أبو علىّ وأنفذه فى درج رقعة [1] منه بخطّه إلى الخصيبى وخاطبه أجمل مخاطبة وظهر الخصيبى فقلّده دواوين الضياع الخاصّة والمستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة والمقبوضة عن أمّ موسى ونذير وشفيع اللؤللؤى وضياع المخالفين وضياع البرّ وضياع الجدّة والدة المقتدر وديوانى زمام المشرق والمغرب وأجرى عليه لنفسه سوى أرزاق كتّابه فى هذه الدواوين ألف دينار فى كلّ شهر وقلّد الراضي بدرا الخرشنى الشرطة بمدينة السلام. ولمّا تقلّد الراضي الخلافة وردت كتب أبى جعفر الكرخي وأبى يوسف كاتب السيّدة بتخلصهما من الأهواز إلى نواحي دور الراسبي هاربين من محمّد بن رائق وكان بنو البريدي يستترون فى أنهار الأهواز نهر بعد نهر. ووصل الخبر إلى ابن رائق وهو بالباسيان: أنّ القاهر خلع من الخلافة وتقلّدها الراضي بالله وأنّه قد ندب للحجبة. فرجع منكفئا إلى واسط ولم يدخل [459] البصرة ورجع الكرخي إلى البصرة ثمّ عاد إلى غيلة [2] بالأهواز فنظر وعمل إلى أن ضمّن ابن مقلة بنى البريدي أعمال الأهواز.   [1] . فى مط: رفعه، بدل «رقعة» . [2] . فى مط: عمله، بدل «غيلة» . وفى المراصد: والغيلة بكسر أوّله وسكون ثانيه: موضع فى شعر الأعشى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 ذكر ابتداء أمر أبى الحسن علىّ بن بويه الديلمي كنّا كتبنا فيما تقدّم أنّ أبا الحسن علىّ بن بويه لحق بمرداويج وهو فى حدود طبرستان فقوّده وضمّ رجالا إليه فلمّا أنفذه إلى الرىّ- وكان أخوه وشمكير بها- اتفق أنّ عامل الكرج طمع فى مالها فأنفذ علىّ بن بويه ليتلافى أمر الكرج [1] ومعه دون مائة رجل من أصحابه فأقام بها وتلفّق إليه من الأطراف ديلم فصار فى نحو ثلاثمائة رجل فأنكر مرداويج أمره وكاتبه بالانصراف فتأخّر، وروسل فتعلّل، وكان قد استخرج من مال الكرج نحو خمسمائة ألف وفوقها فى مدّة يسيرة واستوحش مرداويج وهدّده ففزع وأخذ مرداويج ووشمكير فى تدبير القبض عليه. وكان علىّ بن بويه قد استخلف بحضرة وشمكير وهو بالرىّ عند خروجه أحمد حاجبه- وهو والد أبى إسحاق الطبري الشاهد- فى هذا الوقت، فكتب إليه أحمد بما فيه مرداويج ووشمكير من الخوض فى سيّئه [2] . وكان مرداويج قد صار إلى عند أخيه بالرىّ بهذا السبب ولتسريب الجيوش إليه فخرج من الكرج إلى إصبهان خائفا [460] ليستأمن إلى المظفّر بن ياقوت وكان عند المظفّر بن ياقوت فى الوقت سبعمائة رجل من الديلم ووجههم فناخسره [3] والد الحسن الديلمي الذي كان ببغداد ونظر فى الشرطة بها. فلمّا قرب من إصبهان خرج إليه المظفّر ليمنعه ومعه نحو أربعة آلاف رجل فتخاذل أصحابه ووقع بين أصحابه من الديلم خلاف. لأنّ فناخسره كان له   [1] . فى مط: الكرخ، بدل «الكرج» . [2] . فى مط: فى سبيه. بدل «سيّئه» . [3] . فى مط: فناخسرو، وهو أصحّ حسب أصله الفارسي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 عدوّ من الديلم يضادّه فتقاعد المولّدون أيضا وافترقت كلمتهم وانهزم المظفّر بن ياقوت إلى فارس وبها أبوه ياقوت واستأمن إلى علىّ بن بويه نحو من أربعمائة رجل من الديلم فصارت عدّته سبعمائة رجل وملك إصبهان وهو فى ثلاثمائة رجل. وبلغ الخبر مرداويج فسيّر أخاه وشمكير لطلبه فى الوقت فلمّا قرب إصبهان رحل عنها علىّ بن بويه وصار إلى أرجان وكان قد تهيّبها لحصوله بين ياقوت وهو بفارس وبين ابنه محمّد وهو برامهرمز فصوّر [1] عنده بالمهانة واضطراب الرأى والرجال. فدخل أرجان واستوطنها وكاتب ياقوت واستخرج من مال أرجان خراجا نحو ألفى ألف درهم ووصل مع ذلك إلى ودائع ونظّم أمره للمسير إلى كرمان وبها ما كان بن كاكى الديلمي ليستأمن إليه فلم يجبه ياقوت عن كتابه ولم يقبله [461] فكاتبه علىّ بن بويه وخاطبه بالإمارة والتعبّد وعرّفه أنّه يسأله أحد الأمرين: إمّا أن يقبله، أو يأذن له فى المصير إلى باب السلطان. فلمّا لم يقبله ياقوت وسار إليه مع ابنه المظفّر ليحاربه سار علىّ بن بويه إلى النوبندجان وقدّر أن تكون الحرب بها وقدّم كتبه إليه وطلب منه الأمان واستعفاه من الحرب فحذّره ياقوت وخشي أن يغتاله وكان قيل له: إنّ علىّ بن بويه يريد الحيلة عليه ليحصل بفارس ويخدعه عنها. وكان علىّ بن بويه قد حصل أيّام مقامه بكازرون وبلد سابور- وذلك عند خروجه من أرجان- نحو خمسمائة ألف دينار مع كنوز كثيرة وجدها فقويت شوكته وزاد رجاله. فلمّا صار إلى النوبندجان قام بأمره أبو طالب زيد بن علىّ وتكفّل بنفقاته فلزمه عليه فى كلّ يوم خمسمائة دينار وأقام   [1] . كذا فى الأصل: فصوّرا. والضبط فى مد: فصوّر. والعبارة فى مط: فصور وعنده بالمهانة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 عنده مدّة. فلمّا خرج إليه ياقوت تهيّبه هيبة شديدة وذلك أنّ جيش ياقوت كانوا سبعة عشر ألف رجل من جميع الأصناف ساجيّة وحجريّة والرجّالة المصافية وغيرهم من الديلم وأصناف العسكر وعلىّ بن بويه فى ثمانمائة رجل، فسأله أن يفرج له عن الطريق لينصرف عنه ويجتاز إلى حيث يجتاز. فمنعه [462] ياقوت وطمع فيه لقلّة عدده ولوفور ما وصل إليه من المال. فلم يثبت له علىّ بن بويه وسار إلى البيضاء فمنعه ياقوت وواقعه على باب إصطخر يومين فكانت لياقوت فاشتدّ طمع ياقوت فيه وزاد تهيّب علىّ بن بويه وحقّق [1] عليه المسألة فى الإفراج له لينصرف عنه فامتنع عليه فلمّا كان يوم الخميس لاثنى وعشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة إثنتين وعشرين وثلاثمائة واقعه مستقتلا. فحدّثنى من شهد الوقعة من الديلم أنّه ترجّل ستّة نفر من الديلم وصفّوا تراسهم وتقدّموا زحفا واستأخر من واجههم من أصحاب ياقوت فاشتملوا وتقدّموا وحمل أبو الحسين أحمد بن بويه فى نحو ثلاثين رجلا فانهزم ياقوت وجميع من معه وذلك وقت الظهر من ذلك اليوم وانصرف إلى شيراز. فقدّر علىّ بن بويه أنّ انصرافه مكيدة منه لا هزيمة فتوقّف فى موضعه ولم يتبعه إلى وقت العصر، فلمّا صحّ عنده أنّها هزيمة سار إلى شيراز فنزل أوّل منزل قرية يقال لها: الزرقان على ستّة فراسخ من شيراز وبكّر منها يوم السبت فنزل قرية يقال لها: الدينكان، وعنده أنّ سيحارب عن البلد ويدفع عنه لأنّ الجيش الذي انهزم عنه كانوا قد انصرفوا [463] عنه موفورين لم يحاربوه ولا وقفوا بين يديه، فنزل على فرسخ من شيراز فى مضاربه، وبلغه أنّ ياقوتا وعلىّ بن خلف بن طناب قد خرجا عن شيراز والبلد شاغر خال.   [1] . الحرف الثاني غير واضح فى الأصل. فى مط: حنق. وما فى مط: حقّق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 فوجّه بجماعة من الديلم وأخلاط من الجند إلى شيراز للمقام بها وضبطها فبادر إليهم العامّة بشيراز مع جماعة من الرجّالة السودان ومماليك للتنّاء [1] . وكان الديلم قد تفرقوا فى الأسواق فقتلوا منهم نحو سبعين رجلا. فبلغ علىّ بن بويه ذلك ووجّه بأخيه أبى الحسين أحمد وكان إذ ذاك تسع عشرة سنة وهو أمرد وهو حينئذ صحيح اليدين وأنفذ معه ثمانين رجلا من الديلم فقتل من السودان نحو ألف رجل ونادى فى البلد ألّا يقيم فيه أحد من أصحاب ياقوت ولا من الجند وأنّ من وجد بعد النداء فقد أباح دمه وماله. فلم يبق فى البلد أحد منهم. اتفاقات عجيبة مساعدة لعلىّ بن بويه بعد دخوله شيراز وانفتاح وجوه الذخائر والودائع له ودخل علىّ بن بويه شيراز واتفقت له بها ضروب من الاتفاقات عجيبة كانت سببا لثبات ملكه. فمنها أنّ أصحابه اجتمعوا وطالبوه بالمال ونظر فإذا القدر الذي معه لا يرضيهم وأشرف أمره على الانحلال فاشتغل قلبه واغتمّ غمّا شديدا فبينا [464] هو مفكّر قد استلقى على ظهره فى مجلس ياقوت من داره وقد خلا فيه للفكرة والتدبير، إذ رأى حيّة قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه وخاف أن تسقط عليه وهو نائم فدعا بالفرّاشين وأمرهم بإحضار سلّم وإخراج تلك الحيّة ففعلوا. ولمّا صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يفضى إلى غرفة بين سقفين، فعرّفوه ذلك، فأمرهم بفتحها ففتحت ووجد فيها عدّة صناديق من المال والصياغات   [1] . التنّاء: المقيمون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 خمسمائة ألف. فاستوى جالسا وحمل إلى بين يديه ذلك المال فسرّ به وأنفقه فى رجاله وثبت أمره بعد أن أشفى على الانحلال. وحكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي أنّ علىّ بن بويه أراد قطع ثياب وسأل عن خيّاط حاذق فوصف له خيّاط لياقوت فأمر بإحضاره وكان أطروشا ووقع له أنّه قد سعى به إليه فى وديعة كانت لياقوت وأنّه طلبه بهذا السبب. فلمّا خاطبه حلف أنّه ليس عنده إلّا اثنا عشر صندوقا لا يدرى ما فيها. فعجب علىّ بن بويه من جوابه ووجّه معه بمن حملها. فوجد فيها أمرا عظيما من المال والثياب. والذي كان يكتب لعلىّ بن بويه فى ذلك الوقت رجل نصراني [465] من أهل الرىّ يعرف بأبى سعد إسرائيل بن موسى ثمّ قتله بعد مدّة بسبب سنفرد له خبرا، واستكتب مكانه أبا العبّاس أحمد بن محمّد القمّى المعروف بالحنّاط. وسفر الأمير أبو الحسن علىّ بن بويه بعد تمكّنه من البلد فى أن يقاطع السلطان عنه ويتقلّده من قبل الراضي، فأجيب إلى ذلك وقنع منه بما بذل وهو فى كلّ سنة بعد جميع المؤن والنفقات الراتبة والحادثة ثمانية آلاف ألف درهم خالصة للحمل. وكتب إلى الوزير أبى علىّ ابن مقلة يحلف له بأغلظ الأيمان على موالاة الوزير أبى علىّ ابن مقلة وابنه الحسين ومعاضدتهما وما يقال فى هذا المعنى وأكّده. فأنفذ إليه الوزير أبو علىّ بالخلع واللواء فى شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ورسم للرسول وهو أبو عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي الكاتب ألّا يسلّم اللواء والخلع إلّا بعد أن يتسلّم المال ووقف عليه. فلمّا قرب المالكي من البلد تلقّاه علىّ بن بويه على بعد وسار معه إلى ظاهر شيراز وطالبه بأن يسلّم إليه اللواء والخلع فعرّفه ما رسم له وأنّه لا يمكنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 من ذلك إلّا بعد تسلّم المال الذي ووقف عليه فخاشنه علىّ بن بويه وأرهبه [1] حتّى سلّم إليه الخلع ولبسها ودخل بها إلى شيراز وبين يديه اللواء. وأقام المالكي مدّة يطالب [466] بالمال فلم يدفع إليه شيئا بتّة وحصل على المواعيد والمطل والتوقّف ثمّ اعتلّ المالكي ومات بشيراز وحمل تابوته إلى بغداد فى سنة ثلاث وعشرين. وانفتح لعلىّ بن بويه وجوه الذخائر والودائع ووزير [هـ] [2] أبو سعد النصراني فضمن له بقايا مال السنة أبو الفضل العبّاس بن فسانجس وابن مرداس وأبو طالب زيد بن علىّ وغيرهم من وجوه البلد بأربعة آلاف ألف درهم، واستخرجت له الذخائر وانفتحت له كنوز وودائع عمرو بن الليث ويعقوب بن الليث وياقوت وابنه وعلىّ بن خلف ورجال السلطان وكثرت أموال علىّ بن بويه وعمرت خزائنه واستأمن إليه رجال ما كان بن كاكى من كرمان وكثر جمعه واستفحل أمره وانتهى خبره إلى مرداويج فقامت قيامته ووافى إصبهان وبها وشمكير أخوه لأنّه لمّا خلع القاهر من الخلافة وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها وبقيت سبعة عشر يوما خالية أعاد مرداويج أخاه إليها. فلمّا استقرّ بها وورد مرداويج لتدبير علىّ بن بويه عند استعصائه عليه ردّ أخاه وشمكير إلى الرىّ لخلافته عليها. وأنفذ شيرج بن ليلى اسفهسلّاره مع حاجبه الشابشتى ومعهما ألفان وأربعمائة رجل من الجيل [3] والديلم ووجوه القوّاد مثل بكران وإسماعيل الجبلي [467] إلى الأهواز، وكان غرضه أن يملكها فيأخذ الطريق على علىّ بن بويه ويحجز بينه وبين السلطان حتّى إذا قصده بعد ملكه الأهواز لم يكن   [1] . كذا فى الأصل: وأرهبه. فى مد: وأزهمه. وفى مط: وأرهنه. [2] . فى الأصل: وزير. وما بين المعقوفتين زدناه من مط. [3] . فى مط: الجبل، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 له منفذ إلّا إلى تخوم كرمان والتيز [1] ومكران وأرض خراسان. ولمّا نزلت عساكر الجيل ايذج خاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين علىّ بن بويه، فوافى الأهواز ومعه ابنه وقلّده السلطان أعمال الحرب والمعاون بها وارتسم أبو عبد الله أحمد بن محمّد البريدي بكتابة ياقوت مضافة إلى ما إليه من أعمال الخراج والضياع بالأهواز وصار أخوه أبو الحسين يخلف أخاه وياقوتا بالحضرة. وحصل رجال مرداويج برامهرمز فى غرّة شوّال من سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وصلّوا العيد بها وخطبوا لمرداويج وساروا إلى الأهواز فعسكر ياقوت بقنطرة أربق وقطعها والماء الذي تحت هذه القنطرة حاد الجرية فأقام رجال مرداويج بإزاء ياقوت أربعين يوما لا يمكنهم العبور إليه وسار ياقوت إلى بغداد على طريق دور الراسبي وسار علىّ بن خلف بن طناب فى البحر من ساحل مهروبان إلى البصرة. ورحل جيش مرداويج عن قنطرة أربق وضمن لهم طائفة من العيّارين أن يعبروا بهم نحو المسرقان بعسكر مكرم حتّى يصير الطريق بينهم وبين الأهواز جددا فعدلوا إليها. واجتمع البريدي [468] وياقوت فتشاوروا وقرّر الرأى على إنفاذ مونس غلام ياقوت فى أربعة آلاف رجل إلى عسكر مكرم لدفعهم عن عبور المسرقان وكانا حسبا أنّ القوم بعد منازلة [2] أربعين يوما قد ضجروا وانصرفوا وأنّهم لا يلبثون بعسكر مكرم إلّا يومين أو ثلاثة فلمّا حصلوا بها عملوا أطوافا [3] من خشب وشاشا [4] من قصب وعبر منهم خمسون رجلا   [1] . تيز (بكسر الأوّل) : بليدة على ساحل بحر مكران.. وبينها وبين «كيز» مدينة مكران خمس مراحل. (مراصد الإطلاع) . [2] . منازلة: كذا فى الأصل ومط. وما فى مد: منزلة. [3] . قطع من خشب مشدود بعضها إلى بعض يركب عليها. [4] . فى مط: وشاسا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 عليها فانهزم مونس لوجهه وعاد إلى مولاه فأخبره الخبر. وكان قد ورد إليه مدد من بغداد وخيل عظيمة فرحل لوقته من قنطرة أربق بعد اجتماع الجيل إليه بيومين وصاروا بأجمعهم إلى قرية الريح وهم بالحقيقة قد حصلوا من أمرهم على الريح. وصار ياقوت ومن تبعه وهم عدّة وافرة كثيرة إلى باذاورد ومنها إلى واسط فأفرج له محمّد بن رائق عن غربيها فنزله بعسكره وعرف علىّ بن بويه حصول عسكر مرداويج بالأهواز وشرح ما جرى وتملّق لكاتب مرداويج واستصلحه وأقام الخطبة وواقفه [1] على مال وأنفذ إليه رهينة فسكن مرداويج وقلّد علىّ بن بويه أرجان بعد انصراف ياقوت وعلىّ بن خلف عنها إبراهيم بن كاسك. واستقرّت كتابة ياقوت لأبى عبد الله البريدي [469] فورد الخبر وهو بالبصرة فى بستان المؤمّا يريد المسير فى طيّاره إلى واسط بقتل مرداويج فى الحمّام بإصبهان فأنفذ للوقت أبا عبد الله بن جنى الجرجرائى إلى الأهواز بخلافته عليها وقال له: - «اقصد ظاهر البلد بل أقم على فرسخ منه فإذا صحّ عندك خروج الجيل والديلم فادخله واثبت عند دخولك الفرسان والرجّالة فإنّى أنفذ من واسط أبا الفتح ابن أبى طاهر وأبا أحمد السجستانى فى ألف رجل لضبط البلد وكور الأهواز.» ثمّ وافى أبو علىّ غلام جوذاب كاتب البريدي فى طريق الماء وترتب ابن أبى طاهر بالأهواز وأبو أحمد السجستانى [2] بعسكر مكرم. ووافى إبراهيم بن كاسك من أرجان إلى رامهرمز طمعا فى الأهواز لما خلت فكاتبه علىّ بن بويه بالتوقف وألّا يبرحها حتّى يمدّه بالجيش فمن قبل ورود الجيش عليه   [1] . فى مط: ووافقة. [2] . فى مط: السجستاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 من فارس ما وافى ياقوت إلى عسكر مكرم على طريق السوس فلمّا بلغ إبراهيم بن كاسك خبره رحل من رامهرمز إلى أرجان. وكانت مع ياقوت قطعة من الديلم والأتراك والخراسانيّة فظنّ أنّهم يثبتون وأنّه مستظهر بهم ووافاه أبو عبد الله البريدي والتقيا بعسكر مكرم وأنفق فيه وفى رجاله ثلاثمائة ألف دينار على يد ابن بلوى وابن سريج [1] المنفقين وسيّرهم إلى أرجان [470] ووافاه علىّ بن بويه وحاربه بها فانهزم ياقوت هزيمة ثانية لم يفلح بعدها ولا شدّ منها حزاما ولم ينفعه عدد العجم والديلم ولا عجب من أمر الله وتبعه علىّ بن بويه إلى رامهرمز وخيف على الأهواز منه فراسله أبو عبد الله البريدي فى الصلح فاستجاب له وكاتب الوزير أبا علىّ ابن مقلة فيما قرره من الصلح فعرضه على الراضي بالله فأمضاه فانصرف علىّ بن بويه [2] إلى شيراز وعقدت فارس على علىّ بن بويه بما ذكرناه ونفذ إليه أبو عيسى المالكي باللواء والعهد وكان من أمره ما قدّمت ذكره. وقتل أبو الحسن علىّ بن بويه أبا سعد إسرائيل كاتبه ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ أبا سعد كان مكينا عند علىّ بن بويه يتبرّك به ويكرّمه جدا وكان يقود الجيش وله غلمان أتراك ولبس القباء والسيف والمنطقة وكان قد حارب فى وقت ياقوتا فهزمه. فكان أبو العبّاس الحنّاط القمّى يضرّب عليه دائما ويجتهد فى إفساد رأى صاحبه فيه فلا يقبل منه وينهاه عن ذكره فلا ينتهى إلى أن قال يوما وقد أكثر عليه فى الإغراء به:   [1] . فى مط: وابن شريح. [2] . فى مط: فانصرف علىّ من يومه، بدل «فانصرف علىّ بن بويه» !. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 - «يا هذا إنّ هذا الرجل صحبني وحالي صغيرة وقد بلغت ما ترى ولست أدرى هل [471] ما وصلت إليه بدولته أم بدولتى وليس إلى تغيير أمره طريق فإيّاك أن تعاودني فيه.» فما أغنى ذلك منه ولا انتهى عن الوقيعة فيه وثلبه. وكان بين أبى سعد هذا وبين حاجب لعلىّ بن بويه يقال له: خطلخ- وإليه مع الحجبة رئاسة الجيش- عداوة فاتفق أن دعى أبو سعد دعوة عظيمة دعا فيها علىّ بن بويه والقوّاد وأنفق فيها فى الخلع والحملان ما له قدر كثير ودعا خطلخ فلم يستجب إلى المصير إليه واجتهد به فلم يكن فيه حيلة وأصبح أبو سعد من غد يوم الدعوة فأقام على أمره ودعا من يأنس به وانتبه خطلخ من نومه وهو مغتاظ يزعم أنّه لا بدّ له من أن يركب إلى أبى سعد فيقتله لأنّه رأى فى نومه أبا سعيد يريد قتله فاجتهد به خواصّه فى أن يؤخّر ذلك فامتنع وحمل فى خفّه دشنيا وركب وقيل لأبى سعد أنّ خطلخ قد ركب على أن يجيئه فأنكر ذلك لأنّه كان دعاه فامتنع فلم يعرف لمجيئه إليه بغير استدعاء وجها، فاستعدّ ليستظهر وقال لغلمانه: - «تأهّبوا بالطبرزينات وكونوا مستترين فى المجالس حوله فإن أنكر من خطلخ أمرا صاح بهم فخرجوا ووضعوا عليه.» وحضر خطلخ فتلقّاه أبو سعد وجاء حتّى جلس [472] وأخذ يتجنّى ويعربد إلى أن ضرب يده إلى خفّه وأخرج الدشنى فصاح أبو سعد بالغلمان فخرجوا بالدبابيس والطبرزينات ووضعوا على خطلخ ووقع فى رأسه دبّوس فدوّخه وسقط وقدّر أنّه مات وحمل إلى منزله فعاش يومين ومات. فبادر أبو العبّاس الحنّاط إلى الأمير فى الوقت فوجده نائما فقال للغلمان: - «أنبهوه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 فلم يجسروا، [1] فصاح وجلب إلى أن أنبهه ودخل إليه وقال له: - «إنّ أبا سعد قتل حاجبك خطلخ.» فلم يصدّقه وانتهره فقال: - «وجّه وانظر.» فورد عليه الخبر بصدقه فاستعظم ذلك ووجم ساعة ودخل أبو سعد فلم يظهر له أنّه أنكر شيئا ولا أنّه استوحش وسأله عن السبب فيما فعله فعرّفه الصورة واستشهد من حضر فاستصوب ما فعله. وخاف أبو سعد ووجد أبو العبّاس الحنّاط فرصته وأقبل يقول: - «هو ذا يأخذ البيعة على القوّاد وهو خارج عليك لا محالة.» فوجّه الأمير إلى أبى سعد فأنسه غاية التأنيس وحلف له أيمانا مؤكّدة على ثقته به وأنّه لا يلحقه سوء من جهته. واتّفق أن أخرج أبو سعد صناديقه من البيوت إلى صحن داره ليسترها استظهارا وخلا بموسى فياذه يشاوره [2] فمضى الحنّاط إلى الأمير علىّ بن بويه [473] فقال له: - «قد استحلف أبو سعيد قوّادك وآخر من استحلفه موسى فياذه وها هو قد أخرج صناديقه وهو خارج الساعة.» فوجّه بالأمير بمن عرف خبره فرأى الرسول الصناديق وموسى فياذه خارجا من عنده فعاد إليه بالخبر فلم يشكّ الأمير حينئذ فى صحّة قول الحنّاط فقبض عليه وعلى جميع ماله من سائر الأصناف واعتقله. وكان فى الاعتقال إلى أن ورد بعض قوّاد الأتراك من بعض أعمال فارس فواطأه الحنّاط على الدخول مع أصحابه وهم خمسون رجلا مخرّقى الثياب مسودّى   [1] . فى مط: فلم يجرأوا. [2] . فى مط: فناره شاوه (كذا) ، بدل «فياذه يشاوره» وفياذه يحتمل أن يكون معرّبا أصله الفارسي: پياده، أى الراجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 الوجوه يضجّون بما جرى على خطلخ من أبى سعد ويتهددون إن لم يقتل أبو سعد. ففعل القائد ذلك ودخل والأمير على شرب فأمر بقتل أبى سعد ثمّ وقعت الندامة عند الصحو وبعد فوت الأمر واستكتب الأمير بعده أبا العبّاس الحنّاط وبقي معه إلى أن مات الأمير علىّ بن بويه. عود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام ونعود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام. لمّا حصل محمّد بن ياقوت بالحضرة وحصلت له الحجبة ورئاسة الجيش أدخل يده فى تدبير أعمال الخراج والضياع ونظر فيما ينظر فيه الوزراء وطالب أصحاب الدواوين بحضور مجلسه وألّا يقبلوا توقيعا بولاية [474] ولا صرف ولا غير ذلك من سائر الأحوال إلّا بعد أن يوقّع فيه بخطّه. وتجلّد أبو علىّ واحتمل ذلك وألزم نفسه المصير إليه فإذا صار إليه دفعتين صار هو إليه دفعة واحدة فكان أبو على كالمتعطّل لا يعمل شيئا ملازما لمنزله ويجيئه أبو إسحاق القراريطى كاتب محمّد ابن ياقوت فيطالعه بما يجرى وما يعمل. وفى هذه السنة قتل هارون بن غريب الخال. ذكر السبب فى قتله كان سبب ذلك أنّه لمّا بلغ هارون بن غريب تقليد الراضي بالخلافة وكان مقيما بالدينور- وهي قصبة أعمال ماه الكوفة- وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبما سبذان [1] ومهرجانقذق وحلوان وتدبّر أعمال الخراج والضياع بها- وهي النواحي التي كانت بقيت فى يد السلطان من نواحي المشرق بعد   [1] . فى مط: ماسندان، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 الذي غلب عليه مرداويج- رأى أنّه أحقّ بالدولة من كلّ أحد. فكاتب جميع القوّاد بالحضرة وأنّه إن صار إلى الحضرة وتقلّد رئاسة الجيش وتدبير الأمور أطلق لهم أرزاقهم على التمام ولم يؤخّر عنهم شيئا منها. وسار إلى بغداد حتّى وافى خانقين فغلظ ذلك على الوزير أبى علىّ ابن مقلة وعلى محمّد ابن ياقوت وعلى الحجريّة والساجيّة والمونسيّة وخاطبوا [475] بأجمعهم فقال الراضي: - «أنا كاره له، فامنعوه من دخول الحضرة وحاربوه إن أحوج إلى ذلك.» فلمّا كان يوم السبت لسبع خلون من جمادى الآخرة استحضر أبو بكر ابن ياقوت أبا جعفر بن شيرزاد وأوصله إلى الراضي بالله حتّى حمّله رسالة إلى هارون بن غريب بأن يرجع إلى الدينور وكتب معه كتابا فنفذ من وقته ووجد هارون قد صار إلى جسر النهروان وأدّى الرسالة وأوصل الكتاب فأجاب هارون بأنّه قد انضمّ إليه من الرجال من لا يكفيهم مال عمله. وعاد أبو جعفر بالجواب وأدّاه إلى الراضي بالله بحضرة الوزير أبى علىّ والحاجب أبى بكر محمّد بن ياقوت، فبذلوا له أن يقلّدوه أعمال طريق خراسان كلّها ويكون مالها مصروفا إليه زائدا على ما يأخذه. وقال الراضي بالله: - «سبيله أن يقتصر على بعض من معه من الرجال.» فنفذ أبو جعفر ومعه أبو إسحاق القراريطى بهذا الجواب. فلمّا أدّيا إليه الرسالة امتنع وقال: - «إنّ الرجال لا يقنعون بهذه الزيادة.» ثمّ قال: - «ومن جعل ابن ياقوت أحقّ بالحجبة والرئاسة منّى؟ الناس يعلمون أنّه كان فى آخر أيّام المقتدر يجلس بين يدىّ ويمتثل أمرى. ومن جعله أخصّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 بالخليفة منّى؟ وأنا نسيب أمير المؤمنين وقريبه [1] وابن ياقوت ابن غلام من غلمانه.» [476] فقال القراريطى: - «لو كنت تراعى ما بينك وبينه من القرابة لما عصيته» فقال: «لولا أنّك رسول لأوقعت بك. قم فانصرف.» ووضع هارون يده فى الاستخراج، فاستخرج أموال طريق خراسان وقبض على عمّال السلطان وجبى المال بعسف وخبط وظلم وتهوّر وكان الوقت قريبا من الافتتاح. فلمّا اشتدّت شوكته شخص محمّد بن ياقوت من بغداد فى سائر الجيوش بالحضرة ونزل فى المضارب بنهربين بإنفاذ أبى جعفر محمّد بن شيرزاد دفعة ثانية برسالة جميلة ووعده أن يواقفه [2] على عدّة الرجال الذين يتقرر الأمر معه على كونهم فى جملته وينظر فى جرائدهم وأرزاقهم لسنة خراجيّة. فإن وفى مال أعماله بماله ومالهم رجع إلى الدينور وإلّا سبّب له بالباقي على أعمال طساسيج النهروانات ونفذ إليه بهذه الرسالة يوم الإثنين. وقد وقعت طلائع عسكر هارون على طلائع عسكر محمّد بن ياقوت وأصحاب هارون هم المستظهرون وكثر مضىّ الجند من عسكر محمّد ابن ياقوت إلى هارون بن غريب مستأمنة إليه فتبيّن أبو جعفر من هارون أنّه اتّهمه بالميل إلى محمّد بن ياقوت وابن مقلة. فلمّا رأى منه ذلك استأذنه فى الانصراف بالجواب فقال: - «إنّى أخاف عليك [477] منه أن يعتقلك وإنّما بيننا وبين الوقعة وانكشاف الأمر بيننا ليلة واحدة.»   [1] . فى مط: وأنا مسبب أمير المؤمنين ومرتبه، بدل «وأنا نسبب أمير المؤمنين وقريبه» . [2] . فى مط: أن يوافقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 تزاحف العسكرين فلمّا كان فى يوم الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران وكان المبدأ من أصحاب هارون واشتدّ القتال واستظهر أصحاب هارون لأنّ عددهم أضعاف عدد ابن ياقوت وانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت وقطعة من الغلمان الحجريّة ونهب أصحاب هارون أكثر سواد ابن ياقوت ونكّسوهم عن دوابّهم وأثخنوا فيهم الجراحات وقتلوا منهم عدّة. فركب حينئذ محمّد بن ياقوت وسار حتّى عبر قنطرة نهربين ولم تزل الحرب غليظة إلى أن قارب انتصاف النهار وركب هارون بن غريب مبادرا وسار منفردا عن أصحابه على شاطئ نهربين يريد قنطرته لمّا بلغه أنّ ابن ياقوت قد عبر القنطرة وقدّر أنّه يقتله أو يأسره فتقطّر به فرسه فسقط منه فى ساقيه فلحقه يمن غلامه فضربه حتّى أثخنه بالطبرزينات ثمّ سلّ سيفه ليذبحه فقال له هارون: - «يا عبد السوء أنت تفعل هذا وتتولى بيدك [1] قتلى أىّ شيء أذنبت به إليك؟» فقال له: - «نعم أنا أفعل بك هذا.» وحزّ رأسه ورفعه وكبّر، فتبدّد رجال هارون ودخل بعضهم من طرق آخر إلى بغداد ونهب سواد هارون وأصحابه وأسر قوم. [478] وسار محمّد بن ياقوت إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بتكفينه ودفنه وأنفذ بمن يحفظ دار هارون من النهب ودخل بغداد وبين يديه رأس هارون وعدّة من قوّاده. فأمر الراضي بنصب الرؤوس على باب العامّة وخلع على ابن ياقوت وطوّق وسوّر.   [1] . فى مط: ببذل، بدل «بيدك» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 ودخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة تقليد الراضي ابنيه المشرق والمغرب وفيها قلّد الراضي ابنيه الأمير أبا جعفر وأبا الفضل المشرق والمغرب واستكتب لهما أبا الحسين علىّ بن أبى علىّ ابن مقلة وخلع على أبى الحسين لذلك يوم الإثنين لخمس خلون من المحرّم واستخلف أبو الحسين على كتابتهما أبا الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا وكتبت به الكتب. قتل مرداويج فى الحمّام بإصبهان وفيها ورد الخبر بغداد بأنّ غلمان مرداويج بن زيار الجبلي قتلوه فى الحمّام بإصبهان فتبجّح محمّد بن ياقوت وزعم أنّ التدبير فى ذلك كان له وأنّه كاتب غلاما كان له واستأمن إلى مرداويج بضعة عشر كتابا مع فيوج ذكرهم وسمّاهم من حيث لا يعلم أحد وأظهر كتبا من الغلام إليه فى هذا المعنى وأنشأ كتبا قرئ بعضها فى المسجد الجامع بهذا الخبر والشرح وكتب إلى أصحاب الأطراف وأعلمهم [479] أنّ التدبير كان له وكلّ ذلك كذب فإنّا سمعنا من شرح الصورة ما اقتضاه الأمر من أوّله إلى آخره ما نعلم أنّه لم يكن من تدبير بشرىّ. ذكر السبب فى قتل مرداويج وذكر ليلة الوقود المعروفة بالسّذق قال الأستاذ أبو علىّ أحمد بن محمّد مسكويه [1] أدام الله نعمته: حدّثنى   [1] . فى مط: محمد بن مسكويه، بزيادة «بن» وهو خطأ كما حقّقناه فى تصديرنا لهذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 الأستاذ الرئيس حقّا أبو الفضل ابن العميد رحمه الله أنّه لمّا حضرت ليلة الوقود التي تعرف بالسّذق كان تقدّم [1] مرداويج قبل ذلك بمدّة طويلة أن تجمع له الأحطاب من الجبال والنواحي البعيدة وأن ينقل له فى الوادي المعروف روذ وما قرب من الغياض والمحتطب. فكان يجمع ذلك من كلّ وجه وأمر بجمع النفط والنفّاطين والزرّاقات ومن يحسن معالجتها واللعب بها وتقدّم بإعداد الشموع العظام المجلّسة ولم يبق جبل مشرف على جرين إصبهان ولا تلّ ظاهر إلّا عبّئت عليه الأحطاب والشوك وعمل على مسافة بعيدة من مجلسه بحيث لا يمكن أن يتأذّى بالوقود كهيئة قصور عظيمة من الأجذاع وضبّبت [2] بالحديد الكثير حتّى تماسكت وحشيت بالشوك والقصب وصيدت له الغربان والحدأ وعلّق [480] بمناقرها وأرجلها الجوز المحشوّ مشاقة ونفطا وعمل بمجلسه الخاصّ تماثيل من الشمع وأساطين عظام منه لم ير مثلها ليكون الوقود فى ساعة واحدة على الجبال ورؤوس اليفاعات وفى الصحراء وفى المجلس على الطيور التي تطلق. ثمّ عمل له سماط عظيم فى الصحراء التي يبرز إليها من داره وجمع فيه من الحيوانات والبقر والغنم ألوف كثيرة وزيّن واحتشد له بما لم تجر العادة بمثله فلمّا فرغ من جميع ذلك وضربت مضاربه قريبا من السماط وحضر الوقت الذي ينبغي أن يجلس فيه مع القوم للطعام ثمّ للشرب خرج من منزله وطاف على سماطه وعلى الآلات التي ذكرتها للوقود فاستحقرها كلّها واستصغر شأنها وذلك [3] لأجل سعة الصحراء ولأنّ البصر إذا امتدّ فى فضاء واسع ثمّ انقلب عنه إلى هذه الأشياء المصنوعة استحقرها وإن كانت عظيمة.   [1] . الأصل مهمل فى الأول. فى مط: تقدم. فى مد: يقدم. [2] . كذا فى الأصل: ضبّبت فى مط: صيتت. [3] . كذا فى الأصل ومط: وذلك. وفى مد: (قال) وذلك، بزيادة «قال» ولا لزوم لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 فاغتاظ وتداخله من النخوة والجبريّة ما سكت معه ولم يتكلّم بحرف ودخل إلى خركاه فى خيمة عظيمة واضطجع ثمّ حوّل وجهه إلى خلاف الباب والتفّ بكسائه لئلّا يكلّمه أحد. واجتمع الأمراء والكبار والقوّاد وسائر الجند والنظّارة ولم يجسر على خطابه أحد ولا على [481] تحريكه وأبطأ على الناس خروجه حتّى فات الوقت. وأخذ الناس فى الإرجاف به فتحدّثوا سرّا وهمسا وخيفت الفتنة. فحينئذ مشى العميد حول الخركاه ودمدم بكلامه المقتضى للجواب فلم يتكلّم بحرف ولم يزل يدارى فى الكلام ويدعو له إلى أن اضطرّه إلى الجلوس ثمّ دخل إليه فقال: - «أيّها الأمير ما هذا الكسل فى وقت النشاط وحضور الأولياء وفرح الصديق وانخزال العدوّ؟» فقال: «يا أبا عبد الله وأىّ نشاط يحضرني مع الاستخفاف والاستهانة وقصور الأمر؟ والله لقد افتضحت فضيحة لا يغسلها عنّى شيء أبدا.» قال [العميد] [1] : ودهشت ساعة ثمّ قلت: - «أيّها الأمير وما ذلك؟» فقال: «أما ترى نزارة ما أمرت به من الاستكثار منه وقلّته ووتاحته [2] من الطعام والسماط [3] ثمّ من جميع آلات الوقود والأشياء المتصلة بها.» فقلت: «والله أيّها الأمير لقد عمل من هذه الأشياء ما لم يسمع بمثله فضلا عن أن يرى، فقم إلى مجلس أنسك وعاود النظر.»   [1] . وفى مط: قال: وتحيّرت ودهشت. فى مد: قال العميد: ودهشت. وفى مصورتنا للأصل بياض مكان «العميد» . [2] . الوتاحة: القلّة. [3] . السماط: ما يبسط ليوضع عليه الطعام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 فأبى ولجّ إلى أن قلت: - «فإنّ الأعداء يرجفون بكيت وكيت، فاتقّ الله اركب وطف طوفة لتزول الأراجيف ثمّ اعمل ما بدا لك فإنّا سنعتذر عنك.» فزاده ما حكيته له من [482] أراجيف الناس به غيظا وحنقا. ثمّ قام فركب كارها متحاملا وطاف مغضبا مغتاظا بقدر ما رآه الناس وانصرف إلى موضعه ولزم حالته الأولى وجمع الناس الذين دعوا على خبط [1] فأبى أكثرهم وانصرف من كان حاضرا وقالوا: - «لا نأنس [2] إلّا يأنس الأمير.» وبقي فى معسكره ثلاثا لا يظهر ولا يرى إلّا أنّه يعلم أنّه حاصل فى قصر أبى علىّ ابن رستم، فلمّا كان اليوم الثالث تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من جرين إلى داره وهي التي كانت لأبى علىّ ابن رستم بالمدينة ولها باب إلى الصحراء وباب إلى المدينة. فأسرج الغلمان واجتمعوا بالباب وذلك بعد الظهر فنعس نعسة ونام فأبطأ ودخل وقت العصر واتفق أن شغبت دوابّ الغلمان وارتفعت أصواتها وأصوات من يزجرها ولم يمكن أن يفرّق بينها لازدحامها بالباب ولأنّ أكثرها بأيدي غلمان الغلمان. [3] ينتظرون ركوب الأمير فركب الغلمان بركوبه. فانتبه مرداويج مذعورا لما كان فى نفسه من إقدام الناس عليه بالأراجيف وسأل من يليه عن السبب فلم يعرفوا صورة الأمر. فقام بنفسه واطّلع على الدوابّ والشاكريّة وإذا هم بأسرهم يصيحون لزجر الدوابّ والدوابّ قد سقط بعضها على بعض ولها [483] أصوات هائلة منكرة فارتاع   [1] . فى مط: على حبط، بإهمال الأول. [2] . كذا فى الأصل ومط: لا نأنس. فى مد: لا تأمن، خلافا للأصل. [3] . فى مط: غلمان (دون «الغلمان» ) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 ساعة حتّى عرف حقيقة الأمر. ثمّ سكن فسأل عن أصحاب الدوابّ فقيل: هم الغلمان الأتراك. فأمر أن تحطّ السروج عن ظهور الدوابّ وتجعل على ظهور الغلمان مع جميع آلتها ويدفع الدوابّ بأرسانها إليهم ليقودوها بأنفسهم إلى الاصطبلات. ففعلوا ذلك وكانت صورة قبيحة يتطيّر من مثلها ويتشاءم بها. ثمّ ركب هو بنفسه مع خاصّته وهو يتوعّد الغلمان حتّى صار إلى منزله قرب العشاء وكانت طشّة من مطرة بلّته. فلمّا دخل داره كانت كالخالية ليس فيها إلّا صبيان أصاغر [1] وخادم أسود كان أستاذ أولئك الغلمان. فدخل الحمّام يغيّر ثيابه وقد كان قبل ذلك بطش بغلمان أتراك كبار فحقدوه ولكن لم يكونوا يجدون أعوانا. فلمّا فعل بالجماعة ما فعل اغتنموا الصورة وانتهزوا الفرصة وقال بعضهم لبعض: - «ما وجه صبرنا على هذا الشيطان؟» فاتفقوا على الفتك به. ولمّا دخل الحمّام سألوا الغلام الذي يلي خدمته فى الحمّام ألّا يحمل معه سلاحه- وكان رسمه أن يدخل معه إلى الحمّام دشنيّا ملفوفا فى منديل- فقال الغلام: - «لا أجسر أن أتقدّم بين يديه وليس معى الدشنىّ. فاتفقوا على أن يكسروا حديدته [484] ويتركوا النصاب فى الجفن ثمّ يلفّ فى المنديل حتّى لا ينكر الصورة ويتركه فى زاوية الحمّام على الرسم. ثمّ هجم عليه جماعة والخادم الأسود جالس على كرسىّ بباب الحمّام. فلمّا رآهم ثار فى وجوههم وصاح بهم فضربه بعضهم بسيفه فاتقاه بيده فطاحت من الذراع وسقط، وهجم القوم وارتفعت الضجّة فأحسّ مرداويج بالشرّ فبادر فسند [2]   [1] . فى الأصل ومد: صبيان الأصاغر. وفى مط: الصبيان الأصاغر. [2] . فى مط: فسدّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 الباب من داخل بسرير- وكان يجلس عليه- بعد أن طلب الدشنىّ فلم يجده ودفع الغلمان الباب فتعذّر عليهم فصعد نفر منهم إلى قبّة الحمّام فكسر الجامات ورموه بالنشّاب فدخل البيت الحار وأخذ فى مداراتهم وضمن لهم كل جميل فكأنّهم تهيّبوه ساعة ثمّ علموا أنّ الغاية التي بلغوها منه ليس يجوز أن يكون بعدها صلح. فحمل بعضهم على ناحية الباب الذي وراءه السرير حتّى كسروه ودخلوا عليه، فشقّ بعضهم جوفه بسكين معه وضرب هو وجه بعضهم بكرنيب فضّة فى يده فأثّر فيه أثرا قبيحا وخرجوا من عنده وعندهم أنّه قد فرغوا منه. فقال لهم رفقاؤهم الذين كانوا خارج الحمّام: - «ما صنعتم؟» قالوا:- «شققنا جوفه.» فقال أحدهم: - «عودوا إليه [485] فحزّوا رأسه.» وإنّما فعلوا ذلك لأنّه كان اتّفق فى تلك الأيّام أنّ بعض الفرّاشين فى الدار شقّ بطنه بجراحة فخيط الجرح وعولج فسلم فخافوا أن يجرى ذلك المجرى فحزّوا رأسه. وقيل: إنّه لمّا عاودوه قد جمع حشوة بطنه وردّها وقبض عليها بشماله وقاتل بكرنيبه ساعة حتّى فرغ منه. فلمّا طرحوا رأسه فى الدار بادروا إلى الإصطبلات فأسرجوا الدوابّ وأوكفوا البغال واحتملوا من الخزائن ما أمكنهم من المال والسلاح ورحلوا. وفى خلال ذلك تهيّأ لبعض من فى الدار تسوّر الحيطان، فدخلوا المدينة وقد جنّهم [1] الليل، فخبّروا الجند والقوّاد بما جرى وهم سكارى متفرقون   [1] . فى مط: جهنّم الليل (!) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 واجتمع بعضهم وأوقدوا النيران وضربوا بالبوقات وأسرجوا الدوابّ وأخذوا السلاح وساروا إلى الصحراء لينقلبوا إلى الباب الذي منه المدخل فإلى أن يفعلوا ذلك فاتهم الغلمان ولم يجدوا غير غليمة أصاغر لا ذنب لهم فقتلوا منهم عدّة ثمّ كفّوا عنهم. وخشي أهل الرأى من حشمه أن تنتهب الخزائن. فأشار العميد بإحراقها وهدم البنيان عليها فسلم [486] المال وأكثر الذخائر لأنّ المتهمين حضروا والنار والدخان ثائره فى الموضع فلم يصلوا إلى شيء. هروب ركن الدولة وكان ركن الدولة أبو علىّ الحسن بن بويه رهينة عند مرداويج من جهة أخيه علىّ بن بويه عماد الدولة. فلمّا أحسّ بالصورة دارى الموكلين به وضمن لهم ضمانات كثيرة فساعدوه حتّى هرب بعد ليلة من قتل مرداويج. اتّفاق عجيب اتّفق له فى هربه لمّا خرج بقيوده إلى الصحراء وجلس ليكسرها أقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه فنكسهم وركب هو ومن معه البغال وحثّها حتّى سلم وفات الطلب. افتراق الأتراك فرقتين فأمّا الأتراك فافترقوا فرقتين: أمّا فرقة فسلكوا نحو فارس مستأمنين إلى علىّ بن بويه وفيهم خجخج الذي سملة توزون لمّا ملك العراق. وأمّا فرقة فسلكت الجبل وهي الأكثر عددا وفيهم بجكم الذي ملك الأمر بالعراق وتقلّد إمارة الأمراء بها فى أيّام الراضي وسنذكر من أخباره ما يليق بهذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 ما كان من أمر أصحاب مرداويج فأمّا ما جرى عليه أمر أصحاب مرداويج فانّ أبا مخلد كان يتحدّث- وكان من خدم مرداويج وصاحب دولته- أنّ تابوت مرداويج حمل إلى الرىّ. وقال: [487] فما رأيت يوما أعظم من اليوم الذي دخل فيه تابوته الرىّ وذاك أنّ الجيل والديلم بأجمعهم ساروا مشاة حفاة معه أربعة فراسخ. وذكر أنّه كان أخوه وشمكير ماشيا معهم ثمّ مضوا من إصبهان على بكرة [1] أبيهم معه إلى الرىّ وكان الناس لا يشكون أنّهم يستأمنون إلى علىّ بن بويه فبطل هذا الظنّ وقال: - «لم أر قطّ عسكرا هلك صاحبه فوفى له رجاله وجنده بغير درهم ولا دينار ذلك الوفاء فإنّهم صاروا إلى أخيه وشمكير على هذه الحال.» وعرف شيرج أن إصبهان خالية- وكان بالأهواز من قبله- فسار للوقت إلى عسكر مكرم وستر الخبر وكان بها هرجام الجيلىّ فأسرّ إليه بالخبر وأخذه معه ثمّ سار إلى تستر وبها جيلىّ وكان وجها كبيرا فحدّثه وأخذه معه وقصد جنديسابور وبها إسماعيل الجيلي وكلّ واحد من هؤلاء نظير لشيرج، فأطلعه على الأمر وسار بمسيره فصارت الجماعة إلى السوس وبها عبد الله بن وهبان القصباني البصري عامل كور الأهواز من قبل مرداويج والشابشتى الحاجب وكان ثقة مرداويج وكان رتّبهم مرداويج على ما ذكر أبو مخلد على أن يتوجّه [488] شيرج إلى واسط ثمّ إلى بغداد وكان مرداويج ينتظر خروج الشتاء فى سنة ثلاث وعشرين فيقصد أرجان أوّلا ثمّ يناجز علىّ بن بويه. فإذا فرغ منه عدل إلى الأهواز ثمّ منها إلى السوس وينفذ معظم خيله إلى   [1] . كذا فى الأصل ومط: بكرة. وفى مد: مكبّرة، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 شيرج ليتقدّمه إلى واسط. نوايا مرداويج وكان فى نفسه أن يملك بغداد ويعقد التاج على رأسه ويعيد ملك الفرس فعوجل بالقتل. فسار عسكره كلّه كما ذكرنا مع شيرج والشابشتى وابن وهبان من السوس إلى الرىّ على طريق شابرخواست والكرج يريدون وشمكير أخاه ما عارضهم معارض ولا أقدم أحد على منابذتهم والإفساد عليهم. ولمّا حصلوا بها بايعوه واستوزر وشمكير ابن وهبان وشكر له حسن تصرّفه لأخيه بالأهواز. وكان مرداويج يوم قلّده الأهواز أرزقه ألفى دينار فى الشهر وقال له: - «إن نصحت وأدّيت الأمانة استوزرتك بالحضرة ونصّبت الرايات بين يديك إلى باب نصيبين، وإن خنتني وشرهت نفسك فإنّ كركرتك كبيرة ومعدتك عظيمة والحلاوات بالأهواز كثيرة فهذا دشنى ترى انبساطه وحدّه والله لاشقنّ به بطنك هذه [489] الكبيرة.» فقال له: - «ستعلم أيّها الأمير كيف أنصح وأؤدّى الأمانة وأنّى مستحقّ لاصطناعك.» وكان هذا الرجل من أهل البصرة وله أب قصبانى وإنّما تقلّد فى أيّام ابن الخال همذان. فلمّا انهزم ابن الخال من وقعة مرداويج وقصد الحضرة لانتزاع الرئاسة من محمّد بن ياقوت وجرى عليه ما جرى حصل مرداويج بهمذان ووقع فى يده ابن وهبان فعفا عنه واستعمله فنفق عليه. وكانت كتب مرداويج ترد على ابن وهبان أن يعدّ له ايوان كسرى منزلا إذا تقدّمه إلى الحضرة ويعمّره ويعيده كهيئته قبل الإسلام وأنّه معتقد للمقام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 بواسط إلى أن يستتمّ ذلك وأنّه يراه وشيرج مع من معهما أكفاء لمن بالحضرة من ابن ياقوت والحجريّة والساجيّة وسائر الأصناف وأنّه مستغن عن أن يلقاهم بنفسه. وكان قد صاغ تاجا عظيما ورصّعه بالجوهر. وذكر أبو مخلد أنّه رآه قبل الحادثة بأيّام جالسا على سرير ذهب قد جعل عليه منصّة عظيمة وتفرّد بالجلوس عليه وجعل دونه سرير فضّة وعليه فرش مبسوط ودون ذلك كراسي كبار مذهّبة [490] وغير ذلك ليرتّب أصحاب الأقدار [1] مراتبهم فى الإجلاس. قال: وكان الكافّة من الناس بالبعد قياما ينظرون إليه ما ينطقون إلّا همسا إعظاما له وإكبارا لقدره. وفيها وقع بين أصحاب ياقوت ومحمّد بن رائق شرّ فاقتتلوا وقتل بينهم خلق. وفيها قبض على المظفّر ومحمّد ابنىّ ياقوت بتدبير أبى علىّ بن مقلة ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ أبا علىّ كان قلقا من غلبة محمّد بن ياقوت على سير الأمور ونظره فى جباية الأموال وحضور أصحاب الدواوين مجلسه وتفرّده بما يعمله الوزراء وعطلته هو، إلى أن تمّ تدبيره عليه. فلمّا كان يوم الإثنين لستّ خلون من جمادى الأولى ركب القوّاد إلى دار السلطان على رسمهم فى أيّام المواكب وحضر الوزير أبو علىّ ابن مقلة وأظهر الراضي أنّه يريد أن يقلّد جماعة من القوّاد عدّة نواح من المملكة ويخلع عليهم. وحضر   [1] . كذا فى الأصل ومط: الأقدار. وفى مد: الأوزار، وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 محمّد بن ياقوت للخدمة وأبو إسحاق القراريطى كاتبه معه وجلسوا على رسمهم فى الصحن التسعينى. ثمّ خرج الخدم إلى محمّد بن ياقوت فعرّفوه أنّ الخليفة يطلبه فقام مبادرا. [491] فلمّا دخل عدل به إلى حجرة قد أعدّت له وأخذ سيفه ومنطقته ووكّل به. ثمّ خرج الخدم إلى أبى إسحاق القراريطى فعرّفوه أنّ صاحبه يطلبه. فلمّا دخل عدل به إلى حجرة أخرى وحبس [1] . ووجّه بقوم إلى دار المظفّر بن ياقوت فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وحبس مع أخيه وكان وجد قريبا من السكر لأنّه كان يشرب ونفذت حيلة الوزير أبى علىّ عليهم وتقدّم إلى الغلمان الحجريّة والساجيّة أن يصيروا إلى دار السلطان وأن يضربوا مضاربهم فى بابى الخاصّة والعامّة ليحفظوا الدار وأمر مفلح الأسود أن يصير إلى دار محمّد بن ياقوت.. [2] وخلع عليه وسلّم القراريطى إلى الوزير أبى علىّ فأخذ خطّه بخمسمائة ألف دينار ثمّ تقرّر أمره على ثلاثة آلاف ألف درهم. وانحدر ياقوت من واسط إلى السوس بجميع أصحابه وكتب إلى الراضي بالله كتابا فى أمر ابنيه يستعطفه فيه لهما ويرقّق قلبه عليهما ويسأله الإحسان إليهما وتجديد الصنيعة عندهما وعنده فيهما وأن يلحقهما ليعاوناه على أمره ويكونان [3] معه فى حروبه. ولمّا زال أمر محمّد بن ياقوت وتفرّد أبو علىّ بالتدبير استخلف ابنه أبا الحسين [492] على جميع الدواوين والأعمال وصارت مكاتبة جميع أصحاب الدواوين له وإنفاذهم الأعمال إليه. فصار يعزل ويولّى ويحلّ ويعقد وصار إليه أبو عبد الله أحمد بن على الكوفي وطرح نفسه عليه وارتسم   [1] . فى مط: جلس. [2] . سقط بعض الألفاظ من الأصل ومط. [3] . ويكونان: كذا فى الأصل ومط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 بكتابته وكان يكتب لأبى إسحاق القراريطى وكان مستوليا عليه فقبله أبو علىّ واختصّ به وبابنه. وشغب الجند وطالبوا بأرزاقهم وصاروا إلى دار الوزير أبى علىّ ونهبوا اصطبلاته وأخذوا من بابه من كان فى مجلسه ونكسوا جماعة ممّن لقيهم من الكتّاب عن دوابّهم وأخذوها منهم فأطلق لهم أرزاقهم وسكنوا. وفيها قوى أمر أبى عبد الله البريدي واستفحل أمره ذكر أسباب ذلك كان أبو عبد الله البريدي ضامنا أعمال الخراج والضياع بالأهواز. فلمّا وافاها شيرج بن ليلى الديلمي من قبل مرداويج خرج إلى البصرة بعد هزيمة ياقوت وغلامه مونس كما كتبناه قبل وأقام يدبّر أسافل الأهواز إلى أن قرر له محمّد كتابة ابنه. فخرج معه إلى واسط فبينا هو معه يدبّر أمره إذ ورد [الخبر] [1] بالقبض [493] على محمّد والمظفّر ابني ياقوت فارتاع ياقوت من ذلك ارتياعا شديدا. وكتب أبو علىّ ابن مقلة إلى أبى عبد الله البريدي: أن يسكّنه ويعرّفه أنّ الجند اضطربوا وتطيّروا [2] لهما وشغبوا مرارا كما بلغك. ثمّ أرسلوا للخليفة بأنّه إن لم يقبض عليهما أحدثوا فى الملك حادثة عظيمة واضطرّ إلى أن يرضيهم بما أمضاه فيهما وأنّه يتلافى أمرهما عن قرب وينفذهما إليه وأنّ الرأى أن يبادر هو لفتح فارس. فخرج ياقوت من واسط على طريق السوس إلى عسكر مكرم وأخرج أبو عبد الله البريدي معه أبا الحسن ابن حميد البصري ليخلفه على كتابته وكان   [1] . ما بين المعقوفتين زدناه من مط. [2] . فى مط: وتغيّروا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 صنيعته وأخرج أبا زكريا يحيى بن سعيد السوسي لخدمته فى بلده، فدخل ياقوت عسكر مكرم وهما معه. ثمّ وافى أبو عبد الله البريدي من طريق الماء إلى الأهواز وورد بعده أبو يوسف أخوه وكان إليه السوس وجنديسابور شركة بينه وبين أخيه أبى الحسين. وادّعيا أنّ مال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة احتمله شيرج بن ليلى وأنّ النواحي معطّلة الارتفاع فى السنة التي بعدها فأنفذ أبو علىّ ابن مقلة ابن عينويه [1] لكشف ذلك [494] وطابقهما وكتب يصدّقهما. فكانت هذه الفتنة نعمة على أبى عبد الله وأبى يوسف البريديين فإنّه تحصّل لهما بها وممّا بعدها إلى وقت انهزامهما من الأهواز على ما حدّث به أبو الفرج ابن أبى هشام أربعة آلاف ألف دينار خرجا بها على السلطان ثمّ قصدا عسكر مكرم للاجتماع مع ياقوت فوافياها وتلقاهما فى الموضع المعروف بفوهة النهرين وسيّراه إلى أرجان لفتح فارس. خروج توقيع من الراضي بالله وفيها خرج توقيع الراضي بالله بأن تكون المخاطبة والمكاتبة من جميع الناس لأبى الحسين علىّ بن محمّد بن مقلة بالوزارة وكان سنّة إذ ذاك ثماني عشرة سنة وأن يكون الناظر فى الأمور صغيرها وكبيرها وتقدّم إلى جميع أصحاب الدواوين بذلك وخلع على أبى الحسين خلع الوزارة وخوطب بها وحمل على شهري وانصرف من دار السلطان على الظهر ومعه القوّاد والجيش والخدم وأصحاب الدواوين. وانصرف أبو علىّ فى طيّاره إلى منزله وصار إليه ابنه بالخلع وطرح له   [1] . عينويه: كذا فى الأصل. ما فى مط مهمل تماما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 مصلّى فى مجلس أبيه ودخل الناس معه وهنّئوا أبا علىّ وأنشده الشعراء وأمر أبو الحسين ونهى ووقع [495] وصار طرح المصلّى فى مجلس أبيه رسما له. وخرج رسم أبيه إلى جميع أصحاب الدواوين ألّا ينفذوا توقيعا له إلّا بعد عرضهم إيّاه على ابنه أبى الحسين واستيماره فيه وأخذ توقيعه بخطّه فيه بامتثاله. وشغب الفرسان شغبا بعد شغب وكانوا يأخذون دوابّ الناس من باب الوزير. وفيها ركب بدر الخرشنى فنادى فى جانبي بغداد فى أصحاب أبى محمّد البربهارى الحنبليّة ألّا يجتمع منهم نفسان فى موضع واحد وحبس جماعة منهم واستتر البربهارى وكان سبب ذلك كثرة تشرّطهم على الناس وإيقاعهم الفتن المتصلة. وخرج توقيع الراضي بالله إلى الحنبليين بما نسخته: - «بسم الله الرحمن الرحيم. من نافق بإظهار الدين وتوثّب على المسلمين وأكل به أموال المعاهدين كان قريبا من سخط ربّ العالمين وغضب الله وهو من الضالين. وقد تأمّل أمير المؤمنين أمر جماعتكم وكشفت له الخبرة عن مذهب صاحبكم [فوجده كإبليس اللعين ي] [1] زيّن [2] لحزبه المحظور ويدلّى لهم حبل الغرور. فمن ذلك: تشاغلكم بالكلام فى ربّ العزّة تباركت أسماؤه وفى نبيّه والعرش [496] والكرسىّ، وطعنكم   [1] . بياض فى الأصل وما بين المعقوفتين زدناه من مط. [2] . فى مط: يدبّر، بدل «يزيّن» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 على خيار الأمّة ونسبكم شيعة أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الكفر والضلال، وإرصادهم بالمكاره فى الطرقات والمحالّ، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة، والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، ولا يقتضيها فرائض الرحمن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة صلوات الله عليهم، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وإنّكم مع إنكاركم ذلك تتلفّقون وتجتمعون لقصد رجل من العوامّ ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتأمرون بزيارة قبره والخشوع لدى تربته والتضرّع عند حفرته. - «فلعن الله ربّا [1] حملكم على هذه المنكرات ما أرداه [2] ، وشيطانا زيّنها لكم ما أغراه، وأمير المؤمنين يقسم الله قسما جهد أليّة يلزمه الوفاء به، لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم ومعوّج طريقتكم ليوسعنّكم ضربا وتشريدا وقتلا وتبديدا وليستعملنّ السيف فى رقابكم، والنار فى محالّكم ومنازلكم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فقد [497] أعذر من أنذر، وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله، عليه يتوكّل وإليه ينيب.» شغب الجند وفيها شغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فوقع النهب فى خزانة له فيها   [1] . ربّا: كذا فى الأصل. وما فى مط: دماء (؟) . [2] . فى مط: ما أراده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 زجاج مخروط وبلور وصينى وغير ذلك فدخلوا الدار وشغبوا فيها وخرج الوزيران عن دورهما وصارا إلى الجانب الغربي. وكان الوزير أبو علىّ نفى الخصيبى وسليمان بن الحسن إلى عمان وكاتب صاحب عمان بحبسهما والتضييق عليهما فأطلقهما ووردا بغداد مستترين فورد على الوزير من ذلك ما أقلقه وكبس عليهما عدّة مواضع فلم يظفر بهما. خروج ابن مقلة إلى الموصل وفيها قتل الحسن بن عبد الله بن حمدان عمّه أبا العلاء سعيد بن حمدان وخرج لذلك أبو علىّ ابن مقلة إلى الموصل. ذكر السبب فى ذلك كان أبو العلاء شرع فى تضمّن الموصل وديار ربيعة فضمّن ذلك سرّا وخلع عليه وأظهر أنّه ينفذ [1] إلى الموصل لمواقفة ابن أخيه أبى محمّد على ما عليه من مال الضمان ومطالبته بحمله وشخص فى نحو خمسين غلاما من غلمانه. فدخل الموصل وعرف ابن أخيه خبر موافاته [498] فخرج نحوه مظهرا لتلقّيه واعتمد أن يخالفه الطريق فلا يراه ومضى أبو العلاء إلى دار أبى محمّد فنزلها وسأل عن خبره فعرّف أنّه خرج ليتلقّاه فجلس ينتظره. فلمّا علم أبو محمّد أنّ عمّه قد حصل فى داره وجّه بغلمانه فدخلوا إلى أبى العلاء إلى البيت الذي كان فيه فقبضوا عليه وقيّدوه. ثمّ وجّه بقوم علوه بأسيافهم وقتلوه ولم يقع بينه وبين ابن أخيه لقاء. وورد الخبر بذلك إلى الراضي فأنكره وتقدّم إلى الوزير أبى علىّ بالتأهّب   [1] . ينفذ: كذا فى الأصل. وفى مط: يتقلّد. وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 للخروج إلى الموصل والإيقاع بالحسن بن عبد الله بن حمدان والنائب عنه بالحضرة. فذكر أنّ علىّ بن عيسى كتب إلى الحسن بن عبد الله بن حمدان بخطّه عن أمير المؤمنين الراضي بالله بالانفراج عن ضمانه وألّا يحمل شيئا إلى الحضرة من ماله وأن يمنع من حمل الميرة إلى بغداد فأخذ أبو علىّ ابن مقلة خطّة بذلك وأحضر جماعة من الشهود حتّى شهدوا عليه. وسلّم الوزير الكتاب إلى ابن سنجلا ليعرضه على الراضي بالله. فلمّا كان من غد وهو يوم الأربعاء انحدر الوزير أبو علىّ إلى دار السلطان وانصرف إلى منزله. فوجّه الراضي براغب وبشرى خادميه إلى علىّ بن عيسى فحملاه إلى الوزير [499] أبى علىّ فلم يوصله إليه واعتقله فى حجرة من داره وراسله علىّ بن أحمد بن علىّ النوبختي وعرّفه ما أشهد به سهل بن هاشم على نفسه وأنّ الخليفة أنكر فعله. وما زالت المراسلات تتردد بينهما إلى أن ألزمه أبو علىّ مصادرة خمسين ألف دينار على أن يجعل فى باب أبى جعفر بن شيرزاد صاحب ديوان النفقات للأتراك عشرة آلاف دينار وتؤخذ منه عقار وضياع بعشرة آلاف دينار فالتزم أبو الحسن ذلك. فيقال: إنّ طليبا [1] الهاشمي كان قال لعلىّ بن عيسى عن الراضي بالله أن يكاتب الحسن بن عبد الله عنه ويتوسّط بينهما على أن يحمل إليه سرّا سبعين ألف دينار فى نجوم، وشرط عليه الحسين أن يحميه ويمنع منه ومن تشعيث أمره ويقرّه على ضمانه ولا يقبل زيادة عليه فحمل بعض تلك النجوم وأخّر باقيها وأنكر الخليفة كلّ ما جرى فى هذا الباب وذكر أنّه لم يصل إليه شيء. وأخرج مضرب الوزير أبى علىّ وخرج على مقدمته نقيط الصغير وابن بدر الشرابي وجماعة من الحجريّة وغيرهم وخلّف ابنه الوزير أبا الحسين   [1] . فى مط: طلبيا، بدل «طليبا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 بالحضرة فى خدمة السلطان وتدبير الأمور. وقبل شخوصه أطلق [500] أبا الحسن علىّ بن عيسى وأخرجه إلى ضيعته بالصافية وأحلفه على أنّه لا يسعى فى مكروهه ولا يتكلّم فيه بما يقدح فى حاله ولا فيما يفسد أمره ولا يسعى فى الوزارة لنفسه ولا لغيره من سائر الناس. فحلف وخرج من وقته إلى الصافية. ولمّا قرب الوزير أبو علىّ من الموصل رحل عنها أبو محمّد وتبعه الوزير إلى أن صعد جبل التنين ودخل بلد الزوزان فعاد حينئذ أبو علىّ إلى الموصل وأقام بها يستخرج مال البلد ويستسلف من التجّار المجهزين للدقيق مالا على أن يطلق لهم به غلّات البلد فاجتمع له من ذلك أربعمائة ألف دينار. ولمّا طال مقام الوزير بالموصل احتال سهل بن هاشم كاتب أبى محمّد بن حمدان فبذل للوزير أبى الحسين ابن الوزير أبى علىّ عشرة آلاف دينار حتّى كتب إلى أبيه بأنّ الأمور بالحضرة قد اضطربت عليه وأنّه متى تأخّر وروده الحضرة لم يأمن حدوث [1] حادثة يبطل بها أمرهم. فانزعج الوزير من ذلك وقلّد علىّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بالموصل وديار ربيعة وقلّد أعمال المعاون بها ماكرد الديلمي من الساجيّة وتقدّم بتوفية التجّار ما استسلفه منهم من المال، وانحدر [501] إلى الحضرة وخرج لتلقّيه الأمير أبو الفضل وأصحاب الدواوين والقوّاد ولقى الخليفة وانصرف إلى منزله وخلع عليه من الغد وعلى ابنه خلع منادمة وحمل إليهما ألطاف وشراب وطيب وبلّور. وكان الوزير أبو علىّ كتب إلى الوزير ابنه قبل أن ينحدر من الموصل بإزالة التوكيل عن أبى الحسن علىّ بن عيسى وأن يكتب إليه أجمل خطاب   [1] . يوئس (يويس) : كذا فى الأصل. وفى مط: يونس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 ويخيّره بين الانصراف إلى مدينة السلام وبين المقام بالصافية، فكتب إليه الوزير أبو الحسين بذلك. وكان السبب فيما كتب به الوزير أبو علىّ من ذلك أنّه كان كتب إلى أبى محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان فقبل الكتاب وقال للرسول: - «ليس بيني وبين هذا الرجل عمل- يعنى ابن مقلة- ولا أقبل ضمانه لأنّه لا عهد له ولا وفاء ولا ذمّة ولا أسمع منه شيئا. اللهم إلّا أن يتوسّط أبو الحسن علىّ بن عيسى بيني وبينه ويضمن لى عنه فاسكن إلى ذلك وأقبله.» وكان أبو عبد الله أحمد بن على الكوفي مقيما بالحضرة فى وقت خروج أبى على ابن مقلة إلى الموصل ويلزم مجلس الوزير ابى الحسين يظهر له النصيحة والموالاة ويجتهد [502] فى التخلّص منه والبعد عنه إلى أن ورد كتاب أبى عبد الله البريدي يوئس [1] فيه من حمل مال إلى الحضرة فى ذلك الوقت. فغلظ على الوزير أبى الحسين ذلك لأنّه كان أعدّ ما يحمله لوجوه فأقرأ أبا عبد الله الكوفي كتاب البريدي فاستعظم ما فيه وأشار بأن يخرج هو إلى الأهواز ليواقف البريدي على أمر الرجال الذين أحال بصرف المال إليهم ويعرضهم ويطلق ما يجب لهم ثمّ يحمل إلى الحضرة مالا عظيما ويحمل ساعة وصوله مائة ألف دينار. فكتب الوزير أبو الحسين إلى أبى عبد الله البريدي بأنّه لا يقبل فى تأخّر المال عنه عذره وقد أحوجه إلى إنفاذ أبى عبد الله أحمد بن علىّ الكوفي لمواقفته على أمر المال ومطالبته بحمله ونفذ الكتاب وتبعه أحمد بن علىّ إلى الأهواز. فلمّا حصل عند أبى عبد الله البريدي لم يمكنه مخالفته على ما   [1] . فى مط: يونس. وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 يريد وكتب أنّه لم يتمكّن من عرض الرجال ولا المواقفة [1] على أمر المال، وأقام عنده إلى أن انظر أبو بكر ابن رائق فى الأمور بالحضرة. واستوحش أبو عبد الله الكوفي من البريدي وخافه وأراد البعد منه وخاف بوادره فأطمعه فى إفساد أمر الحسين بن علىّ النوبختي [503] مع ابن رائق. وكان الحسين بن علىّ من أعدى الناس للبريديين فقبل منه وأطلقه وواقفه على ما يعمل به ويبذله من المال لإزالة أمر الحسين بن علىّ النوبختي. وكان أبو عبد الله الكوفي عند مقامه عند أبى عبد الله البريدي يصغّر [2] فى نفسه أمر الحضرة ويصف له إدبارها بسوء تدبير ابن مقلة وإبطاله مال واسط والبصرة بابن رائق وبإيقاعه ببني ياقوت وما دبّر فى أمر الحسن ابن عبد الله بن حمدان وباجتثاثه أصل الخلافة دفعة واحدة وقال فى ذلك وأكثر وقال فى عرض ذلك: - «هو الذي جرّأ الغلمان الحجريّة على ابن ياقوت فهم بعد أشدّ جرأة عليه وأنّ هلاكه ليس يبعد.» فوقع ذلك من البريدي أحسن موقع واختصّ الكوفي ولم يستكتبه بل كان يشاوره ويكرمه ويعاشره. فذكر أبو الفرج ابن أبى هشام أنّ أبا عبد الله الكوفي قال له بواسط فى أيّام سيف الدولة: - «ما مرّ لى عيش أطيب من عيشي مع البريدي فإنّى أقمت عنده نحو سنة غير متصرّف ولا داخل تحت تبعة ولا تعب بنظر فى عمل ولقد عاشرنى أجمل عشرة ووصل إلىّ منه عينا وورقا ومن [504] قيمة العروض التي أنفذها إلىّ خمسة وثلاثون ألف دينار ولم أخرج من الأهواز إلّا وأنا متقلّد   [1] . فى مط: الموافقة. [2] . فى مط: يضع، بدل «يصغّر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 كتابة ابن رائق وقد كفيت أمر ابن مقلة بالقبض عليه وكان غير مأمون. والحمد لله الذي لم يخرجه من الدنيا حتّى دمّر عليه كتدميره على الدنيا. ألحق الله ابنه به فإنّه شرّ منه لأنّ ما كان فى أبيه فهو فيه من وقاحة وقساوة وخسّة وكان الأب على عيوبه ربّما رحم وأكرم على حاشيته وأهل داره دون الغرباء ولكنّ هذا ناصر الدولة مجتهد فى أن يغرّه ويحصّله وإن حصل رجوت أن يسمله، فإنّ فى نفسه عليه وعلى ابنه العظائم.» وأطلق الكوفي لسانه بهذا كلّه فى مجلسه وليس بين يديه غيرى وغير أبى علىّ ابن صفيّة كاتبه النصراني. وأظهر أبو عبد الله البريدي بالأهواز كتابا من أبى علىّ ابن مقلة بخطّة إليه يقول فيه: - «الويل للكوفىّ العاضّ [1] منّى أنفذته ليصلحك لى فأفسدك علىّ وأطمعك وأصغيت بالشره إليه والله لأقطعنّ يديه ورجليه فأمّا أنت فأرجو ألّا تصرّ على كفر نعمتي وإحسانى إليك وأنت تنيب [505] بك الرؤية إلى رعاية حقوق اصطناعى لك فترضينى من نفسك وتعينني فى مثل هذه الحالة الصعبة التي لم يدفع من جلس مجلسي فى دولة من الدول إلى مثلها وأن تجيرني ممّا قد أظلّنى بمال تحمله فتحفظ به نعمتك التي إحداهما فى يدي والأخرى فى يدك إن شاء الله.» ولمّا انحدر أبو علىّ ابن مقلة من الموصل عاد أبو محمّد عن الزوزان إليها وحارب ماكرد الديلمي وانهزم الحسن بن عبد الله ثمّ عاود محاربته وكانت الوقعة بينهما على باب الروم من أبواب نصيبين فانهزم ماكرد إلى الرقّة وانحدر منها فى الفرات إلى بغداد وانحدر علىّ بن خلف بن طناب وتمكّن   [1] . كذا فى الأصل: العاضّ. فى مد: الغاضّ. وفى مط: العاصي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 الحسن بن عبد الله من الموصل وديار ربيعة وكتب إلى السلطان يسأل الصفح عنه وأن يضمن نواحيه فأجيب إلى ذلك وضمنها. ووافى التجّار الذين استسلف أبو علىّ مالهم ولم يوفوا الغلّات التي ابتاعوها فطالبوا أبا علىّ بردّ أموالهم عليهم فدفعته الضرورة إلى أن يسبّب لهم على عمّال السواد بعض مالهم ودافعهم ثمّ باع عليهم بالباقي ضياعا سلطانيّة فلم يحصل لخرجته كبير فائدة بعد الذي ردّ على التجّار [506] وبعد الذي أنفق على سفره والجيش الخارج معه. اعتراض أبى طاهر القرمطىّ للحاجّ وفى هذه السنة حجّ الناس فلمّا بلغوا القادسيّة اعترضهم أبو طاهر القرمطى وكان مع الحاجّ من قبل السلطان لؤلؤ غلام المتهشّم. فظنّ لؤلؤ أنّهم أعراب فحاربهم أهل القوافل شيئا كثيرا وسأل عمر بن يحيى العلوي فيمن دخل القادسيّة فآمنهم ثمّ تسلّلوا من القادسيّة وبطل الحجّ فى هذه السنة. وصار أبو طاهر إلى الكوفة وأقام بها. انقضاض الكواكب وفى تلك الليلة بعينها انقضّت الكواكب من أوّل الليل إلى آخره ببغداد والكوفة وما والاهما انقضاض مسرفا جدا لم يعهد مثله ولا ما يقاربهما. وشغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فنقبوا عدّة مواضع ولم يصلوا لأنّ غلمان الوزير دفعوهم ورموهم بالنشّاب من فوق السور. وفيها مات أبو بكر محمّد بن ياقوت فى الحبس فى دار السلطان بنفث الدمّ فأحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمّد ومعه جماعة وأخرج إليهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 محمّد بن ياقوت حتّى فتّشوه ومدّوا لحيته وعلموا أنّه مات حتف أنفه. ثمّ تسلّم إلى أهله وباع الوزير ضياعه وأملاكه وقبض على أسباب محمّد بن ياقوت كلّهم. [507] استيمان غلمان مرداويج وفى هذه السنة قلّد الوزير أعمال الجبل أبا علىّ الحسن بن هارون وخرج إليها فلمّا حصل بها استأمن إليه غلمان مرداويج الأتراك الذين قتلوه فى الحمّام فقبلهم وكانوا ثلاثمائة غلام. فلمّا كان بعد مدّة شغبوا عليه وطالبوه بالأرزاق وقبضوا عليه وقيّدوه ثمّ أطلقوه. ولمّا ورد الخبر بالقبض عليه قلّد الوزير مكانه أبا عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى وبلغ ذلك الحسن بن هارون فخافه للعداوة بينهما واستتر وصار إلى بغداد مستترا وأقام على استتاره مدّة. ثمّ راسل الوزير أبا علىّ وقرّر أمره على مصادرة أوقعها بخمسة عشر ألف دينار فلمّا تقرّر أمره ظهر وأقام محمّد بن خلف فى الجبل مديدة [1] . وأقبل غلمان مرداويج وفيهم بجكم إلى جسر النهروان وراسلوا السلطان فأمرهم بدخول الحضرة فدخلوا وعسكروا بالمصلّى. واضطربت الحجريّة وظنّوا أنّها حيلة عليهم فاجتمعوا وطالبوا الوزير أبا علىّ بأن يرضيهم ويردّهم فاستدعى جماعة من وجوههم وواقفهم على أن ينضمّوا إلى محمّد بن علىّ غلام الراشدي ويقلّده الجبل ويطلق لهم أربعة عشر ألف دينار نفقات لهم ثمّ بسبّب مالهم [508] على أعمال الجبل فقالوا: - «ننصرف ونعلم باقى أصحابنا ذلك.»   [1] . فى الأصل ومط: ومدّ يده (بالضبط) . وفى مد: مديدة وهو الصحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 فلمّا انصرفوا لم يقنعوا وكان خبرهم قد اتّصل بأبى بكر ابن رائق بواسط وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبالبصرة فكاتبهم فراسلهم واستدعاهم ووعدهم الإحسان. فمالوا إليه واختاروه وساروا إليه فقبلهم وأثبتهم وأسنى لهم بالرزق ورأس عليهم بجكم وسمّاه: بجكم الرائقى، ورفع منه وموّله وأحسن إليه وأفراط فى ذلك وضمّ جميع الغلمان إليه وتقدّم إليه بأن يكاتب كلّ من بالجبل من الأتراك والديلم بالمصير إليه ليثبتهم فصار إليه عدّة وافرة منهم فأثبتهم وضمّهم إلى بجكم. ودخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة عدّة حوادث وفيها أطلق المظفّر بن ياقوت من حبسه فى دار السلطان إلى منزله بمسألة الوزير أبى علىّ فيه، وحلف الوزير بالأيمان الغليظة على أنّه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له فى مكروه. وفيها قلّد الوزير محمّد بن طغج أعمال المعاون بمصر مضافة إلى ما يتقلّد من أعمال معاون الشام وأدخل الراضي القضاة والعدول حتّى عرّفهم تقليده محمّد بن طغج وأمرهم بمكاتبة أصحابهم وخلطائهم بذلك [509] لئلّا ينازعه أحمد ابن كيغلغ فإنّه كان يتولّى مصر. وفيها قطع محمّد بن رائق حمل مال ضمانه عن واسط والبصرة إلى الحضرة واحتجّ باجتماع الجيش عنده وحاجته إلى صرف المال إليهم. وفيها تمّت حيلة المظفّر بن ياقوت حتّى قبض على الوزير أبى علىّ ابن مقلة لأنّه صحّ عنده أنّه هو قتل أخاه وكان السبب فى حبسهما وإزالة أمرهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 ذكر هذه الحيلة على أبى علىّ ابن مقلة لم يزل يحبّ التشفّى والأخذ بالثأر منذ أطلقه الوزير ولكنّه يكتم ذلك إلى أن واقف الحجريّة وضرّبهم عليه. وبلغ الوزير ذلك فأخذ يعتضد ببدر الخرشنى صاحب الشرطة فقوى أمر بدر وواقفه [1] على أن يستولى على دار السلطان فيحصل فيها ويمنع الغلمان الحجريّة منها لأنّه بلغه أنّهم قد عملوا على المصير إلى الدار والمقام ففعل بدر ذلك وحصل هو وأصحابه بالسلاح فى الدار ومنع الغلمان الحجريّة من دخولها ولم يظهر الوزير أنّ الذي فعله بدر كان عن رأيه. ثمّ جمع بين الساجيّة وبين بدر حتّى تحالفوا على معاونة بعضهم بعضا. فلمّا وقف المظفّر بن ياقوت على ذلك ضعفت نفسه وأشار [510] الحجريّة بالخضوع للوزير والتذلّل له ولم يزالوا يلطفون للوزير ويتحققون بخدمته إلى أن أنس بهم وسألوه صرف بدر وبذلوا له كلّ ما أراد من الطاعة والموالاة له إلى أن انخدع وصرف بدرا وأصحابه. فلمّا خلت دار السلطان منهم ومن الساجيّة تحالف الحجريّة على أن تكون كلمتهم واحدة فصاروا بأجمعهم إلى دار السلطان وضربوا خيمهم فيها وحولها وملكوها وصار الراضي فى أيديهم وحزبهم. فندم الوزير وعلم أنّ الحيلة تمّت عليه فتقدّم إلى بدر بأن يخرج إلى المصلّى فى أصحابه من غير أن يعلم أحد أنّه فعل ذلك برأى الوزير وأمره فخرج بدر وأثبت زيادة من الرجّالة. وبلغ ذلك الحجريّة فطالبوا الراضي بالله أن يخرج معهم إلى المسجد الجامع فى داره فيصلّى بالناس ليراه الناس معهم فيعلمون أنّه فى حيّزهم.   [1] . كذا فى الأصل ومط: واقفه. فى مد: وافقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 فخرج الراضي يوم الجمعة إلى المسجد الجامع الذي فى داره ومشى الغلمان بأسرهم بين يديه وحوله بالسلاح رجّالة وصلّى بالناس وصعد المنبر وخطب وقال فى خطبته: - «اللهم إنّ هؤلاء الغلمان بطانتى وظهارتى فمن أرادهم بسوء فأراده به ومن كادهم فكده.» وقلّد بدر الخرشنى دمشق وأمره بالخروج إليها من المصلّى وألّا [511] يدخل البدر. وكان المظفّر بن ياقوت فى هذا كلّه يظهر للوزير أنّه مجتهد فى الصلح ويظهر له الخضوع وهو فى الباطن يسعى فى حنقه [1] وقد قوى أمره بما فعله الراضي. ثمّ إنّ الصلح تمّ بين بدر الخرشنى وبين الحجريّة فدخل من المصلّى إلى منزله وأقرّ بدر على الشرطة. فلمّا انقضت هذه القصّة أشار الوزير على الراضي بالله سرّا أن يخرج بنفسه ومعه الجيش والحجريّة والساجيّة ليدفع محمّد بن رائق عن واسط والبصرة وقال له: - «قد انغلقت عليك هذه البلدان وهي بلدان المال بما فعله محمّد بن رائق من الامتناع من حمل مال ضمانه ومتى رأى غيره أنّ ذلك قد تمّ له واحتمال عليه تأسّى به فذهب مال الأهواز فبطلت المملكة. فعمل الراضي على ذلك وتقدّم إليه بالعمل عليه فافتتح الوزير الأمر مع ابن رائق بأن ينفذ إليه ينال الكبير من الحجريّة وماكرد الديلمي من الساجيّة برسالة من الراضي بالله يأمره فيها أن يبعث بالحسين بن علىّ النوبختي ليواقف على ما جرى على يده من ارتفاع واسط والبصرة.   [1] . فى حنقه: كذا فى الأصل. وفى مط: فى حفيته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 فلم يستجب ابن رائق إلى إنفاذ الحسين ووهب للرسولين مالا وأحسن إليهما وسألهما أن يتحمّلا له إلى الخليفة رسالة [512] فى السرّ وهي: أنّه إن استدعى إلى الحضرة وفوّض إليه التدبير قام بكلّ ما يحتاج إليه من نفقات السلطان وأرزاق الجند ومشّى الأمور أحسن تمشئة وكفى أمير المؤمنين الفكر فى شيء من أمره. فلمّا قدم الرسولان خلوا بالراضى بالله بعد تأدية الرسالة الظاهرة فأدّيا الرسالة السرّية فلم ينشط الراضي لتسليم وزيره وأمسك. ولمّا رأى الوزير امتناع ابن رائق من تسليم الحسين بن علىّ عمل على القاضي أبا الحسين برسالة من الراضي ليعرّفه ذلك وأنّه لم يأمن أن يقع له أنّ الخروج إنّما هو إليه فيستوحش وأنّه أنفذ القاضي ليكشف ما فى نفسه وعزمه، وتوثّق له بما يسكن إليه. فلمّا كان يوم الإثنين لأربع عشر ليلة بقيت من جمادى الأولى وانحدر الوزير إلى دار الراضي بالله ومعه القاضي أبو الحسين ليوصله فيسمع من الراضي بالله الرسالة فلمّا حصل فى دهليز التسعينى قبل أن يصل إلى الخليفة وثب الغلمان الحجريّة ومعهم المظفّر بن ياقوت به فقبضوا عليه ووجّهوا إلى الراضي بالله يعرّفونه قبضهم [513] عليه إذ كان هو المفسد المضرّب ويسألونه أن يستوزر غيره. فوجّه إليهم يستصوب فعلهم ويعرّفهم أنّهم لو لم يفعلوا ذلك لفعله هو وردّ الخيار إليهم فيمن يستوزره فذكروا [1] علىّ بن عيسى ووصفوه بالأمانة والكفاءة وأنّه ليس فى الزمان مثله. فاستحضره الراضي بالله وخاطبه فى تقلّد الوزارة فامتنع وتكرّه ذلك فراجعه الراضي بالله   [1] . كذا فى مط: ذكروا. وفى مط: ذكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 وخاطبه الغلمان فيه وطال الخطب معه فأقام على الامتناع فقالوا: - «فنشير بمن تراه.» فأومأ إلى أخيه عبد الرحمن. فأنفذ الراضي بالله المظفّر بن ياقوت إلى عبد الرحمن فأحضره وأوصله إلى الراضي وعرّفه أنّه قلّده وزارته ودواوينه وخلع عليه وركب فى الخلع ومعه الجيش إلى داره وأحرقت دار أبى علىّ. وزارة عبد الرحمن بن عيسى لمّا تقلّد عبد الرحمن غلب علىّ بن عيسى على التدبير فعلم أبو العبّاس الخصيبى وأبو القاسم سليمان بن الحسن وقد كنّا ذكرنا أمرهما وما كان من نفى [1] علىّ بن مقلة إيّاهما إلى عمان وتقدّمه إلى يوسف بن وجيه صاحب عمان بحبسهما وأنّ يوسف بن وجيه أطلقهما فصارا إلى بغداد واستترا بها إلى أن [514] قبض أبو علىّ ابن مقلة. فلمّا كان فى هذا الوقت أكرمهما عبد الرحمن الوزير وكانا يصلان معه إلى الراضي بالله مع أبى جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وأبى علىّ الحسن بن هارون وعلىّ بن عيسى لا يتأخّر أيضا عن الحضور معهم وسلّم أبو علىّ ابن مقلة إلى الوزير عبد الرحمن فضربه بالمقارع وأخذ خطّه بألف ألف دينار ثمّ سلّمه إلى أبى العبّاس الخصيبى فجرت عليه من المكاره والضرب والرهق أمر عظيم وحضر أبو بكر ابن قرابة بعد مدّة فتوسّط أمره وضمن ما عليه وتسلّمه وكان أدّى إلى الخصيبى نيّفا وخمسين ألف دينار. وصرف بدر الخرشنى عن الشرطة لانحراف الحجريّة عنه وولّى أعمال المعاون بإصبهان وفارس لأنّ الحجريّة كرهوا مقامه بالحضرة فخلع عليه   [1] . كذا فى الأصل ومط: نفى. وفى مد: تفي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 وأخرج مضاربه إلى ميدان الإشنان [1] وأنفذ إليه اللواء وضمّ إليه الحسن بن هارون لتدبير أمر الخراج بهذه النواحي ثمّ توقّف عن إمضاء هذا الرأى فبطل خروجه. وعجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق المال حتّى استعفى عبد الرحمن عن تمشية الأمور للراضى بالله ومن الوزارة وسأله أن يقرضه عشرة آلاف دينار إذ كانت وجوه المال قد تعذّرت عليه فقبض عليه الراضي فى هذه السنة وقلّد وزارته الكرخي. [515] ذكر وزارة أبى جعفر محمد بن القاسم الكرخي لمّا قلّد أبو جعفر الكرخي الوزارة وخلع عليه وانصرف إلى منزله ومعه الجيش كلّف مناظرة علىّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وحملا إلى داره فصادر علىّ بن عيسى على مائة ألف دينار وصادر أخاه على سبعين ألف دينار وأقاما على حال صيانة وتكرمة إلى أن أدّى علىّ بن عيسى سبعين ألف دينار وأدّى أخوه ثلاثين ألف دينار ثمّ صرفا إلى منازلهما. وكان الوزير أبو جعفر الكرخي قصيرا فاحتيج بسبب قصره إلى أن ينقص من ارتفاع سرير الملك فنقص منه أربع أصابع مفتوحة. وفيها قتل ياقوت بعسكر مكرم. ذكر مقتل ياقوت قد ذكرنا أمر ياقوت فى خروجه إلى أرجان لحرب علىّ بن بويه فى قضّه [2] وقضيضه وديلمه وأتراكه وسائر خيله. وكان معه من الرجّالة السودان   [1] . كذا فى الأصل: الإشنان. وفى مط: الأسنان. [2] . قضّه وقضيضه: جميع خيله وجنوده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 ثلاثة آلاف رجل وانهزم من بين يدي علىّ بن بويه بباب أرجان بعسكره كلّه وكان على الساقة فى الهزيمة لأنّه ثبت وسار علىّ بن بويه خلفه إلى رامهرمز وحصل ياقوت بعسكر مكرم فى غربيّها وقطع الجسر المعقود على المسرقان وأقام علىّ بن بويه برامهرمز إلى أن وقع الصلح بينه [516] وبين السلطان. وكتب أبو عبد الله البريدي إلى ياقوت أن يقيم بعسكر مكرم إلى أن يستريح ويقع التدبير لأمره من بعد وكان غرضه ألّا يجمعه وإيّاه بلد فقبل ياقوت. وأتاه أبو يوسف البريدي متوجّعا بما جرى عليه من الهزيمة ومهنّئا له بالسلامة وتوسّط بينه وبين أخيه أبى عبد الله يعلّل بها عسكره إلى أن يكتب إلى السلطان ويستأمره فيما يطلقه له ولرجاله وعرّفه أنّ الرجال المقيمين بالأهواز فيهم كثرة ويطالبون بمالهم وهم البربر والشفيعية والنازوكيّة واليلبقيّة والهارونيّة وكان أبو علىّ ابن مقلة ميّز هؤلاء وأنفذهم إلى الأهواز لتخفّ مؤونتهم عن الحضرة وتتوفّر أموال الساجيّة والحجريّة. فذكر أبو يوسف أنّ هؤلاء لا يطلقون مالا يخرج من الأهواز إلى سواهم وأنّهم إن أحسّوا شغبوا فاحتاج أبو عبد الله إلى مفارقة الأهواز إشفاقا على نفسه منهم. ثمّ تؤول الحال إلى حرب تقع بعد الهزيمة الأرجانيّة ولا يدرى كيف تكون الحال فيها وأنّ السلطان مع ذلك مطالب بحمل مال إليه [517] وقال له: - «إنّ رجالك مع سوء أثرهم وقبح بلائهم وهزيمتهم دفعة إذا أعطوا اليسير قنعوا به وصبروا عليه.» فقبل ياقوت ذلك وسبّب له بهذا المال على عسكر مكرم وتستر فأرضى ببعضه الحجريّة وببعضه وجوه القوّاد وأنفق فى سودانه فى المسجد الجامع بعسكر مكرم ثلاثة دراهم لكلّ رجل ومضى الأمر على ذلك شهورا. وأفتتح مال سنة أربع وعشرين وثلاثمائة فضجّ رجاله وطالبوه وقالوا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 - «إنّه لا صبر لهم على الضرّ وإنّ المنافسة على خيرات الدنيا فى الطبع والجبلّة لو كانوا أغنياء فكيف بهم مع اختلالهم وأنّهم لا يرضون أن يقبض نظراؤهم بالأهواز على الإدرار ويحرموا هم [1] وأن يتجرّعوا الأسف والحسرات وأنّهم قد سئموا الفقر ومعاناة المجاعة.» وقد كان استأمن من أصحاب علىّ بن بويه إلى ياقوت طاهر الجيلي وكان ممّن يرشّح نفسه للأمور الكبار ويرى أنّه نظير لشيرج وطبقته واجتمع إليه نحو ثمانمائة رجل من العجم. فشغب على ياقوت ثمّ رحل مع أصحابه وانصرف عنه وقدّر أنّه يملك ماه البصرة وماه [2] الكوفة فكبسه علىّ بن بويه ثمّ سجنه فلجأ بنفسه مع بعض غلمانه [518] وأبو جعفر الصيمري كاتبه فى الأسر وخلّصه الحنّاط فخرج إلى كرمان فكان سببا لإقباله واتصاله بالأمير أبى الحسين أحمد بن بويه فضعفت نفس ياقوت بخروج طاهر الجيلي وأصحابه واستطال باقى رجاله عليه وخاف أن يعقدوا لبعض قوّاده الرئاسة وينصرفوا عنه فكاتب أبا عبد الله البريدي بالصورة وأعلمه أنّه كاتبه ومدبّر أمره وأنّه قد فوّض إليه الرأى والتدبير فى رجاله ليمضى عليه وعليهم ما يستصوبه. ذكر الخديعة التي نفذت على ياقوت كان ياقوت واثقا برجل ساقط يعرف بأبى بكر النيلي يجريه مجرى الأب وينحطّ إلى رأيه وقوله مع ضعة فى النيلي وخساسة فى همّته وقدره. فاستصلحه أبو عبد الله البريدي ووسّع عليه فكان النيلي رسول ياقوت إلى أبى عبد الله بما قد ذكرته فكتب أبو عبد الله البريدي أنّ عسكره قد فسدوا   [1] . كذا فى الأصل: ويحرموا هم. وفى مط ويحرموهم. وهو خطأ. [2] . ماه البصرة وماه الكوفة: كذا فى الأصل. وفى مط: مال البصرة ومال الكوفة. وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 وفيهم من ينبغي أن يميّز ويخرج لأنّ علىّ بن خلف بن طناب خانه واقتطع أموالا باسم هؤلاء القوم وزاد قوم زيادات كثيرة وأنّ الصواب أن ينفذوا إليه ليعرّفهم أنّ هذه الزيادات تفوّتهم الأصول السلطانيّة ويشافههم بأنّ الصواب أن يسقطوها ليتوفّر عليهم الأصول [519] وقال: - «إنّما يتمّ هذا بالأهواز لأنّهم يردونها أفواجا وزمرا فإن أساءوا آدابهم وامتنعوا قوّموا بالجيش [1] المقيمين بالأهواز وأنّهم إن خوطبوا بهذا الكلام وهم بعسكر مكرم تظاهروا وتضافروا وتعاقدوا فلم يتمّ عليهم ردّهم من الكثير إلى القليل.» وأكثر فى هذا المعنى حتّى قال: - «يا أبا بكر سبيل العرض أن يقع بحيث الهيبة والخوف لا بحيث الحكم والاستطالة.» فما قال له النيلي: - «الهيبة حيث يكون الأمير لا أنت ولا كانت له منّة لأن يردّ عليه شيئا.» وسأل [2] أبو عبد الله البريدي أن ينفذ إليه أبا الفتح ابن أبى طاهر وأبا أحمد السجستانى ليشاورهما فى التقرير ويتعرّف منهما منازل الرجال واستدعى أبا بكر النقيب الذي كان مع أبى طاهر محمّد بن عبد الصمد ليعرف منه أحوالهم. وأنفذ إليه ياقوت من التمس وتقدّم إلى رجاله بالخروج للعرض. فلمّا حصلوا عند البريدي استصلح الرجال لنفسه وانتخب منهم من أراد ووعدهم أن يجريهم مجرى من معه بالأهواز فأجابوه وصاروا إلى عسكره وردّوا الأرذال إلى ياقوت بعد أن أسقط زياداتهم. فلمّا استتمّ العرض   [1] . بالجيش: كذا فى الأصل. وفى مط: بالمجلس. وهو خطأ. [2] . وسأل: كذا فى الأصل. وفى مط: سبيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 وجد نصف الياقوتيّة قد انحازوا [520] عنه. فقيل لياقوت ذلك ووبّخ وعذّل فقال: - «قد اجتمع لى بمقام من أقام بالأهواز خفّة المطالبة عنّى وحصولهم مع كاتبي وليس يصلح ابن البريدي لما أصلح له فأخافه وإن احتجت أو احتيج إلى حرب فالجماعة بالضرورة يعودون إلىّ وهم عدّة لى عنده.» وعاد رجال ياقوت إليه فقالوا له: - «ما حصلنا من الغرض إلّا على أن خرج شطرنا وهيض جناحنا وضعفت شوكتنا فاكتب إلى البريدي أن يحمل ما قرره لنا.» فكتب ياقوت بذلك فأجابه أبو عبد الله بأنّه يحتال ويحمل. ثم زاد الإلحاح على ياقوت فخرج بنفسه إلى الأهواز فى ثلاثمائة رجل وقلّل العدّة لئلّا يستوحش البريدي وقدّر أنّه إلى كاتبه يمضى. فتلقاه أبو عبد الله البريدي بالسواد الأعظم وأخرج معه كلّ من بالأهواز من الجيش فلمّا رأى ياقوتا ترجّل [1] له وانكبّ ياقوت عليه حتّى كاد ينزل عن دابّته ثمّ سار وأنزله داره وخدمه بنفسه وقام بين يديه إلى أن طعم وغسل يده فناوله الماورد [2] والمنديل وبخّره بيده فهو فى ذلك قبل أن يفاوضه، إذ ارتفعت ضجّة عظيمة وشغب الجند وقالوا: - «إنّما وافى ياقوت إليه.» فقال البريدي: [521]- «أيّها الأمير الله الله اخرج وبادر وإلّا قتلنا جميعا.» فخرج ياقوت من وقته خائفا يترقّب من طريق يخالف طريق المشغّبين وعاد إلى عسكر مكرم كما بدأ منها.   [1] . فى مط: يدخل، بدل «ترجّل» . [2] . الماورد: كذا فى الأصل. وفى مط: الماء ورد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 ثمّ ورد عليه كتاب البريدي بأنّ الرجال بالأهواز قد استوحشوا منه وأنّ الوجه أن يخرج إلى تستر فإنّ بينها وبين الأهواز ستّة عشر فرسخا. وعسكر مكرم فهي على ثمانية فراسخ وإذا نأت الدار زال الاستيحاش وسبّب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار فخرج إليها. فقال له مونس- وكان مونس هذا تربية ياقوت وثقته-: - «أيّها الأمير، إنّ البريدي يحزّ مفاصلنا مفصلا مفصلا ويسخر منّا وأنت مغترّ به وقد حاز شطر رجالنا ووجوه قوّادنا إلى نفسه وضمن لنا اليسير من المقرّر وليس يطلق ذلك أيضا ليستأمن إليه الباقون ثمّ يأتى على أنفسنا وقد اتّصلت كتب الحجريّة إليك بأنّه لم يبق لهم شيخ غيرك. فإمّا دخلت بغداد وجميع من بها يسلّم لك الرئاسة وأوّلهم محمّد بن رائق بالضرورة لسنّك وأنّك نظير أبيه، وإمّا خرجت إلى الأهواز حتّى تطرد البريدي عنها وتقيم أنت بها فإنّا وإن كانت عدّتنا يسيرة دون عدّته فهو كاتب ونحن فى خمسمائة [522] رجل وهو فى عشرة آلاف رجل وقد أحصيت من عندنا فوجدتهم نحو خمسة آلاف رجل وفيهم كفاية والعسكر بصاحبه وأنت أنت. وقد قال عدوّك علىّ ابن بويه: لو كان فى عسكر ياقوت مائة رجل مثله ما قاومته. فالله الله يا مولاي، لم تضيّع نفسك وتضيّعنا؟» فقال: «سأنظر وأفكر.» فخرج مونس مغضبا من عنده وركب فى ثلاثة آلاف رجل شاذّا عن مولاه ياقوت ووافى عسكر مكرم يريد الأهواز وقال لنا. - «لا أعصى مولاي، فإنّه اشترانى وربّانى واصطنعني ولكنّى أفتح الأهواز وأسلّمها إليه.» فما استقرّ بعسكر مكرم ثلاث ساعات من النهار حتّى ورد كتاب ياقوت على درك- وكان والى الشرطة بعسكر مكرم- يعرّفه أنّ مونسا غلامه خرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 بغير إذنه وشرح له صورته وسأله أن يجتمع معه ويخوّفه الله عزّ وجلّ ويحذّره كفر نعمته ويستوقفه إلى أن يلحق به. فعبر درك من شرقىّ عسكر مكرم إلى غربيّها ووعظ مونسا وعظا كثيرا وخاطبه خطابا بليغا وكان درك شيخا مقدّما إلّا أنّ السنّ قد أخذت منه وحضر بحضوره أصحابه. فقال لمونس خادم كان معه مكينا منه وكان معقّلا: - «يا مونس إنّ مولاك [523] قبض على ابنيه وهما تاجان ودرّتان فلم يستحلّ أن يعصى مولاه ولا يكفر نعمته [1] وسلّمهما ولم يحارب فيهما ولا طلب بهما أفأنت تعصى مولاك فترسل يدك عن طاعته؟ أما تخاف العقوبة؟ وإن تخذل فى هذه الحرب ويظفر بك فتخسر الدنيا والآخرة ولا سيّما وقد بذل أن يوافيك ويساعدك على ما تريده. انتظر ريث ورود كتابنا وورود جوابه.» فأقام مونس لما أخذه العذل والتأنيب من درك وأصحابه ووافى ياقوت فى اليوم الثاني واجتمع مع غلمانه. ووافى عسكر البريدي بأسره فنزلوا فى صحراء خان طوق [2] ومعهم غلام البريدي يرؤسهم ومعه القوّاد الكبار وأكبرهم أبو الفتح ابن أبى طاهر. ووقعت المنازلة بين ياقوت وأبى جعفر الجمّال وتثبّت ياقوت بعسكر مكرم عن المسير إلى الأهواز وتهيّب الصورة وقال لمونس: - «السلطان لنا على النيّة التي عرفناها وكان منه إلى ابني [3] ما لا يجوز أن يصلح لى أبدا وفارس فقد عرفت صورتنا بها ولا مذهب لنا فى الدنيا ولا لنا موضع نأويه إلّا هذا البلد والحرب سجال وقد كثر عسكر الرجل فإن   [1] . والعبارة فى مط: فلم تستحلّ أن تعصى مولاك ولا تكفر نعمته. [2] . خان طوق: كذا فى الأصل. وفى مط: خان طوف. [3] . ابني: كذا فى الأصل ومد. وفى مط: أمر. وفى العبارة غموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 نحن حاربناه وانهزمنا كنّا بين الأسر والحمل إلى الحضرة وشهرت بها وأركبت الفيل ثمّ يظنّ أنّى كفرت [524] نعمة مولاي فيلعننى الناس وبين أن أقتل. والوجه المداراة والمقاربة لهذا الرجل وأن نعود إلى تستر ونصير منها إلى الجبل فإن استقام لنا بها أمر وإلّا لحقنا بخراسان.» وشاع هذا الكلام فضعفت نفوس أصحابه وطالت الأيّام فى منازلة عسكر البريدي فكان كلّ يوم يستأمن عدّة من أصحابه إلى البريدي فكان مونس يبكّر إليه فى كلّ يوم ويقول له: - «يا مولاي مضى البارحة من أصحابنا ثلاثمائة أو أكثر أو أقلّ.» فلا يزيده على أن يقول: - «إلى كاتبنا يمضون وإذا كانت هذه نيّاتهم لنا فما الانتفاع بهم؟ ولأن يبقى معنا ألف رجل فنمضى بهم إلى حيث نقصد أصلح من جميع هذا اللفيف الذي هم كلّ فى الرخاء وأعداء يوم اللقاء وقد جرّبناهم بباب فارس وباب أرجان.» فلم يزل كذلك حتّى بقي فى ثمانمائة رجل. فلمّا علم البريدي أنّه قد استظهر الاستظهار التامّ راسله فى الموادعة بأبى القاسم التنوخي القاضي وقال: - «إنّى لك على العهد والميثاق.» وأنّه كاتبه وأنّ الإمارة لا تصلح له وأنّ البلوى والشقاء قد حلّا به وصارت مطالبة الرجال عليه وأنّه يلاقي الموت صباح مساء ويخاف على نفسه منهم وأنّه لا رغبة له فى ارتباطهم [525] وإنّما جرّ سبب سببا حتّى اجتمعوا عنده وأنّه يصاهره حتّى يزداد ثقة به. ووكلّ القاضي فى تزويج ابنته من أبى العباس أحمد بن ياقوت فوافاه القاضي أبو القاسم التنوخي وأدّى إليه الرسالة وقبلها وانعقد الصهر ورحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 للوقت إلى تستر. ووافاه بعقب ذلك غلام للسلطان من الحجريّة ومعه المظفّر ابنه بكتاب إليه يذكر فيه أنّه قد وهب ابنه هذا له ومن به عليه. فالتقيا بتستر فأشار عليه ابنه المظفّر بالخروج إلى حضرة السلطان ليشكره على إنفاذه ويقيم بدير العاقول ويستأذنه فى الدخول. فإن أذن له فقد تمّ له ما يحبّ ووجد الحجريّة مسرعين إليه، وإن لم يأذن له تقلّد الموصل وديار ربيعة وخرج إليها، وإن منع من ذلك جعل مقصده الشام. فخالف ابنه ولم يرتض رأيه وقال: - «أنا أتأمّل ما ذكرته فأقم عندي لنتشاور.» فاستعفاه من ذلك وسأله أن يأذن له فى المقام بعسكر مكرم فأذن له. فأطمع البريدي المظفّر فى أن يجعله اسفهسلار عسكره وأن يتدبّر بتدبيره حتّى فارق أباه واستأمن إليه فحصل فى بستانه المشهور [526] بالأهواز وأحاط بالبستان من يراعيه ويحفظه من حيث لا يعلم. ولمّا استوثق البريدي لنفسه واستظهر، تخوّف من الياقوتيّة الذين عنده وأن يراسلوه بلون من الألوان المنكرة من التدبير عليه أو أن يتداخلهم التعصّب له فيشغبوا عليه ويدعوا بشعار ياقوت. وكتب إلى ياقوت بأنّ السلطان قد أمره بالخروج عن تستر إلى الحضرة فى خمسة عشر غلاما أو النفوذ إلى الجبل متقلّدا لها وبأن يقصده إلى تستر ويخرجه منها قهرا فتحيّر ودعا مونسا غلامه فقال له: - «أىّ شيء ترى؟» فقال له: - «الآن وقد مضى ما مضى والله لا صحبك إلى الحضرة ولا إلى الجبل أحد ممّن معك ولا لهم نفقات تنهضم. فإن أردت أن تمضى فى عشرين غلاما إلى السلطان فذاك إليك.» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 فأجاب البريدي عن كتابه بأنّه يروى ويذكر له ما عنده بعد أن استمهله شهرا ليتأهّب للسفر الذي يقصده. فعاد إليه من جواسيسه واحد كذبه فأخبره بأنّ الجيش وافى عسكر مكرم ونزلوا الدور وانبسطوا فى المدينة فأحضر غلامه مونسا وقال له: - «ظفرنا والحمد لله بعدوّنا وكافر نعمتنا فنسير من تستر وقت عتمة ونصبّح عسكر [527] مكرم والقوم غارّون فى الدور فنكبسهم ونشرّدهم ونمتدّ إلى الأهواز فلا يثبت لنا البريدي بل يكون همّه الهرب لوجهه.» فقال مونس: - «أرجو أن يكون هذا صوابا.» وسار ياقوت ووصل إلى عسكر مكرم وقد بدأت الشمس من مطلعها وامتدّ مشتقّا للبلد [1] إلى ناعورة السبيل ونهر جارود فلم ير لرجال البريدي أثرا فخيّم ونزل عند النهر ومضى يومه إلى آخره وهو متعجّب من الغرور الذي غرّه جاسوسه. فلمّا كان وقت العصر ظهرت الطلائع ثمّ أقبل العسكر وأميرهم أبو جعفر الجمّال فنزل على فرسخ من ياقوت وحجز الليل بين العسكرين وأصبح فكانت بينهم مناوشة ومبارزة واتّعدوا للحرب فى اليوم الذي يليه لأنّ عسكر البريدي كان منتظرا عسكرا قد سيّره البريدي على طريق دجيل ليدخل من ضفّته كمينا على ياقوت حتّى يصير وراءه. ثمّ أصبحوا فى اليوم الثالث من ورود ياقوت عسكر مكرم فابتدأت الحرب منذ وقت طلوع الشمس إلى وقت الظهر وثبت ياقوت ومعه ممّن نصره مثل مونس وآذريون ومشرق وغيرهم فى دون ألف رجل. فأعيا من بإزائه من أبى جعفر الجمال وغيره   [1] . للبلد: كذا فى مط. وفى الكلمة غموض فى الأصل وهي إلى كونها «للبلد» أقرب منها إلى كونها «المبار» المقروءة فى مد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 على كثرة عددهم حتّى [528] كادت البريديّة تنهزم. وجاءت [1] الظهر وقد بلغت القلوب الحناجر فطلع الكمين وهم ثلاثة آلاف رجل جامّين [2] . فأبلس ياقوت وقال: - «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلىّ العظيم.» وأومأ مونس أن يقصدهم ويكفيه إيّاهم فعدل مونس مع ثلاثمائة رجل إليهم وبقي ياقوت فى خمسمائة رجل فما مضت ساعة حتّى وافى منهزما فرمى ياقوت نفسه من دابّته ونزع سلاحه وما عليه من ثيابه حتّى بقي بسراويل وقميص سينيزىّ. ثمّ أوى إلى رباط يعرف برباط الحسين بن دبار فاستند إليه ولو دخل الرباط واستتر فيه لانستر أمره ولجنّه الليل ولجاز أن يسلم. فجلس بحيث ذكرت وهو بقرب ناعورة السبيل وغطّى وجهه ومدّ يده يسأله ليقدّر فيه أنّه من أرباب النعم افتقر وهو يطلب هديّة [3] فركب إليه قوم من البربر ورأوه بهذه الصورة فطلبوه بكشف وجهه فامتنع وأومأ إليه أحدهم بمزراق فقال: - «أنا ياقوت احملونى إلى البريدي.» فاجتمعوا عليه وحزّوا رأسه وانهزم مونس ومشرق وآذريون إلى تستر واتّبعهم الأعراب والبربر فأسروهم وردّوهم. وأطلق أبو جعفر الجمال طائرا بالخبر إلى البريدي يستأذن [529] فى رأس ياقوت. فردّ إليه فى الجواب مع غلام يركض بأن يجمع الرأس والجثّة ويدفن الجميع فى الموضع الذي قتل فيه.   [1] . وجاءت: كذا فى الأصل ومط. [2] . كذا فى الأصل: جامّين. وفى مط: حامين. [3] . فى مط: صدقة، بدل «هديّة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 طغيان البريدي بعد مقتل ياقوت وقبض البريدي على المظفّر ابنه مدّة ثمّ أنفذه إلى الحضرة. وطغى البريدي بعد ذلك وشهّر نفسه بالعصيان وقد كانت نفسه ضعيفة فيما ارتكبه من أمر ياقوت فقوّاها أخوه أبو يوسف حتّى جهّز إليه العساكر وقتله. فحكى أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي أنّه سمع أبا يوسف البريدي يخاطب أبا عبد الله أخاه فقال أبو عبد الله: - «يا أخى أخاف أن تتعصّب الحجريّة علينا فيقتلونا إن دخلنا الحضرة يوما وفى العاجل لست آمن على أخى أبى الحسين وهو بالحضرة أن يقتل بثأره.» فقال أبو يوسف: - «أمّا أبو الحسين فنحن نكتب إليه بالخبر حتّى يأخذ لنفسه ويستظهر، وأمّا الحجريّة ودخولنا الحضرة، بعد أن وسمنا بمصادرة اثنى عشر ألف ألف درهم، فهيهات من ذلك. أبعد تخلّصنا من القاهر ومن الخصيبى الملعون وسلامة أرواحنا نحدّث أنفسنا بدخول الحضرة؟ بلى ستهدم منازلنا وإلى لعنة الله، ما نعود إلى الحضرة فنحتاج إليها وقد أدبرت [1] . ودع يا أبا عبد الله ما اعتدت فإنك لا ترى مثله مع خلوقة الزمان [530] وإدبار الملك وفقر الخلافة. وقد كنّا نتكسّب من السلطان وهو اليوم مثلنا نحن بل نحن مكسب له يريد أن يجتاحنا ويأخذ مالنا ومتى لم نعتصم بهذه العساكر المجتمعة ونخرج ياقوتا منها سقطنا ثمّ يطول علينا أن نجد من أيّامنا يوما. والله ما أشرت عليك بما نسمع إلّا بعد أن استعددت له ما يعينني عليه وقد واقفتك   [1] . وقد أدبرت: كذا فى الأصل مع غموض فيه. وفى مد: وقد دبّرت. وفى مط: وقد ارتدّت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 على هذا سرّا وجهرا وأبو زكريا ممّن لا نحتشمه.» قال أبو زكريا: وإنّما أومأ أبو يوسف بهذا القول إلى مال السوس وجنديسابور فإنّ أبا عبد الله كان أجمّه عنده استظهارا وأناخ فى النفقات وأرزاق الأولياء وما كان يعلّل به السلطان على أموال كور الأهواز الباقية. وكان يجتذب القطعة فالقطعة منها ويجعل ذلك وراءه ولم يكن له نفقة ولا بذخ حينئذ. وما وهب قطّ لطارق ولا شاعر ولا ولد نعمة شيئا وكان عارفا بورود الأموال وخرجها وجميعها تجرى على يده فإن شذّ منها شيء عنه إلى إسرائيل بن صلح وسهل بن نظير الجهبذين لم يخف عليه مبلغه. قال: واستخرج أبو عبد الله وأخوه أبو يوسف من كور الأهواز بعد تقليد الراضي إيّاهما لسنى اثنتين وثلاث [531] وأربع وعشرين وثلاثمائة وإلى شعبان من سنة خمس- فإن بجكم هزمهم وأخرجهم عنها فى هذا الشهر- ثمانية آلاف ألف دينار وجميع ما خرج عنها فى جميع وجوه النفقات دون أربعة آلاف ألف دينار حاصلة. وسمعت يعقوب الصيرفي اليهودي يقول: سمعت أبا عبد الله يقول: - «نمضي إلى البصرة فإن تمّ لنا بها أمر فقد كفينا وإن حزبنا أمر [1] لا نطيقه قصدنا عمان واستجرنا بصاحبها- يعنى يوسف بن وجيه- فإنّه حرّ ودبّرنا أمرنا فإمّا أن عبرنا إلى فارس واستجرنا بعلىّ بن بويه فإنّ دولة الديلم قوية والحضرة مدبّرة، وإمّا أن عبرنا إلى التيز ومكران وقصدنا صاحب خراسان. فالطريق إليها جدد.»   [1] . حزبه غمّ أو خطب: أصابه واشتدّ عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 عود إلى ذكر أخبار الحضرة وتدبير الوزراء لها وعدنا إلى ذكر أخبار الحضرة وتدبير الوزراء لها. كان الوزير غير ناهض بالوزارة وما زالت الإضافة تزيد ومن فى يده مال من المعاملين يطمع [1] وقطع ابن رائق الحمل من واسط والبصرة والبريديون من الأهواز وعلىّ ابن بويه قد تغلّب على فارس وابن الياس على كرمان فتحيّر أبو جعفر الكرخي واعتدت المطالبات عليه وانقطعت الموادّ عنه ونقصت هيبته فاستتر بعد ثلاثة أشهر [532] ونصف من وقت تقلّده، ووجد فى خزانته سفاتج لم تفضّ [2] وما يجرى هذا المجرى من العجز وقلّة النفاذ فى العمل. وزارة سليمان بن يحيى ولمّا استتر الكرخي استحضر الراضي سليمان بن الحسن أبا القاسم فقلّده الوزارة والدواوين. فكان فى التحيّر وانقطاع المواد عنه على مثل حال الكرخي فدفعت الضرورة الراضي بالله إلى أن راسل أبا بكر محمّد بن رائق وهو بواسط وأذكره بما ضمن من القيام بالنفقات وإزاحة علّة الجيش والحشم ومسألته عمّا عنده من المقام على ذلك أو الانصراف عنه. فتلقّى أبو بكر محمّد بن رائق الرسول بالجميل ووصله بألف دينار وأجاب عن الكتاب بأنّه مقيم على ما ضمنه.   [1] . يطمع: كذا فى الأصل. وفى مط: فطمع. [2] . سفاتج لم تفضّ: كذا فى الأصل. وفى مط: سفايح لم يفص. وهو خطأ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 ذكر استيلاء ابن رائق على الخلافة وسائر الممالك فأنفذ إليه الراضي ماكرد الديلمي من الساجيّة وعرّفه أنّه قلّده الإمارة ورئاسة الجيش وجعله أمير الأمراء وردّ إليه تدبير أعمال الخراج والضياع وأعمال المعاون فى جميع النواحي وفوّض إليه تدبير المملكة وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر فى الممالك وبأن يكنّى، وأنفذ إليه الخلع واللواء مع ماكرد الديلمي وخادم من خدم السلطان وانحدر [533] إليه أصحاب الدواوين كلّهم وجميع قوّاد الساجيّة والحسن بن هارون. فلمّا حصلوا بواسط قبض على الساجيّة وعلى الحسن بن هارون قبل أن يصلوا إليه وحبس الساجيّة ونهبت رحالاتهم وقيل للحجريّة: - «إنّما فعلنا ذلك بالساجيّة لتتوفّر أموالكم.» وورد الخبر بذلك إلى بغداد وكان قد بقي من الساجيّة ببغداد خلق فخرجوا إلى الموصل وإلى الشام. واستوحش الحجريّة ببغداد لما جرى على الساجيّة بواسط فقصدوا دار السلطان وأحدقوا بها وضربوا خيمهم حولها ووجّه ابن رائق بمونس الأفلحى وبارس الحاجب إلى بغداد فضربوا خيمهم فى باب الشمّاسيّة وقلّة لؤلؤ الشرطة ببغداد. ثمّ أصعد محمّد بن رائق من واسط يوم الجمعة لعشر بقين من ذى الحجة ومعه بجكم. فرتّب محمّد بن رائق فوق الوزير وخلع عليه وركب إلى مضربه فى الحلبة وحمل إليه من دار السلطان الطعام والشراب والفواكه عدّة أيّام وخدمه فى ذلك خدم السلطان. واجتمع إليه الغلمان الحجريّة وسلّموا عليه وأمرهم بقلع خيمهم من دار السلطان والانصراف إلى منازلهم ففعلوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 وبطل منذ [534] يومئذ أمر الوزارة فلم يكن الوزير ينظر فى شيء من أمر النواحي ولا الدواوين ولا الأعمال ولا كان له غير اسم الوزارة فقط وأن يحضر فى أيّام المواكب. وصار ابن رائق وكاتبه ينظران فى الأمر كلّه وكذلك كلّ من تقلّد الإمارة [1] بعد ابن رائق إلى هذه الغاية وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينهون فيها وينفقون كما يرون ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون وبطلت بيوت الأموال. وفى هذه السنة ملك ابن الياس كرمان وصفت له بعد حروب جرت له مع جيش خراسان. إفضاء أمر أحمد بن بويه إلى ملك العراق وفى هذه السنة جرت الحادثة على أبى الحسين أحمد بن بويه وأصيب بيده ووقع بين القتلى ثمّ تخلّص وأفضى أمره إلى ملك العراق. ذكر السبب فى ذلك لمّا تمكّن علىّ بن بويه بفارس وتمكّن أخوه الحسن بن بويه بإصبهان نظر فى أمر أخيه الأصغر أبى الحسين أحمد بن بويه فتقرّر الأمر بينهما مكاتبة ومراسلة على أن يتوجّه إلى كرمان فضمّ إليه علىّ بن بويه عسكرا [535] فيه من كبار الديلم ومذكوريها ألف وخمسمائة رجل ونحو خمسمائة رجل من الأتراك ومن يجرى مجراهم. وكان يكتب لأبى الحسين فى ذلك الوقت رجل يعرف بأبى الحسين أحمد بن محمّد الرازي وكان ممتعا بإحدى عينيه ويعرف بكوردفير [2] ولم تكن له   [1] . فى مط: الأمان، بدل «الأمارة» . [2] . كور، أى الأعمى. دفير (دبير) أى الكاتب، فى اللغة الفارسيّة. أى الكاتب الأعمى. وذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 صناعة ولكنّه كان واسع الصدر شجاعا. فورد السيرجان واستخرج منها مالا وأنفقه فى عسكره وكان إبراهيم بن سمجور الدواتى من قبل صاحب خراسان محاصرا لمحمّد بن الياس بن اليسع الصغدي. فلمّا بلغ ابن سمجور خبر الديلم رجع إلى خراسان ونفّس عن خناق محمّد بن الياس فتخلّص وانتهز الفرصة وخرج عن القلعة التي كان فيها إلى مدينة بم وهي على مفازة تتصل بسجستان. فسار أحمد بن بويه إليه فرحل إلى سجستان من غير حرب فانصرف من هناك وتوجّه إلى جيرفت- وهي قصبة كرمان- واستخلف على بم بعض قوّاده. فلمّا أشرف على جيرفت [1] تلقّاه رسول علىّ بن الزنجي وكان رئيس القفص [2] والبلوص وهو المعروف بعلىّ بن كلويه [3] . وكان هو وأسلافه متغلبين على تلك الأعمال إلّا أنّهم يجاملون كلّ سلطان يرد عليهم ويذعنون له ويحملون إليه مالا [536] معلوما ولا يطؤون بساطه. فبذل لأحمد بن بويه ذلك المال على الرسم. فأجابه بأنّ الأمر فى هذا إلى أخيه علىّ بن بويه وأنّه لا بدّ له من دخول جيرفت. فإذا دخلها كاتبه وراسله فى ذلك وأمره أن يبعد عن البلد. فاستجاب ورحل إلى نحو عشرة فراسخ من البلد فى موضع وعر صعب المسلك. وتردّدت المراسلات بينهما إلى أن تقرّر الأمر بينهما على أن ينفذ إليه رهينته ففعل وقاطعه عن البلد على ألف ألف درهم يحملها فى كلّ سنة وحمل فى الوقت مائة ألف درهم منسوبة إلى الهدية وغير محسوبة من مال   [ () ] حسب التفسير الوارد فى النصّ. [1] . فى مط: حتروت. وهو تصحيف. [2] . فى مط: القصص، بدل «القفص» . [3] . فى الأصل ومط: بعلى كلويه (دون «بن» ) فى هذا الموضع فقط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 المقاطعة، وأقام له الخطبة. ثمّ حمل شيئا من مال التعجيل وسلك سبيل الوفاء معه. فأشار كوردفير الكاتب على أحمد ابن بويه بأن يسرى إليه ناقضا ما بينهما من العهود فإنّه سيجده غير متحرّز وأصحابه غارّين لسكونهم إلى وقوع الاتفاق وزوال الخلاف فيفوز بأموالهم وذخائرهم ويستولى على ديارهم ويتمّ له ما لا يتمّ لأحد قبله. ذكر ما كان من عاقبة هذا الغدر والنكث أصغى أبو الحسين أحمد بن بويه إلى كاتبه ووقع بوفاقه [1] لحداثة سنّة واغتراره [537] فحمل نفسه على مفارقة ما يجب عليه فى الدين والمروءة وجمع صناديد عسكره وخلّف سواده وما يجرى مجراه وأسرى للوقت إلى القوم وذلك عند صلاة العصر ليصبّحهم بياتا. وكان علىّ بن كلويه متيقّظا قد وضع عيونه عليه فسبق إليه الخبر فجمع أصحابه ورتّبهم على مضيق بين جبلين كان الطريق فيه. فلمّا توسّط أبو الحسين فى الليل مع أصحابه ثاروا به من جميع الجوانب فقتلوا وأسروا رجال العسكر فلم يفلت منهم إلّا اليسير. ووقعت بأبى الحسين أحمد بن بويه ضربات كثيرة كانت ظاهرة فيه وطاحت يده اليسرى وبعض أصابع يده اليمنى وأثخن بالضرب فى رأسه وسائر جسده وسقط بين القتلى. وورد الخبر بذلك إلى جيرفت فهرب كاتبه كوردفير ومن تأخّر من أصحابه. ولمّا أصبح علىّ بن كلويه أمر بتتبّع القتلى والتماس أحمد بن بويه فوجدوه حيّا. إلّا أنّه قد أشفى على التلف. فحمل إلى جيرفت وأقبل علىّ بن كلويه على علاجه وخدمته وبلغ فى ذلك كلّ مبلغ واعتذر إليه وأظهر الغمّ   [1] . بوفاقه: كذا فى الأصل. وفى مط: بوفائه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 بما أصابه. واتّصل الخبر بعلىّ بن بويه فاشتدّ غمّه وقبض على كوردفير وأنفذ مكانه [538] أبا العبّاس وخطلخ حاجبه فى ألفى رجل ليجمعا ما بقي من سواد معزّ الدولة- أعنى أحمد بن بويه- بالسيرجان ويضمّا من بقي من فلّ العسكر. وأنفذ علىّ بن كلويه رسله وكتبه إلى علىّ بن بويه بالاعتذار ممّا جرى ويوضّح له الصورة ويبذل من نفسه الطاعة ويذكر أنّه ما فارقها ولا خرج عنها. فأنفذ إليه علىّ بن بويه قاضى شيراز وأبا العبّاس الحنّاط وأبا الفضل العبّاس بن فسانجس وجماعة من الوجوه وأجابه بالجميل وبسط عذره وأمضى ما كان قرّره وردّ رهينته وجدّد له عهدا وعقدا. فحينئذ أطلق علىّ ابن كلويه أبا الحسين أحمد بن بويه وأطلق معه اسفهدوست وسائر من كان أسيرا فى يده بعد أن أجمل معاملتهم وخلع عليهم وحمل إليهم آلات وألطافا. فلمّا وصل أحمد بن بويه إلى السيرجان وجد كاتبه مقبوضا عليه وقد جرى عليه مكاره عظيمة أشرف منها على التلف فاستنقذه ونصره وبرّأه من الذنب وشفع إلى أخيه فيه فشفّعه وأطلقه. وتأدّى إلى أبى علىّ ابن الياس ما جرى على أبى الحسين وطمع فيه وسار من سجستان حتّى نزل البلد المعروف بخناب فتوجّه إليه أبو الحسين [539] واشتدّت الحرب بينهما أيّاما، إلّا انّ عاقبة الأمر كانت لأبى الحسين. فانهزم ابن الياس وعاد أبو الحسين ظافرا وتتبعت نفسه التشفي من علىّ بن كلويه وطلب الثأر عنده. فتوجّه إليه واستعدّ علىّ بن كلويه واحتشد ثمّ سار إليه فلمّا صار بين العسكرين نحو من فرسخين نزل وعملوا على مباكرة الحرب فأسرى علىّ بن كلويه فى جماعة من أصحابه وهم قوم رجّالة قادرون على العدو والمصابرة فيه فوقع على عسكر أبى الحسين ليلا. واتفق أن تغيّمت السماء بمطر جود واختلط الناس فلم يتعارفوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 إلّا باللعنات [1] . فأثّروا فى عسكر أبى الحسين وقتلوا ونهبوا وانصرفوا وبات عسكر أبى الحسين بقية ليلتهم يتحارسون. فلمّا أصبحوا ساروا إلى القوم فأوقعوا بهم وقتلوا منهم عدّة وانهزم علىّ بن كلويه ورجع أبو الحسين وقد نقع بعض غلّته إلّا أنّ فى صدره بعد حزازات. وكتب إلى أخيه علىّ بن بويه بالبشارة والظفر بابن الياس وانهزامه وبعلىّ ابن كلويه وهربه. فورد عليه الجواب بأن يقف حيث انتهى ولا يتجاوزه. وأنفذ إليه المرزبان بن خسره الجيلي أحد قوّاده الكبار ليبادر به إلى حضرته ويمنعه [540] التلوّم والمراجعة وكاتب سائر القوّاد بمثل ذلك. فرجع إلى حضرته كارها لأنّه ما كان بلغ ما فى نفسه من علىّ بن كلويه وأصحابه. فلمّا وصل إلى إصطخر أقام. ذكر ما اتّفق له من الخروج إلى بلدان العراق حتّى ملكها واتفق أنّ أبا عبد الله البريدي وافى فارس فى البحر لاجئا إلى علىّ بن بويه وذلك أنّ محمّد بن رائق وبجكم استظهرا عليه فى عدّة حروب وانتزعا الأهواز من يده وأشرفا على انتزاع البصرة منه. فخلّف أخاه أبا يوسف وأبا الحسين علىّ بن محمّد بها. فلمّا ورد حضرة علىّ بن بويه مستصرخا به أكرمه وأحسن ضيافته وبذل له أبو عبد الله- إذا ضمّ إليه الرجال- أن يمكّنه من أعمال العراق ويصحّح له أموالا عظيمة من الأهواز ويسلّم إليه ولدين له رهينة. واستقدم علىّ بن بويه أخاه أبا الحسين من إصطخر فلمّا قرب منه تلقّاه   [1] . فى مد ومط: باللغات. وما فى الأصل يحتمل أن يكون «باللعنات» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 فى جميع عسكره وقرّبه ورتّبه فوق ما كان فى نفسه تسلية له عن مصيبته ثمّ أنهضه مع أبى عبد الله البريدي فى عسكر قوىّ وعدّة تامّة وسار واتّصل خبره بمحمّد بن رائق وبجكم. فأمّا بجكم فإنّه عاد إلى الأهواز وكان مع ابن رائق بعسكر أبى جعفر [541] محاصرين البصرة وأراد أن يمنع الديلم من تورّد الأهواز. وأمّا ابن رائق فعاد إلى واسط والتقى عسكر بجكم وعسكر أبى الحسين بالقرب من رامهرمز وانحاز بجكم إلى عسكر مكرم بعد حروب سنذكرها إن شاء الله فى سنة ستّ وعشرين. ودخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وفيها أشار أبو بكر محمّد بن رائق على الراضي بالله أن ينحدر معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ويراسل البريدي فإن انقاد إلى ما يراد منه وإلّا ... [1] عليه قصده. فاستجاب الراضي إلى ذلك وانحدر يوم السبت غرّة المحرّم واضطربت الحجريّة وقالوا: - «هذه تعمل علينا ليعمل بنا ما عمل بالساجيّة ونحن نقيم ببغداد.» فلم يلتفت ابن رائق إليهم وانحدر بعضهم وتأخّر أكثرهم ثمّ انحدر الجميع. فلمّا صاروا بواسط عرضهم ابن رائق وبدأ بخلفاء الحجّاب وكانوا نحو خمسمائة حاجب فاقتصر منهم على ستين وأسقط الباقين ونقص أزراق [2] من أقرّ منهم وأخذ يعرض الحجريّة ويسقط منهم الدخلاء والبدلاء والنساء والتجّار ومن لجأ إليهم فاضطربوا من ذلك ولم يستجيبوا إليه. ثمّ استجابوا وعرضهم وأسقط منهم عددا كثيرا ثمّ اضطربوا [542] وحملوا السلاح   [1] . هنا كلمة شبه مشطوبة لا تقرأ. فى مط: منه والا «قرب» عليه. وغيّرت العبارة فى مد تصحيحا هكذا: منه، وإن مرق عليه. [2] . أرزاق: كذا فى الأصل ومط. وفى مد: ابن رائق، بدل «أرزاق» وهو تصحيف لما فى الأصل ومط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 فحاربهم ابن رائق يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرّم حربا عظيمة فكانت على الحجريّة فقتل بعضهم وأسر بعضهم وانهزم الباقون إلى بغداد. فركب لؤلؤ صاحب الشرطة ببغداد وأوقع بالمنهزمين واستتروا فنهبت دورهم وأحرق بعضها وقبضت أملاكهم. فلمّا فرغ ابن رائق من حرب الحجريّة وقهرهم [1] تقدّم بقتل من كان اعتقلهم من الساجيّة فقتلوا سوى صافى الخازن والحسن بن هارون. فلمّا فرغ من الساجيّة والحجريّة عمل الراضي بالله وأبو بكر بن رائق على الشخوص إلى الأهواز ودفع البريدي عنها وأخرجت المضارب إلى باذبين [2] وبلغ البريدي ذلك فقلق قلقا شديدا وأنفذ إلى أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو محمّد الحسن بن إسماعيل الإسكافى برسالة من الراضي بالله ومن ابن رائق يعرّفان أنّه قد أخّر الأموال واستبدّ بها وأفسد الجيوش وحسّن لها المروق وأنّه ليس بطالبىّ يسارع على الملك ولا بجندىّ فيبتغى الإمارة ولا من حملة السلاح فيؤهّل لفتح البلاد المنعلقة وأنّه كان كاتبا صغيرا فرفع بعد خمول وعاملا من أوسط العمّال فاصطنع وأهّل لجليل [543] الأعمال فطغى وكفر النعمة وجازى عن الإحسان بالسوء وخلع الطاعة وأنّه إن سلّم الجند وحمل المال أقرّ على العمالة وإلّا قصد وعومل بما يستحقّ. فوافياه وأخبراه بما تحمّلاه ونصحا له فعقد على نفسه كور الأهواز بثلاثمائة وستين ألف دينار يحمل منها فى كلّ شهر من شهور الأهلّة ثلاثين ألف دينار وأن يسلّم الجيش ممّن يؤمر بتسليمه إليه ممّن يؤمّر عليهم ليخرج بهم إلى فارس للحرب إذ كانوا كارهين للعود إلى الحضرة لضيق الأموال بها   [1] . قهرهم: كذا فى الأصل. وفى مط: هزمهم. [2] . باذبين: ما فى الأصل مهمل فى الأوّل. فى مط: بارس. وفى مد: ياذبين. وياذبين قرية كبيرة كالبلدة تحت واسط على ضفّة دجلة (مراصد الاطلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 ولاختلاف كلمة الأولياء فيها ولأنّهم لا يأمنون الأتراك والقرامطة. وكاتبا ابن رائق بذلك فعرضه على الراضي بالله وشاور فيه الحسين بن علىّ النوبختي فأشار بألّا يقبل منه ذلك وأن يتمّم ما شرع فيه من قصده ما دام قلبه قد نخب وأن يخرج الأهواز من يده ولا يقارّ بها. وأشار أبو بكر ابن مقاتل بقبول ما بذله وإقراره فى ولايته. فمال ابن رائق إلى الهوينا وقبل رأى ابن مقاتل وكان الرأى الصحيح مع النوبختي وكتب إلى ابن شيرزاد وابن إسماعيل وأذن لهما فى العقد والإشهار [1] ففعلا وانصرفا. فأمّا المال فما حمل منه دينار [544] واحد. وأمّا الجيش فإنّه أنفذ جعفر بن ورقاء لتسلّمه والنهوض إلى فارس به فوافى جعفر بن ورقاء الأهواز وتلقّاه أبو عبد الله البريدي فى الجيش كلّه كوكبة بعد كوكبة حتّى ملأ الأرض بهم واسودّت منهم حافّين بأبى عبد الله حوله فورد على جعفر بن ورقاء ما حيّره. ثمّ أنفذت الخلع السلطانيّة إلى أبى عبد الله البريدي بالولاية وعمالة الأهواز فلبسها فى جامع الأهواز وانصرف إلى داره فمشى العسكر قوّادهم وفرسانهم وصميمهم وعبيدهم ورجالتهم بخفاقهم وراياتهم وأسلحتهم بين يديه. فيئس جعفر بن ورقاء وكان راكبا معه وانخزل وسقطت نفسه. فلمّا بلغ داره احتبسه واحتبس القوّاد معه والناس، وكان يوما عظيما. ثمّ أقام جعفر بن ورقاء أيّاما فدسّ عليه البريدي الرجال فشغبوا وطالبوه بمال يفرّق فيهم رزقة تامّة للنهوض. فاستتر واستجار بالبريدى فأخرجه وعاد إلى الحضرة. وعنى ابن رائق بأبى الحسين البريدي قبل هذه الحال حتّى انحدر من   [1] . ويمكن أيضا أن يقرأ ما فى النسختين: الإشهاد. وقرئ فى مد: الإشهار، كما أثبتناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 بغداد ولحق بأخويه. ولمّا تقرّر أمر البريدي أصعد الراضي بالله وابن رائق إلى بغداد. ودخل أبو عبد الله الحسين بن علىّ كاتب الأمير ابن رائق بغداد. [545] ذكر حيلة أبى بكر ابن مقاتل على الحسين بن علىّ النوبختي حتّى عزله عن كتابة ابن رائق وكان أبو بكر محمّد بن مقاتل متمكّنا من ابن رائق التمكّن المشهور منحرفا عن الحسين بن علىّ النوبختي بعد المودّة الوكيدة. وكان هو أوصله إلى ابن رائق وأدخله فى كتابته فلهذا ولأنّ الحسين بن علىّ فوقه ومتفرّد بابن رائق- وهو المدبّر للملك والذي بنى لابن رائق تلك الرتبة العظيمة والذي ساق إليه تلك النعمة وجمع له تلك الأموال التي كان مستظهرا بها من ضمان واسط والبصرة- أشار على ابن رائق أن يعتضد بأبى عبد الله البريدي وأن يستكتبه ليتفق الكلمة ويجتمع جيش الأهواز إلى جيشه وقال له: - «أيّها الأمير لك فى ذلك جمال عظيم لأنّه اليوم كالنظير لك فإذا تواضع وصار تابعا جاز حكمك عليه وسيقال لك: إنّ البريدي غدر بالسلطان وبياقوت فكيف تثق به؟ فالجواب عن هذا أنّه ليس يجمعكما أرض فتتمّ حيلته عليك كما تمّت على ياقوت وأنت غير قادر عليه إلّا بحرب وقد يجوز أن تظفر به أو [1] يظهر هو. فإذا كنّا قد انتهينا إلى هذه الحال معه فحطّه من الإمارة إلى الكتابة وتصييره تابعا ثمّ جذب رجاله [546] وجيشه بالخدعة أو إنفاذه مع بجكم ليفتح لنا فارس وإصبهان أولى من دفعه عمّا   [1] . ويمكن أن يقرأ «لو» كما قرأه فى مد، لأنّ الكاتب وصل بين الألف والواو، شأنه فى مثل هذه المواضع. ويؤيّد قراءتنا ما فى مط: أو. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 سأل وإيحاشه فيحتاط لنفسه ويخبّب الرجال وقد حمل إلى الأمير مع هذا ثلاثين ألف دينار هدية هي فى منزلي.» وقال له ابن رائق: - «ما كنت لأصرف الحسين بن علىّ مع نصحه لى وتبرّكى به ولو فتح لى فارس وإصبهان وساقهما إلىّ خصوصا وأهداهما لى دون غيرى.» قال: «أيّها الأمير فإن كرهت هذا فضمّنه واسطا والبصرة.» فقال: «هذا لفعلته إن أشار به أبو عبد الله الحسين بن علىّ.» قال: «فتكتمه أيّها الأمير خوضنا فى الكتابة ولا تذكرها.» وحضر أبو عبد الله الحسين بن علىّ بعد ذلك وعرض عليه هذا الرأى فضجّ منه وعدّد مساوئ البريدي وغدره وكفره الصنائع منذ ابتداء أمرهم وإلى أن كاشفوا بالعصيان، وأعاد حديث ياقوت. ثمّ التفت إلى ابن مقاتل فقال: - «ما قضيت حقّ هذا الأمير ولا نصحته.» ثمّ قال: - «أنا عليل أيّها الأمير، فإن عشت وأنا معك فهيهات أن يتمّ عليك وإن مضى فىّ حكم الله فنشدتك [1] الله أن تأنس بالبريدى أو تسكن إليه بشيء من أصناف حيله.» فدمعت عين ابن رائق وقال: - «بل يحييك الله [547] ويهلكه.» وكان الحسين ابن علىّ عليلا من حمّى وسعال. ثمّ انصرف الحسين بن علىّ وابن مقاتل مغضب. فقال لابن رائق:   [1] . فى مط: فسدل الله، بدل «فنشدتك الله» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 - «قد حمل الرجل إليك ثلاثين ألف دينار ولا بدّ من أن تعمل به جميلا. فاقبل أحمد بن علىّ الكوفي خليفة لنا بحضرتك ونائبا عنه إلى أن ترى رأيك.» فقال: «أمّا هذا فنعم.» وكتب ابن مقاتل إلى البريدي بما جرى وأنفذ أحمد بن علىّ الكوفي ووافى حضرة أبى بكر محمّد بن رائق بمدينة السلام واختلط به نيابة عن أبى عبد الله البريدي وثقل الحسين بن علىّ النوبختي فتأخّر عن الخدمة أيّاما. وكان له ابن أخ قد صاهره فهو يخلّفه فى مجلس ابن رائق ويوقّع عنه. فقال ابو بكر ابن مقاتل للأمير ابن رائق: - «حسن العهد من الإيمان وهو من الأمير أحسن لأنّه عائد بالسلامة علىّ ولكن إضاعة الأمور ليس من الحزم والحسين بن علىّ ميّت فانظر لنفسك فإنّ الأمور قد اختلّت.» فقال: «يا هذا، الساعة والله سألت سنان بن ثابت عنه فقال: قد صلح وخفّ النفث وأنّه أكل الدرّاج.» فقال: «سنان رجل عاقل ولا يحبّ أن يلقاك فيمن تعزّ بما تكره [1] ولا سيّما هو وزير الزمان ولكن صهره [548] وابن أخيه خليفته أحضره وحلّفه أن يصدقك.» قال: «افعل.» وانصرف ابن مقاتل ودعا علىّ بن أحمد بن أخى الحسين بن علىّ وقال له: - «قد مهدّت لك كتبة الأمير وواقفته على تقلّدك إيّاها وهي وزارة   [1] . وفى مط: فيمن تعذ احضر بما تكره. (خلط وتصحيف) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 الحضرة وعمّك ذاهب فإن سألك فعرّفه أنّه ميّت لا محالة. فإنى أعود إليه وأناجزه فيخلع عليك قبل أن يطمع فيها غيرك.» فاغترّ [1] علىّ بن أحمد وسأله محمّد بن رائق من غد بعد أن أخلى نفسه عن خبر عمّه. فكان جوابه أن بكى وقال: - «أعظم الله أجرك أيّها الأمير فى أبى عبد الله عدّه من الأموات.» ثمّ لطم وجهه. فقال ابن رائق: - «لا حول ولا قوّة إلّا بالله أعزز علىّ به، لو فدى حىّ ميّتا لفديته بملكي كلّه.» واستدعى ابن مقاتل فقال له: - «كان الحقّ معك قد يئسنا من الحسين بن علىّ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فأىّ شيء نعمل؟» فقال: «هذا أبو عبد الله أحمد بن علىّ الكوفي نظير الحسين بن علىّ وكانا صنيعتي إسحاق بن إسماعيل النوبختي، هو فى نهاية الثقة والعفاف وهو خصيص بأبى عبد الله البريدي وإن أنت استكتبته اجتمعت لك كفاية إلى عفافه واستقصائه وانضاف إلى ذلك كلّه حصول أولئك فى جملتهم وانقطاعهم [549] إليك ونعتدّ على أبى عبد الله أنّا قد أجبناه إلى ما سأل من كتابتك واستخلفنا صاحبه أبا عبد الله الكوفي.» فقال: «استخر الله وافعل ولكن عهدة أبى عبد الله الكوفي عليك ألّا يغشّنى ويؤثر البريدي فى حال من الأحوال.» فقال: «أنا الضامن عن أبى عبد الله الكوفي كلّ ما شرطه الأمير.» فاستكتبه فدبّر الأمور كلّها كما كان يدبّرها الحسين بن علىّ وأسقط من   [1] . وفى مط: اعترف، بدل «اغترّ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 الكتب التي تكتب عن ابن رائق وكتب: «فلان بن فلان» . وكان الحسين بن علىّ يكتب ذلك على رسم الوزارة فكانت مدّة تدبير الحسين بن علىّ النوبختي لأمور المملكة ثلاثة أشهر وثمانية أيّام. وكتب أبو بكر ابن رائق إلى أبى عبد الله البريدي يعتدّ عليه بما احتال له حتّى زحزح الحسين بن علىّ وساق الأمر إليه واستخلف له أبا عبد الله الكوفي فحمل إليه أبو عبد الله البريدي عشرة آلاف دينار وحمل [1] إلى ابن رائق عشرين ألف دينار بعد الثلاثين الألف الدينار التي قدّمنا ذكرها. واستقلّ الحسين بن علىّ النوبختي وصحّ جسمه وعوفي فكتم ذلك عن ابن رائق وتمكّن البريديون حتّى غلبوا على البصرة. ذكر الخبر عمّا احتالوا به واتفق أيضا لهم لمّا مضى [2] شهر من استكتاب ابن رائق أبا عبد الله الكوفي [حتى] شرع لأبى يوسف البريدي فى ضمان [550] البصرة وواسط فأشار علىّ بن رائق بذلك فقال: - «لا أفعل ولا أثق بهما.» قال له: - «ولم أيّها الأمير؟ أمّا واسط فأنا مدبّرها وليس يرد لهم إليها ولا راجل، وعلىّ توفية مالها. وأمّا البصرة فقد قرّرت أمرها على أربعة آلاف ألف درهم على أن يقيم لى بها ضمناء ثقات.»   [1] . سقط من مد من «وحمل» إلى «التي قدّمنا ذكرها» . [2] . «لمّا» لا تقرأ فى الأصل، وإنّما قرأناها فى ضوء ما فى مط. وقرئت الكلمة فى مد «لم» فأصبح الضبط: «لم يمض» كما احتيج إلى زيادة «حتّى» بين المعقوفتين وزيدت فعلا: «لم يمض شهر ... [حتّى] ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 وأشار أبو بكر بن مقاتل بمثل ذلك فأذن ابن رائق فى العقد عليه فقلّد أبو يوسف أبا الحسن ابن أسد أعمال الخراج بالبصرة وكان والى الحرب بها محمّد بن يزداد فخرج أهل البصرة بأجمعهم إلى سوق الأهواز لتهنئة البريدي بالولاية وكان جمعهم عظيما جدا. وكان أبو الحسين ابن عبد السلام الهاشمي وجيه البصرة قد شذّ عن ابن رائق لأنّه قصّر به وحطّ منه بالبصرة، فقصد أبا عبد الله البريدي وأبا يوسف أخاه فطرح نفسه كلّ مطرح عندهما وأشار إليهما بالغلبة على البصرة وإنفاذ العساكر إليها وذكر طاعة الخول وأهل الأنهار له. فأخذ أبو عبد الله فى بناء الشذاءات والزبازب والطيّارات والاستكثار منها حتّى اجتمعت له مائة قطعة فى نهاية الوثاقة والجودة. فحين وافاه أهل البصرة [551] للتهنئة قرّبهم وأكرمهم ورفع منهم وقال: - «قد اطّلع أبو الحسين بن عبد السلام على نيّتى الجميلة فيكم ومحبتي لصلاحكم وإعداد آلة الماء للجيوش الذين أحصّن بهم بلدكم من القرامطة وكنت مستغنيا عن ضمان البصرة إذ لا فائدة لى فيها وإنّما امتعضت لكم من ظلم ابن رائق ومحمّد بن يزداد خليفته لكم وتحمّلت فى مالي أربعة آلاف دينار فى كلّ شهر بإزاء ما كان يؤخذ من الشرطة والمآصير والشوك تخفيفا عنكم وقد أزلت جميعها وهذا خطّى برفعها عنكم.» ووقّع بذلك توقيعا وسلّمه إليهم وكثر الدعاء والضجيج بشكره. ثمّ قال لهم: - «إنّه سيبلغ هذا ابن رائق فينكره ويوحشه منّى ويصير سببا للعداوة بيني وبينه. وو الله ما أبالى أن يعاديني أخواى ابو يوسف وأبو الحسين وابني أبو القاسم فى صلاحكم. لأنى أعلم أنّ فيكم بنى هاشم وطالبيين وأولاد المهاجرين والأنصار، ومن حرمة الإسلام صيانتكم وأنّى لأقدر أنّ الله عزّ وجلّ يغفر لى كلّ ذنب بإزالة الأذيّة عنكم وسيروم ابن رائق ردّ ما قد أزلته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 عنكم من هذا الحطام الذي كان يأخذه. فأين السواعد القويّة والنفوس [552] الأبيّة التي حاربت علىّ ابن أبى طالب صلوات الله عليه [1] . فمتى رام ابن رائق نقض ما عملت فاضربوا وجهه ووجوه أصحابه بتلك السواعد والسيوف وأنا من وراءكم.» ثمّ ذكر أهل البصرة بأيّامهم مع عبد الرحمن بن الأشعث ومحمّد وإبراهيم ابنى عبد الله بن حسن وقال: - «لتكن قلوبكم قويّة وآمالكم فسيحة ونفوسكم شديدة فى مجاهدة عدوّكم.» ثمّ وقّع للنفقة على المسجد الجامع بالبصرة بألفي دينار وقال: - «بلغني أنّه خراب.» وعرضت عليه الرقاع بالحاجات فوقّع بحطائط ونظر وصلات وتخفيف فى المعاملات بألفي ألف درهم وانصرفوا عنه وقد صاروا سيوفه. وسيّر إقبالا غلامه وحاجبه وكانت له نوبة مع أبى جعفر الجمّال [2] وضمّ إليه ألفى رجل وقال: - «أقيموا بحصن مهدى إلى أن نكاتب إقبالا الحاجب بالمسير بهم إلى البصرة.» واتّصل ذلك بأين يزداد فقامت قيامته. وفى هذه السنة قلّد محمّد بن رائق أبا الحسين بجكم الشرطة بمدينة السلام وقلّد الحسين عمر بن محمّد قضاء القضاة مع الأعمال التي إليه. وأمر الغلمان الحجريّة المستترين ببغداد فظهروا وصاروا إليه بالسلاح فعرضهم   [1] . فى مط: عليه السلام. ووضع فى مد علامة التعجّب بعد «صلوات الله عليه» حيث يبدو أنّ سياق الكلام لا يلائم التصلية. [2] . وفى مط: الحمال (بالحاء المهملة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 وأمضى من جملتهم نحو ألفى رجل وأثبتهم برزق مستأنف [553] على ما رآه وأسقط الباقين وأخرج من أمضاه وقرر رزقه إلى الجبل. فلمّا صاروا بطريق خراسان أجمع رأيهم على المضىّ إلى الأهواز فمضوا إلى أبى عبد الله البريدي فقبلهم وأضعف أرزاقهم وخاطبهم بالترثّى لهم ممّا جرى عليهم من ابن رائق والتعجب منه ووعدهم الإحسان التامّ. وأظهر للسلطان وابن رائق أنّه لم يكن به طاقة لمّا صاروا إليه أن يدفعهم وأنّه اضطرّ إلى قبولهم وجعلهم حجّة فى قطع ما كان ووقف على حمله واحتجّ بأنّهم اجتمعوا مع الجيش ومنعوه من حمل مال البلد وغلب على الأهواز والبصرة. انقسام الدولة العبّاسيّة إلى دويلات فصارت الدنيا فى أيدى المتغلّبين وصاروا ملوك الطوائف وكلّ من حصل فى يده بلد ملكه ومنع ماله. فصارت واسط والبصرة والأهواز فى أيدى البريديين وفارس فى يد علىّ بن بويه وكرمان فى يد أبى علىّ ابن إلياس [1] وإصبهان والرىّ والجبل فى يد أبى علىّ الحسن بن بويه ويد وشمكير يتنازعونها بينهما والموصل وديار ربيعة وديار بكر فى أيدى بنى حمدان ومصر والشام فى يد محمّد بن طغج والمغرب وافريقية فى يد أبى تميم والأندلس فى يد الأموى وخراسان فى يد نصر بن أحمد واليمامة والبحرين وهجر فى يد أبى طاهر ابن أبى سعيد [554] الجنّابى وطبرستان وجرجان فى يد الديلم، ولم يبق فى يد السلطان وابن رائق غير السواد والعراق. ولمّا حصلت ديار مضر خالية قد خربت وضاق مالها عن كفاية السلطان   [1] . سقط من مط قوله: «وكرمان فى يد أبى على بن إلياس» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 خرج عنها بدر الخرشنى- وكان يتولّى الحرب بها- وعاد إلى الحضرة. فلمّا خلت من صاحب معونة، قصدها علىّ بن حمدان فغلب عليها. وزاد فى مرض أبى عبد الله الحسين بن علىّ النوبختي ما رآه من انتقاض كلّ ما كان نظمه وما تمّ عليه من الحيلة، فآل أمره إلى السلّ. وفى هذه السنة انكشفت الوحشة بين محمّد بن رائق وبين البريديين ذكر السبب فى ذلك اتفق أن وافى أبو طاهر القرمطى الكوفة فدخلها فى شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين. فخرج ابن رائق من بغداد ونزل فى بستان ابن أبى الشوارب بقنطرة الياسريّة وأنفذ أبا بكر ابن مقاتل برسالة إلى أبى طاهر الهجري. وكان أبو طاهر يطالب بأن يحمل إليه السلطان فى كلّ سنة مالا وطعاما بنحو مائة وعشرين ألف دينار ليقيم فى بلده. وبذل له ابن رائق بأن يجعل ما التمسه رزقا لأصحابه على أن يكسر لهم السلطان جريدة وينفق فيهم ويدخلوا فى الطاعة ويستخدموا. وجرت خطوب [555] بينهما ومخاطبات انصرف معها أبو طاهر إلى بلده من حيث لم يتقرّر له أمر مع ابن رائق وبلغ ابن رائق إلى قصر ابن هبيرة ثمّ عاد منها إلى واسط وكاشف البريدي واستوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات. ذكر السبب فى ذلك كان ظنّ ابن رائق أنّه إذا استوزر أبا الفتح جذب له الأموال من مصر والشام. فقدم أبو الفتح من الشام ولزم سليمان بن الحسن منزله وكان حمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 إليه الخلع قبل وصوله إلى بغداد فوصلت إليه وهو بهيت [1] فلبسها. ثمّ دخل بغداد وأقرّ أبا القاسم الكلوذانى على ديوان السواد واستخلف بالحضرة أبا بكر عبد الله بن علىّ النفرى وهو زوج أخته وكتب السلطان فى استيزاره أبا الفتح كتابا نفذ إلى أصحاب الأطراف. ولمّا بلغ ابن رائق ما خاطب البريدي به أهل البصرة قلق وتغيّر للكوفى واتّهمه وهمّ بالقبض عليه، فحامى عنه أبو بكر ابن مقاتل، ثمّ رأى أنّه يغالط ابن البريدي بكتاب إليه. فقال للكوفى أنّه بلغني أنّ صاحبك خاطب أهل البصرة بما أنا معرض عنه فإنّه ربّما وقع التزيّد فى مثله ولكن اكتب إليه: - «إنّ الذي أنكرته قبولك الحجريّة. فأمّا إذا تردهم وإمّا أن تطردهم [556] وإن استأذنوك فى ناحية يقصدونها فاضمم إليهم من رأيت من قوّادك وأنفذهم إلى الجبل وهذا العسكر الذي أنفذته إلى حصن مهدى، فأنا أعلم أنّه لمّا اتّصل ورود الهجري إلى الكوفة استظهرت بإنفاذه ليعين من فيها عليه إن احتيج إلى ذلك وقد استغنى الآن عنهم وفى مقامهم بالحصن مع الاستغناء عنهم تسليط الظنون السيّئة عليك وإيجاد أعداءك سبيلا إلى التضريب بيني وبينك. - «وبلغني أنّك قد كنت أنفذت أبا جعفر محمّدا غلامك إلى السوس- وكان قد أنفذه على الحقيقة- وأمرته أن يقصد الطيب ويقيم بها إشفاقا من أن يلحقني وهن من القرامطة فإن احتيج إليه لحماية واسط كان قريبا وإنّى لمّا وافيت كاتبته بالانصراف فعاد إلى الأهواز، وهذا مشكور. فاعمل فى أمر إقبال ومن أنفذته إلى حصن مهدى كهذا العمل، ثمّ أنا لك على الوفاء.»   [1] . هيت: سمّيت باسم بانيها وهو هيت بن البندى، ويقال: البلندى. بلدة على الفرات فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة (مراصد الاطّلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 فكتب الكوفي بهذا كلّه. فكان الجواب: - «إن جيشه القديم متشبّثون بالحجريّة لأنّهم أقاربهم وبين القوم وصل ورحم وبلديّة ولا يمكن إخراجهم جملة واحدة ولكنّه على الأيّام يفرّق شملهم، وإنّ الأخبار تواترت بأنّ القرمطى لمّا انصرف عن الكوفة قصد البصرة واستجار به أهلها فأنفذ [557] هذا العسكر إشفاقا عليها وأنّهم قد حصلوا بها.» وكان البريدي ساعة ورود الخبر عليه بنزول ابن رائق واسط أنفذ إلى من بحصن مهدى بدخول البصرة فدخلوها بعد أن أنفذ من الحجريّة قطعة وافرة لمعاضدتهم على دخولها. وأخرج محمّد بن يزداد تكان [1] الصغدي وتكين- وكانا تركيّين من شحنة البصرة- لحربهم فوقعت بينهم وقعة فى نهر الأمير انهزم بها الرائقيّة. ثمّ زاد محمّد بن يزداد فى عدّتهم بالإثبات [2] وبغلمان نفسه. فكانت الوقعة الثانية بكسر أبان وبينها وبين الأبلّة فرسخ. فانهزم الرائقيّة هزيمة ثانية ودخل إقبال وجيش البريدي البصرة. وأمّا محمّد بن يزداد صاحب ابن رائق فإنّه فتح باب البصرة وهرب على طريق البرّ إلى الكوفة. وأمّا تكان وتكين ورجال الماء من [3] الرائقيّة فإنّهم اهتدوا فى زبازبهم إلى واسط. وورد الخبر على ابن رائق بحصول إقبال غلام البريدي وأصحابه بالبصرة وجواب كتاب الكوفي فى أيّام متقاربة. فأنفذ رسولا إلى البريدي برسالة   [1] . ما فى الأصل هنا: مهمل فى الأول. وفى الأسطر الآتية: يكان (بالياء) . وفى مط: تكان (فى كلا الموضعين) وفى مد: مكان (فى كلا الموضعين) . [2] . بالإثبات (بكسر الهمزة) : كذا فى الأصل ومط. [3] . من: سقط من مد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 قسّمها بين إرغاب وإرهاب ووعد ووعيد فكان من جوابه: - «إنّه لا يمكنه ردّ رجاله من البصرة، لأنّ أهلها قد أنسوا بهم واستوحشوا من قبيح [558] ما عاملهم به ابن يزداد فى أيّامه لأنّ القرمطى طامع فى البلد وليس يأمن متى كاتبهم بالانصراف أن يدخل القرامطة إلى البصرة ضرورة، لئلّا تعود المعاملة بين أهلها وبين ابن يزداد بعد أن كاشفوه.» وقد كان لعمري أهل البصرة فى نهاية الاستيحاش من ابن رائق ومحمّد بن يزداد، فإنّ محمّد بن يزداد سار بهم سيرة سدوم وظلمهم فى معاملاتهم ظلما مفرطا وسامهم الخسف وكانوا قد اعتادوا العزّ وقدّروا بالبريدى خيرا ثمّ رأوا منه ومن أخويه ما ودّوا أنّهم أكلوا الخرشف والخرنوب وصبروا على محمّد بن رائق ومحمّد بن يزداد ومعاملته. ولمّا عاد الرسول بالجواب كان ابن رائق قد استدعى بدرا الخرشنى وأكرمه وخلع عليه خلعا سلطانيّة وحمله. وترجّح الرأى فى تسيير الجيوش إلى الأهواز والبصرة ثمّ استقرّ الرأى على أن يقلّد بجكم الأهواز بعد حديث لبجكم فى ذلك مع ابن مقاتل سنذكره فيما بعد إن شاء الله. وخلع عليه ابن رائق لذلك وسيّره وبدرا الخرشنى إلى الأهواز وضمّ إليه ابن أبى عدنان الراسبي دليلا ومعينا وأنفذ حاجبه فاتكا وعبد العزيز الرائقى وأحمد بن نصر القشوري وبرغوثا وأمرهم أن يقيموا [559] بالجامدة ويحصل جيش البريدي بين حلقتى البطان فبادر بجكم ولم يتوقّف على بدر الخرشنى ونفذ أمامه فوصل إلى السوس وأخرج البريدي محمّدا غلامه المعروف بأبى جعفر الجمّال فى عشرة آلاف رجل بأتمّ آلة وأكمل سلاح للحرب. فوقعت الحرب بظاهر السوس ومع بجكم مائتان وتسعون غلاما من الأتراك فانهزم البريديّة يوم نزول بدر بالطيب. وقال بجكم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 - «إنّما بادرت وحملت على نفسي ما حملت ولاقيت هذه العدّة العظيمة بهذه العدّة اليسيرة لئلّا يشركني بدل فى الفتح.» وعاد ابو جعفر الجمّال إلى أبى عبد الله البريدي فصفعه بخفّة وقال: - «انهزمت مع عشرة آلاف من بين يدي ثلاثمائة غلام.» فقال له: - «أنت ظننت أنّك تحارب ياقوتا المدبر وجيشه المدابير. قد والله جاءك من لتّ [1] بجكم والأتراك خلاف ما عهدت من سودان باب عمان والمولّدين.» فقام إليه فلكمه بيده ثمّ قال له: - «قد أنفذت أبا الخليل الديلمي ومن معى من العجم ومن كان يخلّف بالأهواز فى ثلاثة آلاف رجل إلى تستر فانفذ الساعة مع من صحبك إليها حتّى تجتمع معهم وتعاود الحرب.» فقال: «افعل وسنعود إليك هذه الكرّة بأخزى من الكرّة الأولى لأنّ [560] هيبة بجكم قد تمكّنت فى نفوس أهل العسكر.» ونفذ للوقت فى ثلاثة آلاف رجل ووافى بجكم إلى نهر تستر فطرح نفسه وغلمانه أنفسهم فى الماء للعبور سباحة وكان الماء قليلا فانهزم القوم بغير حرب وعادوا إلى أبى عبد الله. فخرج فى الوقت مع أخويه وجلسوا فى طيّار ومعهم حديدي فيه ثلاثمائة ألف دينار كانت فى خزائنهم فغرقت بالنهروان وغرق الطيّار وأخرجهم الغوّاصون وأخرج لبجكم بعض المال. فقال أبو عبد الله: - «ما نجونا والله من الغرق بصالح أعمالنا ولكن لصاعقة يريدها الله بهذه   [1] . اللتّ: القدوم. الفأس العظيمة (فارسية) . لتّه: دقّة وفتّه وسحقه. وفى مط: ابن (مهملة) بدل «لتّ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 الدنيا.» فقال له أبو يوسف: - «ويحك، ما تدع التنادر فى هذه الحال.» ثمّ وافوا البصرة ودخل بجكم الأهواز وكتب إلى ابن رائق بالفتح. ولمّا وصل أبو عبد الله إلى الأبلّة ومعه أخواه أنفذ إقبالا غلامه إلى مطارا وأقام هو وأخواه فى طيّاراتهم وأعدّوا ثلاثة مراكب للهرب منها إلى عمان إن اتفق على إقبال بمطارا من الهزيمة مثل ما تمّ على أبى جعفر بالسوس. وأخرج أبو عبد الله البريدي أبا الحسن ابن عبد السلام لمعاضدة إقبال، فانهزم الرائقيّة وأسر برغوث وحمل به إلى البريدي فأطلقه، وكتب إلى ابن رائق كتابا يستعطفه [561] فيه وأنفذه إليه مع برغوث ودخل البريون الثلاثة إلى الدور فنزلوها وسكنوا واطمأنّوا ولم يمكن بجكم أن يسير من الأهواز لخلوّ الأهواز من آلة الماء وشغب رجال بدر عليه فانصرف إلى واسط وملك بجكم الأهواز. ولمّا عرف ابن رائق ما جرى على رجاله فى الماء أنفذ أبا العباس أحمد بن خاقان وجوامرد [1] الرائقى إلى المذار على الظهر لمحاربة البريدي وإخراج أصحابه وسيّر بدرا الخرشنى إلى البصرة فى الماء فى شذاءات مقيّرة بناها بواسط. فانهزم الرائقة من المذار وأسر أبو العبّاس ابن خاقان ورجع جوامرد إلى واسط وأحسن البريدي إلى ابن خاقان واستحلفه ألّا يعود لمحاربته ولا يشايع عليه وأطلقه. واتّصل خبر هذه الهزيمة بابن رائق فسار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر وكتب إلى بجكم أن يلحق به إلى عسكر أبى جعفر. فاتفق أن سار   [1] . فى مط: جوانمرد (أى: الفتى) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 بدر الخرشنى فى الماء إلى نهر عمر ووافى إلى البصرة وملك شاطئ الكلّا [1] وحصل إقبال غلام البريدي فى حدود واسط لمّا عرف خروج ابن رائق عنها وبلغ ابن رائق ذلك فردّ فاتكا حاجبه إلى واسط ليحفظها. ولمّا ملك بدر الخرشنى الكلّا هرب أبو عبد الله البريدي للوقت إلى جزيرة أوال [2] وخرج من كان بالبصرة من الجند لدفع [562] بدر وانضاف إليهم عالم عظيم من العامّة فاضطرّ بدر إلى الإفراج عن شاطئ الكلّا وحصل بالجزيرة التي بإزاءه واستتر أبو يوسف البريدي وركب أخوه أبو الحسين يحض الجند والعامّة ووافى بجكم إلى ابن رائق وهو فى عسكر أبى جعفر يوم ورود بدر لكلّا ولمّا كان وقت العصر عبر ابن رائق وبجكم دجلة البصرة ودخلا نهر دبيس وتبعهما أحمد بن نصر القشوري فرمى بالحجارة وغرق زبزبة واجتمع بدر وابن رائق وبجكم فى الجزيرة فشاهدوا أمرا عظيما وخطبا جليلا من العامّة وتكاثرهم عليهم. فقال بجكم لابن رائق: - «ما الذي عملت بهؤلاء القوم حتّى قد أحوجتهم إلى ما خرجوا إليه؟» فقال:- «لا والله ما أدرى.» وانصرف بجكم وابن رائق إلى عسكر أبى جعفر ولمّا جنّ الليل وجاء المدّ انصرف بدر إليهما. وبلغ إقبالا خبر بدر فى نفوذه فى الماء إلى البصرة من الجامدة ومخالفته إيّاه الطريق فكرّ راجعا ووافى فى اليوم الثاني وقت العصر إلى شاطئ الكلّا ونفذ إلى شاطئ الأبلّة وحال بين ابن رائق وبجكم وبدر وبين الابلّة وصارت الحرب فى دجلة وطالت المنازلة. ونفذ أبو عبد الله البريدي من جزيرة أوال إلى فارس واستجار بعلىّ ابن   [1] . قال فى مراصد الإطلاع: الكلّاء (بالمدّ) : محلّة مشهورة وسوق بالبصرة. [2] . أوال: جزيرة بناحية البحرين بها نخل وبساتين (مراصد الاطّلاع) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 بويه فأنفذ معه [563] أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه لفتح الأهواز. وورد الخبر بذلك على ابن رائق وأصحابه فتقدّم ابن رائق إلى بجكم بالمبادرة إلى الأهواز لحمايتها فقال بجكم: - «لست أحارب الديلم وأدفعهم عن الأهواز إلّا بعد أن تحصل لى أمارتها حربا وخراجا. وأنت تعلم أنّى ما صبرت لأبى العبّاس الخصيبى لمّا [1] قلّدته الأهواز حتّى صرفته أصبر لعلىّ بن خلف بن طناب أن يتحكّم فى بلد أحارب عنه؟» وكان علىّ بن خلف بالأهواز من قبل الوزير أبى الفتح فضمن ابن رائق بجكم الأهواز وكورها بمائة وثلاثين ألف دينار محمولة فى السنة على أن يوفى رجاله مالهم ويستوفى ما يخصّه وغلمانه، وأقطعه إقطاعا بخمسين ألف دينار. ولمّا كان بعد شهر أو دونه من نفوذ بجكم إلى الأهواز انصرف ابن رائق أيضا من عسكر أبى جعفر ومضى إلى الأهواز وأحرق ما بقي من سواده لاتفاق سيّئ اتّفق عليه. ذكر اتّفاق سيّئ اتّفق على ابن رائق حتّى انهزم إلى الأهواز وأحرق سواده كان طاهر الجبلي وافى إلى واسط مستأمنا إلى ابن رائق فلم يجده بها وقصده إلى عسكر أبى جعفر فتلقّاه فى طريقه كتاب ابنه وجاريته بحصولهما فى يد ابن البريدي، لأنّ أبا عبد الله كان [564] بفارس فقبل ابنه وجمع بينه وبين الجارية فعبر بالليل فى مائتي رجل. وزعق بابن رائق وبدر الخرشنى ووازره جميع أصحاب البريدي من عسكر الماء. فأمّا بدر فإنّه انهزم إلى   [1] . ما فى الأصل: لما (بتخفيف الميم) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 واسط. وأمّا ابن رائق فإنّه مضى إلى الأهواز وأكرمه بجكم وخدمه وأشير على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل. وأقام أيّاما حتّى وافاه من واسط فاتك غلامه ثمّ سار إليها وخلّف بجكم بالأهواز. وأمّا حديث بجكم مع ابن رائق الذي وعدنا به فهو ما حكاه ثابت ابن سنان عن والده سنان. ذكر حكاية عن بجكم تدلّ على حصافة وبعد غور وكبر همّة قال ثابت: حدّثنى والدي أنّ بجكم قال له بعد أن ملك الحضرة وأزال أمر ابن رائق فى عرض حديث جرى بينهما: سبيل الملك إذا حزبه أمر من الأمور أن يكون جميع ما يملك من مال وغيره، أقلّ فى عينه من التراب، وأن تحذف جميعه كما حذفت هذه الحصاة فيما يقدر [1] به زوال ما قد أظلّه. فإنّ دولته إذا ثبتت أمكنه أن يستخلف أضعاف ما خرج عن يده وإن هو بخل وشحّت نفسه وتهيّب إخراج ما فى يده ذهب ما بخل به وذهبت معه نفسه. أذكر وقد قلّدنى ابن رائق الأهواز ولم يكن ما فعله من ذلك برأى أبى بكر ابن [565] مقاتل ولا شاوره فيه. فلمّا بلغ ابن مقاتل الخبر شقّ عليه ذلك جدّا وبادر إلى ابن رائق وقال له: - «أىّ شيء عملت، قد عزمت على أن تقلّد بجكم الأهواز؟» قال ابن رائق: - «نعم.»   [1] . وفى مط: تقرر، بدل «يقدر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 قال: «قد أخطأت على نفسك نهاية الخطأ. أنت لا تقوى ببني البريدي وهم كتّاب أصحاب دراريع، ولا يمكنك صرفهم ولا انتزاع المال من أيديهم. تقلّد رجلا تركيّا صاحب سيف إنّما صحبك قريبا مثل الأهواز ما هو إلّا أن تحصل الأهواز فى يده ويرى جلالتها وحسنها وكثرة أموالها وما يحصل عنده من الجيش بها حتّى تحدّثه [1] نفسه بالتغلّب عليها. ثمّ لا يقتصر عليها حتّى يطمع فى غيرها وتنازعه نفسه إلى أن ينازعك أمرك ويزيلك عن موضعك ويصير هو مكانك ليأمن على ما حصل له ولا يكون له منازع عليه. وأنت الساعة على طمع فى أن تنتزع البلد من يد البريدي. فإن قلّدته بجكم فاحسم طمعك عنها وأخرجها من قلبك واصرف همّتك إلى حفظ- غيرها وليته [2] ينحفظ- واحفظ مهجتك فقد عرّضتها للتلف.» ففتأ رأى ابن رائق وصرفه عمّا عزم عليه فى أمرى ولعمري لقد صدقه ونصحه وأشار بالرأى الصحيح. [566] وبلغني ما جرى بينهما فقامت قيامتي منه ورأيت أنّه يفوتني ما حدّثت نفسي به من الملك فقلقت وشاورت محمّد بن ينال الترجمان فلم يكن عنده رأى. فأخذ يسلّينى ويقول لى: - «أنت فى نعمة وراحة ومحلّك من هذا الملك محلّ الأخ.» فقلت له: - «أنت أحمق، امض حتّى تعدّ سميريّة فى هذه الليلة المقبلة.» وعملت على قصد ابن مقاتل وعلمت أنّه تاجر عامّى صغير النفس وإنّ الدرهم ليعظم فى نفوس أمثاله. فلمّا كان الليل ونام الناس حملت معى عشرة آلاف دينار ونزلت إلى السميريّة وأخذت معى محمّد بن ينال وحده   [1] . وفى مط: تخدمه، بدل «تحدّثه» . [2] . وفى مط: ابنه، بدل «ليته» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 ولم آخذ [1] غلاما وصرت إلى بابه فوجدته مغلقا ودققت فخاطبني بوّابه من وراء الباب وأعلمنى أنّ الرجل نائم وأنّ الأبواب بيني وبينه مغلقة. فقلت له: - «دقّ الباب وأنبهه، فإنّى حضرت فى مهمّ.» ففعل ودخلت إليه وقد انزعج عن فراشه لحضورى فى مثل ذلك الوقت فقال: - «ما الخبر؟» فقلت: «خير وأمر أردت أن ألقيه إليك على خلوة، فانتظرت نوم الناس وخلوّ الطريق ولم آخذ معى غير الترجمان. ولولا أنّى أردته ليترجم بيني وبينك لما أحضرته ولا أطلعته على ما أخاطبك به.» قال: فقال: - «قل ما تحبّ.» قلت: «قد علمت ما كان عزم عليه الأمير [567] فى بابى من تقليدي الأهواز، وبلغني أنّه توقّف عن ذلك ولست أعرف سبب توقّفه وفى إبطاله ما عزم عليه بطلان جاهي بعد اشتهاره وغضّ منّى. ولا يشكّ أحد أنّه لسوء رأى وأنا صنيعتك وصنيعته وغرسكما وإن لم أحظ فى أيّامكما فمتى أحظى وأىّ مقدار يكون لى عند الناس. وهذه عشرة آلاف دينار قد حملتها إلى خزائنك، وأنا أعلم أنّه يقبل منك، وأريد أن تشير عليه بإمضاء ما كان عزم عليه.» فلمّا رأى الدنانير تخربق وقال: - «دعني وانصرف فى حفظ الله.» فتركت الدنانير بحضرته وانصرفت وأنا واثق بحصول الأهواز لى. فلمّا   [1] . وفى الأصل: لم أجد، وما أثبتناه هو من مط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 كان بعد ثلاثة أيّام صار ابن مقاتل إلى ابن رائق فقال له: - «أشرت بذلك الرأى على الهاجس وظاهر النظر. فلمّا تأمّلت الحال وجدت الصواب معك لأنّك إن تركت الأهواز فى يد ابن البريدي وأخوته بعد ما حصل لهم من الأموال ازداد كلّ يوم قوّة وطمعا ومدّوا أيديهم إلى غيرها من أعمالك وبلدانك ودبّ فسادهم إلى عسكرك بكثرة ما يبذل ويعطى ولا يبعد بعد ذلك منازعتهم لك على أمرك هذا. وإن خرجت إليهم بنفسك فهي حرب ولا تدرى كيف تكون، فإن كانت عليك لم تشدّ منها حزاما [1] أبدا، وإن وجّهت [568] بغير بجكم استضعف وغلب وكسر ذلك قلوب أصحابك ولأن تصدمهم بمثل بجكم وهم لا يطمعون فى مقاومته أصلح. فإن حصل له البلد استأصل شافتهم. ثمّ أنت مالك أمرك: إن شئت أقررته وإن شئت صرفته قبل أن يتمكّن وقبل أن يجتمع أمره ويحدّث نفسه بشيء تكرهه [2] فاستخر الله وامض أمره.» فقبل رأيه وأمضى أمرى وقلّدنى ولم أستقلّ ولاية الأهواز بذلك المال، وباع ابن مقاتل روحه وروح صاحبه ونعمته بعشرة آلاف دينار واستخلفت أنا مكان الدنانير أضعافها وحصل لى ملك ابن رائق. شرح حال أبى الحسين أحمد بن بويه وأبى عبد الله البريدي فى قصدهم الأهواز لمحاربة بجكم وذلك فى سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة ودخلت سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة قد ذكرنا حال أبى عبد الله البريدي وقصده علىّ بن بويه وأنّه تقدّم إلى   [1] . وفى مط: حراما، بدل «حزاما» . [2] . وفى مط: ويحدّث نفسه من يكرهه، بدل «ويحدث نفسه بشيء تكرهه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 أخيه أحمد بن بويه بالمسير إلى الأهواز معه. وخلّف أبو عبد الله البريدي عند علىّ بن بويه ابنيه أبا الحسن محمّدا [1] وأبا جعفر الفيّاض رهينة وسار مع الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز. وورد الخبر على بجكم بنزول أحمد بن بويه أرجان. فخرج بجكم لحربه فانهزم من بين يديه وكان أوكد [569] الأسباب فى هزيمته أنّ المطر اتّصل أيّاما كثيرة فعطّلت القسىّ [2] . ومنع الأتراك أن يرموهم بالنشّاب. فعاد بجكم وأقام بالأهواز وقطع قنطرة أربق وأنفذ محمّد بن ينال الترجمان إلى عسكر مكرم ووقعت النازلة بينه وبين محمّد بن ينال الترجمان ثلاثة عشر يوما. ثمّ عبر أحمد بن بويه بخمسة من الخاصّة فى سميريّة إلى مشرعة يعرف بمشرعة الحناس [3] فهزموا من كان رتّب فيها وما زال يعبر بقوم بعد قوم حتّى حصل ثلاثمائة رجل فى الجانب الغربي. ثمّ ضربوا بالبوق واشتملوا [4] فانهزم الترجمان وأخذ إلى تستر، وبلغ الخبر بجكم فعبر دجلة الأهواز وقبض على الوجوه بها وفيهم ابن أبى علّان وأبو زكريّا السوسي. وحمل الجميع معه والتقى مع الترجمان بالسوس وسار بجميع عسكره إلى واسط. ولمّا حصل بالطيب كتب إلى ابن رائق بالخبر وأنّه قد حرب هو ورجاله فلم يبق لهم حال وأنّ الرجال سيطاولونه وإن كان عنده مائتا ألف دينار ينفقها فيهم فإنّهم فقراء، فالوجه أن يقيم وإن كانت متعذّرة فالصواب أن يصعد إلى بغداد فإنّه لا يأمن أن يقع شغب ولا يدرى عن أىّ شيء ينكشف. فرهب ابن رائق هذه الحال وبادر وخرج إلى [570] بغداد بعسكره ودخل   [1] . فى الأصل ومط: محمد. [2] . فى مط: أوتار القسىّ. [3] . الكلمة مهملة فى الأصل ومط كليهما. [4] . اشتلموا: تطاير شرارهم من الغضب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 بجكم وأصحابه واسطا وأقاموا بها واعتقل الأهوازيين وطالبهم بخمسين ألف دينار. فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد: «أردت أن أسبر ما فى نفسه من طلب العراق فراسلته وقلت له: - «أيّها الأمير أنت مطالب بملك ومرشّح نفسك لخدمة الخلافة تعتقل قوما منكوبين قد سلبوا نعمهم وتطالبهم بمال فى بلد غربة وتأمر بتعذيبهم حتّى جعل فى أمسنا طشت فيه جمر على بطن سهل بن نظير الجهبذ. أولا تعلم أنّ هذا إذا سمع به أوحش منك وحاربك وعاداك من لا يعرفك ولا يسمع بخبرك فضلا عمّن تحقّق فعلك هذا؟ أو ما تذكر إنكارك على الأمير ابن رائق بالأمس إيحاشه أهل البصرة وعوامّ بغداد أضعافهم؟ وقد حملت نفسك فى أمرنا على مثل ما كان يعمله مرداويج بأهل الجبل. وهذه بغداد ودار الخلافة لا الرىّ وإصبهان ولا تحتمل هذه الأخلاق.» فلمّا سمع ذلك انحلّ وبعث فحلّ [1] القيود وأزال المطالبة. ثمّ شفّع ابن رائق وابن مقاتل والكوفىّ فى يحيى بن سعيد السوسي، فأطلقه واختصّه لعقله ولما تبيّنه من نفاقه على كلّ أحد وشفّع يحيى بن سعيد فى الباقين وكفّل بهم فأطلقهم. ولمّا عرف علىّ بن بويه حصول [571] طاهر الجيلي بالبصرة وفى نفسه عليه ما كان عامله به بأرجان، كتب إلى أخيه أبى الحسين أن يطالب أبا عبد الله البريدي به ويقبض عليه ففعل ذلك وأنفذ إلى فارس ولمّا انهزم الترجمان عبر أحمد بن بويه إلى غربىّ عسكر مكرم وجلس على شاطئ المسرقان ومعه أبو عبد الله البريدي حتّى عقد الجسر الأعلى بها وعبر بباقي رجاله من غد وعاد إليه جواسيسه من سوق الأهواز   [1] . وبعث فحلّ: فى الأصل طموس. وما أثبتناه هو من مط. فى مد: وأمر بحلّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 وعرّفوه أنّه لم يبق بها أحد. ونزل البريدي دارا على شاطئ نهر المسرقان ووافاه أهل الأهواز بأجمعهم مهنّئين وداعين وكان يحمّ الربع، وفيمن حضره يوحنّا الطبيب وكان متقدّما فى صناعته. فقال له أبو عبد الله البريدي: - «أما ترى يا أبا زكريا حالي؟» فقال له: - «خلّط- يعنى فى المأكول- لترمى بالأخلاط.» فقال له: - «أكثر بما خلّطت يا أبا زكريا، قد أرهجت ما بين فارس والحضرة فإن أقنعك ذلك وإلّا ملت إلى الجانب الآخر وأرهجت إلى خراسان.» ولمّا كان فى اليوم الخامس رحل أحمد بن بويه إلى الأهواز وخلّف بعسكر مكرم ثلاثة من القوّاد فأقام أبو عبد الله معه خمسة وثلاثين يوما ثمّ هرب منه فى الماء إلى الباسيان وأقام بها وكاتبه بعتب كثير وتصرّف [572] فى ضروب من القول إقامة لحجّة نفسه فيما استعمله ولم يكره المقام عنده لضيق المال فإنّه كان سلّم إلى أبى علىّ العارض ضمانات وخطوطا فصحّ [1] فى شهرين بخمسة آلاف ألف درهم وصحّ منها إلى يوم هربه صدر كثير. ذكر السبب فى هرب البريدي كان طولب بإحضار عسكره من البصرة على أن ينفذهم إلى إصبهان لمضامّة الأمير أبى علىّ الحسن بن بويه على حرب وشمكير فوافى بأربعة   [1] . فصحّ: كذا فى الأصل. وفى مط: يصحّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 آلاف رجل وقال للأمير أبى الحسن أحمد بن بويه: - «إن أقاموا بالأهواز وقعت فتنة عظيمة بينهم وبين الديلم. والرأى أن يخرجوا إلى السوس مع محمّد المعروف بالجمال، حاجبي وأسبّب بمالهم عليها وعلى جنديسابور حتّى يقبضوا وينفذوا على طريق البنيان [1] إلى إصبهان.» فأجابه إلى ذلك ثمّ طالبه أن يحضر رجال الماء إلى حصن مهدى حتّى يشاهدهم فإذا عاينهم سيّرهم فى الماء إلى واسط وسار أحمد بن بويه بالديلم على طريق السوس إليها فاستوحش البريدي من ذلك استيحاشا شديدا وظنّ أنّه إنّما يريد أن يفرّق بينه وبين عسكره وقال: - «هكذا عملت بياقوت فإنّى أخذت رجاله ثمّ أهلكته. فلو لم أتعلّم إلّا من نفسي لكفانى استبصارى والله المستعان.» [573] وكان الديلم أيضا يستخفّون به ويشتمونه إذا ركب ويزعجونه من فراشه وهو محموم وتلقّى منهم ما لم تجر عادته بمثله. وكانت الكرامة متوفّرة عليه من الأمير أبى الحسين ومن أبى علىّ العارض. فأمّا الباقون فكانوا يهينونه إهانة عظيمة. ولمّا أراد الهرب قدّم كتابه فى صبيحة الليلة التي خرج فيها وعرّف أبا جعفر الجمّال غلامه ما عزم عليه وأمره أن يسير إلى الباسيان ومنها إلى نهر تيرى ثمّ إلى الباذاورد والبصرة وتمّ ذلك على ما نظمه، وحصل جيشه بالبصرة موفورين. واتّصلت المراسلات بينه وبين أحمد بن بويه فى الإفراج عن قصبة الأهواز حتّى يردّها ويقوم بما عقده للأمير علىّ بن بويه على نفسه من ضمان الأهواز والبصرة وهي ثمانية عشر ألف ألف درهم لسنة   [1] . البنيان: ما فى الأصل مهمل تماما. والمثبت من مط ومد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 خراجية ولإشفاق الأمير أحمد بن بويه من إنكار أخيه علىّ بن بويه هرب البريدي استجاب إلى حكمه. وانتقل إلى عسكر مكرم وأقام بها فى ظاهر داراباذ [1] وكتب إلى البريدي كتابا أنّه قد أخلى الأهواز. فانتقل البريدي من الباسيان إلى بناتاذر وأنفذ إلى سوق الأهواز من يخلفه بها. وكتب إلى الأمير أنّ نفسه لا تسكن إلى أن تقيم فى بلد على ثمانية فراسخ منه. لأنّه لا يأمن [574] كبسه ليلا وسامه أن ينتقل إلى السوس فتبعد الدار بينهما. فترسّل فى ذلك القاضي أبو القاسم التنوخي وأبو علىّ العارض واستقرّت الحال على أن يحمل البريدي ثلاثين ألف دينار إليه لينهضه. فردّ غلامي هذين الرسولين مع غلام له بأربعة عشر ألف دينار وكتب بأنّه يوفيه تتمة الثلاثين الألف الدينار بالسوس فاجتمع دلّان وكان كاتب جيش الأمير أحمد بن بويه وأبو جعفر الصيمري وكان تابعا لدلّان وأبو الحسن المافرّوخى وكان يتولّى عسكر مكرم للأمير ويجزف ويأخذ المال من حيث لاح له، فقالوا للأمير أبى الحسين: - «قد سلك معك البريدي طرقه مع ياقوت وأخذ يبعدك إلى السوس ويضايقك حتّى يفلّ الرجال عنك ثمّ يأخذ المعابر إلى نفسه- وبين الأهواز وبين عسكر مكرم وتستر وبين السوس دجلة- ويحتال فى تحصيلك إن استوى له.» فاقشعرّ الأمير أبو الحسين من ذلك وامتنع أن يخرج من عسكر مكرم وقال: - «هي على سمت الطريق إلى فارس ولست أبعد عن الأمير الكبير هذا البعد حتّى يقطع بيني وبينه دجلة أوّلا ثمّ المسرقان.»   [1] . داراباذ: كذا فى الأصل ومط، إلّا أنّ الأخير مهمل فى مط. وفى مد: داراباز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 وعرف البريدي ذلك فمنع العارض والتنوخي من الرجوع [575] واستحكمت الوحشة. واتّصل ذلك ببجكم فأنفذ قائدا من قوّاده يقال له: بالبا، فى ألفى رجل من الأكراد والأعراب والحشر والإثبات والمولّدين إلى السوس وجنديسابور للغلبة عليها وكاتبا يعرف بالفيّاضى وأقام البريدي ببناتاذر غالبا على أسافل الأهواز وتغلّب المخلديّة على تستر وبقي الأمير أحمد بن بويه لا يملك من كور الأهواز إلّا عسكر مكرم قصبها دون ما سواها فإنّ أبا محمّد المهلّبى- وكان فى هذا الوقت وكيل أبى زكريّا السوسي- قطع المعابر وغلب على الحميديّة والمسكول [1] وقتل عاملا كان هناك بيد الأعراب والرجّالة الذين أثبتهم. فكانت الصورة فيما دهم أحمد بن بويه غليظة جدّا واضطرب رجاله وفارقوه بأجمعهم وعملوا على الرجوع إلى فارس فعاضده اسفهدوست وموسى فياذه حتّى تلافوهم وردّوهم وضمنوا لهم أن يرضوهم بعد شهر. وكتب أحمد ابن بويه إلى أخيه بالصورة فأنفذ قائدا من قوّاده كان ساربان حماله [2] عظيم المحلّ من أهل البأس والنجدة ثقة عنده يعرف ببلّ فى ثلاثمائة رجل من الديلم ومعه خمسمائة ألف [درهم] ووافى معه كوردفير لأنّ الأمير أبا الحسين استدعاه لأنّه كان وزيره بكرمان [576] فلمّا حصل عنده كوردفير استكتبه للوقت وخلع عليه وأبو علىّ العارض معتقل ببناتاذر فى يد البريدي واتّهمه بمطابقة البريدي على جميع ما عمله أوّلا وآخرا وكان الأمير مبغضا له وإنّما ضمّه إليه أخوه الأمير علىّ بن بويه لأنّه كان شاهده وزيرا لما كان الديلمي وكان كبيرا فى نفسه وكان بجكم مملوكا له فطلبه منه ما كان فأهداه إليه.   [1] . فى مط: الحمدية والشكوك. [2] . حماله: كذا فى الأصل ومط ومد (بإهمال الأوّل) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 وتقرّر الرأى أن ينفذ بلّ إلى السوس فى خمسمائة رجل ومعه أبو جعفر الصيمري عاملا عليها وينفذ موسى فياذه إلى بناتاذر فى ثلاثمائة رجل. فهرب بالبا لمّا سمع خبر بلّ وهرب البريدي إلى البصرة وسار موسى فياذه إلى حصن مهدى فملكها وكانت من أعمال البصرة وصارت الأسافل وراءه ودخل الأمير سوق الأهواز فنزل دار أبى عبد الله البريدي وانتظمت له الأمور وحصل البريدي بالبصرة واستقامت لهم واستقرّ بجكم بواسط ينازع الملك ببغداد وجمع ابن رائق أطرافه وأقام بها. ولمّا رأى الوزير أبو الفتح اضطراب الأمور بالحضرة وما تؤذن به أحوالها أطمع ابن رائق فى أن يحمل إليه الأموال من مصر والشام ويمدّه بها [577] وعرّفه أنّ ذلك لا يتمّ له مع بعده عنها وواقفه على الشخوص وعقد بينه وبينه صهرا بأن زوّج ابنه أبا القاسم بابنة ابن رائق وعقد بين ابن رائق وابن طغج صهرا وخرج مبادرا إلى الشام على طريق الفرات. وقلّد أبو بكر ابن رائق علىّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بكور الأهواز وواقفه [1] على النفوذ إلى عمله وأن يبتدئ بأبى الحسين بجكم ويلطف له حتّى ينفذ معه لمحاربة الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه ودفعه عن الأهواز وأن يواقفه [2] على أن يكون عدّته خمسة آلاف رجل على أن يكون ماله ومال رجاله- إن أقام بواسط ولم ينفذ إلى الأهواز- ثمانمائة ألف دينار فى السنة يأخذها من مال واسط وإن نفذ إلى الأهواز وفتحها، ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار فى السنة يأخذها من مال الأهواز. ولمّا وصل علىّ بن خلف إلى واسط ولقى بجكم، رأى بجكم أن يستكتبه ورأى علىّ بن خلف أن يكتب له. فخلع عليه وأقام عنده بواسط وأخذ جميع   [1] . كذا فى الأصل ومد: وواقفه. فى مط: وافقه. [2] . فى مط: أن يوافقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 مالها. وسفّر أبو جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد فى الصلح بين ابن رائق وبنى البريدي فتمّ ذلك وأخذ ابن رائق خطّ الراضي بالله للبريديين بالرضا عنهم [578] وقطعت لهم الخلعة على أن يقيموا الدعوة لابن رائق بالبصرة ويجتهدوا فى فتح الأهواز وضمنوا حمل ثلاثين ألف دينار وأطلقت ضياعهم وكتب عن الراضي فى هذا المعنى كتاب. وورد الخبر بمسير جيش البريدي إلى واسط. فخرج إليه بجكم وأوقع بناحية الدرمكان [1] به وهزمه فجلس ابن رائق ببغداد فى داره للتهنئة بذلك وأقام بجكم بموضعه مدّة ثمّ بالمدار مدّة ثمّ عاد إلى واسط. وكانت نيّة بجكم إذلال البريديين وقطعهم عن ابن رائق ونفسه متعلّقة بالحضرة فأنفذ ثانى يوم الهزيمة علىّ بن يعقوب كاتب الترجمان المتولّى للعرض عليه إلى البريدي يعتذر إليه ممّا جرى ويقول: - «أنت بدأت بمراسلة ابن رائق وتعرّضت لى وهذه كرّتك الثانية فإنّك حملت الديلم إلى الأهواز وأعقبت ذلك بمراسلة ابن رائق وبذلت له مضافرته علىّ وقد عفوت وأنا أعاهدك وأعاهدك على أن أقلّدك واسطا إذا ملكت الحضرة.» وجرى فى أثناء ذلك قول فى المصاهرة. قال علىّ بن يعقوب: - «فرأيت أبا عبد الله البريدي وقد سجد شكرا لله تعالى لبجكم على ما ابتدأه به ثمّ استجاب لكلّ ما أراده منه ولما سمته إيّاه.» [579] وأحضر القاضيين أبا القاسم التنوخي وأبا القاسم ابن عبد الواحد وحلف بحضرتهما وأشهد على نفسه فى خطّ كتبه بالوفاء بجميع ما عقدته معه وبرّنى بثلاثة آلاف دينار وقال لى:   [1] . الدرمكان: كذا فى الأصل. وفى مط: الردمكان، ولعله «الرومكان» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 - «سأحمل إليه وألاطفه حتّى يعلم أنّى أصلح لخدمته.» وعدت إلى بجكم وخبّرته بما جرى فقال لى: - «يا أبا القاسم كلوتته على رأسه.» فقلت: «أيّها الأمير ما معنى هذا وكيف سألتنى عنها؟» فقال لى: - «إنّى كنت رأيتها فعرّفنى.» قلت: «نعم قد رأيتها.» فقال: «يا أبا القاسم هي على رأس شيطان لا على رأس بشر.» فقلت: «أيّها الأمير أنت ما رأيته فكيف قلت هذا؟» قال: «بلى رأيته يوم وقعتنا بأرجان وقد تعمّم على كلوتته وعزمت على أن أفوّت [1] إليه سهما ففطن لما أردته وإنّما لمح طرفي من بعيد فنزع العمامة. والكلوتة وجعلها على رأس غيره وتنحّى هو وأقامه مقامه.» فقلت: «ذلك المسكين بلا ذنب وأفلت هو لعنه الله فإنّه كاذب فى جميع ما قاله وحلف عليه ولكن نقبل ذلك منه لحاجتنا إلى قبوله.» وانصرف بجكم إلى واسط وأخذ فى التدبير على ابن رائق. وفى هذه السنة قطعت يد أبى علىّ ابن مقلة ثمّ لسانه ذكر السبب فى ذلك [580] كان ابن رائق لمّا صار إليه تدبير المملكة قبض ضياع أبى علىّ ابن مقلة وابنه. فلمّا صار إلى الحضرة لقيه أبو علىّ ابن مقلة ولقى أبا عبد الله الحسين ابن علىّ النوبختي ثمّ بعده أبا عبد الله الكوفي وأبا بكر ابن مقاتل فاستحيوا   [1] . فى مط: أفوقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 منه وتذلّل للجماعة وسأل ردّ الضيعة المقبوضة عليه فوعده بذلك ومطل مطلا ومتّصلا. فلمّا رأى أبو علىّ المطل متّصلا وللوفاء لا يصحّ، أخذ فى السعى على ابن رائق من كلّ جهة. فكتب إلى بجكم يطمعه فى الحضرة وفى موضع ابن رائق وكتب بمثل ذلك إلى وشمكير بالرىّ وكتب إلى الراضي بالله يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأسبابه ويضمن أنّه متى فعل ذلك استخرج له ثلاثة آلاف ألف دينار ويصحّحها وأشار باستدعاء بجكم ونصبه مكان ابن رائق فإنّه أكثر طاعة وكانت مكاتبته للراضى على يد علىّ بن هارون ابن المنجّم النديم فأطمعه الراضي فى ذلك فكتب ابن مقلة إلى بجكم يعرّفه أنّ الراضي قد استجاب إلى أمره وأنّ الأمر تامّ ويستحثّه على التعجّل. فلمّا توثّق ابن مقلة عند نفسه من الراضي واقفه على أن ينحدر إليه سرّا ويقيم عنده إلى أن يتمّ التدبير على ابن رائق. فركب من داره فى سوق العطش فى [581] سميريّة وعليه طيلسان وخفّ وصار إلى الأزج بباب البستان وركب السميريّة ليلة الإثنين لليلة تبقى من شهر رمضان وإنّما تعمّد تلك الليلة لأنّ القمر تحت الشعاع وهو يختار للأمور المستورة. فلمّا وصل إلى دار السلطان لم يوصله الراضي إليه واعتقله فى حجرة ووجّه من غد بابن سنجلا إلى ابن رائق وأخبره بما جرى وأنّه احتال على ابن مقلة حتّى حصله عنده وما زال المراسلات تتردّد بين الراضي وبين أبى بكر ابن رائق. فلمّا كان يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شوّال أظهر الراضي بالله أمر ابن مقلة وأخرجه وحضر فاتك حاجب ابن رائق وجماعة من القوّاد فقطعت يده اليمنى وردّ إلى محبسه وانصرف فاتك إلى ابن رائق فأخبره بما شاهد من قطع يد ابن مقلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 قال ثابت: فلمّا كان فى آخر هذا اليوم استدعاني الراضي وأمرنى بالدخول إليه وعلاجه. فصرت إليه فوجدته فى حجرة مقفلة عليه ففتح الخادم الباب فدخلت فرأيته بحال صعبة فدمعت عينه حين رآني ووجدت ساعده قد ورم ورما عظيما وعلى موضع القطع خرقة غليظة كردوانى كحلية [1] مشدودة بخيط قنب. فحللت [582] الشدّ ونحيت الخرقة فوجدت تحتها على موضع القطع سرجين الدوابّ فنفضته عنه وإذا رأس الساعد أسفل القطع مشدود بخيط قنب قد غاص فى ذراعه لشدّة الورم وابتدأ ساعده يسودّ. فعرّفته أنّ سبيل الخيط أن يحلّ ويجعل موضع السرجين كافور ويطلى ذراعه بالصندل وماء الورد [2] والكافور قال: - «فافعل.» فقال الخادم الذي دخل معه: - «حتّى استأذن مولانا.» ومضى يستأذن ثمّ خرج ومعه مخزنة كافور وقال لى: - «قد أذن مولانا أن تعمل ما ترى وأن ترفق به وتقدّم العناية به وتلزمه إلى أن يهب الله عافيته.» فحللت الخيط وفرّغت المخزنة فى موضع القطع وطليت ساعده فعاش واستراح وسكن الضربان ولم أفارقه حتّى اغتدى بشيء يسير من فروّج ثمّ حلف أنّه ليس يسوغ له شيء آخر وشرب ماء باردا فرجعت إليه نفسه وانصرفت. ثمّ تردّدت إليه أيّاما كثيرة إلى أن عوفي. وكنت إذا دخلت إليه يسألنى عن خبر ابنه أبى الحسين فأعرّفه استتاره وسلامته فتطيب نفسه ثمّ ينوح   [1] . كحيلة: كذا فى الأصل ومد. وفى مط. كحيلة. [2] . وفى مط: الماورد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 ويبكى على يده ويقول: - «قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء وكتبت بها القرآن [583] دفعتين تقطع كما تقطع أيدى اللصوص أتذكر وأنت تقول لى: أنت فى آخر نكبة وإنّ الفرج قريب؟» فقلت: «بلى والآن ينبغي أن تتوقّع الفرج فإنّه قد عمل بك ما لم يعمل بنظير لك وهذا انتهاء المكروه وما بعد الانتهاء إلّا الانحطاط.» فقال: «لا تفعل، فإنّ المحنة قد يتشبّث بى كما تشبّثت [1] حمّى الدّقّ بالأعضاء فلا تفارقني حتّى تؤدّينى إلى الموت.» ثمّ تمثّل بهذا البيت: - «إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فبعض الشيء من بعض قريب» فكان الأمر على ما قال. ومن عجائبه أنّه كان يراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده ويطمعه فى المال ويشير بأن يستوزره ويقول: - «إنّ قطع يده ليس ممّا يمنع من استيزاره لأنّه يمكنه أن يحتال ويكتب.» وكانت تخرج له رقاع بعد قطع يده وقبل التضييق عليه. فيقال: إنّه كان يشدّ القلم على ساعده الأيمن ويكتب به. ولمّا قرب بجكم من بغداد نقل من ذلك الموضع إلى موضع أغمض منه. فلم يوقف له على خبر ومنعت من الدخول إليه.   [1] . وفى مط: قد نشبت بى كما نشبت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 ثمّ قطع لسانه وبقي مدّة طويلة فى الحبس. ثمّ لحقه [584] ذرب ولم يكن له من يعالجه ولا من يخدمه حتّى بلغني أنّه كان يستسقى الماء لنفسه من البئر بيده اليسرى وفمه. ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن فى دار السلطان ثمّ سأل بعد مدّة أهله فنبش وسلّم إليهم. وفى هذه السنة دخل بجكم العراق أعنى بغداد ولقى الخليفة وقلّده أمرة الأمراء مكان محمّد ابن رائق ذكر الخبر عن ذلك ابتدأ بجكم بالمسير من واسط إلى الحضرة مراغما لابن رائق فأزال اسمه ومحى أعلامه وتراسه وترك الانتساب إليه وذاك أنّه كان يكتب عليها: - «بجكم الرائقى.» وأخذ ابن رائق يستعدّ للقائه وقتاله وعمل على أن يتحصّن فى دار السلطان. ثمّ رأى أن يبرز إلى ديالى وفتح من النهروان إليه بثقا ليكثر ماؤه فلا يخيض [1] وقطع الجسر عليه ليصير خندقا. وطالب ابن رائق الراضي أن يكتب إلى بجكم كتابا يأمره فيه بالرجوع إلى واسط. فكتب وسلّم إلى ابن رائق فأنفذه مع ابن سرخاب إليه أحد خلفاء الحجّاب. فقرأه ولم يلتفت إليه. وسار إلى بغداد ووافى بجكم وجيشه إلى نهر ديالى وعبر بعض أصحابه سباحة. فانهزم ابن رائق وصار إلى عكبرا وتقطع أصحابه واستتر أبو عبد الله أحمد بن علىّ الكوفي وأبو بكر بن مقاتل [585] ودخل بجكم يوم الإثنين لاثنى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة. ووصل إلى الراضي بالله فأكرمه ورفع منه وخلع عليه وسار بالخلع إلى   [1] . فلا يخيض: كذا فى الأصل ومد. وفى مط: فلا يخلص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 مضربه بديالى فأقام فيه يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء وأنفذ سرّية فى طلب ابن رائق وكاتب الجيش الذي معه عن الراضي بالتخلية عنه والوصول إلى حضرة السلطان فانفضّ الجيش عنه ورجع ابن رائق إلى بغداد سرّا واستتر بها. فلمّا كان يوم الخميس للنصف من ذى القعدة خلع الراضي على بجكم خلعة ثانية وانصرف إلى دار مونس بسوق الثلاثاء وهي التي كان ينزلها ابن رائق. فلمّا كان يوم الخميس لثمان بقين من ذى القعدة خلع الراضي على بجكم خلعة ثلاثة وعقد له لواء وجعله أمير الأمراء فكان مدّة إمارة ابن رائق سنة واحدة وعشرة أشهر وكسر. ولمّا كان يوم الجمعة لسبع بقين من ذى القعدة أنفذ الراضي إلى بجكم خلع منادمة وكنّاه وأنفذ إليه مع الخلع شرابا وطيبا وتحيّات وتمّت له الرئاسة. تمّت المجلّدة الخامسة من كتاب تجارب الأمم ويتلوها فى المجلّدة السادسة حكاية عن بجكم تدلّ على دهاء ونكر والحمد لله وصلّى الله على محمّد النبي وآله الطيبين الطاهرين أجمعين. فرغ من انتساخه محمّد بن علىّ أبو طاهر البلخي فى المحرّم سنة ستّ وخمسمائة [1] .   [1] . والتاريخ فى مد: 605 بدل 506 وهو خطأ. هذا وفى مصوّرتنا عبارات فراغ لكاتبين آخرين انمحى أكثر كلماتها وعدمت معناها فلم نثبتها. وهنا ملاحظة أخرى، وهي أنّ فى نشرة «مد» (أيمدروز) ألحقت ثمان وعشرون صفحة من صفحات الجزء السادس من مخطوطة أيا صوفيا، بالجزء الخامس هذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 [ المجلد السادس ] [ تتمة العصر العباسي ] [ تتمة خلافة الراضي بالله ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العدل حكاية عن بجكم تدلّ على دهاء وفكر حكى أبو زكريّا يحيى بن سعيد السوسي قال: لمّا ترسّلت بين بجكم وبين ابن رائق أشرت على بجكم بأن لا يكاشف ابن رائق فسألنى عن السبب الذي من أجله أشرت عليه بذلك فقلت: - «لأنّ بغداد فى يده والخليفة معه والرئاسة ولأنّ الجيش معه كثير والأعمال والأموال فى يده والمال فى يدك قليل وعدّة من معك يسير.» فقال لى: - «أمّا كثرة رجاله فهم جوز فارغ قد خبرتهم وعرفتهم [1] وما أبالى كثروا أم قلّوا وكون الخليفة معه لا يضرّنى عند أصحابى. فأمّا ما توهّمته من قلّة المال معى فليس الأمر فيه كما ظننته وقد وفيت أصحابى استحقاقاتهم وما لأحد علىّ منهم مطالبة وفى صناديقى معى مال يستظهر به، فكم تظنّ مبلغه؟» قلت: «لا أدرى.» فقال: «على كلّ حال.»   [1] . خبرتهم وعرفتهم: كذا فى مط. وفى الأصل غموض. والمثبت فى مد: خرقتهم وسرفتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 فقلت: «مائة ألف درهم.» فقال: «غفر الله لك معى خمسون ألف دينار لا أحتاج إليها.» قال: فقلت له: - «أنت أعلم وما تختار.» قال: فلمّا هرب ابن رائق وملك بجكم قال لى يوما: - «أتذكر وقد قلت لك إنّ المال معى كثير وظننت أنّه [3] مائة ألف درهم فعرّفتك أنّه خمسون ألف دينار؟» فقلت: «نعم.» قال: «أفتدري كم كان بالحقيقة معى؟» قلت: «لا.» قال: «خمسين ألف درهم.» قلت: «هذا يدلّ على أنك لم تثق بى ولم تصدقني.» قال: «لا ولكنّك صاحبي ورسولي فكرهت أن تعلم صحته فى القلّة فيضعف قلبك وإذا ضعف قلبك ضعف كلامك فيطمع ذلك فىّ خصمي وأردت أن تمضى إليه بقلب قوىّ فتخاطبه بما ينخب قلبه ويضعف نفسه.» وفى هذه السنة تغلّب اللشكرى [1] بن مردى على أذربيجان وهذا غير اللشكرى الذي تقدّم خبره، وكان أوجه من ذاك وأكبر مرتبة وكان من أصحاب وشمكير وخليفته على أعمال الجبل. فجمع مالا كثيرا ورجلا وخلّف صاحبه وسار إلى أذربيجان ليستولى عليها. وكان بها يومئذ ديسم بن إبراهيم فجمع ديسم عسكرا كثيرا من الأكراد وأصناف أخر وأحرز سواده فى بعض الجهات وأقبل إلى اللشكرى فواقعه دفعتين فى مدّة شهرين وانهزم   [1] . اللشكرى: كذا فى الأصل ومد. وما فى مط: الشبكرى (هنا وفى المواضع الآتية) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 ديسم فيهما جميعا. واستولى اللشكرى على بلاده إلّا أردبيل فإنّ أهلها أجلاد ولهم بأس شديد وهم حملة سلاح ومدينتهم محصّنة بسور وهي قصبة أذربيجان ودار المملكة. فراسلهم [4] اللشكرى ورفق بهم ووعدهم الإحسان فأبوا عليه لما كان عندهم من أخبار الجيل ومعاملتهم أهل همذان وغيرها بأنواع الألم. فحاصرهم اللشكرى وطالت الحرب بينه وبينهم إلى أن تمكّن طائفة من أصحابه يوما من السور فصعدوه ونقبوا أيضا عدّة نقوب فيه وفتحوا الباب وتمكّنوا من الدخول وأدركهم الليل. ذكر إضاعة حزم من اللشكرى بعد هذه الحال حتّى هرب وقتل أكثر أصحابه إنّ اللشكرى لمّا تمكّن من أردبيل سكنت نفسه إلى الظفر وأشفق أن ينتهب البلد وتذهب الأموال عن يده وعن أيدى أصحابها. فرأى أن ينصرف إلى معسكره وكان على ميل من البلد فيبيت ثمّ يصبح فيدخل المدينة نهارا. فلمّا فعل ذلك بادر أهل المدينة إلى سدّ تلك الثلم وإحكامها وأغلقوا الأبواب وعاودوا الحرب، فتحيّر اللشكرى وعلم أنّه فرط حين لم يدخل المدينة ليلا أو يوكّل بالثلم من يحفظها. وأقبل قوّاده عليه يلومونه ويستعجزونه فلم يكن عنده إلّا الاعتراف بالخطإ. وبادر أهل المدينة برسلهم إلى ديسم يعرّفونه الصورة ويشيرون عليه بالمبادرة فى يوم يعيّنه حتّى يخرجوا لمحاربته ويكبّ [1] [5] ديسم من ورائه فتمّت لهم الحيلة وأقبل ديسم فى ذلك اليوم بجموع كثيرة من الصعاليك   [1] . فى مط: بكت، بدل «يكبّ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 والأكراد وخرج أهل المدينة بزىّ الديلم معهم التراس والزوبينات وهم نحو عشرة آلاف رجل فصافّهم الحرب وخرج ديسم من ورائه فحمل عليهم فانهزم أقبح هزيمة وقتل أصحابه مقتلة عظيمة وذهب نحو موقان محروبا مسلوبا ليس معه كراع ولا سلاح. فخرج إليه اصفهبذ موقان ويعرف بابن داولة [1] متلقيا فأضافه مع قوّاده فشكره اللشكرى وسأله أن يقيم بضيافة أصحابه إلى أن يمضى هو إلى بلده- وكانت بينه وبينها مسيرة أربعة أيّام- فيستخرج ذخائره ويخرج معه ابنه وأخاه ويجمع الرجال فأجابه ابن داولة [2] . ومضى اللشكرى مخفا وعاد سريعا ومعه ابنه وابن أخيه وألف رجل من أحداث الجيل مستظهرين بالسلاح والآلات، وعطف على أذربيجان طالبا ديسم وساعده ابن دلوله الاصفهبذ فى أصحابه. فهرب ديسم وعبر نهرا يقال له: الرس وماؤه شديد الجرية وأخذ المعابر إلى الجانب الذي حصل فيه. ونازله اللشكرى مقيما بازائه مدّة لا يصل إليه فاجتمع إليه ابنه وابن أخيه وأحداث [6] الجيل وجميعهم سبّاح لأنّ بلادهم على شاطئ البحر وأعلموه أنّهم تتبّعوا هذا النهر من أعلاه إلى أسفله فوجدوه على ثلاثة فراسخ من معسكرهم موضعا منه ساكن الجرية واستأذنوه فى المخاطرة والعبور فأذن لهم. فصاروا إلى الموضع ليلا ومعهم جماعة من البوقيّين بتراسهم وأسلحتهم وزحفوا إلى عسكر ديسم وضربوا بالبوقات وقتلوا نفرا فانهزم ديسم واستولى الجيل على أموالهم وسوادهم واستغنوا بما حصل لهم وتمّ الظفر للشكرى. وقصد ديسم وشمكير وهو بالرىّ فأعلمه ما جرى عليه من اللشكرى   [1] . كذا فى الأصل ومط: ابن داولة. [2] . فى مط: دواله (خلافا للموضع السابق) . وفى مد: ابن دلوله (فى كلا الموضعين) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 وأنّه قد تمكّن من أذربيجان وطابقه [1] ابن دلوله اصفهبذ موقان وأنّ بلاد الجيل قريبة منه والاستمداد سهل عليه وأنّه لا يلبث أن يقصد الرىّ وينازعه إيّاها ويلتمس منه عسكرا من الجيل والديلم ليكون بإزاء اللشكرى وأصحابه، وواقفه [2] أن يجمع إليه من الأكراد وغيرهم عشرة آلاف رجل فرسانا وأن يقوم بنفقة العسكر يوم دخوله الخونج [3] وهو أوّل حدود أذربيجان من ناحية الرىّ وأن يقيم الخطبة على منابر أذربيجان [7] كلّها ويحمل إليه فى كلّ سنة مائة ألف دينار خالصة ويردّ إليه العسكر الذي يجرّد معه بعد فراغه من أمر اللشكرى. فلمّا سمع وشمكير ذلك أهمّه هذا الخطب واستجاب ديسم إلى كلّ ما يلتمسه وأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه العهد والميثاق بالوفاء وابتدأ بتجريد العسكر. فإلى أن يتكامل ذلك ورد الخبر بوفاة ابن داولة الاصفهبذ وخلق كثير من أصحابه بعلّة الجدري وأقام بقية أصحابه مع اللشكرى فأنفذ اللشكرى بقائد كبير من أصحابه يقال له: بلسوار بن ملك بن مسافر وهو ابن أخى محمّد بن مسافر اللشكرى إلى نواحي الميانج [4]- وهي تجرى مجرى الثغر- بينه وبين وشمكير وأمره أن يحفظ الطرق ويتتبّع المجتازين ويفتشهم ويقرأ كتبهم تحرّزا واستظهارا. فلم يلبث بلسوار أن ظفر بفيج معه كتب من قوّاد عسكر اللشكرى إلى وشمكير بالاعتذار إليه من دخولهم فى طاعة اللشكرى وإنّهم   [1] . طابقه: وافقه. [2] . واقفه فى الحرب، والخصومة: وقف معه. [3] . الخونج: جاء فى المراصد فى شرح «خونا» : « ... وهي فى اللفظ والكتابة خونج: بليدة من أعمال آذربيجان بين مراغة وزنجان فى طريق الرىّ، آخر ولاية آذربيجان، تسمّى الآن: كاغذكنان، يعنى: صانع الكاغذ [والصحيح صانعو الكاغد] وهي بليدة صغيرة» . [4] . فى الأصل: المناهج (بالإهمال الكامل) . وفى مط: اللواهج. وكلاهما تصحيف «الميانج» . على ما فى مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 إنّما دخلوا معه وعندهم أنّه على طاعتهم وأنهم إن رأوا راية من راياته قد أقبلت إليهم انحازوا إليها وصاروا بأجمعهم عليه. فلمّا وقف اللشكرى على هذه الكتب طواها وستر خبرها. وورد عليه [8] انفصال ديسم عن الرىّ فى عسكر وشمكير مع حاجبه الشابشتى [1] فركب إلى الصحراء وجمع قوّاده وعرّفهم إقبال العسكر إليه وأنه يتخوّف أن يشتغل بحرب الجيل والديلم فيأتيه ديسم من ورائه ويجرى الأمر كما جرى فى وقعة أردبيل وأنّه قد عزم أن يرحل بهم إلى بلاد الأرمن فيغزوهم ويستبيح أموالهم ويبعد عنهم إلى الموصل وديار ربيعة فإنها بلاد كثيرة الغلّات والأموال واسعة والرجال بها قليل. فساعدوه على ذلك ورحل بهم إلى أرمينية وأهلها غارّون. فنهبهم واستباح أموالهم ومواشيهم وسبى خلقا كثيرا وانتهى إلى زوزان وفى يده وأيدى قوّاده من المواشي التي غنموها شيء كثير لا ينضبط ولا يعرفون مبلغها وقد وكّلوا بها الرعاة فكانوا يخرجونها إلى مسارحها بكرة ويردّونها عشية إلى معسكرهم. وكان بالقرب من زوزان قلعة للأرمن فيها عظيم من عظمائهم يقال له: أطوم بن جرجين وهو قريب لابن الديراني ملك الأرمن. فسأل اللشكرى بمراسلة لطيفة أن يكفّ عن الأرمن فإنّهم معاهدون يؤدون الأتاوة وأطمعه فى مال يحمل إليه صلحا فأجابه إلى ما طلبه. ذكر حيلة تمّت لهذا الأرمنى على اللشكرى حتّى قتله ومعظم أصحابه كان هذا الأرمنىّ عرف سرعة ركاب اللشكرى وخفّته وأنه يقدم بلا روية   [1] . الشابشتى: كذا فى الأصل. وفى مط: السابستى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 ويتسرع بلا تدبير. فكمن كمينا على جبلين بالقرب من موضعه الذي كان معسكرا فيه بينهما مسلك مضيق، ثمّ دسّ إلى المواشي التي معه جماعة من الأرمن حتّى قتلوا رعاءها واستاقوها فى ذلك المضيق وهرب بعض الرعاء إلى اللشكرى مجروحا فصادفه خارجا من الحمّام فى سوق زوزان فأخبره الخبر، فسار لوقته وأخذ ذلك الراعي بين يديه ليدلّه على الطريق وليس معه إلّا ستّة نفر من غلمانه أخذهم فتح اللشكرى- وهو أحد قوّاد السلطان بمدينة السلام وقد شاهدته- وكان موصوفا بالبسالة والشجاعة وراسل باقى أصحابه فى العسكر أن يلحقوه. ذكر اتفاق حسن اتّفق لفتح هذا الغلام حتّى سلم وحده من القتل اتّفق أن غمزت دابّة كاتبه لما قضاه الله من سلامته فنزل لينظر ويصلح حافرها فسبقه اللشكرى ولم يعرج عليه ومضى مع الخمسة النفر الذين بقوا معه، فوصل إلى المضيق قبل أن يلحقه أصحابه الذين استدعاهم من المعسكر وولج الموضع فلمّا توسّطه ثار إليه الكمناء فقتلوه والغلمان الذين معه وأخذوا رؤوسهم وأسلابهم [1] وتركوا جثثهم ومضوا. ثمّ وصل العسكر [10] إلى الفتح هذا الغلام وتبعوا اللشكرى، فلمّا رأوا جماعتهم عرفوهم فانصرفوا معتزلين واجتمع أهل عسكره فعقدوا الرئاسة لابنه لشكرستان وتقرر الرأى بينهم ليحرزوا سوادهم وأثقالهم وغنائمهم من ورائها ويرجعوا إلى بلد أطوم بن جرجين فيدركوا ثأرهم منه ويأتوا عليه قتلا ونهبا.   [1] . كذا فى الأصل ومط: أسلابهم. والمثبت فى مد: أشلاءهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 ذكر حيلة تمّت عليهم ثانية حتّى قتلوا بأجمعهم إلّا نفر يسير جدا وذلك لقلّة احتراسهم من المضائق وجهلهم المسالك واغترارهم بالشدّة كان أطوم بن جرجين بثّ جواسيسه ليعرف [1] أخبارهم واطّلع على هذه العزيمة منهم فسبقهم بأن رتب على رؤوس الجبال فى طريقهم جموعا من الأرمن يرمونهم بالحجارة وكان طريقهم من هذه الجبال على موضع عرضه نحو خمسة أذرع وعلى يسرته الجبل وعن يمينه نهر عظيم جار والمهوى إليه أكثر من مائة ذراع. ووقف الأرمن متمكّنين على هذا الموضع وسار أطوم بنفسه من قلعته فى نفر فكمن على طريق المضيق حتّى ان أفلت انسان منهم أوقع به. فلمّا انتهى الجيل والديلم إلى ذلك المضيق أرسلوا عليهم الحجارة فكانت الصخرة تأتى فتصدم الراكب والمركوب والرجّالة والبهائم والجمال فلا يمتنع منها شيء ويسقطون إلى النهر ويتلفون. فترجّل قوم [11] من الفرسان ودخلوا من قوائم الدوابّ فربّما سلم الواحد بعد الواحد. فهلك فى ذلك الموضع أكثر من خمسة آلاف رجل وسلم جماعة لشكرستان فيمن سلم ومضى بمن معه إلى ناصر الدولة وهو بالموصل لائذين [2] به فنزلهم بشيء من الأرزاق يسير فاختار بعضهم أن يقبض نفقة وينصرف عنه واختار بعضهم أن يقيم مع لشكرستان فأمّا الذين قبضوا النفقات فأخذوا جوازات وانحدروا إلى واسط لاحقين ببجكم. وأمّا الباقون فإنّهم كانوا خمسمائة رجل فجرّدهم   [1] . كذا فى مط، وانمحى الاوّل والثاني فى الأصل. والمثبت فى مد: لعرف. [2] . لائذين: فى الأصل ومط: لا يدين. وفى مد: لا يذين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 ناصر الدولة مع ابن عمّه أبى عبد الله الحسين بن حمدان من أذربيجان لمّا أقبل إليها ديسم الكردي. وكان ديسم هذا من قوّاد ابن أبى الساج وكان أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان مقلّدا من قبل بن عمّه أبى محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة أعمال المعاون بأذربيجان. وفيها اختصّ قاضى القضاة أبو الحسين عمر بن محمّد بالراضى بالله حتّى حلّ محلّ الوزراء وصار الراضي يشاوره فى الأمور ويدخله فى التدبير ويصل إليه مع عبد الله بن علىّ النفرى خليفة الوزير الفضل بن جعفر ولا ينفذ أمرا إلّا بعد مشورته. وفيها قصد الراضي بالله وبجكم معه ديار ربيعة والموصل ذكر السبب فى ذلك [12] كان السبب فى ذلك انّ ناصر الدولة أخرّ ما اجتمع عليه من مال الحمل الذي كان فى ضمانه للموصل وأخرّ مال الضياع التي فى عمله بخدمة الراضي بالله فكان الراضي مغيظا عليه، فاجتمع رأيه مع بجكم على قصده. ودخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة فلمّا كان يوم الثلاثاء لثلاث خلون من المحرّم خرجا وأقام الراضي بتكريت ونفذ بجكم إلى الموصل فى الجانب الشرقي من دجلة. فتلقّته زواريق أنفذها ناصر الدولة فيها دقيق وشعير وحيوان هدية إلى الراضي. فأخذها بجكم وفرّق ما فيها على حاشيته وأصحابه وفرّغها وعبر فيها إلى الجانب الغربي وسار حتّى لقى ناصر الدولة بالكحيل وجرت بينهما وقعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 وانهزم فيها أصحاب بجكم. ثمّ حمل بجكم بنفسه على ناصر الدولة حملة حقّق فيها فانهزم وتبعه بجكم ولم ينزل الموصل إلى أن بلغ نصيبين. ومضى ابن حمدان على وجهه إلى آمد وأقام بجكم بنصيبين وكتب إلى الراضي بالله بالفتح. فلمّا ورد كتابه بالفتح على الراضي بالله سار من تكريت يريد الموصل وكان مسيره فى الماء. وكان قبل ورود كتاب بجكم بالفتح قد لحق القرامطة الذين مع الراضي بتكريت مضايقة فى أرزاقهم فانصرفوا مغضبين إلى بغداد. فلمّا وصلوا إليها ظهر ابن رائق من استتاره ببغداد وانضمّوا إليه. ويقال: إنّ انصرافهم من تكريت كان بمراسلة [13] منه إليهم ومكاتبة فى اجتذابهم. وورد الخبر بذلك مع طائر إلى تكريت فخاف الراضي أن يسرى إليه ابن رائق والقرامطة فيأخذونه فخرج من الماء مبادرا وركب الظهر وسار إلى الموصل ودخلها ومعه علىّ بن خلف بن طناب كاتبه وهو قلق من ابن رائق. ولمّا بلغ الحسن ابن عبد الله بن حمدان انصراف بجكم من نصيبين سار من آمد إليها. فانصرف عنها وعن أعمال ديار ربيعة من كان خلفه بجكم فيها من قوّاده وصاروا إلى الموصل وحصلت ديار ربيعة فى يد ابن حمدان فزاد ذلك فى قلق بجكم. وأخذ أصحاب بجكم يتسلّلون ويخرجون من الموصل إلى بغداد حتى احتاج بجكم إلى أن يسدّ أبواب دروب الموصل ويحفظ أصحابه وزاد ذلك فى اضطراب بجكم إلى أن قال: - «حصلنا على أن يكون فى يد الخليفة وأمير الأمراء قصبة الموصل فقط.» وأنفذ بن حمدان- قبل أن يتصل به خبر ابن رائق وظهوره ببغداد- أبا أحمد الطالقاني الذي كان أسره إلى بجكم يلتمس الصلح ويبذل أن يقدّم خمسمائة ألف درهم معجلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 فلمّا ورد الرسول وأدّى الرسالة فرّج عن بجكم وفرّج بأن ابتدأه بنو حمدان بمسألة الصلح وكان فكر فى تسليم الموصل [14] إليه والانحدار لدفع ابن رائق. فبادر وركب من وقته إلى الراضي وعرّفه ما ورد به الطالقاني واستأذنه فى إمضاء الصلح. فامتنع الراضي لشدّة غيظه على ابن حمدان. فعرّفه أنّ الصواب فى اجابته إليه والمبادرة إلى بغداد التي خرجت عن يده وهي دار الملك فأذن له فى المصالحة. فردّ من يومه الطالقاني بالصلح وأنفذ معه الخلع واللواء والقاضي أبا الحسين ابن أبى الشوارب ليستحلف ابن حمدان ورجع مع مال التعجيل. وبعد نفوذ الطالقاني جاء جعفر بن ورقاء وتكينك من عند بجكم إلى الموصل ثمّ تبعهما محمّد بن ينال الترجمان فى مرقعة [1] منهزمين من يد ابن رائق ووصفوا أنّه لمّا ظهر من استتاره ببغداد انضمّ إليه ثلاثمائة رجل من القرامطة فلقيه بديع غلام جعفر بن ورقاء وانهزم بديع وخرج إلى ابن رائق وهو بالمصلّى جماعة من الجند والحجريّة [2] وخلق من العامّة وقالوا: - «نحن نقاتل بين يديك.» فأعطاهم خمسة دراهم [3] وثلاثة دراهم. وكان جعفر بن ورقاء وأحمد بن خاقان وابن بدر الشرابي فى دار السلطان وما يليها فراسلهم ابن رائق وسألهم الإفراج له ليمضى إلى داره التي هي دار مونس. فأنزلها بجكم فمنعوه من ذلك فقاتلهم وانهزموا وقتل ابن بدر، واستأمن إلى ابن رائق جماعة من الرجال، فوعدهم [15] بالعطاء وأعطاهم خواتيم طين تذكرة بالمواعيد، وصار إلى دار السلطان [ولم يدخلها   [1] . فى مط: مربعة. [2] . كذا فى الأصل ومط ومد: الحجريّة. [3] . فى الأصل: خمسة درهم وثلاثة درهم (بالإفراد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 صيانة] [1] لمن فيها وراسل والدة الراضي بالله وحرمه برسالة جميلة وصار إلى دار مونس التي كان ينزلها بجكم فقاتله تكينك عنها وانهزم تكينك وملك ابن رائق الدار. ثمّ أقبل محمّد بن ينال الترجمان من واسط فى أربعة آلاف من الأتراك والديلم وغيرهم ليدفع ابن رائق عن بغداد فتلقّاه ابن رائق بالنهروان وجرت بينهم حرب شديد وانهزم الترجمان وصار فى مرقّعة [2] إلى الموصل. وأقبل ابن رائق يثير ودائع بجكم وأمواله وأنفذ أبا جعفر ابن شيرزاد إلى بجكم بجواب الصلح منه فتقدّم إليه بجكم المقام وأنفذ بجواب الرسالة قاضى القضاة أبا الحسين عمر على أن يقلّد طريق الفرات وديار مضر وجند قنّسرين والعواصم وينفذ إليها. ورجع الطالقاني وابن أبى الشوارب القاضي من عند ابن حمدان بتمام الصلح وبعض المال فانحدر الراضي وبجكم من الموصل ولمّا صار قاضى القضاة إلى ابن رائق لقيه وقرّر أمره على تقلّد الأعمال التي تقدّم ذكرها فخرج ابن رائق من بغداد متوجّها إلى أعماله ووصل الراضي وبجكم إلى بغداد يوم السبت لتسع خلون من شهر ربيع الأوّل. موت الوزير أبى الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات وتقليد أبى جعفر محمد بن شيرزاد الوزارة وفيها مات الوزير [16] أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بالرملة. وكان الراضي أنفذ خادما يستدعيه فوصل الخادم وقد مات. فكانت مدّة   [1] . فى الأصل غموض وطموس. والمثبت فى مد: وكتب الأمانة. وما أثبتناه بين المعقوفتين هو من مط. [2] . فى مط: مرتعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 وقوع اسم الوزارة عليه سنة واحدة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوما. وقلّد مكانه أبا جعفر محمّد بن يحيى بن شيرزاد وسلّم إليه علىّ بن خلف، فصادره على خمسين ألف دينار وسفّر أبو جعفر بن شيرزاد فى الصلح بين بجكم وبين البريدي. فتمّ ما شرع فيه وضمن أبو عبد الله البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار فى السنة. ولمّا اتّفق موت الوزير أبى الفتح وصولح البريدي شرع أبو جعفر ابن شيرزاد فى تقليد أبى عبد الله البريدي الوزارة وأشار بذلك فأنفذ الراضي بالله أبا الحسين إلى أبى عبد الله البريدي فى تقلّد الوزارة، فامتنع منها، ثمّ استجاب إليها، وتقلّد الوزارة وخلّفه عبد الله بن علىّ النّفري بالحضرة كما كان يخلّف الفضل بن جعفر. وكان بجكم قلّد بالبا التركىّ أعمال المعاون بالأنبار فكاتبه يلتمس منه أن يقلّده أعمال طريق الفرات بأسرها ليكون فى وجه ابن رائق وهو بالشام. فقلّده ذلك فنفذ إلى الرحبة وغلب عليها وكاتب ابن رائق وأقام له الدعوة فى أعمال طريق الفرات وعظم أمره بها واتصل خبره ببجكم. ذكر سرعة تلافى بجكم أمر بالبا قبل أن يستفحل [17] أنفذ بجكم غلامه يوستكين [1] وعدلا حاجبه وقطعة من جيشه نحو أربعمائة رجل فوصلوا إلى الأنبار وقت العصر من يومهم وساروا من سحر ليلتهم إلى هيت وأخذوا منها الأدلّاء فسلكوا طريق البرّيّة ووصلوا إلى الرحبة فى خمسة أيّام فدخلوها من بابين من أبواب الرحبة وجميع ذلك بوصيّة   [1] . كذا فى الأصل: يوستكين. والمثبت فى مد: بوستكين. وفى مط: نوشنكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 بجكم ورسمه، فعملا بما رسم. فعرف بالبا الخبر وهو على طعامه فوثب إلى سطح واستتر عند بعض الحاكة وأخذ من عنده وانحدروا به إلى الأنبار. ثمّ أدخلاه بغداد مشهّرا على جمل عليه نقنق وهو مصلوب ثمّ خفى أمره فيقال ان بجكم سمّه. ودخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وفيها تزوّج بجكم سارة بنت الوزير أبى عبد الله أحمد بن محمّد البريدي بحضرة الراضي على صداق مائتي ألف درهم. واشتدّ أبو جعفر ابن شيرزاد فى معاملة التنّاء وزاد فى المساحة واحتجّ عليهم بعلوّ الأسعار ووفورها وطالبهم بالترييع [1] والتسعير والسلف وأظهر ظلمه. وفيها سار الأمير أبو علىّ الحسن بن بويه إلى واسط وكان البريديّون بها. فأقام الأمير أبو علىّ فى الجانب الشرقي منها والبريديّون فى الجانب الغربي. ذكر السبب فى ذلك كان أبو عبد الله أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدا [18] من الديلم. واضطرّ أبا جعفر الصيمري إلى التحصّن بقلعة السوس وكان متقلّدا أعمال الخراج بها. وخاف أبو الحسين أحمد بن بويه أن يصير البريدي إلى الأهواز من البصرة وكان أبو علىّ الحسن بن بويه أخوه مقيما بباب إصطخر فكتب إليه أبو الحسين أخوه يستنجده فوافاه يطوى المنازل طيّا فى عشرة أيّام. وكانت الضرورة دعت أبا الحسين أحمد بن بويه إلى أن خرج من   [1] . كذا فى الأصل ومد: الترييع. وفى مط: التوقيع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 السوس. فلمّا وصل أخوه أبو علىّ إلى السوس دخل أبو الحسين أحمد بن بويه الأهواز وكان أصحاب وشمكير قد تغلّبوا على إصبهان. فسار الأمير أبو علىّ الحسن بن بويه إلى واسط طمعا فى أن يحصل له، فاضطرب رجاله لأنّه ما كان أنفق فيهم منذ سنة واستأمن من أصحابه مائة رجل إلى البريديين. وسار بجكم [1] والراضي من بغداد لحربه فأشفق أن يقع التضافر عليه ويستأمن من رجاله. فانصرف إلى الأهواز ومنها إلى رامهرمز. ثمّ سار إلى إصبهان ففتحها واستأسر بضعة عشر قائدا من قوّاد وشمكير ورجع الراضي بالله وبجكم إلى بغداد. وفيها خرج بجكم إلى الجبل فلمّا بلغ قرميسين عاد إلى بغداد ومعه مستأمنه الديلم. ذكر السبب فى خروج بجكم إلى الجبال ورجوعه عنها وسبب فساد الحال بينه وبين البريدي بعد الوصلة والصلاح [19] لمّا صاهر بجكم البريدي وخلّص ما بينهما كاتبه أن ينفذ إلى الجبل لفتحها وأن يخرج هو إلى الأهواز لفتحها ودفع أبى الحسين أحمد بن بويه عنها. وأنفذ إليه حاجبه عدلا فى خمسمائة رجل نجدة ليضمّهم إلى رجاله. قال أبو زكريا السوسي: وأخرجنى معه لأن أزعجه وأحثّه على المسير مع الجيش كلّه إذ كان ابتداؤهم بالسوس. قال: فحصلت بواسط وأظهر البريدي بما وردت وعدل الحاجب له، حتّى إذا حصل بجكم بحلوان طمع البريدي فى المسير إلى بغداد وأخذ الدفائن التي لبجكم فى داره والعود بها إلى واسط   [1] . وصار بجكم: كذا فى الأصل. وفى مط: وسار يحكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 وكانت عظيمة. فما زال يتربّص ويدافع، ويقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، تارة تشره نفسه إلى المال وتارة يرهب من مكاشفة بجكم، ويتوقّع مع ذلك دائرة على بجكم من قتل أو هزيمة فيتمكّن ممّا يريد. وامتدّت أيّامنا حتّى أقمنا زيادة على شهر وكتب بجكم ترد علينا بأن نعرّفه ما علمناه فإذا أقرأناها البريدي قال: - «أنا سائر غير متلوّم.» ثمّ يتراخى ففطنّا لما فى نفسه وقلت لعدل سرّا: - «أنفذ إلى بجكم من يعرّفه الخبر.» فبادر إليه بركابىّ يثق به. فلمّا وصل إلى بجكم [1] لم يلبث أن ركب الجمّازات ووافى مدينة السلام وخلّف عسكره وراءه. وسقطت الأطيار على البريدي بدخول بجكم بغداد [20] وأنّه لا يدرى أهو منهزم أم مجتاز فأبلس ودهش وتحيّر وهمّ بالقبض علىّ وجذبني إلى البصرة وعملت أنا على الاستتار [2] فخفت أن يثيرنى ويخرجني لأنّ واسط بلد صغير فكنت على ذلك أتردّد إليه متجلّدا. ثمّ دعاني وقت العصر بعدّة غلمان فلم أشك فى أنّه للقبض علىّ. فوصلت إليه وقت المغرب وقد قام فدخل إلى كلّة له هربا من البقّ فقال لى: - «عرفت الخبر؟» قلت: «ماذا؟» فقال: «سقط طائر قبل العصر بأنّ بجكم قد سار إلى واسط.» فقلت: «هذا باطل متى ورد بغداد ومتى خرج؟» فقال: «دع هذا عنك، فإنّى لا أشكّ فيه. قم اخرج الساعة إليه وأزل ما   [1] . فى مط: يحكم، بدل «بجكم» . [2] . الاستتار: كذا فى الأصل ومط. وفى مد: الاستنار، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 أوحشه منّى وهات يدك.» فناولته إيّاها وجعلها على أذنه وقال: - «خذنى إلى النخّاسين وبعني فإنّى لا أخالفك، واكفني هذا الباب ولا تسألنى عمّا تعمل.» فقبّلت يده ورجله والأرض بين يديه وقلت له: - «أمضى أتأهّب.» فقال: «قد تأهّبت لك وقدّم لك طيّار وجرّدت خمسين غلاما لبدرقتك وانزل إلى الطيّار ففيه زاد يكفيك إلى الحضرة وغلمانك يتلاحقون بك.» فلم أتمالك سرورا ثمّ خشيت أن يكون قد اغتالنى وإنّى أخرج فيؤخذ بى إلى البصرة. ونهضت من عنده فما تاب إلىّ عقلي إلّا بفم الصلح. [21] فلمّا وصلت إلى نهر سابس لقيني خادم من دارى ببغداد برسالة بجكم إلىّ أن استتر، وأسرّ [1] بذلك إلىّ وسألنى من معى من غلمان البريدي عمّا ورد به الخادم فعرّفتهم أنّه أخبرنى بحال عليلة لى وأنّها مشفية، وسرت مبادرا. وأصبح البريدي نادما على إنفاذه إيّاى ووجّه خلفي من يطلبني لأنّ طائرا سقط عليه بما آيسه من صلاح بجكم له، وأغرى بى فى الكتاب فكفانى الله. ووصلت إلى دير العاقول وبها أحمد بن نصر القشوري. فخرجت إليه وأراد أن يأخذ الطيّار ويوقع بالغلمان. فلم أتركه وبرزت للغلمان [2] ورددتهم فى الطيّار وجلست أنا فى طيّار أحمد بن نصر ووافيت الزعفرانيّة ولقيت بها بجكم وصعدت إليه فحدّثته بالحديث واجتهدت فى إصلاحه للبريدى وردّه إلى بغداد، فأبى فقال: - «لو لقيتني وأنا على درجة من دارى لما تهيّأ لى أن أعود فإنّها تكون   [1] . أن استتر، وأسرّ: كذا فى الأصل. وفى مط: واستر، بدل وأسرّ. وفى مد: انى استتر وأسر. [2] . برزت: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: «ندوت للغلمان» مع حذف الواو قبل «ندوت» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 هزيمة فكيف وقد سرت ووصلت إلى ههنا.» وانحدرت معه فقبض على أبى جعفر بن شيرزاد بواسط لأنّه كان سبب البريدي عنده وهو الذي أشار بوصلته. إزالة اسم الوزارة عن البريدي وإيقاعه على سليمان بن الحسن وأظهر بجكم صرف أبى عبد الله البريدي عن الوزارة وأزال اسمها عنه وأوقعه على أبى القاسم سليمان بن الحسن. فكان اسم الوزارة عليه وخلع عليه خلع الوزارة والأمور [22] يدبّرها كاتب بجكم وهو ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه. فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة على أبى عبد الله البريدي سنة واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان بجكم عند إخراج مضربه إلى الزعفرانية متوجّها إلى البريدي أحبّ أن يكتم خبر انحداره. وكان انحداره فى حديدي فضبط الطرق ومنع من نفوذ كتاب لأحد لئلا يكتب بخبر انحداره. ذكر اتفاق ظريق غريب كان معه فى الحديدى كاتب له على أمر داره وجرايات حاشيته وكان له أخ فى خدمة البريدي فلمّا جلس بجكم فى الحديدى سقط على صدر الحديدى طائر فصاده غلمان بجكم وجاءوا به إلى مولاهم فوجد على ذنبه كتابا فقرأ فإذا هو كتاب من كاتبه هذا إلى أخيه بخطّه يعرّفه فيه انحدار بجكم ومن أنفذ على الظهر من الجيش وسائر أسراره وعزائمه. فلمّا وقف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 عليه بجكم [1] عجب واغتاظ وأحضر هذا الكاتب ورمى إليه بالكتاب فسقط فى يده ولم يمكنه جحده لأنّه بخطّه المعروف فاعترف به فأمر به فرمى بالزوبينات بحضرته إلى أن قتله ورمى به فى الماء وسار إلى واسط فوجد البريدي قد انحدر منها ولم يقف. ابن رائق ينفذ ابنه ليقتل قصاصا وفى ذى الحجّة من هذه السنة ورد الخبر بأنّ ابن رائق أوقع بأبى نصر ابن طغج أخى الأخشيد. فانهزم أصحاب أبى نصر ابن طغج واستؤسر وجوه قوّاده وقتل أبو نصر ابن طغج [23] فأخذه ابن رائق وكفّنه وحنّطه وحمله فى تابوت إلى أخيه الأخشيد وأنفذ معه ابنه مزاحم بن محمّد بن رائق وكتب إلى الأخشيد معه كتابا يعزّيه فيه بأخيه ويعتذر ممّا جرى وأنّه ما أراد قتله وأنّه قد أنفذ إليه ابنه ليقيده [2] به إن أحبّ ذلك. فتلقّى الأخشيد فعله ذلك بالجميل وخلع على أبى الفتح مزاحم وردّه إلى أبيه واصطلحا على أن يفرج ابن رائق للأخشيد عن الرملة ويكون باقى الشام فى يد ابن رائق ويحمل إليه الأخشيد عن الرملة مائة وأربعين ألف دينار. دخول الترجمان من الجبل منهزما وفيها دخل أبو نصر محمّد بن ينال الترجمان من الجبل منهزما من الديلم واتصل خبر هزيمته ببجكم وهو بواسط فوجّه بمن ضربه فى منزله بالمقارع وقيّده وحبسه مدّة ثمّ رضى عنه.   [1] . وفى مط: يحكم، بدل «بجكم» . [2] . أى يقتله قصاصا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 ودخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة قبض بجكم على كاتبه ابن شيرزاد وفيها كان القبض من بجكم على كاتبه ابن شيرزاد واستكتب أبا عبد الله الكوفي فكانت مدّة كتابة ابن شيرزاد لبجكم وتدبيره الملك وقيامه مقام الوزراء تسعة عشر شهرا وثلاثة عشر يوما. وحين أراد القبض عليه كاتب تكينك خليفته على يد مسرع بأن يحضر أبا القاسم الكلواذى وأصحاب الدواوين والعمّال والمهندسين ويتقدّم إليهم بأن يتواقفوا [1] على أمر المصالح بالسواد وأن يعملوا عملا [24] بما يحتاج إليه ناحية ناحية فإذا فرغ منه تسلّمه منهم وقبض على فلان وفلان- قوم أسماهم له من الكتّاب- فإذا حصلوا كتب على عدّة أطيار بخبر حصولهم. فأحضرهم تكينك وناظرهم فى دار بجكم على أمر المصالح. فلمّا فرغوا من ذلك وأرادوا الانصراف اعتقل من أسمى له منهم وفيهم أبو الحسن طازاذ بن عيسى ومحمّد بن الحسن بن شيرزاد والمعروف برهرمه [2] وجماعة من الكتّاب والعمّال وكتب بخبر القبض عليهم. فلمّا عرف خبرهم وحصولهم فى القبض قبض حينئذ على أبى جعفر ابن شيرزاد وزيره. من دلائل دهاء بجكم وممّا يستدلّ به على دهاء بجكم ما حكاه ثابت عن أبى عبد الله الكوفي قال: قال بجكم بعد قبضه على أبى جعفر ابن شيرزاد: كان يقال لى: إنّ أبا   [1] . فى مط: يتوافقوا (بتقديم الفاء على القاف) . [2] . وفى مط: برهريمة، بدل «رهرمة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 جعفر موسر كثير المال وكنت أظنّ أنّ أعداءه يكثرون عليه. فأردت أن أمتحن صحّة ما يقال فيه فقلت له يوما: - «قد أودعت الأرض مالا كثيرا وعملت على أن أودع الناس شيئا آخر ولست أثق بأحد ثقتي بك وأريد أن أودع عندك شيئا فهل تنشط لذلك.» فقال لى: - «وكم مبلغه؟» فقلت: «مائة ألف دينار.» فقال لى مسرعا: - «نعم.» ولم يستكثرها ولا رأيت فى وجهه إعظاما لها. فلمّا رأيت قوّة قلبه ونشاطه للأمر وأنّ المقدار لم يهله ولا عظم فى نفسه علمت أنّ الذي قيل فى يساره [25] وكثرة ماله حقّ. فسلّمت إليه مائة ألف دينار وتركته مدّة طويلة ثمّ قلت له: - «قد احتجت إلى تلك الدنانير فينبغي أن تردّها.» فقال: «نعم.» وحمل بعد أيّام جزء منها ثمّ اقتضيته فحمل شيئا آخر ثمّ اقتضيته فحمل جزء آخر فأظهرت غضبا وقلت له: - «دفعتها إليك جملة وتردّها تفاريق.» فارتاع لغضبي وصياحي عليه ودهش فخجل وقال: - «أنا أصدق الأمير ليس لى من أثق به فى هذه الأحوال إلّا أختى وليس تطيق حمل الجميع ولا لها حيلة إلّا أن تحمله شيئا بعد شيء.» فسكتّ. وقلت: - «يجوز» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 وحصّلت من كلامه أنّ الذي يجرى على يده أمر ودائعه هو أخته. فلمّا قبضت عليه وطالبته، أخذ يتماتن. فوجّهت إليه: - «لا تماتن، فإنّ أختك قد وقعت فى يدي. [1] » ولم تكن قد وقعت وإنّما أردت أن أرعبه. قال: فانحلّ وبلغ ما أردته. موت الراضي بالله وفيها فى ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأوّل [2] مات الراضي بالله وكان قد انكسف القمر كلّه وكان موته بالاستسقاء الزّقّى، واستتر كاتبه أبو الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا وانقضت أيّامه. وكان رجلا أديبا شاعرا حسن البيان يحبّ محادثة الأدباء ومعاشرتهم ولا يفارق الجلساء وكان سمحا سخيّا واسع النفس. [26] ما قاله سنان بن ثابت لبجكم فى علاج خلقه وطمع بجكم فى جماعة من ندمائه وظنّ أنّه ينتفع مع عجمته بآدابهم. فلمّا نظر لم يجد من يفهّمه ما ينتفع به إلّا سنان بن ثابت. فإنّ سنانا كان ينادمه الراضي بالله. قال سنان: دعاني بجكم ووصلني وأكرمنى ثمّ قال لى: - «أريد أن أعتمد عليك فى تدبيري وأمور جسمي ومصالحي وفى أمر آخر هو أهمّ إلىّ من أمر بدني وهو أمر أخلاقى. فقد وثقت بعقلك وفضلك   [1] . وفى مط: بيتي، بدل «يدي» . [2] . من سنة 329. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 وقد غمّنى غلبة الغضب والغيظ علىّ وافراطهما فىّ حتّى أخرج إلى ما أندم عليه من ضرب وقتل. فأنا أسألك أن تثقف [1] ما أعمله ثمّ تعالجنى ممّا تكرهه وإذا عرفت لى عيبا لم تحتشم أن تذكره لى ثمّ ترشدني إلى علاجه ليزول عنّى.» قال: فقلت له: - «السمع والطاعة، ولكن فى العاجل اسمع منّى جملة علاج ما أنكرته من نفسك إلى أن يجيء التفصيل. - «اعلم أيّها الأمير بأنّك قد أصبحت وليس فوق يدك يد لمخلوق، وأنّه لا يتهيّأ لأحد منعك ممّا تريد ولا أن يحول بينك وبين ما تهواه أىّ وقت أردته، وأنّك متى أردت شيئا بلغته فى أىّ وقت شئت، لا يفوتك منه شيء. - «ثمّ اعلم أنّ الغيظ والغضب يحدث فى الإنسان سكرا أشدّ من سكر الشراب المسكر بكثير. فكما أنّ الإنسان يعمل فى وقت السكر من النبيذ ما يندم عليه وما لا يعقل به ولا يذكره إذا صحا، [2] كذلك [27] يحدث فى حال السكر من الغضب بل أشدّ. فيجب كما يبتدأ بك الغضب وتحسّ بأنّه قد ابتدأ يغلبك ويسكرك وقبل أن يشتدّ ويقوى ويتفاقم ويخرج من يدك فضع فى نفسك أن تؤخّر العقوبة على الذنوب وتتركها. تغبّ ليلة واثقا بأنّ ما تريد أن تفعله فى الوقت لا يفوتك عمله فى غد. وقد   [1] . كذا فى الأصل: أن تثقف. والمثبت فى مد: أن تثفق. وفى مط: أن تنفذ. وثقف: حذق، وفهم بسرعة. [2] . فى مط: صحنا، بدل «صحا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 قيل: «من لم يخف فوتا حلم» فإنّك إذا فعلت ذلك وبتّ ليلتك وسكنت فلا بدّ لفورة الغضب من أن تبوخ وتسكن وتصحو من السكر الذي أحدثه لك الغضب. وقد قيل: «إنّ أصحّ ما يكون الرأى إذا استدبر الإنسان ليلته واستقبل نهاره» . - «فإذا صحوت من سكرك فتأمّل الأمر الذي أغضبك، فإن كان ممّا يجوز فيه العفو ويكفى فيه العتاب والتهديد أو التوبيخ أو العزل، فلا تتجاوز ذلك. فإنّ العفو أحسن بك وأقرب لك إلى الله عزّ وجلّ. وليس يظنّ بك المذنب ولا غيره العجز ولا تعذّر القدرة. وإن كان ممّا لا يحتمل العفو عاقبت حينئذ على قدر الذنب ولم تتجاوزه إلى ما يقبح ذكرك ويزيغ دينك ويمقت عليه نفسك وإنّما يشتدّ هذا عليك عند تكلّفه أوّل دفعة وثانية وثالثة، ثمّ يصير عادة فيسهل لك ثمّ تستلذّه إذا علمت أنّه [1] فضيلة.» فاستحسن ذلك بجكم [28] ووعد أنّه يفعله، وما زال ينبهه على شيء شيء حتّى صلحت أخلاقه وكفّ عن القتل والعقوبات الغليظة واستحلى ما كان يشير به من استعمال العدل والإنصاف ورفع الجور والظلم وعمل به حتّى قال: - «قد تبيّنت أن العدل أربح للسلطان بكثير وأنّه يحصّل له دنيا وآخرة وأنّ موادّ الظلم وإن كثرت وتعجّلت سريعة النفاد والفناء والانقطاع، وهو مع ذلك كأنّه لا يبارك فيها وتحدث حوادث يتحرّمها [2] ثمّ يعود بخراب الدنيا وفساد الآخرة.»   [1] . أنّه: ما فى الأصل غير واضح، قرأناه فى ضوء ما فى مط، وهو ساقط من مد. [2] . يتحرّمها: كذا فى مط. ما فى الأصل يحتمل أن يكون: يتحزّمها، يتخرّمها، بتجزّمها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 فقلت له: - «وبالضد، فإنّ موادّ العدل تنمى وتزيد وتدوم ويبارك [1] فيها عند ابتداء العمل به.» وعمل بواسط وقت المجاعة دار ضيافة وببغداد بيمارسنا [2] وعدل فى أهل واسط وأحسن إلى أهلها، إلّا أنّ مدّته لم تطل. فقتل عن قرب، ولله تدبير فى أرضه وله أمر هو بالغه.   [1] . يبارك: كذا فى الأصل ومط، وهو الصحيح. والمثبت فى مد: تبارك. [2] . فى الأصل ومط: بيمارستان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 خلافة المتّقى لله أبى إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله لمّا مات الراضي بالله بقي الأمر فى الخلافة موقوفا انتظارا لقدوم أبى عبد الله الكوفي من واسط واحتيط على دار السلطان وانتظر أمر بجكم فيمن ينصب للخلافة فورد كتابه على أبى عبد الله الكوفي يأمر فيه: أن يجتمع مع الوزير الذي كان يزر للراضى بالله وهو أبو القاسم سليمان بن الحسن وكلّ من تقلّد الوزارة مع أصحاب الدواوين والقضاة والعدول والفقهاء والعلويين [29] والعبّاسيين ووجوه البلد، وشاورهم فيمن ينصب للخلافة ممّن يرتضى مذاهبه وتحمد طرائقه. فمن وجدت فيه هذه الأحوال عقدت له الخلافة. فلمّا اجتمعوا ذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر، فتفرّق الناس عن هذا ذلك اليوم من غير تقرير لأمر. فلمّا كان اليوم الثاني دفع كتاب بجكم إلى كاتب فقام وقرأه على الناس وذكر إبراهيم. فقال محمّد بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي: - «هذا الرجل من ولد المقتدر، فقل لنا هذا الرجل المذكور فى الكتاب، يجب أن يكون من ولد المقتدر أو من غيرهم.» فقال أبو عبد الله الكوفي: - «من كانت فيه هذه الأوصاف نصب فى الخلافة كائنا من كان.» فقال له: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 - «يحتاج أن يكون الخطاب فى هذا سرّا.» فقام أبو عبد الله فدخل إلى بيت وأقبل يدخل إليه الناس اثنان اثنان ويقول لهما: - «قد وصف لنا إبراهيم بن المقتدر. فأىّ شيء تقولون؟» فإذا سمعا ذلك لم يشكّا فى أنّه شيء قد تقرّر وورد فيه أمر بجكم، فيقولون هو موضع لما أهلّ له، وكلاما [1] فى هذا المعنى. فلمّا استوفى كلام الجماعة تقدّم بحمله ليعقد له الأمر فى دار بجكم ثمّ يحمل إلى دار السلطان. وانحدر أبو عبد الله الكوفي وعرضت الألقاب على المتقى لله فاختار منها هذا اللقب، وأخذت البيعة على الناس [30] وأنفذ الخلعة واللواء إلى بجكم مع أبى العبّاس أحمد بن عبد الله الإصبهانى إلى واسط، فانحدر بها وخلع عليه وأخذ البيعة عليه للمتّقى لله. وأطلق بجكم لأصحابه صلة البيعة نصف رزقه أو دون ذلك ولم يطلق للكتّاب ولا للنقباء وأشباههم شيئا. ووجّه بجكم قبل استخلاف المتّقى فحمل من دار السلطان فرسا كان استحسنه وآلات كان اشتهاها. وخلع المتقى لله على سلامة الطولونى وقلّده حجبته وأقرّ سليمان بن الحسن على وزارته وإنّما كان له من الوزارة الإسم فقط والتدبير إلى أبى عبد الله الكوفي. ورود الخبر بدخول ابن محتاج إلى الرىّ وقتله ما كان الديلمي وهزيمته لوشمكير وفيها ورد الخبر بدخول أبى على ابن محتاج فى جيش خراسان إلى   [1] . وفى مط: وكانا، بدل «كلاما» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 الري وقتله ما كان الديلمي وهزيمته لوشمكير إلى طبرستان. ذكر السبب فى ذلك كان ماكان مستقرّا بكرمان من قبل صاحب خراسان حتّى بلغه قتل مرداويج فاجتمع عليه استئمان رجاله إلى عماد الدولة على بن بويه ومجاورته إيّاه وطمعه فى معاودة أعماله الأولى من جرجان وطبرستان. فصار إلى خراسان واستعفى من ولاية كرمان وسأل ولاية جرجان. فوليها وسار إليها وفيها بلقاسم ابن بانجين [1] من قبل وشمكير فقدّم ما كان كتابا إلى وشمكير يداريه فيه ويستنزله عن أعماله التي كانت [31] فى يده ويستعيده إلى حال المودّة والموادعة، وكان الإجماع قد وقع من الجيل والديلم أنّه لم ير فيهم أشجع ولا أنجد ولا أفرس من ماكان وأقرّ له بذلك كلّ شجاع مذكور وكلّ متقدّم مشهور. فصادفت رسالته من وشمكير ضعف قلبه بقتل أخيه مرداويج وقرب عهده بالمصيبة وإشفاقه من صاحب خراسان ومن جهة عماد الدولة على بن بويه. فاستجاب له إلى النزول عن جرجان وكتب إلى صاحبه بلقسم ابن بانجين [2] بتسليمها إليه. فلمّا مضت له مدّة استنزله ما كان أيضا عن سارية [3] فنزل له أيضا عنها. فتأكّدت الحال بينهما واستحكمت المودّة واستوحش صاحب خراسان من تضافرهما وآل الأمر إلى أن خلع ما كان طاعته وأسقط خطبته. فسار حينئذ أبو على ابن محتاج إلى جرجان لمواقعته فى عسكر كثيف أمدّه به صاحب   [1] . بانجين: كذا فى الأصل: وما فى مط مهمل الّا فى الأخير. والمثبت فى مد: بالحسن. [2] . حال الكلمة هنا حالها فى الموضع السابق. [3] . وفى مط: شاريه، وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 خراسان وكتب ما كان إلى وشمكير بالصورة واستنجده. فأنجده بعسكر قوىّ ثمّ أتبعه أيضا بعسكر ثان مع شيرج [1] بن ليلى وحاصر ابن محتاج ما كان واشتدّ به الحصار إلى أن أكل أصحابه لحوم الجمال والبغال. فانتهز هذه الفرصة ركن الدولة الحسن بن بويه واغتنم شغل وشمكير بما كان فطمع فى الرىّ وكاتب أبا علىّ ابن محتاج صاحب جيش خراسان [32] وأشار عليه بمناجزة القوم ووعده بالمعاونة وكذلك فعل عماد الدولة كاتبه وأشار عليه بالمناجزة ووعده بأن يسيّر أخاه إلى الرىّ فى عسكر قوىّ. وعرف وشمكير الخبر وكتب إلى ما كان بالصورة وأشار عليه بتسليم جرجان إلى الخراسانية وكتب إلى شيرج [2] وإلى سائر عسكره بالانصراف ففعل ما كان ذلك وعاد الجيش بأجمعه إلى الرىّ وحصل ما كان بسارية وتمكّن ابن محتاج من جرجان واتصلت المكاتبة بينه وبين عماد الدولة وركن الدولة واستحكمت المودّة بينهم واتّفقوا على حرب وشمكير حين اختلط عسكراهما وصارا عسكرا واحدا واشتملت عدّة العساكر على سبعة آلاف من الديلم والجيل سوى الأتراك والعرب وأظهرا من السلاح والجنن والآلات والدوابّ أمرا عظيما. فترافدا فى التدبير لأنّ وشمكير كان منفردا بإطلاق النفقات والأموال وإقامة الأنزال [3] والعلوفات وتفقّد القوّاد والرجال لأنّ الرىّ وأعمالها كانت فى يده. فأمّا ما كان فإنّه تفرّد بمباشرة الحرب وترتّب منها فى القلب. فسار ابن محتاج على طريق الدامغان حتّى قرب منها وأقام الديلم والجبل مصافّها   [1] . وفى مط: شرز بن ليلى. [2] . وفى مط: سيرج (بالسين المهملة) . [3] . وفى مط: الأتراك، بدل «الأنزال» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 وبات الفريقان على أهبة لمباكرة الحرب والمناجزة [33] وكان وشمكير ضرب عدّة خركاهات للمصافّ ونصب المطارد والأعلام وأحضر الطعام للناس وأجلس ما كان فى الصدر يأكل ويطعم ويجلس من يرى ووشمكير قائم متردّد على رسمهم فى ذلك. فكان ما كان يقول: - «يا با طاهر، لم تأكل معنا ثمّ تتوفّر على النظر بعد ذلك؟» فيقول: «يا با منصور، نحن بازاء أمر قد قرب انفصاله. فإن كان لنا فسوف نأكل معا ونطعم وإن كان لغيرنا فسوف يأكل ويطعم.» وكانا يتعاملان معاملة النظراء ويتخاطبان بالكنى ويتساويان فى جميع أحوالهما. فما استتمّوا طعامهم حتّى ورد عليهم الخبر بأنّ ابن محتاج رحل عن موضعهم عادلا عن سمتهم إلى إسحاقاباذ ليجتمع معه العدد الذي أنفذه ركن الدولة، لأنّه كان سار على طريق قم وقاشان. فارتحلا جميعا فى الوقت إلى هذه القرية، وأعاد المصافّ بها ووافى ابن محتاج وقد عبّى جيشه كراديس. ذكر حيلة فى الحرب تفرّق بها الجيش المجتمعون ودخل بينهم الغدر فأزال تعبئتهم وهزمهم تقدّم ابن محتاج إلى أصحابه أن يطرقوا القلب ويلحّوا عليه وكان فيه ما كان وجمرة العساكر [1] وان يتطاردوا لهم ويستجرّوهم ثمّ وصّى الكراديس التي بإزاء الميمنة [34] والميسرة أن يناوشوهم مناوشة خفيفة بمقدار ما يشغلهم عن أن يصيروا مددا لمن فى القلب ولا يطلبوا المناجزة بل يقفوا   [1] . جمرة العساكر: الذين انضمّوا، فصاروا يدا واحدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 بازائهم على هذا السبيل. ففعلوا ذلك وألحّوا على القلب ثمّ تطاردوا لهم كالمنهزمين فطمع ما كان وأصحابه الذين كانوا فى القلب فيهم فاتّبعوهم وفارقوا مصافّهم وبعدوا عن ميمنتهم وميسرتهم وصار بينهم فضاء كثير. فحينئذ أمر ابن محتاج الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يتركوا من بازائهم ويدخلوا فى الفضاء الذي اتسع لهم وراء القلب وأمر الذين كانوا بإزاء الحرب أن يحملوا ويحقّقوا عليه مواجهين له. فانكسر الديلم وحصلوا بين الكراديس ولم يكن لهم مهرب فقتلوهم كما شاءوا. وكان ما كان قد ترجّل وأبلى بلاء حسنا وظهرت منه آثار لم ير مثلها. فوافاه سهم عائر وقع فى جبينه فنفذ الخوذة والرأس [1] حتّى طلع من قفاه وسقط ميتا. وأفلت وشمكير وقوم من أصحاب الخيل إلى سارية وأسر الباقون وقتلوا بأجمعهم. وملك ابن محتاج الرىّ وأخذ رأس ما كان بخوذته والسهم فيه وحمل على هيئته وحالته إلى خراسان مع الأسارى ورؤوس القتلى وكانوا عددا جمّا يقال: إنّهم نحو ستة آلاف. [35] ثمّ حمل بعد ذلك رأس ما كان إلى بغداد بعد مقتل بجكم. لأنّ بجكم ينتسب إلى ما كان ويزعم أنّه تربيته وقد كان أظهر حزنا وغمّا شديدا لمّا سمع بقتله وجلس للعزاء. فلمّا قتل بجكم ورد أبو الفضل العبّاس ابن شقيق المرسوم كان بالترسّل بين ولاة خراسان وبين السلطان ومعه رأس ما كان وفيه السهم وعليه الخوذة وذلك فى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.   [1] . والرأس: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: والتراس، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 ذكر غلطة وقعت من ابن محتاج فى استنامته إلى جيش غريب حتّى قتل خلق من أصحابه وانتهب سواده ونجا بنفسه كان الحسن بن الفيروزان [1] ابن عمّ ماكان وصنيعته وكان قريبا منه فى الشجاعة. إلّا أنّه كان شرسا متهوّرا زعر الأخلاق. فلمّا قتل ما كان التمس منه وشمكير أن يدخل فى طاعته وينحاز إليه فلم يفعل. ثمّ لم يقتصر على التثاقل عنه حتّى أطلق لسانه فيه وقال: هو الذي أسلم ما كان إلى القتل وخذّله ونجا بنفسه. فأفسد ما بينه وبين وشمكير بهذا الضرب من الكلام والوقيعة فيه. فقصده وشمكير وهو يومئذ بسارية. فانصرف عن سارية وصار إلى ابن محتاج داخلا فى طاعته ومستنهضا له على وشمكير. فقبله ابن محتاج وأحسن إليه وساعده على قصد وشمكير. فلقيه بظاهر سارية واتصلت الحرب بينهما أيّاما إلى أن ورد الخبر [36] على ابن محتاج بوفاة نصر بن أحمد صاحب خراسان. فصالح وشمكير وأخذ ابنا له يقال له: سالار، رهينة وواقفه على أمور تقررت بينهما وانصرف إلى جرجان وجذب الحسن بن الفيرزان معه وهو غير طيب النفس بما فعله وأراد منه أن يتمم الحرب ثمّ يستخلف الحسن ويمتدّ بعد ذلك إلى خراسان. فلمّا لم يفعل ابن محتاج ذلك انجذب الحسن بن الفيرزان معه على هذا الحقد ودبّر أن يطلب غرّته فى طريقه ويفتك به. فلمّا صارا إلى الحدّ بين أعمال جرجان وخراسان وثب الحسن على ابن محتاج وأوقع بعسكره   [1] . الفيروزان: كذا فى الأصل ومط (على أصله الفارسي) . والمثبت فى مد: الفيرزان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 ليقتله. فأفلت منه وقتل حاجبه وانتهب سواده واسترجع رهينة وشمكير أعنى ابنه سالار وعاد إلى جرجان فاستولى عليها وعلى أعمال الدامغان وسمنان والقلعة [1] التي كان يعتصم بها. وكان وشمكير صار إلى الرىّ فملكها. فلمّا فعل الحسن بابن محتاج ما فعل عاد إلى مواصلة وشمكير وبدأه بالمجاملة وردّ عليه ابنه الذي كان رهينة عند ابن محتاج. وأراد بذلك أن يستظهر على الخراسانية به إن عاودوا حربه. فتسلّم وشمكير ابنه وحاجزه فى الجواب ولم يصرّح له بما ينقض شرائط ابن محتاج عليه. ثمّ إنّ ركن الدولة قصد الرىّ وحارب وشمكير [37] فانهزم وشمكير واستأمن أكثر رجاله إلى ركن الدولة وصار إلى طبرستان فاغتنم الحسن ابن الفيرزان ضعف وشمكير فسار إليه واستأمن إلى الحسن بقية أصحابه وانهزم وشمكير إلى خراسان على طريق جبل شهريار. فلمّا حصل وشمكير بخراسان رأى الحسن بن الفيرزان أن يواصل أبا على ركن الدولة وينحاز. إليه فراسله ورغب فى مواصلته. فأجابه إلى ذلك وتمّت المصاهرة بينهما بوالدة الأمير على ابن ركن الدولة، أعنى فخر الدولة وهي بنت الحسن بن الفيرزان. حوادث حدثت فى هذه السنة منها مقتل بجكم وفى هذه السنة فرغ من مسجد براثا وجمّع فيه. وفيها اشتدّ [2] الغلاء ببغداد وبلغ الكرّ من الدقيق مائة وثلاثين دينارا وأكل   [1] . وفى مط: العلقة، بدل «القلعة» . [2] . وفى مط: ابتدأ، بدل «اشتدّ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 الناس الحشيش وكثر الموت حتّى كان يدفن فى قبر واحد جماعة من غير غسل ولا صلاة وظهر من قوم ديانة وصدقة وتكفين ومن آخرين فجور وغصب [1] وهم الأكثر. [2] وفيها انبثق نهر الرّفيل ونهر بو [3] فلم يقع عناية بتلافيهما حتّى خربت بادوريا بهذين البثقين بضعة عشر سنة. وفيها قتل بجكم. ذكر سبب قتله كان ورد جيش البريدي إلى المذار وأنفذ بجكم نوشتكين وتوزون فى جيش للقائه فكانت بينهما وقعة [38] عظيمة كانت أوّلا على أصحاب بجكم. فكتبا إلى بجكم يسألانه أن يلحق بهما فخرج بجكم من داره بواسط يوم الأربعاء عشرة خلت من رجب للمسير إلى المذار ليلحق عسكره وأصحابه. فورد كتاب توزون ونوشتكين بظفرهما وهزيمة جيش البريدي وأنّه قد استغنى عن انزعاجه فأنفذ بجكم بالكتاب إلى بغداد وكتب به كتاب هناك قرأ على المنابر. وهمّ بجكم بالرجوع من حيث وصل إليه الكتاب بالخبر وكانت خزائنه قد سارت. فأشار عليه أبو زكريا السوسي بأن لا يرجع وقال له: - «تمضى وتتصيّد.» فعمل على ذلك. فلمّا بلغ نهر جور عرف أنّ هناك قوما من الأكراد   [1] . غصب: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: غضب، وهو خطأ. [2] . وزاد صاحب التكملة: وكان علىّ بن عيسى والنّفّرىّ يكفيان الناس على باب دورهما. [3] . نهر بو: كذا فى الأصل. وفى مط: أبوا. وفى مد: بوا والمثبت فى مد: بوق. ولعلّ «بو» لغة فى «بوق» . حسب أصله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 مياسير فشره إلى أموالهم وقصدهم متهاونا بهم فى عدد يسير من غلمانه وعليه قباء طاق [1] بلا جبّة. فهرب الأكراد من بين يديه وتفرّقوا ورمى واحدا منهم فأخطأ ورمى آخر فأخطأ واستدار من خلفه غلام من الأكراد وهو لا يعرفه فطعنه بالرمح فى خاصرته فقتله وذلك بين الطيب والمذار يوم الأربعاء لتسع بقين من رجب. واضطرب عسكره جدّا ومضى ديلمه خاصة إلى البريدي وكانوا ألف وخمسمائة رجل فقبلهم وأضعف أرزاقهم فى دفعة واحدة. وكان بنو البريدي [39] عملوا على الهرب وقد ضاقت عليهم البصرة لمراسلة بجكم أهلها بما سكّن نفوسهم فكانوا مجتمعين بمطارا. فلمّا بلغ بنى البريدي قتل بجكم فرّج عنهم ونفّس خناقهم وعاد أتراك بجكم إلى واسط وسار تكينك بهم إلى بغداد ونزلوا فى النجمى وأظهروا طاعة المتقى لله وصار أحمد بن ميمون كاتب المتقى لله قديما هو المدبّر للأمور وصار أبو عبد الله الكوفي من قبله. فكانت مدّة تقلّد أبى عبد الله الكوفي كتابة بجكم وتدبيره المملكة خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ومدّة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيّام. ووجّه المتقى بجماعة من حجّابه فوكّلهم بدار بجكم ولم يتعرّض لشيء ممّا فيها حذرا من أن يرد خبر لبجكم يبطل الخبر الأوّل. دفائن بجكم فى البيوت والصحارى فلمّا صحّ عنده قتله أحضر يكاق [2] صاحب تكينك فأثبت المواضع التي فيها المال مدفونا. فسأل عن سبب معرفته بها فذكر أنّه كان يخرج من   [1] . وفى الأصل: قباطاق (دون الهمزة) . وفى مط: فناء طاف! [2] . وفى الأصل: يكاق (مكان؟) . وفى مط: يكان (بإعجام الأوّل) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 الخزانة ويستدلّ على أنّه لدفين، ثمّ يتّتبع الأثر سرّا. فلمّا عرف البيت الذي فيه الدفين والموضع المظنون فيه المال طلب له ثقة وضمّ إلى نجاح خادم المتقى، فاستخرج شيء كثير فى قدور كبار منها عين ومنها ورق. فلمّا فرغ ممّا وجد بذل للحفّارين أن يأخذوا التراب باجرتهم فامتنعوا، [40] فأطلق لهم ألفى درهم ثمّ تقدّم بغسل التراب فغسل وأخرج منه ستّة وثلاثون ألف درهم. وكان بجكم قد دفن فى الصحارى ولم يقتصر على ما دفنه فى البيوت فكان الناس يتحدّثون أنّه إذا دفن فى الصحراء شيئا ومعه من يعاونه قتله لئلّا يدلّ على ما يدفنه فى وقت آخر فبلغ بجكم ما يقوله الناس فعجب منه. فحكى سنان بن ثابت قال: قال لى بجكم: فكّرت فيما دفنته فى دارى من المال وقلت قد يجوز أن يحال بيني وبين الدار بحوادث تحدث فلا أصل إليها فيتلف مالي وروحي، إذ كان مثلي لا يجوز أن يعيش بغير مال فدفنت فى الصحراء وعلمت أنّه لا يحال بيني وبين الصحراء. فبلغني أنّ الناس يشنّعون علىّ بأنّى أقتل من يكون معى. ولا والله ما قتلت أحدا على هذه السبيل. وأنا أحدّثك كيف كنت أعمل: كنت إذا أردت الخروج للدفن أحضرت بغالا عليها صناديق فرّغ إلى دارى فاجعل فى بعضها المال وأقفل عليها وأدخل من أريد أن يكون معى من الرجال إلى باقى الصناديق التي على ظهور البغال وأطبق عليهم وأقفل عليهم وأسيّر بالبغال، ثمّ آخذ أنا مقود القطار وأسير إلى حيث أريد وأردّ من يخدم البغال وأنفرد وحدي فى وسط الصحراء، ثمّ افتح عن الرجال [41] فيخرجون ولا يدرون أين هم من أرض الله، وأخرج المال فيدفن بحضرتى وأجعل لنفسي علامات، ثمّ أردّ الرجال إلى الصناديق وأطبقها عليهم وأقفلها وأقود البغال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 إلى حيث أريد، وأخرج الرجال فلا يدرون إلى أين مضوا ولا من أين رجعوا، واستغنى عن القتل. واستوزر المتقى لله أبا الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون وخلع عليه واستحلف أبا عبد الله الكوفي وطلب تكينك فاستتر. وقدم الترجمان من واسط، فأقرّه المتقى لله على الشرطة ببغداد. وفيها أصعد البريديون من البصرة بعد قتل بجكم. ذكر الخبر عن إصعادهم وما آلت إليه أمورهم لمّا قتل بجكم اختلف أهل عسكره. فأمّا الديلم فعقدوا الرئاسة لبلسوار ابن مالك بن مسافر الكنكرى، فهجم عليه الأتراك وقتلوه. فانحدر الديلم بأسرهم إلى البصرة مستأمنين إلى أبى عبد الله البريدي وكانوا ألفا وخمسمائة رجل مختارين منتجبين ليس فيهم حشو. فقوى البريدي بهم وعظمت شوكته واستظهر بهم على السلطان وانضاف عسكرهم إليهم فبلغوا سبعة آلاف رجل. فأصعد البريديون من البصرة إلى واسط، فراسلهم المتقى لله وأمرهم ألّا [42] يصعدوا وأن يقيموا بواسط فأرسلوا: - «إنّا محتاجون إلى مال الرجال فانفذ إلينا ما نرضيهم [1] به ونحن نقيم.» فوجّه المتقى لله أبا جعفر بن شيرزاد بعد أن ردّ عليه ضيعته مع عبد الله بن يونس صاحب بيت المال وانحدر فى جملته تكينك سرّا من المتقى لله. وقال الأتراك البجكمية والجنكاتى [2] الذي كان استأمن من جهة البريدي   [1] . نرضيهم: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: يرضيهم. [2] . الجنكاتى: هنا فى الأصل: الجنكلى، وفى سائر المواضع: الجنكاتى. وفى مط: الجنكالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 للمتقى لله: - «نحن نقاتل بنى البريدي إن جاءوا، فأطلق لنا مالا وانصب لنا رئيسا.» فأنفق فيهم وفى رجال الحضرة القدماء أربعمائة ألف دينار من المال الذي وجد لبجكم وجعل الرئيس عليهم سلامة الطولونى الحاجب وبرزوا مع المتقى لله إلى نهر ديالى. وعاد عبد الله بن يونس بجواب الرسالة من البريديين يلتمسون المال. فحمل إليهم معه من مال بجكم أيضا مائة وخمسين ألف دينار فأخذها وقال: - «أنا أحتاج إلى خمسمائة ألف دينار للديلم. فإن حملت إلىّ وإلّا فإنّ الديلم لا يمهلونى، وعلى كلّ حال أنا سائر، فإن تلقّانى المال انصرفت، وإلّا دخلت الحضرة.» فقال المتقى لله لمّا أدّيت رسالته: - «أنا قد أنفقت فى الأتراك أربعمائة وخمسين ألف دينار وفى غيرهم جملة فمن أين أعطيه ما طلب؟ دعه يرد الحضرة ويعمل ما شاء، فانّى أرجو أن أكفى أمره.» وسار أبو عبد الله البريدي [43] من واسط نحو الحضرة. فلمّا قرب منها اضطرب الأتراك البجكمية وقلعوا خيمهم [1] واستأمن بعضهم إلى البريدي وسار بعضهم إلى الجنكاتى [2] إلى الموصل ودخل سلامة بغداد واستتر أبو عبد الله الكوفي وسلامة الحاجب ومحمّد بن ينال الترجمان، وتقلّد الشرطة   [ (-) ] والمثبت فى مد: الجنكاتى (بتغليب هذا الضبط) . [1] . وفى مط: خيرهم، بدل «خيمهم» . [2] . وفى مط: الحيكانى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 مكان الترجمان أحمد بن خاقان، وتأسّف الوزير أبو الحسين على أربعمائة ألف دينار ذهبت ضياعا. ورهب الناس البريدي رهبة عظيمة لعسفه وتهوّره وطمعه، فهمّ أرباب النعم بالانتقال. فتحدّث بعض المختصّين بأبى الحسن علىّ بن عيسى قال: كنت بين يديه أنا وأولاده وأخوه وخواصّه فى تلك الأيّام ونحن نتحدّث بأمر البريدي وموافاته الحضرة ونتجارى جرأته وإقدامه وقلّة اكتراثه وأنّه ينعل الناس بنعال الدوابّ وأشارت الجماعة عليه بألّا يقيم ببغداد وأن يخرج هو وعياله إلى الموصل إلى أبى محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وفزّعناه وهوّلنا عليه وهو لا يصغى إلى رأينا، فلمّا أكثرنا عليه ترجّح رأيه. ثمّ أطلق لى مائتي دينار على أن أبكّر وأكترى له بها زواريق ليصعد هو فيها وعياله إلى الموصل. فباكرنى رسوله مع السحر يأمرنى بالمصير إليه [44] وجئت وسألنى فعرّفته أنّى ما مكّنت من امتثال أمره بمباكرة رسوله واستدعائه إيّاى. فقال: - «ويحك لفكّرت البارحة فيما أشرتم به فوجدته خارجا عن الصواب مفسدا للدين. أيهرب مخلوق إلى مخلوق؟ اصرف تلك إلى وجوه الصدقة فإنّى مقيم.» فرددتها إلى خزائنه وأقام. فلمّا قرب البريدي انحدر إليه وتلقّاه فأكرمه أبو عبد الله غاية الإكرام ووفّاه حقّه وأعظمه ومنعه من أن يخرج من طيّاره وانتقل هو إليه وشكر برّه وخاطبه بنهاية الإكرام والتعظيم. ودخل أبو عبد الله البريدي بغداد ومعه أخوه أبو الحسين وابنه أبو القاسم وأبو جعفر ابن شيرزاد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان. فنزلوا البستان الشفيعى وتلقّاه الوزير أبو الحسين ابن ميمون والكتّاب والعمّال والقضاة والوجوه وكان معه من الشذاءات والطيارات والحديديات والزبازب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 ما لا يحصى كثرة. فوجّه المتقى إليه يعرّفه أنسه بقربه وحمل له الطعام والشراب والألطاف عدّة ليال وكان يخدم فى ذلك كلّه خدمة الخلافة. وظهر محمّد بن ينال الترجمان وكان الناس يخاطبون أبا عبد الله البريدي بالوزارة ويخاطبون أبا الحسين ابن ميمون أيضا بالوزارة ويصير [45] أبو الحسين إليه بسيف ومنطقة وقباء ويخاطب كلّ واحد منهما صاحبه بالوزارة ثمّ لبس أبو الحسين الدرّاعة وأزال عن نفسه اسم الوزارة بمواطأة الخليفة وذلك لستّ خلون من شهر رمضان فكانت مدّته فيها ثلاثة وثلاثين يوما وتفرّد أبو عبد الله البريدي باسم الوزارة. فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان حضر أبو الحسين ابن ميمون ومعه ابنه أبو الفضل مجلس الوزير أبى عبد الله وكان الوزير قد واطأ القوّاد إذا حضر [1] أبو الحسين مجلسه أن يجتمعوا ويكلّموه ويتوثبوا عليه ويتهددوه بالقتل ويقولوا أنّه يضرّب [2] علينا الخليفة ويفسد علينا رأيه. ففعل الديلم ذلك فى هذا اليوم. فما زال الوزير يسكّنهم ويعرّفهم كذب ما بلغهم عنه، ثمّ قال لأبى الحسين وابنه: - «قوما ادخلا الرواق.» يوهمهما أنّه يريد أن يخلّصهما من القتل. فدخلا الرواق ووكّل بهما، وانصرف القوّاد وحصلا فى قبضه. ثمّ قال لهما بعد أيّام: - «يا أبا الحسين قد قلدتك الإشراف على واسط وأجريت لك ألف دينار فى كل شهر، فامض إلى عملك مع ابنك.» فحملا إلى واسط ومنها إلى البصرة. ولمّا قبض عليه استكتب المتقى لله على خاص أمره أبا العبّاس أحمد ابن عبد الله الإصبهانى واعتلّ أبو الحسين   [1] . إذا حضر: كذا فى الأصل. والمثبت فى مد: إن أحضر. وفى مط: إن حضر. [2] . فى مط: يصرف، بدل «يضرّب» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 بعد مدّة [46] بالبصرة ومات بها. ولم يلق الوزير أبو عبد الله طول مقامه ببغداد المتقى لله ولا دخل دار السلطان وذهب إليه الأمير أبو منصور ابن المتقى لله وهو فى النجمى ليسلّم عليه فلبس أبو عبد الله البريدي قباء أسود وعمامة سوداء وتلقّاه فى أحسن زىّ وأوفر عدّة ونثر عليه دنانير ودراهم. وراسل الوزير أبو عبد الله البريدي المتقى لله على يد القاضي أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقى وأبى العبّاس الاصبهانى يطالبه بحمل مال، فحمل إليه مائة وخمسين ألف دينار. فأخذها وراسله بأنّه لا بدّ من خمسمائة ألف دينار. فالتوى المتقى لله فقال للقاضي: - «انصحه وقل له: أما سمعت خبر المعتز بالله والمهتدى بالله والمتوكّل على الله؟ والله لئن خلّيتك والأولياء لتطلبنّ نفسك فلا تجدها وأنت أبصر. إنّما الديلم وافوا لأجل المال الذي أخذته لا إلى بغداد وعندهم أنّهم أحق به منك ولا يعرفون البيعة ولا يمين [1] لك فى رقابهم.» وكان الجواب عن هذه الرسالة الإنعام، وحمل إليه خمسمائة ألف دينار. فاستوفاها عن آخرها فى سلخ رمضان ووهب للقاضي الخرقى [2] منها خمسة آلاف دينار. ولمّا حصلت الأموال عند البريديين انصرفت أطماع الجند كلّهم. إليه وكان البريدي [47] يبعث الجند على طلب الأموال من الخليفة ويحملهم على الشغب. فلمّا استصفى مال السلطان رجعت المكيدة عليه وتشغب الجند عليه. وكان الديلم قد اجتمعوا يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان فرأسوا على أنفسهم كورنكيج بن الفاراضى [3]   [1] . يمين: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: منن. [2] . الضبط من مد. وفى مط: الحرفى. [3] . كذا فى مد ومط: الفاراضى. وما فى الأصل يشبه أن يكون: القلاصى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 الديلمي فرأس الأتراك على أنفسهم تكينك غلام بجكم وانحاز الديلم بأجمعهم إلى دار السلطان وأحرقوا دار أبى الحسين البريدي التي كان ينزلها. ونفر الجيش عن أبى عبد الله البريدي وصار تكينك إلى الديلم وتضافروا وكان سبب ذلك أنّ تكينك لم يكن كبيرا فى نفوس الأتراك. فأرسل إليه كورنكيج وخدعه وقال له: - «إن تفرّد كلّ واحد منّا عن صاحبه ضعف، وأرى أن نجتمع وتصير أيدينا واحدة.» فانخدع له وصار إليه فاجتمعوا فلمّا تمكّن منه عاجله بالقبض عليه إلّا أنّه استعان به فى العاجل لمّا اجتمعوا وواقفه [1] على قصد البريدي ونهب ما حصل عنده. فاتّفقوا على ذلك وقصدوا بأجمعهم النجمى وعاونهم العامّة فقطع الوزير أبو عبد الله الجسر ووقعت الحرب فى الماء ووثبت العامّة. فى الجانب الغربي بأسباب أبى عبد الله البريدي وقتل نعجة [2] القرمطى. فهرب الوزير أبو عبد الله البريدي وأخوه وابنه وانحدروا إلى واسط فى [48] الماء ونهبت داره فى النجمى ودور قوّاده ونهب بعض المال الذي كان حمله إليه المتقى فى ذلك اليوم. لأنّ هربه كان يوم الإثنين سلخ رمضان وآخر ما حمل إليه من بقيّة المال فى ذلك اليوم. واستتر أبو جعفر ابن شيرزاد ونهبت داره وظهر سلامة الطولونى وبدر الخرشنى. فكانت مدّة وقوع اسم الوزارة عليه أربعة وعشرين يوما. ولمّا هرب البريدي حصلت الإمارة لكورنكيج يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شوّال.   [1] . وفى مط: واقعه. [2] . كذا فى الأصل: نعجة. فى مط: نفحه (بالإهمال) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 ذكر إمارة كورنكيج فلمّا كان يوم الخميس لثلاث خلون منه لقى كورنكيج المتقى لله فقلّده إمارة الأمراء وعقد له لواء وخلع عليه. وكان يكتب له رجل من أهل إصبهان يعرف بأبى الفرج ابن عبد الرحمن واستدعى المتقى لله أبا الحسن علىّ بن عيسى وأخاه عبد الرحمن فدبّر الأمر عبد الرحمن من غير تسمية بوزارة. وقبض الأمير أبو شجاع كورنكيج على تكينك يوم السبت لخمس خلون من شوّال وغرّقه ليلا. وفى يوم الجمعة اجتمعت العامّة فى الجامع من دار السلطان وضجّوا وتظلّموا من الديلم ونزولهم فى دورهم بغير أجرة وتعدّيهم عليهم فى معاملاتهم. فلم يقع إنكار لذلك. فمنعت العامّة الإمام من الصلاة وكسرت المنبر وشغب الجند. فمنعهم الديلم من ذلك [49] فقتل بين الفريقين جماعة. واستوزر أبو إسحاق محمّد بن أحمد الإسكافى المعروف بالقراريطى للمتقى لله فكانت مدّة نظر علىّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن تسعة أيام. ذكر السبب فى وزارة القراريطى حكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي قال: كنت بحضرة كورنكيج مع كاتبه أبى الفرج وفى مجلسه علىّ بن عيسى وعبد الرحمن أخوه والقراريطى فطالب كورنكيج أبا الحسن علىّ بن عيسى بالمال وعرّفه حاجته إليه لإعطاء الرجال فبلّح [1] هو وأخوه وذكر أنّ المال قد استنظف من   [1] . بلّح: أعيا وعجز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 النواحي وأنّه لا وجه له. قال: فقال القراريطى ونحن فى المجلس فيما بيني وبينه: - «إن ردّ الأمر إلىّ أقمت به واستخرجت ما يدفع إلى الرجال ويفضل بعده جملة وافرة.» فاجتمعت مع أبى الفرج كاتب كورنكيج وعرّفته ما خاطبني به. فالتمس أن يصير إليه فى خلوة ليسمع كلامه. فأحضرته فى غد فأعاد عليه ما قاله لى وأراه وجوها لجملة من المال فذهب إلى صاحبه كورنكيج فعرّفه أن علىّ بن عيسى وأخاه قد بلّحا وأنّ القراريطى قد حضر وذكر أنّه يقوم بالأمر ويزيح علل الرجال حتّى لا يقع إخلال بشيء يحتاج إليه. فاستروح كورنكيج إلى ذلك وأمره بإحضاره ليلا فأحضره وخلا به وبكاتبه وجعله على ثقة من القيام [50] بكلّ ما يحتاج إليه ولم يبرح حتّى انعقد له الأمر ووقّف المتقى لله عليه. وأخرج إصبهان الديلمي إلى واسط من قبل الأمير أبى شجاع كورنكيج لمحاربة البريدي وكان أبو يوسف قد أصعد من البصرة إلى واسط. فلمّا سمعوا بانحدار إصبهان الديلمي انحدر البريديّون إلى البصرة وظهر ابن سنجلا وسلفه على بن يعقوب من استتارهما وصارا إلى دار الوزير أبى إسحاق القراريطى ليسلّما عليه. فقبض عليهما من داره قبل أن يصلا إليه وحملهما إلى دار السلطان وكتب فيهما رقعة إلى المتقى لله وأمر بحبسهما ونالهما مكروه غليظ بالضرب والتعليق وصودرا على مائة وخمسين ألف دينار. وفى هذه السنة سار محمّد بن رائق من الشام إلى مدينة السلام لمّا بلغه قتل بجكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 ذكر الخبر عن مسير ابن رائق من الشام ودخوله بغداد وما آل إليه أمره كان الأتراك البجكمية مثل توزون [1] وخجخج ونوشتكين وصيغون وكبارهم لمّا انصرفوا من بغداد بعد قتل بجكم وإصعاد البريدي صاروا إلى الموصل. فحاد عنهم أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وراسلوه فى إطلاق نفقاتهم فأطلق لهم ربع رزقة، فتقدّموا إلى ابن رائق بالشام فصحّ عنده قتل بجكم بمصير الأتراك إليه، وكتب إليه المتقى يخبره بقتل بجكم ويخاطبه [51] بخطاب جميل ويستدعيه إلى الحضرة فسار من دمشق. فلمّا قرب من الموصل كتب كورنكيج إلى إصبهان الديلمي بأن يصعد من واسط فأصعد ودخل بغداد وخرج لؤلؤ إلى واسط متقلّدا لها ولم يتمّ أمره ورجع من الطريق. ولمّا وصل ابن رائق إلى الموصل حاد عنه أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وجرت بينهما مراسلة تقرّر فيها أن يحمل أبو محمّد إلى ابن رائق مائة ألف دينار. فأخذها وانحدر إلى بغداد وعاد أبو محمّد بن حمدان إلى الموصل. ولمّا كان يوم الأحد لخمس بقين من ذى القعدة قبض كورنكيج على القراريطى. فكانت مدّة وزارته ثلاثة وأربعين يوما وقلّد الوزارة أبا جعفر محمّد بن القاسم الكرخي ولقى المتقى لله فى هذا اليوم وخلع عليه. وورد الخبر بدخول بنى البريدي واسطا لمّا انصرف عنها إصبهان الديلمي وخطبوا بواسط والبصرة لابن رائق وكتبوا اسمه على أعلامهم. وفيها دخل ابن رائق بغداد وانهزم كورنكيج واستتر.   [1] . وفى مط: قوزون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 ذكر الخبر عن هزيمة كورنكيج واستتاره باتّفاق وحرب لمّا قرب ابن رائق من بغداد خرج كورنكيج منها وانتهى إلى عكبرا وقلّد لؤلؤ الشرطة ببغداد وخلع عليه وانتهى ابن رائق إلى كورنكيج وابتدأت الحرب واتّصلت أياما متتابعة كانت [52] على ابن رائق. فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجّة دخل ابن مقاتل بغداد ومعه قطعة من جيش ابن رائق. وفى ليلة الخميس لتسع بقين منه دخل ابن رائق بجميع جيشه من الجانب الغربي ونزل فى النجمى وعبر فى غداة غد هذا اليوم إلى دار السلطان ولقى المتقى لله وسلّم عليه واستركبه فركب معه فى دجلة إلى زقّة الشمّاسية [1] وانحدرا من وقتهما إلى دار السلطان فصعد المتقى لله إليها وعبر ابن رائق إلى النجمى. ولمّا كان بعد الظهر من هذا اليوم وافى كورنكيج فى جيشه من عكبرا على الظهر بغداد هو وأصحابه وهم فى نهاية التهاون بابن رائق ومن معه وكانوا ينهرون ويقولون: «أين نزلت هذه القافلة الواردة من الشام.» ولمّا وصل كورنكيج إلى دار السلطان دفع عنها وكان فيها لؤلؤ وبدر الخرشنى فانصرف كورنكيج ونزل فى الجزيرة التي بين يدي إصطبل مربط الجمال وخزانة الفرش ويعرف اليوم بدار الفيل. فتحدّث أبو بكر ابن رائق بعد ذلك أنّه كان عمل على الانصراف والرجوع إلى الشام لمّا دخل كورنكيج بغداد وأنّه حمّل ثقله وابتدأ بالمسير.   [1] . فى مط: رقّة الشواسيه. وما فى الأصل مهمل فى الأول. وفى مد: زقّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 قال: ثمّ قلت فى نفسي أنصرف وأسلّم هذا الأمر. فلم تطب نفسي وقلت لفاتك حاجبي: استوقف الناس. فاستوقفهم فلم يقفوا حتّى بادر إلى بغل من بغال النقل فعرقبه. [53] فوقف حينئذ الناس وعبرت نحو من مائة رجل من أصحابى مع محمّد بن جعفر النقيب على الظهر إلى الجانب الشرقي وعبرت أنا فى سميريّة ومعى سباشى الخادم التركي ونحو من عشرين سميريّة فيها غلمان، واتفق مجيئي مجيء أصحابى على الظهر فى وقت واحد. فلمّا رشقنا [1] الديلم بالنشاب سمعوا من ورائهم الزعقات من أصحابى ومن العامّة، فاضطربوا ونخبت قلوبهم وقدّروا أنّ الجيش قد وافاهم من خلفهم وأنّهم قد ملكوا ظهورهم فانهزموا وأخذهم الرحمة من العامّة وطرحت السُّتر عليهم وهرب كورنكيج واستتر. وقيل: ما عرف أصحابه أىّ طريق أخذوا وثبت أمرنا. ذكر الخبر عن قتل الديلم وإمارة ابن رائق لمّا استتر كورنكيج وتقطّع جيشه وبطل أمره ظهر أبو عبد الله أحمد بن علىّ الكوفي لابن رائق وعاد إلى خدمته. وأمر ابن رائق بقية الديلم المستأمنة بطرح أسلحتهم وأنفذ خاتمه إلى جماعة منهم كانوا تحصّنوا فى حصن بالقرب من جسر النهروان فرجعوا ودخلوا الدار المعروفة بدار الفيل فكانوا نحو أربعمائة رجل لم يجسروا أن يتفرّقوا. فلمّا كان يوم الإثنين لخمس بقين من ذى الحجّة وجّه ابن رائق برجّالته [2] السودان إلى دار الفيل ووضعوا السيف فيمن اجتمع هناك من الديلم فقطعوهم   [1] . كذا فى الأصل: رشقنا. فى مط: رشقوا. [2] . وفى مط: برجال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 فلم يسلم منهم [54] إلّا رجل يقال له: خذاكرد، [1] وقع بين القتلى وحمل فى جملة المقتولين فى الجوالقات إلى دجلة ورمى به مع غمرة [2] فعاش مدّة طويلة بعد ذلك. وكان ابن رائق استأسر [3] من قوّاد الديلم بضعة عشر قائدا. فوجّه بهم إلى دار فاتك حاجبه وأمره بضرب أعناقهم فضربت أعناقهم صبرا فى داره. وكان من المنهزمين من الديلم قوم مضوا فى الهزيمة إلى طريق خراسان. فلمّا تجاوزوا جسر النهروان باتوا فى بعض الخانات، فسقط عليهم الخان بالليل فمات أكثرهم. ولمّا كان يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذى الحجّة خلع المتقى لله على ابن رائق وطوّقه وسوّره بطوق وسوار مرصّعين بالجوهر وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء وألزم أبو جعفر الكرخي بيته وكانت وزارته هذه ثلاثة وخمسين يوما. ودبّر الأمور أبو عبد الله أحمد بن علىّ الكوفي كاتب الأمير أبى بكر ابن رائق من غير تسمية بوزارة وأطلق أبو إسحاق القراريطى إلى منزله، ووجد كورنكيج فأخذ وحمل إلى دار السلطان. ودخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة واستوحش ابن رائق من بنى البريدي لأنّهم ما حملوا شيئا من مال واسط والبصرة. فلمّا كان يوم الثلاثاء لعشر خلون من المحرّم انحدر ابن رائق وهرب البريديون إلى البصرة وسفر بينهم [55] الكوفي إلى أن ضمن البريدي   [1] . وفى مط: حنداكرد، بدل «خذاكرد» . [2] . وفى مط: غيره، بدل «غمرة» . وفى مد أيضا: غمرة. [3] . استأسر: كذا فى الأصل. والمثبت فى مد: استامر (خلافا للأصل) . وفى مط: قد أمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 البقايا بواسط بمائة وسبعين ألف دينار ثمّ بستمائة ألف دينار فى كلّ سنة مستأنفة وأصعد ابن رائق إلى بغداد. وفيها دخل العبّاس بن شقيق ومعه رأس ما كان بن كاكى [1] الديلمي مع هدايا صاحب خراسان إلى المتقى لله من غلمان أتراك وطيب وشهابى، وشهر رأس ما كان فى شذاءة وكان على الرأس خوذة وفيه سهم قد نفذ فى الخوذة والرأس ومرّ من الجانب الآخر من الخوذة. وفيها شغّب الأتراك على ابن رائق وخرجوا إلى المصلّى ومعهم توزون ونوشتكين وأخذوا فى طريق التجنّى عليه ورحلوا سحر يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الآخر إلى البريدي بواسط. فلمّا وصلوا إليه قوى بهم جانبه واحتاج ابن رائق إلى مداراته. ذكر وزارة أبى عبد الله البريدي فكاتب أبا عبد الله البريدي بالوزارة للنصف من شهر ربيع الآخر وأنفذ إليه الخلع مع الطيب ابن سوسن، واستخلف له أبا جعفر ابن شيرزاد بالحضرة وأوصله إلى المتقى لله إلّا أنّ المدبّر للأمور كلّها أبو عبد الله الكوفي. ووردت الأخبار بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد. فأزال ابن رائق عنه اسم الوزارة وعزله بأبى إسحاق القراريطى ولزم أبو جعفر [56] ابن شيرزاد منزله واستتر. وركب المتقى على الظهر ومعه ابنه أبو منصور وابن رائق والوزير أبو   [1] . كاكى: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: كالى (خلافا للأصل) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 إسحاق القراريطى والجيش. وساروا على الظهر وبين أيديهم المصاحف المنشورة والقرّاء واستنفر العامّة لقتال البريديين. ثمّ انحدروا إلى داره فى دجلة من باب الشماسية واجتمع خلق من العيّارين بالسكاكين المجرّدة فى جميع محالّ الشرقي من بغداد. وفى يوم الجمعة لعّن بنو البريدي على المنابر فى المساجد الجامعة ببغداد. ذكر أبى الحسين البريدي فى إصعاده إلى بغداد خرج أبو الحسين من واسط مصعدا فى الجيش إلى بغداد ومعه غلمان أخيه أبى عبد الله والأتراك والديلم. فلمّا قرب من بغداد استأمن كلّ من كان معه من القرامطة إلى ابن رائق واستعدّ ابن رائق للقتال وعمل على أن يتحصّن فى دار السلطان فسدّ أكثر أبواب دار السلطان والثلم فى سورها ونصب العرّادات والمنجنيقات على السور وعلى شاطئ دجلة فى فناء الدار وطرح حول الدار الحسك والحديد واستنهض العامّة وفرض بعضهم. فصار ذلك سببا لتوزّع العصبيات بينهم واتصال الحروب وافتتن الجانب الغربي وأحرق نهر طابق ممّا يلي دار البطيح واتصلت الكبسات بالليل والنهار على قوم ذوى أموال واستقفى [1] الناس نهارا وليلا وقتل بعضهم [57] بعضا قتلا ظاهرا وفتح الحبس ودامت الفتنة. وبرزت خيم السلطان إلى نهر ديالى وخرج ابن رائق إلى الحلبة والقوّاد معه. فلمّا كان يوم الإثنين للنصف من جمادى الآخرة عبر أصحاب أبى الحسين البريدي نهر ديالى وكان لؤلؤ مقيما على شاطئ النجمى وبدر   [1] . استففى: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: واستغفر (خلافا للأصل) . استقفى فلانا بالعصا ونحوه: جاء من خلفه وضرب قفاه بها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 الخرشنى بالمصلّى وما زالت الحرب بين البريدي وابن رائق إلى وقت الظهر وما زالت الحرب فى الماء منذ ذلك اليوم إلى يوم السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة، فاشتدّت الحرب على الظهر وفى الماء، وأوقع الديلم بالعامّة الذين فرصوا [1] ودخل الديلم من أصحاب البريدي دار السلطان من جهة الماء وملكوا الدار فخرج المتقى وابنه منها هاربين فى نحو عشرين فارسا فخرجا إلى باب الشمّاسية ولحق بهما ابن رائق وجيشه ولؤلؤ ومضوا إلى الموصل. واستتر القراريطى الوزير فكانت مدّة وزارته أحدا [2] وأربعين يوما. وقتل الديلم من وجدوا فى دار السلطان ونهبوها نهبا قبيحا ودخل الديلم دور الحرم. وأقام البريدي أبو الحسين فى حديدية أيّاما على باب الخاصّة ووجد فى دار السلطان ابن سنجلا وعلىّ بن يعقوب فأطلقا. وأمّا كورنكيج فقيّده وحدره إلى أخيه أبى عبد الله فكان آخر العهد به. ووجد القاهر فى محبسه فأقرّ فيه من دار السلطان. فلمّا كان بعد أيّام صعد أبو الحسين البريدي [58] ونزل فى دار مونس وهي التي كان ينزلها ابن رائق وقلّد أبا الوفاء توزون الشرطة فى الجانب الشرقي ونوشتكين الشرطة فى الجانب الغربي وأخذ الديلم فى النهب والسلب وكبست الدور وأخرج أهلها ونزلت ولم يزل الناس على ذلك إلى أن تقلّد توزون ونوشتكين الشرطة، فإنّ الفتنة سكنت قليلا. وأخذ أبو الحسين البريدي حرم توزون وابنيه وعيالات أكثر القوّاد والأتراك وأنفذهم إلى أخيه ليكونوا رهائن فى يده. وغلت الأسعار ببغداد وظلم البريدي الظلم المعروف لهم وافتتح الخراج   [1] . فرصوا (بالصاد المهملة) : كذا فى الأصل. وفى مط: فرضوا (بالمعجمة) . وهو المثبت فى مد. [2] . وفى الأصل: أحد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 فى اذار فخبط التنّاء حتّى تهاربوا وافتتح الجوالى وخبط أهل الذمة وأخذ الأقوياء بالضعفاء ووظف على كرّ من الحنطة سبعين درهما وعلى سائر المكيلات وعلى الزيت وقبض على نحو خمسمائة كرّ كان للتجار ورد من الكوفة وادعى أنّه للحسن بن هارون المتقلّد كان للناحية وهرب خجخج إلى المتقى لله وكان أخرج إلى برزج سابور والراذانين. وكان توزون ونوشتكين والأتراك تحالفوا على كبس أبى الحسين البريدي فغدر نوشتكين بتوزون ونمى الخبر إلى أبى الحسين البريدي فتحرّز وأحضر الديلم داره واستظهر بهم. وقصد توزون دار أبى الحسين فحاربه من كان فيها من الديلم وغلّقت الأبواب دونه وانكشف لتوزون غدر نوشتكين [59] فلعنه وانصرف ضحوة يوم الثلاثاء ومضى مع قطعة وافرة من الأتراك إلى الموصل واضطرب العامّة وقاتلوا البريدي. ولمّا صار توزون وخجخج والأتراك إلى الموصل وقوى بهم ابن حمدان عمل على أن ينحدر مع المتقى لله إلى بغداد وبلغ ذلك أبا الحسين البريدي وكتب إلى أخيه يستمدّه فأمدّه بجماعة من القوّاد والديلم وأخرج أبو الحسين مضربه إلى باب الشمّاسية وأظهر أنّه يحارب ابن حمدان إن وافى. وذلك كلّه بعد أن قتل محمّد بن حمدان ابن رائق وسنشرح خبره على إثر هذا الحديث. فلمّا قرب المتقى وأبو محمّد بن حمدان من بغداد انحدر أبو الحسين هاربا وجميع جيشه وأخذ معه من كان معتقلا فى يده يطالبه مثل ابن قرابة وأبى عبد الله بن عبد الوهّاب وعلىّ بن عثمان بن النفّاط ومن أشبههم. فاضطرب العامّة ببغداد زيادة اضطراب ونهبت الدور وتسلّح الناس فى الطرقات ليلا ونهارا وكانت مدّة أبى الحسين البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما. ولمّا وصل المتقى لله وابناه ومحمّد بن رائق ومن معهم إلى تكريت وجدوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 هناك وهم مصعدون إلى الموصل بعد، أبا الحسن علىّ بن عبد الله بن حمدان. وذاك أن ابن رائق لمّا قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبى محمّد ابن حمدان يسأله مددا ومعاونة على قتاله. فأنفذ أبو محمّد أخاه فلم يلحقهم إلّا بتكريت [60] وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل. فلمّا التقوا أقام علىّ بن حمدان للمتقى لله وابنه وابن رائق والقوّاد كلّ ما يحتاجون إليه من الميرة والثياب والفرش والدراهم وما قصر فى أمرهم وساروا بأجمعهم إلى الموصل. فلمّا وصلوا إليها حاد عنها أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وعبر إلى الجانب الشرقي ومضى إلى نواحي معلثايا [1] . فما زالت الرسل تتردّد بينه وبين محمّد بن رائق إلى أن توثّق بعضهم من بعض بالأيمان والعهود والمواثيق حتّى أنس أبو محمّد وعاد فنزل فى الشرقي بإزاء الموصل. ذكر الخبر عن مقتل ابن رائق فعبر إليه الأمير أبو منصور ابن المتقى لله ومعه أبو بكر ابن رائق [2] يوم الإثنين لتسع بقين من رجب ليسلّموا عليه. فلقيهم أجمل لقاء ونثر على الأمير أبى منصور الدنانير والدراهم. فلمّا أراد الانصراف من عنده ركب الأمير أبو منصور ثمّ قدّم فرس ابن رائق ليركب من داخل المضرب فأمسك أبو محمّد بن حمدان كمّه وقال له: - «تقيم اليوم عندي لنتحدّث، فإنّ بيننا ما نتجاراه.» فقال له ابن رائق:   [1] . معلثايا: بليدة قرب جزيرة ابن عمر من نواحي الموصل (مراصد الاطّلاع) . [2] . وفى مط: راتق، بدل «رائق» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 - «اليوم لا يجوز لأنّى أن أرجع مع الأمير ولكن يكون يوما آخر.» فألحّ عليه ابن حمدان إلحاحا استراب به ابن رائق فجذب كمّه من يده حتّى تخرّق، وكان رجله فى الركاب فشبّ به الفرس فوقع [61] وقام ليركب فصاح أبو محمّد بغلمانه وأمرهم بالإيقاع به وقال: - «ويلكم لا يفوتكم.» فوضعوا عليه السيوف وقتلوه. وأرسل أبو محمّد ابن حمدان إلى المتقى لله أنّه وقف على أنّ ابن رائق أراد أن يغتاله ويوقع [1] به فجرى فى أمره ما جرى فردّ المتقى عليه الجواب يعرّفه أنّه الموثوق به ومن لا يشكّ فيه ويأمره بالمصير إليه فعبر ولقيه. ذكر إمارة أبى محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان فخلع عليه المتقى وعقد له لواء ولقّبه ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء وكنّاه، وكان ذلك مستهلّ شعبان، وخلع على أخيه علىّ وعلى أبى عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وكتب إلى القراريطى بتقليده الوزارة وذلك فى شوّال وجلس فى داره وقلّد وعزل وأمر ونهى وضبط الأمر إلى أن وافى المتقى وناصر الدولة أبو محمّد. خبر محاربة البريدي مع ابن حمدان دخل المتّقى بغداد [2] مع ناصر الدولة أبى محمّد وأخيه علىّ وجميع الجيوش وعملت لهم العامّة القباب ونزل ناصر الدولة وأخوه فى البستان   [1] . وفى مط: بويع، بدل «يوقع» . [2] . بغداد: وفى الأصل بالذال الموجهة: بغداد، فى أكثر المواضع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 الشفيعى. ولقى الوزير القراريطى المتقى لله وناصر الدولة. وتقلّد أبو الوفاء توزون الشرطة فى جانبي بغداد وخلع المتقى على الوزير أبى إسحاق القراريطى [62] خلع الوزارة يوم الإثنين لليلتين خلتا من ذى القعدة وفى يوم الخميس خلع المتقى لله على ناصر الدولة وأخيه وطوّقا وسوّرا بطوقين طوقين وأربعة أسورة ذهبا وعلى أبى عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان وطوّق بطوق واحد وسوارين ذهبا. وورد الخبر بأنّ أبا الحسين علىّ بن محمّد البريدي قد أصعد من واسط يريد الحضرة. فاضطرب الناس ببغداد وعبر المتقى إلى الزبيدية ليكون مع ناصر الدولة وقدّم حرمه إلى سرّ من رأى وهرب جماعة من وجوه أهل بغداد وعبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي منها وسار أبو الحسن علىّ بن عبد الله بن حمدان فى الجيش وكان مع أبى الحسين البريدي لمّا أصعد من واسط أبو جعفر ابن شيرزاد وأبو بكر ابن قرابة والديلم وجيش عظيم. فكانت الوقعة بين أبى الحسن علىّ بن حمدان وبين البريدي يوم الثلاثاء انسلاخ ذى القعدة ويوم الأربعاء مستهلّ ذى الحجّة ويوم الخميس ويوم الجمعة لثلاث وأربع خلون من ذى الحجّة فى القرية المعروفة بكيل أسفل المدائن بفرسخين ومع ابن حمدان توزون وخجخج والأتراك. فكانت أولا على علىّ بن عبد الله بن حمدان وانهزم أصحابه فردّهم ناصر الدولة وكان ناصر الدولة بالمدائن. ثمّ صارت على أبى الحسين البريدي. [63] فانهزم واستؤسر من أصحابه يانس غلام البريدي أبى عبد الله وأبو الفتح ابن أبى طاهر ومحمّد بن عبد الصمد ومذكر البريدي والفرج كاتب جيش البريدي واستأمن إلى ابن حمدان محمّد بن ينال الترجمان وإبراهيم بن أحمد الخراساني وحصل له جمع الديلم الذين كانوا فى عسكر البريدي وقتل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 جماعة من قوّاد [1] البريدي وعاد البريدي إلى واسط مهزوما مفلولا ولم يبق فى علىّ ابن حمدان وأصحابه فضل لأتباعه لعظم ما مرّ بهم ولكثرة الجراح فيهم. ولسبع خلون من ذى الحجّة عاد المتقى لله من الزبيدية إلى دار الخلافة على ثلاث ساعات ونصف وعاد الحرم من سر من رأى ومن كان هرب إليها من بغداد. ودخل ناصر الدولة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذى الحجّة بغداد وبين يديه يانس [2] غلام البريدي وأبو الفتح بن أبى طاهر والمذكر البريدي مشهرين على جمال وعلى رؤوسهم برانس وكتب عن المتقى كتاب الفتح إلى الدنيا ولقّب المتقى لله أبا الحسن علىّ بن عبد الله بن حمدان لما فتح هذا الفتح: سيف الدولة، وأنفذ إليه خلعا وكتب فيه كتابا. وانحدر سيف الدولة إلى واسط فوجد البريديين قد انحدروا منها إلى البصرة وأقام بها ومعه الأتراك والديلم وسائر الجيش. ذكر حيلة ابن مقاتل على ناصر الدولة [64] وراسل أبو بكر محمّد بن علىّ بن مقاتل ناصر الدولة على يد أبى زكريّا السوسي، فأخذ له أمانا من ناصر الدولة واشترط فيه ابن مقاتل أنّه إن [3] استقرّ بينه وبين ناصر الدولة مصادرة ينهض بها ويطيب نفسه لها أقام على ظهوره. وإن لم يستقرّ عاد إلى استتاره. فلمّا ظهر تباعد ما بينهما. فقال له ناصر الدولة:   [1] . فى مط: فزاد، بدل «قوّاد» . [2] . وفى مط: تانس، بدل «يانس» . [3] . ما فى الأصل دون «إن» فزدناها من مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 - «عد إلى استتارك.» فقال ابن مقاتل: - «لم أحدّ لذلك حدا، فإذا شئت فعلت.» فضجّ ناصر الدولة من ذلك لأنّه مضطرّ إلى الوفاء بعهده وعلم أنّ الحيلة قد تمّت عليه. فاضطرّ إلى أن فصل أمره على مائة وثلاثين ألف دينار. ونظر ناصر الدولة فى أمر النقد والعيار فأمر بتصفية العين والورق وضرب دنانير سمّاها: الإبريزيّة، [1] من أجود عيار وكتب فى ذلك كتابا. وفى هذه السنة استولى الديلم على أذربيجان ذكر السبب فى ذلك إنّ ديسم بن إبراهيم لمّا تمكن من أذربيجان- وقد كتبنا خبره فيما تقدّم- كان معظم جيشه الأكراد إلّا طائفة يسيرة من بقية عسكر وشمكير اختاروا المقام معه حين ردّ عسكر وشمكير إليه. فتبسّط عليه الأكراد وزاد أمرهم فى الإدلال والتحكّم إلى أن صاروا يتغلّبون على حدود أعماله فنظر فى أمره فلم يجد من يستظهر عليهم بهم إلّا الديلم، فاجتذب جماعة من أكابرهم [65] منهم صعلوك بن محمّد بن مسافر وأسفار بن سياكولى [2] وجماعة من أمثالهم وصار إليه جماعة من الموصل وفيهم رجل كان من قوّاد بجكم فنفاه بجكم من عسكره لشيء أنكره منه يقال له: علىّ بن الفضل الصولي، فأفضل عليه ديسم وموّله وعظّم محلّه فاجتذب الديلم إليه. فلمّا قويت شوكة ديسم بهم انتزع من يد الأكراد ما كانوا تغلّبوا عليه وقبض على جماعة من   [1] . وزاد فيه صاحب التكملة: وبيع الدينار منها بثلاثة عشر درهما بعد أن كان عشرة. (من حواشي مد) . [2] . ما فى مط: مهمل تماما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 رؤسائهم وازداد من عدّة الديلم واستظهر بهم. وكان يتولّى [1] وزارته أبو القاسم علىّ بن جعفر وكان من كتّاب أذربيجان وكثرت سعاية أعدائه به. فأخافه ديسم وأوحشه حتى هرب منه إلى الطرم ليعتصم بمحمّد بن مسافر فوافق وصوله إليه الوقت الذي استوحش فيه ابناه منه: وهسوذان والمرزبان، وملكا عليه قلعته المعروفة بسميران [2] وكان السبب فى وحشتهما قبح سيرته وسوء معاملته لأهل بيته وقبضه عليهم لغير ذنب كبير وذلك لشرّ كان فى طبعه. وكان استوحش منه وهسوذان فصار إلى أخيه المرزبان وكان فى قلعة من قلاع أبيه بالطرم فعلم محمّد بن مسافر أنّه لا يتمكن من القبض عليه إلّا بعد أن يفرّق بينه وبين أخيه فكتب إلى المرزبان يستدعيه فقال وهسوذان له: - «انى لا أقيم فى القلعة بعدك.» وأعلمه أنّه إن [66] فارقه تمكّن منه وقبض عليه فقال له المرزبان: - «فاخرج معى.» فلمّا صاروا فى بعض الطريق ظفرا برسول لأبيهما كان أنفذه سرّا إلى المقيمين فى القلعة يأمرهم إذا خرج المرزبان أن يقبضوا على وهسوذان والاحتياط عليه وعلى القلعة. فعجبا من ذلك وجمعهما الاستيحاش من أبيهما، فوصلا إلى قلعة أبيهما وقد خرج أبوهما إلى قلعة أخرى، فعرّفا أمّهما خراسوية ما كتب أبو هما فيهما وكانت أمهما هذه جزلة فساعدتهما على القلعة وفيها ذخائر محمّد بن مسافر وأمواله فاستوليا عليها وتمكّنا منها. فلمّا   [1] . يتولّى: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: متولّى. [2] . وفى الأصل: شميران (بالشين المعجمة) . وفى مط ومد: سميران. وسميران قلعة حصينة على نهر جار بين جبال ولاية تارم، خرّبه صاحب ألموت، وهي قلعة ملك الديلم (مراصد الإطلاع) وشميران بلد بأرمينة وقرية بمرو الشاهجان (مراصد الإطلاع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 عرف محمّد بن مسافر ذلك تحيّر فى أمره وحصل فى القلعة التي كان قصدها وحيدا قد فرّق بينه وبين نعمته. فلمّا وصل علىّ بن جعفر كاتب ديسم إلى هذه الصورة اعتصم بالمرزبان وأطمعه فى أذربيجان فضمن له أن يملكه إيّاها فيوصله إلى أموال جليلة من ارتفاعها من وجوه يعرفها. فنفق عليه وقرب من قلبه وقلّده وزارته واتّفقا مع ذلك على عصمة فى الدين. وذاك أنّ علىّ بن جعفر كان من دعاة الباطنية وكان المرزبان معهودا فيهم فأذن له المرزبان أن يدعو إلى هذا المذهب ظاهرا. فاجتمع له كل ما أراده. وكاتب عسكر ديسم وكان يعرف من استوحش من ديسم [67] ومن هو غير راض عنه ومن لا يرضى مذهب ديسم لأنّ ديسما كان يرى رأى الشراة وكذلك كان أبوه وكان يصحب هارون الشاري أعنى أباه. فلمّا قتل هرب إلى أذربيجان وتزوّج إلى رئيس من أكرادها فولد ديسم فاصطنعه ابن أبى الساج وارتقى معه إلى ما ارتقى إليه. ولم يزل علىّ بن جعفر يضعضع [1] أركانه ويفسد قلوب أصحابه وخاصة الديلم إلى أن استجاب له أكثر أصحابه وكاتبوه وقالوا: - «إن صار إلينا المرزبان فارقنا ديسما بأجمعنا.» فلمّا وثق المرزبان بذلك من ثبات أصحاب ديسم سار إلى أذربيجان وسار إليه ديسم. فلمّا صافّه الحرب قلب الديلم تراسهم فى وجهه وصاروا إلى المرزبان وكانوا نحو ألفى رجل واستأمن معهم كثير من الأكراد وحمل عليه المرزبان ففرّق عنه من بقي معه وانهزموا وهرب فى طائفة يسيرة إلى أرمينية واعتصم بجاجيق بن الديراني لمودّة كانت بينهما، فأحسن ضيافته   [1] . يضعضع: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: يصعصع. ولكليهما معنى يناسب العبارة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 وحمل إليه ما يحمل إلى مثله. فاستأنف ديسم يألف الأكراد وعرف خطأه فى الاستكثار من الديلم وكان أشار عليه بعض النصحاء الفضلاء أن لا يرتبط من الديلم أكثر من خمسمائة رجل فعصاه [1] . وملك المرزبان أذربيجان وجرى أمره على سداد بتدبير كاتبه علىّ بن جعفر إلى أن أفسد ما بينه وبينه. [68] ذكر السبب فى ذلك كان له كاتب يعرف بأبى سعيد عيسى بن موسى ويعرف بعيسكويه، فسعى عليه وأطمع المرزبان فى ماله، وكان علىّ بن جعفر قد أوحش جماعة من حاشية المرزبان فتضافروا عليه وعارضوه فى تدبيره وأحس علىّ بن جعفر بذلك فاحتال على المرزبان بأن أطمعه فى أموال عظيمة يثيرها له من بلد تبريز- وتبريز هذه مدينة جليلة وعليها سور حصين وحواليها غياض وأشجار مثمرة وهي حصينة وأهلها ذو بأس ونجدة ويسار- فضمّ إليه المرزبان جستان بن شرمزن ومحمّد بن إبراهيم ودلير بن أورسفناه [2] والحاجب الحسن بن محمّد المهلبي فى جماعة من ثقاته فسار علىّ بن جعفر إلى تبريز. فلمّا تمكّن بها استمال أهل البلد وكتب إلى ديسم يتلافاه ويستدعيه ويعده من نفسه أن يقتل الديلم ويوازره حتى يعود إلى مملكته. فأجابه ديسم بأنّه لا يثق به إلّا بعد أن يوقع بالديلم فواطأ أهل البلد على الإيقاع بهم وأعلمهم أنه إنّما حضر لطمع المرزبان فيهم وأنّ الديلم لا يساعدونه على صلاح أمرهم وهم لا يرضون إلّا باستئصالهم. فواطأه أهل البلد على الوثوب بهم فى   [1] . فعصاه: كذا فى الأصل ومط: والمثبت فى مد: بعصاه. وهو خطأ. [2] . اورسفناه: كذا فى الأصل ومط ومد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 يوم ذكره وأحضر القوّاد المذكورين فى ذلك اليوم فقبض فى داره عليهم وقتل الديلم فصار إلى ديسم فى العسكر الذي اجتمع [1] له. وكان المرزبان أساء إلى [69] الأكراد الذين استأمنوا إليه. فوافق ذلك ظهور ديسم بتبريز فصاروا بأجمعهم إليه واتصل بالمرزبان ما جرى على الديلم فندم على إيحاش علىّ بن جعفر واستماع كلام أعدائه فيه، واستوزر أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن محمود وخلع عليه ولقّبه: المختار. ثمّ استعدّ وسار إلى تبريز وقد سبقه ديسم فجرت بينهما حروب وثبت الديلم وانهزم الأكراد. فعاد ديسم إلى تبريز متحصنا بها وحامى أهلها عليه وذلك لما سبق من فعلهم بالديلم، وحاصرهم المرزبان وابتدأ فى استصلاح علىّ بن جعفر ومراسلته وإعطائه عهد الله وميثاقه والعصمة التي بينهما من الدين على أن يعود له. فأجابه علىّ بن جعفر بأنّه لا يريد من جميع ما بذله له إلّا السلامة وأنّه ما فارق ديسما حين فارقه إلّا هربا من المكروه ولا فارقه الآن وعاد إليه إلّا هربا من مثل ذلك وأنّ الذي يلتمسه منه أن يعفيه من العمل ويصونه فى نفسه وحاله ليلزم منزله ويروح ويغدو إليه. فأجابه إلى ذلك وسفر بينهما من الثقات الذين يجمعهم الدين من وثق له بجميع ما أراد فسكن إليه. واشتدّ الحصار على ديسم فثلم ثلمة فى سور المدينة ليلا وخرج منها هو وأصحابه إلى أردبيل ولم يجسر المرزبان على اتّباعه فى الوقت، خوفا من أن يعطف عليه فى صعاليكه [70] ويخرج من ورائه أهل تبريز. فتأخّر عنه وخرج إليه علىّ بن جعفر فوفى له وأقام أهل تبريز على ممانعته.   [1] . كذا فى الأصل ومط: اجتمع. والمثبت فى مد: أجمع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 ذكر ما آل إليه أمر ديسم بعد حصوله بأردبيل لمّا عرف المرزبان حصول ديسم بأردبيل خلف على تبريز بعض جيشه وصار فى معظم العسكر إليه واستدعى أخاه وهسوذان إليه فى جماعة من أطاعه وجدّ فى محاصرة ديسم. وكان ديسم استوزر بعد مفارقة علىّ بن جعفر أبا عبد الله محمّد بن أحمد النعيمي، فراسله المرزبان وتلطّف له ووعده أن يستوزره، فاستجاب له وآثره على ديسم وواطأه على التدبير عليه. ذكر حيلة النعيمي على ديسم حتى فارق الحصار وخرج إلى المرزبان أخذ النعيمي فى المشورة على ديسم بأن ينفذ إلى المرزبان وجوه أردبيل ليسألوه الصلح ويعاهدوه ويستوثقوا منه بالأيمان المؤكدة على أن يؤمنه ليدخل فى طاعته وخوّفه من طول الحصار واستيحاش أهل البلد وأنّهم سيواطئون المرزبان ويسلمونه بأن يفتحوا له الباب وأعلمه أنه قد وقف من ذلك على أمر سيظهر له إن لم يبادر بالصلح. ونظر ديسم فى أمره فوجد الصورة قريبة ممّا خوّفه منه وذلك أنّ الحصار كان قد اشتدّ وانقطعت الميرة عنه [71] وعن جنده وعن أهل البلد فالجميع فى شدة والدمدمة كثيرة والناس مستوحشون وعلى يأس من الصلاح وخوف من زيادة المكروه. وأنفذ ديسم إليه وجوه البلد وأعيانهم ومذكوريهم ليتوثقوا له نهاية التوثيق. وراسل أبو عبد الله النعيمي المرزبان بأن يحتبس هؤلاء الوجوه ولا يردّهم إلى البلد إلّا بعد خروج ديسم إليه، لئلا يتغيّر الأمر أو يحدث ما ينقض رأيه ولأنّ أهل البلد إذا حبس عنهم وجوههم ورؤساؤهم اجتمعوا عليه ولم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 يمهلوه، وعرّفوه أنّه قد أمن على نفسه بالأيمان التي سألها وسكن إلى ما بذل له وليس لتأخره عن الخروج وجه ويشيّد هو أيضا كلامهم ويؤيّده ولا يقنع منه إلّا بالخروج إليه فى أسرع وقت وأقربه. ففعل المرزبان ذلك واضطرب أهل البلد على ديسم لحصول رؤسائهم فى يد المرزبان فخرج إليه. فلما أتاه خبره تلقّاه وأكرمه وأعظمه ووفى له بكل ما واقفه [1] عليه وقلّد أبا عبد الله النعيمي وزارته وقبض على ابن محمود وسلّمه إليه فصادره وجميع أصحابه وصادر وجوه البلد واستخرج أموالا عظيمة. واستقامت أمور المرزبان وخطب له [72] على جميع منابر أذربيجان. حثّ على الإعتبار بما كان فليعتبر الناظر فى هذا الكتاب هل أوتى هؤلاء الملوك إلّا من سوء تحفّظهم واشتغالهم عن ضبط أمورهم وتفقّدها بلذّاتهم وشهواتهم، وإغفالهم [2] أمر أصحاب الأخبار وتركهم تعرّف نيات وزرائهم وقوّادهم وأمور عساكرهم، وتعويلهم على الاتّفاقات والدول التي لا يوثق [3] بها، وقلّة تصفّحهم أحوال الملوك قبلهم ممّن استقامت أمورهم كيف كانت سيرتهم وكيف ضبطوا ممالكهم ونيّات أصحابهم بضروب الضبط: أولا بالدين الذي يحفظ نظامهم ويملك سرائهم ثمّ بأصحاب الأخبار الثقات والعيون المذكاة على مدبّرى أمورهم والتفقّد لهم يوما يوما   [1] . واقفه: كذا فى الأصل. وفى مط ومد: وافقه، خلافا للأصل. [2] . وفى مط: اعتقالهم، بدل «إغفالهم» . [3] . وفى مط: لأبويه بها، بدل «لا يوثق بها» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 وحالا فحالا، وترك إيحاشهم ما أمكن، ومداراة من تجب مداراته، والبطش بمن لا حيلة فى استصلاحه ولا دواء لسريرته. وقد كان حصفاء الملوك يخرجون من خزائنهم الأموال العظيمة جدا إلى أصحاب الأخبار ولا يستكثرونها فى جنب ما ينتفعون به من جهاتهم. فأما ما انتهى إليه أمر ديسم فإنّه خاف بعد ذلك على نفسه وسأل المرزبان أن يخرجه إلى قلعته بالطرم ليقيم فيها مع أهله ويقبض على ارتفاع ضياعه وهو ثلاثون ألف دينار فى السنة وهو دون ما كان يبذله المرزبان له ويتكلّفه من مؤونته. [73] فأجابه إلى ذلك وحصل فى القلعة مصونا فى أهله ونفسه وضياعه. ودخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وفيها وافى الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى عسكر أبى جعفر بإزاء البصرة وأظهر أنّ السلطان كاتبه فى حرب البريدي. فأقام مدّة يحاربهم ثمّ استأمن جماعة من قوّاده إلى البريديين مثل روستاباش وغيره. فاستوحش من المقام وعاد إلى الأهواز بعد أن استأمن إليه جماعة من عسكر البريدي. وفيها زوّج ناصر الدولة ابنته من الأمير أبى منصور ابن المتّقى ووقّع الأملاك والخطبة بحضرة المتقى ولم يحضر ناصر الدولة وجعل العقد إلى أبى عبد الله محمّد بن أبى موسى الهاشمي. وكان الخاطب القاضي الخرقى فلحن فى مواضع وجعل الصداق والنحلة واحدا وجعلها صداقا وكان الصداق خمسمائة ألف درهم والنحلة مائة ألف دينار ولم يحسن أن يعقد التزويج الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 فعقده ابن أبى موسى. القبض على القراريطى وجعل اسم الوزارة على أبى العباس الإصفهانى وفى رجب من هذه السنة عبر الوزير أبو إسحاق القراريطى إلى ناصر الدولة على رسمه، فقبض عليه وعلى جماعة معه. فكانت مدّة وزارته ثمانية أشهر وستة عشر يوما وجعل اسم الوزارة على أبى العباس أحمد بن عبد الله الإصفهانى وخلع عليه المتقى خلع الوزارة [74] فى دار السلطان لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب وانصرف بها إلى دار الأمير ناصر الدولة. فكان يلبس القباء والسيف والمنطقة فى أيام المواكب والمدبر للأمور أبو عبد الله الكوفي وصودر القراريطى والكتّاب والمتصرّفون. استيفاء عدد الأيدى والأرجل المقطوعة وكان ناصر الدولة ينظر فى قصص أصحاب الجنايات من العامّة وفيما ينظر فيه صاحب الشرطة وتقام الحدود الواجبة عليهم من ضرب وقطع يد ورجل بحضرته وتعرض عليه الأيدى والأرجل إذا قطعت وتعد بحضرته ويستوفى العدد عليهم لئلا يرتفق أصحاب الشرطة من الجناة ويطلقوا من غير علمه. ذكر ما آل إليه أمر سيف الدولة بواسط مع الأتراك وما اتصل بذلك من خبر ناصر الدولة ببغداد كان سيف الدولة أبو الحسن مقيما بواسط مفكرا فى أن يسير بالجيش الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 والأتراك إلى البصرة ليفتحها. وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال ويضايق الأتراك خاصة وكان توزون وخجخج يسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط ويتحكّمان عليه حتّى ضاق ذرعا بهما. وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفي إلى سيف الدولة أخيه ومعه ألفى ألف درهم وخمسين ألف دينار لينفق فى الأتراك. فوثب توزون وخجخج به بحضرة سيف الدولة وأسمعاه مكروها. فضمّه [75] سيف الدولة إلى نفسه ثمّ ستره فى بيت وقال لهما: - «أما تستحيان منّى فتجاملانى فى كاتبي.» ثمّ واقف [1] سيف الدولة كاتب خجخج أن يسير خجخج إلى المذار ويسوّغه ارتفاعها إذا حماها وواقف [2] أبا علىّ المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامدة ويوهب له ارتفاعها وعليه حمايتها. وانتظم هذا التدبير وعاد الكوفي إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة ورهب أن يعود إلى منزله وعبر خجخج إلى غربي واسط للمسير واستعدّ توزون أيضا للمسير إلى الجامدة. فوافى أبو عمرو المسيحي وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هاربا من ناصر الدولة إلى أخيه أبى علىّ المسيحي وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطه إليه يقول فيه: - «قد اتّصل طمعك فىّ وانبساطك علىّ وأنا محتمل وأنت مغترّ. وبلغني إدخالك يدك فى وقف فلان. وو الله لئن لم تخلّصها وتقصر عن فعلك المذموم لأقطعنّ يديك ورجليك.» فزعم أبو عمرو المسيحي أنّه قرأه وانحدر وذكر أنه قال له قبل ذلك   [1] . واقف: كذا فى الأصل بوضوح. وهو ساقط فى الأصل والمثبت فى مد: وافق. [2] . واقف: كذا فى الأصل ومط بوضوح. والمثبت فى مد: وافق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 بأيام: - «يا مسيحىّ، أنت مجتهد فى أن تجعل توزون أميرا وعلى رأسك تحثو التراب. إن بلغ ما تؤمّله له لم يرضك كاتبا لنفسه وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهه فاستكتبه وأنف منك فصادرك.» فتلافى سيف الدولة أبا عمرو [76] المسيحي وواراه وراسل توزون وسكّنه. وكان سيف الدولة كثيرا يزهّد الأتراك فى العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر ويضرّب بينهم وبين أخيه فكانوا يصدقونه فى أخيه ويأتون عليه فى البعد من العراق وكانوا يستحبّون [1] على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم وينصّون على أن يوفيهم يوم الستين من أيامهم استحقاقهم ويستصغرونه وأخاه. فلمّا وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له: - «نحتاج أن تحمل مال قائد قائد ورجاله وتوفّينا ذلك بالقبّان وزنة واحدة مالا مالا.» فأجاب إلى ذلك قطعا للحجّة، وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار فصبر على ذلك كلّه وأذن فيه. وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفي ليلا وضمّ إليه ابن عمّه أبا وليد فى جماعة من العرب وأصعد معه بنفسه إشفاقا عليه ثمّ وصّى العرب حتّى بلغوا به المدائن. فلمّا كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان كبس الأتراك سيف الدولة بالليل وهرب من معسكره ولزم نهرا بقرب معسكره، فأدّاه إلى قرية تعرف ببرقة ولزم البريّة حتّى وافى بغداد. وأضرم الأتراك النار فى عسكره وقد كان بقي من المال المحمول إليه مع الكوفي من عند أخيه شيء لم يفرّق   [1] . تسحّب فى حقّ فلان: اغتصبه وأضافه إلى حقّه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 فيهم فنهبوه ونهب جميع سواده [77] فهذا خبر سيف الدولة بواسط. خبر ناصر الدولة ببغداد فأمّا خبر ناصر الدولة ببغداد فإنّ أبا عبد الله الكوفي وصل إلى بغداد ولقى ناصر الدولة ووصف له الصورة فبرز ناصر الدولة إلى باب الشمّاسية وركب إليه المتقى لله فى دجلة يسأله التوقّف عن الخروج من بغداد فعبّر ناصر الدولة غلمانه إلى الجانب الشرقي من بغداد وأكثر جيشه ليوهم الأتراك أنه يعبر ويسير فى الجانب الشرقي. فلمّا حصل جيشه فى الجانب الشرقي قطع الجسر وسار ناصر الدولة فى الجانب الغربي فنهبت داره، وأفلت يانس غلام البريدي وأبو الفتح ابن أبى طاهر من الحبس وعادا إلى البصرة، واستتر أبو عبد الله الكوفي، وخرج من بقي من الديلم ببغداد إلى المصلّى وعسكروا هناك، وضبط الأتراك الذين كانوا ببغداد دار السلطان، ورحل الديلم من المصلّى ودبّر الأمور بالحضرة أبو إسحاق القراريطى من غير تسمية بوزارة، وانعقدت الرئاسة بواسط لتوزون. فكانت مدّة إمارة ناصر الدولة أبى محمّد ابن حمدان ثلاثة عشر شهرا وثلاثة أيام. ذكر ما جرى من أمر توزون بواسط مع الأتراك بعد هزيمة سيف الدولة حتّى تمّت له الإمارة لمّا انصرف سيف الدولة من واسط على تلك الصورة وعاد توزون وخجخج إلى معسكرهما وقع الخلاف [78] بينهما وتنازعا الرئاسة ثمّ استقرّت الحال على أن يكون توزون الأمير وجيء بالآس والريحان إليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 على رسم العجم إذا ترأّس واحد منهم، وعلى أن يكون خجخج صاحب جيش وهو الاسفهسالار، وأمضى القوّاد ذلك عليهما بغير رضى جماعة. ثمّ صاهر القوّاد بينهما وطمع البريدي بواسط فأصعد إليها وتقدّم توزون إلى خجخج أن ينحدر إلى نهر أبان ويراعى من يرد من أصحاب البريدي ويطالعه فنفذ. ووافى عيسى بن نصر برسالة البريدي إلى توزون يهنّئه بالإمارة ويسأله أن يضمّنه أعمال واسط ويعرّفه عنه أنّ الرأى تعجّله إلى الحضرة لإخراج ابن حمدان عنها. فأجابه جوابا جميلا وامتنع من التضمين وقال: - «إذا استقرّت الأمور تخاطبنا فى الضمان فأمّا وأنا بصورتي هذه وأنت تظنّ انى مطلوب خائف من بنى حمدان فلا وعسكري عسكر بجكم الذي قد جرّبت وخبرت وطائفة منهم تفي لك.» وانصرف عيسى بن نصر وأتبعه توزون جاسوسا. ذكر سبب قبض توزون على خجخج وسملة إيّاه فعاد إليه الجاسوس وأعلمه أنّه اجتمع مع خجخج وتخاليا طويلا وأنّ خجخج على الاستئمان إلى البريدي. فسار إليه توزون للثاني عشر من رمضان ومعه مائة غلام من الأتراك [79] ومائة من الخاصة واشكورج [1] وجماعة من الكبار وكبسه فى فراشه. فلمّا أحسّ به ركب دابة النوبة بقميصه وفى يده لتّ ودفع عن نفسه سويعة ثمّ أخذوه وجاءوا به إلى واسط وسملة توزون وهدأت نار خجخج. وسعى أبو الحسين علىّ بن محمّد بن مقلة فى الوزارة وراسل المتقى لله   [1] . وفى مط: اسكورج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 واستصلح قبل ذلك الترجمان وضمن له مالا فبعث المتقى إليه: - «إنى راغب فيك مائل إليك محبّ لتقليدك، ولكن ليس يجوز أن أبتدئ بذكرك فأصلح أمرك مع الترجمان وقل له يسمّيك مع جماعة فإنّى أختارك من بينهم.» ففعل ذلك ولقى المتقى لله وقلّده وزارته وانصرف إلى منزله. وورد الخبر بنزول سيف الدولة المورفه [1] ذكر الخبر عن مصير سيف الدولة إلى بغداد بعد هزيمته وما انتهت إليه حالته لمّا بلغ سيف الدولة خلاف توزون وخجخج بواسط طمع فى بغداد فوافى المورفة [2] وظهر المستترون من أصحابه من الجند وخرجوا إليه. وانحدر أبو عمرو المسيحي كاتب توزون إلى واسط مستترا هاربا إلى صاحبه وانحدر أيضا الترجمان. وأرجف الناس بانحدار المتقى واضطرب الناس وأصبحوا على خوف شديد، فأمر المتقى لله بالنداء ببراءة الذمة ممّن أرجف بانحداره. [80] وجاء سيف الدولة فى يوم الإثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب، فنزل فى المضارب وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم فى البرّية، وخرج إليه أصحابه ومن يريد الإثبات وجرت بينه وبين المتقى لله رسائل على يد أبى زكرياء السوسي وطالب بأن يحمل إليه مال، ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة. فحمل إليه المتقى أربعمائة ألف درهم فى دفعات وانضمّ إليه كلّ من بقي بالحضرة من القوّاد وما زال   [1] . ما فى الأصل مهمل، والمثبت فى مد: المروفه. وفى مط: الروقة. [2] . وفى الأصل المروفة (بالإهمال) والمثبت فى مد: المروفة. وما فى مط: المروقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 يقول فى مجلسه: - «ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا فى الليل ونحن نيام وإلّا فليحضر نهارا ونحن مستيقظون.» ونحو هذا من الكلام. وخلع المتقى لله على الوزير أبى الحسين بن مقلة يوم السبت لاثنى عشر [1] بقيت من شهر رمضان. ولمّا بلغ توزون وصول سيف الدولة الى بغداد خلّف بواسط كيغلغ فى ثلاثمائة غلام وأصعد مبادرا من واسط إلى بغداد. ولمّا اتصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع من انضمّ إليه من قوّاد الحضرة وفيهم أبو علىّ الحسن بن هارون. ومضى على وجهه. ودخل محمّد بن ينال الترجمان آذنا [2] لتوزون إلى بغداد لستّ بقين من شهر رمضان ودخل توزون من الغد ونزل دار مونس [81] واغتنم البريدي بعد توزون من واسط، فوافاها لثلاث بقين من شهر رمضان، فنهب وأحرق واحتوى على الغلات وأخذ جميعها وقبض توزون على أبى عمرو المسيحي كاتبه وقلّد كتابته أبا جعفر الكرخي وسلّم أبو إسحاق القراريطى إلى الوزير أبى الحسين ابن مقلة فصادره. ذكر الخبر عن تقليد توزون إمرة الأمراء لمّا حصل توزون ببغداد خلع المتقى عليه وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء. وصار أبو جعفر الكرخي كاتب توزون ينظر فى الأمور كما كان الكوفي ينظر فيها. فأمّا الكوفي فإنّه لحق بسيف الدولة وهرب معه فكان   [1] . وفى مط: لإحدى عشر. وليس ما فى الأصل واضحا تماما. والمثبت فى مد: الإثنى عشر. [2] . ما فى الأصل غامض، والمثبت فى مد: آذنا. والكلمة ساقطة من مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 مدّة نظر الوزير أبى الحسين ابن مقلة فى الأمور إلى أن ينظر فيها أبو جعفر الكرخي نحو شهر. وقد كان كيغلغ لمّا استخلفه توزون بواسط أمره بقتال أبى الحسين البريدي فعجز عنه، فأصعد إلى بغداد ولم يمكن توزون المبادرة بالرجوع إلى واسط إلى أن تستقرّ الأمور بالحضرة، وتدبير [1] جميع ما يحتاج إليه. فأقام مدّة شوّال وأكثر ذى القعدة إلى أن توطّأت الأمور واستقامت. وكان وقت هزيمة سيف الدولة من واسط أسر غلاما له يقال له: ثمل، عزيزا على سيف الدولة فأطلقه ووهبه لسيف الدولة وأكرمه وأنفذه إليه [82] فى هذا الوقت لما حصل ببغداد، فحسن موقع ذلك منه ومن ناصر الدولة حتّى قال بالموصل: - «توزون صنيعتي وقد قلّدته الحضرة واستخلفته بها» . فسكنت نفس توزون إلى ذلك، وكان مغيظا على البريدي لقبح ما عامله به. فانحدر توزون إلى واسط وخلّف الترجمان ببغداد وتقدّم إلى أبى جعفر الكرخي أن يلحق به، وضمّن ضياعه أبا الحسين ابن مقلة برغبة منه إليه بمائة وثلاثين ألف دينار فى السنة. ووافى فى هذا الوقت أبو جعفر بن شيرزاد إلى توزون هاربا من البريدي فتلقّاه توزون فى دجلة وسرّ به وقال له: - «يا أبا جعفر كملت إمارتى بك وتمّت النعمة عندي لأجلك. أنت أبى وهذا خاتمي- فنزعه من يده وأعطاه إليه- فدبّرنى وصرّفنى على رأيك.» فقبّل أبو جعفر يده وسأله أن يمهله، فلم يجبه. وكان أبو الحسن الأسمر [2]   [1] . كذا فى الأصل بشيء من الغموض، وما أثبتناه يؤيّده مط. والمثبت فى مد: تجهيز. [2] . وفى مط: الإسم، بدل «الأسمر» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 واقفا وجماعة فقال الأسمر: - «بالله يا سيدي، أجب الأمير وتصدّق بصدقة وانظر فى أمره.» ففعل ونظر فى أمره وأنفذ طازاد ابن عيسى آخر ذلك اليوم إلى الحضرة لخلافته. فكان مدّة كتابة أبى جعفر الكرخي ونظره نيّفا وعشرين يوما. ذكر سبب مفارقة ابن شيرزاد البريدي والاتّفاق الغريب له فى ذلك كان يوسف بن وجيه صاحب عمان وافى فى ذى الحجّة فى مراكب وشذاءات يريد البصرة فيحارب [1] بنى البريدي [83] وكان معه من يحارب بقوارير النار فأحرق شذاءاتهم وزبازبهم. فملك الأبلّة وضغطهم. فهرب فى تلك الوهلة أبو جعفر ابن شيرزاد ومعه طازاد وغيره. فأما سبب هزيمة يوسف بن وجيه بعد تمكّنه فسنذكره. ذكر حيلة تمّت على يوسف بن وجيه كان قد استظهر استظهارا شديدا وقارب أن يملك البصرة وكان مع البريدي ملّاح يعرف بالزيادى. فلمّا ضغط يوسف بن وجيه البريديين وأشرفوا على الهلاك قال هذا الملّاح: - «إن أنا هزمت العدوّ وأحرقت مراكبه ما تصنع بى؟» فوعده الإحسان إليه إن فعل ذلك. ولم يعرّفه الملّاح ما يريد أن يعمل وكتم أمره ومضى. فأخذ بالنهار   [1] . فحارب: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: يحارب. خلافا للأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 زورقين وليس يعلم أحد لماذا يريدهما ولم يأخذ معه أحدا من أسباب البريدي ومضى فملأ الزورقين سعفا- ومثل هذا لا ينكر بالبصرة- وحدرهما فى أوّل الليل- ومثل ذلك بالبصرة كثير لا يستراب به- وكان رسم مراكب ابن وجيه أن تشدّ بعضها إلى بعض بالليل فى عرض دجلة فيصير كالجسر. فلمّا كان فى الليل ونام الناس وكلّ من فى المراكب، أشعل ذلك الملّاح السعف وأرسل الزورقين والنار فيهما، فوقعا على تلك المراكب والشذاءات فاشتعلت واحترقت قلوسها [1] وتقطّعت واحترق [84] من فيها ونهب الناس منها مالا عظيما. وانقلع يوسف ابن وجيه ومضى هاربا على وجهه، وانكشف وجه البريدي ووفى للملّاح بما وعد له. وفيها استوحش المتقى من توزون. ذكر السبب فى الوحشة بين توزون والمتقى وما آل إليه الأمر [2] كان الترجمان قد نفر من توزون لشيء بلغه عنه وكان أبو الحسين ابن مقلة خائفا من توزون لأنه خسر فى مال ضمانه وأشفق أن يطالبه به ويهلكه وزاد فى نفوره. وتقلّد أبى جعفر ابن شيرزاد كتبة توزون وما شكّ أحد أنّ أبا جعفر ابن شيرزاد وافى عن موافقة البريدي فطارت نفس ابن مقلة خوفا من ابن شيرزاد وأن يطالبه بمال ضمانه واقطاع توزون وخاف الترجمان وغيره وساءت الظنون وغلب القنوط على الكافّة من أهل الحضرة. فوقع التدبير بين أبى الحسين ابن مقلة وبين الترجمان على مكاتبة ناصر الدولة فى إنفاذ من يشيّع المتقى ويخرجه إليه.   [1] . قلوسها: الأصل مهمل فى الأوّل. وما أثبتناه يؤيّده مط ومد. [2] . والمثبت فى مد: وما آل إليه الأمر فيه (بزيادة فيه) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وقيل للمتقى: - «ثبتّ للبريدى بالأمس فجرى ما ندمت عليه وأخذ منك خمسمائة ألف دينار وخرجت إلى ناصر الدولة فى دفعته الثانية فأظفرك الله وعدت موفورا وقد ضمنك بخمسمائة ألف دينار أخرى.» وقال لتوزون: - «هي باقية فى يدك من تركة بجكم وهذا ابن شيرزاد وارد لتسليمك [1] بعد خلعك.» فانزعج واعتبر بما مضى على [85] مستأنف أمره. وأصعد بعد ذلك أبو جعفر ابن شيرزاد إلى الحضرة فى ثلاثمائة غلام. موت نصر بخراسان وانتصاب نوح ابنه وفيها ورد الخبر بموت نصر بن أحمد بخراسان وانتصاب نوح ابنه مكانه. ودخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة موافاة ابن شيرزاد بغداد ووافى أبو جعفر ابن شيرزاد لخمس بقين من المحرّم فدخل بغداد. فلم يشكّ المتقى لله والجماعة فى أنّه إنما وافى لما أرجف به. ولقى المتقى لله فى اليوم الذي وصل إلى بغداد فيه وحمل الوزير أبو الحسين والترجمان المتقى لله على القبض عليه فلم يفعل. وبادر أبو جعفر بالانصراف وأمر ونهى وأطلق القراريطى من الاعتقال ونظر فيما كان ينظر فيه الوزير. ووافى أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فنزل باب حرب فى   [1] . وما فى الأصل مهمل: لتسليمك؟ والمثبت فى مد: لتسليمك. وفى مط: ليسملك. وله أيضا وجه من الصحّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 جيش كثير فخرج إليه المتقى لله وحرمه والوزير وأبو الحسين ابن مقلة والترجمان واستتر ابن شيرزاد وخرج وجوه أهل الحضرة وكتّابها فلمّا بلغ المتقى تكريت ظهر ابن شيرزاد وطالب الناس وخبطهم [1] . اشتباك الحرب بين سيف الدولة وتوزون وانحدر سيف الدولة من الموصل ومعه الجيش وبلغ توزون وهو بواسط ما جرى بالحضرة من خروج المتقى والوزير من بغداد. فجرّد موسى ابن سليمان فى ألف رجل وبادر به إلى بغداد. وامتدّ موسى إلى باب الشمّاسية وعسكر [86] هناك. وأقام توزون حتّى عقد واسطا على البريدي ثمّ أصعد ودخل بغداد وقلّد الشرطة غلامه صافيا. وانحدر ناصر الدولة ومعه الجيش ووصل إلى تكريت فتلقّاه الخليفة وسار توزون إلى عكبرا وعبر من الجانب الشرقي إلى قصر الجصّ [2] بسرّ من رأى وصاعد المتقى لله إلى الموصل ومعه أبو الحسين الوزير وأبو إسحاق القراريطى وأبو زكريا السوسي. وسار سيف الدولة للقاء توزون فاشتبكت الحرب بينهما أسفل من تكريت بفرسخين وناصر الدولة بتكريت. فدامت الحرب بين سيف الدولة وتوزون يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء. فلمّا كان يوم الخميس انهزم سيف الدولة وأصعد معه ناصر الدولة ونهب الأعراب بعض سوادهما وملك توزون وشغّب أصحاب توزون فانحدر إلى بغداد. وتأهّب سيف الدولة للقاء توزون ثانية فانحدر إلى تكريت وخرج توزون إلى باب الشماسية ثمّ سار إلى ناحية أخرى وواقعه هناك فانهزم سيف الدولة   [1] . كذا فى الأصل ومد: خبطهم. وفى مط: خطبهم. [2] . وفى مط: الحيص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 وتبعه توزون. فلمّا وصل سيف الدولة إلى الموصل سار منها وسار ناصر الدولة والمتقى والوزير وسائر من معهم إلى نصيبين ودخل توزون الموصل ومعه ابن شيرزاد وأبو عبد الله بن أبى موسى الهاشمي واستخرج [87] ابن شيرزاد من الموصل نحو مائة ألف دينار. ورحل المتقى وحرمه ومن معه من نصيبين إلى الرقّة ولحق بهم سيف الدولة، وقد كان توزون عند خروجه من بغداد زوّج ابنته من أبى عبد الله البريدي وعقد الاملاك بالشمّاسية وأنفذ المتقى لله أبا زكريّا السوسي إلى توزون فى رسالة يقول فيها: - «إنّى استوحشت منك لأجل البريديين لقبح ما يفعلونه دفعة بعد دفعة وأبلغت أنكما اجتمعتما وصرتما يدا واحدة فخرجت من الحضرة والآن فقد مضى ما مضى. فإن آثرت رضاي فصالح ناصر الدولة وارجع إلى الحضرة. فإنّى إذا رأيتك مطيعا لى عدت واستقامت لك الأمور بى وبرضاي وكان الله عونك.» قال أبو زكريّا: فلمّا وردت حضرة توزون اتّهمنى وهمّ بقتلى، فخلّصنى ابن شيرزاد وقال: - «أيها الأمير أنا والله سألت أبا زكريا الخروج مع الخليفة لميله إلينا وليكون خليفتنا بحضرته فإن كان متّهما فأنا متّهم.» ثمّ أدّيت الرسالة فتقبّلها ابن شيرزاد وأشار على توزون بالإجابة وسفرت فى الصلح إلى أن تمّ وصحّ لأبى جعفر ابن شيرزاد قبل الصلح وبعده زيادة على مائتي ألف دينار، وعقد البلد على ناصر الدولة ثلاث سنين كلّ سنة بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم [88] وانصرف توزون إلى بغداد. وتواترت الأخبار بنزول الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه واسطا وكان على وعد من البريديّين بعسكر الماء فأخلفوه وانحدر إليه توزون محاربا له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 والتقيا فى الموضع المعروف بقباب حميد وطالت الحرب بينهما بضعة عشر يوما على اجتهاد شديد بين الفريقين إلّا أنّ توزون كان يتأخّر كلّ يوم ويتقدّم الديلم على سبيل الزحف وعلى عادتهم فى مثل ذلك وكثر القتلى من الجانبين إلى أن عبر توزون نهر ديالى وحصل [1] فى الجانب الذي يلي بغداد وقطع جسورا كان عقدها عليه. فلمّا صار بينهما النهر ثبت الأتراك وكان مع توزون زبازب وخيل فى الماء فيها غلمان رماة. فكانوا يستولون فى كلّ يوم على قطعة من خزائن أحمد بن بويه وزواريق عسكره ثمّ يحولون بين العسكر وبين الماء فيعطشون [2] هم ودوابّهم. فرأى معزّ الدولة أن يصعد على ديالى إلى نحو جسر النهروان ليبعد عن دجلة ويقرب من الماء ويحتال للميرة. فقد كانت ضاقت عليه وأحسّ توزون بذلك. ذكر حيلة تمّت على معزّ الدولة حتّى انهزم بعد استظهار منه وعبر توزون بخمسمائة من الأتراك مع تكين الشيرازي وألف فارس من العرب فيهم إبراهيم المطوّق وقطينة وأمثالهم من حيث [89] لم يشعر بهم معزّ الدولة. فلمّا سار وسار سواده فى أثره خرج عليهم القوم فحالوا بينه وبين السواد ووقعوا فى العسكر على غير تعبئة. وتعجّل توزون فعبر بجماعة من أصحابه سباحة ولم يزل يقتل ويأسر حتّى ملّ وأفلت معزّ الدولة مع الصيمري ونفر يسير معه بأسوأ حال وحصل بالسوس واجتمع إليه نفر من الفلّ بعد أيام وعاد توزون إلى بغداد.   [1] . وحصل: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: يحصل. [2] . فيعطشون هم ودوابّهم: كذا فى الأصل ومد. وفى مط: فيعطشونهم ودوابّهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 ابن شيرزاد يخلع على اللص ّ وفى صفر من هذه السنة ظهر لصّ يقال له: ابن حمدي وكان أعيا السلطان. فخلع عليه ابن شيرزاد وأثبته برسم الجند ووافقه على أن يصحّح فى كلّ شهر خمسة عشر ألف دينار ممّا يسرقه وأصحابه، وأخذ خطّه بها فكان يستوفيها منه ويأخذ البراءات وروزات الجهبذ بما يؤدّيه أوّلا أوّلا. وفى هذه السنة قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف. ذكر السبب فى قتل البريدي أخاه وما جرى بعد قتله إياه وعاقبة أمره كان أبو عبد الله البريدي لمّا حاصره سيف الدولة أيام مقامه بواسط أحد عشر شهرا ثمّ توزون بعده ضاقت به الأمور فاضطربت رجاله وعملوا على الاستئمان إلى أبى يوسف أخيه ليساره واستقرض من أبى يوسف قرضا بعد قرض. فكان يعطيه النزر اليسير وذكر تخلّفه وتضييعه وأنه بالإقبال تمّ له ما تمّ لا لتدبير. ثمّ تعدّى ذلك فصار يذكر جنونه وعجلته. وصحّ عند أبى عبد الله أنّ أبا يوسف يريد القبض عليه واعتقاله لأن يجرى عليه جراية على تقتير [1] . فاستوحش كلّ واحد منهما من صاحبه. فحكى إسرائيل الجهبذ وكان خصيصا بأبى عبد الله أنه استدعاه وشكا إليه حاله فى الإضاقة ثمّ قال: - «قم إلى أبى يوسف أخى- وأومأ إلى درج بين يديه وفتحه فإذا فيه حبّ لؤلؤ وياقوت أحمر وأزرق يبهر الناظرين- وقال: احمل هذا إليه وسله   [1] . تقتير: كذا فى مط. وفى الأصل: نقير. والمثبت فى مد: نقم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 أن يقرض [1] عليه عشرة آلاف دينار.» وكان ما فى الدرج قد وهبه بجكم لابنته سارة التي تزوّج بها. وكان بجكم أخذه من دار الخليفة فأخذه أبو عبد الله منها. قال إسرائيل: فمضيت إلى أبى يوسف وحدّثته بجميع ما خاطبني به أخوه وأخرجت الدرج إليه. فقال لى: - «يا أبا الطيّب من سوء تحصيله يرى، ولو مدّت دجلة مالا لبددّه هذا رجل حصّل له من واسط فى كرّاته التي تولّاها ثمانية آلاف ألف دينار أما وجب أن يستظهر بألف ألف دينار.» فقلت: «يا سيدي ومن أولى به منك على تصرّف كل حال؟ فتفضّل بما طلب.» فقال: «إنّى قد أعطيته إلى هذا الوقت ومنذ انصرف من واسط خمسين ألف دينار وما تمتلئ عينه. ابعث إلى الجوهريّين [91] وأحضرهم حتّى يقوّموا هذا الجوهر وأعطيه قيمته.» فوجّه إليهم وحضروا وأخرجه إليهم فقالوا: - «لا قيمة له تحدّ، وإذا حضر ملك يرغب نحكّم [2] صاحبه ولو انتهى فى السوم إلى أقصى غاية.» فاشتطّ وقال: - «يا جهّال، من قال لكم إنّى مروان الأموى- فإنه كان راغبا فى الجوهر وحضر للابتياع- أو خمارويه بن أحمد وابن الجصّاص؟ قوّموه بما إذا   [1] . وفى مط: يقرضني، بدل «يقرض» . [2] . نحكّم صاحبه: كذا فى الأصل. وفى مط: تحكّم صاحبه. والمثبت فى مد: بحكم صاحبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 طالبتكم به بكرة صحّحتموه [1] العصر.» فقوّموه خمسة آلاف دينار. فقال: - «أعطونى خطوطكم بها.» فثبّتوا ثمّ ردوها إلى خمسين ألف درهم وضمنوها فقال: - «هذا أعطيك.» فقلت: «يا سيدي، اجعلها خمسة آلاف دينار.» فقال: «قم ودع فى القيمة فضلا لطلبه فإنّه سيعاود ويطلب.» فانصرفت بخمسين ألف درهم إلى أبى عبد الله وحدّثته الحديث، فقال: - «لا إله إلّا الله قل له: يا أبا يوسف جنوني الذي ذكرته وقلّة تحصيلى أقعدك هذا المقعد وصيّرك كقارون.» ثمّ عدّد ما عمله معه ودمعت عينه وتبيّن الشرّ فى وجهه. فلمّا كان بعد أيام نحو العشرة أقام غلمانه وفيهم يانس وإقبال وربيب وملّاح يانس فى مخترق قد سقّف بين باب داره- وكانت دار فضلان الساجي- بالأبلّة وبين الشطّ فتمكّن له هؤلاء ووثبوا عليه بالسكاكين وما زال يصيح: - «يا أخى قتلوني قتلوني.» وأبو عبد الله [92] يقول: - «إلى لعنة الله.» فخرج أبو الحسين أخوه وكان ينزل فى جواره إلى روشن دجلة وقال: - «يا أخى قتلته؟» فقال: «يا فاعل خربت اسكت وإلّا ألحقتك به.»   [1] . وفى مط: ضججتموه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 فجمع أبو الحسين نفسه وشغّب الجند وظنّوه حيّا فنبشه وأظهره لهم فسكنوا. ثمّ أعاده إلى قبره. وانتقل إلى الدار بمسماران. فساعة ملكها طلب الجوهر فأحضره. قال إسرائيل: دخلت إليه فقال لمّا رآني: - «يا غلام هات الدُّرج.» فأحضره إيّاه فقال لى: - «يا أبا الطيّب أخذنا المال والجوهر ومضى الفاعل بن الفاعل إلى لعنة الله.» ثمّ أودع أبو عبد الله هذا الجوهر ابنه أبا القاسم سرّا وأمره أن يستره. فلمّا توفّى أبو عبد الله وملك الأمر بعده أخوه أبو الحسين طلب هذا الجوهر طلبا شديدا فلم يجد له أثرا. وقيل: أودعه من لا يعرف. ولمّا خرج ابنه إلى هجر أخذه معه فسأله الهجريّون أن يريهم إيّاه ففعل ذلك ووهب لهم منه حبّة [1] واحدة. فلمّا حضر مدينة السلام فى أيّام أبى الحسين معزّ الدولة طلبه منه ليراه فأحضره عنده ووسّط أبا مخلد عبد الله بن يحيى ليبتاعه منه فامتنع من بيعه ثمّ رأى الوجه فى بيعه. فاستجاب فقوّم بما قوّمه تجّار البصرة. فقال أبو مخلد: - «حطّ منه ثمن الحبّة التي أخذها الهجريّون.» فأعطى ثلاثة آلاف دينار عن قيمة خمسة [93] وأربعين ألف درهم وأحاله بذلك على كار التمر واستوفاه. وكان أبو عبد الله البريدي يتّهم أبا الحسن ابن أسد بالتضريب بينه وبين   [1] . وفى مط: جثة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 أخيه وقيل له: - «إنّ عنده ستة عشر ألف ألف درهم.» فلمّا ملك الأمير أخرج إليه دفتر فيه ثبت ودائع أبى يوسف بخطّه، فلم يجد فيه وديعة عند أحد إلّا ما عند ابن أسد، فطالبه بها وبسط منه وأقرّه [1] على ما كان يتولّاه فمضى إلى منزله وحمل إليه ألفى ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ولم يظهر له، وعرّفه أنه لا وجه للباقي وأنّ أخاه حصّل عليه ذلك من عجز بعد عجز لحقه فى مدّة سنة معه وأخذ خطّه بها أنها وديعة له عنده. وكان فى أسفل الثبت الذي وجد له: «عمل لكلّ سنة عملا بالضمان وما صحّ منه بالأمانة وما تحصّل من العجز الذي أخذ خطّه به» . وجمع ذلك وكان بإزاء العجز وهو ثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة ألف درهم. فقامت قيامة أبى عبد الله وقال: - «دم أخى فى رقبة ابن أسد فإنّى قتلته طمعا فى المال.» فمضى ولم يصل إليه. ثمّ آمنه فظهر وقام بحجّته شفاها وذكر أنّ له بقايا هذه السنة فى النواحي زيادة على أربعة آلاف ألف وله أصحاب منهم أبو العلاء صاعد بن ثابت وأبوه وأخوه وأبو على الأنبارى وقد هرب فتوسّط أمره القاضي أبو الحسين بن نصرويه. [94] وصحّ لأبى عبد الله جميع الوجوه على أحوال قبيحة مع الألفى الألف والخمسمائة الألف الدرهم الموجودة عشرة [2] آلاف ألف درهم وتاه الباقي وذهبت نفس أبى يوسف.   [1] . وأقرّه: كذا فى الأصل. وفى مد: واقوه. [2] . وفى مط: وعشرة (بزيادة الواو) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وفيها قبض أبو العباس اشكورج الديلمي وكان توزون قلّده [1] الشرطة ببغداد على ابن حمدي اللصّ وضرب وسطه فخفّ مكروه اللصوص عن الناس وانقطع شرّهم بعد أن تحارس الناس بالليل بالبوقات وامتنع عنهم النوم خوفا من كبساته. وفيها ورد الخبر بدخول الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه واسط وانحدر من كان بها من أصحاب البريدي إلى البصرة. وفيها صار محمد بن ينال الترجمان إلى سيف الدولة وهو بالرقّة فعاتبه سيف الدولة على أشياء بلغته عنه وكان اتهم بأنه عقد الرئاسة لنفسه على العجم وواطأه المتقى لله على الإيقاع بسيف الدولة فجحد محمّد بن ينال ذلك، فلمّا خرج من حضرته بعد العتاب وثب به غلمان سيف الدولة بسيوفهم فقتلوه. وفيها ورد الخبر بموت سليمان بن الحسن أبى طاهر القرمطى وأنه جدّر ومات وصار الأمر لإخوته بعده. ذكر الخبر عن الإصبهانى الذي احتال لقتل القرامطة بأيديهم حتى كاد يفنيهم كان ابن سنبر يعادى المعروف بأبى حفص الشريك، فاحتال فى حياة أبى طاهر بأن أحضر رجلا [95] من أهل إصبهان فكشف له أسرارا كان أبو سعيد الجنّابى [2] كشفها له فى حياته ولم يكشفها لغيره وعرّفه مواضع دفائن له لم يعلم [3] بها غيره ولم يعلم أبو طاهر أن أباه أبا سعيد كشف ذلك لابن سنبر   [1] . كذا فى الأصل ومط ومد: قلّده ولعله «قلّد» بغير هاء. [2] . فى مط: الحباى. [3] . فى مط: يعلم، بدل «لم يعلم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 فقال ابن سنبر لهذا الرجل الإصبهانى: - «امض إلى أبى طاهر وعرّفه أنّك الرجل الذي كان أبوه وهو يدعوان إليه فإذا هو سألك عن العلامات والدليل أظهرت له هذه الأسرار.» وشرط ابن سنبر على هذا الإصبهانى أن يكون إذا تمكّن من الأمر قتل أبا حفص الشريك فضمن له الإصبهانى ذلك فمضى إلى أبى طاهر وأعطاه العلامات وحدّثه بالأسرار فلم يشكّ فى صحة تلك العلامات فوثب أبو طاهر وقام بين يديه وسلّم الأمر إليه وقال لأصحابه: - «هذا هو الذي كنت أدعوكم إليه والأمر له.» فتمكّن الرجل من الأمر وثبت ووفى بما كان ضمنه لابن سنبر وقتل أبا حفص الشريك. ثمّ كان يأمر أبا طاهر وإخوته بقتل من يشاء ويقول: «قد مرض» يعنى أنه قد شكّ فى الدين فيقتل وأخذ يقتل واحدا واحدا من رؤساء القوم وأهل البصائر منهم والنجدة وأمره ممتثل مطاع لا يخالف إلى أن أتى على عدد كثير منهم. وكان إذا أمر الرجل أن يقتل أخاه أو أباه أو ابنه لم يتوقّف وبادر إلى امتثال أمره فخافه أبو طاهر [96] وبلغه أنه عمل على قتله فقال لإخوته: - «قد وقع علىّ غلط وشبهة فى أمر هذا الرجل وليس هو صاحب الأمر الذي يعرف ضمائر القلوب ولا تخفى عليه الأسرار ويمكنه أن يبرئ المريض ويعمل كل ما يريد.» وجاءوا إلى الرجل فعرّفوه أنّ والدتهم عليلة وسألوه أن يدخل إليها ونوّموا والدتهم على فراش وغطّوها بإزار فدخل إليها فلمّا رآها قال لهم: - «هذه علّة لا يبرأ صاحبها فطهّروها» معناه اقتلوها. فلمّا قال لهم ذلك قالوا لأمّهم: - «اجلسي.» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 فجلست. وقالوا: - «إنها لفى عافية وأنت كذّاب.» فقتلوه. وكان لهم سبعة من الوزراء أكبرهم ابن سنبر وكان أبو طاهر له إخوان: أبو القاسم سعيد بن الحسن وأبو العباس الفضل بن الحسن ولهم أخ آخر لا يدخل معهم فى أمورهم يقال له أبو يعقوب إسحاق مقبل على الشرب [1] والقصف وأمر الثلاثة واحد وكلمتهم واحدة لا يخلفون فكانوا إذا أرادوا عقد أمر أو ورد عليهم أمر ركبوا وأصحروا واتفقوا على ما يعملون ولا يطلعون أحدا على أمرهم فإذا انصرفوا أمضوا ما اتفقوا عليه. موت أبى عبد الله البريدي وفى هذه السنة مات أبو عبد الله البريدي بحمّى حادّة مكث فيها سبعة أيام فكان بين قتله أخاه أبا يوسف وبين موته ثمانية أشهر وثلاثة أيام فتبارك الله ربّ العالمين. [97] فتحدّث أبو القاسم ابن أبى عبد الله البريدي بعد زوال أمره ومصيره إلى بغداد أنّ أباه لمّا مات بالبصرة انتصب أخوه أبو الحسين مكانه وكان لأبى عبد الله عسكر مقيم بنهر الأمير بإزاء الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه وعسكر آخر بمطارا وكان ديلم أبى عبد الله مضمومين إلى يانس غلامه وكانوا يميلون إليه وكان بين يانس وبين أبى الحسين مباينة فى الباطن وعداوة ولمّا تمكّن أبو الحسين من الرئاسة أخذ فى الاستطالة على الديلم والأتراك ويستخفّ بهم فنفرت قلوبهم منه وأحسّ يانس بذلك فمضى إلى أبى   [1] . فى مط: الشراب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 القاسم مولاه وابن مولاه أبى عبد الله فقال له: - «إن كان عندك مال أصلحت لك قلوب الرجال وعقدت لك الرئاسة.» فاعترف له أبو القاسم أن عنده ثلاثمائة ألف دينار فأصلح له قلوب الديلم والرجال وواطأهم على الإيقاع بأبى الحسين وعقد الرئاسة لأبى القاسم وضمن لهم عنه الإحسان فسار الجيش الذي كان بنهر الأمير إلى مسماران وكان أبو الحسين بها فكبسوه وهو نائم فخرج من تحت الكلّة [1] ومضى ماشيا متنكرا إلى الجعفرية وكاتب الهجري يستجير بهم [2] وقصدهم فقبلوه أحسن قبول وسألهم أن يعاونوه على الرجوع إلى البصرة وردّه إلى أمره فضمنوا له ذلك وأقام عندهم [98] نحو الشهر وتقررت الرئاسة بالبصرة لأبى القاسم ابن أبى عبد الله. ثمّ سار أبو الحسين من هجر ومعه من إخوة أبى طاهر اثنان وصاروا إلى سور البصرة فوجدوا أبا القاسم قد حفظه بالرجال واحترس منه فلم تكن لهم حيلة فى الوصول إلى البلد وطال مقامهم فضجر الهجريون وكاتبوا أبا القاسم وسفروا بينه وبين عمّه فى الصلح وسألوه أن يؤمنه ويأذن له فى الدخول إلى البصرة واحتاط أبو القاسم فى أمره إلى أن تأهّب واختار الشخوص إلى بغداد فأذن له وأطلقه فخرج وصار إلى مدينة السلام. طمع يانس فى الرئاسة وتمكّن أبى القاسم منها ثمّ طمع يانس فى الرئاسة وإزالة أبى القاسم عنها فواطأ روستاباش فلمّا انعقد الأمر بينهما تحرّك روستاباش والديلم واجتمعوا فى دار روستاباش وآثر روستاباش الإيقاع بيانس والتفرّد بالرئاسة فلمّا خرج يانس من عنده   [1] . فى مط: التكملة. [2] . فى مط: يستحييهم، بدل «يستجير بهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 أتبعه بمن يوقع به فتحرّك يانس ورماه الديلمي بزوبين ووقع فى ظهره وهرب وصار إلى خراب بقرب دار أبى القاسم ولم يعرف له أحد خبرا وكان ليلا وسار روستاباش إلى دار لشكرستان وكان نقيب الديلم والمدبّر ليأنس. وكان قد جزع أبو القاسم لمّا عرف الخبر وهمّ بالجلوس فى طيّاره [99] والخروج عن داره فلمّا عرف لشكرستان أنّ روستاباش قد أوقع بيانس وعزم على التفرّد بالرئاسة لم يطعه وصاح الديلم وزبرهم فتفرّقوا ومضى بعضهم فى الوقت معتذرا وهرب روستاباش بالليل عند تفرّق الناس عنه واستتر وأصبح أبو القاسم وقد استقام أمره وعرف خبر يانس فحمله إلى داره مكرما ووجد روستاباش فنفاه إلى حيدة [1] وعولج يانس إلى أن برأ وأبو القاسم متهم له فلمّا كان بعد أيام قبض عليه وعلى لشكرستان وصادر يانسا على مائة ألف دينار ثمّ نفاه إلى عمان فلمّا حصل على الحديدى لينزل به خرج إليه بعض غلمان أبى القاسم فقتله وقتل لشكرستان وتمكّن أبو القاسم من الرئاسة. وفيها عرض لتوزون يوما وهو جالس للسلام والناس وقوف بين يديه صرع فوثب ابن شيرزاد وموسى بن سليمان ومدّا فى وجهه رداء كان على رأس موسى وحجزوا بينه وبين الناس لئلّا يروه على تلك الصورة وصرف الناس وقيل لهم: - «إنّ الأمير قد ثار المرار به من خمار لحقه.» وفى هذه السنة خرج عسكر الأمّة المعروفة بالروس إلى أذربيجان   [1] . حيدة: كذا فى الأصل ومد، وهو اسم موضع كما فى المراصد. فى مط: حبذة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 وقصدوا برذعة وملكوها وسبوا أهلها. [100] شرح أخبار الروسية وما آل إليه أمرهم هؤلاء أمة عظيمة لهم خلق عظام ولهم بأس شديد لا يعرفون الهزيمة ولا يولّى الرجل منهم حتى يقتل أو يقتل. ومن عادة الواحد منهم أن يحمل آلة السلاح ويعلق على نفسه أكثر آلات الصنّاع من الفاس والمنشار والمطرقة وما أشبهها ويقاتل بالحربة والترس ويتقلد السيف ويعلق عليه عمودا وآلة كالدشنىّ ويقاتلون رجالة لا سيما هؤلاء الواردين. وذلك انهم ركبوا البحر الذي يلي بلادهم وقطعوه الى نهر عظيم يعرف بالكرّ [1] يحمل من جبال آذربيجان وأرمينية ويصبّ الى البحر وهو نهر برذعة الذي يشبّهونه بدجلة. فلما وصلوا إلى الكرّ توجه إليهم صاحب المرزبان [2] وخليفته على برذعة وكان معه ثلاثمائة رجل من الديلم ونحو من عددهم صعاليك وأكراد واستنفر العامة فخرج معه من المطوّعة نحو خمسة آلاف رجل لجهاد هؤلاء وكانوا مغترّين لا يعرفون شدتهم وحسبوا أنّهم يجرون مجرى الأرمن والروم. فلمّا صافّوهم الحرب لم تكن إلّا ساعة حتى حملت الروسية حملة منكرة فهزموا العسكر وولّت المطوّعة بأسرهم وسائر العسكر إلّا الديلم. فإنّهم ثبتوا ساعة فقتلوا كلّهم [101] إلّا من كان بينهم فارسا، واتبعوا الفلّ الى البلد فهرب كل من كان له مركوب بجملة من الجند والرعية وتركوا البلد فنزلته الروسية وملكوه.   [1] . نهر الكرّ أو نهر الروس يمرّ على تفليس وينصبّ بعضه فى بحر الخزر. [2] . وفى التكملة هو «المرزبان بن محمد» يعنى ابن محمد بن مسافر (من حواشي مد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 فحدثني أبو العبّاس ابن ندار [1] وجماعة من المحصّلين أنّ القوم بادروا إلى البلد ونادوا فيه وسكنّوا الناس وقالوا لهم: - «لا منازعة بيننا وبينكم فى الدين وانما نطلب الملك وعلينا ان نحسن السيرة وعليكم حسن الطاعة.» ووافتهم العساكر من كل ناحية فكانوا يخرجون إليهم ويهزمونهم وكان أهل برذعة [2] يخرجون معهم فإذا حملوا [3] عليهم المسلمون كبّروا ورجموهم بالحجارة فكانت الروسية تتقدم إليهم بأن يضبطوا أنفسهم ولا يدخلوا بين السلطان وبينهم فيقبل أهل السلامة منهم خاصّة فأمّا العامة ومعظم الرعاع فكانوا لا يضبطون أنفسهم ويظهرون ما فى نفوسهم ويتعرضون لهم إذا حمل عليهم أصحاب السلطان. فلمّا طال ذلك عليهم نادى مناديهم بألّا يقيم فى البلد أحد من أهله وأجلوهم ثلاثة أيام من يوم ندائهم فخرج كل من كان له ظهر يحمله ويحمل حرمه وولده وهم نفر يسير وجاء اليوم الرابع والأكثر مقيمون فوضعت الروسية فيهم سيوفهم فقتلوا خلقا عظيما لا يحصى عددهم وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف رجل وغلام [102] مع حرمهم ونسائهم وبناتهم وجعلوا النساء والصبيان فى حصن داخل المدينة وهي شهرستان القوم وكانوا نزلوه وعسكروا به وتحصنوا فيه. ثم جمعوا الرجال الى المسجد الجامع ووكلوا بأبوابه وقالوا لهم: - «اشتروا أنفسكم» .   [1] . كذا فى الأصل ومد: ندار. وفى مط: بندار. [2] . برذعة: بلد بأقصى آذربيجان، وهو على ثلاثة فراسخ من نهر الكرّ (مراصد الاطّلاع) . [3] . حملوا: كذا. لعله من باب أكلونى البراغيث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 ذكر تدبير صواب أشار به بعضهم فلم يقبلوا منه حتى قتلوا بأجمعهم واستبيحت أموالهم وذراريهم كان بالبلد نصرانىّ له رأى سديد يعرف بابن سمعون وكان يسعى فى السفارة بينهم ووافق الروسية ان يبتاع كل رجل منهم بعشرين درهما فتابعه على ذلك عقلاء المسلمين وخالفه الباقون وقالوا: - «إنّما يريد ابن سمعون أن يلحق المسلمين بالنصارى فى أداء الجزية.» فأمسك ابن سمعون وتوقف الروسية عن قتل الرجال طمعا فى هذا القدر اليسير أن يحصل لهم من جهتهم فلما لم يحصل لهم شيء وضعوا فيهم السيوف فقتلوهم عن آخرهم الا عددا يسيرا خرجوا فى قناة ضيقة كانت تحمل الماء الى المسجد الجامع والّا من افتدى [1] نفسه بذخيرة كانت له. فربما وافق الواحد من المسلمين الروسىّ على مال يفدى [2] به نفسه فحضر معه إلى منزله أو حانوته فإذا استخرج ذخيرته وكانت زائدة على مال موافقته [3] لا يمكن صاحبها منها وإن كانت [103] أضعافا مضاعفة عليه وعطف بالمطالبة حتى يجتاحه فإذا علم أنّه لم يبق له عين ولا ورق ولا جوهر ولا فرش ولا كسوة أفرج عنه وأعطاه طينا مختوما يأمن به من غيره فاجتمع لهم من البلد شيء عظيم يجلّ قدره ويعظم خطره وكانوا قد حازوا   [1] . كذا فى الأصل ومط مع شيء من الغموض فى الأصل. وقرئ الأصل فى مد: اقتنى، وهي قراءة خاطئة. [2] . يفدى: كذا فى الأصل ومط مع شيء من الغموض فى الأصل. وقرئ الأصل فى مد: يقتنى، وهو أيضا قراءة غير صحيحة. [3] . فى الأصل: مواقفته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 النساء والصبيان ففجروا بهنّ وبهم واستعبدوهم. فلمّا عظمت المصيبة وتسامع المسلمون فى البلدان بخبرهم تنادوا بالنفير وجمع المرزبان بن محمد عسكره واستنفر الناس وأتاه المطوّعة من كل ناحية فسار فى ثلاثين ألف رجل فلم يقاوم الروسية مع إجماع هذه العدّة ولا أمكنه أن يؤثّر فيهم أثرا فكان يغاديهم القتال ويراوحه وينقلب عنهم مفلولا واتصلت الحرب بينهم على هذه الصورة أياما كثيرة فكانت الدبرة أبدا على المسلمين. فلمّا أعيا المسلمين أمرهم ورأى المرزبان الصورة التجأ الى الحيلة والمكيدة واتفق له أن الروسية لما حصلوا بالمراغة تبسّطوا فى الفاكهة وهناك أنواع كثيرة منها فمرضوا ووقع فيهم الوباء لأنّ بلادهم شديدة البرد ولا ينبت فيها شجر وإنّما يحمل إليهم الشيء اليسير من البلاد الشاسعة عنهم. فلمّا تمحّق [1] عددهم وفكر المرزبان فى الحيلة وقع له أن يكمن لهم ليلا وواطأ عسكره [104] ان يبادروا الحرب فإذا حمل عليهم القوم انهزم هو وانهزموا معه وأطمعهم بذلك فى العسكر والمسلمين فإذا تجاوزوا موضع الكمين عطف المرزبان ورجاله عليهم وصاحوا بالكمين بشعار اتفقوا عليه فإذا حصل الروسية فى الوسط تمكنوا منهم. فلمّا أصبحوا على هذه المكيدة تقدّم المرزبان وأصحابه وبرز الروسية وأميرهم راكب حمار وخرج رجاله واصطفّوا للحرب فجروا على عادتهم وانهزم المرزبان والمسلمون واتبعهم الروسية حتى تجاوزوا موضع الكمين واستمر الناس على هزيمتهم. فحكى المرزبان بعد ذلك أنّه لمّا رأى الناس كذلك وصاح بهم واجتهد بهم   [1] . كذا فى الأصل وهو المثبت فى مد: فلمّا تمحّق. وفى مط: فلا تمحو. وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 أن يراجعوا الحرب فلم يفعلوا لما تمكن فى قلوبهم من هيبتهم علم أنّه ان استمر الناس على هزيمتهم عاد القوم فلم يخف عليهم موضع الكمين فيكون ذلك هلاكهم. قال: - «فرجعت وحدي مع من تبعني من أخى وخاصّتى وغلماني ووضعت فى نفسي الشهادة فحينئذ استحيا أكثر الديلم فرجعوا وكررنا عليهم ونادينا «الكمين» فخرجوا من ورائهم فصدقناهم الحرب وقتلنا منهم سبعمائة نفس فيهم أميرهم وحصل الباقون فى الحصن الذي كانوا فيه من البلد وقد كانوا نقلوا اليه غلّات كثيرة [105] وميرا عظيمة وحصّلوا فيه السبي والأموال.» فبينما المرزبان فى منازلتهم وهو لا يقدر لهم على حيلة سوى المصابرة إذ ورد عليه الخبر بدخول أبى عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان آذربيجان وانتهائه الى سلماس واجتماعه مع جعفر بن شكّويه الكردي [1] فى جماهير الهدايانية [2] واضطرّ الى أن خلف على حرب الروسية أحد قوّاده فى خمسمائة من الديلم وألف وخمسمائة فارس من الأكراد وألفين من المطوّعة وسار إلى أوران ولقى أبا عبد الله فاقتتلا قتالا خفيفا وسقطت ثلجة عظيمة واضطرب أصحاب أبى عبد الله لأنّ معظمهم أعراب وساروا عنه فسار بسيرهم إلى بعض المدن الحصينة فلقيه فى طريقه كتاب من ابن عمه ناصر الدولة يعلمه فيه وفاة توزون بمدينة السلام واستئمان رجاله إليه وأنّه قد عمل على الانحدار معهم إلى بغداد ومحاربة معزّ الدولة لأنّه كان دخلها فاستولى عليها بعد إصعاد توزون عنها ويأمره بالتخلية عن أعمال آذربيجان والانكفاء إليه ففعل.   [1] . وفى مط: جعفر به سكويه الكرزى. [2] . وفى الأصل (الهديانية) والصواب فيما بعد وهم صنف من الأكراد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 سنّتهم فى دفن موتاهم فلم يزل أصحاب المرزبان عن قتال [1] الروسية وحصارهم إلى أن ضجروا واتفق أن زاد الوباء عليهم فكان إذا مات الرجل منهم دفنوا معه سلاحه [106] وثيابه وآلته وزوجته أو غيرها من النساء وغلامه إن كان يحبه على سنة لهم. فاستثار المسلمون بعد زوال أمرهم مقابرهم فاستخرجوا منها سيوفا يتنافس فيها إلى اليوم لمضائها وجودتها. فلمّا قلّ عددهم خرجوا ليلا من الحصن الذي كانوا فيه وحملوا على ظهورهم كل ما أمكنهم من المال والجواهر والثياب الفاخرة وأحرقوا الباقي وساقوا من النساء والصبيان والصبايا ما شاءوا ومضوا إلى الكرّ وكانت السفن التي خرجوا فيها من بلادهم معدّة فيها مع ملّاحهم وثلاثمائة رجل من الروسية كانوا يمدونهم بإقساطهم من غنائمهم فجلسوا فيها ومضوا وكفى الله المسلمين أمرهم. شاهد يروى ما رءاه فسمعت ممن شاهد هؤلاء الروسيّة حكايات عجيبة من شدّتهم وقلّة مبالاتهم بمن يجتمع عليهم من المسلمين فمن ذلك خبر شاع فى الناحية وسمعته من غير واحد أنّ خمسة نفر [2] من الروسية اجتمعوا فى بستان ببرذعة وفيهم غلام أمرد وضيء الوجه من أولاد رؤسائهم ومعهم نسوة من السبي وأنّ المسلمين لمّا عرفوا خبرهم أحاطوا بالبستان واجتمع عدد كثير   [1] . فى قتال: كذا فى الأصل ومط، مع شيء من الغموض فى الأصل. والمثبت فى مد: عن قتال، لصعوبة قراءة ما فى الأصل. [2] . نفر من: كذا. وما فى مط: نفرض (بالتصحيف) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 من الديلم وغيرهم على حرب أولئك النفر الخمسة واجتهدوا فى أن يحصل لهم أسير واحد فلم يكن إليه سبيل لأنّه كان لا يستسلم أحد منهم ولم يمكن [107] قتلهم حتى قتلوا من المسلمين أضعافا كثيرة لعدّتهم وكان ذلك الأمرد آخر من بقي. فلمّا علم أنّه يؤخذ أسيرا صعد شجرة كانت بالقرب منه ولم يزل يجرح نفسه بخنجر معه فى مقاتله إلى أن سقط ميّتا. وفى هذه السنة ظهر للمتقى من بنى حمدان ضجر به وبمقامه عندهم وشهوة لمفارقته فراسل توزون فى الصلح فتلقّى توزون ذلك بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه ووردت رسالة المتقى لله إلى توزون مع الحسن بن هارون وأبى عبد الله بن أبى موسى الهاشمي وتوثّقا من توزون واستحلفاه أيمانا مؤكدة للمتقى وللوزير أبى الحسين ابن مقلة وأحضر توزون القضاة والعدول والعباسيين والطالبيين ومشايخ الكتّاب حتى حلف بحضرتهم للمتقى لله وكتب بذلك كتاب وأحكم ووقعت فيه الشهادة من جميع من حضر على توزون. ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ولمّا كان يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرّم وصل الأخشيد إلى حضرة المتقى لله وهو بالرقة ولقيه بها وأعظمه المتقى نهاية الإعظام ووقف الأخشيد بين يديه وقوف الغلمان وفى وسطه سلاح ثم ركب المتقى فمشى بين يديه الأخشيد فأمره أن يركب فلم يفعل [108] ولم يزل على تلك الحال مختلطا بالغلمان إلى أن نزل من ركوبه وحمل إليه هدايا ومالا وحمل إلى أبى الحسين ابن مقلة عشرين ألف دينار ولم يدع كاتبا ولا حاجبا إلّا برّه. واجتهد بالمتقى لله أن يسير معه إلى مصر والشام فيكون بين يديه فلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 يجبه إلى ذلك وأشار عليه بالمقام مكانه فلم يقبل فلمّا امتنع عليه من الأمرين عدل إلى الوزير أبى الحسين وأشار عليه بأن يسير معه إلى مصر وضمن له إنفاذ أمره وترك الاعتراض عليه فى شيء يدبّره فخالفه. وكان أبو الحسين بعد ذلك يظهر التندّم ويقول: - «نصحنى الأخشيد فلم أقبل.» وكانت دنانير الأخشيد فى صندوق أبى الحسين إلى أن انتهبت لمّا قبض على المتقى لله. ولمّا توثّق المتقى لله من توزون انحدر من الرقّة يريد بغداد فى الفرات ومعه غلامان من غلمان الأخشيد ومحمد بن فيروز ونقط فلمّا وصل إلى هيت أقام بها وأنفذ القاضي الخرقى وابن شيرزاد حتى جدّدا على توزون الأيمان والعهود والمواثيق وأكرم المتقى لله توزون ولقّبه المظفّر وعاد القاضي إلى هيت وعرّف المتقى أنه قد أحكم الأمر مع توزون. وخرج توزون لليلة بقيت من صفر إلى البثق الذي كان بالسندية ونزل الوزير أبو الحسين على شاطئ الفرات وبين توزون والمتقى [109] نحو فرسخ فلمّا همّ بالانحدار استقبله توزون وترجّل له وقبّل الأرض بين يديه ووكّل به وبالوزير وبالجماعة وأنزل بهم فى مضرب نفسه مع حرم المتقى لله وارتجّت الدنيا فسمله [1] . وحكى ثابت أنّ توزون سملة [2] بحضرة قهرمانة المستكفى بالله. وانحدر توزون من الغد وفى قبضه الجماعة فكانت مدّة وزارة أبى الحسين ابن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثنى [3] عشر يوما.   [1] . الكلمة غير موجودة فى مط. [2] . فى مط: سلّمه. [3] . فى الأصل: اثنا عشر. والمثبت يوافق مط ومد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 خلافة المستكفى بالله ذكر السبب فى القبض على المتقى وخلافة المستكفى بالله قال ثابت: حدثني أبو العبّاس التميمي الرازي [1] وكيله، قال: وكان خصيصا بتوزون مستوليا عليه، قال: كنت أنا السبب فيما جرى على المتقى وذاك أنّ إبراهيم بن الربنبذ [2] الديلمي لقيني يوما وسألنى أن أصير إلى دعوته فاستأذنت توزون فى ذلك فأذن لى فيه ومضيت إليه وهو ينزل فى دار القراريطى على دجلة فوجدت داره مفروشة منضّدة فسألته عن السبب فى ذلك وقلت: أحسبك قد تزوّجت. فقال: أنا أحدّثك عن أمرى: اعلم أنّى خطبت إلى قوم وتجمّلت عندهم بأن ادّعيت أنّ لى محلّا من الأمير واختصاصا به فقالت لى المرأة: إذا كنت بهذه المنزلة فهل لك أن تسفر فى شيء يجمع صلاح الأمير وصلاحك وصلاح المسلمين؟ فقلت لها: نعم. قالت: هذا [110] الخليفة (يعنى المتقى لله) قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم   [1] . فى مط: الدارمي، بدل «الرازي» [2] . فى مط: ابى سد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وكاشفتموه وليس يجوز أن تصفو نيته لكم آخر الدهر وقد اجتهد فى بواركم فلم يتم له فمرّة ببني حمدان ومرّة ببني بويه وهاهنا رجل من ولد الخلافة من فهمه وعقله ودينه ورجلته كيت وكيت تنصبونه فى الخلافة وتزيلون المتقى لله وهو يثير لكم أموالا جليلة لا يعرفها غيره ولا يقدر عليها سواه وتكونون أنتم قد استرحتم من عدوّ تريدون أن تحرسوه وتحترسون منه وتخافونه ويخافكم وتقيمون رجلا من قبلكم يرى أنّكم قد أحسنتم إليه وأنّ روحكم مقرونة بروحه. وأطالت الكلام فى هذا المعنى فهوّستنى ودار كلامها فى نفسي وعلمت أنّ محلى لا يبلغ الكلام فى مثله والسفارة فيه وكرهت أن اكذّب نفسي عندها لما ادّعيته من المحلّ والمنزلة فاطمعتها فى ذلك وعلمت أنّ هذا الأمر لا يتمّ إلّا بك ولا يقدر عليه غيرك وقد أطلعتك عليه فأىّ شيء عزمك أن تعمل؟ فقلت: أريد أن أسمع كلام المرأة. فجاءني بامرأة تتكلم بالعربية والفارسية من أهل شيراز جزلة شهمة فهمة فخاطبتني بنحو ما خاطبني به الرجل فقلت لها: لا بد من أن ألقى الرجل وأسمع كلامه. فقالت: تعود غدا إلى ههنا حتى أجمع بينك وبينه. فلمّا كان من غد عدت فوجدت الرجل قد أخرج [111] من دار ابن طاهر فى زي امرأة وحصل فى دار ابن الربنبذ فلقيته وعرّفنى أنّه عبد الله بن المكتفي بالله. وخاطبني رجل حصيف فهم ووجدته مع هذا يتشيّع ورأيته عارفا بأمر الدنيا وضمن لى ستمائة ألف دينار يستخرجها ويمشّى بها الأمر ومائتي ألف دينار للأمير توزون وقال: أنا رجل فقير وإنّما أعرف وجوه أموال لا يعرفها غيرى وأعرف من ذخائر الخلافة فى يد قوم لا يعرفهم غيرى. وذكر [1] أنّ وجوهها صحيحة لا شك فيها ولا يقدر غيره   [1] . كذا فى مط: وذكر. ما فى الأصل: وكرّ. ولعلّه «وكرّر» سقطت منه الرّاء الثانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 عليها. فلمّا سمعت ذلك وعرفت صحته صرت إلى توزون. وفكرّت فى أنّ الأمر لا يتمّ بى وحدي فلقيت فى طريقي وأنا أصعد إلى توزون أبا عمران موسى بن سليمان فى الحديدى الذي على باب توزون فأخذت بيده واعتزلنا. واستحلفته على كتمان ما أطلعه عليه فحلف ثم حدثته به كلّه وسألته معاونتى على تمامه فقال: هذا أمر عظيم لا أدخل فيه. فلمّا آيسنى من نفسه سألته أن يمسك ولا يعارضني فقال: افعل. فدخلت إلى توزون وأدخلته إلى حجرة وخلوت به واستحلفته بالمصحف وبأيمان مؤكّدة أن يكتم ما أحدّثه به فحلف فلمّا حلف حدّثته الحديث من أوله إلى آخره فوقع بقلبه وقال: صواب ولكنّى أريد أن أرى الرجل وأسمع كلامه. فقلت: علىّ ذلك ولكن إن أردت [112] تمام هذا الأمر فلا تطلع عليه أبا جعفر ابن شيرزاد فإنّه يفثأ عزمك ويصرفك عنه. فقال: افعل. وبلغ أبا جعفر خلوتي بالأمير فاتّهمنى أنى سعيت عليه ومضيت إلى القوم ووعدتهم بحضور الأمير ليرى الرجل ويكون الاجتماع فى منزل موسى بن سليمان. قال: وتشددنا فى الطوف بالليل فى دجلة فلمّا كان ليلة الأحد لأربع عشرة خلت من صفر وافى عبد الله بن المكتفي بالله إلى دار موسى بن سليمان ولقيه توزون هناك وخاطبه وبايع له فى تلك الليلة وكتمنا القصة. فلمّا وافى المتقى لله من الرقّة ولقيه توزون وسلم عليه قلت لتوزون: - «عزمك على ما كنا اتفقنا عليه صحيح؟» فقال: «بلى.» قلت: «فافعله الساعة فانّه إن دخل داره بعد عليك مرامه.» قال: فوكّل به وجرى ما جرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 وكانت المرأة التي سفرت فى هذا الأمر المعروفة بحسن الشيرازية حماة أبى أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي فلمّا تمت للمستكفى الخلافة غيرت اسمها وجعلته «علم» [1] وصارت قهرمانة المستكفى واستولت على أمره كلّه. ذكر مصير الأمير أبى الحسين إلى ديالى وقد كان قبل خلافة المستكفى صار الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه إلى واسط وقت مصير توزون إلى الموصل. فلمّا صالح توزون إبن حمدان [113] وعاد إلى الحضرة عمل على الانحدار لدفعه. فخرج فى ذى القعدة من سنة اثنتين وثلاثين وورد عليه خبر الأمير أبى الحسين ابن بويه بانه نزل بسيب [2] بنى كوما ولقيه جيش توزون وما زالت الحرب بينهما تسعة أيام فى قباب حميد وهي فى كل يوم على توزون يتأخّر توزون إلى خلف ويتقدّم الأمير أبو الحسين إلى قدّام إلى أن بلغ توزون نهر ديالى وعبره إلى جانب بغداد وقطع الجسر الذي عليه وأقام. ووافاه أحمد بن بويه إلى الجانب مقابلا له وبينهما الماء. فلمّا كان يوم الأحد لأربع خلون من ذى الحجة انصرف الأمير أبو الحسين راجعا إلى الأهواز. ذكر السبب فى انصرافه مع استظهاره وبعد ما هزم توزون كان مع الأمير أبى الحسين سواد عظيم وكراع كثير وجمال وافرة فكان إذا   [1] . والضبط من الأصل. [2] . فى مط: بسبب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 سار جعل سواده بينه وبين دجلة وله خيمة تضرب على رسم لهم فما دامت الخيمة منصوبة فالقتال واقع ومتى قلعت كان ذلك علامة الهزيمة. فلمّا كان يوم مسيره إلى ديالى أخذ السواد يسير على طول ديالى واجتهد أن يضبطه ويستوقفه فلم يمكن ذلك. وأراد أن يضرب الخيمة على الرسم فلمّا تباعد الديلم وصار بين السواد والديلم فرجة دخل أصحاب توزون وأعرابه [114] بين السواد والديلم وأوقعوا بالسواد ولم يكن عنه دافع فدفعت الضرورة إلى أن ينصرف وصارت هزيمة، واضطرّ الديلم إلى أن يستأمنوا إلى توزون لأنّهم رحالة فاستأمن أكثرهم إلى توزون وأخذ الأمير على طريق بادرايا [1] ، وباكسايا إلى الأهواز. وقد كانت الميرة أيضا ضاقت على الأمير أبى الحسين حتى اضطر فى الليلة التي انصرف فيها من غد إلى أن ذبح خمسين جملا من جماله وفرق لحمها على أصحابه ورجاله وأخذ له بقر فذبحها ونهب فى وقت هزيمته نهبا عظيما. واستؤسر من وجوه قوّاده سبعة عشر قائدا فيهم أبن الداعي العلوي [2] وأسر أبو بكر أبن قرابة واستأمن من الديلم أكثر من ألف رجل. وأقام توزون وعاوده الصرع يوم هزيمة الأمير أبى الحسين وشغل بنفسه عن الطلب فعاد إلى داره. ونعود إلى تمام خبر المستكفى بالله.   [1] . بادرايا: طسّوج بالنهروان وهي بليدة بقرب باكسايا بين البندنيجين وواسط (مراصد الإطلاع) . [2] . وابن الداعي هو أبو عبد الله محمد بن الحسن بن القاسم الزيدي الحسنى وقام بالأمر فى سنة 353 وبايعه الزيدية وتسمى المهدى لدين الله وتوفى سنة 360 وردت ترجمته فى كتاب عمدة الطالب (طبع بمبئي 1318) ص 61 وفى نسبه إلى عبد الرحمن الشجري ليراجع ص 69. (من حواشي مد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 قلّة وزارته أبا الفرج محمد بن على السامرّىّ ولم يكن له من الوزارة إلّا أسمها والمدبر للأمور أبو جعفر ابن شيرزاد. وخلع على توزون وطوّق ووضع على رأسه تاج مرصّع بجوهر وجلس بين يدي المستكفى بالله على كرسىّ وانصرف بالخلع والتاج والطوق والسوار الى منزله. وطلب المستكفى بالله الفضل بن المقتدر طلبا شديدا فاستتر [115] وأمر بهدم داره [1] وكان الفضل طول أيام المستكفى بالله مستترا. شرح قصة أبى الحسين البريدي ومصيره إلى بغداد مستأمنا إلى توزون وما آل إليه أمره من القتل كنا ذكرنا حاله إلى وقت خروجه إلى بغداد ولما وصل إلى بغداد ولقى توزون وأنزله أبو جعفر بالقرب من داره فى دار طازاذ التي فى قصر فرج [2] على شاطئ دجلة. ثمّ شرع أبو الحسين فى مسئلة توزون أن يعاونه على فتح البصرة وضمن له إذا فتحها أن يحمل إليه مالا رغبة عن كثرته فكان يطمع فى المال ويعلل بالمواعيد. وسأل أن يوصل إلى المستكفى بالله فوصل إليه مع توزون وابن شيرزاد فخلع المستكفى بالله عليه خلعة الرضا وأنصرف إلى منزله. وبلغ الخبر إبن أخيه أبا القاسم وأنّ عمه يسعى فى أمر البصرة فوجّه بمن   [1] . قال صاحب التكملة: فلمّا هدم داره قال علىّ بن عيسى: اليوم بايع له بولاية العهد. (من حواشي مد) [2] . فى مط: فرح (بالحاء المهملة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 أصلح أمره مع توزون وابن شيرزاد وحمل مالا فأقرّ على عمله وأنفذت الخلع اليه. ووقف عمه أبو الحسين على ذلك ويئس مما كان شرع فيه ولم يقطع توزون أطماعه فيه. ذكر الخبر عن قتل أبى الحسين البريدي لما يئس أبو الحسين البريدي من معاونة تلحقه فى فتح البصرة سعى فى أن يكتب لتوزون ويقبض على ابن شيرزاد وصح ذلك عند [1] [116] ابن شيرزاد فاستوحش من أبى الحسين ومن توزون فجلس فى منزله أياما وما زال توزون يراسله ويترضاه حتى كتب إليه وأخذ فى التدبير عليه. فلمّا كان يوم السبت لستّ خلون من ذى الحجة أنفذ أبو العباس وكيله وصافى حاجب توزون إلى أبى الحسين البريدي فقبضا عليه وأحدراه إلى دار صافى وضرب هناك ليلة الأحد ضربا عنيفا وقيّد وأحدر إلى دار السلطان وبسط ابن شيرزاد لسانه فيه أقبح بسط وذكر معايبه وأذكر بذنوبه. وكان أبو عبد الله محمد ابن أبى موسى الهاشمي أخذ فى أيام ناصر الدولة فتوى الفقهاء والقضاة بإحلال دمه فأظهرها فى هذا الوقت فلمّا كان بعد أسبوع من القبض عليه استحضر الفقهاء والقضاة وأحضر أبو الحسين البريدي وجمعوا بين يدي المستكفى بالله وأحضر السيف والنطع ووقف السيّاف بيده السيف وحضر ابن أبى موسى الهاشمي ووقف فقرأ ما أفتى به واحد واحد من إباحة دمه على رؤوس الأشهاد وكلما قرأ فتوى واحد منهم سأله هل هي فتواه فيعترف بها حتى أتى على جماعتهم وأبو الحسين البريدي يسمع ذلك   [1] . فى مط: عن، بدل «عند» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 كلّه ويراه ورأسه مشدود والسيف مسلول بإزائه فى يد السيّاف. فلمّا اعترف القضاة والفقهاء بالفتوى أمر المستكفى [117] بالله بضرب عنقه فضربت من غير أن يحتجّ لنفسه بشيء أو يعاود بكلمة أو ينطق بحرف وأخذ رأسه وطيف به فى جانبي بغداد ورد إلى دار السلطان وصلبت جثّته حيث كان حديديّه مشدودا فيه لما ظفر بدار السلطان فبقى مصلوبا هناك أياما. ثم قرأت صكا على الجهبذ بثمن بواري ونفط اشتريت بتسعة دراهم لإحراق جثّته فأحرقت للنصف من ذى الحجة. وقبض على الوزير أبى الفرج السامرّىّ وصودر على ثلاثمائة ألف درهم فكانت مدة وقوع اسم الوزارة عليه اثنتين وأربعين يوما. وفى هذه السنة طالب المستكفى بالله القاهر بأن يخرج من دار السلطان ويرجع إلى دار ابن طاهر فامتنع فسأل فيه أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن وهو يومئذ يكتب للمستكفى بالله على خاصّ أموره ورفق بالقاهر وضمن أن ينزله عنده ولا يردّه إلى دار ابن طاهر. قال أبو أحمد: فلمّا قلت له ذلك استجاب بعد أن سألنى عن منزلي فى أى جانب هو فقلت: فى الشرقي ناحية سوق يحيى. فسكنت نفسه إلى ذلك واستجاب حينئذ وأنزلت به إلى طيّارى بعد أن غيّرت زيّه فإنّى وجدته ملتفّا فى قطن حشو جبّة [1] وفى رجله نعل خشب مربعة. فلمّا حصل فى الطيّار عبرت به [118] من إزاء دارى وأومأت إلى الملاحين إيماء من غير أن أنطق بحرف.   [1] . كذا فى الأصل ومط: حشو جبّة. والمثبت فى مد: محشوّ جبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 فلمّا وضع صدر الطيار للعبور فطن وقال «هوذا يعبر بى إلى دار ابن طاهر» وأراد أن يرمى بنفسه إلى الماء فتقدمت إلى غلماني بضبطه فضبطوه إلى أن أصعدت به إلى داره من دار ابن طاهر فأقام فيها مدة ثم خرج فى يوم جمعة إلى المسجد الجامع فى مدينة المنصور وأخذ فى أن يتصدق فرآه أبو عبد الله ابن أبى موسى الهاشمي فمنعه من ذلك وأعطاه خمسمائة درهم وردّه إلى داره. وفى هذه السنة ورد الخبر بأن قوما يعرفون بالروس يكونون وراء بلدان الخزر خرجوا إلى آذربيجان وملكوا برذعة. وهم قوم لا دين لهم وإنّما طلبوا الملك وليس يعرفون الهزيمة وسلاحهم وزيّهم تشبه سلاح الديلم وفيهم قوة شديدة ولهم أبدان عظام. ثم أوقع بهم المسلمون فلم يبق منهم كبير أحد وكان للمرزبان بن محمد بن مسافر فى ذلك أثر كبير وعناء عظيم وقد ذكرناه فى موضعه. ودخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة موت توزون وفى المحرم منها مات توزون فى داره ببغداد فكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوما ومدة كتابة ابن شيرزاد له سنتان وستة عشر يوما. وورد الخبر على ابن شيرزاد وهو بهيت [119] وكان خرج إليها لمواقفة [1] ابى المرجّى ابن فيان [2] على مال ضمانه وكان قد أخّره وطمع فى ناحيته بموت توزون واضطرب العسكر ثم اجتمعوا على عقد الرياسة   [1] . فى الأصل ومط: لمواقفة (بتقديم القاف) وفى مط: لموافقة (بتقديم الفاء) . [2] . فى مط: ابى المرجان فبان، بدل «أبى المرجّى ابن فيان» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 لابن شيرزاد. وكان أبو جعفر قد عزم على عقد الأمر لناصر الدولة فانحدر ابن شيرزاد فلمّا وصل إلى باب حرب وذلك فى مستهلّ صفر أقام هناك فى معسكره وخرج إليه الأتراك والديلم وأنفذ إليه المستكفى بالله خلع ثياب بياض وحمل إليه طعاما عدّة أيام. فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من صفر أجمع الجيش بأسره على عقد الرياسة له وحلفوا له وأخذ البيعة عليهم لنفسه وحبوه بالريحان على رسم العجم. ووجّه ابن شيرزاد إلى المستكفى بالله يسأله ان يحلف له يمينا بحضرة القضاة والعدول تسكن نفسه إليها ففعل المستكفى ذلك ثم سأله إعادة اليمين بحضرة وجوه الأتراك والديلم فاشتد ذلك عليه ثم فعله. فدخل ابن شيرزاد من معسكره على الظهر بتعبية إلى دار السلطان ووصل إلى الخليفة وانصرف مكرّما. وزاد ابن شيرزاد الأتراك والديلم فى أرزاقهم زيادات كثيرة فاشتدّت الإضافة فأنفذ إلى ناصر الدولة يطالبه بحمل المال ويطمعه فى رد الامارة اليه فحمل إليه [1] [120] دقيقا وسفاتج بخمسمائة ألف درهم فلم يكن لها موقع مع الإضاقة [2] فنقض ما عزم عليه من عقد الإمارة لناصر الدولة وأقام على أمره وقلّد أبا السائب القاضي مدينة المنصور وقلّد جماعة القضاة فى نواحي بغداد وأخذ فى المصادرات وقسط على الكتّاب والعمّال والتجار وسائر طبقات الناس ببغداد مالا لأرزاق الجند.   [1] . سقط من مط: «إليه» . [2] . فى مط: الإضافة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 هاروت وماروت وكان الغمازون يغمزون بمن عنده قوت من حنطة أو عدّة لعياله فكبسه وأخذه [1] وكان قد انتصب للغمز بذلك وغيره وبمن يرمق بنعمة رجلان من السعاة يعرفان بهاروت وماروت فكانا يصلان إلى ابن شيرزاد فى الأسحار والخلوات ويمضيان أيضا إلى دار المستكفى بالله فلحق الناس منهما أمر عظيم وكذلك من الضرائب فإنّها كثرت حتى تهارب التجار من بغداد وعاد هذا الفعل بالخراب [2] وفساد الأمر وزيادة الإضاقة فاحتيج إلى مصادرة ابن عبد العزيز الهاشمي وإخوته. وكثرت كبسات اللصوص فكان إذا ظفر السلطان بلصّ قتلته العامّة قبل أن يصل إلى الوالي. وقلد أبو جعفر ابن شيرزاد ينال كوسه [3] أعمال المعاون بواسط والفتح اللشكرى أعمال المعاون بتكريت فأمّا الفتح اللشكرى فإنّه خرج إلى عمله بتكريت فلمّا وصل إليها [121] امتدّ إلى ناصر الدولة فقبله وأكرمه وقلّده تكريت من قبله وردّه إليها. وأما ينال كوسه فكاتب الأمير أبا الحسين ابن بويه. وأخرج ابن شيرزاد تكين الشيرزادى إلى الجبل فهزمه أصحاب أبى على أبى محتاج وانصرف إلى بغداد.   [1] . وفى مط: فيكبسه ويأخذه. [2] . وفى مط: بالجواب، بدل «بالخراب» . [3] . كذا فى الأصل ومط: كوسه (بالسين المهملة) فى كلّ المواضع والمثبت فى مد: كوشه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 ذكر الخبر عن مسير أبى الحسين أحمد بن بويه إلى بغداد ورد الخبر بدخول ينال كوسه فى طاعة الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه وأنّ الأمير قد تحرّك من الأهواز يريد الحضرة فاضطرب الأتراك والديلم ببغداد وأخرجوا مضاربهم إلى المصلّى وعسكروا هناك وأخرج أبو جعفر مضربه معهم. ثم ورد الخبر بنزول الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه باجسرى [1] فزاد الاضطراب ببغداد واستتر ابن شيرزاد واستتر المستكفى بالله فكانت امارة ابن شيرزاد ثلاثة أشهر وعشرين يوما. فلمّا وقف الأتراك على استتارهما عبروا إلى الجانب الغربي وساروا إلى الموصل فلمّا سار الأتراك ظهر المستكفى بالله وعاد إلى دار الخلافة. وورد أبو محمد الحسن بن محمد المهلّبى صاحب الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه ولقى ابن شيرزاد حيث هو مستتر وفاوضه ثم انحدر إلى دار السلطان ولقى [122] المستكفى بالله فأظهر المستكفى بالله سرورا بموافاة الأمير أبى الحسين أحمد بن بويه وأعلمه أنّه إنّما استتر من الأتراك لينحلّ أمرهم فيحصل الأمر للأمير أحمد بن بويه بلا كلفة. المستكفى يلقّب الإخوان بمعزّ الدولة، وعماد الدولة، وركن الدولة فلمّا كان يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة نزل   [1] . باجسرى: بليدة فى شرقىّ بغداد، وهي الآن خراب (مراصد الإطلاع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 الأمير أبو الحسين فى معسكره بباب الشمّاسية ووصل إلى المستكفى بالله ووقف بين يديه طويلا وأخذت عليه البيعة للمستكفى بالله واستحلف له بأغلظ الأيمان وأدخل فى اليمين الصيانة لأبى أحمد الشيرازي كاتبه، ولعلم قهرمانته، ولأبى عبد الله ابن أمّ موسى وللقاضي أبى السائب ولأبى العباس أحمد بن خاقان الحاجب ووقعت الشهادة على المستكفى بالله وعلى الأمير أبى الحسين. فلمّا فرغ من اليمين سأل الأمير أبو الحسين المستكفى بالله فى أمر ابن شيرزاد واستأذنه فى أن يستكتبه فآمنه وأذن له فى ذلك. ثم لبس الأمير الخلع وكنّى ولقّب بمعز الدولة ولقّب أخوه أبو الحسن على بن بويه بعماد الدولة وأخوه أبو على الحسن بن بويه بركن الدولة وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم وانصرف بالخلع إلى دار مونس. ونزل الديلم والجيل والأتراك دور الناس فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة وصار رسما عليهم إلى اليوم. [123] ذكر كتابة ابن شيرزاد لمعزّ الدولة أبى الحسين ظهر أبو جعفر ابن شيرزاد من استتاره ولقى معزّ الدولة ودبّر أمر الخراج وجباية الأموال. وقبض الأمير أبو الحسين على أبى عبد الله الحسين بن على بن مقلة وذلك لوصول رقعة له إليه يطلب فيها مكان ابن شيرزاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 ذكر الخبر عن قبض معزّ الدولة على المستكفى بالله كان السبب الظاهر أنّ علما قهرمانته دعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الديلم فاتهمها الأمير معز الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمستكفى بالله وأن ينقضوا رياسة معز الدولة عليهم ويطيعوه دونه فساء ظنّه لذلك ولما رأى من جسارتها وإقدامها على قلب الدول. ثمّ قبض المستكفى بالله على الشافعي رئيس الشيعة من باب الطاق فشفع فيه اصفهدوست فلم يشفّعه فأحفظه ذلك وذهب إلى معز الدولة وقال: - «راسلني الخليفة فى أن ألقاه متنكرا فى خفّ وإزار.» فنتج من ذلك وغيره مما لم يظهر خلعه من الخلافة. فلمّا أن كان يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة انحدر الأمير معز الدولة إلى دار السلطان وانحدر الناس على رسمهم. فلمّا جلس المستكفى بالله على سريره ووقف الناس على مراتبهم دخل أبو جعفر الصيمري وأبو جعفر ابن شيرزاد [124] فوقفا فى مرتبتهما ودخل الأمير معز الدولة فقبّل الأرض على رسمه ثم قبّل يد المستكفى بالله ووقف بين يديه يحدثه ثم جلس على كرسىّ وأذن لرسول كان ورد من خراسان ورسول ورد من أبى القاسم البريدي. فتقدّم نفسان من الديلم فمدّا أيديهما إلى المستكفى بالله وعلا صوتهما فارسية فظنّ أنهما يريدان تقبيل يده فمدّها إليهما فجذباه بها وطرحاه إلى الأرض ووضعا عمامته فى عنقه وجرّاه. فنهض حينئذ معز الدولة واضطرب الناس وارتفعت الزعقات وقبض الديلم على أبى أحمد الشيرازي وعلى ابن أبى موسى الهاشمي ودخلوا إلى دار الحرم فقبضوا على علم القهرمانة وابنتها وتبادر الناس إلى الباب من الروشن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 فجرى أمر عظيم من الضغط والنهب. وساق الديلميان [1] المستكفى بالله ماشيا إلى دار معز الدولة واعتقل فيها ونهبت دار السلطان حتى لم يبق فيها شيء وانقضت أيام خلافة المستكفى بالله. وأحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر بالله إلى دار الخلافة فى يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وخوطب بالخلافة وبويع له ولقب المطيع لله.   [1] . كذا فى الأصل ومط: الديلميان. والمثبت فى مد: الديلمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 خلافة المطيع لله ذكر خلافة المطيع لله وما جرى عليه من الأمور [125] وقام له ابن شيرزاد فى تدبير الأمور والأعمال بمقام الوزراء من غير تسمية بوزارة واستخلف على كتابته على خاص أمره [1] أبا الحسن طازاذ [2] بن عيسى واستحجب المطيع لله أبا العباس ابن خاقان. وأقام له الأمير معز الدولة لنفقته كل يوم ألفى درهم وكتب بخبر تقلده الخلافة إلى الآفاق. وتمّ الصلح بين الأمير معزّ الدولة وبين أبى القاسم البريدي وتسلّم ابن البريدي واسطا وضمن البقايا بها بألف ألف وستمائة ألف درهم واستخلف بالحضرة أبا القاسم عيسى بن على بن عيسى. وطلب الأمير معز الدولة ابن شيرزاد برهينة لأنّه تبيّن منه تبليحا فى أمر المال ولم يأمن أن يهرب واضطرب أبو جعفر وسأل الأمير أن يقرضه ما يمشى به أمره فدفع إليه عدة من مراكب ذهب وفضّة على أن يردّ مكانها. فتسلّم أبو جعفر ذلك وسلّم أخاه أبا الحسن زكريا رهينة.   [1] . فى مط: الأمر، بدل «أمره» . [2] . فى مط: طازاه، بدل «طازاذ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 وكان وصف للأمير معز الدولة كفاية أبى الفرج ابن أبى هشام وشهامته فأوصله إلى حضرته وأنس به ولطف محلّه وردّ إليه أمر الضياع الخراب بالسواد وكلّفه عمارتها. قال ثابت: وأخبرنى أبو الفرج أنّه قال لمعزّ الدولة: - «لججت أيها الأمير فى أمر أبى جعفر ابن شيرزاد [126] فى أن يكتب لك وراجعت الخليفة المستكفى بالله دفعات حتى أذن، فبأىّ سبب طننت أنّه لا مثيل له فى الوقت [1] فى صناعته فإنّه ما كان صانعا أمر كتّاب الرسائل وأمر كتّاب الخراج وإنّما ولى ديوان النفقات مرّة وكتب لابن الخال وكان امرءا متوسطا وما عدّه كتاب الحضرة وأصحاب دواوينهم فى الكفاة وأهل الصناعة.» قال، فقال: - «أنت صادق فإنّى ما سألت عنه أحدا فقال فيه إلّا مثل قولك ولمّا رأيت لحيته قلت: هذا بأن يكون قطّانا أولى منه أن يكون كاتبا. ولكن وجدته وقد تقلّد الإمارة ببغداد واستولى على الخلافة وصار لى نظيرا ولملوك الأطراف وتصوّره الرجال بصورة من يصلح أن يرؤسهم ومن يعقدون له على نفوسهم فأردت أن أحطّه من هذه الحال إلى أن أجعله كاتبا لغلام لى أو عاملا على بلد.» وكان الأمير معز الدولة قد أخرج موسى فياذه وينال كوسه [2] فى يوم الجمعة لتسع بقين من رجب إلى عكبرا مقدّمة له إلى الموصل. فلمّا سارا   [1] . كذا فى الأصل ومط: «فبأىّ سبب طننت أنّه لا مثيل له فى الوقت» . والمثبت فى مد: «بأن نستكتبه لك ليس هذا الرغبة» وفى الأصل غموض كشفناه فى ضوء ما فى مط. [2] . كوسه (بالسين المهملة) : كذا فى الأصل ومط فى كلّ موطن. ولكنّ المثبت فى مد: كوشه (بالشين المعجمة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 أوقع ينال كوسه وابن البارد بموسى فياذه وأخذوا سواده ومضوا إلى ناصر الدولة. وفى يوم الإثنين لتسع خلون من شعبان استتر أبو جعفر ابن شيرزاد وأسلم أخاه أبا الحسن زكريا. [127] ابتداء الحرب بين ناصر الدولة وبين معزّ الدولة ونزل ناصر الدولة ومعه الأتراك بسر من رأى لأربع بقين من شعبان وابتدأت الحرب بينه وبين أصحاب معز الدولة بعكبرا وسار معزّ الدولة يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان ومعه الخليفة المطيع لله إلى عكبرا. وظهر أبو جعفر ابن شيرزاد ومضى فتلقى أبا العطّاف جبير بن عبد الله بن حمدان أخا ناصر الدولة فإنّه وافى بغداد ونزل باب قطربّل فنزل معه أبو جعفر ابن شيرزاد ولؤلؤ وجماعة من العجم. ولقيه أهل بغداد ودبّر الأمور أبو جعفر ابن شيرزاد من قبل ناصر الدولة والحرب متصلة بين معز الدولة وناصر الدولة بسرّ من رأى ونواحيها. فلمّا كان يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان وافى ناصر الدولة إلى بغداد فنزل فى الجانب الغربي أسفل قطربّل بعد أن أحرق خزائن نفسه وأصحابه التي فى الزواريق لظهور الديلم عليه وخلف أبا عبد الله الحسين بن حمدان فى الحرب. ثم عبر أصحاب معز الدولة الديلم من الجانب الشرقي من سرّ من رأى إلى الجانب الغربي من دجلة وساروا إلى تكريت ونهبوها ثم صار بهم إلى سرّ من رأى ونهبوها ثم عبر جميعهم مع معز الدولة إلى الجانب الغربي من دجلة والخليفة معهم وساروا منحدرين إلى بغداد وبإزائهم أبو عبد الله الحسين بن سعيد والأتراك فى الجانب الشرقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 فلمّا حصل معز الدولة [128] فى الجانب الغربي عبر ناصر الدولة إلى الشرقي ونزل فى رقّة الشمّاسية واجتمع مع الأتراك وما خطب ناصر للمطيع لله ولا ذكر اسمه ولا كنيته فى الخطب. وفى يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان أوقع أبو عبد الله الحسين بن سعيد بعسكر معز الدولة فى الماء فغرق منهم وملك آلات الماء التي كانت معهم. ولمّا كان يوم الخميس لليلتين خلتا من شوّال وجّه ناصر الدولة بخمسين رجلا من الديلم الذين كانوا فى جملته إلى الجانب الغربي من بغداد فى جملة الجيش الذين عبر بهم لمحاربة معزّ الدولة. فلمّا صاروا على الخندق الذي فى قطيعة أم جعفر وخاطبوا الديلم الذين مع معزّ الدولة يريدون أن يعبروا الخندق ليستأمنوا إلى ناصر الدولة فأفرجوا لهم عن الخندق حتى عبروه وقلبوا تراسهم على جيش ناصر الدولة وحاربوه وأوقعوا به فانهزم أصحاب ناصر الدولة بأسرهم [1] . وحصل القرامطة من أصحاب ناصر الدولة وتكين الشيرزادى وغيره من قوّاده محدقين بعسكر معزّ الدولة فى الجانب الغربي فلم يكن يقدر معز الدولة على تناول شيء من علف ولا غيره فلحق أهل الجانب الغربي غلاء شديد وعدموا [129] الأقوات. وكان أبو جعفر الصميرى [2] لتشاغله بأمر الحرب قد ردّ خدمة معز الدولة والقيام بما يحتاج إليه هو وحاشيته وأسبابه إلى أبى على الحسن بن هارون. فحدثني أبو على هذا أنّه اشترى للأمير معز الدولة كرّ دقيق حوّارى بعشرين ألف درهم.   [1] . كذا فى مط: بأسرهم. وفى الأصل: بأسره. وهو سهو. [2] . فى مط: الضمري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 وتعذّر على الناس العبور من الجانب الغربي إلى الشرقي ومن الشرقي إلى الغربي لمنع ناصر الدولة من ذلك ولحق الناس فى السواد من الجانبين ضرر عظيم بتسلط الجند على غلّاتهم فإنّهم كانوا يحصدونها ويدرسونها ويحملونها إلى معسكرهم. سعر الخبز فى الجانبين وكان السعر فى الجانب الشرقي فى خمسة أرطال خبز بدرهم لورود الزواريق من الموصل بالدقيق وبقي السعر فى الجانب الغربي غاليا بعد إدراك الغلات لما ذكرنا فكان الرطل الواحد من الخبز بدرهم وربع إذا وجد وذلك لمنع ناصر الدولة ما يرد من الموصل أن يصل إلى الجانب الغربي ولأن أعرابه منتشرون فى الجانب الغربي يحولون بين أصحاب معز الدولة وبين الغلّات. وضرب ناصر الدولة دنانير ودراهم بسكة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة باسم المتقى لله وناصر الدولة وسيف الدولة. واستعان ابن شيرزاد بالعامّة والعيّارين من بغداد [130] على حرب معز الدولة والديلم وفرض قوما منهم وكان يركب كل يوم فى الماء ومعه عدّة زبازب فيها أتراك فينحدر ويصعد فى دجلة ويرمى من على الشطوط فى الجانب الغربي من الديلم بالنشّاب. وكان ناصر الدولة عبر بصافى التوزونى [1] فى ألف رجل لكبس معز الدولة وعسكره فلقيه اصفهدوست وأبو جعفر الصميرى فهزماه. فكان جعفر بن ورقاء يقول وكان معهما:   [1] . فى مط: السورونى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 - «كنت أسمع أنّ رجلا واحدا يفي بألف رجل فلا أصدق حتى شاهدت اصفهدوست وحملته وهزيمته صافى وزمرته فصدقت بذلك.» وكان معز الدولة بنى زبازب فى قطيعة أم جعفر وعددها نيف وخمسون فخرجت يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذى الحجة إلى دجلة وكان غلمان معز الدولة يحاربون فيها من فى زبازب ناصر الدولة من أصحابه وذكر أبو جعفر الصيمري أنّ الجهد كان قد بلغ منهم والحيل قد أعيتهم وضاق بهم الأمر حتى عزم معز الدولة على الرحيل إلى الأهواز وحمل أثقاله وقال: - «ترون فى طريقنا العبور فإن أمكننا حيلة فيه وإلّا جعلنا وجهنا إلى الأهواز.» وتهيّأ أن عبر الصيمري واصفهدوست ... [1] تسعة نفر فى سحر يوم السبت انسلاخ ذى الحجة إلى الجزيرة [131] التي بازاء المخرّم وأرادوا العبور منها إلى الجانب الشرقي فعارضهم ينال كوسه [2] معارضة يسيرة وتهيّأ لهم العبور وتبعهم أصحابهم فعبروا. ذكر الحيلة التي تمّ بها عبورهم كان معز الدولة رتّب هذه المعابر فى الصراة ثم حدرها فى الليل على شاطئ دجلة إلى موضع التمارين [3] لأنّه أضيق موضع فى دجلة ووافق وزيره الصيمري واصفهدوست وخواص ديلمه على العبور وأظهر هو أنّه يعبر   [1] . كذا فى الأصل ومط. وفى مد: كوشه، كما سبق أن أشرنا إليه. [2] . هنا فى الأصل كلمة غامضة قرئت فى مد: «بهما» ولا نراها صوابا. وأمّا فى مط فسقطت الكلمة والكلمتان اللتان بعدها. [3] . كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مط: الثمانين: وثمانين بليدة عند جبل الجودىّ فوق الموصل نزله نوح حين خرج من السفينة ومعه ثمانون إنسانا، فابتنوه قرية وسكنوها (مراصد الإطلاع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 من أعلى قطربّل. فمضى بالليل فى وقت موافقتهم وضرب البوقات وسار بالمشاعل وحمل بعض تلك المعابر بالأوهاق على الظهر. فلمّا رأى أعداءه ذلك سار أكثرهم بإزائه لممانعته فتمكن الصيمري ومن معه من العبور وكان الصيمري أوّل من بذل نفسه لأنّ أصحابه تهيّبوا العبور فلمّا سبقهم أنفوا وتبعوه. ثمّ عاد معز الدولة إلى هذا الموضع وقد أحسّ القوم بحيلته فتكاثروا بالزبازب ومنعوهم من العبور وغرّقوا ركوتين واشتدّت الحرب وانهزم الأتراك. وكان ينال كوسه قد شرب ليلته ولمّا حصل جماعة من الديلم فى الجانب الشرقي زعقوا بينال كوسه فانهزم ومضى أصحابه إلى باب الشماسيّة. [132] واضطرب عسكر ناصر الدولة فوجّه ابن شيرزاد إلى ناصر الدولة: أنّ الصواب أن تركب لتلقى من عبر من الديلم. فرد عليه فى الجواب، أنّ العادة قد جرت بأنّى إذا ركبت انهزم الناس. وأنّ الصواب أن يركب هو. فركب أبو جعفر ورأى الناس قد ركب بعضهم بعضا وليس يلوى أحد على أحد ولا يقف فانهزم هو أيضا معهم وانهزم ناصر الدولة وملك الديلم الجانب الشرقي وأحرقوا ونهبوا وقتل من العامّة جماعة ومات منهم عدد كثير من رجال ونساء وصبيان لأنّ الخوف حملهم على الهرب لما كانوا قدّموه إلى الديلم من الشتم والحرب فى أيام الفتنة فخرجوا حفاة فى الحرّ الشديد ومشوا إلى عكبرا فماتوا فى الطريق [1] . وجرى معز الدولة على عادته فى الرأفة فأمر برفع السيف والكف عن   [1] . زاد صاحب التكملة: قال بعضهم: رأيت امرأة تقول: انا بنت ابن قرابة ومعى حلى وجواهر تزيد على ألف دينار فمن يأخذها ويسقيني شربة ماء؟ فما أجابها أحد وماتت وما فتشها أحد لشغل كل انسان بنفسه. (مد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 النهب وأمن الناس وملك الجانبين. ولما منعهم معز الدولة ونادى بالكفّ لم ينتهوا ولا كانت له قدرة على منعهم حتى ركب الصيمري فقتل جماعة وصلب بعض غلمان الديلم وواصل الطوف والحماية بنفسه حتى أمكنه تسكين الجند وحزر [1] ما انتهب فكان مقداره عشرة آلاف ألف دينار وذاك ان القصد وقع على مواضع التجار وحيث الأموال والأمتعة. ومضى ناصر الدولة وابن شيرزاد والأتراك [133] التوزونيّة مصعدين إلى عكبرا فلمّا استقروا بها راسل ناصر الدولة الأمير معز الدولة يلتمس الصلح فى آخر المحرّم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. وكان ناصر الدولة فعل ذلك بغير علم الأتراك فلمّا وقفوا على ذلك أرادوا الوثوب به وهمّوا به فرقى إليه الخبر وصحّ عنده ما عزموا عليه، فهرب منهم ومضى مغذّا [2] مسرعا نحو الموصل وتركهم. وكتب معز الدولة بالفتح عن المطيع لله كتابا نفذ إلى الأمير عماد الدولة وإلى سائر الأطراف. حيلة غريبة ينبغي أن يحترز من مثلها ومن أطرف الأمور وأعجبها أنّ رجلا قصد مضرب ناصر الدولة وهو بباب الشمّاسية بإزاء معسكر معز الدولة فدخله بالليل ودخل خيمته وهو نائم فيها ولم يشعر به الحرّاس ولا الحجّاب ولا البوّابون ولا الخدم ومضى حتى عرف موضعه وشاهده وهو نائم وعرف موضع رأسه من المخدّة ورجع ليطفئ السراج وشمعة كانت بقربه خارج الخيمة فيعود فيضع السكين فى موضع   [1] . حزر الشيء: قدّره بالحدس وخمّنه. وفى مط: حرر. [2] . مغذّا: كذا فى الأصل ومط، والمثبت فى مد: مغدّا، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 حلقه. فاتّفق أن انقلب ناصر الدولة فى نومه ولمّا [1] رجع الرجل لإطفاء الشمعة من جنب إلى جنب. فأطفأ الرجل الشمعة وعاد وقد أظلم الموضع فوضع سكّينه فى الموضع الذي كان فيه تقديره وما شكّ أنّ السكين يقع فى حلقه [134] فبقى السكين مغرّزا فى المخدّة مكان رأس ناصر الدولة وعند الرجل أنّه قد قتله، وخرج من المضرب ولم يعلم به أحد وانتبه [2] ناصر الدولة ورأى السكين وطلب الرجل فلم يلحق وشاع الخبر فصار الناس إلى ناصر الدولة للتهنئة بالسلامة. ومضى الرجل إلى معز الدولة ليبشّره بأنّه قد قتله واستشرحه ما عمل فشرحه له فقال معز الدولة: - «مثل هذا لا يؤمن.» وسلّمه إلى الصيمري ليحبسه فقتله الصيمري. الغلاء جعل الناس سباعا وفى هذه السنة أفرط الغلاء حتى عدم الناس الخبز البتة وأكل الناس الموتى والحشيش والميتة والجيف وكانت الدابة إذا راثت اجتمع على الروث جماعة ففتّشوه ولقطوا ما يجدون فيه من شعير وأكلوه وكان يؤخذ بزر قطونا ويضرب بالماء ويبسط على طابق حديد ويجعل على النار حتى يقبّ ويؤكل ولحق الناس من ذلك فى أحشائهم أورام ومات أكثرهم ومن بقي كان فى صورة الموتى. وكان الرجل والمرأة والصبىّ يقف على ظهر الطريق وهو تالف ضرّا   [1] . والمثبت فى مد: ولمّا (بزيادة الواو) والواو ليست لا فى الأصل ولا فى مط. [2] . فى مط: وابنته، وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 فيصيح الجوع الجوع إلى أن يسقط ويموت. وكان الإنسان إذا وجد اليسير من الخبز ستره تحت ثيابه وإلّا استلب منه، ولكثرة الموتى وأنّه لم يكن يلحق دفنهم كانت الكلاب تأكل لحومهم. [134] وخرج الضعفى إلى البصرة خروجا مفرطا متتابعين لأكل التمر فتلف أكثرهم فى الطريق ومن وصل منهم مات بعد مديدة. ووجدت امرأة هاشمية قد سرقت صبيا فشوته وهو حىّ فى تنوّر فأكلت بعضه وظفر بها وهي تأكل البعض الباقي فضربت عنقها. وكانت الدور والعقارات تباع برغفان ويأخذ الدلال بحق دلالته بعض ذلك الخبز. ووجدت امرأة أخرى تقتل الصبيان وتأكلهم ثم فشا ذلك فقتلت عدّة منهنّ. ولمّا زالت الفتنة ودخلت الغلات الجديدة انحلّ السعر. توالى الناظرين فى أعمال الخراج ولما استتر ابن شيرزاد نظر أبو جعفر فيما كان ينظر فيه ابن شيرزاد ثم قلد الأمير معز الدولة والصيمري الحسن بن على بن مقلة ما كان أبو جعفر ينظر فيه من أعمال الخراج وجباية الأموال. شغب الديلم على معزّ الدولة وفى هذه السنة شغب الديلم على معز الدولة شغبا قبيحا وكاشفوه بالإسماع وخرقوا عليه بالسفه الكثير فضمن إطلاق أموالهم فى مدة ضربها لهم فاضطرّ إلى خبط الناس واستخراج الأموال من غير وجوهها. فاقطع قوّاده وخوّاصه واتراكه ضباع السلطان وضياع المستترين وضياع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 ابن شيرزاد وحق بيت [1] المال فى ضياع الرعية وصار أكثر السواد مغلقا وزالت أيدى العمّال عنه [136] وبقي اليسير منه من [2] المحلول فضمّن واستغنى عن أكثر الدواوين فبطلت وبطلت أزمّتها وجمعت الأعمال كلّها فى ديوان واحد. ذكر ما انتهى إليه هذا التدبير من سوء العاقبة وخراب البلاد وفساد العساكر وسوء النظام إنّ التدبير إذا بنى على أصول خارجة عن الصواب وإن خفى فى الابتداء ظهر على طول الزمان. ومثل ذلك مثل من ينحرف عن جادّة الطريق انحرافا يسيرا ولا يظهر انحرافه فى المبدأ حتى إذا طال به المسير بعد عن السمت وكلّما ازداد إمعانا فى السير زاد بعده عن الجادة وظهر خطاؤه وتفاوت أمره. فمن ذلك أنّه أقطع أكثر أعمال السواد على حال خرابه ونقصان ارتفاعه وقبل عودته إلى عمارته. ثم سامح الوزراء المقطعين وقبلوا منهم الرشى وأخذوا المصانعات فى البعض وقبلوا الشفاعات فى البعض فحصلت الإقطاعات لهم بعبر متفاوتة. فلمّا أتت السنون وعمرت النواحي وزاد الارتفاع فى بعضها بزيادة الغلّات ونقص فى بعضها بانحطاط الأسعار- وذلك أنّ الوقت الذي أقطع فيه الجند الإقطاعات كان السعر مفرط الغلاء للقحط الذي ذكرناه- فتمسّك الرابحون بما حصل فى أيديهم من إقطاعاتهم ولم يمكن الاستقصاء عليهم فى العبرة. وردّ الخاسرون إقطاعاتهم [137] فعوّضوا عنها وتمّمت لهم نقائصها واتّسع   [1] . بيت: مكان الكلمة بياض فى الأصل، وقرئت فى مد بالسياق وهي موجودة فى مط. [2] . فى مط: فى، بدل «من» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 الخرق حتى صار الرسم جاريا بأن يخرب الجند إقطاعاتهم ثمّ يردّوها ويعتاضوا عنها من حيث يختارون ويتوصلون إلى حصول الفضل والفوز بالربح. وقلّدت الإقطاعات المرتجعة من كان غرضه تناول ما يجده فيها ورفع الحساب ببعضه وترك الشروع فى عمارتها ثم صار المقطعون [1] يعودون إلى تلك الإقطاعات وقد اختلط بعضها ببعض فيستقطعونها بالموجود بعد تناهيها فى الاضمحلال والانحطاط. وكانت الأصول تذوب على ممر السنين ودرست العبر القديمة وفسدت المشارب وبطلت المصالح وأتت الجوائح على التنّاء ورقّت أحوالهم فمن بين هارب جال وبين مظلوم صابر لا ينصف وبين مستريح إلى تسليم ضيعته إلى المقطع ليأمن شرّه وبوائقه [2] . فبطلت العمارات وأغلقت الدواوين وأمحى أثر الكتابة والعمالة ومات من كان يحسنها ونشأ قوم لا يعرفونها ومتى تولّى أحدهم شيئا منها كان فيه دخيلا متجلّفا. واقتصر المقطعون على تدبير نواحيهم بغلمانهم ووكلائهم فلا يضبطون ما يجرى على أيديهم ولا يهتدون إلى وجه تثمير ومصلحة ويقطعون أموالهم بضروب الإفساد واعتاض أصحابهم [138] مما يذهب من أموالهم بمصادراتهم وبالحيف على معامليهم. وأنصرف عمّال المصالح عنها لخروج الأعمال عن يد السلطان ووقع الاقتصار فى عملها على أن يقدّر ما يحتاج إليه لها ويقسّط على المقطعين تقسيطات يتقاعدون بها وبأدائها وإن أدّوها وقعت الخيانة فيها فلم تنصرف إلى وجوهها.   [1] . فى مط: المقطوعون. [2] . بوائقه: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: يوافقه، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 وقلّ حفل الناظرين بالحوادث تعويلا على أخذ ما صفا وترك ما كدر والرجوع على السلطان بالمطالبة وردّ ما تخرب على أيديهم من الإقطاعات وفوّض تدبير كل ناحية إلى بعض الوجوه من خواص الديلم فاتخذه مسكنا وطعمة والتحف عليهم المتصرفون الخونة وصار غرض أحدهم الترجية والتمشية والدفع من سنة إلى سنة. وعقدت النواحي الخارجة من الاقطاعات على طبقتين من الناس إحداهما أكابر القواد والجند والأخرى أصحاب الدراريع والمتصرفون فأمّا القوّاد فإنّهم حرصوا على جمع الأموال وحيازة الأرباح ودعوى المظالم والتماس الحطائط فان استقصى عليهم صاروا أعداءهم. ولمّا كثرت أموالهم وانفتقت بهم الفتوق خرج منهم الخوارج وإن سومحوا استشرى طمعهم ولم يقفوا منه عند غاية. وأمّا أصحاب الدراريع [139] فكانوا أهدى من الجندي إلى تغريم السلطان والحيلة عليه فى كسب الأموال ونظر بعضهم إلى بعض فيما تجرى عليه معاملاتهم وبذلوا المرافق واعتصموا بالوسائل ووجب أن يجمع الناس حكم واحد. وتوالت السنون عليهم فتفردوا بنواحيهم وخلوا بمعامليهم فمن مستضعف يصادر ويغيّر رسمه وتنقص معاملته على قدر حاله وماله ومن مانع جانبه فيخفّف عنه الرسوم ويرتفق على ذلك منه بالأموال ويتخذه الضامن عضدا فى شدائده وعند مناظرة سلطانه [1] ويصطلم المستضعفين. فبطل أن ترفع إلى الدواوين جماعة أو تعمل لعامل مؤامرة [2] أو يسمع لأحد ظلامة أو يقبل من كاتب نصيحة واقتصر فى محاسبة الضمناء على   [1] . فى مط: سلطانية. [2] . فى مط: ويعمل العامل مؤامرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 ذكر أصول العقد وما صح منه وبقي من غير تفتيش عما عوملت به الرعية وأجريت عليه أحوالها من جور أو نصفة من غير إشراف على احتراس من الخراب أو خراب يعاد إلى العمارة وجبايات تحدث على غير رسم ومصادرات ترفع على محض الظلم وإضافات إلى الارتفاع ليست بعبرة وحسبانات فى النفقات لا حقيقة لشيء منها ومتى تكلم كاتب من الكتاب فى شيء من ذلك فكان ذا حال ضمن ونكب واجتيح وقتل وباعه السلطان بالتطفيف. [140] وإن كان ذا فاقة وخلّة أرضى باليسير فانقلب وصار عونا للخصم ولم يكن فى ذلك [1] بملوم لانّ سلطانه لا يحميه إذا خاف ولا ينصره إذا قال. فهذه جملة الحال فى ضياع الدخل فأمّا الخروج فإنّ النفقات تضاعفت وسوق الدواوين أزيلت والأزمّة بطلت إلى غير ذلك من أمور يتّسع فيها القول ويقتضى بعضها سياقة بعض فاقتصرنا على الإشارة دون التطويل. معزّ الدولة يركب الهوى فى أمور الغلمان ثمّ ركب معز الدولة الهوى فى أمور غلمانه فتوسّع فى إقطاعاتهم وزياداتهم وأسرف فى تمويلهم وتخويلهم فتعذّر عليه أن يذخر ذخيرة لنوائبه أو أن يستفضل شيئا من ارتفاع ولم تزل مؤونته تزيد ومواده تنقص حتى حصل عليه عجز لم يكن واقفا على حدّ منه بل يتضاعف تضاعفا متفاقما وأدى ذلك على مرّ السنين إلى الإخلال بالديلم فيما يستحقون من أموالهم وداخلتهم المنافسة [2] للأتراك من أجل حسن أحوالهم. وقادت الضرورة إلى ارتباط الأتراك وزيادة تقريبهم والاستظهار بهم على   [1] . كذا فى الأصل ومط: فى ذلك. وفى مط: بذلك. [2] . فى مط: المنافة، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 الديلم وبحسب انصراف العناية إلى هؤلاء ووقوع التقصير فى أمور أولئك فسدت النيّات وفسد الفريقان أما الأتراك فبالطمع والضراوة [141] وأمّا الديلم فبالضرّ والمسكنة واشرأبّوا إلى الفتن وصارت هذه المعاملة لقاحا لها وسببا لوقوع ما وقع فيها مما سنذكر جملا منه فى مواضعها بمشيئة الله. نوح بن نصر يقبض على إخوة ابن محتاج ويقتل بعضهم وفى هذه السنة سملت علم القهرمانة وقطع بعد ذلك لسانها. وفيها ورد الخبر بأنّ نوحا صاحب خراسان قبض على إخوة [1] أبى على ابن محتاج وقتل بعضهم. ذكر السبب فى ذلك لما انهزم ابن محتاج من بين يدي ركن الدولة بعد أن كان ضمن لصاحب خراسان فتح الري أمدّه صاحبه بابن ملك وجماعة من نظرائه وقوّاده وبالغ فى تقويته فسار فى عدّة وعدّة وافرة. فكاتب ركن الدولة عماد الدولة وسأله المدد فأمره أن يخلى لهم الطريق ويصير إليه وأعلمه أنّ له تدبيرا فى ذلك ففعل ركن الدولة ذلك ودخل الخراسانية الري. فراسل عماد الدولة صاحب خراسان سرّا يعرّفه قلة جدوى الرّى عليه مع ما يلتزمه من النفقات على العساكر العظيمة وأنّ الاستيحاش بينهما زائد مع ذلك ويسأله أن يزيل هذه الوحشة بأن يضمنه أعمال الرىّ عشر سنين بمثل   [1] . فى مط: أخيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 ما تقرّر [1] عليه بينه وبين ابن محتاج وزيادة مائة ألف دينار فى كلّ سنة على أن يسلفه مال سنة. [142] وسأله إنفاذ ثقة من ثقاته ليوقع العهد معه ويحمل المال على يده وأنّه يعاونه بعد ذلك على ابن محتاج حتى يظفر به. فوردت هذه الرسالة على نوح بن نصر ونيّته فاسدة لابن محتاج وتطلعت نفسه إلى تحصيل المال فشاور ثقاته وكلهم أضداد وأعداء لابن محتاج فأشاروا عليه بقبول ما بذله عماد الدولة فأظهر حينئذ ما كان فى نفسه وقبض على إخوة أبى علىّ ابن محتاج وأهله وأسبابه وقتل بعضهم. وأنفذ إلى عماد الدولة علىّ بن موسى المعروف بالزرّاد [2] وكان من قوّاده وأكابر حاشيته فسار على الجمازات واستقبله عماد الدولة وأكرمه وواصل إليه العطايا والتحف وماطله فيما ورد له. وراسل أبا علىّ ابن محتاج يعلمه خبر هذا الرسول ويطلعه على ما ورد له وقرر فى نفسه أنّه على عهده محافظ على وده وحذره من غدر نوح وخوفه منه فحينئذ أنفذ ابن محتاج رسوله إلى ابراهيم بن أحمد وهو عمّ نوح وكان إذ ذاك بالموصل أحد قوّاد ناصر الدولة فعرّفه أنّه قد عقد له الرياسة وأخذ له البيعة على أصحابه على أن يكون إليه خراسان ويمضى معه فيحاربان نوحا [3] ويؤكد عليه أن يعجل إليه. فرغب إبراهيم بن أحمد فى ذلك واستأذن ناصر الدولة [143] فى المضي فقال له:   [1] . فى مط تقرّ، بدل «تقرّر» . [2] . كذا فى الأصل ومط: الزرّاد. والمثبت فى مد: الزرّار. [3] . فى مط: فوجا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 - «نحن على المصير إلى بغداد فانتظر حتى ندخلها فإذا دخلناها قلّدك الخليفة وخلع عليك من داره وعقد لك لواء فيكون أعزّ لك وأقوى لأمرك.» وكان هذا فى آخر أيام المستكفى بالله فعمل إبراهيم بن أحمد على ذلك فلمّا طالت المدة وحدث على المستكفى بالله الحادثة وانحدر ناصر الدولة إلى بغداد تتابعت رسل أبى على ابن محتاج إلى إبراهيم فعبر تكريت فى سبعين غلاما ومضى إلى دقوقا ومنها إلى طريق خراسان. ثم وردت كتبه من الرىّ على ناصر الدولة بأنّه سائر إلى نيسابور لمحاربة ابن أخيه نوح فأنفذ إليه ناصر الدولة خلعا سلطانية ولواء عقده له عن الخليفة المطيع لله وحمل إليه ذلك مع خجخج المسمول فتطير الناس له من ذلك وقالوا أنّه لا يتمّ أمره. ولمّا بلغ أبا على مسير إبراهيم تلقاه الى همذان وعاهده على السمع والطاعة والنصيحة وعاد معه إلى الرىّ ثم نهضا جميعا إلى خراسان وكتب كتابا إلى ركن الدولة بانّه سائر إلى خراسان وأنّه قد أفرج له عن الرىّ فكتب عماد الدولة إلى أخيه ركن الدولة بالمسير إليها فبادر إلى ذلك واضطرب خراسان على نوح بن نصر. ذكر ما تمّ من الحيلة لعماد الدولة فى تلك الحال [1] لمّا فرغ عماد الدولة من التضريب بين ابن محتاج وبين صاحبه وتمّت المكاشفة بالعداوة بينهما [144] بادر بردّ الزراد [2] رسول صاحب خراسان على نوح برسالة يقول فيها:   [1] . من هذا العنوان حتّى العنوان الآتي سقط من مط. [2] . والمثبت فى مد: الزرّار، خلافا للأصل ومط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 أنّه قد ظهر ما كان ينذره به من سوء نية ابن محتاج وسعيه عليه وأنّه لمّا كاشفه بالحرب مع عمه إبراهيم أنفذ أخاه ركن الدولة إلى عسكره حتى إذا سارت جيوش نوح بن نصر إلى عمّه وإلى ابن محتاج واحتاج إلى أن يسير ركن الدولة من ورائهم معاونا له عليهما فعل ذلك. وأقبل نوح إلى نيسابور فى عساكره وجميع من معه من أصحاب جيوشه ورجاله فبرز له ابراهيم وابن محتاج فحارباه وكسراه وأسرا إبراهيم بن سمجور ومنصور بن قراتكين وعددا كثيرا من قوّاده واستأمن أكثر جيشه وانصرف نوح مفلولا على حال سيّئة من الضعف والحيرة واتبعه إبراهيم وابن محتاج وحملا معهما إبراهيم بن سمجور ومنصور بن قراتكين أسيرين واستمرّت بنوح الهزيمة إلى سمرقند فدخل إبراهيم بن أحمد بخارى واشتمل على الخزائن والذخائر وذلك فى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. وكتب ابن محتاج إلى عماد الدولة يبشّره بما جرى ويسأله تجديد أمر السلطان لإبراهيم ابن أحمد بالخلع والعقد له على خراسان. ذكر ما انتهى إليه أمر إبراهيم وابن محتاج مع نوح بن نصر وما اتّفق من الأسباب التي أعادت نوحا إلى سريره ومقرّ عزّه بخراسان [145] كان سبب ذلك أنّ إبراهيم أصغى إلى قوم حساد لأبى علىّ ابن محتاج فكانوا يوهمونه أنّ أبا علىّ إنّما استعان به ليجتمع له جيوش خراسان فإذا فرغ من نوح عطف عليه فعامله بمثل ما عامل به نوحا وأنّ الصواب له أن يحترز منه. فوقر ذلك فى نفس إبراهيم وأطلق ابن سمجور وابن قراتكين وخلع عليهما من غير رأى أبى علىّ ابن محتاج فاستوحش ابن محتاج وانقبض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 عن إبراهيم وتمكن ابن سمجور وابن قراتكين من استمالة الجند وكاتبا نوحا وتردّدت الرسل بينهم سرّا. ثم إنّ نوحا سار إلى ثغور خراسان فجمع منها جيشا واستخرج أموالا وعاد إلى بخارى فملكها وقهر عمّه وحصل أسيرا فى يده فسمله [1] وسمل جماعة من أهل بيته. ذكر الحيل التي تمّت لنوح على عمه حتى تمكّن منه ومن عسكره كان إبراهيم وابن محتاج خرجا إلى ظاهر بخارى وعسكرا بموضع يقال له: ريكستان، فبينما هم نزول إذ صاح صائح فى الميدان الذي بحذاء دار الامارة ببخارى: - «نوح يا منصور.» واجتمع إليه طائفة من الحشم. ثمّ إنّ نوحا زحف إلى عمّه إبراهيم وكان يدبّر أمره ابن أبى داود البلخي فاحتال على تقوية قلوب أصحابه بأن أعلمهم أنّ مددا كثيرا قد أقبل إليهم وهم يلحقون فى [146] الليل وكانت الحرب قد وقعت فى ذلك اليوم فكانت على نوح. فلمّا كان فى الليل أنفذ طائفة من عسكره مع مراكبهم وأمرهم بالإبعاد، فإذا كان فى الثلث الآخر من الليل ضربوا بطبولهم وبوقاتهم ودبادبهم ودخلوا العسكر فى صورة المدد، ففعلوا ذلك فلم يزالوا إلى الصبح يدخلون العسكر على هذه الصورة.   [1] . فى مط: فسلمه، بدل «فسلمه» وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 فلمّا أصبحوا وتصافّوا للحرب استأمن الديلم الذين كانوا مع إبراهيم وانهزم قوم من أصحابه وانهزم أبو علىّ ابن محتاج وظفر نوح بإبراهيم وعامله بما ذكرت. وفى هذه السنة مات أبو بكر محمد بن طغج الأخشيد وتقلّد مكانه ابنه أبو القاسم بوجور [1] وغلب كافور الخادم الأسود وكان خادم الأخشيد على الأمر. وفيها مات على بن عيسى عن تسعين سنة. ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ذكر توثّق معزّ الدولة من المطيع لله لما اجتمع لمعز الدولة أمر بغداد فى هذه السنة زاد فى التوثّق من أمير المؤمنين المطيع لله، فاستحلفه بيمين عظيمة ألّا يتغيّب عن معز الدولة ولا يبغيه سوءا ولا يمالئ له عدوّا. فلمّا حلف أزال عنه التوكيل وعاد إلى دار الخلافة. واعتزل أبو على الحسن بن هارون النظر فى الأمور لتحامل [2] الصيمري [147] عليه ومصادرة كاتبه فردّ النظر فى الأعمال إلى أبى الحسين على بن محمد بن مقلة من قبل أبى جعفر الصيمري ورعى له معز الدولة مكاتبته له أيام مقامه فى الجانب الغربي. فلمّا عبر معز الدولة ولقيه لزمه ثم ردّ فى هذا الوقت إليه النظر فى الأمور وقلّد كتبة الخليفة أبو أحمد الفضل ابن عبد الرحمن الشيرازي وسلّمت إليه ضياع الخدمة ارتفاع مائتي ألف دينار فى السنة.   [1] . كذا فى الأصل ومط: بوجور. والمثبت فى مد: أوجور. [2] . كذا فى الأصل ومط: لتحامل (بالحاء المهملة) . والمثبت فى مد: لتجامل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 خبر دخول ركن الدولة الرىّ وملكه الجبل بأسره وفيها ورد الخبر فى المحرّم بدخول الأمير ركن الدولة الرىّ وأنّه ملك الجبل بأسره. التماس ناصر الدولة الصلح من معزّ الدولة وفيها ورد أبو بكر ابن قرابة من عكبرا برسالة ناصر الدولة يلتمس فيها من معز الدولة الصلح وقد كان تردّد قبل هذه الوقعة مرات فتقرّر أمر الصلح على أن يكون فى يد ناصر الدولة من حد تكريت إلى فوق ويضاف إلى أعماله مصر والشام على أن لا يحمل عن الموصل وديار ربيعة شيئا ممّا كان يحمله من المال ويكون الذي يحمله عن مصر والشام ما كان يحمله الأخشيد محمّد بن طغج عنهما وعلى أن يدرّ ناصر الدولة الميرة إلى بغداد ولا تؤخذ لها ضريبة، وحلف معز الدولة بحضرة الخليفة والقضاة على ذلك والوفاء به. وأنفذ القضاة مع ابن قرابة إلى معز الدولة لالتماس الصلح [148] بغير موافقة منه للأتراك ولا علم منهم فلمّا علموا بذلك وظهر أمر الصلح اجتمع الأتراك للإيقاع به وأحسّ ناصر الدولة بذلك فخرج بالليل وعبر إلى خيمة ملهم [1] . وكان ملهم والقرامطة فى الجانب الغربي والأتراك وناصر الدولة فى الجانب الشرقي واستجاره فأجاره وسيّره فى الجانب الغربي ومعه ابن شيرزاد وبقي الأتراك فى الجانب الشرقي.   [1] . ملهم: الضبط من الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 فلمّا فاتهم ناصر الدولة اجتمعوا على تأمير تكين الشيرزاذى وقبضوا على أبى بكر ابن قرابة بعد أن نزل به مكروه عظيم وقبضوا على كتّاب ناصر الدولة وأسبابه وساروا يطلبونه واستأمن ينال كوسه [1] ولؤلؤ إلى معز الدولة وأسرع ناصر الدولة فى سيره فلم يلحقه الأتراك. ولما صار إلى مرج جهينة قبض على ابن شيرزاد [2] وسلّمه وعلى طازاذ وعلى أبى سعيد ووهب بن ابراهيم وجوهر خادم ابن شيرزاد وأنفذ جماعتهم إلى القلعة. ولم يتلبّث ناصر الدولة ومضى إلى نصيبين ورحل تكين الشيرزاذى والأتراك إلى الموصل وغلبوا عليها ثم ساروا فى طلبه فمضى إلى سنجار فتبعوه وكتب إلى معز الدولة يستصرخه فأنفذ إليه معزّ الدولة جماعة من قوّاده ثم أنفذ إصفهدوست بعدهم ثمّ أخرج الصيمري. ولمّا سار [149] تكين الشيرزادى إلى سنجار فى طلب ناصر الدولة سار من سنجار إلى الحديثة فتبعه تكين إلى الحديثة فلمّا قرب منه سار ناصر الدولة إلى السن وهناك لحق به جيش معز الدولة وأبو جعفر الصيمري وإصفهدوست فساروا بأسرهم إلى الحديثة للقاء تكين الشيرزادى. ووقعت الوقعة بالحديثة وكانت شديدة فانهزم تكين وتقطع أصحابه واستؤسر منهم وجوه القوّاد وجماعة من الأصاغر وقتل منهم خلق بعد أن كان استعلى واستظهر فى الحرب.   [1] . كوسه: كذا فى الأصل ومط فى كلّ المواضع. والمثبت فى مد: كوشه. [2] . الدال فى اللغة الفارسية إذا وقعت بعد المصوّتات كانت تلفظ بها فى القديم ذالا منقوطة، كما نراه فى أمثال: بغداد/ بغداذ، شيرزاد/ شيرزاذ، طازاد/ طازاذ، فالودج/ فالوذج، وغيرها، ولذلك نرى الخلط بين الدال والذال شائعا عند النسّاخ فى المخطوطات القديمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 ذكر السبب فى هزيمة تكين والظفر به بعد استعلائه كانت العرب على كثرة عددهم فى عسكر الصيمري ينقضون صفوف الديلم ولا يصدقون اللقاء فقال لهم الصيمري: - «اعتزلوا عنّا ولا تدخلوا بيننا وانظروا فإن انهزم واحد منهم فاتبعوه وإن ثبت فدعونا وإيّاه ما دام ثابتا واعلموا أنّكم إذا قربتم منّا واختلطتم بمصافنا بدأنا بكم قبل أعدائنا» . ففعلوا واعتزلوا وصبر الفريقان وحمل الأتراك حملات شديدة ثبت لها الديلم ثم وثبوا فى وجوه الأتراك فلمّا ولّوا حمل عليهم العرب ووضعوا [1] الرماح بين ظهورهم ونكّسوهم فأكثروا القتل والأسر. ثم استأسر [150] جنود تكين الشيرزادى فتقرّبوا به إلى ناصر الدولة فسمله [2] للوقت وأنفذه إلى قلعة من قلاعه وسار ناصر الدولة وأبو جعفر إلى الموصل فنزل الصيمري فى الجانب الشرقي بإزاء الموصل ودخل إليه ناصر الدولة وحصل عنده فى خيمته وخرج من عنده وعبر إلى الموصل ولم يعد إليه بعدها. فحكى عن ناصر الدولة أنّه قال: - «لمّا حصلت مع أبى جعفر الصيمري فى خيمته ندمت وعلمت أنّى قد أخطأت وغررت فبادرت إلى الانصراف.» وحكى عن الصيمري أنّه قال: - «لمّا خرج من عندي ناصر الدولة ندمت على تركي القبض عليه   [1] . فى مط: وقصعوا. [2] . فى مط: فسلمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 وعلمت أنّى قد ضيّعت الحزم وأخطأت بعد أن فاتنى الصواب.» ثم تسلّم أبو جعفر الصيمري طازاذ ووهبا وجوهرا وألف كرّ حنطة وشعيرا وانحدر بهم إلى بغداد مع ابن لناصر الدولة رهينة يقال له هبة الله وأدخل ابن شيرزاد بعده بيوم إلى بغداد موكّلا به وصادره معزّ الدولة على خمسمائة ألف درهم ثم حمل ناصر الدولة تكين الشيرزادى مسمولا إلى معزّ الدولة فأحسن إليه معزّ الدولة وأطلقه وأقطعه إقطاعا. حوادث أخر وفيها خرج لشكرورز [1] بن سهلان فى جيش إلى الأهواز ومعه عامل خراج وظهرت الوحشة بين الأمير معز الدولة وبين أبى القاسم البريدي. وقبض معزّ الدولة على ينال كوسه [2] [151] وكان استحجبه وعلى أرسلان كور وعلى فتح اللشكرى وحملهم إلى قلعة رامهرمز. وفى يوم الأحد لثمان خلون من شوّال ضرب الصيمري ابن شيرزاد بحضرته بالمقارع وطالبه بمال المصادرة وأنحدر الصيمري إلى الأهواز. وفيها جرت وقعة بين أصحاب البريدي وبين أصحاب معزّ الدولة فكانت على البريدي وأسر منهم نحو مائتي رجل من وجوه الديلم. ودخلت سنة ستّ وثلاثين وثلاثمائة المطيع ومعز الدولة ينتزعان البصرة من يد البريدي وفيها سار المطيع لله والأمير معز الدولة إلى البصرة وانتزعاها من يد أبى القاسم البريدي فسارا من واسط فى البريّة على الطفوف فلمّا صاروا فى   [1] . ما فى الأصل: لشكروز (اشكروذ؟) . وفى مط: اسكررود. والمثبت فى مد: لشكررورز. [2] . كذا فى الأصل ومط: كوسه. والمثبت فى مد: كوشه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 البريّة ورد على الأمير معزّ الدولة رسول الهجريين القرامطة من هجر بكتاب منهم إليه بالإنكار عليه فى سلوك البريّة من غير أمرهم إذ كانت لهم. فلم يجب عن الكتاب وقال للرسول: - «قل لهم: ومن أنتم حتى تستأذنوا فى سلوك البريّة وكأنّى أنا أقصد البصرة إنّما قصدي بلدكم وإليكم بعد فتحى إيّاها وستعرفون خبركم» . وكلام فى هذا المعنى فانصرف الرسول. وانحدر أبو جعفر الصيمري وموسى فياذه فى الماء فملك مسماران ودخل دار البريدي بها بعد حرب يسيرة ووصل الخليفة والأمير معزّ الدولة إلى الدرهمية فاستأمن إليه [152] جيش البريدي بأسره وهرب أبو القاسم البريدي إلى هجر وملك معزّ الدولة البصرة فأنحلت الأسعار كلّها ببغداد انحلالا شديدا. وقبض معزّ الدولة على جميع قوّاد البريدي بالبصرة واستخرج أمواله وودائعه وقبض خزائنه وأحرق كل ما وجد له من آلات الماء من الشذاآت والطيارات والزبازب واستدعى لؤلؤا من بغداد فقلّده أعمال البصرة والحرب. معزّ الدولة يصل إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة ووصل معزّ الدولة من البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة وتأخّر الخليفة والصيمري بالبصرة. وتأخرّ كوركير [1] عن صحبة معزّ الدولة من غير موافقة وقيل: إنّه فى التدبير عليه، وعقد الرياسة لنفسه فوجّه إليه بأبى جعفر الصيمري فامتنع   [1] . لعلّه فى أصله الفارسىّ: گورگير، أى صائد الجور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 عليه وحاربه فى داره فظفر به أبو جعفر وقبض عليه وصار به إلى معزّ الدولة فأنفذه إلى القلعة برامهرمز. ولقى معزّ الدولة أخاه عماد الدولة فقبل الأرض بين يديه واجتهد به عماد الدولة أن يجلس بين يديه فلم يفعل وكان يتردّد إليه كل يوم بالغداة والعشيّة فيقف ولا يجلس. وقيل للأمير معزّ الدولة: إنّ عماد الدولة يريد أن يسأله فى الإفراج عن رامهرمز وعسكر مكرم. فحكى أبو الحسن المافرّوخى [1] أنّه كان مع معزّ الدولة وكان عماد الدولة ورد أرجان فالتقيا بها قال: فدعاني عماد الدولة وقال: - «بلغني أنّه حكى لأخى [153] أنّى وافيت إلى هذا الموضع لارتجع منه بعض أعمال الأهواز.» وضرب بيده إلى لحيته وقال: - «سوءة لها، إن أنا تواضعت لهذه الحال من لى حتى أحتاج إلى استكثار البلاد وادّخار المال له؟ هذا وأخوه ابناى وإنّما أريد الدنيا لهما، والله ما وافيت إلّا لأعقد ما بينهما أمر [2] الرياسة حتى لا يجرى خلاف إن حدثت بى حادثة فإنّى عليل كما ترى واسأله أن يقدّم الكبير على نفسه كما جرت العادة وبارك الله له فى بلاده ولو أراد بعض فارس لوهبته له ولقد أصبحت وأمسيت وما مناي على الله إلّا العافية وسلامتهما وإبقاؤهما فإنّهما أخواى بالنسب وابناي بالتربية وصنيعتاى بالولايات ومن لى غيرهما فيقدّر ما يقدّر.» قال: «فعدت إلى معزّ الدولة وحدّثته بالحديث فبكى وحضر فى آخر   [1] . هو محمد بن أحمد كذا فى إرشاد الأريب 3: 181. وفى مط: المافرّوجى. [2] . فى الأصل غموض وقرأناه «أمر» . فى مط والمثبت فى مد: «من» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 النهار عند عماد الدولة فأسرف فى الشكر والدعاء وتذكر الكلام فبكى بحضرته حتى ضمه عماد الدولة إلى نفسه.» وتمّ الصلح مع ناصر الدولة ثم انصرف إلى بغداد وامتدّ إلى باب الشماسية وقدم الخليفة فنزل بالزبيدية [1] . وأظهر معزّ الدولة أنّه يريد الموصل وكتب عن المطيع لله كتابا إلى ناصر الدولة وورد أبو بكر ابن قرابة إلى هناك بجواب الرسالة وتردّد مرّات ثم حمل المال وتمّ الصلح. [154] ودخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وفيها ورد الخبر بوقعة للروم مع سيف الدولة انهزم فيها سيف الدولة وأخذ الروم مرعش [2] وأوقعوا بأهل طرسوس. وفيها قبض معزّ الدولة على اصفهدوست وحمله إلى قلعة رامهرمز. ذكر السبب فى ذلك كان اصفهدوست خال ولد معزّ الدولة وولد له من أخته الحبشي وكان يكثر الدالّة عليه ويقلّ الهيبة له وكان يزرى عليه فى كثير من أفعاله. وبلغ معزّ الدولة عنه أنّه يراسل المطيع لله فى الإيقاع به وأنّه قد استجاب له إلى ذلك فلمّا كثر عليه ذلك قبض عليه. وفيها ورد الخبر بانّ ركن الدولة هزم العلوي الذي كان بجرجان   [1] . كذا فى الأصل ومد: فنزل بالزبيدية. فى مط: فقال بالزيديّة! [2] . فى مط: مرعشر، بدل «مرعش» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 وطبرستان. وفيها دخل أبو القاسم البريدي فى الأمان إلى بغداد ولقى معز الدولة وقبّل الأرض بين يديه وأنزله وأقطعه بمائة وعشرين ألف درهم ضياعا. وفيها ورد الخبر بمسير السّلار [1] وهو المرزبان بن محمّد إلى الرىّ طامعا فيها وفى دفع ركن الدولة عنها فحاربه ركن الدولة وأسره مع ثلاثة عشر قائدا من قوّاده وحمله إلى القلعة بسميرم وحبسه فيها وعاد الأمير ركن الدولة إلى الرىّ وقد شرحنا أمره على الاستقصاء فيما بعد. تزوير خطّ ابن قرابة وفيها خرج الأمير معزّ الدولة [155] إلى الموصل ودخلها وجرت مراسلات بين ناصر الدولة ومعز الدولة استقرّ آخرها على أن يحمل عن الموصل وديار ربيعة وديار مضر والرحبة والشام فى كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم ويقيم الخطبة لعماد الدولة ومعزّ الدولة وبختيار بن معزّ الدولة وأخذ الفضل والحسين ابني ناصر الدولة رهينة وانصرف إلى بغداد. ولم يكن الصيمري أخذ خطّ ناصر الدولة بهذه المفارقة وذلك لأنّ ابن قراتكين غلام صاحب خراسان قصد الرىّ واضطرب معزّ الدولة فبادر إلى بغداد لينفذ منها جيشا إلى أخيه فعسف أبا جعفر عسفا شديدا فى فصل القصّة. فقال الصيمري تسكينا له: - «ارحل إذا شئت فقد أخذت الخطّ بثمانية آلاف ألف درهم.» ونما بعض الخبر إلى ناصر الدولة فامتنع على أبى جعفر من بذل الخط   [1] . فى مط: السلاد، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 وخاف أبو جعفر أن يخبر الأمير معزّ الدولة بالصورة بعد الاعتراف فلا يقيله العثرة وانحدر إلى بغداد. فقال أبو محمّد المهلبي وكان يخلف الصيمري: قلت لأبى جعفر: - «بأىّ شيء تحتجّ على الأمير إذا طالب بهذا الخط فلم تحضره إيّاه؟» فقال: «أطالب ابن قرابة حتى يكتب خطّه عنه فإنّه لا يقدر [1] على مخالفتي ثم إن أنكر ناصر الدولة قلت إنّه خليفته وما كتب عنه يلزمه.» قلت: «فإن لم يكتب ابن قرابة خطّه وهذا مما لا يجوز أن تكرهه عليه؟» قال: «نزوّر [156] على خطّ ابن قرابة.» (وكان ببغداد من يزورّ على الخطوط عجبا) . قلت: «فإذا صحّ رأيك على هذا فلا تطالب ابن قرابة بكتب الخطّ فإنّه إن امتنع عليك بطل التزوير به ولكن نزوّر. فزوّرنا والله على خطّ ابن قرابة ضمانا بثمانية آلاف ألف درهم وخرج الصيمري لحرب عمران ثم حدثت الحادثة من موت عماد الدولة وشخص وكانت كرّته التي ما عاد بعدها.» ووافى ابن قرابة وطالبته بالمال فأبى وأريته الخط فجحده وحلف بالطلاق أنّه ما كتبه ثم قال: - «ما أشك أنّه خطّى ولكن ما كتبته. ثمّ هذا يا هذا أنا قد شككت فكيف غيرى [2] ممّن تشتبه عليه الخطوط؟ وأنت تعلم يا با محمد أنّ ناصر الدولة امتنع من كتب الخطّ على أبى جعفر وانّ أبا جعفر خرج وما أخذه وقد أحاطت بى البلوى وليس هذا حقّى عليك.» فقلت: «الأستاذ أبو جعفر غائب وكلامك فيه لا يقبل والأمير ينصر وزيره   [1] . فى مط: لا يقدر قرابة، بزيادة «قرابة» . [2] . فى مط: عزمي، بدل «غيرى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 ولا ينصرك ويشهد ونحن معه أنّ [1] هذا خطّك لئلّا يبطل ماله ويصير محصوله مخاصمة وزيره ولكن الرأى أن تقول للأمير: لما حدث أمر ابن قراتكين وخرج الجيش إلى الري طمع ناصر الدولة وجحد الضمان والوجه مقاربته [2] حتى يصحّ من جهته بعض المال وإلّا بطل الأصل، ثم إذا زال هذا الشغل بعد سنة صار [157] الكلام لسنة مستأنفة ويعجّل شيئا يؤخذ منه فإنّ هذه السنة أصلح» .» فأعاد ذلك على الأمير معزّ الدولة ودعاني على خلوة وقال لى: - «أى شيء ترى؟.» فقلت: «الوجه أن نقارب ونأخذ ومتى تمكّنّا من قصد الموصل فالضمان معنا ونحن نستوفى تمام الثمانية آلاف الألف الدرهم.» قال: «فافعل.» وقررنا الأمر على ثلاثة آلاف ألف درهم لسنة واستوفيناها. وكان الصيمري لمّا انصرف من عند ناصر الدولة بالصلح صار ناصر الدولة إلى الموصل وعسف الناس وطالبهم بمال التعجيل. خروج سبكتكين إلى الرّىّ وفى هذه السنة خرج سبكتكين الحاجب ومعه أكثر الجيش والقرامطة إلى الري مددا لركن الدولة ثمّ أتبعه معزّ الدولة بروزبهان وعليكان وجماعة من الديلم ولحقوا به.   [1] . فى مط: ونشهد نحن أنّ ... ، بدل «ويشهد ونحن معه أنّ ... » [2] . الضبط من الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 ذكر السبب فى ذلك كان السبب فيه أن جيش خراسان تحرّك فورد الخبر على ركن الدولة وكان ابن عبد الرزاق من كبار أصحاب الجيوش بخراسان إلّا أنّه كان مستوحشا من صاحبه فكاتب ركن الدولة بأنّه صائر إليه فى الجيش الذي معه فاستعدّ له ركن الدولة وأعدّ أصناف الكرامات له. وكاتب أخاه أبا الحسين أحمد بن بويه معزّ الدولة وأخاه أبا الحسن على بن بويه عماد الدولة فحمل كل واحد منهما إليه شيئا كثيرا من المال والدوابّ [158] والثياب والألطاف فصرفها كلّها إليه مع ما أضاف إليه من جهته، وذلك بعد أن حضره ووطئ بساطه ورده إلى الدامغان فوصل إليه شيء لا عهد له بمثله. وإنّما ردّه إلى الدامغان لئلا يتضايق الرىّ بالعساكر وقيل له: - فرّق من الأموال ما ترى على من ترى. ثمّ استقرّ الرأى بين الأمراء الثلاثة أعنى عماد الدولة وركن الدولة ومعزّ الدولة على تقليد ركن الدولة خراسان والعقد له عليها ليكون محاربته إيّاهم على الأصل والولاية. ثمّ وردت الأخبار بحركة المرزبان بن محمّد بن مسافر وهو السّلار وأنّه عازم على قصد الرىّ لمحاربة ركن الدولة مغتنما ورود جيش خراسان وأنّه سيشغله ذلك عنه. فندب عند ذلك معزّ الدولة سبكتكين الحاجب للمسير إلى ركن الدولة مددا له بعد أن عظم أمره وفخم شأنه، وضمّ إليه جماهير عسكره وأكابر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 قوّاده وفيهم بورريش [1] وروزبهان ومن يجرى مجراهما وقطعة وافرة من الأتراك وثلاثة آلاف من شجعان العرب المعروفين فيهم إبراهيم بن المطوّق المعروف بابن البارد وعمّار المجنون وأحمد بن صالح الكلابي وطبقتهم وأطلق الأموال وأزاح العلل فى الخيل والسلاح وغيرها. وكتب عهد ركن الدولة على خراسان وعقد لواءه وحملت الخلع إليه معه وخرج بذلك أحد حجّاب [159] السلطان مع سبكتكين الحاجب فسارت الجماعة معه على أتم أهبة. فلمّا وصل العسكر إلى ظاهر الدينور خلع بورريش الطاعة وأنف من متابعة سبكتكين والمسير تحت رايته وجمع إلى نفسه الديلم الذين فى العسكر فاستجابوا له جميعا وبكروا عليه فى غداة غد وهو فيها غافل جالس فى خيمة له فغافصوه [2] ورماه بزوبين أثبته فى كتفه وولى من موضعه وخرج مجروحا من تحت ذيل خيمته وركب جنيبة النوبة فبرز إلى الصحراء وتلاحق به غلمانه وسائر الأتراك مع العرب وتمكن الديلم من رحله وسواده فنهبوه ونهب رحل حاجب السلطان الذي معه الخلع فذهبت فى النهب. وتحيز الديلم كلّهم مع بورريش إلّا روزبهان ونفرا قليلا معه فإنّهم اختاروا طاعة سبكتكين على طاعة بورريش ومرّ بورريش هائما على وجهه ورجع عنه الديلم إلى سبكتكين فقبلهم سبكتكين وبسط عذرهم ولم يسئ إلى أحد منهم. وأمر العرب بطلب بورريش فلم يكن بأسرع من أن يوافى به إبراهيم بن المطوق المعروف بابن البارد أسيرا مسلوبا فأقيم بين يدي سبكتكين فخاطبه   [1] . كذا فى الأصل: بورريش، فى كل المواضع وفى مط: نور دانش. [2] . غافصه: فاجأه وأخذه على غرّة منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 بما يجرى مجرى التشفي وأسمعه القبيح ثمّ أمر بتقييده ورحل إلى همذان واستأنف الخلع التي انتهبت حتى [160] أقام العوض عنها ثم تمم المسير إلى حضرة ركن الدولة فوجده نازلا بباب الري فسلم بورريش إليه فكان آخر العهد به. ولبس الخلع فبرز فيها للناس وقرئ عهده على خراسان بمشهد من القضاة والقواد ووجوه الناس ووافاه المدد من شيراز واستدعى محمد بن عبد الرزاق من الدامغان لمناجزة المرزبان فإنّه كان أهمّ وأولى بالابتداء فلمّا واقعه ظفر به وأخذ أسيرا كما حكينا فى أخباره. ودخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة انحدار الصيمري لمحاربة عمران بن شاهين وفيها انحدر أبو جعفر الصيمري لمحاربة عمران بن شاهين وكان هذا الرجل من أهل الجامدة وجنى جناية فهرب إلى البطيحة من سلطان الناحية فأقام بين القصب والآجام واقتصر على ما يصيده من السمك قوتا ثم اضطر إلى معارضة من يسلك البطيحة متلصصا وعرف خبره جماعة من صيادي السمك [1] فاجتمعوا اليه مع جماعة من المتلصصة هناك حتى حمى جانبه من السلطان. فلمّا أشفق من أن يقصد استأمن إلى البريدي فقلده أبو القاسم الجامدة [2] للحماية والأهواز التي فى البطائح فما زال يجمع الرجال إلى أن كثر أصحابه وقوى فغلب على تلك النواحي.   [1] . فى مط: الصمك! وهو تصحيف نشأ من سيطرة الصاد على الكلمات فى الأسطر الأخيرة. [2] . فى مط: الجامدة (بالحاء المهملة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 انصراف ابن قراتكين إلى نيسابور وفيها ورد الخبر بأنّ ابن قراتكين غلام صاحب خراسان [161] انصرف إلى نيسابور وتفرّقت جموعه عنه وبقي وشمكير بطبرستان فسار إليه ركن الدولة. يريده فلمّا قرب منه انصرف بغير حرب وعارضه علىّ بن سرخاب أحد قواد ركن الدولة فأوقع بسواده واستأمن أكثر أصحاب وشمكير إلى ركن الدولة ودخل ركن الدولة آمل. إيقاع الصيمري بعمران وفيها أوقع الصيمري بعمران بن شاهين دفعة بعد دفعة واستأسر أهله وعياله وهرب عمران بن شاهين واستتر. ورود خبر موت عماد الدولة واضطراب الجيش ثمّ ورد الخبر بموت عماد الدولة علىّ بن بويه فاضطرب الجيش هناك وكتب معزّ الدولة إلى الصيمري بالمبادرة إلى شيراز لإصلاح الأمور بها فترك الصيمري ما كان فيه من طلب عمران ابن شاهين وبادر إلى شيراز. ووافى ركن الدولة إلى شيراز واجتمعا على تقرير الأمور وضبط البلد وإصلاح أمر الجيش فلمّا استقام الأمر وصلح البلد سلماه إلى الأمير أبى شجاع فنّاخسره بن ركن الدولة وانصرفا عنه. وكانت علة عماد الدولة التي مات فيها قرحة فى كلاه طالت به ونهكت جسمه ولمّا مات نفذت كتب الخليفة بأنّه قد نصب أخاه الأمير ركن الدولة مكانه وجعله أمير الأمراء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 وتغيرت نيّة الأمير معزّ الدولة على أبى الحسن المافرّوخى وقبض على أبى محمد علىّ بن عبد العزيز ابن عمّه بالبصرة ثمّ على أبى الحسن بعده لمّا عجزا عن [162] ضمان البصرة والأسافل فإنّ أمرها كان مشتركا وكتب إلى أبى جعفر الصيمري وهو بشيراز بأن ينفذ إليه أبو الفضل العبّاس بن فسانجس [1] فأنفذه وقلّده الدواوين التي كانت إلى أبى الحسن المافرّوخى ويسألها منه قبل أن يستكتب الأمير معزّ الدولة أبا محمد المهلّبى بأسبوع. ثمّ حاول أن يدخل يده فى ديوان السواد ليجرى فى ديوانه فمنعه أبو محمّد المهلبي واحتجّ عليه بأن هذا الديوان كان يجرى فى ديوان الصيمري. ثمّ حاول أن يدخل يده فى ديوان النفقات وكان يتولّاه أبو الفضل العبّاس ابن الحسين الشيرازي وفى ديوان الجيش وكان إلى سهل بن برديشت وفى حساب الخزانة الذي يتولّاه أبو على الحسن بن ابراهيم الشيرازي فمنعه معزّ الدولة من ذلك لخصوص هذه الطائفة [به] [2] وسكونه إليها. وفيها ورد الخبر بأنّ كوركير وينال كوسه [3] قتلا الموكّلين بقلعة رامهرمز وكسرا قيودهما وخرج ينال كوسه وهرب فلقيه الأكراد ومانعهم فقتلوه ولم يخرج كوركير ولا فتح اللشكرى ولا أرسلان كور ولا اصفهدوست وكتب معزّ الدولة إلى أبى جعفر الصيمري وهو بشيراز أن يبادر إلى القلعة وحفظها فبادر وكان اصفهدوست [4] عليلا من قولنج فمات بها. ولمّا بعد الصيمري عن عمران [163] وشغل بهذه الأسباب بعد أن لم يبق   [1] . فسانجس: ما فى الأصل ومط مهمل إلّا فى الحرف الأوّل، والضبط من مد. [2] . ليس فى الأصل والزيادة من مد وهي صواب. [3] . فى مط: كوشه. [4] . فى الأصل: اسفهدوست (فى الموضعين الأخيرين) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 فى أمره شيء تنفّس وخرج من استتاره وعاد إلى أمره وجمع إليه من كان تفرّق عنه من رجاله وقوى أمره. ترشيح فنّاخسره للأمر وفى هذه السنة أحس علىّ بن بويه عماد الدولة بالموت لمخالفة العلل إيّاه وخاف لبعد أخيه عنه وكثرة من فى جملته من كبار الديلم أن يطمع فى مملكته بعده فاستدعى فنّاخسره بن ركن الدولة من أبيه ليرشّحه للأمر بعده ويأنس به القوّاد والجيش ففعل ذلك. وسار فناخسره بن ركن الدولة إلى شيراز وضم إليه أبوه حاشيته الثقات ولمّا قرب من شيراز تلقّاه عماد الدولة فى جميع عسكره [1] وأجلسه فى داره على السرير وأمر الناس بالسلام عليه ووقف بحضرته لئلا يمتنع أحد فكان يوما عظيما مشهودا، ثمّ عهد إليه بعد ذلك ومات. ذكر استعمال حزم واستظهار من عماد الدولة قبل موته كان عماد الدولة يتهم جماعة من أكابر قوّاده ويعرفهم بطلب الرياسة لأنفسهم. وكانوا يرون أنفسهم أكرم منه منصبا وأحق بالولاية فنظّف عسكره منهم وقبض على جماعة. فكان ممن قبض عليه شيرنجين بن جليس فخوطب فيه وتشفّع فيه [164] وجوه حاشيته وثقات أصحابه فقال لهم: - «إنّى أحدّثكم عنه بحديث فإن رأيتم بعد استماعه أن أطلقه فعلت.»   [1] . وفى مد وقع خلط: جاء «عسكره» بعد «وضمّ» وأثبت «جمع» بدل «جميع» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 ثم ابتدأ يحدّثهم أنّه كان بخراسان فى خدمة نصر بن أحمد. قال: - «ونحن يومئذ فى شرذمة من الديلم وكان يجلس نصر بن أحمد للسلام فى كل أسبوع مرّتين فجلس ذات يوم وحواليه من مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر آلاف غلام سوى سائر العسكر فرأيت شيرنجين هذا قد جرّد دشنيا [1] واشتمل عليه بكسائه. فقلت له: - «ما هذا؟» قال: «أريد أن أصنع اليوم ما أذكر به آخر الدهر.» قلت: «وما هو؟» قال: «أدنو كأنّى متظلم أو طالب حاجة فأقبّل الأرض ولا أزال أدنو حتى إذا وثقت بالوصول إلى هذا الغلام (يعنى نصر بن أحمد) فتكت به ثمّ لا أبالى أن أقتل بعده وقد أنفت من القيام بين يدي صبىّ.» وكان لنصر بن أحمد يومئذ عشرون سنة وقد خرجت لحيته. فعلمت أنّه إن فعل لم يقتل وحده حتى نقتل كلّنا معه معاشر الديلم فأخذت بيده وقلت له: - «بيني وبينك حديث.» وجمعت عليه الديلم وحدّثتهم بما همّ به وما يجيء علينا كلّنا إن تمّ له ما يريد فقبضوا على يده وأخذوا منه الدشنى. أفتريدون من بعد أن سمعتم رأيه فى نصر بن أحمد أن أمكّنه من الوقوف بين يدي هذا الصبى؟ [165] فأمسكوا عنه وقالوا: - «الأمير أعلم بجيشه.» ولم يزل محبوسا حتى توفّى فى محبسه.   [1] . فى الأصل ومط: دشنيّه. والمثبت فى مد: دشنيا. وأصله الفارسي: دشنه: أى خنجر. والمثبت فى حواشي مد: دشته، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 وفى هذه السنة قلّد أبو السائب عتبة بن عبيد الله قضاء القضاة. ودخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة خبر دخول ابن قراتكين غلام صاحب خراسان إلى الرى ّ وفيها ورد الخبر بدخول ابن قراتكين غلام صاحب خراسان إلى الرىّ وانصراف من كان بها من أصحاب ركن الدولة وكان ركن الدولة بطبرستان واستولى أصحاب ابن قراتكين على الجبل كلّه. موت الصيمري وفيها مات أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري فى حمى حادّة بالبزبونى من الجامدة لمّا عاد لمحاربة عمران بن شاهين. استكتاب معزّ الدولة المهلّبى وفيها استكتب معزّ الدولة أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلّبى ولما ورد الخبر بموت أبى جعفر الصيمري أرجف لجماعة [1] بأنّ الأمير معزّ الدولة يستكتبه فمنهم أبو علىّ الطبري ومنهم أبو علىّ الحسن بن هارون ومنهم أبو محمّد المهلّبى واجتمع أبو محمّد المهلّبى وأبو علىّ الحسن بن هارون فتحالفا على أنّ من صحّ له الأمر منهما كان لصاحبه على مودّة ومشاركة. وسعى أبو على الطبري وكان رجلا أمّيا فى أول أمره نخّاسا يبيع الرقيق فخطب كتبة الأمير أبى الحسين مكان أبى جعفر الصيمري وبذل مالا فأطمعه معزّ الدولة فيما قدّر وتقدّم إليه بحمل المال فحمل إلى الخزانة مالا فلمّا صحّ   [1] . فى مط: الجماعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 المال عدل عنه [166] إلى أبى محمّد المهلّبى فقلده كتابته وتدبير أعمال الخراج وجباية الأموال وخلع عليه لذلك يوم الإثنين لثلاث بقين من جمادى الأولى. وزوّج أبو محمّد المهلّبى ابنته من أبى على الحسن بن محمّد الأنبارى الكاتب واستخلفه بالحضرة وانحدر إلى الأهواز. ذكر السبب فى اختيار معزّ الدولة أبا محمّد المهلّبى وإيثاره إيّاه على وجوه الكتّاب من الحضرة وغيرهم مع وفور عدد الكفاة يومئذ سبب ذلك أنّه وجده جامعا لادوات الرياسة وكان لا يجمعها غيره وإن كان فيهم من هو أرجح كتابة. وأيضا فقد أنس به على طول الزمان وأنّه خلف الصيمري على الوزارة فعرف غوامض الأمور وأسرار المملكة وكان الباقون لا يعرفون ذلك ولا يخرج إليهم ولا يوثق بهم فيها. وكان مع ذلك حسن الإنباء عن نفسه فصيحا مهيبا متوصّلا إلى إثارة الأموال عارفا برسوم الوزارة القديمة سخيّا شجاعا أديبا يفصح بالفارسية فتلافى أكثر ما درس [1] من رسوم الكتابة واستدرك كثيرا من العمارات وأثار وجوه الأموال من مواضعها فحسنت إثارة [2] . وتوفر مع ذلك على أهل الأدب والعلوم فأحيا ما كان درس ومات من ذكرهم ونوّه بهم ورغّب الناس بذلك فى معاودة ما أهمل منها. ثمّ خرج إلى الأهواز فجمع أموالا [167] كان قد طمع فيها العمال من بقايا وزيادات زادها فى العقود عليهم ومن مؤامرات ناظر عليها العمّال   [1] . والمثبت فى مد: دارس، وهو مخالف لما فى الأصل ومط. [2] . إثارة: والضبط من مط: فى الأصل: اثاره. والمثبت فى مد: آثاره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 والضمناء فألزمهم أموالها فاتصلت حموله وظهر فضله على من تقدّمه. ثمّ انتقل من الأهواز إلى البصرة فكان أثره فيها أوفر وإثارته للأموال منها أكثر كما سنذكر بعضه. إيغال سيف الدولة فى بلاد الروم وما كان من عاقبته وفى هذه السنة ورد الخبر بأنّ سيف الدولة غزا وأوغل فى بلاد الروم وفتح حصونا كثيرة من حصون الروم وسبى عددا. فلمّا أراد الخروج من بلد الروم أخذ الروم عليه الدرب الذي أراد الخروج منه فتلف كل من كان معه من المسلمين أسرا وقتلا وارتجع السبي الذي كان سباه وأخذ سواده وكراعه وخزائنه وأمواله وسلاحه وغنم الروم منه غنيمة لم يروا مثلها وأفلت فى عدد يسير. خروج سبكتكين إلى همذان وفيها خرج الحاجب سبكتكين إلى همذان مددا لركن الدولة فلمّا دخل قرميسين أسر من كان بها من أصحاب ابن قراتكين. ردّ القرامطة الحجر الأسود وفيها ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى موضعه من البيت الحرام بمكّة وكان أخذه أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى من البيت الحرام وكان بجكم بذل فى ردّه خمسين ألف دينار فلم يردّ، وقيل: إنّا أخذناه بأمر وإذا ورد الأمر بردّه رددناه. فلمّا كان فى ذى القعدة [168] من هذه السنة كتب إخوة أبى طاهر كتابا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 يذكر [1] فيه أنّهم ردّوا الحجر بأمر ممن أخذوه بأمره ليتمّ مناسك الناس وحجّهم. وكان الذي جاء به أبو محمّد ابن سنبر ثم سار به إلى مكّة وردّه إلى موضعه. ذكر الآثار الجميلة التي أثّرها الوزير أبو محمّد المهلّبى حتى عمرت الخراب [2] وتوفّر دخلها واتصل الحمل منها بعد انقطاعه قد كان معزّ الدولة لمّا فتح البصرة ودخلها تظلّم إليه الرعية من سوء معاملات البريديين فعرف أكثرها وذلك أنّ أبا يوسف البريدي خاصّة تفرّد بالنظر فى أعمال البصرة وجباية أموالها. فرسم لأبى الحسن ابن أسد الكاتب أن يطالب ملّاك الأرضين التي يؤخذ منها حقّ العشر- وتعرف بصدقات أراضى العرب- بالبصرة عن كل جريب من الحنطة والشعير عشرين درهما وإنّما فعل ذلك بسبب زيادة الأسعار بالبصرة وأنّ الكر بالمعدّل من الحنطة بلغ بها مائتي دينار ولم يستعمل ذلك إلّا على تدريج. فلمّا قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف أقرّ ابن أسد على العمل وأجرى الناس على ذلك الرسم. وكانت العمارة تنقص فى كل سنة لأجل جور البريديين وعمّالهم وهم يطالبون بالعبرة فنقص مال العبرة [169] عن جربان العمارة فزاد ذلك ما يلزم كل جريب فى السنة على ما كان يلزمه فى السنة التي قبلها.   [1] . فى الأصل ومد: يذكرون. فى مط: يذكر، وهو أنسب. [2] . فى مط: بعد الخراب، زيادة «بعد» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 وكان قد قحط أهل البصرة بالمحاصرات التي لحقتهم فألزموا أن يزرعوا تحت النخل حنطة وشعيرا فلمّا فعلوا ألزموا عن كل جريب أربعين درهما فقصّروا فى العمارة، فجعل ما كان يرتفع عبرة عليهم واستوفى من ملّاك أرض العشر فتهارب الناس فزاد ذلك على من بقي. فلمّا تقلّد أبو محمّد المهلبي وزارة معزّ الدولة ودخل البصرة وتظلّم إليه أهل البصرة من العبر التي جعلت عليهم فى أرضى الحنطة والشعير فوعدهم بكل ما أنسوا به. ثمّ قرر أمرهم على أن يردّوا إلى رسمهم القديم فى أخذ العشر حبّا بعينه من غير ترييع [1] ولا تسعير ونظر فيما بين ذلك وبين ما يؤخذ منهم على تقريب فأشار على أرباب العشر أن يبتاعوا [2] فضل ما بين المعاملة على الظلم والمعاملة على الإنصاف بثمن يرغب فيه معزّ الدولة عاجلا فيسهل عليه ما ينحطّ من الارتفاع مع ما يتعجّل له من المال ثم يضاف إلى ذلك ما يثمّره العدل وموقعه من قلوب الناس مع الرجاء فى المستقبل لزيادة الارتفاع. فاستجابوا وتقرر الأمر بينهم على ألفى ألف درهم [170] ومائتي ألف درهم وكتب لهم بذلك وثيقة ثمّ حطّ من الجميع عن الضعفى مائتي ألف درهم وكتب إلى معزّ الدولة بأنّ فى ذلك حظا وصلاحا ووفورا فى ارتفاع الناحية فى المستقبل فحسن موقع فعله من معزّ الدولة فأمضاه. وحضر البصريون فاشهدوا على المطيع لله بالبيع وسجّلوا بالابتياع ونسب المبتاع إلى فضل ما بين المعاملتين فى العبر فعمر الناس وتضاعف الارتفاع للسلطان وزال عن البصرة تلك الرسوم وصار يرتفع عن المراكب ما يعدل   [1] . ترييع: كذا فى الأصل. فى مط: ترييع، كما هو المثبت فى مد. [2] . فى مط: أن يتنازعوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 ألفى [1] ألف درهم فكان هذا من الآثار الجميلة لأبى محمّد المهلّبى. ورود الخبر بشغب فى عسكر سبكتكين وانصراف القرامطة مع الأتراك وفى هذه السنة ورد الخبر بشغب جرى فى عسكر الحاجب سبكتكين وأنّ القرامطة انصرفوا مع الأتراك بعد أن أوقع [2] بهم ركن الدولة. ذكر السبب فى ذلك كان الاجتهاد شديدا فى استصلاحهم لأنّهم كانوا بإزاء حرب فلمّا تعذّر قال ركن الدولة: - «هؤلاء أعداء معنا فى عسكرنا وهم أشدّ علينا من أعدائنا الذين بإزائنا والوجه أن نحاربهم ونطردهم.» فحاربهم وهزمهم فأمّا العرب فصاروا إلى معزّ الدولة وأمّا الأتراك فمضوا إلى الموصل ولمّا سار ركن الدولة إلى همذان ارتحل ابن قراتكين من الرىّ [171] إلى أصبهان. وفى هذه السنة واقع أبو محمّد المهلّبى عمران بن شاهين ومع أبى محمّد المهلّبى روزبهان فكانت على المهلبي وروزبهان واستؤسر أكثر قوّادهما وقتل أبو الفتح ابن أبى طاهر بعد أن استظهر المهلّبى واستعلى.   [1] . فى مط: ألفا. [2] . فى مط: وقع، بدل «أوقع» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 ذكر السبب فى ذلك وفى هزيمة المهلّبى بعد الاستظهار على عمران كان السبب فى ذلك أنّ معزّ الدولة كان عوّل على روزبهان فى محاربة عمران فبنى آلات الماء وأثبت الرجال واحتشد فطاوله عمران وتحصّن فى مكامنه من البطائح فضجر روزبهان وأقدم عليه طلبا لمناجزته فاستظهر عليه عمران وهزمه وهزم أصحابه وغنم جميع آلاته وسلاحه فقوى بها. وتضاعف طمعه فى السلطان وضرى أصحابه على جند السلطان واستخفّوا بهم فكان بعد ذلك إذا اجتاز بهم الحجاب الكبار المحتشمون والقوّاد والأمراء من الديلم والأتراك سفهوا عليهم وطالبوهم بحق المرصد والبذرقة فإن تأبّى عليهم أحد تناولوه بالشتم القبيح والضرب المهين وكان الجند لا يستغنون عن الاجتياز بهم لحاجتهم إلى ضياعهم ومعاملاتهم بالبصرة [172] والأهواز ثم انقطع طريق البصرة إلّا على الظهر. فشغل ذلك قلب معزّ الدولة وكثر بكاء الأمراء والحجّاب والقوّاد بين يديه بما يجرى عليهم من الهوان فى اجتيازاتهم فكتب إلى الوزير المهلّبى بالإصعاد إلى واسط لتلافي الحادثة والتجرد لطلب عمران ومعاودته الحرب وجرد إليه عسكرا جرّارا فيه ابن أبى طاهر ووجوه قوّاده وغلمانه وحمل إليه سلاحا كثيرا وأطلق يده فى إنفاق الأموال فزحف إلى عمران وسدّ عليه مذاهبه وانتهى إلى مضيق فى البطيحة [و] [1] شعب لا يعرف مسالكها إلّا عمران وأصحابه. فأحبّ روزبهان أن يلحق المهلّبى مثل ما لحقه من الهزيمة ولا يستبدّ   [1] . الواو زدناها من مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 بالظفر فأشار عليه بالاقتحام والهجوم وتوثق المهلّبى وأراد سدّ تلك المضايق فأخذ روزبهان فى التضريب عليه وعارضه فى كلّ ما دبّره ومنعه من هذا الاستظهار وسدّ الشعب وكتب إلى معزّ الدولة يستعجزه ويذكر أنّه إنّما يحجم ويجنح إلى المطاولة ليحتسب بالأموال فى النفقات. ولم يزل بذلك وشبهه إلى أن وردت كتب معزّ الدولة بالاستبطاء فترك المهلبي الحزم [1] وركب الخطأ وعدل عمّا يدبّره كله ودخل بجميع عسكره [173] هاجما على عمران وتأخّر روزبهان ليصير أول الخارجين عند الهزيمة. وقد كمّن عمران كمناءه فى تلك المعترضات وشحنها بالآلات الموافقة لتلك المضايق فخرجوا على العساكر وهم متزاحمون متضايقون فى طريق الماء لا يعرفونها فوضعوا فيهم الحراب فقتلوا وأسروا وانصرف روزبهان موفورا ونجا الوزير المهلّبى سباحة وحصل القوّاد والوجوه فى الأسر. فاضطرت الحال إلى مصالحة عمران فقوى واستفحل أمره وأجيب إلى كل ما اقترح. وقد كنا ذكرنا ورود الخبر بمسير السلّار المرزبان إلى الرىّ ووعدنا هناك باستقصاء خبره والآن حين نبدأ بذلك. ذكر الأسباب التي بعثت السلّار المرزبان على قصد الرىّ وما انعكس عليه من تدابيره حتى أسر وحبس فى القلعة بسميرم كان المرزبان أنفذ رسولا إلى معزّ الدولة فى أمور حمله إيّاها فورد مدينة   [1] . فى مط: الحرم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 السلام وقد رحل عنها إلى البصرة فافتتحها وأقام هذا الرسول منتظرا له إلى أن عاد فأدّى إليه الرسالة وكان فيها ما غاظه فتقدّم بحلق لحيته ففعل وأسمع نهاية ما كره وانصرف على هذه الحال. فحكى للمرزبان ما جرى عليه فامتعض وأخذ [174] فى جمع الرجال والاستعداد ورأى أن يبتدئ بالرىّ فراسل ناصر الدولة سرّا يبذل له المعاونة بنفسه وأولاده ورجاله وماله وأشار عليه بأن يبتدئ بقصد بغداد فخالفه وأجابه بجميل وأعلمه أنّه يرى الصواب فى الابتداء بالرىّ فإن تمّ له ما يريد طلب بعد ذلك بغداد وغيرها. وكان استأمن إليه من قوّاد الرىّ علىّ بن جوانقوله [1] فعرفه نية القوّاد الذين وراءه بالري وأنّهم على المصير إليه فزاده ذلك طمعا واستدعى أباه محمّد بن مسافر وأخاه أبا منصور وهسوذان. فلمّا وافاه أبوه تلقّاه وقبّل الأرض بين يديه وأجلسه فى صدر الدست ووقف بحضرته وامتنع من الجلوس حتى حلف عليه أبوه دفعات كثيرة فجلس وامتنع وهسوذان من الجلوس فلمّا جنّ الليل خلوا جميعا وتفاوضوا. فلمّا عرف أبوه صحّة عزمه فى قصد الرىّ فثأ عزمه وعرّفه أحوالا توجب الامتناع من قصدها فأبى عليه وقال: - «قد وردت علىّ كتب وأكثر القوّاد هناك مستعدّون للانحياز الىّ.» فلمّا كان وقت الوداع بكى أبوه وقال: - «يا مرزبان أين أطلبك بعد يومى هذا.» فقال مجيبا له: - «إمّا فى الإمارة بالرىّ وإمّا بين القتلى.»   [1] . فى مط: حوا بقوله! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 وقد كان ركن الدولة [175] حين عرف خبره كتب يستمدّ من أخويه عماد الدولة ومعزّ الدولة وخشي أن يعاجله المرزبان قبل ورود المدد فكتب إليه على سبيل المكر والخديعة يعظّمه ويستخذي له ويسأله أن ينصرف عنه على شريطة أن يفرج له عن أبهر وزنجان وقزوين. ولم تزل الرسائل تتردّد بينهما إلى أن ورد حضرة ركن الدولة بارس الحاجب فى ألفى رجل من جيش عماد الدولة وورد سبكتكين الحاجب فى ألفى رجل من جيش معزّ الدولة وكان قد صار إليه محمّد بن عبد الرزاق مستأمنا من عسكر خراسان ومحمّد بن ماكان مددا من جهة الحسن بن الفيروزان فلمّا تناهى استظهاره قبض على جماعة من قوّاده الذين شكّ فيهم واتّهمهم بمكاتبة المرزبان وسار إلى قزوين فى جميع هذه الجيوش. فعلم المرزبان أنّه لا طاقة له به ولكنّه أنف من الرجوع فعمل على محاربته وكان مع المرزبان يومئذ خمسة آلاف من الديلم والجيل والأكراد فحملت ميمنة ركن الدولة وميسرته على ميمنة المرزبان وميسرته فانهزمتا جميعا وثبت هو فى القلب إلى أن قتل بين يديه حموه بلى وونداسفجان بن ميشكى [1] وأسر علىّ بن ميشكى المعروف ببلّط ومحمّد بن إبراهيم وعدّة من أكابر قوّاده وأحاطت الرجال به فأسر وحمله [176] ركن الدولة إلى الرىّ ومنها إلى أصبهان وحمل من أصبهان إلى قلعة سميرم. فلمّا انفصل من الرىّ مع جماعة من قوّاد ركن الدولة وخوّاصه وكانوا مضمومين إلى الأستاذ الرئيس حقّا أعنى أبا الفضل ابن العميد رحمه الله كان [2] هو المتولى حفظه والاستظهار عليه إلى أن يحصل فى القلعة.   [1] . فى مط: مشكى. [2] . فى الأصل ومط: وكان، بزيادة «و» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 ذكر تدبير تمّ على المرزبان حتى حصل بإصبهان بعد أن كان واطأ الديلم الذين أخرجوا معه على الفتك بأبى الفضل ابن العميد والهرب به حدّثنى الأستاذ الرئيس أبو الفضل قال: لمّا كنّا بين الرىّ وأصبهان تحقّق عندي مراسلة الديلم إيّاه واجتماعهم على أن يأخذوه قهرا ويحلّوا قيوده ويفتكوا بى وظهر ذلك حتى كادت المكاشفة تقع. فلمّا خفت فوت التدبير سايرته وهو فى عمارية وحادثته وهو ينتظر فى ذلك اليوم أن يتمّ له ما يريد وجعلت أقاربه وألين له. فأظهر التوجّع والتألم مما حصل فيه فلمّا أطمعته فى نفسي- وكان لا يطمع فى ذلك من قبل- أمال إلىّ رأسه وقال: - «أنت مقبل فإن كنت صادقا فابدأ بحلّ قيودي وعلىّ لك كيت وكيت.» وضمن الضمانات التي تبذل فى مثل ذلك الوقت. فأوهمته أنّى لا أعرف شيئا من مواطأة الديلم له وقلت: - «أخشى ألّا يساعدني من معى على ذلك.» فقال: «غفر الله لك، أنت لا تعرف [177] الصورة، جميع من معك قد عملوا على فكّ قيودي والفتك بك وأنا أريد ذلك الساعة إن شئت.» فقلت: «يكفيني أن أثق بذلك ثم أنا أول عبد خدمك وناصحك وتابعك حتّى يتمّ لك ما تريده.» وحدّثته بأشياء أنكرتها من صاحبي وحقود فى قلبي عليه فاستدعى واحدا بعد واحد من القوّاد الذين كانوا معى وأسرّ إليهم أنّى معه وموال له ووصل حديثه معهم بأن أدخلنى معهم فى التدبير فأظهرت سرورا شديدا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 بذلك وتواعدنا النزول فى المنزل القريب وإتمام التدبير. فلمّا نزلنا وضربت خيمتنا وخركاهاتنا وحصل فى موضعه راسلني وأخلانى بنفسه ثم قال لى: - «ابعث إلى فلان وفلان- يعنى جماعة ممن يثق بهم- حتى يحضروا.» فقلت: «أيّها السلارّ [1] ، إنّ هاهنا تدبيرا يجب أن تسمعه فإن وقع بوفاقك وإلّا فما تأمر به ممتثل.» فقال: «وما هو.» فقلت: «إنّ حرم ركن الدولة وأولاده وخزائنه كلّها بإصبهان وأنا وزيره وثقته والمتولى للجميع فلو امتددنا على صورتنا هذه حتى لا نتّهم لتمكنت من القبض على الجميع وحصلنا فى مدينة عامرة نتمكن فيها من التدبير ومع ذلك فإنّ حرم جميع القوّاد بإصبهان وكذلك أولادهم فإذا قبضنا عليهم لم يبق فى واحد [178] منهم فضل لمحاربتك واستسلم الجميع لك وانهدّ جانب ركن الدولة انهدادا لا انجبار له وتمكنّا أيضا من قلاعه وذخائره وأخرجناها ولم يكن له بقية وإن نحن عاجلنا الأمر وخرجنا من هذا المكان طلبنا الخيول وأحدقت بنا ولم نأمن مع ذلك تقرّب بعض من هو الآن معنا إلى تلك الجنبة ونحن فى عدة يسيرة وحوالينا أصحابه ورجاله ولا نثق بالسلامة إلى المأمن» . فرأيته قد تهلل وجهه ولم يملك نفسه لما استخفّه من السرور وقال: - «ليس الرأى إلّا ما رأيت.» قلت: «فإنّى منصرف عنك فراسل أنت كلّ من واطأك على رأيك الأول بما حدث لك من الرأى.»   [1] . سلّار: أصله الفارسي: سالار (كثير السنّ) : الشيخ بمعانيه، الرّئيس، أمير الجيش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 قال: «نعم.» وقمت عنه وليس عنده شكّ فى حصول الملك له بمواطاتي وأنّه قد أقبل جدّه [1] وتمّت سعادته بتمام تدبيري وشاع فى أصحابه ومن كان واطأه أنّا فى تدبير فسكنوا بعد أن كانوا هموا بما هموا به. وسرت آمنا حتى حصلت بإصبهان فلمّا تمكّنت من الرجال والتدبير بدأت بالقبض على أولئك القوّاد واستظهرت على المرزبان بثقاتى حتى حصّلته فى القلعة بقيوده. ذكر ما جرى فى أمر عسكر المرزبان فى آذربيجان بعد حصوله فى الأسر اجتمع من أفلت من عسكره وقوّاده وفيهم جستان بن شرمزن [2] وعلىّ ابن الفضل وشهفيروز [3] بن [179] كردويه وجماعة من الرؤساء مع ألفى رجل من الفلّ إلى الشيخ محمد بن مسافر، فعقدوا له الرياسة عليهم وصاروا إلى أردبيل فملك آذربيجان وهرب ابنه وهسوذان منه وتحصّن فى قلعته بالطرم لما كان يعرفه من حقده وسوء رعايته. فلم تأت الأيّام على محمّد بن مسافر حتى تجبّر وعاد إلى أسوأ أخلاقه مع الديلم فاجتمع الديلم على الوثوب به فشغبوا وهمّوا بقتله فالتجأ بالضرورة إلى ابنه وهسوذان وعنده أنّه يعصمه فقبض عليه وحبسه فى قلعة شيشخان [4] التي كان فيها وضيق عليه فلم تنبسط له يد ولا نفذ له أمر حتى   [1] . الجدّ: الحظّ، الحظوة. [2] . فى مط: شرمون، وهو تصحيف. [3] . فى مط: سهنفرور، وهو تصحيف. [4] . ما فى مط مهمل تماما. والمثبت فى مد: شيسجان، وما فى الأصل: شيشحان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 توفى وكانت وفاته قبل خلاص ابنه المرزبان من قلعة سميرم. وقلد ركن الدولة محمّد بن عبد الرزاق أعمال آذربيجان بعد أسر المرزبان وأنفذه إليه فتحيّر وهسوذان فى أمره وأضطرّ إلى إخراج ديسم بن إبراهيم من القلعة لطاعة الأكراد إيّاه ولرياسته القديمة على آذربيجان فأطلقه وخلع عليه وقوّاه ومكّنه وواقفه على جمع أكراد آذربيجان ومن يطيعه من غيرهم ويقصد محمّد بن عبد الرزاق. وكان الديلم بعد محمّد بن مسافر اجتمعوا إلى علىّ بن الفضل ورأسوه فتوسّط وهسوذان بينهما حتّى أطاعه علىّ بن الفضل وتمّ [180] أمره وسار ديسم إلى أردبيل واستكتب أحمد بن عبد الله بن محمود وورد ابن عبد الرزاق فانحاز عنه إلى ورثان من نواحي برذعة ليستخرج الأموال وترد عليه عساكر الأكراد. ذكر خطأ ديسم فى إيحاش وزيره حتى فارقه وثلمه فهزمه عدوّه كان بنواحي خوىّ [1] وسلماس كاتب نصراني يعرف بابن الصقر من جهة المرزبان قبل أسره فلمّا بلغه خبر ديسم صار إليه وحمل إليه ما كان جباه فحسن موقعه من ديسم فأكرمه وبالغ فى إكرامه حتى صار يخلو به ويشاوره فاستوحش وزيره ابن محمود واتّقاه. فلمّا استعدّ ديسم للقاء ابن عبد الرزاق سلم إلى ابن محمود خزائنه ونقله وأمره بالمصير إلى جبال موقان للتحصّن بها استظهارا إلى أن ينكشف الأمر. فتسلّم ابن محمود ذلك كلّه وعدل إلى أردبيل وأرسل ابن عبد الرزاق بأنّه   [1] . خوىّ: تشديد الياء من الأصل، والضبط الكامل من مراصد الإطلاع. أصله الفارسي: خوى. مدينة فى آذربيجان الغربية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 صائر إليه وسأله أن يستقبله بطائفة من عسكره ففعل ذلك ووقع ذلك من ابن عبد الرزاق أحسن موقع. وفتّ فى عضد ديسم وبلغه ذلك يوم القتال فضعفت نفسه واضطرب رأيه وتبيّن ذلك منه أصحابه فاضطربوا واستظهر عليه ابن عبد الرزاق فهزمه. [181] ودخلت سنة أربعين وثلاثمائة وفيها لحق ركن الدولة بابن قراتكين غلام صاحب خراسان وواقعه بروذبار من خان النجان سبعة أيام متوالية فانهزم ابن قراتكين وذلك فى المحرم من هذه السنة. ابتداء ذكر مشاهدات مسكويه صاحب هذا الكتاب وما يجرى مجرى مشاهداته قال الأستاذ أبو علىّ أحمد بن محمد مسكويه صاحب هذا الكتاب: أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة فهو عن مشاهدة وعيان أو خبر محصّل يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبى الفضل محمّد بن الحسين بن العميد- رضى الله عنه- خبّرنى عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره وما اتّفق له فيها، فلم يكن أخباره لى دون مشاهدتى فى الثقة به والسكون إلى صدقه، ومثل أبى محمّد المهلّبى- رحمه الله- خبّرنى بأكثر ما جرى فى أيامه وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة. وحدّثنى كثير من المشايخ فى عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجرّبته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 فحدّثنى الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد- رضى الله عنه- عن هذه الوقعة وأنا أحكى أولا السبب فى ورود ابن قراتكين: [182] ذكر السبب فى ورود ابن قراتكين الرى ّ كان ركن الدولة عند وفاة أخيه عماد الدولة بنواحي جرجان وذلك أنّه قصد وشمكير وهزمه وتبعه إلى جالوس [1] فلمّا بلغه وفاة أخيه اضطرب وجزع وعلم أنّ فارس ستضطرب على ابنه فسارع إلى المسير إليها لتوطئة الأمور وانصرف إلى الرىّ فاستخلف بها علىّ بن كامه واتسع خناق أعدائه ببعده عن ممالكه وكلّ حدّث نفسه بأمر. وكتب ركن الدولة إلى معزّ الدولة بما عزم عليه ومما كان من وفاة أخيهما فكتب معز الدولة إلى وزيره أبى جعفر الصيمري وهو يومئذ منازل لعمران بن شاهين بالبطائح بان يخلّى ما هو بسبيله [2] ويصير إلى فارس لخدمة ركن الدولة ففعل وسبق وصوله وصول ركن الدولة فحسن موقع ذلك من ركن الدولة. فلمّا وصل إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه بباب إصطخر فمشى حافيا حاسرا ومشى أهل عسكره وعسكر فارس على تلك السبيل ولزم المصيبة ثلاثة أيّام إلى أن خاطبه الرؤساء وسألوه أن يرجع إلى المدينة ففعل وأقام ستة أشهر. وأنفذ نصيبا من تركة عماد الدولة إلى أخيه معزّ الدولة وكان فى جملتها مائة وسبعون غلاما ومائة وقر من السلاح ثمّ ما يجرى مجرى ذلك من   [1] . جالوس: نقطة الجيم غير واضحة فى الأصل. أصله چالوس المعرّب إلى شالوس وجالوس. فى مط: حابنوس، والمثبت فى مد: حالوس. وكلاهما خطأ. [2] . فى مط: سبيله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 الثياب والآلات واقتطع من أعمال [183] فارس أرجان- وهي كورة من كور فارس- إلى أعماله وخلّف وزيره هناك وانقلب إلى الرىّ. وحدّت أطماع من ذكرت وامتدّت إلى الرىّ والجبل وإصبهان وتسرّبت العساكر إليها فمن ذلك مسير صاحب جيش خراسان إلى الرىّ ومعه محمد بن ماكان من جهة الحسن بن الفيروزان وسار شيرج بن ليلى من قبل وشمكير ثم جمهور عسكر خراسان وكان أبو الحسن علىّ بن كامه قد انحاز إلى إصبهان وتفرّق قوّاد عسكر ابن قراتكين فى ولايات أعمال الجبل وكان منهم بهمذان ينال قام [1] وفى كل بلد من بلدان الجبل مثله. وكان ركن الدولة قد كاتب أخاه معزّ الدولة وهو بعد بفارس يستدعى من يدفع معرّات هؤلاء فأمدّه بسبكتكين الحاجب فى عسكر ضخم من الأتراك والديلم وفيهم جماعة من الأتراك القدماء التوزونيّة وجماعة من العرب وكان مسيره من بغداد سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فدبّر سبكتكين تدبيرا جيّدا. ذكر تدبير صواب تمكّن به سبكتكين من أوّل عدوّ لقيه بقرميسين رأى سبكتكين أن يخلّف عسكره وما ثقل من سواده وينتخب من الفرسان من يثق به ويسرى إلى قرميسين وكان فيها قائد من قوّاد الأتراك الخراسانية يقال له: بجكم الخمارتكينى، وكان [184] ينال قام [2] أنفذه إلى همذان واليا عليها فكبسه سبكتكين وهو فى الحمّام وأخذه أسيرا وأوقع برجاله وأصحابه وأنفذه إلى معزّ الدولة فاعتقله مدّة طويلة ثم أطلقه. ولمّا بلغ ولاة أعمال الجبل ما جرى على بجكم هذا فارقوا مراكزهم   [1] . كذا فى الأصل ومط: ينال قام، وهو المثبت فى مد. [2] . فى الأصل هنا: ينال فام. (بالفاء) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 واجتمعوا إلى ينال قام بهمذان. فلمّا سار سبكتكين نحوهم ساروا من همذان بأجمعهم فلم يحاربوا وورد سبكتكين همذان وأقام بها منتظرا ركن الدولة وذاك أنّ كتب ركن الدولة كانت ترد عليه أنّه يسير من فارس على طريق الجبل ثمّ تأخّر انتظارا لانحسار الثلوج ثمّ ورد همذان وتقدّم إلى سبكتكين بالمسير على مقدّمته. فشغب الصنف من الأتراك التوزونية وأظهروا التضجّر بالمقام الطويل فتوسّط الأستاذ الرئيس أبو الفضل- رحمه الله- بينهم وداراهم وسكّنهم فسكنوا فى الوقت ثم عاودوا من الغد وطال ذلك منهم حتى اتّهموا. فسمعت أبا الفضل ابن العميد- رحمه الله- يقول: إنّى قلت للأمير ركن الدولة: هؤلاء أعداؤنا وقد كاشفونا فكيف نسير بهم إلى أعدائنا؟ فاتّفق الرأى بيننا أن نسكّنهم فإن سكنوا وإلّا حاربناهم وفرغنا من العدو الأقرب فلمّا عملنا على ذلك عملوا على الحرب فأوقعنا بهم ومضوا مفلولين. [185] وسبق خبرهم إلى معزّ الدولة فكتب إلى أبن أبى الشوك الكردي وسائر وجوه الأكراد المقيمين فى أعمال حلوان بطلبهم والإيقاع بهم ففعلوا ذلك وطلبوهم وأسروا منهم وقتلوا. فأمّا الأسارى فأنفذهم إلى بغداد وأمّا الفلّ فصاروا إلى الموصل بحال سيّئة. وأقام ركن الدولة بهمذان لتعرّف خبر ابن قراتكين إلى أن صحّ عنده مسير ابن قراتكين من الرىّ نحو همذان فبثّ جواسيسه وطلائعه لتعرّف خبره. فأتاه الخبر بأنّه عدل عن سمت همذان وأخذ على طريق يؤدّى إلى إصبهان. فسار ركن الدولة فى أثره يقفوه حتى انتهى إلى جرباذقان ووصل ابن قراتكين إلى إصبهان فعاث بها عيثا كثيرا مدة ما أقام ثم عرف قرب ركن الدولة منه فسار إلى طرف مفازة بقرب من إصبهان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 فنزل منها على زرّين روذ ليكون وصول ركن الدولة إليه مع عسكره، وقد قطعوا المفازة ومسّهم التعب والعطش ولا يصلون إلى الماء. فرأى ركن الدولة أن يعدل إلى خان النجان [1] ليلزم سمت قرى زرين روذ ولا يعدم الماء واتصل ذلك بابن قراتكين فانقلب عن موضعه معترضا له لئلا يملك عليه ظهره. فالتقيا فى الموضع المعروف بالروذبار وبينهما زرّين روذ ولكنّه يخيض ولا يمنع الراجل ولا الفارس [186] العبور وذاك أن الفصل كان ضيّقا. فدامت الحرب بينهما سبعة أيّام واشتدت فى اليوم السادس خاصة ثم انهزم ابن قراتكين فى اليوم السابع. وعاد الحديث إلى حكاية أبى الفضل ابن العميد- رضى الله عنه- عن هذه الوقعة. حكى أنّه لحقه وركن الدولة وسائر الجيش من الاضاقة وعوز الميرة والعلوفات وتعذّر جميع الأقوات ما لم يلحقها مثله وذاك أن الأكراد أحدقوا بنا فلم يتمكّن أحد من اطّلاع رأسه عن المعسكر. وانقطعت عنّا المواد وكنا نصل إلى أقواتنا مما تحمله الأكراد إلينا ويبيعوناه بأوفر الأثمان وكذلك العلوفات فكان يجيئنا الكردي بجراب أو مخلاة أو وعاء فيه دقيق فيبيعناه بحكمه فإذا أخذناه ونفضناه وجدنا قدر الدقيق فيه مقدار ما رأيناه فى رأس الوعاء وأسفله كلّه تراب ثم يختلط ذلك القدر اليسير بالتراب فلا ينتفع بشيء منه وكذلك يفعل بالشعير والحنطة وكانت لهم حيل تجرى هذا المجرى كثيرة. قال: فكنّا ننحر الجمل أو الدابّة فنتوزّع لحمه بين عدد كبير ونتبلّغ به على عادة الديلم وصبرهم على المجاعة والشدّة فى الحرب وكان أعداؤنا الأتراك فى مثل حالنا إلّا أنّهم لا يصبرون كما نصبر ولا [187] يقنعون بما   [1] . كذا فى الأصل: النجان. فى مط: النجار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 نقنع، فإذا ذبحنا نحن جزورا ذبحوا أضعافا كثيرة. ثمّ إنّ أصحابنا يعودون إلى نشاطهم فى الحرب ويتسخط أولئك ويشغبون على صاحبهم ولا يناصحونه فى الحرب إلى أن ملّوا. وأصبحنا يوما وقد رحلوا من معسكرهم فتركوا خيمهم بإزائنا وأتانا الخبر برحيلهم فما صدّقنا به حتى عبر جماعة وتلاهم العسكر أوّلا أوّلا وأشفقنا أن يكون لهم كمين أو مكيدة فلم يكن إلّا هزيمة وذهبوا على وجوههم. ذكر خبر عجيب واتّفاق غريب حكى الأستاذ أبو الفضل ابن العميد- نضر الله وجهه- أنّ ركن الدولة دعاه فى اليوم السابع وقد نفد صبره وصبر أصحابه وشكا إلىّ شدّة الأمور وصعوبته عليه وكأنّه يفكّر فى حيلة للانهزام وإن كانت متعذّرة عليه فقلت: - «أيّها الأمير، إنّك كنت منذ أسبوع مالك أكثر، تملك سرير الخليفة فينفذ أمرك فى أكثر بلاد الإسلام ومن لم يكن من الملوك فى سائر الأرض تحت أمرك وولايتك فهو أيضا تحت حكمك حشمة لك يقبل أمرك تجمّلا ويطيعك تهيبا وقد أصبحت اليوم وأنت لا تملك من الأرض إلّا ما عليه مضربك وقد اجتمع عليك هؤلاء الأعداء [188] ليغصبوك [1] عليه ويمنعوك منه ولا مفزع لك إلّا إلى الله- عزّ وجلّ- فأخلص نيّتك له واعقد عزيمتك على ما بينك وبينه تعالى يطلع على صدقها ويعرف صحّتها وانو للمسلمين خيرا ولكافة الناس مثله وعاهده على ما تعمله وتفيء [2] به من الأعمال الصالحة والإحسان فيما تلى إلى من تلى عليه فإنّ الحيل البشرية كلّها انقطعت بنا ولم يبق لنا إلّا هذا الذي نصحتك به.»   [1] . كذا فى الأصل ومط: ليغصبوك. والمثبت فى مد: ليغصبوا. [2] . كذا فى الأصل: تفيء. فى مط: بقي. والمثبت فى مد: تفي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 قال: فتبسّم وقال: - «يا أبا الفضل قد سبقتك إلى ما أشرت به.» وجرى فى هذا الباب ما يجرى مثله من النذور [1] وصدق النيّة، وبتنا تلك الليلة على حالنا. فلمّا كان فى الثلث الأخير من الليل جاءتني رسله متقاطرة فصرت إليه وهو مسرور قوىّ النفس بخلاف ما عهدته وقال: - «يا أبا الفضل أنت تعرف مناماتى وصدقها وقد رأيت ما أرجو أن يكون تأويله قريبا غير بعيد.» قلت: «وما ذاك.» قال: «رأيت كأنّى على دابّتى المعروف بفيروز وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وتذكر لى نعمة الله علينا فيه وأن الفرج جاءنا من حيث لا نحتسب. فبينا نحن فى هذا الحديث وشبهه حتى مددت عيني بين غبرة الموكب إلى الأرض فرأيت خاتما يتلألأ قد سقط إلى الأرض عن صاحبه بين التراب فقلت [189] للركابى الذي بين يدي: يا غلام هات ذاك الخاتم. فتطأطأ ورفعه إلىّ فإذا خاتم فيروزج فأخذته وجعلته فى اصبعى السبّابة وتبرّكت به وانتبهت وقد تفألت به وأيقنت بالظفر.» وذاك أن الفيروزج معناه الظفر إذا عرّب وكذلك لقب دابّته الذي رآه فيروز. قال أبو الفضل ابن العميد رحمه الله: فو الله ما أضاء الصبح حتى جاءنا الخبر والبشرى بأنّ العدوّ قد رحل فما صدّقنا به ولا التفتنا إليه حتى تواترت الأخبار وعبر سرعان الخيل وعادوا إلينا مستبشرين فقمنا حينئذ وركبنا متعجّبين لا نعرف سبب هزيمته حتى   [1] . كذا فى الأصل: النذور. وفى مط: الدور. والمثبت فى مد: الندور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 عبرنا على حذر من كمين أو مكيدة. فبينا نحن نسير وأنا إلى جانب ركن الدولة وقد تعمّد ركوب دابّته فيروز ليصدّق رؤياه إذ صاح الأمير بغلام بين يديه: - «يا غلام ناولني ذلك الخاتم.» فتطأطأ وناوله من الأرض خاتم فيروزج: فأخذه ولبسه فى سبّابته والتفت إلىّ وقال: - «هذا بلا تأويل هو الخاتم الذي حدّثتك بحديثه منذ ساعة.» فهذا من طرائف الأخبار ولولا صدق محدّثه وجلالة قدر من حكاه لى وبعده عن التزيد لما سطّرته فى كتابي هذا. [1] من حوادث هذه السنة وفيها تمّ الصلح بين معزّ الدولة وبين عمران بن شاهين وقلّده معزّ الدولة [190] البطائح وأطلق أخوته وعياله وأطلق عمران بن شاهين من استأسر من القوّاد وغيرهم. فأمّا ابن قراتكين فإنّه عاود حرب الأمير ركن الدولة وجرت بينهما وقائع عظيمة بناحية الرىّ ومات ابن قراتكين فجأة وكان سبب وفاته أنّه كان شرب أيّاما متوالية بلياليها فأصبح يوما ميتا وذلك فى شهر ربيع الآخر من هذه السنة. وفيها انهزم صاحب عمان من باب البصرة من بين يدي أبى محمّد المهلّبى وأسر جماعة من أصحابه وأخذت عدّة من مراكبه ودخل أبو محمّد المهلّبى بغداد ومعه المراكب والأسارى.   [1] . انظر مقدمة مسكويه، حيث يشير إلى منهجه فى كتابة التاريخ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 ودخلت سنة احدى وأربعين وثلاثمائة وفيها ملك الروم مدينة سروج [1] وسبوا أهلها وأحرقوا مساجدها. ضرب معزّ الدولة المهلّبى بالمقارع وفيها ضرب الأمير معزّ الدولة أبا محمّد المهلّبى بحضرته بالمقارع وحمله إلى داره وأقرّه على كتابته. ذكر السبب فى ذلك كان السبب فى ذلك أنّ أبا محمّد المهلّبى لمّا خرج إلى عمان وأنفق فى ذلك الوجه ما أنفق ثم انهزم تنكّر له معزّ الدولة وهمّ بالقبض عليه. فلمّا حدث بالرىّ ما حدث من ورود جيش خراسان إليها شغله ذلك عمّا فى نفسه منه. وكان ورد أبو العبّاس الحنّاط إلى الحضرة برسالة ركن الدولة يطالب بمال يحمل إليه فدفعت الضرورة [191] إلى مكاتبة الوزير المهلّبى وهو بواسط قد وافاها منهزما وأمر بالعدول إلى الأهواز وتسليم ألف ألف درهم إلى أبى العبّاس الحنّاط من القلعة وردّ العوض ممّا يستخرجه وأن يواصل الحمل إلى الحضرة ويسرّب الجيوش إلى الأهواز على طريق إصبهان إلى الرىّ فنفذ لذلك كلّه وفى نفس الأمير معزّ الدولة عليه ما فيها. فلمّا أصعد المهلّبى إلى الحضرة أثّر فى أمر يوسف بن وجيه صاحب عمان أثرا كبيرا وذاك أنّه كان قصد البصرة فسبقه أبو محمّد المهلّبى إليها   [1] . سروج: بلدة قريبة من حرّان من ديار مضر (مراصد الاطّلاع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 وحاربه وهزمه وأسر أصحابه وأخذ مراكبه كما ذكرنا. ذكر السبب فى طمع ابن وجيه فى البصرة ثم انهزامه منها كنّا ذكرنا ما كان من استيحاش القرامطة من معزّ الدولة ومن جوابه إيّاهم عن رسالتهم واستخفافه بهم. فلمّا عرف ابن وجيه ذلك كاتبهم وأطمعهم فى البصرة وسألهم أن يمدّوه من ناحية البرّ فأمدوه بأخيهم أبى يعقوب فى سريّة قويّة فورد باب البصرة وأنهض ابن وجيه رجاله فى مراكبه من ناحية البحر ونهض هو بنفسه. ووافق ذلك فراغ المهلّبى من الأهواز فبادر إلى البصرة وأخرج معه من القوّاد والرجال والزبازب والطيارات وآلات الماء كفايته وشحنها بالرجال وأزاح عللهم فى الجيش والسلاح وأنفذ إليه معزّ الدولة [192] مددا من بغداد. وكان المهلّبى رتّب على سور المدينة بالبصرة الرجال يحمونه وجمع إلى نفسه وجوه القوّاد مثل لشكر ورز بن سهلان وموسى فياذه وموسى بن ماكان وأشباههم من وجوه الناس وطبقات الغلمان وحارب ابن وجيه أيّاما ثم هزمه وظفر المهلبي بمراكبه ورجاله وأسر جماعة من وجوه أصحابه فخفّ بذلك بعض ما كان فى قلب معزّ الدولة وانجلى همّ كثير كان فى نفسه. فلمّا قدم بغداد تلقّاه معزّ الدولة وجامله مديدة ثمّ وقف على طازاذ [1] مال من ضمانه له قدر وكان سبّب عليه للأتراك والمهمّات فردّ التسبيبات وطالب أصحاب المال باستحقاقاتهم وأضجر ذلك معزّ الدولة فطالب أبا محمّد   [1] . فى مط: زاد، بدل «طازاذ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 المهلبي وهزّ المهلبي طازاذ فاستسلم وأظلمت القصة. فدخل المهلبي إلى معزّ الدولة فصدقه عن الصورة فاغتاظ من حيرته [1] فى الأمر وأثار ما كان فى نفسه منه فزبره وطرده من بين يديه وأمره ألّا يعود إليه إلّا بعد أن يستدعيه فانصرف كئيبا. وحرّك طازاذ [2] فصحح له مالا ونهض إلى الأمير معجّبا له من طازاذ بغير استدعاء من الأمير له. المهلّبى يتحمّل مائة وخمسين مقرعة فلمّا حصل بين يديه وأخبره بالصورة بطش به وضربه مائة وخمسين مقرعة يراوح منها [3] بأن يرفع عنه الضرب حتى [193] يوبخه ويبكّته بذنوبه منذ استخدامه ثم يعيد عليه الضرب إلى أن تفسّخ وثقل وقيل له إنّه كالتالف وأراد أن يرمى به إلى دجلة ثمّ تماسك وردّه إلى منزله ووكّل به. ضرب طازاذ والعمل على صرف المهلّبى دون جدوى وفى اليوم الثاني استدعى طازاذ أيضا وضربه وعمل على صرف المهلّبى فلم يرتض خدمة أحد ممّن كان بحضرته فى الوقت فترجّح رأيه وصعّد وصوب فلم يقم أحد مقام أبى محمد. وكان أبو محمد المهلبي شهما قوىّ النفس لا يتحرّك لشيء من نوائب الدهر فعمل عملا يشتمل على ثلاثة عشر ألف ألف درهم باقية فى الممالك   [1] . كذا فى الأصل ومط: حيرته. والمثبت فى مد: جريته. [2] . كذا فى الأصل ومط: طازاذ. والمثبت فى مد: بطازاذ، وهو خطأ. [3] . كذا فى الأصل ومط: يراوح بينها. والمثبت فى مد: «ترازح منها (بأن أمر) » . قراءة خاطئة وإصلاح ليس بصواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 والأعمال وأنفذه إليه وذكر أنّه يقيم باستخراجه وأنّه إن تمادت الأيّام فى التوكيل به تمزّقت وطمع فيها فشاور معزّ الدولة من حضره وكان فيهم أبو مخلد عبد الله بن يحيى وقال: - «هل يجوز أن أستنيم إلى هذا الرجل وقد لحقه منّى هذا المكروه العظيم؟» فقال أبو مخلد: - «قد ضرب مرداويج وزيره أبا سهل أعظم من هذا الضرب ولحقه ما لحقك من السوء عنه ثم خلع عليه وردّه إلى أمره وكان لا يطيق المشي لما حلّ به من الضرب فركب عمّاريّة ونثر عليه فى الطريق مال ولا يمكنه أن يستقلّ بالجلوس وبقي كذلك مدّة ثم عاود مرداويج الإنكار عليه فنكبه وأتى على نفسه.» [194] فعند ذلك راسله معزّ الدولة بالركوب إليه إذا استقلّ وأزال عنه التوكيل فتجلد المهلّبى وركب بعد أيام يسيرة فخلع عليه وعاد إلى أمره. حدّة معزّ الدولة واحتمال المهلّبى وكان معزّ الدولة حديدا سريع الغضب بذىّ اللسان يكثر سبّ وزرائه والمحتشمين من حشمه ويفترى عليهم فكان يلحق المهلبي- رحمه الله- من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله. وكنت أنادمه فى الوقت فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا، حتى لقد سمعت أبا العلاء صاعد بن ثابت وكان يخلفه ويأنس به يعاتبه ويقول فى عرض كلامه: - «إنّ الأمير إذا اتّصل به أنسك وقلة اكتراثك لغضبه وما يلحقك من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 شتيمته [1] نسبك إلى الاستهانة به فيزيد ذلك فى ضرره عليك، فإن أظهرت الانخزال والاستكانة حتى يبلغه تحرّسك وانقباضك كان أحرى أن يقصّر ويندم ولا يشتّم على عادته معك وغضبه منك.» فقال له أبو محمد المهلبي: - «ما يذهب علىّ ما تقول ولكن هذا أمير خرق عجول لا يملك لسانه، فإن ذهبت أظهر الاستيحاش من هذياناته وقع له أنّى قد تنكّرت له وأنّى لا أناصحه وأنّه يتّهمنى بما لا يدور فى فكرى فيكون سببا لجائحة ونكبة وليس له غير التغافل والتبسم [195] فى وجهه إذا أمكن فإن لم يمكن ذلك خوفا من غضبه فليس إلّا قلّة الفكر فيه فكان الأمر على ذلك.» وحدّثنى أبو بكر ابن أبى سعيد رحمه الله: انّ معزّ الدولة وقت مقامه بالبصرة وهزيمته للبريدى افترى على المهلّبى وذكر حرمه [2] وأفحش عليه وكان المافرّوخى حاضرا فلمّا انصرفنا من عنده قال لى المافرّوخى: - «قد ساءني أن أجرى هذا الفحش القبيح بحضرتى على الوزير فكيف الطريق إلى تسليته؟» وإنّما أراد ألّا يتهمه [3] بالشماتة ولا يراه بعين من علم استهانة الأمير به. فقلت: «الإمساك فى مثل هذا أولى من الكلام.» فأمسك أيّاما لا يركب إليه إلّا مع الناس وقت الاذن ثم اتّفق أن دخل المافرّوخى وأنا معه لمهمّ فوجدناه واجما مطرقا فقال المافرّوخى: - «أرى الوزير واجما فهل تجدّد أمر؟» فقال: «ويحك أنّى أرى الأمير منذ أيام قد أمسك عمّا كان يتعاهدنا به   [1] . فى مط: شبهته. [2] . حرمه: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: جرمه، وهو خطأ. [3] . فى مط: ألّا تتهمه ... ولا تراه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 من برّه بلسانه وأخاف أن يكون مشغول القلب بطارق تطرّقه وأنا مفكر فى ذلك.» قال أبو بكر ابن أبى سعيد: فلمّا خرجنا من عنده قال لى المافرّوخى: - «هل رأيت أدهى من هذا الرجل وأذكر منه؟» فقلت: «لا.» صلح بين صاحب خراسان وبين أمراء بنى بويه وفيها خرج أبو مخلد وأبو بكر عبد الواحد بن أبى عمرو الشرابي حاجب الخليفة المطيع لله إلى صاحب خراسان فى الصلح بينه وبين أمراء بنى بويه وكتب معهما كتاب عن الخليفة. [196] ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وفيها مات أبو الفضل العباس ابن فسانجس بالبصرة وقلّد الديوان بعده أبو الفرج محمد ابنه وأجرى على رسم أبيه. وفيها ليلة الجمعة للتاسع من جمادى الآخرة ولد الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة بطالع السنبلة. وفيها وافى أبو سالم ديسم بن إبراهيم الكردي منهزما من آذربيجان هزمه السلّار المرزبان وهو الذي حكينا أن ركن الدولة أسره وحبسه فى قلعة سميرم فاحتال حتى فكّ قيده وقتل صاحب القلعة وخرج منها- وسنحكى حيلته هذه فيما بعد- وعاد إلى آذربيجان واجتمع إليه من كان مع ديسم من الديلم وانصرف ديسم عنها وصار إلى الحضرة مستجيرا بمعزّ الدولة ومستنصرا. فأكرمه معزّ الدولة جدّا ووقع منه وأنس به وعاشره وحمل إليه مالا وثيابا وكان يسمّيه فى كتبه «الأخ أبو سالم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 ذكر السبب فى خروج ديسم عن آذربيجان بعد تمكّنه منها وانهزامه من بين يدي المرزبان كنا ذكرنا خبر ابن عبد الرزاق وتمكّنه من آذربيجان من قبل ركن الدولة واتّفق أن أوحش كاتبا له كان صحبه من خراسان واعتمد لوزارته ابن محمود لخدمته إيّاه بالأموال قديما ولخبرته بالبلدان. فاستوحش الكاتب وتركه إلى أن أشخصه لجياية الأموال فى نواحي ديسم وضم إليه جيشا. فلمّا وجد الفرصة كاتب ديسما وهرب إليه بذلك الجيش كلّه. فنفرت نفس ابن عبد الرزاق [197] من آذربيجان وعاد إلى الرىّ وأخذ معه ابن محمود وسار ديسم إلى أردبيل واستأذنه الكاتب الخراساني فى العود إلى بلده فأذن له وأحسن بالخلع والجوائز. ودبّر أمره أبو عبد الله النعيمي وابن الصقر النصراني وتوافر إليه الديلم والأكراد فملك آذربيجان وبلادها وجبى الأموال وأعطى البلاد له باليد. فتمكن من نشوى ودبيل وكان عليهما الفضل ابن جعفر الحمداني وابراهيم بن الضابى [1] على سبيل التغلب فصلحت حاله وانتظمت. واتفق أن مات ابن الصقر النصراني فوصل من تركته إليه مائة ألف درهم سوى ما أغضى عنه وهو شيء كثير فتفرّد النعيمي بوزارته. ولم يزل أمره منتظما إلى أن شره إلى مال النعيمي وطمع فيه فقبض عليه ونصب فى موضعه كاتبا له يقال له: علىّ بن عيسى، فاحتال النعيمي [بأن سارع] [2] إلى بذل خطّه بكلّ ما اقترحه عليه ولم يحالفه وسلك سبيل المداراة ثم قال له:   [1] . فى مط هنا: الصابي وفى الموضع الآتي: الضابى. [2] . هنا بياض بالأصل، والمثبت بين المعقوفتين هو من مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 - «ان رددتني إلى العمل وسلمت إلىّ خليفتي علىّ بن عيسى صحّحت لك من جهته وجهتي سوى مال المواقفة [1] ألف ألف درهم.» فشرهت نفسه إلى ذلك ورده إلى موضعه وقبض على علىّ بن عيسى وسلّمه إليه. وكان المرزبان بن محمد فى تلك الأيام قد ملك القلعة التي حبس فيها بسميرم وقتل الموكّل به وهو شير اسفار وكان أيضا قد أفلت علىّ بن ميشكى المعروف ببلكا [2] المأسور معه [198] من حبس ركن الدولة وصار إلى الجبل وجمع جمعا كثيرا وكاتب الديلم الذين كانوا مع ديسم واستمالهم وسار حتى قرب من وهسوذان أخى المرزبان فكانا جميعا يدبّران على ديسم. ثم وصلت كتب المرزبان إليها بخلاصه من القلعة وكاتب سائر الديلم بآذربيجان وليس عند ديسم من الخبر كلّه إلّا خبر علىّ بن ميشكى وظنّ أنّه وحده يقاتله. فلحق بأردبيل ابن أخت له يقال له: غانم، مضموما إلى وزيره النعيمي ومستوفيا عليه المال الذي ضمنه عن نفسه وعن علىّ بن عيسى خليفته. وسار على اغترار بمن معه من الديلم فوجد النعيمي الفرصة لما كان فى نفسه وأفسد غانما على خاله ديسم وقتل علىّ بن عيسى بالمكروه العظيم واستأمن إلى علىّ بن ميشكى واحتمل معه كل ما قدر عليه من المال. وبلغ الخبر ديسما فعاد إلى أردبيل بعد أن كان بلغ إلى زنجان وشغب الديلم عليه فأخرج كل ذخيرة له من الصياغات وغيرها وتوجه إلى برذعة على سبيل النزهة والصيد وهو يظن أن خصمه علىّ بن ميشكى وليس عنده   [1] . المواقفة. كذا فى الأصل. فى مط: الموافقة. [2] . مهمل ما فى مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 خبر المرزبان. وكان أنفذ إلى أرمينية من يوطّئ له نيّات ملوكها من ابن الديراني وابن خاجيق [1] وأخيه حمزة وابن سباط وغيرهم ليلجأ إليهم إن حزبه أمر وورد عليه خبر علىّ بن ميشكى بتوجهه إلى أردبيل مع عدّة يسيرة ثقة بأنّ الديلم الذين مع ديسم سيستأمنون إليه، فانكفأ ديسم إلى أردبيل ووقعت الحرب فقلب [199] الديلم تراسهم فى وجهه وانحازوا إلى ابن ميشكى سوى جستان بن شرمزن [2] فإنّه أخلص مودة ديسم فقبض الديلم عليه وانهزم ديسم فى نفر من الأكراد إلى بلد الأرمن فحمل إليه ملوكها ما تماسك به. وورد عليه خبر المرزبان هناك فى مسيره عن قلعة سميرم التي كان محبوسا فيها وحصوله بأردبيل وتسلّمه القلاع والأموال وإنفاذه على ابن ميشكى فى جيش لطلب ديسم فلم يمكنه المقام فهرب إلى الموصل ثم صار إلى بغداد وذلك فى سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة فتلقّاه معزّ الدولة وأكرمه ورتّبه فى أعلى مرتبة وقضى حقّه وواصل إليه المبارّ والألطاف وبذل له خمسين ألف دينار إقطاعا فى كلّ سنة على أن يقيم بحضرته فأقام مديدة فى أطيب عيش وأرخى بال فكان يقول ذلك لكتّابه وأسبابه ويقول: - «أرغد عيش لى وأهناه أيّام مقامي ببغداد.» ثمّ كاتبه أسبابه من آذربيجان بما اغترّ به فنزع إلى الإمرة والاستبداد فرحل من بغداد وزوّده معزّ الدولة مالا كثيرا وثيابا ودوابّ ومراكب. فسار إلى الشام زائرا سيف الدولة فى طريقه ثم انقلب من عنده إلى أرمينية وقصد ابن الديراني وابن خاجيق لثقته كانت به وإنّه كان أودعه ذخيرة له وكتب المرزبان إليه يلزمه القبض [عليه] . [200]   [1] . كذا فى الأصل ومط: خاجيق. والمثبت فى مد: جاجيق وهو تصحيف. [2] . فى مط: جستان شرمون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 فدافعه ثمّ اضطر إلى أن أطاعه فى القبض عليه وسأله ألّا يلزمه تسليمه إليه فأجابه المرزبان إلى ذلك فأوقع ابن الديراني الحيلة على ديسم حتى قبض عليه وحصله عنده. فلمّا فعل ذلك كتب إليه المرزبان يلزمه حمله إلى حضرته ناقضا الشرط فدافعه مدة ثمّ اضطرّ إلى تسليمه فحبسه عنده ثمّ سمل عينه فلمّا توفّى المرزبان قتله بعض أسبابه خوفا من غائلته. ذكر حيلة المرزبان على صاحب قلعة سميرم وما تمّ عليه حتى أفلت من موضعه وعاد إلى مملكته بآذربيجان لما حصل المرزبان فى القلعة امتنع من الطعام والشراب خاصّة اللحوم وما أشبهها واقتصر على القوت اليسير من الحنطة التي يستظهر منه أيضا. فبلغ خبره ركن الدولة فأمر أن يوصل إليه طبّاخه الذي يثق به ليتولّى له ما كان يتولاه من المأكل والمشرب فحصل الطباخ فى القلعة معه وأخذ المرزبان فى تدبير الخلاص على يده. وكان الطباخ خفيفا أحمق وظهر منه ما فى نفسه وعرف خبره شيراسفار صاحب القلعة فرمى به من قلة القلعة فهلك وضيّق على المرزبان. وكانت والدة المرزبان خراسويه بنت جستان بن وهسوذان الملك تبذل الأموال فى تعرّف أخباره وتحتال فى خلاصه وكان إبراهيم المعروف بابن الصابي [1]- وقد تقدم ذكره- فى حبس ديسم فتخلّص منه ولم يجد مفزعا إلّا خراسويه فقصدها ولاذ بها [201] وضمن لها أن يتوصّل إلى المرزبان فأطلقت له مالا وأنفذته.   [1] . كذا فى الأصل ومط والمثبت فى مد: الضابى (بالضاد المعجمة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 وكانت المراغة بها رجل يعرف بتوبان يصارع ويقامر ويدخل فى كل منكر فطلبه أصحاب الشرط بها فخاف وهرب من المراغة وقصد خراسويه وضمن لها السعى لها فى أمر ابنها فطمعت فى جلادته وأطلقت له مالا وعرّفته خبر ابن الضابى وأنّه نفذ قبله. فاجتمعا ولبسا لباس التجار وأظهرا الستر والدين والورع ولزما فناء القلعة وراسلا شيراسفار وعرّفاه أنّهما تاجران وأنّهما كانا فيما مضى يعاملان المرزبان وأنّه أخذ بضائعهما وامتعة التجار وسألاه أن يجمع بينهما وبين المرزبان ليتنجّزا كتبه وعلاماته بإزاحة علّتهما فيما يستحقانه وتستحقه التجار عليه وواصلا الدعاء له وعلى المرزبان وأكثرا لعنه وشتمه وكانا يقولان: - «الحمد لله الذي كفى الناس شرّ هذا الظالم الذي لا يعرف الله ولا يؤمن بنبيّه صلى الله عليه.» وما أشبه هذا حتى رقّ شيراسفار لهما وأوصل واحدا واحدا منهما إليه من غير اجتماع فقال المرزبان: - «لا أعرفهما.» فأغلظا له وواجهاه بالقبيح وخوّفاه بالله وسوء العاقبة وقال: - «إنّى لا أعرف حسابهما ولكنّى أكتب بأن يحاسبا.» وكثر [202] ترددهما إليه فضمت والدته إليهما وصيفا الديلمي المتطبّب [1]- وكان فى عسكر السلطان قديما- ورجلا آخر يعرف بأبى الحسن ابن جنى وجماعة من أهل الطرم على هيئة التجار وحملوا الألطاف إلى شيراسفار وأسبابه وإلى بواب القلعة وكانوا يشترون منهم الحوائج ويعدونهم، إلى أن   [1] . فى مط: المشطب. والمثبت فى مد: للتنقّب، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 يصلوا إلى أموالهم وبضائعهم، أنّهم يبذلون لهم أموالا جليلة وفى خلال ذلك يبكون ويشكّون ظلم المرزبان وعدوانه وكانوا يصلون إلى المرزبان فرادى ويوصلون الكتب ويتنجّزون الأجوبة ويدسّون إليه فى خلال ذلك الدنانير الكثيرة ليبذلها وينفقها فيما يحتاج إليه. وكان لشيراسفار الموكّل بالقلعة غلام أمرد وضيء الوجه يحمل ترسه على مذهب الديلم فأظهر المرزبان عشقا له ومحبّة مفرطة فكان يعطيه سرّا الشيء بعد الشيء ويعده- إن هو تخلّص- بأمور عظيمة وولايات كبار حتى طمع الغلام وواطأه على كل ما أحبّ وأوصل إليه درعا فى زنبيل فيه تراب وعدة سكاكين وأوصل إليه شموعا فيها مبارد واجتمع معه على وجوه الحيل. وأظهر أولئك القوم الذين كانوا فى زىّ التجار النسك والتألّه والخشوع، فصاروا يصلون إلى باب القلعة ويوصلهم البوّاب واحدا واحدا إلى أن تمّت الحيلة بموافقة هذا الغلام الإسبربر [1] [203] . وكان اتفق معه على يوم بعينه: إذا دخل إليه شيراسفار يناوله الترس والزوبين الذي لصاحبه إذا استدعاه منه ووافق بعض أولئك التجار أن يكونوا مع البوّاب ليفتكوا به إذا صاح بهم. فلمّا كان فى ذلك اليوم وصل إليه توبان وكان أجلدهم وجلس آخر مع البوّاب ليفتك به إذا سمع الصوت وجلس الباقون قريبا من الباب ليدخلوا عند التمكن. فلمّا صار إليه شيراسفار على رسم كان له وكان المرزبان قد برد مسمار قيده على مرّ الأيّام ولبس فى ذلك اليوم درعه والتفّ بكسائه وكان يخاطب   [1] . فى الأصل ومط: الاسبربر، وأثبته فى مد: للأسير سرّا، وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه وضبطناه. وأصله الفارسي: إسپربر، أى حامل التّرس. لأنّه مركّب من «إسپر» (سپر) اى: التّرس، و «بر» وهو مرخّم «برنده» أى حامل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 شيراسفار قديما ويسأله أن يطلقه ويعده المواعيد العظام فيمتنع عليه شيراسفار ويقول: - «لا أخون ركن الدولة أبدا ولكن أساعدك على كل ما يخفّف عنك غير هذا الباب.» فلمّا كان فى ذلك اليوم عاد المرزبان فى مسألته وكان توبان [1] حاضرا فقال لهم توبان: - «بالله إلّا خلّصتمونى من الديون عليكم ثم عودوا لشأنكم.» فقال المرزبان لشيراسفار: - «قد أطلت عنائي.» ونهض من موضعه وقد أخرج رجله من القيد وبادر إلى الباب فتسلم الترس والزوبين من الغلام ونهض شيراسفار ليتعلق به فوثب توبان [2] إليه وعاركه وصرعه ثم وجأه بسكين كان معه حتى قتله وصاح المرزبان: - «أشتلم.» [3] على عادة الديلم فوثب الرجل [204] الذي كان فى الدهليز على البواب فقتله ودخل القوم الذين كانوا بالقرب فأحدقوا بالمرزبان وكان منغمسا فى دم شيراسفار. وكان الموكّلون فى القلعة على تفرّق ولعب بالنرّد فتداخلهم الرعب واجتمعوا وطلبوا الأمان فجمعهم المرزبان فى بيت وأخرج حرم المقتول شيراسفار وحرم الجماعة ثم طلب سلاح القوم الذين فى البيت فملكه، ثم أخرجهم من القلعة وتوافى إليه الرجال حتى خرج ولحق بمأمنه.   [1] . وفى مط: توتان. [2] . وفى مط: توتان (أيضا) . [3] . أشتلم كلمة فارسيّة أو تركيّة معناها العنف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 ذكر الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج وفى هذه السنة تمّ الصلح بين ركن الدولة وابن محتاج بعد حروب كثيرة على باب الرىّ ومنازلة ثلاثة أشهر وانصرف ابن محتاج إلى خراسان. ذكر السبب فى ذلك كان استمدّ وشمكير على عادته صاحب خراسان فأمدّه بأبى علىّ ابن محتاج فى جموع كثيرة وتوجّهوا إلى الرىّ وظنّوا أنّه الاستيصال وأنّه لا ثبات لركن الدولة ولا بقيّة له. وجاء وشمكير على ثقة بذلك فعلم ركن الدولة أنّه لا يقوم لهؤلاء الجمع الكثير إلّا بالمطاولة والتحصّن بحيث يكون القتال من وجه واحد فجعل بلد الرىّ خلفه وحارب فى الموضع المعروف بطبرك، فدامت الحرب وصبر الفريقان إلى أن قرب الشتاء وملّ الخراسانية فلم يصبروا وخافوا أيضا سقوط الثلج عليهم فأخذوا [205] فى العتاب والتراسل ورقّ أمر الحرب. وكان الواسطة من قبل الخراسانية أبو جعفر الخازن وهو صاحب الكتاب المعروف بزيج الصفائح وله تقدّم فى علوم الرياضة ومرّ بينهما كلام كثير انتهى إلى الموادعة والصلح. فأشير على ركن الدولة بأن يجهز على الجرح ولا ينفس عن خناق عدوّه فإنّه إنّما جنح للسلم عن ضرورة وقد نفد صبره وماله وشغّب عليه جنده: «ووراءك بلدة مثل الرىّ وأنت وادع جامّ بها» ولم ير له أحد من نصحائه أن يجيبهم إلى الصلح وذاك أن النكول كان قد ظهر فيهم. فلم يقبل ركن الدولة هذا الرأى من أحد على سداده ووضوحه ولو صدقهم بصدمة يصدمهم بها لأتى عليهم، والله أعلم بعواقب الأمور. فقبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 الصلح وشقّ ذلك على وشمكير وبلغ منه مبلغا عظيما وذلك أنّه كان لا ينظر ولا يرجو أن يجمع أكثر مما جمع ولا يحتشد أكثر من هذا الاحتشاد. فلمّا انصرف ابن محتاج طلب ركن الدولة وشمكير فانهزم من بين يديه ولم يقف فاتبعه حتى أخرجه من طبرستان وجرجان وحصل بإسفرايين. وكتب إلى نوح بن نصر يعرفه ما جرى ويغريه بابن محتاج فاغتاظ نوح وتحرّك منه ما كان فى نفسه على ابن محتاج [206] فعزله من الجيش ببكر بن مالك وأنفذه فى جيوش عظيمة. فصار ذلك سببا قويّا ضروريا لمكاتبة أبى علىّ ابن محتاج ركن الدولة وعدوله إلى طاعته بعد أن أصابه فى نفسه وأسبابه وأحواله مكاره عظيمة أزالت ثقته بصاحبه وثقة صاحبه به ولم يبق بينهما حال يرجى معها الصلاح. وكتب الخليفة فى هذا الصلح كتابا نفذ على يد ابن أبى عمرو الشرابي حاجب الخليفة وأبى مخلد عبد الله بن يحيى صاحب معزّ الدولة واتّفق موت نوح قبل أن يؤدّى الرسالة والكتاب وقعد مكانه عبد الملك بن نوح. ولما قدم أبو مخلد من خراسان عائدا ومعه أبو بكر عبد الواحد بن أبى عمرو الشرابي اعترضهما ابن أبى الشوك الكردي من الشاذنجان [1] وكان متقلّدا أعمال المعاون بحلوان وإليه الحماية والطريق وأظهر الخدمة وخرج معهما مبذرقا بهما. ثمّ غدر فنهبهما ونهب القافلة التي كانت معهما وأسر أبا مخلد وأفلت أبو بكر عبد الواحد بن أبى عمرو الشرابي فطالب ابن أبى الشوك معزّ الدولة بإطلاق رهائنه ووعد أنّه أن أطلقوا أطلق أبا مخلد فضمن له ذلك وأطلقوا وأطلق أبا مخلد.   [1] . ما فى الأصل يمكن أن يقرأ «شاذنجان» أيضا. ما فى مط مهمل إلّا فى النون الأخيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 ثمّ خرج الحاجب سبكتكين إلى حلوان للإيقاع بالأكراد فدخل حلوان وقرّر أمر الأكراد وابن أبى الشوك [207] وعاد. ودخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وفيها خرج أبو سالم ديسم من بغداد وذلك لما يئس من نصرة معزّ الدولة. ذكر السبب فى يأس ديسم من نصرة معزّ الدولة إيّاه سبب ذلك أنّ ركن الدولة صالح المرزبان بن محمّد السلّار وصاهره وتمكّن سلّار من آذربيجان فانصرف ديسم من حضرة معزّ الدولة وودّعه وظنّ أنّه يجد عند ناصر الدولة عونا فقصده وأقام عنده بالموصل مدّة ثم مضى من عنده بعد اليأس منه إلى سيف الدولة أخيه وأقام عنده [1] أيضا مدّة. ركن الدولة يكتب عهدا لابن محتاج على خراسان من جهة الخليفة وفى هذه السنة قصد أبو علىّ ابن محتاج ركن الدولة للضرورة التي ذكرناها وجاء على طريق جبل ونداذ هرمز [2] فاستقبله ركن الدولة وبالغ فى إكرامه وأضافه وجميع من معه وأقام لهم الأنزال الواسعة والتمس ابن محتاج عهدا يكتب له من جهة الخليفة على خراسان فكوتب معزّ الدولة فى ذلك   [1] . ما فى الأصل: عليه. والمثبت فى مد: علّته. ونحن رجّحنا ما فى مط: عنده. [2] . فى مط: زيدار هرمز. والمثبت فى مد: ونداز هرمز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 فتكفّل به حتى فعل. وفيها وصل رسول ابن محتاج إلى بغداد ولقى معزّ الدولة فاحتشد له احتشادا كثيرا وأوصله إلى الخليفة حتى عقد لأبى علىّ على خراسان وقلّده إيّاها مكان نوح بن نصر وسلّم إليه العقد والخلع وضم [208] إليه أبا مخلد وأبا بكر بن أبى عمرو الشرابي وأنفذ معهم معزّ الدولة أبا منصور لشكرورز نجدة لأبى علىّ ابن محتاج ومعاونة له على نوح. فلمّا كان بعد مدّة ورد كتاب أبى علىّ ابن محتاج بأنّه قد خطب لأمير المؤمنين المطيع لله بنيسابور ولم يكن خطب له إلى هذه الغاية فى شيء من بلدان خراسان وذكر فى كتابه صحّة موت نوح. وورد الخبر بأنّ نوحا لمّا حضرته الوفاة كان بحضرته ابن مالك وهو أحد قوّاده الكبار فغلب على الأمور وعقد الأمر لعبد الملك بن نوح فى ولاية خراسان وتقلّد هو رئاسة الجيش مكان أبى علىّ ابن محتاج. وسار يطلب ابن محتاج وانفلّ عن ابن محتاج رجاله وعادوا إلى صاحب خراسان وبقي أبو علىّ فى مائتي رجل من أصحابه سوى من ضمّ إليه من الديلم فاضطرّ إلى الهرب من بين يدي ابن مالك. وورد خبره من الدامغان بأنّه صائر إلى ركن الدولة مستجيرا به، فقبله ركن الدولة أحسن قبول وأقام عنده بالرىّ. ونزل ابن مالك بنيسابور وتتبع أسباب ابن محتاج. وفيها صرف الابزاعجى [1] عن الشرطة ببغداد واعتقل وصودر على ثلاثمائة ألف درهم وقلّد الشرطة مكانه تكينك نقيب الأتراك وقد كان طولب قبل صرفه بأربعين ألف درهم على أن يقرّر [209] فى عمله من الشرطة   [1] . فى مط: الاتراعجمى! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 ووعد بإقطاع فلم يفعل. ذكر الرأى الخطأ من الابزاعجى حتى استمرت عليه النكبة وعظمت بعد أن كانت خفيفة كان الابزاعجى منقطعا إلى أبى علىّ الخازن فاستشاره وكان أبو علىّ يعتنى به فأشار عليه ألّا يلتزم شيئا ولا يدخل تحت شيء مما يطالب به وقال له: - «هذا يطمع فيك ويسير رسما عليك فإن امتنعت انحسم الطمع فيك وفيما بعده. فقبل رأيه فأدّاه ذلك إلى النكبة وما أراد به أبو علىّ إلّا الخير ولكنّه أخطأ الرأى كما يخطئ الإنسان ولمّا أدّى هذا المال وانصرف إلى منزله قبض أيضا عليه ونكب نكبة ثانية وسلّم إلى تكينك فجرى عليه مكروه عظيم وصودر على مائتين وخمسين ألفا فأدّاها. دخول ركن الدولة إلى جرجان وفيها دخل ركن الدولة إلى جرجان ومعه أبو علىّ ابن محتاج بغير حرب وانصرف وشمكير عنه ودخل خراسان. وفيها خطب (بمكة والحجاز) لركن الدولة ومعزّ الدولة وبختيار وبعدهم لابن طغج وذلك بعد حرب جرت بين أصحاب معزّ الدولة وبين المصريين. وكان أبو علىّ ابن محمّد بن عبيد الله صاحب الحاج من قبل السلطان بمكّة، فأبلى [1] وقاتل وقتل ابن له بين يديه.   [1] . الكلمة سقطت من مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 ودخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة [210] تقليد معزّ الدولة إمرة الأمراء لابنه بختيار وفيها عقد معزّ الدولة لابنه أبى منصور بختيار الرياسة وقلّده إمرة الأمراء وذلك فى المحرم من هذه السنة. وكان سبب ذلك أنّه عرض لمعزّ الدولة علّة يقال له: فرمافسمس [1] وهي علّة الإنعاظ الدائم ويكون معه وجع شديد مع توتّر القضيب. وكان معزّ الدولة خوّارا فى أمراضه فأوصى وقلّد ابنه كما حكينا إمرة الأمراء. عمران وأمتعة التجّار وبلغ عمران بن شاهين أنّ معزّ الدولة قد مات واجتاز به مال يحمل إلى معزّ الدولة من الأهواز ومعه كار [2] كبير فيه للتجار أمتعة عظيمة وكان مقدار المال المحمول لمعزّ الدولة مائة ألف دينار وما للتجار أضعاف ذلك. فمدّ عمران يده إلى المال والكار على رسمه فى مثل ذلك فأخذ الجميع وقبض على المرعبل [3] ملّاح معزّ الدولة الذي كان مع المال فصادره وضربه ضربا عظيما ودهقه إلى أن أزمنه. ثم أنفذ إليه معزّ الدولة أبا الحسين الكوكبي نقيب الطالبيين برسالة إلى أن ردّ المال وذهبت أمتعة التجار وانتقض الصلح وتأدّى الأمر إلى الوحشة. وكان الحاجب سبكتكين أخرج إلى شهرزور فى جيش كثير ومعه عرّادات ومنجنيقات فأقام مدّة عليها ولم يمكنه فتحها [211] واتّفق أنّ جيشا   [1] . ما فى مط أيضا: فرمافسمس. والمثبت فى مط: «فريافسمس» ثمّ «تواتر القضيب» . [2] . الضبط من الأصل. والكار نوع من السفن. [3] . ما فى الأصل ومط: المرعبل (بالراء المهملة) . والمثبت فى مد: المزعبل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 ورد من صاحب خراسان إلى الرىّ فاحتيج إلى إنفاذ سبكتكين إلى ركن الدولة مددا له فانصرف من شهرزور ولم يصنع شيئا. استيلاء ابن ماكان على إصبهان ومبادرة ابن العميد وفيها ورد ابن ماكان أصبهان وكان مسيره إليها على طريق المفازة من خراسان فهجم هجوما وأضطرّ أبو منصور بويه بن ركن الدولة وعيال ركن الدولة وجميع أصحابه أن يخرجوا على وجوههم إلى خان ألنجان [1] ومنها إلى الرباط على أقبح صورة واستولى ابن ماكان على أصبهان. وكان الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد- رفع الله درجته- بأرجان فبادر مع قطعة من العرب ونفر يسير من الديلم كانوا معه، فوجد ابن ماكان قد تبع أبا منصور بويه بن ركن الدولة ومن معه من الحرم فلحق سواده وملك خزائنه وتخلّص الأمير بويه والحرم وقد أشرف هو والحرم على الفضيحة والأسر فلحقه الأستاذ الرئيس فعارض ابن ماكان ودافعه بخان ألنجان فأوقع به واستأسره وبه ضربات وأسر جميع قوّاده وقتل أصحابه قتلا ذريعا. وحمل الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن ماكان وقوّاده إلى القلعة بالخان ثم صار إلى إصبهان فأوقع بمن فيها من أصحاب ابن ماكان وورد الأمير [212] أبا منصور بويه بن ركن الدولة مع الحرم إلى إصبهان مصونين وتلافى ذلك الخطب العظيم أحسن تلاف. وكان يحدّثنى- رحمه الله- بخبر هذه الوقعة مرّات فيقول: لما التقينا بالخان انهزم عنى أصحابى واشتغل أصحاب ابن ماكان بالنهب   [1] . فى مط: خان التجّار. ويقال له: «لنجان» أيضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 والغارة وثبتّ أنفة [1] فقط من غير رجاء منّى فى ظفر، بل وقفت وقوف المستسلم للقتل والأسر. وذلك أنّى فكرت فى تلك الحالة وقلت: إن انصرفت بنفسي سالما ومثلت بين يدي صاحبي أىّ وجه يكون لى عنده وأىّ لسان يدور بعذر لى بحضرته بعد أن أسلمت أعزّته وأولاده وحرمه وبالجملة ملكه! ونظرت فإذا القتل علىّ فى حالتي تلك أهون من هذه الحال التي تصوّرتها فصرت لان أقتل كريما. فسكنت واقفا وراء خيمة لى بعمودين وأنا أرى أطنابها تقطع وما فيها يخرج ومن يراني لا يظنّ أنّى أثبت فى ذلك الموضع مع تلك الصورة، فبينما أنا كذلك وأصحاب ابن ماكان مشغولون عنّى بالنهب إذ ثاب إلىّ غلامي روين وفلان وفلان وراءهم العرب فثاب منهم جماعة يسيرة فحملت بهم وصاح الناس: - «الكرّة.» فقتلنا وأسرنا ولم يفلت أحد. ولما كان بعد ساعة من النهار لم يبق من جيش ابن ماكان عين تطرف [213] إلّا من أخذ أسيرا، وحمل إلىّ ابن ماكان وبه ضربة فى يده وقد تعلّق منها إصبعان بجلدة رقيقة، فمدّها حتى قطعهما. فهو على ذلك بين يدىّ حتى شقّ الزحمة إليه مكار أو ركابىّ فصفعه صفعة طنّ بها الموضع وغاص [2] ، فلحقني غيظ عظيم وأمرت بطلبه وهممت بالمثلة به وقطع يده فما وقف له على أثر ولا عرف له خبر إلى اليوم. وكان ابن ماكان مع عظم قدره فى نفوس الديلم وشدّة بأسه محربا عظيم القوّة ورأيت أنا جوشنه وهو رزين جدا يعرض على فتيان الديلم وأشدائهم   [1] . والمثبت فى مد: وثبت آنفة. وهو خطأ. [2] . فى مط: عاص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 أن يلبسه فيستعفى منه لثقله على اليد. حوادث عدّة وفى هذه السنة أنجد سيف الدولة ديسما وعاضده بعض الأكراد فقصد سلماس وملكها وخطب لسيف الدولة بها وكان السلّار غائبا بناحية باب الأبواب مشغولا بقوم خرجوا عليه هناك. فلمّا عاد من باب الأبواب وأصلح أمره هناك وظفر بعدوّه فقصد ديسما فاستأمن رجاله إلى سلّار وهرب ديسم ومضى الى ابن الديراني صاحب أرمينية مستجيرا به فقبله ثم غدر به وقبض عليه وقيّده وحمله إلى السلّار فيقال: إنّ السلّار سملة ثم قتله. وفيها مات أبو علىّ ابن محتاج وابنه بالرىّ فى وباء حدث هناك. وفيها تمّ الصلح [214] بين ركن الدولة وصاحب خراسان. وفيها ورد أبو الفضل القاشاني صاحب ركن الدولة مع ابن أخت ابن مالك برسالة عبد الملك بن نوح صاحب خراسان يلتمس أن ينفذ إليه خلع ولواء على خراسان، فعقد له الخليفة اللواء وسلّمه مع الخلع إلى ابن أخته الوارد برسالته وردّه مع أبى الفضل القاشاني وقاد أيضا إليه فرسا وأضاف إلى خلع الولاية خلع منادمة. ودخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ذكر وزارة المهلّبى وخروج روزبهان على معزّ الدولة وفيها خوطب أبو محمّد المهلّبى بالوزارة وأمر بذلك معزّ الدولة وخلع عليه وزاد فى إقطاعه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 وفيها خرج روزبهان بن ونداذ خرشيد الديلمي على معزّ الدولة وخرج أخوه المسمى ببلكا [1] بشيراز وكاشفا بالعصيان وفعل مثل ذلك أخوه الآخر أسفار بالأهواز وجاء روزبهان إلى الأهواز وكان بها الوزير المهلبي ليحاربه فاستأمن رجاله إلى روزبهان وانحاز الوزير عنه. وورد الخبر بذلك على معزّ الدولة فلم يكن يصدّق بذلك لشدّة ثقته به فإنّه هو الذي اصطنعه ونوّه باسمه فكان خاملا وعظّم قدره وكان صغيرا قبل ذلك من رجال موسى فياذه وصغار أصحابه. فأنفذ معزّ الدولة شيرزيل [2] على مقدّمته للحرب واضطرب الديلم بأجمعهم على معزّ الدولة [215] اضطرابا شديدا وأظهروا أشياء كانت فى نفوسهم عليه من العتب والاستبطاء وكاشفوه وواجهوه بكلّ ما كره وأخذوا يستأمنون. فقلد معزّ الدولة الابزاعجى الشرطة بواسط وأنفذه إليها. وفى يوم الخميس لخمس خلون من شعبان خرج معزّ الدولة من داره ببغداد متوجها إلى قتال روزبهان وزاد الأمر فى استئمان الديلم إلى روزبهان. وخرج الخليفة المطيع لله منحدرا إلى معزّ الدولة وذلك أنّ ناصر الدولة لمّا بلغه خبر روزبهان وما عمله هو وأخوته حدّث نفسه ببغداد فوجّه بابنه أبى المرجّى وآخر من أولاده إلى بغداد، وبلغ ذلك معزّ الدولة فردّ الحاجب سبكتكين من واسط لضبطها وكتب إلى مسافر بن سهلان- وكان بنهاوند متقلّدا لها- يأمره بالتعجّل إلى بغداد لمضامّة الحاجب سبكتكين ببغداد. فشغب الديلم المقيمون ببغداد لطلب أرزاقهم فبعث إليهم مسافر وسبكتكين ولشكرورز ووعدهم بالمال فسكنوا وكان مسافر نزل فى أعلى   [1] . فى مط: بدكا. وهو تصحيف. [2] . فى مط: بسرويل. وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 القطيعة وخرج سبكتكين الحاجب فنزل بباب الشمّاسية وهم على قنوط من [معزّ] [1] الدولة. ومنع معزّ الدولة جميع الديلم من العبور لقنطرة أربق معه لما رأى من استئمانهم إلى روزبهان ووكّل بالقنطرة من يمنعهم من عبورها قلّة ثقة بهم [216] وخوفا من أن يغدروا به ويشوّشوا باقى عسكره لأنّه كان ينفق فيهم فإذا قبضوا النفقات صاروا إلى روزبهان من فورهم فما عبر معه من الديلم إلّا ليلى بن موسى فياذه وشيرزيل ابن وهرى والحسن بن فنّاخسره فقط. وكان اعتماد معزّ الدولة على غلمانه الأتراك فحارب روزبهان يوم الإثنين انسلاخ شهر رمضان نهاره كلّه إلى أن سقط القوم [2] ثم حمل بنفسه فى غلمان داره وحضّهم بأن قال: - «يا أولادى قد ربّيتكم تربية الأولاد فأرونى غناءكم الساعة.» فحملوا معه حملة الصبيان الأغمار فلم يردّهم شيء وانهزم روزبهان وأصحابه وأسر روزبهان وبه ضربات وأسر كوركير وفتح اللشكرى وأرسلان كور. شرح صورة هذه الحرب على سياقة من شاهدها استوحش الديلم من منع معزّ الدولة إيّاهم من العبور، فاجتمعوا عليه وقالوا له: - «إن كنّا رجالك فأخرجنا نقاتل بين يديك فإنّا لا نصبر أن نجلس مع الصبيان لحفظ سوادك ونرى الأتراك يقاتلون عنك فمتى ظفرت بعدوّك   [1] . ما بين المعقوفتين غير موجود لا فى الأصل ولا فى مط. [2] . وفى مط: القرص. أى: قرص الشمس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 خرجنا من المحمدة ومتى ظفر عدوّك فلحقنا العار والسبّة.» وكأنّهم سلكوا فى هذا الكلام مسلك الحيلة ليطلق لهم العبور فيتمكّنون من [217] كسر عسكره والاستئمان إلى عدوّه. فسألهم التوقّف وقال: - «إنّما أريد أن أشامّ القوم ولا أناجزهم كما [1] فعلت بالأمس فإذا كان فى غد باكرناهم بأجمعنا على تعبية واستعنّا بالله وناجزناهم.» وكان يدرّ عليهم النفقات ويواصل العطايا ويكثر المداراة فأمسكوا عنه وعبر معزّ الدولة وعبّى غلمانه كراديس تتناوب فى الحملات إلى وقت غروب الشمس فهناك فشل الأتراك وانقطعت حيلهم وفنى نشّابهم وشكوا إلى معزّ الدولة وقالوا: - «ليس فينا فضل وقد أمسينا فنستريح الليلة وتفرّق فينا النشّاب ونباكرهم الحرب.» فعلم معزّ الدولة أنّه إن رجع عن هذه الحالة زحف روزبهان والديلم وثار من خلّف وراءه من أصحابه الديلم الذين كان يتّهمهم فلا يمكنه الهرب وكان الهلاك فبكى بين أيدى غلمانه وكان سريع الدمعة ثم سألهم أن تجمع الكراديس كلّها ويحملوا وهو فى أوّلهم فإمّا أن يظفروا وإمّا أن يقتل أول من يقتل. فطالبوه بالنشاب فقال: - «قد بقي مع الغلمان الأصاغر نشّاب فخذوه وتوزّعوه.» وكانت عدّة من الغلمان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد العتاق وعليهم الجنن [2] والتجافيف وكانوا سألوا معزّ الدولة أن يأذن لهم فى الحملة نوبة فى الكراديس فلم يأذن لهم [218] وقال لهم:   [1] . كذا فى الأصل ومط: كما. والمثبت فى مد: فيما. وهو خطأ. [2] . كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: الجبب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 - «إذا كان الوقت الذي يصلح لكم ما سألتم أذنت فيه.» فوجّه إليهم بنقيب وأومأ بيده أن اقبلوا ما يقول النقيب ليأخذ النشاب منهم فلم يشكوا أنّه إنّما أومأ إذنا لهم فيما كانوا يسألونه ووعدهم به، فحملوا وهم مستريحون وكذلك خيلهم فصدموا صفوف الديلم فكسروا بعضهم فوق بعض وصاروا من ورائهم وحمل معزّ الدولة فوضع فيهم اللتوت [1] فكانت إيّاها وكتب بالظفر إلى بغداد. فورد على الديلم المقيمين ببغداد ما أدهشهم ولم يصدّقوا به وقدّروا أنّه أرجف بذلك إرجافا فكانوا يستهزئون استهزاء ظاهرا ويقولون: - «نعم كانوا دجاجا وضع عليهم مكبّة فما أفلت أحد» . وكانت نفوسهم اشرأبّت إلى روزبهان. فلمّا صحّ عندهم الخبر ضعفت نفوسهم وانخذلوا. وأسرع معزّ الدولة الانصراف ليلحق بغداد قبل ورود أصحاب ناصر الدولة إليها. فدخل بغداد يوم الجمعة لاثنى عشرة ليلة بقيت من شوال ودخل داره ثم سار فى يومه ذلك فى الماء إلى معسكر الحاجب بباب الشمّاسية فى زبزب ومعه روزبهان فى زبزب آخر مكشوفا ليراه الناس وكوركير فى زبزب آخر، واجتمع الناس على الشطوط فدعوا له وعلى روزبهان. وقد كانت العامّة محبّين لأيّام [219] معزّ الدولة وذلك لما كان منه فى سدّ بثق نهر الرّفيل وسدّ بثق بادوريا فإنّه خرج بنفسه حتى سدّ هذا البثق وحمل التراب بنفسه فى برّكة [2] قبائه حتى فعل جميع العسكر مثل فعله وسدّ ذلك البثق. ثم خرج إلى النهروانات فسدّ بثقابها وكانت النهروانات قد بطلت وكذلك بادوريا فلمّا سدّ بثوقها عمرت بغداد وبيع الخبز النقي عشرين   [1] . اللتّ: الفأس العظيمة. فارسيّة. [2] . فى مط: تركة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 رطلا بدرهم فمالت العامّة إلى أيّام معزّ الدولة وأحبّوه. ومضى الأمير معزّ الدولة ممتدّا إلى عسكره بقطربّل وكان أبو المرجّى وأخوه قد وصلا إلى عكبرا ووصلت خيولهما إلى البركان [1] . فلمّا بلغهما قدوم معزّ الدولة وما جرى على روزبهان انصرفا من عكبرا إلى الموصل وتبعهما الحاجب سبكتكين فلم يلحقهما لإغذاذهما [2] السير. وحبس روزبهان بالصراة فى حصن كان هناك فكان الديلم يحدّثون أنفسهم بكبس موضعه وإخراجه. وأشار أبو العباس مسافر على معزّ الدولة بقتله فأبى وكره ذلك إلى أن قال جماعة من ثقاته: - «إنّك إن لم تبادر إلى قتله أخذه الديلم غصبا وزالت الدولة وذهبت أرواحنا.» فاخرج حينئذ بالليل وغرّق فى سميريّة أسفل دار الخليفة. وورد الخبر بعد ذلك بظفر الأستاذ [220] ابن العميد ببلّكا أخى روزبهان وردّه الملك على أبى شجاع فناخسره بن ركن الدولة. فانطوى ذكر روزبهان وأخويه بعد أن اشتعل اشتعال النار وانحاز إليه وإلى أخيه بلّكا الديلم وظنّوا أنّهم قد نقلوا ملك بنى بويه ولله الأمر من قبل ومن بعد. ثمّ إنّ معزّ الدولة أسقط الديلم الروزبهانيّة وقبض على جماعة من قواده وأعرض عن سائر الديلم وأقبل على الأتراك واصطنعهم وكتب بالفتح إلى الأمصار.   [1] . فى مط: البردان. [2] . فى مط: لإعدادهما، بالإهمال الكامل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 ودخلت سنة ستّ وأربعين وثلاثمائة موت السلّار المرزبان وفيها ورد الخبر ب موت السلار المرزبان بآذربيجان فى شهر رمضان وكانت وفاته بفساد المزاج. فلمّا يئس من نفسه أوصى إلى أخيه وهسوذان على أن يكون الرياسة له ثمّ من بعده لابنه جستان، وكان قد تقدّم إلى أصحاب قلاعه الموكّلين بحفظها إن حدث الموت ألّا يسلّموها إلّا إلى جستان ابنه فإن حدث به حدث الموت فإلى ابنه إبراهيم فإن مات فإلى ابنه ناصر. وكان له ولد رابع يقال له كيخسره فلم يذكره لصغره وقال: فإن لم يبق من هؤلاء أحد فسلّموها إلى أخى وهسوذان. ولما وصّى إلى أخيه وصيّته هذه عرّفه علاماته التي بينه وبين أصحاب قلاعه فأنفذ وهسوذان [221] بعلاماته وخاتمه إلى المرتّبين فى القلاع فى تسليمها إليه فأبوا عليه وأظهروا وصيّته المستورة. وكان إبراهيم بن المرزبان متزوّجا بابنة ولكين بن خرشيد وهو من أكابر الديلم وكان ولكين هذا محبوسا من جهة المرزبان بأردبيل، فلمّا مات المرزبان خاطبته زوجته فى أبيها وحملته على أن يمضى بنفسه ويخرجه من محبسه. فركب وأخرجه من غير استئذان عمّه وهسوذان فاستوحش وهسوذان وفكّر فى مخاتلة أخيه له فى الوصية وفى إقدام ابن أخيه إبراهيم عليه وإخراجه ولكين من محبسه بغير إذنه فساء ظنّه وخرج من أردبيل كالهارب إلى الطرم فاستولى جستان على ممالك أبيه وأطاعه أخواه إبراهيم وناصر وقلّد وزارته أبا عبد الله النعيمي وتوافى إليه قوّاد أبيه إلّا جستان بن شرمزن فإنّه تأخّر عنه وفكّر فى التغلّب على ناحية أرمينية وكان واليا بها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 وأخذ وهسوذان فى التضريب بين أولاد أخيه وتفريق كلمتهم وإطماع أعدائهم فيهم والتشفّى بما عومل به حتى اضطرب عليهم عسكرهم وطالبوهم بما لا يتسعون له حتى تمكّن منهم وقتل بعضهم وحرّض على من لم يمكنه قتله حتى بلغ ما أراد واشتفى وزاد. [222] ذكر أخبار الأمراض والمناخ والزلازل وفى هذه السنة كثر ببغداد أورام الحلق والماشرا وكثر الموت بهذين الضربين [1] وموت الفجاءة وكل من افتصد انصبت إلى ذراعه مادّة حادّة عظيمة يتبعها حمّى حادّة فيحتاج إلى بطّ [2] وما سلم أحد ممن افتصد. وكانت شتوة هذه السنة دفيّة عادمة الأمطار وحكى أهل البحر أنّ البحر نقص فى هذه السنة ثمانين باعا وأنّه ظهر لهم جبال وجزائر لم يعرفوها ولا سمعوا بها قطّ وكانت زيادة دجلة فى هذه السنة يسيرا نحو عشرة أذرع وكان بالرىّ ونواحيها زلازل عظام مات فيها من الناس ما يعظم مقداره ويكثر عدده. ودخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة حوادث عدّة وفيها كثرت الزلازل ببغداد وحلوان وبلدان الجبل وعظم أمرها بالجبل خاصّة فخربت الأبنية وقتلت الخلق. وفيها شغب الأتراك والديلم بالموصل على ناصر الدولة وزحفوا إلى داره وأرادوا الفتك به فحاربهم بغلمانه وبالعامة وظفر بهم وقتل بعضهم فى الوقعة   [1] . وفى مط أيضا: الضربين ولعله «المرضين» . [2] . بطّ الجرح: شقّه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 وقبض على جماعة وهرب الباقون إلى بغداد. وفيها ورد الأمير أبو منصور بويه بن ركن الدولة إلى بغداد يخطب ابنة معزّ الدولة ومعه أبو علىّ ابن أبى الفضل القاشاني وزيرا ومعه أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد يكتب له على سبيل [223] الترسل. فلمّا كان ليلة السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولى زفّت بنت معزّ الدولة إلى أبى منصور بويه ثم حملها إلى إصبهان. طمع ناصر الدولة فى ممالك معزّ الدولة بعد الصلح والموادعة وفيها خرج معزّ الدولة نحو الموصل يوم الخميس لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة وعبر من باب الشماسية إلى قطربّل وضرب مضاربه هناك وعزم على قصد الموصل لمحاربة ناصر الدولة وأولاده لما كان منهم فى قصد ممالكه والطمع فيها بعد الصلح والموادعة وتردّدت الرسل فأمر معزّ الدولة أن تكتب عنه توبيخات وتهجينات عنيفة شديدة وأمر أن تقرأ وتستوفى أجوبتها. ذكر هذه التوبيخات قال فيها [1] : «أنت ذاكر ما جرى عليك من تكين الشيرزادى فإنّه أخرجك من نعمتك وكاد يأتى على مهجتك فلجأت إلىّ بعد عداوة سبقت   [1] . فى مط: منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 منك لى ومنازعة نازعتنيها عن بلاد لم يكن فى يدك منها شيء فاطرحت الأحقاد واغتفرت الذنوب وآثرتك على تكين وهو إذ ذاك يبذل لى الخدمة والطاعة وحمل المال وإقامة الخطبة ولا يلتمس منى الأتراك الدخول بينك وبينه والانصراف عن النصرة لك عليه فآثرتك. «وأنفذت كاتبي وعسكري بأموال أنفقتها ومؤن تكلّفتها [224] حتى أخذت بناصيته وسلّمته إليك فشفيت صدرك منه وعدت إلى وطنك. «ثم حصلت فى يد وزيرى الصيمري حصول المستجير الذليل فوفى لك ولو شاء لأسرك واشتمل على بلادك وقلاعك. «وظننت أنّك تعرف لى حقّ هذه النعمة وتطالب نفسك عليها بالمجازاة فأبيت إلّا غدرا بى وتقبيحا فى معاملتى. «وليتك- لما لم تعمل عمل الأصدقاء الأوفياء- عملت عمل الأعداء الحزماء، فكاتبتنى تعرض نفسك علىّ فى النائبة العظيمة التي نابتنى فى أوثق الناس عندي وتبذل لى معاونتك فكنت تنفذ عسكرك إلى تكريت على أنّه مدد لى فإن لاح لك استظهار منّى تحمّدت علىّ وتودّدت إلىّ وإن لاح لك استظهار علىّ أظهرت ما فى نفسك حيث تكون فيه أعذر وأقل ملامة.» ثم أتبع هذا القول بالتوعّد والتهدّد بالمسير إلى أعماله واستيصاله. الجواب عن هذه الرسالة «إنّك قد صدقت فى جميع ما عددت وإنّى معترف به، وو الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 ما كان عن رأيى [1] ولا أمرت به ولكنّى شيخ لى أولاد أحداث يخالفوننى فى تدبيرهم فيركبون الهوى فى أمورهم ولا رأى لمن لا يطاع.» وتمّت الموافقة بينه وبينه على تعجيل ألفى ألف درهم فعجلها له [225] والتزم مثلها فى كل سنة فأظهر معزّ الدولة الرضا ضرورة لأنّه كان غير واثق برجاله ولأنّ أعماله اختلّت بتلك الفتنة فعاد إلى داره. ثم أخّر ناصر الدولة المال الثاني لأنّ الأوّل كان فى سنة ستّ فخرج معزّ الدولة إليه وسار ناصر الدولة إلى نصيبين ودخل معزّ الدولة الموصل وسار إلى نصيبين وخلف سبكتكين بالموصل. وأنفذ سريّة إلى سنجار لأنّه بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة بها وبلغهما خبر السريّة فانصرفا وقد كان أعجلهما الأمر فتركا خيمهما وجميع معسكرهما بحاله ولم يمكنهما حمل شيء. فأسرع الديلم الذين كانوا فى السريّة إلى الغارة والنهب. ذكر عجلة وإضاعة حزم إنّ الديلم نزلوا فى خيم أبى المرجّى وأخيه فعادا وكبسا العسكر واستأسرا جماعة وقتلا جماعة وكان ممّن قتل ابن ملك الديلم المعروف بسياه چشم [2] قتله هبة الله ووقع فى الأسر شيرزاد وشيرمردى وعدد كثير.   [1] . فى الأصل: عن رأى. وهو المثبت فى مد. وفى مط: عن رأيى. وهو الصواب. [2] . سياچشم (سياه چشم) فارسىّ معناه: أسود العين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 ذكر السبب فى هذه النكبة وضعف معزّ الدولة بعد الاستعلاء كان من عادة ناصر الدولة إذا تنحى من بين يدي معزّ الدولة ألّا يترك فى البلد لا كاتبا [226] ولا دليلا [1] ولا أحدا ممّن يعرف نفع السلطان وضرّه ويحشرهم إلى قلاعه مع حسباناته ودواوينه. ثم يأمر الصعاليك والعرب أن يتطرّفوا البلد ويمنعوا العلّافة ومن يخرج لطلب العلف والطعام إلّا أن يكون معهم عسكر قوىّ فإذا رأوا عسكرا قويا لم يظهروا ولم يتعرضوا وكان غرضه فى ذلك أن يضيق المير والعلوفات فينصرف عنه معزّ الدولة. ففعل ذلك فى هذا الوقت. وبلغ معزّ الدولة كثرة الغلات بنصيبين وكانت للسلطان فقصدها وخلّف حاجبه سبكتكين بالموصل. فلمّا صار ببرقعيد بلغه أن أبا المرجّى وهبة الله ابني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فعمل على كبسهما وندب لذلك جماعة من القواد الكبار وجعل الرئيس عليهم تكين الجامدار- وكان غلاما أمرد وضيء الوجه منهمكا فى الشرب لا يعرف الصحو ولا تقدّمت له حنكة- فأشار الوزير المهلبي ألّا يخرجه فى مثل هذا الوجه وأن يعدل إلى أحد مشايخ القواد فلم يقبل منه وأنفذه فى خمسمائة رجل فأشرفوا على أبى المرجّى وهبة الله فأرهقوهما عن تقويض الخيم واستصحاب شيء من رجالهما وأفلتا على ظهور دوابّهما وتركوا جميع مالهم [227] فانتهبه العسكر. ثمّ تعجّل أصحاب معزّ الدولة إلى الخيم وتركوا الحزم فنزلوها واستقرّوا فعطف عليهم أولئك وصارت الكبسة لهم فقتلوا وأسروا وغنموا ما شاءوا.   [1] . فى مط: وكيلا. بدل «دليلا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 وبقي معزّ الدولة فى عدد يسير ببرقعيد فى طريقه إلى نصيبين فكتب إلى بغداد يستدعى العساكر فتعجّلوا وتلاحقوا إليه فلمّا قويت عدّته سار من برقعيد إلى نصيبين وسار ناصر الدولة من نصيبين إلى ميّافارقين وفضّ جيشه عنه بأسره وصرفهم، فصار جميعهم إلى معزّ الدولة فى الأمان واستأمن أبو زهير أخو ناصر الدولة إلى معزّ الدولة ورحل ناصر الدولة من ميّافارقين إلى حلب مستجيرا بأخيه سيف الدولة فتلقّاه أخوه بأجمل تلقّ وقبله أحسن قبول وخدمه بنفسه حتى تولّى نزع خفّه بيده. وكان حامد بن النمس توجّه من قبل معزّ الدولة إلى الرحبة فهزم من كان بها من جيش ناصر الدولة. وكان طريف الخادم وهزار مرد [1] وهما غلاما ناصر الدولة يتطرّفان الموصل فى الجانب الشرقي منها كل يوم ويلتقطان عمّال معزّ الدولة ويأخذان العلّافة من عسكر الحاجب ويمنعان من ورود [228] شيء إلى الموصل حتى صارت محاصرة وأخذا من الثرثار من عمّال معزّ الدولة رجلا يعرف بعلىّ بن الصقر وحملاه إلى القلعة ثم كبسا الحديثة وكان فيها محرز حاجب الوزير أبى محمد المهلّبى وأبو العلاء ابن شاذان يتقلّد عمالتها فقبضا عليهما ثم أطلقا محرزا وحملا أبا العلاء إلى القلعة. وكان معزّ الدولة راسل كافور الخادم بمصر يأمره بحمل مال إلى الحضرة فحبس كافور الرسول حبسا جميلا وطاوله وبثّ جواسيسه لتعرّف الأخبار. فلمّا عرف انصراف معزّ الدولة عن ذلك الوجه إلى بغداد ردّ الرسول خائبا [2] . وورد عمرو النقيب من قبل ناصر الدولة إلى نصيبين وسفر فى الصلح   [1] . هزارمرد: فارسىّ معناه: من يعادل ألف رجل. [2] . فى مط: خائنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 وطال الخطب بينه وبين معزّ الدولة فلم يتمّ الصلح. فلمّا رأى عمرو الصورة استأمن إلى معزّ الدولة وأقام بحضرته ولم يعد إلى ناصر الدولة. ثم ترددت رسائل بين معزّ الدولة وبين سيف الدولة وتوسّط بين أخيه وبينه حتى تقرر ما بينهما ورجع معزّ الدولة من نصيبين قاصدا الموصل. ذكر اتّفاق صعب غير محتسب لمّا صار معزّ الدولة بين المونسية وآذرمه [1] فى اليوم الخامس عشر من شباط هبّت ريح باردة [229] مغربية ووقع دمق [2] فتلف فى ساعات يسيرة من النهار عدد عظيم من عسكره ولحق معزّ الدولة غشية وكاد يتلف من كثرة ما عليه من الوبر والخزّ. فقلع أهل العسكر سقوف آذرمه وأبوابها وأوقدوها فأطلق معزّ الدولة لأهلها ثلاثة آلاف درهم ليبتاعوا بها مكان ما أخذ من أنقاضها. ذكر تدبير سيّئ ورأى ظاهر الفساد رآه معزّ الدولة بعد فراغه من روزبهان أدّى إلى تخريب المملكة وسوء عاقبة الأولاد والرعية دبّر معزّ الدولة عند فراغه من حرب روزبهان أن يطرد الديلم الروزبهانيّة ويمسك من لم يفارقه منهم وإن كانوا متهمين عنده وكان وعدهم للعشرة ثلاثة فى أصول أموالهم وظنّ أنّه إن وفى للكلّ لم يتّسع له مع أنّ الفتح للأتراك وكان مائلا إليهم بالهوى قبل الاستحقاق فكيف بعد هذا الأثر العظيم! فابتدأ يجازى الأتراك بالإحسان فقوّد منهم جماعة واستحجب جماعة   [1] . فى مط: اسمان لموضعين. وفى مط: آذرميّة. بدل «آذرمه» . [2] . الدّمق: الريح الشديدة يصحبها ثلج. فارسيّة معرّبة أصلها: دمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 ونقّب جماعة ورفع كل طبقة إلى ما هو أعلى منها ونفى الديلم الروزبهانيّة ليتوفّر عليهم مالهم ويصير ذلك بإزاء ما يلزمه لأصحابه الديلم من الزيادات. فأخرجهم إلى الأهواز وكتب إلى وزيره المهلّبى بجمعهم [230] من جميع النواحي والأعمال والتوكيل بهم والمسير معهم إلى آخر الحدود ليتفرّقوا حيث شاءوا. فدفع الوزير من ذلك إلى خطّة صعبة وحال مخاطرة عظيمة. لأنّ القوم كانوا ذوى عدد وعدّة ألا أنّه تلطّف وأحسن التدبير حتى أخرجهم زمرة بعد زمرة. ثم حمل معزّ الدولة الأتراك على التسحّب على الديلم وتعييرهم بشقّ العصا وخلع الطاعة وتقريعهم بهذا ونحوه وأنّ عدد الأتراك مع قلته وفوا بهم [1] حتى قهروهم وأذلّوهم. ثم رسم للأتراك رسوما صار سببا لضراوتهم وطلب الأموال والتغلّب على الأعمال والتسحّب على العمّال وذاك أنّه أمر بتسبيب ما يستحقّونه على واسط والبصرة والأهواز وأخرجهم طبقة بعد طبقة على النوبة لاستيفاء أموالهم ولمن وراءهم من رفقائهم المقيمين وأن يقام لهم نزل يأخذونه راتبا فى كل يوم إلى أن يستوفى ماله ومبلغه عشرة دراهم لكل غلام فى كل يوم وعشرون درهما لمن كان نقيبا وأراد أن ينفعهم عاجلا لا مؤبدا. وانفتح عليه من ذلك باب من الفساد كان أضرّ عليه من زيادة أوزارها فى أصول استحقاقاتهم وذلك أنّهم آثروا [2] أن تتأخر أموالهم المسببة لتكثر أيّام مقامهم [231] وصيروا أصول أموالهم بضائع يتّجرون فيها وإذا راج لهم من مال تسبيباتهم لم ينسبوا شيئا منه إلى الأصل وقد بقي لهم درهم واحد   [1] . فى مط: وتوليهم. بدل «وفوا بهم» . وهو تصحيف. [2] . فى الأصل ومط: أثروا. وهو المثبت فى مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 ويستروح العمّال إلى إطلاق الشيء بعد الشيء لئلا يرهقوا بالمال جملة فربّما أقاموا سنتين وثلاثة. وحلت التجارات فى صدورهم وإجازة ما يحصل لهم فى الطريق بغير ضريبة ولا مؤونة ثم تجاوزه إلى الدخول فى التلاجئ فملكوا البلاد واستطالوا على العمّال وحاموا على التجّار ومن اعتصم بهم فضعفت أيدى العمّال واستعبدوا الناس واستمرّ ذلك وازداد إلى اليوم. ودخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وفيها وافى أبو محمد الفياضى كاتب سيف الدولة إلى الموصل فى المحرم وتقرّر الأمر على أن عقدت الموصل وديار ربيعة والرحبة على سيف الدولة بألفي ألف درهم وتسعمائة ألف فى السنة وذلك لأنّ معزّ الدولة لم يستجب إلى عقدها على ناصر الدولة وعلى أن يقدّم من ذلك ألف ألف درهم ويطلق الأسارى الذين أسروا بسنجار. فلمّا تقرر هذا انحدر معزّ الدولة وتأخر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين بالموصل والجيش بأسره معهما [232] إلى أن يحمل مال التعجيل ثم وردا مع الجيش ومع أبى محمّد الفياضى كاتب سيف الدولة. ذكر انحدار معزّ الدولة والسبب فيه بعد تمكّنه من ديار ربيعة ومضر كان السبب فى إصعاده الإضاقة [1] الشديدة التي لحقته بعد الأمور التي ذكرناها وتأخر أموال الحمول عنه فعلم ناصر الدولة بذلك فانهزم من بين   [1] . فى مط: الإضافة، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 يديه وقال لأصحابه: - «اذهبوا حيث شئتم فإنّى لا أقف للحرب.» فاستأمن أصحابه إلى معزّ الدولة كما كتبنا فيما تقدّم فازدادت إضاقة معزّ الدولة ولم يمكنه ضبط النواحي ولا الحماية، وتقاعد الناس بأداء الخراج احتجاجا بأنّهم لا يصلون إلى غلّاتهم وطلبوا الحماية واضطرّ معزّ الدولة إلى الانحدار ولكنّه أنف وأقام على كره ومشقّة. فلما ورد عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها وأجابه بالشكر الجميل وشكا إليه أخاه وقلّة وفائه والغدر به مرّة بعد مرّة وقال له: - «ان ضمنته أنت أجبت.» فضمنه وانحدر معزّ الدولة. وفى هذه السنة انقطعت الحمول من واسط إلى البصرة والأهواز ذكر السبب فى ذلك السبب فى ذلك ما كنّا ذكرناه من استيلاء الأتراك واستضامتهم العمّال ومضايقتهم إيّاهم حتى اضطرّوهم إلى بذل المرافق [233] الكثيرة لهم فاقتنوا الأملاك وحاموا على قوم على سبيل التلاجى فتغلّبوا على حقوق بيت المال وصار العمّال يعولون على الغلمان الأتراك فى أخذ حقوقهم على التنّاء فيتنجزّونها كما يتنجّزون تسبيباتهم. وتشبه بهم الديلم واصطلح الفريقان على هذا السبيل فكسروا على السلطان حقوقه. واجتمع العمال بذلك فكسروا أصول العقود وسألوا إزالة ما دهمهم فلم يمكن ذلك وصارا بمنزلة الداء الذي لا يرجى حسمه لأنّ الديلم كانوا مستوحشين ومتفرقين والأتراك متطاولين مدلّين. فلو قمعوا لصارت كلمتهم مع الديلم واحدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 فجرى الرسم بأن ينقل ما رفعه العمّال من فاضل ما عليهم إلى السنة التي بعدها وحصل الوزير وكلّ من دبّر فيه تدبيرا متعرضا لسفك دمه وذهاب نفسه إلّا أنّ هذا الفساد كان فى أيّام معزّ الدولة كالطفل الناشئ لهيبته وبقيّة [1] حشمته ثم ظهر الإفراط بعد على أولاده ولما أتى عليه الزمان بعد وفاته. حوادث عدّة وفيها خلع السلطان على الأمير أبى منصور بختيار بن معزّ الدولة وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء ولقّبه عزّ الدولة. وفيها أنفذ لواء وعهد إلى أبى علىّ [234] بن الياس [2] وكان السفير فى ذلك كله القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار الصيمري. وفيها مات أبو الحسن محمّد ابن أحمد المافرّوخى وكان يكتب لمعزّ الدولة وكتب له بعده أبو محمّد علىّ بن عبد العزيز المافرّوخى مدّة شهر. ثم استعفى وانصر تقلّد مكانه أبو بكر ابن أبى سعيد. وفيها كانت وقعة بين علىّ بن كامه ابن أخت ركن الدولة وبين بيستون ابن وشمكير فكانت على بيستون. وفيها غرق الحاج الواردون من الموصل وكانوا فى بضعة عشر زورقا كبارا فيها من الرجال والنساء نحو ألف نسمة. وفيها غزا الروم المسلمين فأسروا وقتلوا وسبوا وانصرفوا وذلك فى طرسوس والرها.   [1] . وفى مط: نفقة، بدل «بقيّة» . [2] . كذا فى الأصل ومط: ابن إلياس. والمثبت فى مد: [محمد] بن إلياس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 ودخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وفيها ورد الخبر بأنّ صاحب خراسان قتل رجلا من قواده يسمى بختكين [1] من وجوه قواد الأتراك فاضطربت خراسان لأجله. وفيها ورد الخبر بأن ابنا لعيسى بن المكتفي بالله ظهر بناحية أرمينية وتلقب بالمستجير بالله يدعو إلى المرتضى من آل محمّد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ولبس الصوف وأمر بالمعروف. وكان هذا الرجل مضى إلى بلد الجيل فاستنصر بجماعة من الديلم المعروفيّة [235] والمسوّدة والمنتسبين إلى مذهب السنة من مذاهب المسلمين فخرجوا معه وصاروا إلى آذربيجان فغلب على عدة بلدان منها ما كان فى يد سلّار الديلمي. ثم ورد الكتاب فى شهر رمضان من جهة ابن سلّار بأنّه أوقع بهذا الرجل المتلقب بالمستجير بالله، فأسره وقتله. ذكر السبب فى خروجه وسرعة هلاكه كان السبب فيه أن جستان بن المرزبان ترك طريقة أبيه فى سياسة الجيش وتوفّر على النساء واللعب ثم أدخلهنّ فى التدبير. وكان جستان بن شرمزن تحصّن بسور أرمية [2] وكان وهسوذان بالطرم ويضرّب بين أولاد المرزبان كما حكينا فيما تقدّم. وكان جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي واتّفق بين النعيمي   [1] . فى مط: أرنية. وهو تصحيف. [2] . فى مط: أرمينية. وهو تصحيف. وأرمية مدينة عظيمة قديمة بأذربيجان بينها وبين البحيرة ثلاثة أو أربعة، وهي فى ما يزعمون مدينة زرادشت نبىّ المجوس. (مراصد الإطلاع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 وبين كاتب جستان بن شرمزن وهو أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه مصاهرة. فلمّا قبض جستان بن المرزبان على النعيمي استوحش صهره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وحمل صاحبه على مكاتبة أخى جستان وكان يومئذ بأرمية [1] وأطمعه فى أموال عظيمة ووعده أن يقوم بين يديه وينصره بجيشه الذين جمعهم ويقيم مقام أخيه. فعمل إبراهيم على ذلك وأشار عليه نصحاؤه بألّا يفعل [236] فخالفهم وركب هواه وسار إلى أرمية واجتمع مع جستان بن شرمزن وكاتبه أبو الحسن عبيد الله بن حمدويه ووعدهما بكل ما سكنا إليه فصاروا إلى المراغة واستولوا عليها. وقد كان جستان بن المرزبان صار إلى برذعة. فلمّا عرف خبر أخيه إبراهيم وانحيازه إلى جستان بن شرمزن عاد إلى أردبيل فراسل ابن شرمزن وكاتبهما ومنّاهما ووعدهما بإطلاق النعيمي وبذل لهما كل ما اقترحاه، فعادا إلى موالاته وتركا إبراهيم وانصرفا عنه إلى أرمية وأخلفاه فى كلّ ما كانا بذلاه. فلمّا رأى إبراهيم ذلك عاد إلى أرمية وبقي جستان بن شرمزن وكاتبه يطمعان كل واحد من الأخوين أعنى إبراهيم وجستان ابني المرزبان أنّهما معه حتى استكملا بناء سور أرمية وقلعة فى داخلها منيعة واستكثرا من جمع الأقوات والآلات. وظهر للأخوين معا نيّة ابن شرمزن فى النفاق والعداوة فتراسلا وتصالحا وعملا على أن يجتمعا ويقصداه.   [1] . فى مط: بأرمينية، وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 واتفق أن هرب أبو عبد الله النعيمي من حبس جستان بن المرزبان وصار إلى موقان وكاتب ابن عيسى بن المكتفي بالله المتلقب بالمستجير بالله، وأطمعه فى الخلافة وأن يجمع له من الرجال من يستولى بهم على آذربيجان فإذا قوى بالمال والرجال [237] قصد العراق. فسار المستجير بالله فى نحو ثلاثمائة رجل من المسوّدة ولم يكن بعد تمكّن ولا اجتمع له من الرجال ما أراد. فلمّا أطمعه النعيمي صار إليه واجتمع معه وصار أيضا إليه جستان بن شرمزن فى عسكره فقوى به وقلّده أمر عسكره وبايعه الناس. وسار إليه جستان وإبراهيم ابنا المرزبان فى جموعهما. فلمّا عبّى جستان عسكره تقدّم إليهم بأن يلزموا مصافّهم ويحفظوا نظامهم ولا يحملوا حتى يأذن لهم. وكان معهم الفضل بن أحمد الكردي القحطانى وهم صنف من الأكراد ومع جستان الصنف الآخر من الأكراد الذين يعرفون بالهدايانية [1] وتلقاهم الهدايانية وابتدأوا بالحرب فانتقض على جستان بن شرمزن صفوفه فخرج من موضعه الذي كان فيه مع الديلم لينكر على الفضل مخالفته إيّاه ويردّه إلى موضعه فوجده قد أبعد فاتبعه فما شكّ أصحابه فى انهزامه فاقتفوا أثره وصحت الهزيمة. وركب الهدايانية وأصحاب جستان وإبراهيم أكتافهم وأضطر جستان بن شرمزن إلى الانصراف إلى أرمية وظفر بإسحاق بن عيسى بن المكتفي بالله ولم يدر ما فعل به إلّا أنّى سمعت بقتله وسمعت بموته حتف أنفه فى الحبس.   [1] . كذا فى مط: بالهدايانية. والياء الأولى مهملة فى الأصل فى كلّ المواضع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 وتمّ لوهسوذان تفريق كلمة بنى أخيه وذلك [238] أنّه استزار إبراهيم. فلمّا صار إليه أكرمه ووصله بجوائز كثيرة وحمله على دوابّ وكاتب ناصرا واستغواه حتى صار إلى موقان مفارقا لأخيه ووجد الجند سبيلا إلى إقامة سوقهم والمطالبة بالأموال ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى ناصر فقوى وسار إلى أردبيل فملكها والجأ أخاه جستان إلى القلعة المعروفة بالنير. ثمّ اجتمع الديلم والأكراد على ناصر يطالبونه بما لا يفي به وقعد به عمّه وهسوذان فعلم حينئذ أنّ وهسوذان عمّه كان يغويه وعرفا جميعا مغزاه فتراسلا وتصالحا وسلم ناصر الأمر إلى أخيه جستان فنزل من قلعته وصارا جميعا إلى أردبيل على إضاقة شديدة لنفاد الأموال وكثرة المتغلّبين على الأطراف. فاضطرّا إلى الخروج الى عمّهما وهسوذان مع والدة جستان بعد أن توثّقوا منه بالأيمان الغليظة والعهود. فلمّا حصلوا تحت قبضته حبسهم ونكث واستولى على العسكر وعقد الإمارة لابنه إسماعيل بن وهسوذان وسلّم إليه أكبر قلاعه شميران وأخرج الأموال وأرضى الجند وجعل أبا القاسم شرمزن بن ميشكى صاحب جيشه وأخرجه إلى أردبيل. وكان إبراهيم قد صار إلى أرمينية فتأهّب [239] لمنازعة إسماعيل ومحاربته ولاستنقاذ أخويه جستان وناصر من محبس عمّهما وهسوذان وكان وهسوذان قد ضيّق عليهما وأساء كل الإساءة إليهما. فلمّا عرف وهسوذان اجتماع إبراهيم على حرب إسماعيل واجتماع خلق من الديلم معه بادر بقتل جستان وناصر وأمّهما وأتى على كل من يقرب منهم ويخاف ناحيتهم وكاتب جستان بن شرمزن والحسين بن محمد بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 الورّاد [1] بقصد إبراهيم وأنفذ إليهما مددا من جهته فاستجابا له وزحفا إليه وزحف إسماعيل فهرب إبراهيم إلى أرمينية وكان جستان بن شرمزن قريبا منه فاستولى على عسكره وملك المراغة وأضافها إلى أرمية. غزو سيف الدولة الروم وفيها غزا سيف الدولة فى جمع كثير فأثّر فى بلدان الروم آثارا عظيمة وأحرق وفتح حصونا وحصل فى يده سبى كثير وأسارى وانتهى فى غزوه إلى خرشنة فلمّا أراد الخروج أخذ الروم عليه المضايق فما تهيّأ له أن يتخلّص إلّا بجهد عظيم هو ونحو ثلاثمائة غلام وهلك باقى أصحابه أسرا وقتلا وارتجع منه السبي كلّه والأسارى والغنيمة وأخذ جميع خزائنه وسلاحه وكراعه وقتل من الوجوه الذين معه [2] حامد بن النمس وموسى بن سياكان والقاضي أبو حصين [240] وكان معه من المسلمين ثلاثون ألفا وخرج أهل طرسوس من طريق آخر فسلموا. ذكر السبب فى سلامتهم ومصاب سيف الدولة كان هذا الرجل أعنى سيف الدولة معجبا يحبّ أن يستبدّ برأيه وألّا تتحدث نفسان أنّه عمل برأى غيره وكان أشار عليه أهل طرسوس بأن يخرج معهم لأنّهم علموا أنّ الروم قد ملكوا عليه الدرب الذي يريد الخروج منه وشحنوه بالرجال فلم يقبل منهم ولجّ فأصيب المسلمون بأرواحهم وأصيب هو بماله وسواده وغلمانه.   [1] . الورّاد: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: الرواد. [2] . وزاد فى مد بين المعقوفتين: كانوا، وهو مقدّر مفهوم من سياق الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 حوادث أخر وفيها استأمن أبو الفتح المعروف بابى العربان أخو عمران بن شاهين وصار إلى واسط بحرمه و [1] عياله وولده لأنّه خاف أخاه ودخل بغداد فى ذى القعدة ولقى معزّ الدولة. وفيها أملك أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي بابنة الوزير أبى محمّد المهلّبى. وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن البريدي. وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاه. وفيها انصرف حاجّ مصر بعد أن قضوا حجّهم فنزلوا فى واد بمكة. فلمّا كان بالليل حملهم الوادي وهم لا يشعرون فغرق أهل مصر وكانوا عددا كثيرا جدّا وكبسهم الماء مع أمتعتهم إلى البحر. [241] ودخلت سنة خمسين وثلاثمائة اشتداد علّة معزّ الدولة فيها اشتدت علّة معزّ الدولة وامتنع عليه البول فاشتدّ جزعه وقلقه واستدعى الوزير أبا محمّد المهلّبى فى الليل والحاجب سبكتكين فأصلح بينهما عن وحشة قديمة وبكى وندب على نفسه على عادة الديلم. فلمّا كان آخر الليل بال دما بشدّة ثمّ تبعه رمل وخفّ ألمه. فلمّا كان من الغد وهو يوم الخميس لخمس خلون من المحرّم سلّم داره وكراعه وغلمانه إلى ابنه عزّ الدولة وفوّض إليه الأمور وجمع المهلّبى الوزير والحاجب   [1] . الواو ساقطة فى مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 سبكتكين على الوصاة به وخرج فى عدّة يسيرة من غلمانه وخاصّته ليمضى إلى الأهواز. ذكر سبب هذه الحركة والخروج بعد ظهور الصلاح والبرء من المرض كان سبب ذلك استشعاره أنّ بغداد هي التي أحدثت له الأسقام وهي التي أفسدت عليه صحّته وتذكّر أيّام مقامه بالأهواز وهي أيّام شبابه ووفور قوّته وظنّ أنّ الأهواز هي التي كانت تجلب له الصحّة وأنّها توافقه. فوصّى الحاجب سبكتكين والوزير المهلبي بابنه عزّ الدولة وبالجيش وغيره ممّا كان فى نفسه وانحدر إلى كلواذى. فلمّا صار بها أشار المهلّبى بأن يقيم ويتأمّل أمره ويفكّر فيه ولا يعجل. فأقام بكلواذى وأخذ [242] فى تقدير بناء قصر ثمّ انتقل إلى الشفيعى وقدّر هناك البناء ثم انتقل منه إلى قطربّل لأنّها أعلى بغداد والهواء والماء هناك أصفى وأعذب وعمل على أن يبنى من حدّ قطربّل إلى باب حرب قصرا. ثمّ صلح [1] من علّته وأبو محمّد المهلبي فى كل ذلك يعلّله ويصرف رأيه لعلمه بكثرة المؤن والنفقات التي تلزمه وبكراهة الجند والحاشية لانزعاجهم من أوطانهم ومألفهم ولكراهية تخريب بغداد بانتقال الملك عنها فلم يزل به حتى صرف رأيه. ولمّا علم أنّه لم يكن من البناء بدّ و [2] أن يكون متصلا ببغداد من أعاليها ليكون هواؤه وماؤه أصحّ وأنظف، أنزله فى البستان المعروف بالصيمرى وهو فى أعلى بغداد من الجانب الشرقي بقصر فرج وأخذ فى هدم ما يليه من العقارات وابتياعها من أهلها إلى حدود ربيعة الدور   [1] . والمثبت فى مد: صاح. وهي قراءة خاطئة للأصل. [2] . كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد وبين المعقوفتين: فيجب. ولا لزوم لهذا التغيير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 وكلّف أبا القاسم ابن مكرم وأبا القاسم ابن جستان العدلين ابتياع العقارات المجاورة له. وأصلح ميدانا على طول دجلة وبنى الاصطبلات على نهر مهدى وقلع الأبواب الحديد التي على المدينة: مدينة أبى جعفر المنصور، والتي بالرصافة وعلى شارع نهر المعلّى ونقلها إلى داره ونقض قصور الخلافة بسرّ من رأى وسور الحبس المعروف بالحديد وبنى به داره وبالآجرّ الذي استعمله وطبخه فى الأتاتين [1] ووثق البناء واختيرت له الآلات [243] والجص والنورة وبالغ فى الإحكام وجلب له البناءون الحذّاق المشهورون من جميع البلدان الكبار من الأهواز والموصل وإصبهان وبلدان الجبل وغيرها. ونزل [2] لبعض الأساسات ستّا وثلاثين ذراعا ورفعها إلى وجه الأرض بالنورة والآجر إلى أن ارتفع فوق الأرض بأذرع. ولزمه على هذا البناء إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم صادر فيها أسبابه سوى ما لم يشتره من الآلات التي ذكرناها والتي لم نذكرها. وكان مقيما طول المدة فى بستان الصيمري ثمّ انتقل إلى الدار التي بناها فى يوم الإثنين لثمان بقين من ذى القعدة سنة خمسين وثلاثمائة قبل أن يستتمّ بناؤها. موت أبى بكر أحمد بن كامل صاحب الطبري وفيها مات أبو بكر أحمد ابن كامل القاضي- رحمه الله- ومنه سمعت كتاب التاريخ لأبى جعفر الطبري وكان صاحب أبى جعفر قد سمع منه شيئا كثيرا ولكنّى ما سمعت منه عن أبى جعفر غير هذا الكتاب بعضه قراءة عليه   [1] . فى مط: الاتامين. والأتاتين جمع مفردة أتّون: موقد النار للحمّام وغيره. [2] . أى نزل بحفر الأرض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 وبعضه إجازة لى وكان ينزل فى شارع عبد الصمد ولى معه اجتماع كثير. موت قاضى القضاة وما كان من أمر غلامه وفيها مات قاضى القضاة أبو السائب عتبة بن عبيد الله وقبضت أملاكه وصودر محمّد الحاجب غلامه وضربه الوزير أبو محمّد المهلبي بحضرتى ضرب التلف لما كان بلغه [عنه] من التحرّم [1] والتهتّك فى أيّام [244] أبى السائب ولم يكن به إلّا التشفّى منه فنثر كعابه ضربا. وكان هذا الرجل عاهرا يتعرّض لحرم الناس وكان مرسوما بحجبة قاضى القضاة. فكان لا يمتنع عليه من لها خصومة أو حاجة عند قاضى القضاة وكان جميلا مقبول الصورة ويتصنّع مع ذلك ويتهم بفواحش مع صاحبه. وفيها مات أبو نصر إبراهيم بن علىّ بن عيسى كاتب الخليفة فجأة وتقلّد كتبة الخليفة عن خاص أمره أبو الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا. قبض معزّ الدولة على الخازن وصاحبي ديوان وفيها قبض معزّ الدولة على أبى على الخازن وأبى مخلد وأبى الفرج محمّد بن العبّاس صاحب الديوان وعلى أبى الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي وأبى سهل ديزويه صاحب ديوان الجيش وحملهم إلى دار الوزير المهلّبى وسلّمهم إليه.   [1] . فى الأصل ومط: كان يبلغه من التحرّم. والمثبت فى مد: كان بلغه [عنه] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 ذكر السبب فى ذلك احتيج إلى النفقة على البناء وكان الوزير المهلبي- رحمه الله- يقصد أبا علىّ الخازن لشيء كان بلغه عنه قديما وكذلك أبا مخلد وأبا الفرج فذكر لمعزّ الدولة أنّه يلتزم [1] مالا ويلزم كلّ واحد من هؤلاء مما ادّخره واحتجنه ولا يحتاج إليه مالا يتمّ به أمر البناء. وكان معزّ الدولة شديد الثقة بأبى علىّ الخازن وكان أبو علىّ كثير التمويه متفاقرا يظهر من الفقر والإقتصاد أكثر مما يحتمل مثله. فقال معزّ الدولة للوزير أبى محمّد: - «ما تريد من البائس [245] الذي قد قنع منّا بالقوت اليسير؟» فقال له الوزير: - «أنا أستخرج منه وحده ما يحتاج إليه للبناء.» وتكلّم على غيره بقريب من ذلك. فسلّم الجميع إليه. فحضرت مناظرة الوزير أبى محمّد للجماعة. أمّا أبو مخلد فإنّه لما خوطب والتمس منه مال قال: - «إنّى خدمت الأمير معزّ الدولة ولا أملك إلّا طنفسة وكساء ودواة، وأنا اليوم نظير أكبر ملك من ملوك الأطراف مالا وضياعا وأثاثا وغلمانا روقة وفرشا، فإلى أن أعود إلى رأس مالي فأنا على الربح. فألزمه الوزير خمسمائة ألف وجزّاه الخير وصرفه إلى منزله بعد أن أخذ خطّه بها. فلمّا خرج التفت الوزير إلينا وقال:   [1] . كذا فى الأصل. فى مط ومد: يلزم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 - «هذا رجل مقبل كنت أظنّه يتماتن ويخاطبني بحسب دالّته وموضعه من الأمير فقد اتّقانى بما قال وحمى نفسه وعرضه وماله وهكذا يصنع الإقبال بصاحبه.» وخاطب أبا على الخازن، فسلك سبيله المعروف وزعم أنّه لا يستبيت، ولم يستجب إلى شيء بتّة فنحى من بين يدي الوزير ووكّل به فى ناحية من الدار. وأمّا أبو سهل ديزويه فتمارض وشدّ رأسه بخرقة فأحضر كرّازا [1] ووضعه عند رأسه وقال: - «أنا غريب.» فأضحك الناس من نفسه وأعرض الوزير عنه ذلك اليوم. وأمّا أبو الفضل فلحقته عناية الوزير لما بينهما من الوصلة [246] فأخذ خطّه بثلاثمائة ألف درهم وصرفه إلى منزله. وكذلك فعل بأبى الفرج صاحب الديوان أجراه مجرى أبى الفضل وأخذ خطّه بثلاثمائة ألف. فلمّا كان بعد أيّام راسله ديزويه وسأله أن يعفو عنه ويجريه مجرى أبى الفضل ففعل ذلك به. وبقي أبو علىّ الخازن على لجاجه لا يلتزم شيئا ثم أنعم بعد التهديد بشيء وراسل أخت معزّ الدولة يستقرض منها ما يشترى به نفسه من مكروه الوزير وظنّ أنّ ذلك يبلغ الأمير فيكون سبب إطلاقه فخاطب معزّ الدولة الوزير فيه وقال: - «ألم أقل لك إنّه لا يملك شيئا.» فقال: «أيّها الأمير لا تلتفت إلى مخاريقه وخدائعه ودعني أستخرج منه   [1] . فى مط: كرارا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 مالا عظيما.» فسكت عنه وراسل أبو علىّ الخازن كلّ من عرفه فاستقرض منه حتى شاع خبره فى الدولة بالفقر وإنّ الوزير يقصده. فلمّا كان فى بعض الليالي لسعه فى ظهره شيء أدماه وتألّم منه وكان موضعه الذي وكّل فيه من دار الوزير موضع غنم فيما تقدّم فظنّه الناس لسع طبّوع وقالوا: ليس شيء من الهوامّ يخرج بلسعته الدم إلّا هذا الحيوان أو الأفعى. فاتّفق أن مات أبو علىّ الخازن بعد أيّام قلائل فى اعتقاله وقامت على الوزير أبى محمّد المهلبي القيامة وخاف أن يتّهم به، ومع [247] ذلك فلم يكن ارتفع من جهته إلّا شيء نزر قليل. ثم عرف أنّه قد وصل إليه من القروض أضعاف ما أدّاه [1] فى مصادرته فتعجّب من جلادته وتوقّع عتب الأمير معزّ الدولة فى بابه ووطّن نفسه على مكروه. ثم رأى أن يبتدئ معزّ الدولة ويستأذنه فى البحث والتنقير عن أسبابه وأظهر أنّه على ثقة من تلك الأموال التي وعده بها من جهته حتى سكّن من معزّ الدولة وأخذ إذنه فى ذلك ولم يكن يثق بشيء مما ضمنه من جهته ولكنّه برّد عن نفسه فى الحال. ثم أخذ فى التفتيش فأثار له أموالا كثيرة بعضها جرى بحضرتى فكان من ذلك أن قبض على غلمانه وأسبابه وخلا بواحد واحد منهم فأرهبه وأرغبه وسأله هل يتّهم موضعا من داره بدفين أو يتّهم معاملا له بوديعة فقال له: - «إنّ هذا الرجل كان أدهى من أن يعمل شيئا ممّا تطلبه وتبحث عنه بحضرة أحد ولست أتّهم أحدا إلّا أنّه طرد غلاما له مزيّنا من حجرة مرسومة   [1] . فى مط: ادّعاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 به وجلس فى حجرته للخلوة أيّاما.» فعبر الوزير بنفسه إلى دار أبى على الخازن والتمس حجرة المزيّن وكان غلاما حبشيا أو نوبيا فجلس فيها فحفر مواضع فيها فظفر بمال لم أعرف مبلغه. وكان فى جملة المدفون آلة شبيهة [248] بميزان، أعنى بيت الميزان من خشب الساج له طبق كطبق الميزان وليس فيه مواضع [1] كفة ولا موضع السنج بل هو محفور من ترابيعه شبيها بحوض وعليه طبقة مهندما عليه وهو خال لا شيء فيه. فعجب منه ثم قلب ذلك الطبق ووجد عليه كتابة فحمل تلك الآلة إلى منزله وحمل المال إلى خزانة معزّ الدولة. فعهدي به يقلّب تلك الآلة ويتأمّل تلك الكتابة وكانت بخطّه خط ردىء، فإذا هي أسماء قوم ورموز لا يفهم منها شيء وكانت تلك الأسماء مفردة لا يقترن بها شيء يستدلّ به على صاحبه. فما شكّ الوزير أنّ تلك الأسماء أسماء قوم مودعين وأنّ تلك الرموز مبلغ ما عندهم من المال فاستعمل دهاءه فيه وقال: - «أجد هذا الاسم وهو «علىّ» مكررا فإن استخرجناه أخرج لنا باقى الأسماء.» فقيل له: - «كم من رجل اسمه علىّ كان يواصل هذا الرجل.» فقال: «لا تفعلوا فإنّ المعاملين الذين هذا اسم لهم قليلون فمن كان منهم يصلح للوديعة أقلّ منهم.» ثم تجاوز ذلك إلى اسم أظنّه «أحمد» فقال:   [1] . كذا فى الأصل: مواضع السنج. فى مط: مواضع الصنج. والمثبت فى مد: موضع السنج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 - «هذا اسم صيرفى فى دار أبى على وهو فى درب عون فأحضرونيه.» فأحضر وقال له الوزير: - «قد وجدنا ثبتا باسمك وبخطّ أبى علىّ بمبلغ ما عندك، فأنفذ الساعة صاحبك ليحضره.» فاضطرب الرجل وأنكر أن يكون [249] له عنده مال فبطش به ولحقه أذى ومكروه ثمّ أمر به فحبسه وقيّده بقيد ثقيل فيه ثلاثون منّا فتفسّخ فيه الرجل ودخل إليه المستخرج وهدّده فاعترف. وكان باسمه سبعة أنوكى [1] ولم يكن فينا أحد يعرف معنى «انوكى» . فقال الوزير: - «فطالبوه بسبع بدر دنانير استظهارا.» ففعل ذلك فوافق تخمينه صحّة الأمر وأدّى خمسين ألف دينار. ثم لم يزل يتتبع تلك الأسماء وقد صحت له الرموز فاستخرج نحو مائتي ألف دينار من هذه الوجوه سوى دفائنه. وقامت حرمة الوزير أبى محمّد عند معزّ الدولة وانبسط لسانه وجاهه وصار مقبول القول عنده بعد أن ظنّ أنّ الذي فاته من خازنه شيء لا عوض له منه أمانة وثقة ودينا. وتقلّد مكان أبى علىّ الخازن أبو محمّد علىّ بن العباس بن فسانجس للنصف من شعبان وأقطع إقطاع أبى علىّ. وفيها تقلد القاضي أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبى الشوارب القضاء فى جانبي بغداد ومدينة أبى جعفر المنصور وقضاء القضاة وخلع عليه من دار السلطان من حيث امتنع الخليفة من أن يصل إليه.   [1] . فى مط: ابوكى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 وركب بالخلع من دار معزّ الدولة [1] وبين يديه الدبادب والكرك [2] والبوقات وفى موكبه الغلمان الأتراك والجيش. [250] وكان توصّل إلى تقلد ذلك بأن خدم أرسلان الجامدار فتى معزّ الدولة ووافقه على أن يحمل إلى خزانة الأمير فى كل سنة مائتي ألف درهم وكتب عليه بها كتاب وجعلت على نجوم معروفة ولم يأذن الخليفة أن يصل إليه هذا القاضي فى يوم موكب ولا غيره. وكان فعل القاضي ما فعله من سماجته وقبح ذكره سببا لأن ضمّنت الحسبة ببغداد وضمّنت الشرطة بعشرين ألف درهم فى كل شهر من شهور الأهلّة وهذا القاضي مع قبح فعله قبيح الصورة مشوّهها. وفيها وافى ابو القاسم أخو عمران مستأمنا. وفيها ورد الخبر بأنّ عبد الملك بن نوح صاحب خراسان تقطّر به فرسه فمات وافتتنت خراسان ونصب مكانه أخ له يسمّى منصورا. وفيها حمل إلى إبراهيم السلّار من دار السلطان خلع، وعقد له على آذربيجان. ودخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وفيها نقل الوزير أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي سنة خمسين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. وفيها دخل الأمير ركن الدولة سارية من بلد طبرستان وانصرف عنها وشمكير إلى جرجان واستأمن من أصحابه إلى ركن الدولة ثلاثة آلاف رجل.   [1] . وفى الأصل: الخليفة. والصواب فى تاريخ الإسلام. (من حواشي مد) [2] . كذا فى الأصل: الكرك. والمثبت فى مد: الدرك (قراءة خاطئة للأصل) . فى مط: الكوك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 ورود الروم عين زربة وفيها ورد الروم عين زربة [1] فى سفح جبل [251] والجبل مطل عليها. فلمّا جاءه الدمستق فى هذا الجمع العظيم أنفذ قطعة من جيشه إلى الجبل ونزل هو على بابها فملك جيشه الجبل. فلمّا رأى أهل عين زربة أنّ الجبل قد ملك عليهم وأنّ جيشا آخر قد ورد إلى باب المدينة وأنّ مع الدمستق دبّابات كثيرة وأنّه قد أخذ فى نقب السور، طلبوا منه الأمان، فآمنهم وفتحوا له باب المدينة فدخلها. فوجد خيله الذين فى الجبل قد نزلوا إلى المدينة فندم على إعطائهم الأمان فنادى فى البلد من أول الليل بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع وأنّ من تأخّر فى منزله قتل. فخرج من أمكنه الخروج. فلمّا أصبح أنفذ رجّالته فى المدينة وكانوا ستين ألف رجل وكل من وجدوه فى منزله قتلوه. فقتلوا عالما من الرجال والنساء والصبيان والأطفال وأمر بجمع ما فى البلد من السلاح فجمع منه أمر عظيم وكان فى جملته أربعون ألف رمح وقطع ما فى البلد من النخل فقطع نحو خمسين ألف نخلة. ونادى فيمن حصل فى المسجد الجامع من الناس بأن يخرجوا عن البلد إلى حيث شاءوا وأنّ من أمسى ولم يخرج قتل. فخرج الناس مبادرين وتزاحموا فى الأبواب فمات بالضغط جماعة من الرجال والنساء والصبيان ومرّوا على وجوههم [252] حفاة عراة لا يدرون إلى أين يتوجّهون، فماتوا فى الطرقات ومن وجد فى المدينة آخر النهار قتل، وأخذ كل ما خلّفه الناس من أمتعتهم وأموالهم وهدم السوران اللذان   [1] . وزاد فى مد بين المعقوفتين: فى مائة وستّين ألفا وهي ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 على المدينة وهدمت المنازل. وبقي الدمستق مقيما فى بلدان الإسلام أحدا وعشر [1] يوما وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصنا منها بالسيف ومنها بالأمان. فكان فى بعض الحصون التي فتحت بالأمان حصن أمر أهله بالخروج منه فخرجوا فتعرّض بعض الأرمن للنساء اللواتي خرجن منه، فلحق رجالهن غيرة عليهن فجرّدوا سيوفهم فاغتاظ الدمستق منهم وأمر بقتل الجميع وكانوا أربعمائة رجل، وقتل النساء والصبيان ولم يترك إلّا جارية حدثة أو من يصلح أن يسترقّ. فلمّا أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد الفطر وزعم أنّه يخلّف جيشه بقيسارية. وكان ابن الزيات صاحب طرسوس خرج فى أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين فأوقع به الدمستق وقتل جميع من كان معه وقتل أخاه وكان ابن الزيات قد قطع الخطبة لسيف الدولة وأنفذ إليه رسلا فلمّا وقف ابن الزيات على ذلك لبس سلاحه واعتمّ وخرج إلى روشن داره وكانت داره، على شاطئ نهر، فرمى بنفسه من داره إلى [253] النهر فغرّقها. حوادث عدّة وفيها دخل ركن الدولة جرجان وذلك فى المحرم. وفيها ورد الخبر بأنّ صاحب خراسان أنفذ جيشا كثيفا إلى غلام له شذّ عنه يقال له: الفتكين، وأنّ الفتكين أوقع بالجيش وهزمه واستأسر وجوه   [1] . فى الأصل: أحد وعشرون. وهو سهو، وهو المثبت فى مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 القوّاد وفيهم خال صاحب خراسان. وفيها لقّب الخليفة الأمير أبا شجاع فناخسره بن ركن الدولة عضد الدولة وكتب به كتاب. وفيها أسر الروم أبا فراس ابن أبى العلاء ابن حمدان من منبج وكان متقلدا لها. ورود الدّمستق حلب وفيها ورد الخبر بأنّ الدمستق ورد إلى حلب وملكها وكان الدمستق وافاها ومعه ابن أخت الملك ولم يعلم سيف الدولة ولا أحد بخبره لأنّها كانت كبسة. فلمّا علم سيف الدولة به أعجله الأمر فخرج نحوه وحاربه قليلا فقتل أكثر من معه وقتل جميع ولد داود بن حمدان وابن للحسين بن حمدان. فانهزم سيف الدولة فى نفر يسير وظفر الدمستق بداره وهي خارج مدينة حلب. فوجد لسيف الدولة من الورق [1] ثلاثمائة وتسعون بدرة فأخذها ووجد له ألف وأربعمائة بغل فتسلّمها ووجد له من خزائن السلاح ما لا يحصى كثرة فقبض جميعها وأحرق الدار وملك الربض. وقاتله أهل حلب من وراء السور فقتل من الروم جماعة بالحجارة وسقطت ثلمة [254] من السور على قوم من أهل حلب فقتلهم وطمع الروم فى تلك الثلمة فأكبّوا عليها ودفعهم أهل البلد عنها. فلمّا جنّهم الليل اجتمع المسلمون عليها فبنوها وأصبحوا وقد فرغوا   [1] . فى مط: المورق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 وعلوا عليها وكبّروا وبعد الروم قليلا إلى جبل هناك يعرف بجبل جوشن. وذهب رجالة الشرطة بحلب إلى منازل الناس وخانات التجار ينهبونها وقيل للناس: - «الحقوا بمنازلكم فإنّها قد نهبت» فنزلوا عن السور وأخلوه ومضوا إلى منازلهم مبادرين ليدافعوا عنها. فلمّا رأى الروم السور خاليا وطالت المدة وتجاسر الروم صعدوا وأشرفوا على البلد ورأوا الفتنة فيه والنهب فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا فوضعوا السيف فى الناس فقتلوا كل من لقيهم ولم يرفعوا السيف إلى أن كلّوا وضجروا. وكان فى البلد من أسارى الروم ألف ومائتا رجل. فتخلصوا وحملوا السلاح على المسلمين وكان سيف الدولة قد أعدّ من الروم سبعمائة رجل ليفادى بهم فأخذهم الدمستق وسبى من البلد من المسلمين والمسلمات بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأخذ من خزائن سيف الدولة وأمتعة التجار ما لا يحد ولا يوصف كثرة. فلمّا لم يبق معه شيء يحمل عليه أحرق الباقي بالنار وعمد [255] إلى الحباب [1] التي يحرز فيها الزيت، فصب فيها الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض وأخرب المساجد وأقام فيها تسعة أيام. وكان بذل لأهل البلد قبل أن يفتحه الأمان على أن يسلّموا إليه ثلاثة آلاف صبىّ وصبية ويحملوا إليه مالا وأمتعة حدّها [2] وينصرف عنهم. فلم يستجيبوا له إلى ذلك. وذكر أنّ عدّة رجاله كانت مائتي ألف رجل وأنّ عدة أصحاب الجواشن   [1] . مفردة الحبّ: الجرّة الكبيرة أو الخابية. [2] . فى مط: يأخذها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 فيهم ثلاثون ألف رجل وفيهم ثلاثون ألف صانع للهدم ولتطريق الثلج أربعة آلاف بغل عليها حسك الحديد يطرحه حول عسكره بالليل وخركاهات عليها لبود مغربية فمن صعد قلعة حلب تخلّص بحشاشته. ما فعله ابن أخت الملك فلمّا كان بعد تسعة أيام أراد الدمستق أن ينصرف بما فاز به وحصل فى يده فقال له ابن اخت الملك: - «هذا بلد قد حصل فى أيدينا وليس بازائنا من يدفعنا عنه ومن كان فيه من العلوية وبنى هاشم والوزراء والكتّاب ومن لهم أموال مقيمون فى القلعة فبأى سبب تنصرف عنه قبل فتح القلعة؟» فقال له الدمستق: - «قد وصلنا إلى ما لم نكن نقدّره ولا يقدّرها الملك وقتلنا وسبينا وأسرنا وأحرقنا وهدمنا وخلّصنا أسراءنا وأخذنا من أردنا أن نفادى به بلا فدية وغنمنا غنيمة ما سمع بمثلها [256] ومن حصل فى القلعة فهم عراة وإذا نزلوا هلكوا لأنّهم لا يجدون قوتا والرأى أن ننصرف عنهم فإنّ طلب النهايات والغايات ردىء.» فأقام ابن أخت الملك على أمره ولجّ [1] وقال: - «لا أنصرف أو أفتح القلعة.» فلمّا لجّ قال له الدمستق: - «فانزل عليها وحاصرها، فإنّ الصورة والضرورة تقود من فيها إلى فتحها.»   [1] . كذا فى مط. ما فى الأصل: لحّ. (بالإهمال فى كلا الموضعين.) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 فقال: «لا أفتحها إلّا بالسيف.» فقال له: - «شأنك وما تريد، فإنّى أنا مقيم فى عسكري على باب المدينة.» فلمّا كان من غد ترجّل وأخذ سيفا ودرقة وصعد راجلا والمسلك إلى باب القلعة ضيّق لا يحمل أن يسلكه أكثر من واحد فصعد وتبعه أصحابه واحدا واحدا. وقد كان حصل فى القلعة الجماعة من الديلم فتركوه حتى إذا قرب فتحوا الباب وأرسلوا عليه حجرا فوقع عليه وأنقلب ثمّ وثب وهو مدوّخ، فرماه واحد من الديلم بخشت [1] فأنفذ صدره وركب رأسه فأخذه أصحابه وانصرفوا إلى الدمستق. فلمّا رآه مقتولا أحضر من كان أسر من المسلمين فضرب أعناقهم بأجمعهم. وسار إلى بلد الروم بما معه ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها وقال لأهلها: - «هذا البلد قد صار لنا فلا تقصروا فى العمارة فإنّا بعد قليل نعود إليكم. [257] ودخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وفيها ورد الخبر بأنّ قوما من رجّالة الأرمن صاروا إلى الرّها فاستاقوا خمسة آلاف رأس من الغنم وخمسمائة رأس من البقر والدواب واستأسروا نفرا من المسلمين وانصرفوا موفورين.   [1] . كذا فى الأصل: بخشت. ما فى مط، مهمل فى الأخير. والمثبت فى مد: بخشب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 وفيها قلّد القاضي أبو بشر عمر بن أكثم القضاء بمدينة السلام على أن يتولّى ذلك بلا رزق وأعفى مما كان يحمله أبو العباس ابن أبى الشوارب وخلع عليه وأمر بألّا يمضى شيئا من أحكام وسجلّات ابن أبى الشوارب ثم قلّد قضاء القضاة. خروج أبى محمد المهلّبى لفتح عمان وميتته العجيبة وفيها [1] خرج الوزير أبو محمّد المهلبي ومعه الجيش لفتح عمان وذلك يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الآخرة فانحدر وبلغ إلى هلتى [2] من فم البحر واعتلّ. فكنت أسمع من طبيبه فيروز بأنّه مسموم لا محالة وكنت أسأله عمّن سمّه فلا يصرح باسمه إلى أن كان بعد ذلك بمدة وانقضت تلك الأيام فذاكرته بذلك فقال: - «كان خرج معه فرج الخادم وكان أستاذ داره والمستولى على خاصّ أمره ومعه جماعة من الخدم يطيعونه وكان قد فارق نعمة ضخمة وخرج من خيش وثلج وتنعّم، إلى حرّ شديد [3] وشقاء كثير وتوجّه إلى عمان فواطأ الخدم على سمّه وقتله والراحة من ذلك السفر وظنّوا أنّهم يسلمون ويعودون [258] إلى نعمهم.» وكان فيروز الطبيب لما أحسّ بذلك استأذن فى العود إلى بغداد وزعم أنّه لا يركب البحر فأرغب فى مال كثير فامتنع ثم أرهب بالحبس فصبر وقال:   [1] . فى الأصل ومط: وفيها. والمثبت فى مد: ومنها. [2] . وفى معجم البلدان لياقوت الحموي 4. 979: هلنا. وما فى مط: مهمل. [3] . فى مط: إلى خرشيد، بدل «إلى حرّ شديد» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 لا أخرج البتة. فأذن له وانصرف. فلمّا كان فى النصف من شعبان ثقل وردّ إلى الأبلّه زائل العقل مسبوتا فيئس منه وعملت له آلة شبه المحفّة يحمله أربعون رجلا يتناوبون عليه وينام فيها وردّ على طريق البرّ. فلمّا كان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان وقت العصر مات رحمه الله بزاوطا. وكان معزّ الدولة لما سمع بخبر علّته أنفذ أبا على حمولى إليه لتعرّف خبره وتقدم إليه إن وصل إليه وقد توفّى أن يحتاط على تركته وأسبابه. ففعل ذلك وقبض على كتّابه وأسبابه وحمل جميعه إلى الحضرة. وورد تابوته مدينة السلام يوم الأربعاء لخمس خلون من شهر رمضان وقبض على عياله وولده ومن دخل يوما إليه مثلا وصودروا حتى المكارين والملاحين الذين كانوا يخدمون حاشيته وجرى من ذلك ما لا جرى مثله إلّا على عدوّ مكاشف واستفظع الناس ذلك واستقبحوه لمعزّ الدولة. وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر ومات بموته عن الكتاب الكرم والفضل رحمه الله. [259] ولما مات الوزير أبو محمّد المهلبي رحمه الله نظر أبو الفضل وأبو الفرج فى الأمور من غير تسمية لواحد منهما بالوزارة. دخول الطرسوسيين وغلام سيف الدولة بلد الروم وفيها ورد الخبر بأنّ الطرسوسيين غزوا ودخلوا من درب من دروب الروم إلى بلد الروم ودخل نجا غلام سيف الدولة من درب آخر فغنم أهل طرسوس غنيمة يسيرة وأقام سيف الدولة على درب آخر ولم يدخل لأنّه كان عليلا من فالج لحقه قبل ذلك بسنتين فلمّا خرج نجا والطرسوسيون عاد سيف الدولة إلى حلب وهو عليل ولحقته غشية ظن معها أنّه قد تلف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 وجاء أبو الحسين ابن دنحا إلى هبة الله ابن ناصر الدولة ليسلّم عليه ويهنّئه بعيد الفطر، وكان هبة الله راكبا فاستجرّ أبا الحسين ابن دنحا الحديث إلى إزاء صخر ثم رماه بخشت [1] كان فى يده فوقع فى لبّته ومضى يركض يريد الهرب فلحقه هبة الله وإنّما فعل ذلك لغيرة لحقته من تعرض ابن دنحا لغلام من غلمانه. وبلغ هبة الله أنّ عمه لم يمت وأنّه أفاق من غشيته فخافه واستوحش مما فعله بابن دنحا فجدّ فى السير إلى حرّان. وابن دنحا هذا هو الذي كان استأمن إلى معزّ الدولة ثم أنصرف عنه إلى سيف الدولة لأنّه لم يصل [260] ببغداد إلى ما كان يرجوه وما جسر أن يعود إلى ناصر الدولة فساقه الحين إلى ما ذكرت. فتبع نجا غلام سيف الدولة هبة الله فلم يلحقه ولحق سواده فأخذه وانصرف به إلى سيف الدولة يستنجده لينجده بالرجال ويقيم بحرّان ويدفع كل من نازعه عليها وطالب أهل حرّان بأن يحلفوا له أن يكونوا معه حربا لمن حاربه وسلما لمن سالمه وظنّ أهل حرّان أنّ الذي خبرهم به صحيح، فحلفوا له على ما أراد واستثنوا فى يمينهم: إلّا أن يكون الذي يحاربه عمّه سيف الدولة، فإنّهم لا يحاربونه، ورضى بذلك منهم. فلمّا كان بعد أيام وافى نما أخو نجا غلام سيف الدولة فأغلق هبة الله وأهل حران أبواب حرّان فى وجوههم وعلم نما أنّه لا يمكنه فيهم حيلة فأظهر أنّه لم يرد حرّان وإنّما أراد قصد ارزن وميّافارقين. فانصرف عن حرّان إليها وكتب إلى أخيه نجا [يعرفه ما جرى ويغريه بأهل حران فسار نجا إلى حران فلمّا قرب منها هرب هبة الله إلى أبيه وأسلم أهل حران فنزل   [1] . كذا فى الأصل ومط: بخشت. والمثبت فى مد: بخشب. وليس صوابا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 نجا] [1] خارج حران. وخرج إليه وجوه أهلها وأشرافها وهم سبعون شيخا ليسلّموا عليه فوكّل بهم وتهددهم بالقتل وطالبهم عن البلد بألف ألف درهم أرش ما عملوه من غلق الأبواب فى وجه أخيه ولم يسمع لهم عذرا وجرت [261] لهم معه خطوب إلى أن قنع منهم بثلاثمائة ألف درهم وعشرين ألف درهم ووجّه معهم بالفرسان والرجالة وألزمهم الأجعال [2] الثقيلة ورسم أن يستخرج له المال فى يوم واحد وبعد الجهد إلى أن يكون المدة خمسة أيّام وقسط المال على أهل البلد وأدخل فيه الملّىّ والذّمىّ والسوقة والنساء الأرامل وغيرهم ووضع عليهم العصىّ والضرب فى دورهم بحضرة حرمهم وعيالاتهم. فأخرجوا أمتعتهم وباعوا ما يساوى دينارا بدرهم ولم يجدوا من يشترى لأنّ أهل البلد كلّهم كانوا يبيعون. فاشترى أصحاب نجا الأمتعة والحلىّ بحكمهم وبما أرادوا. ولزم أهل البلد من الأجعال أمر عظيم وخرب بذلك البلد وافتقر أهله وأنصرف عنهم نجا إلى ميّافارقين بعد أن استوفى جميع المال وترك البلد شاغرا بلا سلطان فتسلط عليهم العيّارون. وأظهر نجا الخلاف على مولاه سيف الدولة والخروج عن طاعته ولم يزرع فى هذه السنة أحد بديار مضر كبير شيء للجور الذي كانوا فيه. ودخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة ذكر الغازي الخراساني وفيها ورد الخبر من حرّان بأنّه اجتاز بهم الغازي الوارد من خراسان فى   [1] . ما بين المعقوفتين زيادة إيضاحية من مد. [2] . كذا فى الأصل ومط: الأجعال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 نحو خمسة [262] آلاف رجل ماضين إلى حلب إلى سيف الدولة. وهذا الرجل وافى من خراسان على طريق آذربيجان ثم إلى أرمينية ثم إلى ميافارقين ثم إلى حرّان ثم إلى حلب ثم ورد بأنّ هذا الغازي اجتمع مع نجا غلام سيف الدولة. وكان ببلاد أرمينية وملازجرد رجل يعرف بأبى الورد قد استولى عليها، فطمع نجا فيه ولم يلتفت إلى حديث الغزو ولا إلى الخراساني وقصد أبا الورد فأوقع به وملك قلاعه وبلده وحصل فى يده من أمواله ما يكثر قدره فأقام فى القلعة وحصل فى يده من بلدان أرمينية وملازجرد وخلاط وموش. ومضى الغازي الخراساني إلى سيف الدولة فلمّا اجتمع معه نفر إلى المصيصة وورد الخبر بنزول الروم على المصيصة فى جيش ضخم وفيه الدمستق وأنّه أقام عليها سبعة أيام ونقب فى سورها نيفا وستين نقبا ولم يصل إليها ودفعه أهلها عنها ثم انصرف لما ضاقت به المير وغلا السعر وبعد أن أقام فى بلاد الإسلام خمسة عشر يوما. وأحرق رستاق المصيصة وأذنة وطرسوس وذلك لمعاونتهم أهل مصيصة فظفر بهم الروم وقتل منهم خمسة آلاف رجل وقتل أهل أذنة من الروم عددا قليلا وكذلك أهل طرسوس. ولما مضى سيف الدولة [263] والخراسانية إلى المصيصة وجد جيش الروم قد انصرف عنها وتفرقت جموع الخراساني لشدة الغلاء فى الثغور وبحلب ورجع أكثرهم إلى بغداد وعادوا منها الى خراسان. وقبل انصراف الدمستق عن الضّبعة [1] وجّه إلى أهلها بأنّى منصرف عنكم لا لعجز عنكم وعن فتح مدينتكم ولكن لضيق العلوفة وأنا عائد إليكم بعد   [1] . الضبعة: كذا فى الأصل. وما فى مط مهمل. وغيّره فى مد إلى «المصيصة» والضّبعة يمكن أن تكون بمعنى الضّبع: الناحية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 هذا الوقت فمن أراد منكم الانتقال، الى بلد آخر قبل رجوعي فلينتقل ومن وجدته بعد عودي قتلته. الأكراد وقافلة الحاج ّ وفيها اجتمع الأكراد على قافلة الحاجّ الصادرة إلى خراسان فملكوها واجتاحوها فوق حلوان ورجع الحاج إلى حلوان. اشتداد الغلاء بأنطاكية وورد الخبر بأنّ الغلاء اشتدّ بأنطاكية وجميع الثغور حتى لم يقدر أحد على الخبز وأكل الناس الرطبة والحشيش وانتقل قوم من الثغور إلى الرملة ودمشق وغيرها نحو خمسين ألف انسان هربا من الغلاء فإنّ الدمستق قد جمع الجموع للخروج إلى بلدان الإسلام وإنّ السلطان بحرّان مقيم بعد الذي جرى على أهلها من نجا على ظلمهم وطرح الأمتعة عليهم والجور فى معاملتهم وإنّ الغلاء بها وبالرقّة شديد جدّا. الهجريّون يستهدون الحديد من سيف الدولة وفيها استهدى الهجريون من سيف الدولة [264] حديدا فقلع سيف الدولة أبواب الرقة وهي من حديد وسدّ مكانها وأخذ حديدا بديار مضر حتى أخذ سنجات الباعة والبقالين ثم كتبوا إليه: إنّا قد استغنينا عن الحديد. فأخذ القاضي أبو حصين الأبواب فكسرها وعمل منها أبوابا لداره. ثم كتب الهجريون يلتمسون الحديد فأخذ الأبواب التي عملها أبو حصين وسائر ما قدر عليه من الحديد وحمله فى الفرات إلى هيت ثم منها إليهم فى البرّية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 ورود رسالة ناصر الدولة وفيها ورد أبو الحسين الباهلي برسالة ناصر الدولة ليقرّر ما بينه وبين معزّ الدولة فتقرّر على أن يحمل ناصر الدولة عن سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ألف ألف درهم يقدّم منها ثلاثمائة ألف درهم وعن سنتي ثلاث وأربع ألفى ألف درهم يقدّم منها مائتي ألف درهم والباقي فى نجوم. ولما تقرر الأمر بذل ناصر الدولة زيادة عشرة آلاف دينار على أن يعقد لابنه أبى تغلب فضل الله الغضنفر فلم يستجب معزّ الدولة إلى ذلك. فلمّا كان مستهلّ جمادى الآخرة وردت الخمسمائة الألف الدرهم التي وقع الاتفاق عليها مع الباهلي وقبضت وصحّت فى الخزانة. وأظهر معزّ الدولة الإصعاد إلى الموصل وأخذ يستعدّ له فسأله الباهلي التوقف [265] عن المسير إلى أن يمضى برسالة إلى ناصر الدولة ويعود. فقيل له: تمضى وتلتمس ردّ ما لزم من النفقة على التأهب للسفر. فمضى وأخرج معزّ الدولة مضاربه إلى باب الشماسية وخرج الحاجب سبكتكين وجماعة من القوّاد على المقدمة إلى الموصل وتبعه معزّ الدولة. ومدّ الجسر الذي ببغداد إلى السن وعقد هناك وعبر عليه مع الجيش إلى الجانب الغربي وسار على الظهر إلى الموصل. وكان الباهلي قد عاد بجواب الرسالة وبذل أن يحمل ثلاثمائة ألف درهم عوضا عمّا لزمه من النفقة على السفر فلم يقبل منه وانصرف الباهلي من تكريت وتمم معزّ الدولة المسير. ولما بلغ ناصر الدولة أن معزّ الدولة قد قرب من الموصل ولم يكن له عزم على لقائه رحل من الموصل إلى نصيبين ورحل معزّ الدولة من الموصل إلى بلد فى آخر النهار وخلّف بالموصل أبا العلاء صاعد بن ثابت ليحمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 الغلات ويستخرج الأموال وخلّف بكتوزون وسبكتكين العجمي ووهرى وجماعة من الأتراك والديلم لضبط البلد. ولمّا بلغ ناصر الدولة مسير معزّ الدولة نحوه سار من نصيبين إلى ميافارقين ورحل ناصر الدولة عنها ورجع الحاجب إلى نصيبين وعرف معزّ الدولة أن العدو قد رحل لمّا قرب منه [266] وأنّه لا يدرى أين قصد فرحل معزّ الدولة للوقت من نصيبين يريد الموصل خوفا من مخالفة ناصر الدولة إليها وخلف الحاجب وجماعة من القواد بنصيبين. وكان صار أبو تغلب ابن ناصر الدولة واخوته إلى الموصل ووقع بينهم وبين من خلّفهم معزّ الدولة بها حرب شديدة وكانت على أولاد ناصر الدولة وانصرفوا إلى الموصل وأحرقوا زبازب معزّ الدولة التي كانت ببلد [1] وزواريق العسكر التي كانت بالموصل وبلغ ذلك معزّ الدولة فسكنت نفسه إلى ظهور أصحابه بالموصل على بنى حمدان. فلمّا كان بعد ذلك اجتمع ناصر الدولة مع أولاده وقصدوا الموصل فأوقعوا ببكتوزون وسبكتكين العجمي وعسكر معزّ الدولة الذي كان خلفه بالموصل واستأمن الديلم إلى ناصر الدولة فأخذ تراسهم وأحرقها ووهب لكل واحد منهم عشرة دراهم وصرفهم وأسر بكتوزون وسبكتكين وسائر الأتراك ووهرى وصاعدا وأحمد الطويل غلام موسى فياذه وكان قد أصعد من الأهواز ليتظلم إلى معزّ الدولة من وضيعة لحقته فى ضمان كان فى يده. وأخذ بنو حمدان ما كان لمعزّ الدولة بالموصل من كراع وسلاح وثياب خز ومائتي ألف درهم كانت [حملت إليه من بغداد ومائتي ألف درهم كانت] [2] للحاجب وحمل جميع ذلك مع الأسارى [267] إلى القلعة.   [1] . كذا فى الأصل: ببلد. فى مط: قبله. [2] . تكملة من مد دون إسناد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 وبلغ ناصر الدولة وأولاده مسير معزّ الدولة من نصيبين فلم يقيموا ومضوا إلى سنجار وصار معزّ الدولة إلى برقعيد ولم يكن عنده ما جرى على أصحابه بالموصل وبلغه ببرقعيد أنّ ناصر الدولة قد صار بالجزيرة فعدل من برقعيد إلى الجزيرة. فبلغه إقبال حمدان بن ناصر الدولة إليه فوقف له فإذا هو مستأمن إليه مع علوان القشيري وسار معزّ الدولة إلى الجزيرة فلم يجد بها ناصر الدولة فسار إلى الموصل وبلغه فى طريقه ما جرى على أصحابه بالموصل فكتب إلى الحاجب وهو بنصيبين أن يصير إلى بلد وعبر هو إلى بلد وأنفذ سواده إلى تكريت. ووافاه الحاجب وأبو الهيجاء حرب بن أبى العلاء ابن حمدان مستأمنا وسار يريد نصيبين ووافاه أبو جعفر العلوي النصيبينى برسالة ناصر الدولة يلتمس الصلح فلم يجبه. وكان أبو تغلب قد صار إلى الموصل ونزل فى الدير الأعلى ولم يهج فى أيام مقامه أسباب معزّ الدولة ولا عرض لهم وأظهر جميلا. ومضى حمدان إلى الرحبة وكان بها الفتكين فحاربه هناك وأقبل معزّ الدولة إلى الموصل فرحل أبو تغلب من الدير الأعلى وجاء معزّ الدولة فنزل مكانه واستأمن [268] إليه هزارمرد الصغير من غلمان أبى تغلب وجاء المسيّب والمهيّأ بكشمرد أسيرا فخلع على المسيب والمهيّأ وطوّقا وسوّرا. وراسل أبو تغلب معزّ الدولة بصاحبه أبى الحسن علىّ بن عمرو بن ميمون وجرت له خطوب استقرّت على أن ضمن أبو تغلب ما كان فى يد أبيه ناصر الدولة من الموصل وديار ربيعة والرحبة على أن يحمل عن بقايا سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، ستمائة ألف درهم وعن أربع سنين مستأنفة آخرها سنة سبع وخمسين لكل سنة ستة آلاف ألف ومائتي ألف درهم وأن يعجّل حمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 الستمائة الالف مع الأسارى الذين فى يده إلى الحديثة إذا حصل الأمير معزّ الدولة بها وضمن أن يرد من جملة ما حصل فى أيديهم من المال والأمتعة التي أخذت فى وقت الإيقاع ببكتوزون ما حصل فى يده بقسطه ووعد بطلب الباقي وحمله وتقرر ذلك وأشهد معزّ الدولة على نفسه القوّاد والعدول وقاضى البلد بإمضاء ذلك وكتب إلى الفتكين بالانصراف من الرحبة وكتب علىّ بن عمرو خطه بضمان ما تقرّر عليه الأمر ورهن نفسه على إمضاء أبى تغلب ذلك. وسار معزّ الدولة إلى الحديثة وورد صاحب أبى تغلب بالمال ثم وافاه بكتوزون [269] وسبكتكين العجمي وسار إلى بغداد. خروج الداعي الحسنى من بغداد سرّا إلى بلد الديلم وفيها ورد الخبر بالموصل بانّ أبا عبد الله محمّد بن الحسين المعروف بابن الداعي الحسنى خرج من بغداد سرّا إلى بلد الديلم وخلّف والدته وابنه وعياله فى داره ببغداد ظاهرين. سيف الدولة يصير إلى ميّافارقين وصار سيف الدولة إلى ميّافارقين واحتال أصحابه على القلعة التي كانت حصلت له من أبى الورد وهرب نجا فحصل لسيف الدولة القلاع وأسارى [الروم] وأخ لنجا. وأقام الدمستق على المصيصة وهادي سيف الدولة ببغال ودوابّ وثياب وديباج روميّة وصياغات ذهب وقابله سيف الدولة بهدايا. فصار سببا لمقام الدمستق فى بلدان الإسلام ثلاثة أشهر لا ينازعه أحد ولا يمكنه فتح المصيصة وانصرف عنها لأنّ البلد لم يحمله ووقع فى أصحابه الوباء فاضطر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 إلى الانصراف بعد أن حمل إليه مال من المصيصة. ظهور علوىّ مبرقع بالكوفة وفيها ظهر بالكوفة رجل ذكر أنّه علوىّ وكان مبرقعا فوقعت بينه وبين أبى الحسن محمّد بن عمر العلوي وقائع، فلمّا دخل معزّ الدولة هرب المبرقع. وورد الخبر بأنّ نجا صار إلى مولاه سيف الدولة فأعاده إلى مرتبته. [270] ودخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة الفتك على نجا بالسيوف وفيها فتك غلمان سيف الدولة بحضرته على نجا بالسيوف فقتلوه ولحق سيف الدولة فى الوقت غشية مكث فيها نحو الساعة فأمرت زوجته وهي بنت أبى العلاء سعيد بن حمدان أن يجرّ برجل نجا [1] ففعل ذلك إلى أن أخرج من قصرها وفيه كان جرى على نجا ما جرى وطرح فى مجرى ماء ينصبّ إليه المياه والأقذار وبقي فيه إلى الغد وقت العصر ثم أخرج وكفّن ودفن. وفيها وصل أبو أحمد خلف بن أبى جعفر ابن بانو إلى الخليفة أوصله معزّ الدولة فقلّده سجستان وخلع عليه وعقد له لواء. وورد الخبر بأنّ الأتراك نزلوا على بلد الخزر واستنصروا أهل خوارزم   [1] . ورد الإسم هنا «نجاء» ممدودا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 فامتنعوا من نصرتهم وقالوا: - «أنتم يهود فإن أحببتم أن نعاونكم فأسلموا» . فأسلموا إلّا ملكهم. وصول ابن الداعي بلد الديلم وما كان بعده وورد الخبر بأنّ أبا عبد الله ابن الداعي لمّا وصل إلى بلد الديلم اجتمع إليه منهم عشرة آلاف رجل وأنّ ابن الناصر العلوي هرب من بين يديه. ثمّ أوقع بقائد كبير من قوّاد وشمكير وأنّه تلقّب بالمهدى لدين الله. بين الروم وأهل طرسوس وورد الخبر بأنّ نقفور ملك الروم بنى بقيساريّة مدينة [271] وهي تقرب من [بلاد] الإسلام فأقام بها ونقل إليها عياله ليقرب عليه ما يريد من بلدان الإسلام وأنّ أهل المصيصة وطرسوس أنفذوا إليه رسولا يسألونه أن يقبل منهم إتاوة يؤدونها إليه على أن ينفذ إليهم صاحبا له ليقيم فيهم. فعمل على إجابتهم إلى ذلك. فورد عليه الخبر بأن أهل هذه البلدان قد ضعفوا جدّا وأنّه لا ناصر لهم ولا دافع له عنها وأنّه لم تبق أقوات وأنّه قد آل الأمر بأهل طرسوس إلى أكل الكلاب الميّتة [1] وأنّه يخرج منها فى كل يوم ثلاثمائة جنازة. فانصرف رأيه عمّا كان عمل عليه وأحضر رسولهم وضرب له مثلا وقال: - «مثلكم مثل الحية فى الشتاء إذا لحقها البرد وذبلت وضعفت حتى يقدّر من رآها أنّها قد ماتت فإن أخذها انسان وأحسن إليها وأدفأها انتعشت   [1] . الميّتة: بتشديد الياء. فلا لزوم لزيادة واو العطف، كما نراه فى مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 ولد غته وأنتم إنّما بخعتم بالطاعة لما ضعفتم وإن تركتكم حتى تستقيم أحوالكم تأذّيت بكم.» وأخذ الكتاب الذي أورده فأحرقه على رأسه فاحترقت لحيته. وقال: - «امض إليهم وعرّفهم أنّه ليس عندي إلّا السيف.» فانصرف وجمع الملك جيوشه وعمل على أن ينفذ [272] جيشا إلى الشام وجيشا إلى الثغور وجيشا إلى ميّافارقين وكان سيف الدولة بميّافارقين يخلّص [1] البطارقة الذين فى يد نجا وكان بميافارقين نحو ألف كرّ حنطة فمزّقها وفرّقها لئلا تأخذها الروم. ثمّ إنّ ملك الروم أنفذ إلى المصيصة قائدا من قوّاده فأقام عليها يحارب أهلها. ثمّ جاء الملك بنفسه فأقام عليها وفتحها عنوة بالسيف ووضع السيف فى أهلها فقتل منهم مقتلة عظيمة. ثمّ رفع السيف وأمر أن يساق من بقي فى المدينة من الرجال والنساء والصبيان إلى بلد الروم وكانوا نحو مائتي ألف انسان. ثم سار عنها إلى طرسوس فحاصرها فأذعن أهلها بالطاعة فأعطاهم الملك الأمان وفتحوا له أبوابها فدخلها ولقى أهلها بالجميل ودعا رؤساءهم إلى طعامه فأكلوا معه وأمرهم بالانتقال عنها وأن يحمل كلّ واحد من ماله وسلاحه ما أطاق حمله ويخلّف الباقي ففعلوا وساروا وسيّر معهم ثلاثة نفر من البطارقة يحمونهم فعرض لهم قوم من الأرمن فأوقع الملك بهم وعاقهم وقطع آنافهم لمخالفتهم أمره. ولم يزل طول طريقهم يتعرّف أخبارهم بكتبه ورسله [273] إلى أن عرف سلامتهم وحصولهم بأنطاكية وحمل بعضهم فى البحر فى شليذيّات [2] له إلى   [1] . كذا فى الأصل: يخلّص البطارقة. فى مد: تخلص البطارقة والمثبت فى مد: [قد] تخلّص البطارقة. بزيادة «قد» . [2] . كذا فى الأصل: شليذيّات. فى مط: شذاءات. والمثبت فى مد: شلنديّات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 حيث أرادوا. ثمّ جعل الملك المسجد الجامع بطرسوس اصطبلا لدوابّه ونقل ما كان فيه من قناديل إلى بلده وأحرق المنبر وقلّد البلد بطريقا من بطارقته فى خمسة آلاف رجل وقلّد المصيصة بطريقا آخر وتقدّم بعمارة طرسوس وتحصينها وجلب الميرة إليها من كل جهة فعمرت ورخص السعر بها حتى صار الخبز بها رطلين بدانق فتراجع أهلها إليها ودخلوا فى طاعة الملك وتنصّر بعضهم وعمل الملك على أن يجعلها حصنا ومعقلا له لحصانتها وليقرب عليه ما يريد من بلدان الإسلام. معزّ الدولة وأمير عمان والهجريّون القرامطة وكان معزّ الدولة قد أنفذ كردك النقيب إلى عمان فلقى أميرها نافعا وواقفه [1] على الدخول فى طاعة الأمير معزّ الدولة وإقامة الخطبة له وكتب اسمه على الدنانير والدراهم واستجاب نافع إلى ذلك وكتب اسم معزّ الدولة على الدراهم والدنانير. فلمّا انصرف كردك عنه وقف أهل البلد على ما عمله نافع من ذلك فوثبوا به وأخرجوه من البلد وأدخلوا أصحاب الهجريين القرامطة وسلّموا البلد إليهم فهم يقيمون فيه [274] نهارهم ويروحون إلى معسكرهم فى آخر النهار وكتبوا إلى أصحابهم بهجر يعرّفونهم الخبر ليرد عليهم الأمر بما يعملون به. عود ملك الرّوم إلى قسطنطينية وورد الخبر بأنّ نقفور ملك الروم عاد إلى قسطنطينية وأنّ الدّمستق وهو   [1] . كذا فى الأصل. والمثبت فى مد: ووافقه. فى مط أيضا: وافقه. خلافا للأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 ابن الشمشقيق [1] كتب إليه يستأذنه فى قصد سيف الدولة إلى ميّافارقين. فكتب إليه بالتوقف إلى أن يلحق به بقسطنطينية فمضى إليه. وكان سيف الدولة قلّد رشيقا النسيمى وهو من وجوه أهل طرسوس فلمّا حصل سيف الدولة بديار بكر وسلم رشيق هذا طرسوس فى جملة من سلّمها إلى ملك الروم خرج إلى أنطاكية. فالتصق به انسان صغير القدر يعرف بابن الأهوازى كان يتضمن الأرجاء بأنطاكية وكان قد اجتمع عنده مال فأغوى رشيقا وسلّم إليه ما اجتمع عنده من المال وأطمعه فى أنّ سيف الدولة لا يعود إلى الشام وخرج معه إلى حلب. وجرت بينه وبين قرعويه [2] حروب كثيرة وصعد قرعويه إلى قلعة حلب فتحصن فيها فأنفذ سيف الدولة خادما له أسود ويعرف ببشارة ليكون مع قرعويه فى القلعة فنزل هذا الخادم فى بعض الأيام وانضم إليه قطعة من الأعراب كانوا قد وافوه وجماعة من الجند والغلمان. فلمّا [275] أحس بهم رشيق انهزم وسقط عن دابته فنزل إليه رجل من الأعراب من بنى معاوية عرفه فحزّ رأسه وصار به إلى قرعويه وبشارة وانهزم أصحاب رشيق وتركوا كلّ ما لهم فى ظاهر حلب وهرب ابن الأهوازى إلى أنطاكية وكان أخوه مقيما بها. فنصب رجلا من الديلم اسمه دزبر وسمّاه: الأمير، واعتضد برجل علوىّ أفطسى ووعده العلوي إن تمّ له الأمر أن يجعله الرئيس والمدبّر وتسمّى بالأستاذ. فظلم الناس بأنطاكية وجمع الأموال وقصده قرعويه إلى انطاكية وجرت بينهما وقعة فكانت على الأهوازى أكثر الليل وقطعة من النهار ثم   [1] . فى مط: الشمسقيق. كما هو المثبت فى مد. [2] . كذا فى الأصل: قرعويه، أو: قرعويه (حسب المواضع) . فى مد: قرغويه. فى مط: فرغونه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 صارت له على قرعويه لأنّ أهل البلد عاونوه. وقد كان سيف الدولة كتب إلى قرعويه ألّا يخرج إلى أنطاكية فانهزم قرعويه وعاد إلى حلب وانصرف سيف الدولة من الفداء ودخل حلب وأقام بها ليلة وخرج من غد فواقع دزبر وأسر دزبر وابن الأهوازى فى ضيعة فى طريق بالس يعرف بتسعين، فانهزم أصحاب دزبر وأسر دزبر ومضى ابن الأهوازى فطرح نفسه فى بيوت بنى كلاب فوجّه إليهم سيف الدولة يطالبهم به ووهب لهم ثلاثين ألف درهم فسلّموه إليه [276] وقتل دزبر واعتقل ابن الأهوازى مدّة. ثمّ خرج ملك الروم إلى الشام واشتغل سيف الدولة به وأمر بإحضار ابن الأهوازى فقتل بحضرته. معزّ الدولة يقبل المال ويردّ الثياب وفى هذه السنة أنفذ أبو تغلب ابن ناصر الدولة إلى الأمير معزّ الدولة شيئا كثيرا من المال والثياب التي كانت أخذت بالموصل وقت القبض على بكتوزون فأمّا المال فإنّه قبله وأمّا الثياب فإنّه ردّها عليهم وقال: - «لعلّ فيها شيئا استحسنتموها وقد وهبتها لكم.» وكانت لها قيمة عظيمة ولكنه ترفّع عن ارتجاعها. ودخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة بنو سليم يقطعون الطريق على قافلة عظيمة وفيها ورد الخبر بأنّ بنى سليم قطعوا الطريق على قافلة المغرب ومصر والشام الحاجّة إلى مكة فى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وكانت قافلة عظيمة وكانت فيها من الحاج والتجار والمنتقلين من الشام إلى العراق هربا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 من الروم ومن الأمتعة التي لهم نحو عشرين ألف جمل [1] منها دقّ مصر ألف وخمسمائة جمل ومن أمتعة العرب اثنا عشر ألف جمل وكان فى الأعدال الأمتعة من العين والورق ما يكثر مقداره جدّا. وكان فيها لرجل يعرف بالخواتيمى قاضى طرسوس مائة وعشرون ألف دينار عينا. وإنّ بنى سليم أخذوا الجمال [2] مع الأمتعة فبقى الناس رجّالة [3] [277] منقطعا بهم كما أصاب الناس فى الهبير سنة القرمطى فمن الناس من عاد إلى مصر ومنهم وهم الأكثر تلف. ابن الداعي العلوي يدعو إلى الجهاد وورد الخبر بأنّ أبا عبد الله العلوي ابن الداعي لبس الصوف وأظهر النسك والصوم وتقلّد المصحف وواقع ابن وشمكير فهزمه وأسر جماعة من أصحابه وقوّاده وعمل على المسير إلى طبرستان وكتب إلى العراق كتابا يدعوهم فيه إلى الجهاد. وفيها لقب الحبشي بن معزّ الدولة بسند الدولة وكتب به كتاب عن الخليفة. ذكر ما جرى فى عمان كنا حكينا من أمر عمان ما جرى فى أمرها إلى وقت دخول القرامطة إليها باختيار أهلها وكان مع القرامطة كاتب يعرف بعلىّ بن أحمد وكان هو   [1] . كذا فى الأصل: جمل. [2] . كذا فى الأصل ومط: الجمال. كما هو المثبت فى مد. [3] . وفى الأصل: رجالهم. اقترحه فى مد وهو صواب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 الذي ينظر فى أمر البلد والجيش. وكان قاضى البلد رجلا له عشيرة وعزّ منيع، فرأى مع وجوه البلد بعد نفى نافع من البلدان أن ينصبوا فى الإمرة رجلا يعرف بابن طغان وكان من صغار القواد بعمان وأدناهم مرتبة فخاف من القوّاد الذين فوقه فى المرتبة والمحل أن يغلبوه على أمره، فقبض على ثمانين قائدا منهم وقتل بعضهم وغرّق بعضهم. وقدم إلى البلد ابنا أخت لرجل ممّن غرق وسألا عن حاله فعرفا أنّه غرق فأمسكا وأقاما مدة. فلمّا [278] كان يوم من أيام السلام دخلا فى جملة المسلمين على ابن طغان فلمّا تقوّض المجلس فتكا به وقتلاه. فأجمع رأى الناس على عقد الأمر لعبد الوهاب بن أحمد بن مروان قرابة القاضي، فوجّهوا يلتمسونه فاستتر. فألزموا القاضي إحضاره وإلزامه تقلّد إمارة البلد. ففعل القاضي ذلك وراسله فظهر وتقلّد الأمر وبويع له واستكتب له على بن أحمد الكاتب الذي كان وافى مع الهجريين وواقف [1] على بن أحمد الجيش على أن يطلق لهم رزقتين صلة. فأخرجت الأموال وابتدأ علىّ بن أحمد ينفق فى الناس رزقتين فلمّا انتهى إلى الزنج وهم ستة آلاف رجل لهم بأس وقوّة قال [2] لهم: - «إنّ الأمير عبد الوهاب أمرنى أن أطلق لكم أنتم رزقة واحدة فقط.» واضطربوا من هذا، فقال لهم: - «امضوا إليه وخاطبوه.» فمضوا فلمّا بعدوا منه قليلا استردّهم إلى مجلسه وقال لهم: - «إنّكم إذا مضيتم لم يوصلكم إليه ولم يزدكم على رزقة واحدة. فهل لكم أن تبايعوني وأطلق لكم رزقتين وتكون الإمارة لى؟»   [1] . كذا فى الأصل ومط: واقف. والمثبت فى مد: وافق. [2] . فى الأصل ومط: وقال. بزيادة الواو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 فقالوا: «نعم.» فأطلق لهم رزقتين فاضطرب البيضان من ذلك ووقع بينهم وبين الزنج مناوشة فقتل من البيضان جماعة فسكنوا وصارت كلمتهم وكلمة الزنج واحدة وبايعوا علىّ بن أحمد [279] ثمّ راسلوا عبد الوهاب بن أحمد بن مروان: بأنّا قد عقدنا الأمر لغيرك فاخرج عن البلد. فخرج وحصل الأمر لعلىّ بن أحمد. خروج معزّ الدولة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين وفيها خرج الأمير معزّ الدولة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين وأنفذ جيشا إلى عمان وكان خروجه من بغداد يوم الثلاثاء الحادي عشر من رجب ورحل إلى واسط وهو محموم. فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من رجب وافى نافع الأسود مولى يوسف بن وجيه مستأمنا إليه فقبله. ونظر معزّ الدولة فيما يحتاج إليه من أمر عمان مما سنذكره وانحدر من واسط إلى الأبلّة ونزل فى شاطئها فى شاطئ عثمان فى دار البريديين وأخذ فى الاستعداد لإنفاذ جيش إلى عمان وبنى الشذاءات والمراكب قبل ذلك وطالب الديلم بالخروج إلى عمان فاستجابوا إلّا قوما وهم بضعة عشر رجلا، فإنّهم امتنعوا فأمر بطردهم فانقاد الديلم والأتراك إلى ما أراد وندب أبا الفرج محمّد بن العباس للخروج مع الجيش إلى عمان لرياستهم وتدبير الحرب وولاية البلد إذا فتحه. فلمّا كان يوم الخميس للنصف من شوال نفذ الجيش فى المراكب والشذاءات وهي مائة قطعة ومعهم المعروف بأبى عبد الله جبّ ونافع الأسود، فلمّا صاروا بسيراف [280] انضم إليه جيش عضد الدولة فى مراكب وشذاءات وكان أعدّهم هناك نجدة لعمّه. فلمّا وصل أبو الفرج إلى عمان مع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 الجيش دخلها وملكها وقتل بها مقتلة عظيمة وأحرق مراكب أهل عمان وهي تسعة وسبعون مركبا. فأمّا عمران بن شاهين فإنّه أنفذ معزّ الدولة إليه أبا الفضل العباس بن الحسين الشيرازي مع جيش فابتدأ أبو الفضل يسدّ الأنهار عن البطائح وأصعد معزّ الدولة إلى واسط ومنها إلى بغداد وخلف بواسط عسكره وغلمانه والحاجب الكبير على أن يعود إلى واسط بعد عشرين يوما فيستتمّ ما شرع فيه من أمر عمران. فلمّا وصل إلى بغداد مات فدفعت الضرورة إلى مصالحة عمران كما سنشرحه من أخباره فى سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة. انهزام إبراهيم السلّار وفى هذه السنة انهزم إبراهيم السلّار من بين يدي أبى القاسم ابن ميشكى بآذربيجان وورد حضرة ركن الدولة بدابّته وسوطه ولم يفلت معه أحد، فأكرمه ركن الدولة للوصلة التي كان عقدها المرزبان، وكان ركن الدولة قد رزق من أخت ابراهيم ابنه أبا العباس وبالغ ركن الدولة فى إعظام إبراهيم وأجزل له العطاء وحمل إليه من كلّ صنف يكون عند الملوك وفى خزائنهم. وكنت حاضرا بالرىّ [1] فركبت [281] للنظر إلى الهدايا المحمولة إلى ابراهيم فوقفت مع جماعة النظارة قريبا من دار الامارة وابتدأت الهدايا تحمل من تخوت الثياب والرّزم والأسفاط من جميع أصناف الثياب فكانت مع مائة رجل يحملونها على رؤوسهم ثم ابتدأت هدايا الطيب [وكانت على صوانى فضة وآلاتها من الأدراج وغيرها وكانت على أيدى ثلاثين رجلا ثم ابتدأت بدرّ الأموال] [2] فكانت على صدور الرجال مع صرار الذهب. أما أكياس   [1] . من السيرة الذاتيّة لمسكويه. [2] . ما بين المعقوفتين زاده فى مد دون أن يذكر المصدر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 الدراهم فكانت مع خمسين رجلا وأمّا صرر الدنانير فكانت من حرير أحمر مع عشرين رجلا ليفرّق بينهما، وكانت أكياس الورق بيضاء. ثمّ ابتدأت خزائن الفرش على البغال فلم أحصها، وتبعها جنائب الدوابّ بمراكب ذهب وفضة وجلال ثم تبعها الجمال مزيّنة موقّرة بآلات الفرش الثقيل والخيم والخركاهات والشُّرع والسرادقات. فكانت كثيرة حسنة لم أر مثلها هدية فى وقت واحد يسمح بها. ذكر السبب فى هزيمة إبراهيم من آذربيجان على تلك الصورة القبيحة ووروده إلى حضرة ركن الدولة لما انهزم إبراهيم من بين يدي إسماعيل بن وهسوذان وأبى القاسم ابن ميشكى إلى أرمينية ابتدأ فى أهبة أخرى واستعداد آخر فبالغ واجتهد وكاتب ملوك أطرافه من الأرمن وغيرهم وجمع الأكراد واستصلح ناحية جستان بن شرمزن ورغب الناس فى [282] الولايات والاقطاعات وبذل خطّه لهم بها. واتّفق أن توفّى إسماعيل بن وهسوذان فسار إبراهيم إلى أردبيل وملكها وانصرف ابن ميشكى مع جماعة إلى طاعة وهسوذان فزحف إبراهيم إلى الطّرم منازعا عمّه وطالبا بثأر أخويه جستان وناصر فأحجم وهسوذان عن لقائه والثبات له وشجّعه أبو القاسم ابن ميشكى فأبى عليه ورأى أن يسير إلى بلاد الديلم، فسار معه أبو القاسم بن ميشكى ودخل إبراهيم إلى أعماله فخبط أسبابه ودوّخ دياره وبحث عن أمواله وبالغ فى الإضرار به مدة ثم عاد إلى آذربيجان. وجمع وهسوذان وابن ميشكى الرجال من سائر بلدان الديلم فاحتفلا واحتشدا ورجعا إلى الطرم وسار أبو القاسم ابن ميشكى إلى آذربيجان وقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 قوّاه وهسوذان بالمال والرجال، فنزل إليهم إبراهيم وجرت بينهما حروب كانت على إبراهيم. فانهزم على تلك الحال وتبعه الطلب من قبل عمّه وهسوذان فتقطّع الناس عنه حتى بلغ الرىّ إلى حضرة ركن الدولة على حاله لائذا به. من حوادث السنة وفى هذه السنة تمّ الفداء بين سيف الدولة والروم وتسلم سيف الدولة أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وأبا الهيثم ابن القاضي أبى حصين. وفيها لقّب الخليفة أبا منصور بويه بن ركن الدولة بمؤيّد الدولة وكتب [283] بذلك إلى الأمصار. وفيها ورد جيش من خراسان عظيم. ذكر خبر الغزاة الواردين من خراسان وما دبّروه بالرىّ على الديلم وما انعكس عليهم من الأمر بعد استعلائهم ورد الخبر على ركن الدولة بالرىّ بخروج قوم من خراسان يحزرون [1] عشرين ألفا ويظهرون أنّهم غزاة واستراب بهم صاحب الحدّ وهو إسفوزن [2] بن إبراهيم وذلك أنّهم عاثوا لما دخلوا الحدّ وخاطبهم وراسل رؤساءهم فلم يجد عندهم نكيرا ولم ير سيرتهم سيرة الغزاة ولم يكن لهم رئيس واحد بل كان لأهل كلّ بلد من بلادهم رئيس منهم. فلمّا ورد كتاب إسفوزن بصورتهم أشار الأستاذ الرئيس حقّا على ركن   [1] . حزر الشيء: قدّره بالحدس وخمّنه. [2] . فى مط: اسفورون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 الدولة ألّا يأذن لهم فى دخولهم مجتمعين وأن يراسلهم فى أن تصير منهم عدة نحو ألفى رجل إلى الرىّ فإذا خرجت هذه العدّة منها ورد مثلها حتى يتتابعوا على ذلك فلا تكون منهم معرّة ولا يحدّثوا أنفسهم بسوء أدب. فامتنع ركن الدولة من قبول رأيه [وقال] [1] : - «ولا يتحدّث الملوك أنّى احترزت من لفيف خراسان وخشيت نايرتهم. [2] » فقال له وزيره أعنى الأستاذ الرئيس حقّا: - «فإن لم تفعل هذا فكاتب عساكرك فإنّهم متفرّقون عنك بالجبل وإصبهان وغيرها حتى تتوافى إليك، فإنّ معك بالرىّ [284] عدّة يسيرة وأنت غير مستظهر بالرجال ولا آمن أن يكون لهؤلاء القوم مواطأة مع صاحب خراسان وعددهم كثير وهم مستعدّون بعلة الغزو ونحن على غير أهبة ولا استعداد. «فأبى عليه فى هذا الرأى ولم يحفل بالقوم وكاتب صاحب الحدّ بأن يأذن لهم ويفرج عن وجوههم ولا يصيّر للشر مبدأ.» فسار القوم بأجمعهم ومعهم فيل عظيم من بين الفيلة حتى نزلوا بالرىّ واجتمع رؤساؤهم إلى مجلس الأستاذ الرئيس يخاطبونه فى مسئلة الأمير ركن الدولة أن يطلق لهم مالا يستعينون به على أمرهم. فوعدهم بذلك وظنّ أنّ القليل يسعهم على رسم الغزاة فإذا هم يطمعون فى شيء كثير وقالوا: - «نحتاج إلى مال خراج هذه البلدان كلّها التي فى أيديكم فإنّكم إنّما جبيتموها لبيت مال المسلمين لنائبة إن نابتهم ولا نائبة أعظم من طمع الروم والأرمن فينا واستيلائهم على ثغورنا وضعف المسلمين عن مقاومتهم.»   [1] . زيادة زدناه بوحي من السياق. [2] . فى مط: بإبراهيم. بدل «نايرتهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 وسألوا مع ذلك أن يخرج معهم جيش ينضمّون إليهم وأخذوا فى هذا النحو من الكلام وتبسّطوا فى الاقتراح ورفع الأصوات وكان معهم فقهاء خراسان وشيوخها مثل المعروف بالقفّال وغيره. فتبين الأستاذ الرئيس [285] خبث [1] سرائرهم وتيقّن ما كان ظنّه بهم من الشرّ وطلب الفتنة ولكنه كان يداريهم ويرفق بهم. فلمّا لم يجدوا سبيلا من طريق القول إليه والشغب به عدلوا إلى مشافهة الديلم فكانوا يكفّرونهم ويلعنونهم، وكان ذلك فى شهر رمضان وكانوا يخرجون ليلا ومعهم آلاتهم من السيوف والحراب والقسىّ والسهام ويزعمون أنّهم يأمرون بالمعروف فيسلبون العامّة مناديلهم وعمائمهم وإذا تمكنوا من تفتيشه وأخذ جميع ما معه لم يقصّروا فيه والناس مع ذلك يدارونهم. فاتفق أن وقعت بينهم وبين بعض أصحاب إبراهيم بن بابى [2] خصومة لم يحتملها منهم فتأدى إلى القتال فقتل ذلك الرجل الديلمي واجتمع رفقاؤه للقتال فاجتمع من الغزاة نحو ألف رجل على باب ابراهيم بن بابى فخرج إليهم محاميا على أصحابه وقاومهم مدة إلى أن راسله ركن الدولة بالكفّ وراسلهم بمثل ذلك فأبوا. فتسرّع الديلم ومن كان قريبا لنصرة الديلم فاشتبكت الحرب وحجز بينهم الليل ورجع الخراسانية إلى معسكرهم يضربون بطبولهم الليل كلّه ويتواعدون القتال. بروز الأستاذ الرئيس للقتال فلمّا أصبحوا باكروا الحرب ودخلوا المدينة من ناحية اجران [3] وفيها دار   [1] . فى مط: حيث. [2] . ما فى الأصل ومط: مهمل. [3] . فى مط: لفران. وما فى الأصل مهمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 الأستاذ [286] الرئيس [وبرز للقائهم وبين يديه حاجبه روين وكان شهما شجاعا فحمل عليهم فى غلمان دار الأستاذ الرئيس] [1] فحاربهم وكسرهم حتى رجعوا إلى الدرب الذي دخلوا منه ثم كثروا عليه ولم يولّ عنهم حتى طعنه بعضهم بحربة دخلت فى كمّ درعه وأفضت إلى ساعده فخرقته وكثر الناس عليه وحامى عليه الأتراك الذين معه حتى ردّ إلى منزله وقد نزفه الدم وضعف وانكسر الأستاذ الرئيس ومضى كلّ من معه وثبت بنفسه على عادته. فتعلّق به السلّار وكان حاضرا معه وقال له: - «أيّها الأستاذ ارجع إلى الأمير ولا تفجعه بنفسك فإنّه لم يبق حواليك أحد.» وأخذ بلجامه وردّه وسمعته يقول: - «عصّبها [2] بى وأنت بريء من عارها.» فرجعا إلى دار الامارة واشتغل الخراسانية بنهب داره واصطبلاته وخزائنه وكانت موفورة جامّة إلى أن أتى الليل وانصرفوا وكان إلىّ خزانة كتبه فسلمت من بين خزائنه ولم يتعرض لها. أمسى الأستاذ ولا فرش لمنزله ولا آلة إلّا دفاتره وكتبه فلمّا انصرف إلى منزله ليلا لم يجد فيه ما يجلس عليه ولا كوزا واحدا يشرب فيه ماء. فأنفذ إليه ابن حمزة العلوىّ فرشا وآلة. واشتغل قلبه بدفاتره ولم يكن شيء أعزّ عليه منها وكانت كثيرة فيها كلّ علم وكلّ نوع من أنواع الحكم والآداب يحمل على مائة وقر وزيادة. فلمّا رآني سألنى عنها فقلت:   [1] . ما بين المعقوفتين زيادة من مد من إرجاع إلى مصدر. [2] . فى مط: عصها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 - «هي بحالها لم تمسّها يد.» فسرّى عنه وقال: - «أشهد [287] أنّك ميمون النقيبة. امّا سائر الخزائن فيوجد منها عوض وهذه الخزانة هي التي لا عوض منها.» ورأيته قد أسفر وجهه وقال: - «باكر بها فى غد إلى الموضع الفلاني.» ففعلت. وسلمت بأجمعها من بين جميع ماله. واجتمع الخراسانية من غد ذلك اليوم وكانوا قد كسروا ركن الدولة فى آخر نهار امسه وقويت نفوسهم وكانوا قصدوا باب روين [1] الحاجب لينتهبوا داره وكان طريحا فيها غير مستقل فأمر غلمانه بطرح الحطب المعدّ للشتاء خلف الباب وإشعاله بالنار. ففعل ذلك فلم يصلوا إلى الدار من نحو الباب وراموا أن يتسوّروا سورها فرماهم الغلمان بالسهام فتراجعوا عنها. وعملوا على مباكرتها من الغد. فلمّا أصبحوا راسلهم ركن الدولة وداراهم وعرض على أن ينقلعوا من مملكته فلم تكن فيهم حيلة وكان الأمر قد أبرم معهم بخراسان وكانوا ينتظرون مددا يلحقهم. وأشار على ركن الدولة نصحاؤه بالمسير إلى إصبهان مع أولاده وحرمه وبترك [2] هؤلاء والري حتى يجتمع إليه عساكره ويقصدهم بعديد وعتاد فأبى عليهم وخاطر بنفسه ودولته فإنّه كان فى خمسمائة من قوّاده وخواصه ونحو ثلاثمائة من الغلمان وباقى [288] عسكره كما ذكرنا متفرقون فى ولاياتهم. فلمّا كان من غد ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان تفرق   [1] . فى الأصل: ردين. فى مط: روبن. والمثبت فى مد: روين. [2] . كذا فى الأصل: بترك. ولعله هو الصحيح. فى مط ومد: يترك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 الخراسانية [1] على أبواب المدينة وهجموا من كل وجه فامتلأت منهم الشوارع والمحالّ ونادوا فى البلد بما يسكن الناس والرعية وقصدوا دار الامارة وفيها الأمير وأولاده وخزائنه. وكان الأستاذ الرئيس أمر بتحميل ما أمكن والمبادرة بالحرم وصغار الأولاد إلى طريق إصبهان لينتظروا ما يكون من أمر الحرب وهم على ظهور الدوابّ مستعدّين للتوجّه إلى حيث شاءوا. فاغتصّ الميدان الذي فى الدار بالبغال التي عليها صناديق الخزائن والعماريات فلم يكن للأمير ركن الدولة مخلص من بينها وكان قد ركب فى غلمان داره والأستاذ الرئيس معه وجماعة من قوّاده وحاشيته فلم يجدوا طريقا إلى الخروج لتزاحم من ذكرت فوضع بينهم الدبابيس وكسرت عدة من الصناديق والبغال حتى أفرج للفرسان على ضغط شديد وزحمة منكرة فخلصوا إلى الطريق وكنت مع القوم [2] . وكان الخراسانية قد دنوا من الباب ومعهم السلاليم وعندهم أنّ ركن الدولة يتحصّن فى داره. فخرج ركن الدولة من نحو الميدان وخرج حجّابه من الأبواب الاخر وصدموا القوم [289] وصدقهم الديلم فى المضايق حتى ردّوهم إلى الصحراء من الناحية المعروفة بالشجرة بعد أن أشرفنا على ذهاب النفس وزوال الدولة. فلمّا حصلوا فى السعة صافّوا [3] رجالهم للحرب. ذكر مكيدة لركن الدولة فى الوقت نفذت له كان ديلم ركن الدولة ضعفت نفوسهم لما رأوا كثرة الرجال من أعدائهم   [1] . فى الأصل ومط: الحاشية. وهو تصحيف. والمثبت فى مد: الخراسانية. [2] . من سيرة مسكويه الذاتية. [3] . فى مط: صاحوا. بدل «صافّوا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 وقلّة عددهم وأقبلوا يقولون: - «أتينا من ورائنا.» فأشفق ركن الدولة إشفاقا شديدا وقال لأصحابه: - «طيبوا نفسا فإنّ الذين وراءنا هم أصحابنا.» وبشّرهم بورود علىّ بن كامه وتقدم إلى الركابية والمجرين أن يبادروا إلى نحو طريق علىّ بن كامه الذي يقبل منه وأمرهم أن يركضوا هناك ويثيروا الغبرة ما استطاعوا ففعل القوم ذلك وارتفع الرهج وكبّر الناس وقالوا: - «هذا علىّ بن كامه.» ونشط الناس ركن الدولة وقال لهم: - «احملوا حملة قبل وروده.» فحمل الديلم بنشاط واستبشار بورود المدد فكانت إيّاها، وركب الخراسانية بعضهم بعضا، فدسّ ركن الدولة إلى بعض رؤساء الخراسانية بالانحياز إليه فآمنه وبذّل له، ففعل وتحطّم ذلك العسكر وقتلوا كل مقتلة وطلبوا الأمان فآمنهم على أن يخلّى لهم الطريق فأجابهم إلى ذلك. وكان قد حصل منهم عدد [290] كثير بالبلد يذبحون كلّ من وجدوه على زىّ الديلم فإذا ذبحوه كبّروا كما يفعل فى بلد الكفر بالكفار. فبينما هم كذلك إذا انكفأ إليهم الديلم ظافرين فهمّوا بهم وقتلوا بعضهم حتى نادى فيهم ركن الدولة بالأمان وأمر الديلم بالكفّ فلمّا كان بالليل تحملوا وانصرفوا على سمت قزوين هائمين على وجوههم لا يلوى بعضهم على بعض. ثمّ وردت بعدهم خيل أخرى نحو ألفى رجل بالعدة والسلاح ولم يلحقوا أصحابهم إلّا مفلولين هاربين فراسلهم ركن الدولة بأن يتوقّفوا ولا يرحلوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 وأشفق أن يكون لهم بقزوين أو فى بعض الممالك عيث [1] واجتماع آخر فلم يفعلوا وتعجّلوا بالرحيل فى أثر أصحابهم فأسرع فى طلبهم وركض خلفهم حتى أدركهم فصافّوا الحرب فقتل منهم عددا كثيرا وردّ الباقين إلى الرىّ بعد أن طلبوا الأمان. ثم أذن لهم فى الخروج وأطلق أساراهم وأقر لهم بنفقات فخرجوا وقد ذهبت حشمتهم وزالت هيبتهم عن صدور الناس ولو أنّهم خرجوا بالماء الذي كان لهم لبلغوا من الروم كل مبلغ ولكثرت غزاة المسلمين معهم ولله أمر هو بالغه. فسمعت الأستاذ الرئيس رحمه الله بعد ذلك يقول: لم أر قوما أشد من هؤلاء وما فرق جمعهم إلّا كثرة رؤسائهم [291] وتحاسدهم وقد كانت لهم فرص لو انتهزوا بعضها لتمّ لهم أمرهم. منها يومهم الذي دخلوا فيه الري فإنّهم اجتازوا بأجمعهم وفى مواكبهم على باب الأمير وهو غارّ وليس ببابه كبير أحد فلو هجموا عليه ما حال بينهم وبينه أحد. ومنها ليلة دخلوا البلد لو أقاموا وقصدوا دار الامارة ما تحرّك فى وجوههم أحد وكانت ليلة مقمرة وهي ليلة النصف وهي كنهار غدها إشراقا وإضاءة ولكن القوم عملوا على دخول البلد يوم عيد الفطر والناس مشغولون [بالصلاة] بمصلاهم غارّون وانتظروا أيضا المدد الذي وعدوا به وكانت الأخبار والرسل تأتيهم بقربهم منهم فعملوا على ذلك. وأبت المقادير إلّا صنع الله لركن الدولة وذلك بحسن نيته ودعاء رعيته له ونظر الله تعالى للناس. وكان لإبراهيم السلّار فى هذه الأيّام مواقف حسنة وآثار جميلة وأصابت بطنه حربة لم تصل إلى أحشائه لكثرة شحمه لأنّه كان سمينا بطينا ولكنها   [1] . عيث: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: عبث. وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 صارت فتقا فكان يشدّها بعصائب ورفائد إلى أن توفى بعد ذلك بسنتين. وفى هذه السنة أخرج ركن الدولة الأستاذ الرئيس مع إبراهيم السلّار مددا له فى نخب الرجال من الديلم والعرب [292] وأصناف العسكر حتى فتح بلاد آذربيجان وأصلح الأستاذ الرئيس له قلوب أصحاب الأطراف وطوائف الأكراد وقاد جستان بن شرمزن إلى طاعته فلمّا فرغ من جميع ذلك ووطّأ له النواحي ومكّنه منها خرج عائدا إلى حضرة ركن الدولة [1] . ذكر تدبير جيّد ورأى صواب رآه الأستاذ الرئيس ابن العميد ولم يقبل وعاقبة ذلك لما صار الأستاذ الرئيس حقّا إلى آذربيجان رأى زكاء أرضها وكثرة ريعها وسعة [2] مياهها واحتمالها للعمارة وحسب ما يرجى من ارتفاعها فوجده مالا عظيما مثل ارتفاع ممالك ركن الدولة أو قريبا منه ونظر إلى ما تحصّل لإبراهيم السلّار منه فوجده شيئا نزرا قليلا جدا وذلك لسوء تدبير إبراهيم وإهماله الأمور واشتغاله باللعب والنساء والسكر الدائم وطمع ضروب المعاملين فيه ولا سيما الأكراد الذين قد استأكلوا تلك النواحي. ثمّ قد عرف بالتزيد وقلة الوفاء فليس يوثق بيمينه ولا عهوده. فعلم الأستاذ الرئيس أنّه إذا فارق الناحية عادت الصورة مع إبراهيم إلى ما كانت ولم يلبث أن يطمع فيه ويخرج من المدينة ثم من الناحية كلّها أو يقتل فيضيع سعى [293] ركن الدولة وسعيه. فكتب إلى ركن الدولة بصورة الناحية وصورة إبراهيم فيها وعرّفه مقدار ما يصل إليه منها وأشار عليه أن يدبّر الناحية لنفسه ليرفع له [منها خمسون   [1] . وزاد فى مد بين المعقوفتين: بالرىّ. [2] . سعة: كذا فى مط ومد. وما فى الأصل يمكن أن يقرأ «نبعة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 ألف ألف درهم ويعوض إبراهيم مما يحصل له وكان مقدار ما يرتفع له] [1] من هذه الجملة بعد ما يخرج فى إقطاعات الديلم والأكراد وبعد ما يستولى عليه قوم متعززون لا يتمكن من استيفاء الحقوق عليهم وبعد ما يضيع بالأهمال وترك العمارة من ألفى ألف درهم فرأى أن يعوض إبراهيم من ارتفاع الري أو أصبهان أو همذان هذا المقدار ويجلس آمنا فارغ البال ويشتغل بما يؤثره من صحبة المغنّين والمساخر ويتسلّم الأستاذ الرئيس آذربيجان فيرفع منها لركن الدولة ما ذكرت مبلغه وكان يرجوا أكثر منه ولكنه استظهر عليه. فأبى عليه ركن الدولة وفكر فى شيء يفكر فيه مثله من أصحاب الهمم الكبار وقال: - «يتحدّث الناس أنّى افتتحت البلاد لرجل لجأ إلىّ ثم طمعت فيه!» وأمر الأستاذ الرئيس بالانصراف إليه مع عسكره وتسليم البلاد إلى ابراهيم. كلام لابن العميد قاله لمسكويه صاحب هذا الكتاب فأذكر يوما كنت جالسا فيه بين يدي الأستاذ الرئيس وهو يحدّثنى بالشدّة التي قاساها هو وعسكره فى سفرته وقلّة جدواها وثمرتها وأنّها لو أثمرت نعمة باقية عند إبراهيم لكان محتملا لها وراغبا فيما ينشر [294] من الأحدوثة الجميلة عنه بعدها. ثم قال: - «ولكنّى سأضرب لك مثلا لما نحن فيه وتأمّله الآن لتتذكّره فيما بعد. أما شهدت من يغزل الأبريسم ويفتله بالمغازل الكثيرة المعلّقة بالصنّارات على شبيه الصوالجة من الزجاج.»   [1] . زيادة إيضاحية فى مد لا توجد لا فى الأصل ولا فى مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 قلت: «بلى.» قال: «أما تعلم أنّ الصانع إنّما يتعب حتى ينصب هذه الآلة وينظمها ثم يكفيه بعد ذلك أن يتتبع أذناب تلك المغازل ويتعاهدها بالفتل؟ فنحن قد أحكمنا الآلة والمغازل دائرة والإبريسم ممدود والفتل مستمرّ به، فإذا فارقنا الموضع ابتدأت القوة التي فى الدوران تضعف وليس لها من يمدها بحركة فيبتدئ فى الاسترخاء وتضعف سرعة دوران المغازل ثم تبتدئ فى الانتكاث وتنقلب راجعة بعكس ما كانت تدور، ثم لا تجد أيضا من يتعاهدها فيتساقط أولا أولا حتى لا يبقى منها شيء.» فكأنّ هذا المثل كان وحيا فإنّه ما أخطأ شيئا من صورة إبراهيم بعد خروجنا وانتهى أمره بعد ذلك النظم الذي نظم له إلى أن طمع فى ملكه حتى انسلخ منه شيئا بعد شيء إلى أن أسر وحبس فى بعض تلك القلاع كما سنحكيه فيما بعد إن شاء الله. [295] ودخلت سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة وفيها قصد معزّ الدولة عمران بن شاهين صاحب البطائح وكان قد صمّم على مناجزته وأبى أن يقبل منه صلحا ومالا أو يرضى منه إلّا بحضور بساطه. فاتّفق أن اعتل من ذرب لحقه وأحسّ بالضعف، فعاد إلى واسط وخلّف على عسكره سبكتكين الحاجب، وظنّ أنّه يتماثل فيعاود، واشتدت به العلة وكان لا يثبت فى معدته طعام وأحسّ بالموت ورجع إلى بغداد. عهد معزّ الدولة إلى ابنه وعهد إلى ابنه بختيار عزّ الدولة وأظهر التوبة وأحضر وجوه المتكلمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 والفقهاء وسألهم عن حقيقة التوبة وهل تصح له فأفتوه بصحّتها ولقّنوه ما يجب أن يقول ويفعل، وتصدّق بأكثر ماله وأعتق مماليكه وردّ شيئا كثيرا من المماليك [1] وتوفّى فى شهر ربيع الآخر سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة وكانت له أخبار وأحوال منها إنفاذه جيش الماء والديلم إلى عمان حتى فتحت له ولم يكن فيها ما يستفاد منه تجربة فطويناها. وكان اتفق عند موته اتفاق حسن لعزّ الدولة فرأينا إثباته ليكون معدودا فى جملة أمثالها من الاتفاقات العجيبة. ذكر اتفاق حسن [296] لما مات معزّ الدولة ألحّ المطر ببغداد ثلاثة أيّام بلياليها إلحاحا شديدا منع الناس من الحركة ولم يتمكن الديلم من اطلاع رؤوسهم ومنع سائر الناس من البروز وتردّد النقباء إلى رؤسائهم فأرضى كل أحد بما سكن إليه وانجلت السماء عن سكون الجند ورضا الكافّة. فكاتب عزّ الدولة سبكتكين وسائر العسكر بمصالحة عمران بن شاهين والانصراف عنه إلى بغداد ففعل ونفّس خناق عمران. وصولح صاحب الموصل واستقرّت الأمور بيده. وفيها وردت الأخبار بإقبال جيش قوىّ من خراسان مع ابن سمجور [2] ليجتمع مع وشمكير. ذكر السبب فى ذلك لما اعتلّ أبو علىّ [محمّد] بن الياس وفلج بكرمان وخالفه أولاده وقصده عضد الدولة رحل إلى خراسان ولقى صاحب خراسان وبرئ بعض البرء   [1] . وفى الأصل: الممالك. والمثبت مأخوذ من مط. وأثبته فى مد: «المظالم» . [2] . فى مط: سمجون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 وصار نديما له يعاشره ويؤانسه. فسوّل له قصد ممالك الديلم وأطمعه فيها وزعم أنّ أصحاب جيوشه ليس يناصحونه ويقبلون الهدايا والرّشى. فوافق ذلك ما كان يشكوه إليه وشمكير حالا بعد حال فاتصلت المكاتبة بين وشمكير وصاحب خراسان وكذلك الحسن بن الفيرزان إلى أن وقعت المعاضدة والموافقة على [297] أن يدبّر جميع الجيوش وشمكير. وأنفذ صاحب خراسان إلى وشمكير وإلى الحسن بن الفيرزان هدايا كثيرة من دوابّ وغلمان وآلات وسرّب إليهما أمداد الجيوش مع صاحب جيشه محمّد بن إبراهيم بن سمجور وعلى أن يكون الرئيس على الجميع وشمكير. فورد من ذلك على ركن الدولة ما لم يكن فى الحساب وعلم أنّ الأمر قد بلغ الغاية وليس إلّا الفيصل. فكاتب عضد الدولة يستمدّه الرجال والمعونة وكاتب عزّ الدولة بمثل ذلك. فأمّا عضد الدولة فأمدّه بخيل عليها أبو جعفر ابن رزمان [1] وشخص بنفسه إلى إصطخر ليسير إلى خراسان وسيّر أحد حجّابه فى جيش المقدّمة إلى طريثيث [2] وأظهر فى عسكره أنّ جيش خراسان قد ساروا بأجمعهم مع لفيف البلدان وغزاتهم إلى الرىّ وخراسان خالية وليس دون ملكها شيء، واتصل ذلك بالقوم فأحجموا قليلا. واتفق سقوط وشمكير بضربة الخنزير وموته فانتقض ذلك الأمر كله. سقوط وشمكير بضربة الخنزير وموته ذكر هذا الاتفاق العجيب اتّفق أن استعرض وشمكير خيله وما قيد إليه من جهة صاحب خراسان   [1] . فى مد: رومان. والمثبت فى مد: روزمان. [2] . طريثيث: ناحية وقرى كثيرة من أعمال نيسابور وهذه قصبتها (مراصد الإطلاع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 فكان فى جملتها [1] فرس أدهم حسن الصورة فأعجبه وأمر بإسراجه وعزم على ركوبه والتصيّد فى ذلك اليوم. فدخل إليه منجّمه فنهاه عن الركوب فخالفه. فلمّا أصحر عارضه خنزير قد أفلت من أصحابه وقد رمى بحربة [298] فثبتت فيه فحمل الخنزير على وشمكير وهو كالغافل فضربه وفرسه، فشبّ الفرس وسقط وشمكير على دماغه فخرج من أنفه وأذنيه دم وحمل ميّتا وذلك يوم السبت فى أوّل يوم المحرّم سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وقد كان بختيار عزّ الدولة اجتهد فى إخراج سبكتكين مع جيش كثيف على الرسم فامتنع سبكتكين عليه فأوحشه بذلك واضطرب بختيار لأنّه لم يجد من يطيعه فى الخروج إلى أن انتدب ألفتكين وقد كان يتلو سبكتكين فى المرتبة وأحبّ أن يظهر فى تلك الحالة فضلا وحسن طاعة للمنافسة التي كانت بينه وبين سبكتكين، فضم إليه جيشا وورد الرىّ وقد استغنى عنه فعاد. ذكر سوء تدبير بختيار لمملكته ولنفسه حتى فسد جنده وطمعوا فيه ثم طمع أعداؤه أيضا فيه وأفضى أمره إلى الهلاك كان أبوه معزّ الدولة حين أيقن بالتلف وصّاه بطاعة ركن الدولة واستشارته فى كلّ ما يعرض له من مهمّ، وكذلك بطاعته لابن عمّه عضد الدولة لأنّه أسنّ منه وأقوم بالسياسة. ووصّاه بإقرار كاتبيه أبى الفضل العباس بن الحسين وأبى الفرج محمّد بن العباس فإنّهما أكفى من غيرهما وأعرف بوجوه الخدمة.   [1] . كذا فى الأصل ومط: جملتها. والمثبت فى مد: جملها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 ووصّاه بمداراة الديلم وإزاحة عللهم عند أوقات استحقاقاتهم لئلّا يخرقوا هيبته بالشغب وطلب الفتن. ووصّاه بالإحسان إلى الأتراك فإنّهم جمرة عسكره وإذا [299] رابه من الديلم ريب أمكنه أن يقمعهم به. ووصّاه بعد الإحسان إلى الأتراك بكبار الحاشية وصغارهم وأن يجريهم على عادتهم ورسومهم. فخالف هذه الوصايا كلّها واشتغل باللهو واللعب ومعاشرة المساخر والمغنّين والنساء، وأوحش كاتبيه وضرّب بينهما حتى استوحشا جميعا منه وطمع فى إقطاعات كبار حاشيته وفى سبكتكين خاصّة وهو صاحب جيشه وكان معزّ الدولة وصّاه بألّا يقطع أمرا دونه وكان ذا أرب وسياسة وله رئاسة فى العسكر قديمة متمكنة يهابه الجميع ويطيعونه، واحتجب عن عسكره بما ذكرته من الشغل باللعب والسكر الدائم. وابتدأ بمناوأة عضد الدولة، وذلك أنّه منع صاحبه المقيم ببغداد من شرى الدوابّ وآلات خدمته التي [1] كان يستدعيها وجرت عادته بالتمكن منها وترك استشارة عمّه ركن الدولة فى كلّ ما عرض له. عاقبة ذلك فكان من عاقبة ذلك أن سبكتكين صاحب جيشه لما أحسّ بطمعه فيه وفى نعمته انقبض عنه فصار لا يركب إليه ولا يثق، به واقتصر على التراسل على أيدى المتوسطين وكان لسبكتكين أصحاب أخبار فى العسكر وفى دار بختيار خاصّة وله عيون وجواسيس من خاصّة حاشيته وبطانته فكان لا يخفى عليه شيء من حركاته [300] فضلا عن تدابيره.   [1] . فى الأصل: إلى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 فأمّا كاتباه أبو الفضل العباس بن الحسين وأبو الفرج محمّد بن العبّاس فإنّهما لما عرفا قصده فى إفساد نيّة بعضهما لبعض- فقد كان بينهما قبل ذلك منافسة فى المرتبة وتحاسد فى النعمة- أخذا جميعا أهبة التحرّز منه وأخذ هو فى الحيلة عليهما حتى أزال بأحدهما نعمة الآخر. ثم قبض عليه بأصاغر الحاشية وأدانى الحشم ومكّن منهما الأوغاد والسفلة فاضطربت أحوال المملكة واضطرّ إلى الاستعانة بمن رفعه من السقّاط ومن لا يكمل للنظر فى قرية ولا يصلح للتوسط بين نفسين فضلا عن العسكر المضطرب فاختلّت [1] أصول أمره وفروعها. وأما كبار الديلم ووجوههم فإنّه نفاهم عن مملكته طمعا فى اقطاعاتهم وأموالهم وأموال المتصلين بهم فتبسّط أصاغرهم واستلانوا جانبه وتحالفوا عليه وطالبوه بزيادة فى رسومهم واضطر إلى النزل على حكمهم ثم عجز عن إرضائهم. وأمّا الأتراك فإنّهم نظروا إلى ما تمّ للديلم من التحكّم فعملوا مثل عملهم من الاشتطاط والتسحّب والمواجهة بالمخاطبة الغليظة واضطرّ إلى التدبير عليهم والراحة منهم. وابتدأ بسبكتكين وكان متحرزا متيقّظا، فما تمّ له عليه شيء من تدبيراته فتحزّب الأتراك وصاروا يدا واحدة. وتحركت الأحقاد والحفائظ [301] التي كانت فى نفوس الديلم على معزّ الدولة، فبرزوا إلى الصحراء مع الأسلحة والجنن وساموه أن يثبت من أسقطه معزّ الدولة وأن يعطيهم أرزاقهم ويعجّل لهم رزقة منسوبة إلى البيعة غير محسوبة.   [1] . كذا فى الأصل ومط: فاختلّت. والمثبت فى مد: فاحتلت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 فجمع بختيار الأتراك إلى داره مع أسلحتهم ليعتصم بهم وترك الديلم فى الصحراء ثلاثة أيّام. فغاظهم ذلك وازدادوا تباعدا فى الاشتطاط عليه وفى الاشتداد بالمطالبة إلى أن نزل على بعض حكمهم وأعطاهم ثلث رزقة غير [1] محتسب به. وخيّر أصحاب الإقطاعات بين الإقامة فى أيديهم والتمسك بنواحيهم وبين تعريضهم منها وأثبت من الديلم الساقطين كلّ من كان صريحا فى الديلم أو صريحا فى الجبل دون من اختلط بهم ممن ليس منهم. فلمّا تمّ لهم ودخلوا البلد اجتمع الأتراك أيضا على الشغب فخرجوا إلى الصحراء واستدعوا الأصاغر من غلمان الحجر فى دار بختيار حتى برزوا معهم وتحالفوا وتعاهدوا أن تكون كلمتهم متفقة وأن ينصر كبيرهم صغيرهم وقويّهم ضعيفهم وقد كانت اجتمعت لهم أموال مسبّبه من تلك الزيادات المضافة إلى الأصول التي زادها معزّ الدولة، فطالبوا بتوفيتهم ذلك كلّه، وأن يسلك فيهم سبيل أبيه فى الاستحجاب والتقويد والتنقيب والزيادة [302] فى المنازل والمراتب. ثمّ اتفق الديلم والأتراك على ألّا يعارض كل فريق منهم صاحبه [2] فى طلب الحظّ لنفسه، وتعاهدوا على ذلك. فقادته الضرورة إلى أن ضمن لهم جميع ما التمسوه وإزاحة العلل فيه ولم يتسع لذلك ولا لبعضه. فاضطروا إلى مناظرة وزرائه على الاحتيال لهذا المال والنظر فى جمعه من أين كان وكيف كان. وكان أبو الفضل العباس أشدّ جسارة وإقداما من أبى الفرج، فضمن ذلك لهم واستعان بكاتب الفارسية شيرزاد بن سرخاب، وكان متمكنا من بختيار   [1] . غير: محذوفة فى مط. [2] . سقوط من مد من هنا إلى قوله «جميع ما ... » . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 قريبا منه يسمع كلامه ويتدبّر برأيه، وضمن له مرفقا على ذلك ومالا يحمله إليه فى كل سنة. فسعى له شيرزاد فى الوزارة ووعد بها وقيل له: - «إذا ظهرت كفايتك فيما ضمنته من إرضاء الجند وغيره كانت الوزارة مقصورة عليك.» فأخذ فى مصادرة الحاشية وألزمهم أموالا علم أنّهم يفون بها ولا يجحف بهم، وافتتح الخراج واجتهد حتى وفّى الديلم ما ضمن لهم وفرّق الأتراك فى النواحي لتنجّز [1] تسبيباتهم. فتمّ لهم أيضا ما التمسوه وذلك لجمام الأمر وأنّه كان مبدأ فوجد أموال الحاشية جامّة والنواحي فى بقايا العمارة، فمشى أمره فى هذه السنة. واتّصل خبره بأبى الفرج محمّد بن العباس وهو يومئذ بعمان وكان خرج إليها فى حياة [303] معزّ الدولة وكانت له بها وقائع بين العمانيين حتى استوسقوا له. فلمّا عرف وفاة معزّ الدولة وطمع أبى الفضل فى الوزارة وسعى شيرزاد له فيها، لم يلبث أن سلّم الناحية إلى رجل من أهل عمان يعرف بابن نبهان، وأظهر أنّ الأمر ورد عليه بالإفراج عن البلد وتسليمه إلى صاحب عضد الدولة، وأقبل مسرعا إلى العراق. فلمّا قرب منها استقبله أصحاب أخيه أبى محمّد على بن العباس الخازن وكتّابه وكتبه يشيرون عليه بالمبادرة وترك التأخر عن الحضرة قبل أن يتمّ لأبى الفضل العبّاس بن الحسين تقلد الوزارة، فورد وصار الناس حزبين وطلب كل واحد منهما عثرات صاحبه وخطب الوزارة لنفسه. ثم تمكن أبو الفضل بمعاونة شيرزاد إلى أن تمّت له الوزارة.   [1] . فى مط: لينجز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 ذكر رأى صواب لبنى حمدان رءاه ناصر الدولة فخولف لما سمع أولاد ناصر الدولة باضطراب بختيار وسوء سياسته وشغله عن تدبير الملك باللعب والسكر الدائم وشغب جنده وانخراق هيبته همّوا بإخراج الأموال والانحدار إلى بغداد ومقارعة بختيار عن سرير الملك، فقال لهم أبوهم ناصر الدولة: - «لا تعجلوا فإنّ معزّ الدولة قد خلّف لابنه خميرة [1] من المال يسيرة وسيفرّقها على جنده هؤلاء وسيجذب أيضا كتّابه وعمّاله من نواحيه ومن مصادرات أسبابه ما أمكنهم ولستم بمستظهرين عليه ولا [304] متمكّنين من دولته إلّا بعد أن تفنى حيله وتخلو يده. فإذا كان ذلك الوقت فانحدروا إليه وكاثروه بالمال وأفسدوا عليه قلوب الرجال، فإنّكم تملكونه لا محالة.» وكان الرأى ما قال، فإنّ معزّ الدولة كان أتلف ماله على البناء الذي أحدثه وعلى الأتراك الذين اصطنعهم وكان مقدار ما خلّفه أربعمائة ألف دينار فأخرجها بختيار شيئا بعد شيء عند الضرورات وعند اجتداد المطالبات. وكان كتّابه يستقرضون منه لهذه المهمات على أن يردّوا العوض عنه ثم لا يتمكنون من الوفاء حتى استغرقت النفقات والنوائب جميع ذلك بعد مديدة يسيرة. واختلفت كلمة بنى حمدان فشغلوا عن مشورة أبيهم وكان مبدأ الشر بينهم أنّ أبا تغلب قبض على أبيه ناصر الدولة لما رءاه قد كبر ولم يبق فيه بقية غير سوء الخلق والتقتير على أولاده وعلى حاشيته. فلما قبض عليه أصعده   [1] . فى مط: جهرة. وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 إلى قلعته ووكّل به من يخدمه ويزيح علّته فى حاجاته. فامتنع بعض إخوته وانتثر [1] النظام الذي كان يجمعهم فشغلهم حفظ ما فى أيديهم عن طلب ما ليس لهم. واحتاج أبو تغلب إلى مداراة السلطان وتجديد عقد الضمان والتماس الخلع والعهد والعقد ليحتجّ بذلك على الجند ويستظهر به على إخوته [305] المخالفين والموافقين، فأنفذ كاتبه أبا الحسن علىّ بن عمرو بن ميمون حتى أخذ له من السلطان ذلك، وبذل لبختيار ألف ألف ومائتي ألف درهم فى كلّ سنة على الرسم وانصرف إلى صاحبه بقضاء حاجاته قرير العين بما تمّ على يده غير مفكر فى شيء مما كان يهمّ به. تلاحق مشايخ الملوك بالموت وفى هذه السنة تلاحق مشايخ الملوك بالموت وتتابعوا وكان مدخل القران [2] التاسع: فهلك معزّ الدولة أحمد بن بويه، وقبض أبو تغلب على أبيه ناصر الدولة، وهلك سيف الدولة، وهلك نقفور [3] ملك الروم، وهلك كافور صاحب مصر، وهلك وشمكير بن زيار، وهلك الحسن بن الفيرزان، وهلك أبو علىّ محمّد بن الياس، وجماعة أمثالهم، وبقي ركن الدولة من بينهم وعمّر إلى أن استوفى أجله.   [1] . فى الأصل ومد: وانتشر. ونحن رجحّنا ما فى مط: وانتثر. [2] . يقال: إنه إذا أطلق لفظ القران، فالمراد اقتران الكوكبين: زحل والمشترى (دهخدا عن كشّاف اصطلاحات الفنون للتهانوى) . [3] . فى مط: يغفور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 ودخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ذكر ما دبّر كلّ واحد من الكاتبين فى خطبة الوزارة وسعى كل واحد منهما على صاحبه قد ذكرنا ما كان من أبى الفضل العباس بن الحسين من تمشيته للأمور فى السنة التي مدّ يده فيها إلى الحاشية وما وجده فى النواحي وما تأوّل به على العمّال حتى أرضى الجند. فاستطال على بختيار وانطلق لسانه وزعم أنّه قد أظهر الكفاية التي وعده بها وذكر أنّ دخل المملكة يعجز عن خرجها وأنّه إن قلّد الوزارة جبر هذا العجز وقام بالأمر كما قام به [306] فى تلك السنة وضمن لشيرزاد إذا تمّم [1] له الوزارة مآلا. وشخص إلى الكوفة لتقرير أمور المقطعين بسقى الفرات فاجتهد له شيرزاد فى الوزارة حتى أنعم له وبلغ أبا الفرج ذلك فشمّر عن ساقه فى فسخ نيّة بختيار وزعم أنّ الذي ذكره أبو الفضل [2] من عجز الدخل عن الخرج لا حقيقة له وأنّ الأموال التي استخرجها ومشّى بها الأمور إنّما كانت من مصادرات الناس ومن بقايا فى النواحي وأنّه لم يؤثّر أثرا ولا فتح فتحا ولا استحقّ من المراتب ما لا يستحقّ مثله. واتصل ذلك بأبى الفضل فوافى من الكوفة ركضا وجرت بينهما مناظرات استقرّت على أن يعمل كل واحد منهما عملا لأصول الارتفاعات وما ينضاف إليها وعملا لأصول النفقات الراتبة وما ينضاف إليها من الحوادث لتعرف الصورة فيما اختلفا فيه ولازما الديوان مع كتابهما حتى ارتفعت هذه الأعمال.   [1] . فى مط: تمّ. [2] . فى الأصل ومط: أبا الفرج. انظر الأسطر السابقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 فامّا أبو الفرج محمد بن العباس فإنّه أورد فى عمله أصول العقود على عبرها وأبوابا ينكسر بعضها، ثم خفف النفقات الحادثة وحذف الاستظهار لها حتى لم يظهر العجز وقام الدخل بالخرج. وأما أبو الفضل فإنّه وضع من الأصول ما نسبه إلى المنكسر وما ينظر به للضمناء واعتدّ بالزاجى [1] دون التاوي [307] واستظهر فى تقدير النفقات الحادثة وزاد فى مبلغه حتى أوجب فى عمله عجزا فى الدخل عن الخرج. ثم حكى فى عمله أنّه يقيم وجوها لهذا العجز وأنّه إن بقيت منه بقيّة نقلها فى كل سنة إلى التي تليها على الرسم الجاري فى ذلك. وتقابلا على حسابهما وتناظرا على الخلاف بينهما ووقف الكلام بين المتوسطين- وفيهم شيرزاد- على إبطال الوزارة والتراضي بالاشتراك فى الكتابة. ثم جدّ شيرزاد سرّا فى أوقات خلواته ببختيار فى السعى لأبى الفضل وبذل عنه لبختيار مالا على سبيل الهديّة وأعلمه أنّ فيه إقداما وبسالة يحتاج إليهما فى الوقت وأنّه ذو مال ويسار يزيد على مال أبى الفرج إضعافا وأنّه ذو حيلة وتأويل وبطش، وأبو الفرج صاحب تقشّف وتوقّف وتعقّد وأن الأمر بمثله لا يمشى فلم يزل بهذا وأشباهه حتى أمضى بختيار العزيمة. وقلد أبا الفضل الوزارة وخلع عليه القباء والسيف والمنطقة المحلّيين بالذهب وحمله على فرس بمركب ذهب وأقطعه إقطاعا بخمسين ألف دينار على رسم الوزراء وضم إليه عددا كثيرا من الديلم على رسوم الوزراء. فصار إليه أبو الفرج مسلّما وأظهر الامتناع من العمل وكره [308] أبو الفضل ذلك لأنّه أحب أن يجرى على رسمه فى تقلد الديوان ليشغله عن تتبعه والطعن عليه وأيضا ليراه بعين من يغدو [2] ويروح إليه وينحطّ عن رتبة المساواة   [1] . فى مط: الراجي. [2] . والمثبت فى مد: يعدو (بالعين المهملة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 التي كان فيها إلى رتبة الأتباع. وكره أبو الفرج جميع ذلك فخوطب فيه وأعلم أنّه [إن] لم يصبر على هذه الحال والقناعة بها انقطعت العلائق بينه وبين صاحبه بختيار ونصب للديوان غيره ثم يكون مطّرحا بعرض النكبة وربما تأدى الأمر إلى أكثر من ذلك من تسلط أعدائه عليه وانبساط أيديهم فيه وفى أعزته فاستجاب إلى عمل الديوان واستونف بتقليده إيّاه وخلع عليه الدراعة على رسم الكتابة. وكان مما وفّره أبو الفضل فى وزارته إقطاعات استرجعها من قوم مثل أبى الفتح أخى عمران بن شاهين ومثل أبى عبد الله الأيسر المعروف بالجبّ ثم تجرد للأهواز ومحاسبة آزاذرويه وكتّابه. واتفق فى وزارته أن أظهر الحبشي بن معزّ الدولة عصيان أخيه وطمع فى البصرة والتفرّد بها. ذكر السبب فى عصيان الحبشي وتمكّن أبى الفضل منه وحصول أمواله وذخائره وأسبابه له لما توفّى معزّ الدولة احتوى على الحبشي ابنه بالبصرة جماعة من حاشيته وجند البلد وأطمعوه فى البصرة وأقاموا فى نفسه أنّ المال الذي يرتفع من البصرة ينصرف معظمه إلى الجيش [309] المقيمين بها وباقيه مصروف إلى نفقاته وليس يبقى بعد ذلك إلّا ما لا يستكثر أن يجعل حظّه من ميراث أبيه ويغضى عنه. ثم أوهموه مع ذلك أنّ أخاه بختيارا لا يتمكن من الوصول إليه مع حصانتها لوهم بذلك فابتدأ يستبدّ بالأموال والأمور ويستولى على العمال ويتحيّفهم. وكان مغيظا على عامل البصرة الحسين بن الحسن المكنّى أبا طاهر فعمل على القبض عليه والتشفي منه وإزالة الحشمة فيه، ونمى الخبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 إلى العامل فهرب إلى الحضرة. وكتب الحبشي فى أثره إلى بختيار يذمّه ويطعن عليه وينسبه إلى الخرق والجهل وأنّه لم يخفّف شيئا أنكره ولكن قصد التشنيع وذكر فى الكتاب أنّه قد تقدّم بحفظ الأعمال والأموال إلى أن يعود فيجري على رسمه فى التدبير لها. ثم سأل فى هذا الكتاب أن تسلّم إليه المدينة ويخلّى بينه وبين تدبيره وأن يواقف على ارتفاعه ويحتسب له بنفقاته التي تخصّه وبأموال الجند المقيمين بحضرته وإن بقيت بقية سبّب عليه ليزيح العلّة فيها. فأجابه بختيار بالتصديق لقوله ووعده أن يعمل بمحبته. ثم زاد تبسّط الحبشي حتى كان يشرق الأمر ويظهر الخلاف. وكتب إليه بختيار بالتأنيس والاستمالة والمعاتبة اللطيفة [310] وأعلمه أن وزيره العباس بن الحسين شاخص إلى الأهواز وأنه سيراسله منها ويبلغ محابّه فى الأمور التي التمسها. وندب وزيره العباس للشخوص وأمره بالحيلة عليه حتى ينتزع البصرة من يده إمّا مكرا وخديعة وإمّا حربا ومكاشفة. فاستخلف أبا العلاء صاعد بن ثابت النصراني بالحضرة وانحدر وأخذ معه أبا الفرج محمّد بن العباس صاحب الديوان وأبا سهل ديزويه العارض وجرّد معه عسكرا وأزاح علّته فى السلاح والجنن [1] والآلات سرا. فلمّا وصل إلى واسط أقام بها شهرا ونظر فى أمورها ومصالح أعمالها ومظالم أهلها وأظهر أنّه راحل إلى الأهواز، وكتب إلى ليلى بن موسى فياذه وكان بالأهواز يأمره بالاستعداد لقصد البصرة والمسير إلى بيّان وقدم حديدياته وسفنه على أنّ فيها أثقاله وكانت مملوّة بالسلاح وأمر أصحابه   [1] . فى مط: الجتر. وهو تصحيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 المنحدرين فيها بأن يتجاوزوا الأبلّة ولا يدخلوها ويقصدوا بيان ويظهروا أنّهم يحملون ما معهم إلى الأهواز على طريق حصن مهدى وحدر الطيارات والزبازب تفاريق. وكتب إلى أحمد بن محمد المعروف بالطويل بأن يصير إلى بيّان وكان يتقلد حصن مهدى وأن يحفظ هذه الآلات وأطلعه على التدبير. وكتب إلى الحبشي بن معز الدولة [311] من واسط بأنّه يفعل كلّ ما يؤثره ويهواه ويتحمد عليه بأنّ مصيره عاجلا إلى الأهواز ليستدعى كاتبه إليها ويواقفه [1] على ارتفاع البصرة ويسلّمها إليه. وأومأ فى آخر الكتاب إلى التماس صلح منه على ذلك ويقول فى جملة تعريضاته: «أنّه قد التزم عن الوزارة غرما ثقيلا» ويسأله معونة بما يحمله إليه. فسكن الحبشي إلى قوله ووعده وحمل إليه عاجلا مائتي ألف درهم ولم يشكّ أنّه قد اشترى بها منه البصرة. فلمّا وصلت إليه أنفذها إلى بختيار، ورحل كأنّه يريد الأهواز إلى الحويزة ونهر العباس. ثم عدل عنها إلى نهر البصرة وكان للحبشى رسل قد أنفذهم بأطيار ليكاتبوه بخبره فأرسلت الأطيار إليه بخبره فثار الحبشي وهاج ولم يملك نفسه وأظهر المنابذة والخلاف. واستوحش من كان بالبصرة مقيما من الغلمان الأتراك فى تسبيباتهم، فهربوا إلى بيّان فصادفوا بها عسكرا قويّا مع ليلى بن موسى فياذه وأحمد الطويل فانضمّوا إليهما وكانت قد حصلت الزبازب عندهم والملاحون والجنن والآلات والسلاح. وأخرج الحبشي عسكره إلى الابلّة ورتّب غلمانه وأثبت من عشائر العرب قوما رتّبهم على أفواه الأنهار وقلّد حاجبا له تركيّا يقال له، بكتيجور [312]   [1] . ويوافقه. كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: ليوافقه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 رياسة عسكر الماء وجعل اسفهسلّار الديلم فى عسكر الظهر صعلوك بن باطاهر [1] أحد وجوه قوّاد البصريين. فلمّا ورد الوزير أبو الفضل عسكر أبى جعفر وجّه إلى ليلى بن موسى فياذه وإلى أحمد الطويل ومن معهما يأمرهم أن يشحنوا تلك الزبازب والطيارات بالرجال والسلاح ويصعد إليه على تعبية من جانب دجلة الشرقي المعروف بالفرات ولا يعبروا فى طريقهم إلى الأبلّة ولا يقاتلوا أصحاب الحبشي ولا يهيجوهم إلى أن يصلوا إليه فيضيف إليهم من معه من الخواصّ والغلمان وقد كانوا مستقلّين بنفوسهم ومن حصل عندهم من الأتراك الذين هربوا إليهم من البصرة وأقام ليلته ينتظرهم وتعذّرت الميرة عليه وانقطعت المادّة عن عسكره وتحيّر فى أمره حتى لو تأخّر الفتح يوما لما أمكنه المقام ولاحتاج إلى الرحيل فتكون هزيمة عليه. فلمّا كان الغد أصعد ليلى بن موسى والجماعة على أهبة وتعبية وعملوا على امتثال الأمر وترك التعرض لمن فى طريقهم من أصحاب الحبشي. فلمّا جازوا الأبلّة خرج أولئك نحوهم وبدءوهم بالحرب فعدل حينئذ ليلى بن موسى ومن معهم إليهم وواقعوهم وغرّقوا عدة من زبازبهم واستأمنت عدة أخرى وهرب بكتيجور صاحب الحبشي [2] ناجيا [313] بحشاشته واشتملوا على بقية عسكر الماء. ثمّ طمعوا فى الظهر فتقدموا إلى الديلم هناك وقاتلوهم ساعة ثمّ تهيّأ لطائفة أن صعدوا إلى شاطئ الأبلّة وصاروا فى ظهورهم فاضطربوا وانهزموا وقتل منهم نفر وانهزم قوم واستأمن آخرون وملكت الأبلّة. وأنفذ ليلى غلاما له فى بعض الزبازب إلى الوزير أبى الفضل مبشّرا   [1] . كذا فى الأصل. [2] . فى مط: صاحب الجيش. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 بالفتح، فالتمس السفن والزبازب وعبر إلى قرية فوق الأبلّة وعسكر بها وكتب إلى الحبشي يشير عليه بالخروج إلى الأهواز فالتمس منه الأمان والتوثقة، فآمنه على النفس والولد والحرم وتوقّف عن ذكر المال والحال. فتنبّه الحبشي على ذلك وتردّدت فيه الرسل فلم يسكن ولم يخرج. فعبّى الوزير أبو الفضل عسكره وزبازبه وزحف إلى البصرة وملك منها الموضع المعروف بالسيالجة [1] ولم يزل ينفذ إليه رسولا بعد رسول من شجعان الأتراك والديلم ويأمرهم أن يقيموا عنده ويتوكّلوا به ولا ينصرفوا بالجواب، إلى أن أحاط به منهم بضعة عشر رجلا بالسلاح ثم أنفذ أبا سهل ديزويه العارض فى طائفة وافرة من العسكر فدخلوا إليه وأخرجوه إخراجا بين الجميل والقبيح وحمل معه أهله وولده وما خفّ من ماله وجواهر كانت له فلم يوصله الوزير [314] إليه وأمر بأن يسلّم إلى أحمد الطويل ليصير به إلى حصن مهدى ففعل ذلك وأقام هناك معتقلا أيّاما ثم حمل إلى الأهواز وبقي مدّة أخرى ثم إلى رامهرمز واعتقل بها اعتقالا جميلا ثم أزيل التوكيل عنه وحمل إلى عمّه ركن الدولة بحديث يطول ولا فائدة فى ذكره. ثم حصل عند عضد الدولة فأقطعه إقطاعا يسعه ومن معه، وأمره أن يحصل بسابور وهي كورة من كور فارس نزهة كثيرة العيون والأشجار والصيد، فأقام بها إلى أن توفّى فى آخر سنة تسع وستّين وثلاثمائة. الوزير أبو الفضل يملك البصرة ويصادر أصحاب الحبشى ّ وملك الوزير ابو الفضل البصرة عنوة وأنفذ إليه بختيار خلعا جليلة فلبسها وركب فيها ونصبت له القباب فانبسطت يده وقوى سلطانه وصادر أصحاب   [1] . فى نسخة اكسفرد: «بالسباجية» . (مد) . وفى مد أيضا: السبالجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 الحبشىّ وكتّابه وحاشيته ومعامليه وارتجع منه ما كان حمله معه من المال والجواهر، واستخرج من الأموال شيئا كثيرا وظفر بخزائنه كلّها. فكان فى جملتها خزانة كتبه وفيها خمسة عشر ألف مجلّد سوى الأجزاء والمشرّس [1] غير المجلد ووجد له من خزائن الأسلحة والفرش والثياب الفاخرة والآلات شيئا يستكثر لمثله فحمل ذلك كلّه إلى بختيار. وقلّد بختيار ابنه المرزبان البصرة وسنّه ثمان سنين [315] واستكتب له أبا الغنائم المفضّل بن أبى محمد المهلّبى وهو خال ولد الوزير أبى الفضل. ذكر الدعوة إلى محمد بن عبد الله القائم من أهل البيت - صلى الله عليه وسلم - وفى هذه السنة ظهرت دعوة بين الخاصّ والعامّ يدعى فيها إلى محمد بن عبد الله القائم من أهل بيت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وقيل إنّه الرجل الذي ورد بذكره الخبر وأنّه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد أعداء المسلمين ويجدّد ما عفا من رسوم الدين. فتطلّعت إليه نفوس العامة وجعل دعاته يأخذون البيعة على الرجل بعد الرجل فمن كان من أهل السنّة قيل له: إنّه عباسىّ. ومن كان من أهل التشيع قيل له: إنّه علوىّ. وكتبت عنه رسالة على عدّة نسخ وطرحت فى المساجد والمحافل يدعو فيها إلى مثل ما حكيناه عنه، فحصلت نسخة منها عند الوزير أبى الفضل فى أول وزارته فتقدم بإذكاء العيون على الطائفة الخائضة فى هذا الباب والقبض على من يوجد منها. ثم انحدر قبل أن يظفر بأحد منهم وتقدم إلى خليفته   [1] . كذا فى الأصل وعند ابن الأثير. وفى القاموس المسرس: قال صاحب تاج العروس يقال: مصحف مشرز ومسرس. المشرز المشدود بعضه إلى بعض المضموم طرفاه. فإن لم يضمّ طرفاه فهو مسرس بسينين. (مد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 أبى العلاء صاعد بن ثابت بالجدّ فى طلبهم. فلمّا نظر فى ذلك وجد جماعة من وجوه الكتّاب وأماثل الناس قد دخلوا فى هذا الأمر وبايعوا الدعاة إليه، وكذلك وجدوا خلقا كثيرا من الديلم والأتراك والعرب [316] قد بايعوه وكان فيهم سبكتكين العجمي أحد أكابر القوّاد: قواد معزّ الدولة، ممن قاد الجيوش وتقلّد الأعمال وكان شجاعا مطاعا جوادا نازلا عند الأتراك بمنزلة من لا يخالف فى الرضا والسخط وكان يتشيّع وقيل له إنّ الرجل علوىّ، وإنّه يقلّدك إمرة الأمراء. فاستجاب واستفحل أمر القوم. ذكر السبب فى اضمحلال أمره حتى ظفر به وبأسبابه ودعاته وجميع من دخل معه فى بيعته كان هذا الرجل محمد بن المستكفى طرأ إلى مصر [1] فتقبّله كافور الإخشيدي الخادم وأحسن إليه وأجرى عليه رزقا سنيّا. فكاتب جماعة من أصحابه بالدعاء إليه فجرى أمره كما حكينا. فلمّا كثر المستجيبون له وهم لا يعرفونه وتقوّوا بمكان سبكتكين العجمي كاتبوه بالحضور وكتب إليه سبكتكين: إنّى أقوم لك بالأمر. فورد هيت وهو لا يشك أنّ الأمر مستقرّ له ومستتبّ على إرادته. وخرج سبكتكين العجمي وكان يتقلّد حماية طريق الفرات إلى الأنبار وأظهر للسلطان أنّه ينظر فى مصالح عمله، فتلقّاه وترجّل له وأكرمه ثم أدخله البلد مستترا وأنفذ إليه فرشا فاخرا وثيابا نفيسة وطعاما كثيرا وشرابا. وعمل على   [1] . فى مط: سفر. بدل «مصر» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 إيقاع حريق وفتنة فى ليلة النيروز المعتضدي لتشاغل الناس بذلك ويهجم على بختيار ويوقع [317] به وواطأه على ذلك خلق من الجند فظهر له قبل النيروز أنّه عباسي وليس بعلوىّ فتغيّرت نيّته، وتصوّره بصورة المحتال وواجه بعض أولئك الدعاة بذلك وأعلمه أنّه كذّاب مموّه وتثاقل عن نصرته وأظهر الندم. وخاف محمد بن المستكفى أن يقبض عليه وأحسّ أصحابه ودعاته بذلك فاستوحشوا وتفرقوا، فبعضهم هرب إلى ناحية السواد وبعضهم أمعن فى الهرب. وعرف السلطان خبرهم فكاتب العمال بالتيقظ فى طلبهم وإذكاء العيون عليهم فظفر ببعضهم فأمر بتقريره بالسوط فأقرّ على جماعة أخذوا ولم يزل التتبع يقع حتى حصل محمد بن المستكفى وأخوه فأوصله بختيار إليه واستشرحه الأمر فشرحه بعد أن آمنه على نفسه. فالتمس المطيع لله من بختيار أن يسلمه إليه مع أخيه، فأبى عليه ودافع عنه وقال: - «قد آمنته.» فبذل المطيع لله لهما الأمان على النفس. فلمّا حصل الجميع فى يده تقدم بجدع أنف محمد بن المستكفى وقطع أنف أخيه وحبسهما مدّة. ثمّ هربا وخفى خبرهما ووقع الاستقصاء على كل من دخل فى بيعته، فصودروا وأدّبوا ضروب [1] التأديب ولم يقع الإقدام على سبكتكين العجمي ولا على أحد من وجوه الجملة وإنّما خوطب سبكتكين خطابا خفيفا فجنح فى الجواب إلى الإنكار وأغضى عنه وعن الجند. [318]   [1] . وفى مط: لضروب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 عضد الدولة يملك كرمان وفى هذه السنة صفت كرمان لعضد الدولة وملكها وفتح قلعة بردسير [1] وهي خزانة أبى على ابن الياس التي جمع فيها ذخائره على مرّ السنين من الأموال والجواهر والأمتعة الفاخرة. ذكر السبب فى ذلك كان أبو على ابن الياس لما عاود كرمان بعد إبراهيم بن كاسك جرى مجرى بعض المتصعلكين وآمن ناحية عماد الدولة علىّ بن بويه لما ذكرناه فيما تقدّم فشارك اللصوص وصعاليك القفص [2] والبلوص فحصل عنده على طول السنين من جهتهم مال عظيم فى القلعة التي وصفناها. ولما مات علىّ بن بويه عماد الدولة وترعرع عضد الدولة فنّاخسره كان فى نفسه من هذه القلعة ما لا يظهره فلمّا استوحش اليسع بن محمد بن الياس من أبيه صار إلى عضد الدولة وأقام عنده حتى أصلح له نية أبيه وعاد إليه فوعده بولاية العهد ورياسة العسكر. ولما كان فى هذه السنة وقع القفص [3] على قافلة عظيمة وغنموا أموالا عظيمة للتجار فخرج إليهم محمد بن الياس يطلب نصيبه من غنيمتهم فأصابه فى الطريق علة الفالج وردّ إلى منزله واستمرت به العلة فجمع أكابر أولاده وهم ثلاثة: اليسع وسليمان والياس، فخاطبهم بما ظنّ أنّه يجمع كلمتهم واعتذر [319] إلى اليسع من النبوة التي سبقت منه حتى فارقه ثم جمع إليه   [1] . فى مط: بردشير. [2] . فى مط: القصص. [3] . وهنا فى مط أيضا: القفص. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 تدبيره عسكره [1] وولاية عهده ومن بعده الياس. فأمّا سليمان فإنّه أشار عليه بأن يرجع إلى بلده وهو الصغد وأظهر له تذكرة فيها ثبت دفائنه وودائعه هناك وأراد بذلك أبعاده عن اليسع لعداوة كانت بينهما فأظهرت الجماعة قبول أمره والانتهاء إلى رأيه. وشخص سليمان نحو الصغد بما قسمه له. فلمّا صار بظاهر المدينة عدل عن ذلك السمت وقصد القفص وطلب منهم ذلك القسم الذي كان أبوه شخص لتسلمها، فتمّ له الوصول إليه وأخذ منهم مالا جليلا واستضم إلى نفسه جماعة منهم ليقوى بهم ثم عاد إلى السيرجان وكان يتولاها من جهة أبيه. فلمّا بلغ أباه ما صنع، غضب من مخالفته إيّاه واغتاظ منه فأمر اليسع بطلبه وقوّاه بالرجال وقد كان العسكر مطيعين له وأمره إن يضطرّه إلى الخروج إلى الصغد أو معاودة حضرته ليقبض عليه ووصّاه إن خرج نحو الصغد أن يخلّى له الطريق ولا يتبعه. فخرج اليسع إلى السيرجان وتحصّن سليمان منه واقتتلا أيّاما. ثم استظهر اليسع فحمل سليمان جميع ما كان حصل له وخرج من باب من أبواب المدينة قاصدا [320] خراسان فتركه اليسع امتثالا لأمر أبيه وعاقب جماعة من أهلها الذين كانوا عاونوا سليمان عليه ثم صفح عنهم. ذكر اضطراب أمر اليسع مع أبيه حتى استبدل به وما آل إليه أمره حتى أخرج أباه إلى خراسان مكرها كان فى جملة محمد بن الياس رجل يعرف بعبد الله بن مهدى ويلقب   [1] . كذا فى مط ومد: عسكره. والأصل يمكن أن يقرأ «تدبير معسكره» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 ببسّويه شديد الغلبة عليه والتمكن منه وبينه وبين اليسع وحشة متأكدة. فخافه على نفسه فاجتمع مع إسرائيل المتطبب وكان أيضا مكينا عنده، ومهندس كان معه يقال له: المرزبان على إفساد نية أبى على ابن الياس على ابنه اليسع وشككوه فيه وحركوا ما كان فى نفسه قديما منه وأشاروا عليه بأن ينقض ما عقده له من تدبير جيشه ويجعله لحاجب من حجابه يقال له: ترمش [1] ، ليكون الأمر غير خارج عن يده ما دام حيّا. وليكن غلامه صاحب جيشه فيتصرف معهم على رأيه. فقبل منهم هذا الرأى وكتب إلى اليسع بأن ينكفئ إليه واستدعاه إلى القلعة وكان لا يصعدها إلّا وحده دون كل أحد على رسم القلاع. فلمّا حصل عنده وليس فيها إلّا هو وهؤلاء الثلاثة ونفر من ثقات أصحابه وجماعة حرمه وجواريه قبض عليه وقيّده وفوّض أمر الجيش إلى ترمش الحاجب فلم يجتمعوا عليه ولا رضوا به. فمشت والدة [321] اليسع إلى والدة الياس وقالت لها: - «إنّ صاحبنا كان عقد لولدينا عقدا هو الصواب، لكنّه قد اختلّ عقله وعزب رأيه بهذه العلة وغلب عليه هؤلاء الثلاثة وتمّ لهم على ابني ما سيتمّ مثله على ابنك وحينئذ تخرج هذه المملكة عن آل الياس وتنتقل إليهم وإلى من نصبوه [يعنى ترمش الحاجب] والصواب أن تساعديني على تخليص ولدي ليكون الأمر جاريا مجراه الأول.» فساعدتها وقبلت رأيها. وكان ابن الياس ربما أغمى عليه فى علّته فاتفقت المرأتان على أن جمعتا الجواري وكان عددهن كثيرا وقصدن عبد الله بن مهدى بسّويه ليوقعن به.   [1] . فى مط: ترمس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 فاتفق له أن أفلت وهرب واستنقذن اليسع وعالجن قيده فلم يكملن لكسره وخشين فوت الأمر فاتخذت له أمّه حبالا متينة من ثياب ديباج حتى تدلّى من القلعة إلى الأرض لأنّها لم تتمكن من إخراجه من باب القلعة. فلمّا حصل فى الأرض رآه بعض الجند فكسر قيده وأعطاه دابّته فركب وتوسّط العسكر فاستبشروا به وعادوا إلى طاعته وخدمته. وهرب ترمش الحاجب وجمع اليسع الجيش ليسير بهم إلى تحت القلعة ويحاصرها ويتغلّب عليها، وكان الشيخ فى جميع ذلك [322] مغمى عليه [1] لا يعقل شيئا مما جرى. فلمّا أفاق من غمرته وعرف الصورة راسل اليسع واطلع عليه وسأله أن يكفّ عنه ويؤمنه على نفسه وحرمه ومن معه حتى يسلم إليه القلعة مع جميع أعمال كرمان ويرحل إلى خراسان ويكون عونا له هناك متى احتاج إليه. فأجابه ابنه إلى ذلك ومكنه من جميع ما أراد فاحتمل مائة وقر من المال والثياب والجوهر وفاخر المتاع واستصحب ثلاثمائة غلام من غلمانه وما احتاج إليه من الآلات والكراع وشعّث القلعة وأحرق بقية ما كان فيه من الآلات والكسوة ورحل فلم يؤاخذه اليسع بما فعل بل احتمله ووفّى له بالأمان الذي بذله وتركه حتى نفذ إلى مقصده [2] . وتسلم اليسع القلعة وظفر بأولئك النفر الثلاثة وسلّمهم إلى كاتبه ومدبر أمره أبى نصر محمد بن إسماعيل البمّى وأمره بمطالبتهم فاستخرج منهم مالا عظيما. وتلف إسرائيل الطبيب ثم وجه للمعروف ببسّويه كتابا كتبه إلى خراسان فيه الإغراء به والذم له وكان قد عفا عنه فأعاده إلى العقوبة حتى هلك فيها.   [1] . والعبارة فى مط: وكان الشيخ معما عليه من جميع ذلك لا يعقل شيئا. [2] . فى مط: صفده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 وابتدأ فنّاخسره عضد الدولة فى تخبيب [1] رجال ابن الياس فاستأمن إليه أكثر الديلم والأتراك وكان حينئذ أبو على ابن الياس بخراسان يطمع [2] صاحبها فى مملكة [323] الديلم فكان من عاقبته ما شرحناه من موت وشمكير وغير ذلك. وتفرّغ عضد الدولة لقصد كرمان ودسّ إلى كلّ من له رأى أو نجدة من خبّبه وأصلح قلبه له. ثم توجّه إليها فافتتحها ودخلها فى شهر رمضان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، واستولى على جميع أعمالها وملك قلعة بردسير وهي عظيمة فيها عدة قلاع متصلة بعضها ببعض، وانهزم اليسع إلى خراسان وصادف وصول اليسع إلى خراسان موت والده، فاحتوى صاحب خراسان على ما سلم معه من بقية ماله وكراعه. ولما تمّ لعضد الدولة فتح كرمان واتصل خبره بصاحب سجستان كاتبه وترددت بينهما الرسل حتى صالحه وخطب له وهو أبو أحمد خلف بن أبى جعفر المعروف بابن بانويه. وأنفذ إلى عضد الدولة من الحضرة ببغداد عهد الخليفة وخلعه من الطوق والسوارين والعقد على أعمال كرمان كلّها. فقلد عضد الدولة هذه الأعمال أكبر أولاده أبا الفوارس شيرزيل واستخلف له عليها كوركير بن جستان وكان وجه قوّاد عسكره وانصرف إلى شيراز. ودخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة [324] وفيها استأمن حمدان بن ناصر الدولة إلى بختيار ودخل إلى مدينة السلام. ذكر السبب فى ذلك   [1] . تخبيب: كذا فى الأصل ومد. ما فى مط مهمل. [2] . فى مط: فطمع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 كان ناصر الدولة قلّد حمدان ابنه الرحبة وسوّغه ارتفاعها وكان أبو تغلب وأخوه أبو البركات- وأختهما المسماة جميلة- بنى [1] زوجته فاطمة بنت أحمد الكردي وكانت مالكة أمر [2] أبيهم. فاستولى أبو تغلب على مالها وأموال ناصر الدولة وقلاعه وكانت هي مدبّرة جميع ذلك وتطابقت الجماعة على الشيخ وغلبوه على جميع ذلك ولم يكن له بهم طاقة لتناهيه فى الكبر والضعف. فابتدأ يدبر القبض عليهم وكاتب ابنه حمدان ليستظهر به ويعتمده فيما همّ به، فظفروا بكتابه هذا ولم ينفذوه وزاد ما بينهم شروقا وانفراجا حتى خافوه، ودخل معهم فى الخوف كاتبه وأكابر غلمانه الذين تابعوا أبا تغلب، فاجتمعوا وقبضوا عليه ليلا وحملوه إلى القلعة. واتصل ذلك بحمدان فامتعض لأبيه وكان عدوّا مباينا لإخوته هؤلاء وهو أشجع [3] أولاد ناصر الدولة وأفرسهم وكان قد سار عند وفاة عمّه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقّة فملكها ثم سار من الرقة إلى نصيبين. واستفزّ على أبى تغلب من أطاعه [325] من أهله وإخوته وجندهم وطالبهم بالإفراج عن أبيه وردّه إلى منزله وأمره فتوجّه إليه أبو تغلب فانهزم حمدان من بين يديه قبل اللقاء وتحصّن بالرقّة ومنها فى الرافقة ونازله أبو تغلب عليها طويلا ثم اصطلحا على دخل [4] وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.   [1] . وفى الأصل: بنو. [2] . فى مط: أمّ. [3] . فى مط: أسجع. [4] . كذا فى الأصل ومط: والمثبت فى مد: ذحل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 موت ناصر الدولة وعاش ناصر الدولة شهورا ومات فى سنة ثمان وخمسين واستعمل أبو تغلب وعمّاله كلّ قبيح مع حمدان فى ضياعه وأملاكه وطرد عنها وكلاؤه وانخرقت الحشمة بينهما فأنفذ إليه أخاه أبا البركات فى جيش كثيف فلمّا قرب منه استأمن إليه معظم أصحاب حمدان فخرج عن البلد منهزما واحتمل حرمه وعياله وغلمانه ومن تبعه وورد هيت مستأمنا إلى بختيار وكتب إليه يستأذنه فى الدخول فأجابه بالإذن والقبول وخرج فتلقّاه ومعه سبكتكين الحاجب وجماعة جيشه وأنزله فى دار حسناء وفرشها فرشا فاخرا وحمل إليه هدايا من مال وافر وثياب فاخرة وطيب وفرش وبغال ودوابّ بمراكب ذهب وفضّة وتكفّل بالتوسّط بينه وبين أخيه أبى تغلب وأنفذ إليه أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي [1] نقيب الطالبيّين برسالة فى الصلح فتم بينهما وحلف لكل واحد صاحبه وشخص حمدان إلى الرحبة [326] وحمل إليه بختيار هدية مثل الأولى وزيادة مع جمال وآلات السفر فرحل وشيّعه بختيار مع جيشه ثم عاد مستأمنا دفعة ثانية على ما سنذكره. دخول جوهر مصر وفى هذه السنة ورد الخبر بدخول جوهر صاحب أبى تميم العلوي صاحب المغرب مصر فاشتمل عليها وتقطع جيش كافور وجماعة الأخشيدية وتمزّقوا.   [1] . فى مط: الموسرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 وفيها نفى شيرزاد بن سرخاب كاتب الفارسية عن مدينة السلام ذكر السبب فى ذلك كان شيرزاد مستوليا على بختيار كما حكيناه وأسرف فى التجبر وحلف بختيار على أن لا ينفذ عزما ولا يقرّر أمرا إلّا بعد مشاورته ورضاه وتحقق بالجندية وادّعى الشجاعة وأعاره الناس من ذلك ما لم يكن عنده تقرّبا إليه وكثر تعلقه بالأموال والتلاجى [1] وشره إلى اكتساب الأرباح من غير وجوهها ولم ينقبض عن شيء همّ به ولم يمكن أحدا أن يعتصم منه. ومنع بختيار من عطاياه التي كان يبذلها للديلم والأتراك وقوّى عزيمته على الثبات والتماسك وخاض معه فى إيقاع حيلة على سبكتكين الحاجب وقيل إنّه واطأ بعض الديلم على الفتك به إذا حضر الدار ليتسع [2] بأمواله ونعمته. وعزم على تقلد الجيش والتسمية [327] بالاسفهسلار فبلغ ذلك سبكتكين وامتنع أن يلقى بختيار أو يدخل داره إلّا فى الأحايين البعيدة على تحرّز واستظهار. وثقل أمر شيرزاد على الجند لأنّ بختيار كان عوّدهم ألّا يردّهم عن شيء يلتمسونه من واجب ومحال وقليل وكثير، فمنعه شيرزاد من ذلك وناصبه الكتّاب أيضا العداوة للخوف من شرّه وانقباض أيديهم عمّن يلتجئ إليه وكثر الدعاء عليه من أفناء [3] الناس. واجتمع الأتراك على عداوته وصاروا ينسبون كلّ حال يكرهونها وينكرونها إليه. وأخذ الوزير أبو الفضل يتحرّز منه لما فسد بينه وبينه   [1] . التلجئة هي أن يلجّئ الضعيف ضيعته إلى قوىّ ليحامى عليها. قاله صاحب مفاتيح العلوم. [2] . من هنا إلى «بالاسفهسلّار» ساقط من مط. [3] . فى مط: أصناف الناس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 ويستمل الأتراك ويوسع عليهم فمشى بعضهم إلى بعض وتوافقوا على الفتك به، ثم رأوا أن يستأذنوا سبكتكين الحاجب فقصده جماعة لذلك. ونمى الخبر إلى بختيار فتقدم إليه بالمصير إلى سبكتكين واستصلاحه وطرح النفس عليه ومسألته كفّ القوم وضم إليه الوزير أبا الفضل ليعاونه وبينهما إذ ذاك منافقة لم ينهتك سترها. فقصدا سبكتكين ووجدا طائفة كثيرة من الأتراك عنده يستأمرونه فى قتل شيرزاد فلم يأذن لهم ولكن أمرهم بتخويفه حتى يهرب وألّا يقارّوه بالحضرة. فأمسكوا عن قتله [328] بعد أن همّوا به. وكان يجرى أمره مجرى صالح بن وصيف بسرّ من رأى أيام المهتدى بالله. فلمّا وصل شيرزاد وأبو الفضل الوزير إليه وخاطباه وتضرّعا إليه صدّقهما عن الصورة وأعلمهما أنّه لولا خطره على الأتراك لقتل شيرزاد ولما تركوه أن يصل إليه وأشار عليه بالرحيل من ساعته إلى حيث شاء. فخرج وهو يائس من صلاح حاله وخائف على مهجته فصادف الأتراك مجتمعين فى دار سبكتكين يموجون فى أمره ويتوعدونه ويغلظون له ويشتمونه، فأسرع الخروج إلى حضرة بختيار وعرّفه ما جرى، ثم التفت إلى الوزير فأسمعه غليظ ما يكره وقال له: - «هذا من عملك وتدبيرك.» فحلف له بالطلاق على براءته مما ظنّه به فأجابه بيمين الطلاق أنّه كاذب فى جحوده. ثم خلا بختيار بشيرزاد فحذّره شيرزاد من الوزير أبى الفضل وعقد معه عقدا وعهد إليه عهدا فى صرفه عن الوزارة والقبض عليه واستصفاء نعمته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 ونعم أسبابه وواقفه [1] على أن يحرس عليه بعد خروجه داره وأهله وولده وضياعه وأن يوقع عليه اسم ابنه سلّار بن بختيار لتنحسم عنها أطماع الديلم والجند إلى أن يستصلح نيّات الأتراك ونيّات سائر العسكر [2] [329] ثم يعود إلى حاله ويجرى على رسمه فى الخدمة وانحدر فى الوقت إلى الأهواز ثم صار منها إلى أرجان وبها يومئذ الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد. وكان حاجبه روين [3] قريبا لشيرزاد وكان قد توفّى ففجع به جدا ووجد به وجدا شديدا. فلمّا وصل إليه شيرزاد رأى فيه شبها منه وتخيل فيه شمائله فعطف عليه وتحفّى له وأكرمه وحمل إليه مالا وكسوة وكتب له إلى ركن الدولة كتبا مؤكّدة ووعده بتوسط أمره وأشار عليه أن يخرج إلى حضرة ركن الدولة بكتبه ويقيم ببابه إلى أن يرد بنفسه فيتوسط أمره فاتفق أن خرج إلى الرىّ وتوفّى بها. وكان من سوء ملكة بختيار وقلة وفائه أنّه ثانى يوم خروجه قبض إقطاعه وضياعه وأملاكه وجواريه ودوره ونكب كاتبه وأسبابه واستثار أمواله وودائعه ونقل ابنه سلّار الى داره وسلّم إليه إقطاعه لا على الأصل الذي قرّره معه شيرزاد بل على أن يصير له ذلك خاصة يتوفر عليه. القبض على الوزير أبى الفضل العباس وحكى أيضا أنّ نفى شيرزاد كان فى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. ثم أنّه بعد شهرين من نفى شيرزاد قبض على وزيره أبى الفضل العباس بن الحسين وكتّابه وأسبابه واستصفى أموالهم وقلّد الوزارة [330] أبا الفرج محمد   [1] . فى مط: وافقه. وهو المثبت فى مد. [2] . فى مط: سائر العرب. [3] . فى مط: ذوير. والضبط فى الأصل هنا كذا: روين. وفى بعض المواضع: ردين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 بن العباس وقلّد الديوان [1] أبا قرّة الحسين بن محمد القنّائى. ودخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ذكر السبب فى القبض عليه كان أبو الفضل الوزير استخدم أبا قرّة وهو رجل من دير قنّى حسن الذكاء قد نشأ بين كتّاب واسط وعمّالها وتخرّج معهم واختصّ بأحمد ابن علىّ القنّائى فتمهّر ولم يزل يتدرّج فى التصرف حتى تقلد واسط رئاسة من قبل السلطان فاقتنى أموالا جليلة وصارت له نعمة ضخمة وكان شديد الجرأة على السلطان يقدم على أمواله إقداما لا يقدم عليها غيره هذا مع اهتداء إلى وجوه الحيل عليه ومعرفة بوجوه الارتفاق والارفاق فإنّه كان يرفق الوزراء والعمال باليسير ويتوصل به إلى الارتفاق الكثير. فاضطرّ أبو الفضل فى وزارته لبختيار عند الحاجة والإضافة إلى معاملته وكان يسعرها فى وقت البيدر فربما قام عليه الكرّ بثلاثة أكرار. هذا إلى أمثال ذلك فى معاملات الحنطة وغيرها وعظمت نعمته وتمكن من رعيّته بواسط فانبسطت يده عليهم [331] فتأوّل عليهم وقوى بأموالهم. وكان الواحد منهم إذا تظلّم منه لم ينصف وردّ إليه أمره فيبسط المكروه عليه فصارت رعيته تشكره على طريق الخوف منه. ولما غاب أبو الفضل الوزير إلى الموصل أيّام معز الدولة مكّنه واستخلفه ببغداد ووصل بينه وبين شيرزاد كاتب الفارسية ليعزّه ويمنع منه مراغمة أبى الفرج محمد بن العباس. فكان أبو قرّة يهدى إلى شيرزاد ويلاطفه ويكثر وجوه المرافق والمبارّ له ليمنع من الاستيفاء عليه وتأكدت الحال بينهما حتى   [1] . والمثبت فى مد: الدواوين. خلافا للأصل ومط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 انقطع إليه ولم يتمكّن أحد من الرجلين منه أعنى أبا الفرج وأبا الفضل وكانا يومئذ كاتبين لا يتسمى أحد منهما بالوزارة طول أيّام معز الدولة. وكان أبو قرّة يرفع حسابه على ما يريد ولا يتمكّن أحد من الكتّاب أن يستوفيها عليه فيقرر بأكثر ارتفاع ضمانه سوى الأرباح التي ذكرناها وسوى ما يستغلّه من أملاكه وسوى ما يستخرجه من المصادرات والمصانعات. وكان شيرزاد يطالب الوزير أبا الفضل بما كان واقفه [1] عليه إذا تمّم له الوزارة وكان أبو الفضل يعتدّ عليه بما يصل إليه من جهة أبى قرّة وقال له: - «هذا الرجل عاملي وإنّما ضممته إليك لينوب عنّى [332] عند غيبتي عن مدينة السلام وقد حصل لك من جهته ما ينبغي ان أحتسب به عليك وتعتدّه لى.» ويستجيبه شيرزاد بأنه لا يحتسب له إلّا بما يصل إليه من صلب ماله وخاص إقطاعه وارتفاقاته. ولم يزل ذلك يتردد بينهما حتى استوحش كل واحد من صاحبه واستوحش أبو قرة أيضا واختص زيادة اختصاص بشيرزاد. فطمع فى المنازل العالية لما يرجع إليه من الكفاية فى نفسه ثم للحال المتأثلة واليسار العظيم واضطر الوزير إلى مغالطته عن نفسه وإيناسه والاستعانة به على شيرزاد وهو كان سبب اتصاله به. فلمّا تمّ على شيرزاد ما تمّ من النفي همّ الوزير بالقبض عليه ثم أمهله ودبّر أمره على أن تدرك غلّاته وخشي فى الحال إن مدّ يده، أن تنقطع مادة ما كان يقيمه من قضيم الكراع وواقف [2] بختيار على أنّه يستخرج منه عند حضور الوقت مائتي ألف دينار. وكان بختيار لا يضبط لسانه ولا يكتم شيئا من أسرار نفسه ولو فيما جرّ   [1] . كذا فى الأصل: واقفه. والمثبت فى مد: وافقه. [2] . كذا فى الأصل: واقف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 عليه ذهاب النفس والملك فأخرج حديثه وسرّه فبلغ أبا قرة ما جرى وكان يخشى عداوة أبى الفرج فصار يخشى عداوة الوزير ولم يكن له وزر [1] غير شيرزاد [333] وكان قد نفى فاضطرب واحتال حتى توصل إلى سبكتكين الحاجب وبذل له على يد أبى بكر الإصبهانى صاحبه وثقته ذلك المال الذي كان يرتفق به شيرزاد بن سرخاب. فنصره سبكتكين نصرة زادت على نصرة شيرزاد فصار فى ظل أحصن من الظل الأول وتعذّر على الوزير أن يملأ عينه منه فضلا [عن] أن يمدّ يده إليه. فحينئذ اجتمعت على أبى الفضل الوزير أمور منها: الإضاقة وانقباض يده عن استيفاء الحقوق ومنها مطالبة بختيار له بالقروض [2] التي كان اقترضها ولم يتسع لردّها عليه ومنها: عداوة سبكتكين له وخوفه من حيله ومكايده ومنها: حسده له على ظاهر حاله وما جمع من الغلمان والحجاب والمروءة الظاهرة ومنها: استمالته وجوه الأتراك ومكاثرته إياه فى الإحسان إليهم ومنها: عداوة بختكين آزاذرويه وكاتبه سهل بن بشر إيّاه لقصده إيّاهما بالأهواز واستقصائه عليهما ومصادرته إيّاهما ومنها: عداوة صاحب الديوان أبى الفرج وأخيه علىّ بن العبّاس على قديم الأيّام ومنها: انقلاب أبى قرّة للأسباب التي ذكرناها، فخلا من كل صديق ومعين واصطلحت هذه الطائفة عليه. ثم اضطرّ [334] أبو الفرج محمد بن العبّاس إلى مصادقة أبى قرّة ليتعاضد على أبى الفضل لا لمودّة حقيقية فاتّفقا على أن يخاطبا سبكتكين الحاجب   [1] . الوزر: الملجأ. شر السباع العوادي دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر [2] . فى الأصل ومط: القرض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 فى مراسلة بختيار ومواقفته [1] على القبض على أبى الفضل وضمنه أبو الفرج محمد بن العبّاس تسعة آلاف ألف درهم يستخرجها منه ومن خلفائه وكتّابه وجميع المتصلين به على أن يتقلّد الوزارة ويتقلّد أبو قرّة الديوان. ففعل ذلك وقبض على أبى الفضل كما سبق القول فيه. فلم يلبث محمد بن العبّاس أبو الفرج فى وزارته إلّا يسيرا حتى اضطربت أموره ولم يف بما ضمنه لبختيار وتمكن أبو قرة من السعى عليه وردّ أبى الفضل إلى وزارته وضمن لبختيار تصحيح سبعة آلاف ألف من جهته بضمان سبكتكين عنه. شرح الحال فى ذلك وسبب تمكن أبى الفضل بعد نكبه [2] حتى أعيد إلى الوزارة ومكن من أبى الفرج لما خلع على أبى الفرج الخلعة التي تخلع على الوزراء ومكن من أبى الفضل وسلّم إليه مع جميع أسبابه والمتصلين به اتسع بما راج له من جهاتهم وحبس أبا الفضل فى داره وضيّق عليه وبحث عن أمواله وأموال أهله وحرمه بغاية ما أمكنه. فلمّا وقف عليه الأمير طالبه بالمال وناظره فاستقرّ ما بينهما على أن التزم ثلاثة آلاف ألف درهم يحتسب منها [335] بما صحّ من خاص أمواله وأثمان غلّاته وآلاته وكراعه ويوفّى ما يبقى واشترط أن يوسع عليه ويسهل الاذن لمن يدخل إليه ليستسعفهم ويقرض منهم. فأحجم أبو الفرج محمد ابن العبّاس عن التنفيس عنه خوفا من نفاذ حيلته عليه وأعاده إلى الحبس   [1] . كذا فى الأصل: مواقفته. والمثبت فى مد: موافقته. [2] . كذا فى الأصل: نكبه. فى مط: نكبته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 والتضييق وانفسخ ما قرّره معه وعطف على أسبابه فثنّى المصادرات عليهم وعسفهم وأرهقهم وجازفهم ومات فى حبسه صهر لأبي الفضل العباس بن الحسين يقال له: إبراهيم بن محمد الدهكى، فاتهم به وأنّه قتله بالعذاب والمطالبة. وخلع على أبى قرة لتقلّد الديوان بعد أن أرفق بختيار بمال على ذلك وأقرّت [1] واسط فى يده فصار ضامنا لها خاصة مستوفيا على غيره من الضمناء وتلقّب بالرئيس لأن أبا الفرج كان أيّام تقلّده الديوان متلقّبا بهذا اللقب فأنكر أبو الفرج ذلك على أبى قرة وأمر الناس أن يخاطبوه بالوزير الرئيس تحصينا لهذا اللقب عن أبى قرة. ذكر فساد الحال بين الوزير وبين أبى قرّة وما تمّ له من عزله وتولية أبى الفضل وابتدأ أبو قرّة يطالب بجميع مراتب أبى الفرج التي كانت له قبل الوزارة وزعم أنها من [336] حقوق صاحب الديوان ويجب أن يستوفيها. فاضطربت الحال بينه وبين الوزير أبى الفرج ولم يزل يتزيد حتى ترامت إلى نهاية الفساد وضمن أبو قرّة عن هذا اللقب مالا ثانيا حتى أمضى له وخرج الأمر بأن يخاطب به. وكان معزّ الدولة أطلق لأبي الفرج وأبى الفضل عند إخراجه إيّاهما إلى جهتي عمان والبطيحة للحرب عليهما أن يضربا على أبوابهما بالدبادب فى أسفارهما عند حضور أوقات الصلوات. فصار ذلك رسما لهما استمرّا عليه ولم يقطعاه عند انصرافهما من وجه الحرب. فلمّا تقلّد أبو قرة الديوان أجراه   [1] . فى مط: وأمرت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 مجرى حقوق العمل التي تستوفى واحبّ أن يضرب على بابه بالدبادب. فسأل بختيار ذلك فأجابه إليه ومنعه أبو الفرج الوزير منه وأنكر، ثم بذل فيه أبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك. ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة مالا فخرج أمر بختيار بأن يطلق له ذلك ثم خرج الوزير أبو الفرج وأبو قرة فى التنافس إلى أبعد غاية وفى العداوة إلى أقصى نهاية. وكان صاحبهما لاهيا عنهما واتصلت المنازعة بينهما فى أمثال هذه الأشياء ولم تحفظ مرتبة الوزارة وفضلها على غيرها حتى لم تتميز من سواها. فتقدّم الوزير أبو الفرج إلى كتّابه بعمل لأبى قرة ومؤامرة تشتمل على ما يجب عليه فى مردود حسباناته التي عملها فى سنى ضمانه وإثارة جميع ما غبن فيه السلطان ومرافقه القديمة [337] والحديثة فعملت هذه المؤامرة واشتملت على ستة آلاف ألف درهم ونسبت هذه الأموال إلى جهاتها وعرضت على بختيار وأطمع فى وجوبها وأن حاله تفي بها فأمر بمطالبته. واعتصم بسبكتكين الحاجب فحامى عليه واغتاظ بختيار من تعززه عليه ووجد خصومه الطريق إلى إغرائه به وأقاموا فى نفسه أنّه سيحمل سبكتكين على خلع طاعته وإزالته عن مملكته. فأنفذ بختيار إليه نقيبا ووكّله به فى دار سبكتكين ثم أنفذ ثانيا يستدعيه وضعف سبكتكين عن مقاومة صاحبه بختيار ومنابذته وكان شاع عنه أنّه إنّما يحامى على أبى قرة لمرفق يأخذه منه، فترك الإغراق فى نصرته وسلمه إلى بختيار على موجدة فى نفسه وحمية فى قلبه ووعد أبا قرة أنّه سيتكلم فيه ويستنقذه. فلمّا صار عند بختيار سلّمه إلى الوزير أبى الفرج وأمره باستخراج المال فضعف الوزير عن منابذة سبكتكين فيه ولم يقدم على عسفه ولم يسكن إلى إطلاقه فحصل معتقلا اعتقالا جميلا ووقفت الأمور التي كان ينظر فيها من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 إقامة القضيم للكراع ومهمات التسبيبات عليه. وندم سبكتكين على تقليد أبى الفرج الوزارة ومساعدته على نكبة أبى الفضل وتذكر ما كان يعامله به من المجاملة والنفاق ورأى [338] أنّه على علّاته [1] كان أصلح له من أبى الفرج وضعف قلب أبى الفرج بفساد رأيه. وكان أخوه أبو محمد على بن العبّاس الخازن مستوليا على بختيار مالكا لقياده لا يفارق مجلسه عند الأنس والمنادمة فأشفق أن يجرى عليه من سبكتكين ما جرى على شيرزاد منه فاتفقا على إرضاء سبكتكين بإطلاق أبى قرّة وتقرير أمره على مال قليل لا يؤثر فى حاله وأن يصير إلى واسط على رسمه الأوّل ويعتزل الديوان. فلمّا أفرج عنه أقام القضيم ونفذ الأمور المتعلّقة به وانحدر إلى واسط بعد أن واطأ سبكتكين على السعى لأبى الفضل فى الوزارة وإنقاذه من محبسه والقبض على أبى الفرج وأبى محمد على بن العبّاس وأسبابهما. وقد كان الوزير أبو الفرج عطّل ديوان أبى قرّة ونقل الأعمال عنه واستبد بمكاتبة العمال وكان له كاتب أهوازىّ يعرف بابن السكر قد اتسمت حاله فشرع فى تقلّد هذا الديوان وبذل لبختيار مالا يصحّحه له فى كلّ سنة من حقوق المحاسبات وأعلمه أنّ هذا الديوان زمام له على الوزراء وأنّ الوزير الآن مستبدّ بالجميع وفى ذلك ضياع الدخل والخرج وفساد الأصل والفرع. واتّصل الخبر بأبى الفرج فغلظ [2] عليه وعظم فى نفسه وراسل بختيار بأنه لا يصبر [339] على أن يتقلّد كاتبه هذا الديوان على مراغمته فأجابه بأنّه لا بدّ من صاحب ديوان يكون معه «فاختر أنت من تحب» فهان عليه ردّ أبى قرة إلى نفسه وكان أخفّ على قلبه وأيسر محملا من نظر ابن السكر   [1] . فى مط: علامته. [2] . فى مط: فغلط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 فيه فكوتب بالاصعاد فورد وجددت له الخلع وقلد الديوان. وكانت المراسلات بينه وبين أبى الفضل متصلة وذلك أن أبا الفضل كان واسع الصدر فأفضل على الموكلين به من غلمان الوزير أبى الفرج ووسّع عليهم وأكثر فى برّهم والإحسان إليهم فلم يمنعوه من مكاتبة من يريد مكاتبته وأوصلوا إليه كتب من كاتبه فاحتال ضروب الحيل وتمّ له أكثر ما حاوله. فلمّا ورد أبو قرّة بغداد تمكن من إتمام أمره والسعى له. واشتدت الإضاقة بأبى الفرج ووقفت عليه أموره ومطالبه. لأنّ واسط انغلقت عليه بأبى قرة والبصرة والأهواز انغلقتا عليه بالأتراك الذين استبدّوا بأموالهما فى تسبيباتهم ولم ينهض بما ضمنه عن أبى الفضل لأنّه اقتصر على أخذ ظاهره وخاف أن يطلقه ليضطرب فيحتال عليه ويسعى فى الوزارة وهو لا يعلم انه قد سعى وفرغ واجتمعت عليه مطالبات كثيرة وصارت حاله فى انحراف بختيار عنه وعداوة سبكتكين الحاجب له [340] ولأخيه وتعصّب الجند عليهما كحال أبى الفضل لمّا قبض عليه. ذكر ما احتال به فى هذه الحال وما عرض له من سوء الاتفاق لمّا أحسّ باضطراب أمره خاف أن يعاجله بختيار بالقبض عليه فأحال على أموال وقفت عليه بالأهواز وأنّه يريد الشخوص إليها فمنعه بختيار من الخروج إلّا بعد إقامة الوجوه للنفقات التي بحضرته لئلا تتوجه عليه المطالبات بعد خروجه ويقع إخلال بالإقامات فاحتاج أن يستخلف أخاه بحضرته حتى ضمن له ذلك. وواقفه [1] على وجوه ظن أنّها زاجية [2]   [1] . كذا فى الأصل ومط: وواقفه. والمثبت فى مد: وافقه. [2] . كذا فى الأصل: زاجية. زجى الخراج: سهلت جبايته. زجى الأمر: نجح وتيسّر. والمثبت فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 وأضاف إليه ابن أخته المعروف بأبى القاسم علىّ بن الحسين المشرف على أنّه ناظر فى الدواوين والحسبانات وشخص إلى واسط. وشخص أبو قرّة على أثره بعد أن قرر أمر أبى الفضل وفرغ منه ولكن تعلق طمع بختيار بالمواعيد التي وعده بها أبو الفرج والضمانات التي ضمنها أخوه. فلما حصلا بواسط ضايقه أبو قرّة فى الأمور وعارضه فى التدبير وكان مستوليا على البلد بالضمان، ثم على سائر الأعمال بحق النظر فى الديوان ثم بالعناية التي كانت له من سبكتكين. فخفف الوزير أبو الفرج المقام بواسط وبرز عنها يريد الأهواز. فحدث عند تدبيره وعمله [341] على المسير أن توفّى رجل كان متغلبا على أسافل واسط وهي أعمال نهر الصلة ونهر الفضل وكان يعرف هذا الرجل بأحمد بن خاقان وهو جار محمد بن عمران بن شاهين واستولى على هذه النواحي وكان يقاطع عنها السلطان كما يريد ولا يمكن الاستيفاء عليه وله حال قوية ونعمة عظيمة. فقدّر محمد بن العباس الوزير أن يصل إلى أمواله فانتقل إلى هذا الوجه وسبقه ابن له يقال له: خاقان، فاحتمل غلات أبيه وأمواله ودخل إلى مضايق البطيحة. ووجد أبو قرّة فرصته فأخذ فى مراسلته وتقويته وتشجيعه وأعلمه أنّه معه وعونه ثم عمل أعمالا أوجب بها لنفسه بحق الضمان الذي له فى واسط على هذا المتوفى شيئا كثيرا من الغلة والمال. ثم قال للوزير أبى الفرج محمد بن العباس انّه لا حقّ له فى شيء مما يصل إليه من أموال هذا المتوفى إلّا بعد أن يستوفى منه هذه البقايا أو يحتسب بها له من مال ضمانه. فسار الوزير أبو الفرج إلى بلاد لم يجد فيها شيئا ولو وجده لنازعه فيه   [ (-) ] مد: راجية. وفى مط: واجبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 أبو قرّة، وحصل منازلا لخاقان بحيث لا يمكنه الدخول إليه ولم يصادف فى تلك الأعمال إنسانا بكلمة ولا حبّة من غلّة ولا أثرا من مال، فجنح إلى مراسلة خاقان والتماس مصالحته. فامتنع عليه ونازله أياما كثيرة حتى ملّ [342] وساءت حاله وحال من معه وانقطعت عنهم الموادّ فاضطرّ إلى الرحيل ورضى بمال يسير لم يتمكن من استيفائه وحصل من هذا اليسير شيء يسير ووقعت المنازعة فيه بينه وبين أبى قرّة حتى اتفقا على اقتسامه وبادر بالخروج إلى الأهواز. وكاتب أبو قرّة بختيار يعلمه أنّه ليس له وجه درهم واحد وأنّه خرج «مستروحا إلى البعد عنك لتندفع عنه النكبة التي خافها من جهتك» وكتب إلى بختكين آزاذرويه يحذّره منه فكتب بختكين إلى بختيار بانّه لم يبق عليه شيء وأنّ تسبيبات الأتراك وأنزالهم تستغرق الواجب وزيادة كثيرة وأنّ محمد بن العباس الوزير إنّما يصير إلى أعماله ليتأول عليه بالمحالات ويعمل له المؤامرات ويمدّ يده إلى أموال السنة المقبلة. ووافق ذلك أن أخاه أبا محمد على بن العباس الخازن صحّح البعض من تلك الوجوه التي أقيمت بالحضرة ووقف عليه الباقي لضعف يده ولكثرة الأراجيف بأخيه وبه وبأنّ بختيار قد تمت المواقفة [1] بينه وبين أبى الفضل على إعادته إلى الوزارة وأخذ خطه فى أبى الفرج وأبى محمد أخيه وأسبابهما بسبعة آلاف ألف درهم وأنّه يطلق الاستحقاقات ويدرّ النفقات. فكتب بختيار إلى بختكين بالقبض على أبى الفرج ومن معه فى يوم وصولهم [343] إلى الأهواز وكتب إلى أبى قرة بمثل ذلك وبالاحتياط عليهم حتّى لا يفوت أحد منهم وقبض بختيار على أبى محمد الخازن أخيه وكان   [1] . كذا فى الأصل: المواقفة. فى مط: الموافقة. كما هو المثبت فى مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 جالسا معه يشرب على رسم كان له فى منادمته وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه وكان فى دار أبى الفرج وخلع عليه للوزارة. خروج ابن العميد إلى الجبل وفى هذه السنة خرج الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد إلى الجبل فى خيل عظيمة لتدبير أمرها وتقرير أمر حسنويه بن الحسين الكردي. ذكر السبب فى ذلك [1] كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوى واستفحل أمره لما وقع من الشغل عنه بالفتوح الكبار ولأنّه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار فى جملتهم وخدم خدمة يستحق بها الإحسان إلّا أنّه مع ما أقطع وأغضى عنه من الأعمال التي يتبسّط [2] فيها والإضافات التي يستولى عليها ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها فيضطر الناس إلى إجابته ولا يناقشه السلطان فكان يزيد أمره على الأيام وتتشاغل الولاة عنه إلى أن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف ومشاحّة تلاحّا فيها إلى أن قصده ابن مسافر بالحرب [344] فهزمه حسنويه وكان يظن ابن مسافر أنّه لا يكاشفه ولا يبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه فلم تقف الحرب حيث ظنّ وانتهى الأمر بينهما إلى أن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضع شبيه بالحصار ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرّقوا   [1] . روى هذه الحكاية ياقوت الحموي فى كتابه ارشاد الأريب (5: 368) عن أبى علىّ مسكويه. (مد) [2] . والمثبت فى مد: يتسط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 بإزائهم. ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كلّ فارس منهم على رأس رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريد بذلك فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير فى أيام كثيرة تقدم بطرح النار فيه من عدّة مواضع فالتهب وكان الوقت صيفا وحميت الشمس عليهم مع حرّ النهار فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف فصاحوا وطلبوا الأمان فرفق بهم وأمسك عمّا همّ به. وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل هذا كلّه له وتقدم إلى وزيره أبى الفضل محمد بن الحسين العميد- وهو الأستاذ الرئيس- بقصده واستئصال شأفته، وأمره بالاستقصاء والمبالغة. فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج فى عدّة وزينة وخرج ركن الدولة مشيّعا له وخلع على القواد ووقف حتى اجتاز به العسكر قائد بعد قائد وكوكبة بعد كوكبة، ورضى العدة والقوة [345] فودع حينئذ الوزير ابن العميد وعاد إلى الري. وسار الوزير ومعه ابنه أبو الفتح وكان شابّا قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند فهو بذكائه وحدّة ذهنه وسرعة حركته قد نفق نفاقا شديدا على ركن الدولة وهو مع ذلك لقلّة حنكته ونزق شبابه وتهوره فى الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه ويحبّ أن يسير فى خواص الديلم ويمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط من يستميل بقلوبهم ويخلع عليهم خلعا كثيرة ويحمل رؤساءهم وقوّادهم على الخيول الفرّه [1]   [1] . الفارهة: النشطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 بالمراكب الثقال ويريد بجميع ذلك أن يسلموا له الرئاسة حتى لا يأنف أحد من تقبيل الأرض بين يديه والمشي قدّامه إذا ركب وكان جميع ذلك مما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أنّ ذلك لو كان مما يترخص فيه لكان هو بنفسه قد سبق إليه. ابن العميد يصف الديلم ولقد سمعته فى كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم فى الحسد والجشع وأنّه ما ملكهم أحد قطّ إلّا بترك الزينة وبذل مالا يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد ولا يتكبّر عليهم ولا يكون إلّا فى مرتبة أوسطهم حالا وأنّ من دعاهم واحتشد لهم وحمل على حالة فوق طاقته لم يمنعهم ذلك من حسد على نعمته [346] والسعى على إزالتها وترقّب أوقات الغرّة فى آمن ما يكون الإنسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت. وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى يظنّ أنّه قد ملأ قلبه رعبا وأنّه سيكفّ عن السيرة التي شرع فيها. فما هو إلّا أن يفارق مجلسه ذاك حتى يعاود سيرته تلك فأشفق الأستاذ الرئيس فى سفرته هذه أن يتركه بحضرة صاحبه فيلج فى هذه الأخلاق ويغترّ بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهى إلى ما لا يتلافاه فسيّره معه واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا علىّ محمد بن أحمد المعروف بابن البيع، وكان فاضلا أديبا ركينا حسن الصورة مقبول الجملة حسن المخبر خلقا وأدبا. ابن العميد وابنه ابو الفتح فلمّا كان فى بعض الطريق- وكان يركب العماريّات ولا يستقلّ على ظهور الدوابّ لإفراط علة النقرس وغيرها عليه- التفت حوله فلم ير فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 موكبه أحدا وسأل عن الخبر فلم يجد حاجبا يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيرى فسألنى عن الخبر فقلت له: - «إنّ الجماعة بأسرهم مالت مع أبى الفتح إلى الصيد.» فأمسك حتى نزل فى معسكره ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام وكان يحضره كل يوم عشرة من القوّاد على مائدته التي تخصّه وعدّة من القوّاد على أطباق توضع لهم وذلك على نوبة معروفة يسعى فيها نقباؤهم. فلمّا كان فى ذلك اليوم [347] لم يحضره أحد واستقصى فى السؤال فقيل: - «إنّ أبا الفتح أضافهم فى الصحراء.» فاشتطّ من ذلك وساءه أن يجرى مثل هذا ولا يستأذن فيه. وقد كان أنكر خلوّ موكبه وهو فى وجه حرب ولم يأمن أن يستمر هذا التشتت من المعسكر فتتمّ عليه حيله. فدعا أكبر حجّابه ووصّاه بان يحجب عنه ابنه أبا الفتح وأن يوصى النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته وظنّ أنّ هذا المبلغ من الإنكار سيغضّ منه وينهى العسكر من اتباعه على هواه فلم يؤثّر كلامه هذا كبير أثر. وعاد الفتى إلى عادته واتّبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب وكان لا يخليهم [1] من الخلع والألطاف. فشقّ ذلك على الأستاذ الرئيس جدّا ولم يحبّ أن يخرق هيبة نفسه بإظهار ما فى قلبه ولا أن يبالغ [2] فى الإنكار وهو فى مثل ذلك الوجه فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوّه. فدارى أمره وتجرّع غيظه، وأدّاه ذلك إلى زيادة فى مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول فى مجلس خلواته: - «ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلّا هذا الصبى.»   [1] . فى مط: يحيلهم. [2] . فى مط: أبالغ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 - يعنى ابنه- ويقول فى مرضه: - «ما قتلني إلّا جرع الغيظ التي تجرّعتها منه.» ومما حصّلته عنه فى وجهه هذا وقد سألته عن عاقبة أمر حسنويه معه وهل إلى استئصاله سبيل فقال: - «أمّا بهذه [348] السرعة وفى هذا الزمان فلا، ولكنا سنعود عنه ونحن كما كنّا وزيادة شيء، ويعود حسنويه وهو كما كان ونقصان شيء، ثم يدبر أمره على الأيّام.» وفاة ابن العميد بهمذان وانتصاب ابنه أبى الفتح مكانه فلمّا حصل بهمذان اشتدّت علته فتوفّى بها- رحمه الله- وانتصب ابنه أبو الفتح مكان أبيه وكان العسكر كما ذكرت مائلا إليه فزاد فى بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومنّاهم وبذل لهم طعامه ومنادمته وأكثر من الخلع عليهم وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضّه على الطاعة وأومأ إلى مصالحته على مال يحمله يقوم بما أنفق على العسكر وتتوفّر بعد ذلك بقيّته على خزانة السلطان ويضمن إصلاح حاله إذا فعل [ذلك] [1] مع ركن الدولة. وكان يشقّ على سهلان بن مسافر لما فى نفسه من حسنويه ولأنّه يحبّ الانتقام منه ويكره أن ينصرف مثل ذلك العسكر عنه ولم يؤثّر فى أمره أثرا يسمع به وليّه وعدوّه إلّا أنّ أبا الفتح كان يرى أنّ مقاربة حسنويه والعود إلى صاحبه ببابه لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم وأن يلحق مكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه أولى وأشبه بالصواب- وقد كان أبو علىّ محمد بن أحمد   [1] . ما بين المعقوفتين غير موجود فى الأصل. فزدناه من مط. والعبارة فى مط: ويضمن له إذا فعل ذلك إصلاح ركن الدولة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد- فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرّر أمره على خمسين [349] ألف دينار ينكسر بعضها وجبى كورة الجبل وجمع من الدواب والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينار ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوّى نفسه وشدّ منّته وأحمد جميع ما كان دبّره وأمر بالعود إلى الحضرة بالرىّ. وكانت وفاة الأستاذ الرئيس بهمذان فى صفر ليلة الخميس السادس منه سنة ستين وثلاثمائة ففقد به الفضل أجمع وعدمت المحاسن التي ما اجتمعت لغيره فى الإسلام. ذكر جملة من فضائل أبى الفضل ابن العميد وسيرته كان هذا الرجل قد أدّى من الفضائل والمحاسن ما بهر به أهل زمانه حتى أذعن له العدوّ وسلم الحسود ولم يزاحمه أحد فى المعاني التي اجتمعت له وصار كالشمس التي لا تخفى على أحد وكالبحر الذي يتحدّث عنه بلا حرج ولم أر أحدا قطّ زادت مشاهدته على الخبر عنه غيره. فمن ذلك أنّه كان أكتب أهل عصره وأجمعهم لآلات الكتابة حفظا للغة والغريب وتوسّعا فى النحو والعروض واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارات وحفظا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام. ما حدّثنى أبو الحسن على بن القاسم فى فضائل ابن العميد ولقد حدثني أبو الحسن على بن القاسم رحمه الله قال: - «كنت أروّى ابني أبا القاسم القصائد الغريبة من دواوين القدماء لأنّ الأستاذ الرئيس كان [350] يستنشده إذا رءاه وكان لا يخلو إذا أنشده من ردّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 عليه فى تصحيف [1] أو لحن مما يذهب علينا. فكان ذلك يشق علىّ وأحبّ أن تصح له قصيدة لا يعرفها الأستاذ الرئيس أو لا يردّ عليه فيها شيئا. فأعيانى ذلك حتى وقع إلىّ ديوان الكميت وهو مكثر جدا فاخترت له ثلاث قصائد غريبة ظننت أنّها ما وقعت إلى الأستاذ الرئيس وحفّظته إيّاها وتوخّيت الحضور معه. فلما وقع بصره عليه قال: - «هات أبا القاسم أنشدنى شيئا مما حفظته بعدي.» «فابتدأ ينشده، فلمّا استمر فى قصيدة من هذه القصائد قال له: - «قف، فقد تركت من هذه القصيدة عدّة أبيات.» «ثم أنشده إيّاها. فخجلت خجلة لم أخجل مثلها. ثم استزاد فأنشده القصيدة الأخرى فأسقط فيها كما أسقط فى الأولى واستدركه عليه أيضا.» قال: «فعلمت أنّ الرجل بحر لا ينزف ولا يوبّى [2] ما عنده.» فهذا ما حدثني به هذا الرجل وكان أديبا كاتبا. ما شاهدته أنا من ابن العميد من مقدرته العجيبة على الحفظ وأما ما شاهدته منذ مدة صحبتي إيّاه- وكانت سبع سنين لازمته فيها ليلا ونهارا- أنّه ما أنشد شعر [ا] [3] قطّ لم يحفظ ديوان صاحبه ولا غرّب عليه بشعر قديم ولا محدث ممن يستحق أن يحفظ شعره. ولقد سمعته ينشد دواوين قوم مجهولين أتعجب من تعاطيه حفظ مثلها حتى سألته يوما وقلت: - «أيّها الأستاذ كيف تفرغ [351] زمانك لحفظ شعر هذا الرجل.» فقال: «وكأنّك تظنّ أنّى أتكلّف حفظ مثل هذا. إنّما ينحفظ لى إذا مرّ   [1] . كذا فى الأصل: تصحيف. والمثبت فى مد: تصحف. [2] . كذا فى الأصل ومط: يوبّى. والمثبت فى مد: يؤتى. وبّأ المتاع: عبّأه. [3] . فى الأصل ومط، وكذلك المثبت فى مد: شعر. والتصحيح منّا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 بسمعي مرّة.» وقد صدق رحمه الله فإنّى كنت أنشده لنفسي الأبيات التي تبلغ عدتها ثلاثين وأربعين فيعيدها بعد ذلك مستحسنا وربما سألنى عنها ويستنشدنى شيئا منها فلا أقوم بإعادة ثلاثة أبيات منتظمة على نسق حتى يذكّرنيها ويعيدها. وحدّثنى غير مرّة أنّه كان فى حداثته يخاطر رفقاءه والأدباء الذين يعاشرهم على حفظ ألف بيت فى يوم واحد وكان- رحمه الله- أثقل وزنا وأكثر قدرا من أن يتزيّد فقلت له: - «كيف كان يتأتّى لك ذلك.» فقال: «كانت لى شريطة، وهي أن يقترح علىّ من شعر لم أسمع به ألف بيت فى يوم واحد، يكتب وأحفظ منه عشرين عشرين وثلاثين ثلاثين أعيدها وأبرأ من عهدتها.» فقلت: «وما معنى البراءة من عهدتها.» قال: «لا أكلّف إعادتها بعد ذلك.» قال: «فكنت أنشدها مرّة أو مرتين وأسلمها ثم اشتغل بغيرها حتى أفرغ من الجميع فى اليوم الواحد.» أمّا أدبه وعلمه وأمّا كتابته فمعروفة من رسائله المدونة ومن كان مترسلا لم يخف عليه علوّ طبقته فيها، وكذلك شعره الذي جدّ فيه وهزل. فإنّه فى أعلى درجات الشعر وأرفع منازله. فأمّا تأويل القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه والمعرفة باختلاف فقهاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 الأمصار فكان منه فى أرفع درجة [352] وأعلى [1] رتبة ثم إذا ترك هذه العلوم وأخذ فى الهندسة والتعاليم فلم يكن يدانيه فيها أحد. أبو الحسن العامري يستأنف القراءة على ابن العميد فأمّا المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد فى زمانه أن يدعيها بحضرته إلّا أن يكون مستفيدا أو قاصدا قصد التعلم دون المذاكرة. وقد رأيت بحضرته أبا الحسن العامري [2]- رحمه الله- وكان ورد من خراسان وقصد بغداد وعاد وعنده أنّه فيلسوف تامّ وقد شرح كتب أرسطاطاليس وشاخ فيها. فلمّا اطّلع على علوم الأستاذ الرئيس وعرف اتساعه فيها وتوقّد خاطره وحسن حفظه للمسطور برك [3] بين يديه واستأنف القراءة عليه، وكان يعدّ نفسه فى منزلة من يصلح أن يتعلّم منه، فقرأ عليه عدّة كتب مستغلقة ففتحها عليه ودرّسه ايّاها. وكان الأستاذ الرئيس- رضى الله عنه- قليل الكلام نزر الحديث إلّا إذا سئل ووجد من يفهم عنه فإنّه حينئذ ينشط فيسمع منه ما لا يوجد عند غيره مع عبارة فصيحة وألفاظ متخيرة ومعان دقيقة لا يتحبس فيها ولا يتلعثم [4] . ثم رأيت بحضرته جماعة ممن يتوسل إليه بضروب من الآداب والعلوم فما أحد منهم كان يمتنع من تعظيمه فى ذلك الفن الذي قصده به واطلاق القول   [1] . الكلمة ساقطة فى مط. [2] . هو محمد بن يوسف وفى إرشاد الأريب (1: 411) أنّه توفى سنة 381. فليراجع أيضا (3: 124) . (مد) [3] . فى مط: نزل. [4] . فى مط: يتعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 بأنّه لم ير مثله ولا ظنّ أنّه يخلق. ابن العميد وفنّ الإصغاء وكان رحمه الله لحسن عشرته وطهارة [353] أخلاقه ونزاهة نفسه إذا دخل إليه أديب أو عالم متفرد بفن سكت له وأصغى إليه واستحسن كل ما يسمعه منه استحسان من لا يعرف منه إلّا قدر ما يفهم به ما يورد عليه حتى إذا طاوله وأتت الشهور والسنون على محاضرته واتفق له أن يسأله عن شيء أو يجرى بحضرته نبذ منه فرغب إليه فى إتمامه، تدفق حينئذ بحره وجاش خاطره وبهت من كان عند نفسه أنّه بارع فى ذلك الفن والمعنى وما أكثر من خجل عنده من المعجبين بأنفسهم ولكن بعد أن يمدّ لهم فى الميدان ويرخى من أعنّتهم ويمسك عنهم مدة حتى ينفد ما عندهم ويجزل لهم العطاء عليه. اختصاصه بغرائب العلوم فهذه كانت مرتبته فى العلوم والآداب المعروفة ثم كان يختصّ بغرائب من العلوم الغامضة التي لا يدعيها أحد كعلوم الحيل التي يحتاج فيها إلى أواخر علوم الهندسة والطبيعة والحركات الغريبة وجرّ الثقيل ومعرفة مراكز الأثقال وإخراج كثير مما امتنع على القدماء من القوة إلى الفعل وعمل آلات غريبة لفتح القلاع والحيل على الحصون وحيل فى الحروب مثل ذلك واتخاذ أسلحة عجيبة وسهام تنفذ أمدا بعيدا وتؤثر آثارا عظيمة ومرائى [1] تحرق على مسافة بعيدة جدّا ولطف كف لم يسمع بمثله ومعرفة بدقائق علم [354] التصاوير وتعاط له بديع. ولقد رأيته يتناول من مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته   [1] . فى مط ومد: مراى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 وأهل مؤانسته [1] التفاحة وما يجرى مجراها فيعبث بها ساعة ثم يدحرجها وعليه صورة وجه قد خطها بظفره لو تعمّد لها غيره بالآلات المعدة فى الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها ولا تأتّى له مثلها. شجاعته فى الحرب فإذا حضر المعارك وباشر الحروب فإنّما هو أسد فى الشجاعة لا يصطلى بناره ولا يدخل فى غباره ولا يناويه قرن ولا يبارزه بطل مع ثبات جأش وحضور رأى وعلم بمواضع الفرص وبصر بسياسة العساكر والجيوش ومعرفة بمكايد الحروب. اضطلاعه بتدبير الملك فأمّا اضطلاعه بتدبير الممالك وعمارة البلاد واستغزاز الأموال فقد دلّت عليه رسائله ولا سيما رسالته إلى أبى محمد ابن هندو [2] التي يخبر فيها باضطراب أمر فارس وسوء سياسة من تقدمه لها وما يجب أن يتلافى به حتى تعود إلى أحسن أحوالها. فإنّ هذه رسالة يتعلم منها صناعة الوزارة وكيف تتلافى الممالك بعد تناهى فسادها وما منعه من بسط العدل فى ممالكه وعمارة ما يدبره منها. إلّا أنّ صاحبه ركن الدولة مع فضله على أقرانه من الديلم كان على طريقة الجند المتغلبين يتغنّم [3] ما يتعجل له ولا يرى النظر فى عواقب أمره وعواقب أمور رعيته وكان يفسح لجنده وعسكره على طريق مداراتهم ما لا   [1] . ذا فى الأصل ومط: مؤانسته. والمثبت فى مد: أنسته. [2] . هو على بن الحسين وكنيته أبو الفرج وترجمته فى إرشاد الأريب 5: 168. (مد) [3] . والمثبت فى مط: بتغنم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 يمكن أحدا [355] تلافيه وردّهم عنه. وكان مضطرّا إلى فعل ذلك لأنّه لم يكن من أهل بيت الملك ولا كانت له بين الديلم حشمة من يمتثل جميع أمره، وإنّما يرأس عليهم بسماحة كثيرة كانت فيه ومسامحة فى أشياء لا يحتملها أمير عن مأمور. وهذه سيرة إذا عوّدها الجند لم يمكن أن يفطموا [1] عنها بل تزداد على الأيام وتتمادى حتى ينتهى إلى ما انتهى إليه جند عصرنا من تسحّبهم [2] على الملوك واقتراحاتهم ما لا يفي به دخل المملكة وخروجهم فى سوء الأدب إلى ما يخرج إليه السباع التي تضرأ ولا تقبل الأدب. ثم كان الأستاذ الرئيس ابن العميد رحمه الله مع هذه السيرة قد دارى جنده ورعيته وصاحبه مداراة لو ادّعى له فيها المعجزة لاشتبه على قوم. وذلك أنّه لمّا استوزر لركن الدولة كان تقدّمه قوم عجزة وباشروا مع عجزهم أمورا مضطربة وجندا متحكمين والدنيا فى أيديهم يملكونها كيف شاءوا لا يمنعهم أحد منها وإنّما أميرهم يسمى بالأمرة ما دام يستجيب لهم إلى اقتراحاتهم ومتى خالفهم استبدلوا به. وكان ركن الدولة وقبله عماد الدولة يوسعان عليهم فى الإقطاعات ويبذلان لهم من الرغائب ما لا يبقى لهم معها حجة ولا موضع طلبة وهم مع ذلك يتحكمون ويبسطون أيديهم ويطمعون فيما لا مطمع فيه وكان قصارى الوزير والمدبر أن يقيم [356] كل يوم وجها لنفقة الأمير يومه ذلك من مصادرة العامة أو قرض من الخاصة أو حيلة على من يتهم بيسار كائنا من كان، وربما تعذّر عليهم قضيم الكراع يوما ويومين. فاما نفقات الحشم وجراياتهم وما يقيم أرماقهم فكانت تتمحّل وربما امتنع عليهم إقامتها أياما،   [1] . فى مط: أن يعظموا. وهو تصحيف. [2] . كذا فى الأصل. تسحّبهم. فى مط: تشحبهم. تسحّب عليه: تدلّل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 ومع ذلك فإنّ هؤلاء المدبّرين كانوا لا يتمكنون من الفكر فى وجوه الحيل لكثرة من يزدحم عليهم من الجند- أعنى الديلم والأتراك- وخاصة من يطالبهم بالمحالات فيهربون منهم ويتواعدون من الليل إلى مواضع غامضة يجتمعون فيها وربما خرجوا إلى الصحراء ويجتمعون على ظهور دوابّهم ويثنون أرجلهم على أعناقها بقدر ما يديرون [1] الرأى فى وجه الحيلة واقامة وظيفة ذلك اليوم فإذا تمّ لهم ذلك فهو عيدهم ونشاطهم وغاية كفايتهم فى صناعتهم. فلمّا تولى الأستاذ الرئيس ابن العميد- رحمه الله [2]- وزارة الأمير ركن الدولة استقام الأمر حتى رأيناه يركب إلى ديوانه من دار السلطان ولا يلقاه غير خاص كتّابه ثم يلقى صاحبه فلا يدور بينهما إلّا عوارض المهم الذي لا يخلو [3] من مثله ملك ووزير، وضبط أعماله ونظم أموره ورتّب أسباب خدمته حتى كان أكثر نهاره مشغولا بالعلم وأهله. وبسط عدله وأقام هيبته فى صدور الجند [357] والرعية حتى كان يكفيه رفع الطرف إلى أحدهم على طريق الإنكار فترتعد الفرائص وتضطرب الأعضاء وتسترخي المفاصل. وقد شاهدت من ذلك مواقف كثيرة لو شرحتها لأطلت هذا الفصل إطالة تخرج عن غرض الكتاب. ولولا أنّ صاحبه كان لا يستجيب إلى عمارة نواحيه كما حكيته فى أول هذا الجزء خوفا من إخراج درهم واحد من الخزانة ويقنع بارتفاع ما يحصل للوقت ويرى أنّ دولته مقرونة بدولة الأكراد فلذلك لا يمنعهم من العيث ولا يطلق يد حماة الأطراف فى قصدهم ويرضى أن يقال له:   [1] . كذا فى الأصل: يديرون. فى مط: يدبرون. وما فى مد أيضا: يدبرون (خلافا للأصل) . [2] . فى مط: رضى الله عنه. [3] . فى مط: يخلو. بدل «لا يخلو» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 - «قطعت القافلة وسقيت المواشي» فيقول: - «لأنّ هؤلاء أيضا، يعنى الأكراد، يحتاجون إلى القوت» . ولقد قيل مرة: - «إنّ الأكراد وقعوا على بغال له خرجت للعلوفة فساقوها وذلك بالقرب من البلد وبحيث يلحقون إن طلبوا.» فقال فى الجواب: - «كم كانت البغال.» فقيل: «ستة.» فقال: «وكم كانت عدة الأكراد.» فقيل: «سبعة.» فقال: «سيقع بينهم الخلاف. كان يجب أن تكون البغال سبعة بعددهم.» فإذا كان هذا رأيه فى الإنكار على أهل العيث وذلك رأيه فى توفير العمارات واستغزار الأموال فما حيلة وزيره ومدبّره؟ فتأمل هذه الصورة وانظر إلى سيرة ملك قد عوّد وزراءه هذه العادات ورضى منهم بما تقدمت حكايتهم من تمشية [358] أمره يوما بيوم. ثم آلت الحال إلى النظام الذي ذكرته واطّردت الأمور اطرادها المشهور الذي دبّره الأستاذ الرئيس ابن العميد- رحمه الله- أى كفاية كانت له وأى سياسة مشت بين يديه ولكنه- رحمه الله- لما حصل بفارس علّم عضد الدولة وجوه التدابير السديدة وما تقوم به الممالك وصناعة الملك التي هي صناعة الصناعات ولقنه ذلك تلقينا فصادف منه متعلما لقنا وتلميذا فهما، حتى سمع من عضد الدولة مرارا كثيرة أنّ أبا الفضل ابن العميد كان أستاذنا، وكان لا يذكره فى حياته الّا بالاستاذ الرئيس، وربما قال الأستاذ ولم يقل معه الرئيس، ولا يحفظ عليه أنّه ذكره قط بعد موته إلّا بالاستاذ. وكان يعتد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 له بجميع ما يتم من تدابيره وسياسته ويرى أنّ جميع ذلك مستفاد منه ومأخوذ عن رأيه وعلمه. ولعلّنا نذكر منه طرفا إذا انتهينا إلى سيرة عضد الدولة وما تمّ له من حيازة الممالك وحفظ الأطراف وقمع الأعداء والحرص على العمارة مع الشدة على المريب وإطفاء نائرة الأكراد والأعراب وإعادة الملك إلى رسومه القديمة، إن أخّر الله فى الأجل. ولعلّ من يطّلع على هذا الفصل من كتابنا ممن لم يشاهده يظن أنّا أعرناه شهادة أو ادّعينا له أكثر من قدر علمه [359] ومبلغ فضله. لا والذي أنطقنا بالحقّ وأخذ علينا ألّا نقول إلّا به. ودخلت سنة ستين وثلاثمائة عقد المصاهرات بين الأتراك والديلم وفى هذه السنة رأى بختيار ورئي له أن يعقد بين رؤساء الأتراك ورؤساء الديلم مصاهرات لتزول العداوات التي نشأت بينهم. فابتدأ بعقد مصاهرة بين المرزبان بن عزّ الدولة وبين بختكين المعروف بآزاذرويه مولى معزّ الدولة، وثنّى بمصاهرة بين سالار [1] بن عزّ الدولة وبين بكتيجور مولى معزّ الدولة. وفعل مثل ذلك بجماعة، وأصلح بين الديلم والأتراك، واستحلف كل فريق منهما لصاحبه فحلفوا جميعا على موالاة عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة وسبكتكين الحاجب، وحلف بختيار لسبكتكين الحاجب وسبكتكين لبختيار بعد وحشة كانت بينهما فزال الظاهر ولم يزل الباطن.   [1] . كذا فى الأصل: سالار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 غلبة الفالج على المطيع لله ثمّ غلبت علّة الفالج على المطيع لله [1] فثقل لسانه وجانبه الأيمن وذلك فى يوم السبت لليلة خلت من صفر سنة ستّين وثلاثمائة، ثمّ تماثل وتماسك وعاش على هذه الحال إلى الوقت الذي سلّم فيه الأمر الى أمير المؤمنين الطائع لله. وفى هذه السنة ورد الحاجب لأبى تغلب ابن حمدان وهو عدّة الدولة. فعقد مصاهرة بين أبى تغلب بإحدى بناته وبين عزّ الدولة بختيار على صداق مائة ألف دينار، وجدد على أبى تغلب عقد [360] أعماله لأربع سنين حساب كل سنة ستة آلاف ألف درهم ومائتا ألف درهم وأنفذت إليه الخلع. وزارة أبى الفضل العباس الثانية لعزّ الدولة وفى هذه السنة كانت وزارة أبى الفضل العباس بن الحسين الثانية لعزّ الدولة والقبض على أبى الفرج محمد بن العباس. ذكر السبب فى ذلك قد كنّا ذكرنا فيما تقدم أنّ معزّ الدولة كتب إلى آزاذرويه بالقبض على أبى الفرج ومن معه فى يوم وصولهم إلى الأهواز وأنّه كتب أيضا إلى أبى قرّة بمثل ذلك وأنّه قبض على أبى محمد الخازن أخى أبى الفرج فى مجلسه وكان يحضره للمنادمة وأطلق أبو الفضل العباس بن الحسين من محبسه   [1] . وفى الأصل: على سبكتكين. وهو غلط واضح قال صاحب تاريخ الإسلام: وفى أول صفر لحق المطيع لله سكتة آل الأمر فيها إلى استرخاء جانبه الأيمن وثقل لسانه. (مط) . فى مد أيضا: سبكتكين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 وخلع عليه للوزارة وذلك يوم الثلاثاء آخر ليلة بقيت من رجب سنة ستين وثلاثمائة. فلمّا تمكّن من الوزارة لم تكن له همة إلّا استصلاح سبكتكين وعوّل عليه وعلى كاتبه أبى عمرو ابن أدمى [1] وصاحبه أبى بكر محمد بن عبد الله الاصبهانى وتقرب إليه فى مظاهرة أبى قرة ومساعدته. وقلد أخاه الحسن بن محمد القنائى [2] خزانة عزّ الدولة مضافا إلى ما كان يتولاه من خلافة أخيه أبى قرّة على الدواوين، وقلد أبا أحمد ابن حفص ديوانا كانت تجرى فيه نواح اختصها بختيار لنفسه وسماه ديوان الخاص وكتب إلى أبى قرة يستدعيه من الأهواز إلى الحضرة وأمر بإنفاذ أبى الفرج محمد بن العباس [361] إلى البصرة موكّلا به. فورد أبو قرّة بغداد ومعه أسباب أبى الفرج المقبوض عليهم فبلغ الوزير أبو الفضل فى إكرامه كلّ مبلغ وعظّمه وتجددت بينهما معاهدة ومحالفة بأمر عز الدولة وسبكتكين إيّاهما واتفقت كلمة الجماعة. ثم نظر الوزير أبو الفضل فى أمره وزيادة خرجه على دخله وقلبه ظهرا لبطن، فلم ير وجها غير إطماع عزّ الدولة فى أموال عمران فحرّضه عليه وقرّب عليه أمره واتفق ورود أبى قرّة وقد تمت العزيمة. فشخص بختيار متقدما وسار فى الجانب الغربي على الظهر والوزير أبو الفضل وأبو قرّة انحدرا فى الماء، واجتمعت الجماعة بواسط وذلك فى شوال سنة ستّين وثلاثمائة. وفى هذه السنة ارتفع امر ابن بقيّة مع عز الدولة وعلا شأنه حتى بلغ الوزارة كما سنحكيه بإذن الله.   [1] . فى الأصل غموض وإهمال: أدمى؟ أوبى؟ أقنى؟ كذلك فى مط: أبىّ؟ [2] . كذا فى الأصل ومط: القنّائى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 ذكر ارتفاع ابن بقية كان هذا الرجل من القرية المعروفة بأوانا وكان أبوه مزارعا وجدّه بقية واليه كان ينتسب، ونشأ فى أيام الفتنة وغلبه أهل الرستاق على طريق دجلة العليا ودخل فى غمارهم وانتسب إلى بعض عيّاريهم وكان جرى رسمه بتقلّد المآأصير [1] (؟) . واتفق له أن اتصل بصاحب مطبخ معزّ الدولة المعروف بممله [2] وكان ضامنا لتكريت [362] وما يجرى معها من المآأصير العليا وأبواب المال فلما خدم ممله توجه معه وخفّ على قلبه فتدرج من حال إلى حال حتى استعمله على هذه الأعمال كلها وفوضها إليه. وكان فيه سماحة نفس وخفّة مع إقدام وتهوّر استفادهما من الحال التي نشأ عليها. واتفق على ممله اتفاق سيىء من علل اتصلت به وإعراض من معزّ الدولة عنه. فشرع أبو طاهر ابن بقية فى ضمان أعماله وعنى به جماعة من الكتّاب لأجل ما كان يبذله لهم فعقدت الأعمال عليه إلّا أنّه لم ينفق على معزّ الدولة ولا وثق به على مطبخه فقلده غيره ووفى بمال ضمانه وأقبلت حاله تتزايد وصدره يتسع للبذل حتى غلب على الوزير أبى الفضل وقرب منه وتعلّق منه بعناية. وتوفى معزّ الدولة فنفق على عزّ الدولة بختيار وبذل له مرفقا يوصله إليه مما ينظر فيه. فقبل بختيار منه ذلك وردّت إليه الوكالة وقلد المطبخ فبلّغ بالمرفق الذي بذله لبختيار عشرة آلاف درهم فى كل شهر واشترط أن ينصره على الكتّاب وأصحاب الدواوين ومنعهم من الاستقصاء عليه ويشدّ   [1] . كذا فى الأصل المآ أصير. فى مط: المااصير والمثبت فى مد: المآصير. [2] . فى مط: مهلة. فى كلا الموضعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 على يده فى استيفاء أموال تسبيباته من الوكالة، فوفى له وكان يحمل إليه هذا المرفق الذي ذكرته مشاهرة. ثم أنس به فى خلواته ومجالس لهوه وانبسط إليه بأنواع من المزاح [363] كان يستعملها فى مجالسه مع ندمائه. فلطف موقفه ودخل معه كلّ مدخل. ثم صار يهاديه بالخيل والبغال والجوارح والألطاف والجواري والعبيد ودخل فى جلالة العزّ فعرض جاهه عنده حتى صار يتوسط بينه وبين كل رافع ظلامة وطالب حاجة. فلمّا أفضت هذه الوزارة الثانية التي نحن فى ذكرها إلى أبى الفضل كان ابن بقية قد استولى غاية الاستيلاء وصار فى مثل منزلة شيرزاد اختصاصا ومنزلة وغلبة على أمره واحتاج [1] الوزير أبو الفضل إليه ليحفظ غيبه وانحدرت الجماعة إلى واسط لحرب عمران. واستدعى الوزير أبو الفضل أبا الفرج محمد بن العباس إلى واسط وكان معتقلا بالبصرة وأخذ خطه بمال عظيم لا ينهض به وأنفذه إلى بغداد ليصححه هناك وكذلك فعل بأخيه أبى محمد فجرى عليهما ببغداد أمر قبيح يجرى مجرى التشفي من غير ضرب ولا مكروه فى الجسم بل بضروب من الاستخفاف والإهانة والإسماع فتم لهما الهرب واستترا عند بعض أسباب سبكتكين. فعادت الوحشة بين أبى الفضل وبين سبكتكين واتهم بأنّه يسفر له فى العود إلى الوزارة وألجأته الحال إلى مطالبة عزّ الدولة بختيار باليمين الغموس على ألّا يستوزره أبدا ولا يستعين به فى شيء من الأعمال إن لم يظهر بعد شهر من تاريخ اليمين [364] فحلف له عزّ الدولة بحضرة القوّاد والقضاة والشهود ووجوه الحاشية وكان فى اليمين كل ما يكون فى أيمان البيعة ولقّنه   [1] . كذا فى مط. ومد. وما فى الأصل يمكن أن يقرأ (اجتاح) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 بنفسه حرفا حرفا وبقي الأمر كذلك وأبو الفرج مستتر، إلى أن عاد عزّ الدولة إلى بغداد بعد سنتين وأخذ له ولأخيه أمان فظهر بعناية سبكتكين. وضعف أمر الوزير أبى الفضل وضعفت منّته وتأدّى أمره إلى النكبة التي هلك فيها ووفى بختيار باليمين وقلد أبا طاهر ابن بقيّة الوزارة فكفّ عن أبى الفرج لأنّه علم أنّه لا يستوزر ولا يشرع فى شيء من فساد حاله، ونفى أخاه أبا محمد إلى واسط وأجرى عليه رزقا. ثم إنّ أبا محمد أصعد إلى بغداد بغير أمره وذلك لإرجاف أرجف عنده بالقبض على ابن بقيّة فاغتاظ لذلك وقبض عليه ونفاه إلى البطيحة فحصل عند عمران مدة ثم أصعد سرّا واستتر ببغداد فى عرض الفتن التي كانت تجرى ثم تمكن ابن بقية منه ومن أخيه وطالبهما ثم نفاه ونفى أبا الفرج إلى سرّ من رأى واعتقله بها. ذكر ما انتهى إليه أمر أبى قرّة بعد حصوله بواسط وقوة أمره وعناية سبكتكين وأصحابه به لما أنس أهل واسط بقرب عزّ الدولة منهم وطال مقامه بينهم، تظلموا إليه سرّا ولقيه نفر منهم، فأعلموه أنّه قد أخرب بلادهم وأفقرهم وظلمهم وغشمهم وصادرهم وملك [365] عليهم ضياعهم وأنّه استحلّ منهم ما حرّمه الله وصححوا عنه سعة حاله وكثرة ماله وجلالة ضياعه. فاستعظم بختيار ذلك وغاظه فعله وتمكّنه من النعم الكثيرة حتى أزالها واستبدّ بها، فصرفه عن واسط وتقدّم إلى ابن بقيّة أن ينظر فيها على سبيل الأمانة. فاتهم أبو قرّة الوزير أبا الفضل بأنّه عن رأيه ومساعدته ولم يكن كما ظن فكتب إلى سبكتكين الحاجب يعرفه ما جرى ويحرضه على أبى الفضل ويعلمه أنّه قد حنث فى يمينه وعقوده التي بينهما وعاد إلى أسوأ فعله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 واعتقاده. ثم عطف أبو قرة على أبى طاهر ابن بقية فخاطبه بكل ما كره وتوعده وهدده بالنكبة وطالبه بالحسبانات لما يجرى على يده دخلا وخرجا فاستطال عليه ابن بقيّة وانتصف منه ونصره بختيار فانخزل أبو قرّة. واتصل بسهل بن بشر النصراني كاتب بختكين آزاذرويه وهو بالأهواز ما جرى على ابى قرة وضعف أمره وكانت بينهما عداوة قديمة فكتب إلى بختيار يضمنه بمال عظيم وساعده ابن بقيّة فقبض على أبى قرّة وأسبابه واستبيح ماله وقبضت ضياعه وغلّاته فسارع إلى التزام مصادرة ثقيلة عن نفسه وأسبابه وبذل بعد ذلك أموالا عظيمة يثيرها من محاسبات الضمناء، واستمال ابن بقية وعاهده على أن يكون كل [366] واحد منهما ناصرا لصحابه. ثم إنّ بختيار مال إلى ما بذله أبو قرة فأمر بأن يخلع عليه ولم يكره الوزير أبو الفضل ذلك لتزول التهمة التي سبقت إلى سبكتكين فى أمره. ذكر السبب فى انتقاض [1] أمر أبى قرّة بعد تملّكه وبعد إشرافه على الخلاص من النكبة كانت الخلع أحضرت ليلبسها فكره المنجمون له الوقت وأشاروا عليه بالتوقف ليختار له يوم. فورد للوقت غلام لسهل بن بشر على البريد برسالة منه ومن بختكين آزاذرويه صاحبه يسألان تسليم أبى قرة إليه بزيادة بذلها وضمنه بها وصادف ذلك خوف الناس من عوده بعد سعايتهم به وأنّه عدوّ لهم يستأصلهم فسعوا إلى ابن بقية به حتى أشار على عزّ الدولة بتسليمه إلى   [1] . فى مط: انقباض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 سهل بن بشر وعرفه أنّه إنّما ضمن تلك الأموال حيلة فى الخلاص والعود إلى التعزز عليه بسبكتكين. فسلّمه إلى رسل سهل بن بشر وحمل من ليلته إلى الأهواز وصودر هناك وتشفى منه وتلف فى أنواع المكاره التي جرت عليه وقلّد ديوانه أبو أحمد ابن حفص [1] . ثم أفضت الوزارة إلى ابن بقية فضعفت يده وقلّ نظره لاستيلاء ابن بقية على المملكة فلم يبق من هذا الديوان إلّا الاسم. وفى هذه السنة قتل حمدان أخاه أبا البركات ذكر السبب فى ذلك والاتفاق الحادث عن قصد وغير قصد [367] كنا ذكرنا ورود حمدان ورجوعه إلى الرحبة وتمام الصلح بينه وبين أخيه أبى تغلب ولم يلبث الأمر بينهما أن عاد إلى فساده فأنفذ أبو تغلب أخاه المكنى بأبى البركات إليه حتى دفعه عن الرحبة فسلك طريق البرية يريد دمشق وملك أبو البركات الرحبة فخلف بها طائفة من جيشه مع غلام من غلمانه وعامل من عماله ورحل منصرفا. وانتهى حمدان إلى بعض طريق البرية ولحقه وأصحابه عطش ولم يمكنه الإتمام فرجع مخاطرا بنفسه ووصل إلى باب الرحبة ليلا والقوم الذين فيها غافلون نيام وتهيأ لنفر من غلمانه أن دخلوا البلد من ثلمة فى السور غامضة كانوا يهتدون إليها وفتحوا له باب الرحبة فدخلها واستتر وراء السور وضرب بالبوق فبادر القوم إلى الباب متقطعين متفرقين وليس يعلمون بحصول حمدان من داخله فكان يوقع بهم أولا أولا وأسر عاملي الخراج والمعونة   [1] . هو محمد. كذا فى التكملة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 ووجد فى أيديهم غلات قد وردت فى السفن فغنمها وغنم سوادهم وآلاتهم وسلاحهم وكراعهم وصادرهم وأصعد على الفرات فى الجانب الشامي إلى قرقيسيا. واتصل خبره بأبى البركات وهو سائر إلى الموصل فعطف عليه وحاذاه [1] من الجانب الجزري وتخاطبا وتراسلا فلم يتم بينهما صلح ولا اتفاق ولم يمكن أبا البركات [368] المقام لضيق الميرة على عسكره، فرجع يريد الخابور. فاتفق أن صار إلى حمدان مائتا فارس من بنى نمير مستأمنة وكانت عدته ثلاثمائة غلام فصار فى خمسمائة فارس فتتبعت نفسه العبور فى أثر أخيه والتصعلك على عسكره وكان فيه جرأة وإقدام. فخاطر وعبر فى جريدة خيل وسار حتى أدركه بمنزل يقال له ماكسين [2] وهو راحل مجتاز فنزل منه على فرسخين وبكّر فى الغلس فزحف إليه فصادفه قد سبق بسواده وبعض جيشه وهو ماض على غير استعداد لأنّه لم يقع فى ظنّه أنّ حمدان يقدم عليه مع التفاوت بين عدّتيهما. فلمّا قيل له إنّه قد وافى، عطف إليه فى طائفة من الرجال ليتلاحق به الباقون فبثّ حمدان أولئك العرب فى الإغارة على سواده ومنع العسكر أن ينتظم شمله وحقق على أبى البركات فى الحملة مع غلمانه فوجده متسرعا فى أول الناس فاجتمعا متصادمين وعرف كل واحد منهما صاحبه فتضاربا بالسيوف ولم تكن على أبى البركات جنّة فضربه حمدان على رأسه فسقط إلى الأرض وأخذه أسيرا وبه رمق. واستباح سواده واستأمن إليه جماعة من أصحابه وأسر جماعة وقتل   [1] . والمثبت فى مد: حازاه. [2] . ماكسين: بلد بالخابور وقرية من رحبة مالك بن طوق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 بعض الأسارى واستبقى البعض وانكفأ إلى قرقيسيا ليعالج أخاه من ضربته وظنّ أنّه ينجو فتلف بعد ثلاث [369] فأنفذه فى تابوت إلى الموصل واستحكمت العداوة بينه وبين أخيه أبى تغلب. واختلف باقى الإخوة وتخاذلوا وتنافسوا وكانوا متفرقين فى أعمالهم. فبلغ أبا تغلب أنّ محمدا من بينهم المكنى أبا الفوارس وكان يتولى نصيبين قد كاتب حمدان وعمل على اللحاق به والاجتماع معه عليه فاحتال عليه واستدعاه وأطمعه فى الإحسان والزيادة. فاغترّ محمد وصار إليه فقبض عليه واعتقله فى قلعة أردمشت [1] وضيّق عليه هناك وثقّله بالحديد حتى أطلقه عضد الدولة لمّا ملك تلك الديار [2] . وكنت مندوبا لنقل ما فى تلك القلعة من الذخائر مأمونا على ما فيها فجرى ما سأذكره إذا انتهيت إليه. واستوحش باقى إخوة أبى تغلب لما جرى على أخيهم محمد وأقبل أبو تغلب يستميلهم فخدعهم واحدا واحدا فصاروا إليه بعد أحوال تتقلب بهم سوى أبى طاهر ابراهيم فإنّه لم يسكن إليه ورحل إلى بغداد مستأمنا إلى عزّ الدولة بختيار على طريق دجلة. وسار أبو تغلب إلى قرقيسيا وأنفذ منها أخاه أبا القاسم هبة الله سريّة فى جيش كثيف إلى الرحبة تقديرا أن يكبس أخاه ويأخذه أسيرا فما أحس به حتى أطلّ عليه فخرج هاربا واتبعه ابنه وطائفة من غلمانه ولحقه هبة الله فابقى عليه حتى نجا. ثم وقعت [370] عليه سريّة للقرامطة كانت سائرة إلى الشام لقتال صاحب المغرب فأرادوا الإيقاع به فتعرف إليهم وكان متعلقا بينهم بذمام فكفّوا له   [1] . أردمشت: قلعة حصينة قرب جزيرة ابن عمر شرقىّ دجلة بجانب الجودىّ. [2] . وقصة إطلاقه من القلعة موجودة فى الفرج بعد الشدة 1: 136. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 وبذلوا له من نفوسهم ما أحبه فسألهم أن يسير معه نفر منهم إلى طريق عانة ففعلوا وعدل إلى مدينة السلام فاستقرّ الأخوان بها فى ذى الحجة سنة ستّين وثلاثمائة وكتب بختيار إليهما بالانحدار إليه إلى واسط فانحدرا ووصلا إليه فى صفر سنة إحدى وستّين وثلاثمائة وتلقاهما وأكرمهما وأمر بحمل أنزال كثيرة إليهما وردّهما إلى بغداد بعد أن حمل إلى كل واحد عند رحيلهما هدايا كثيرة من الثياب والورق والطيب والدواب والبغال والمراكب. وسنذكر ما انتهت إليه أحوالهما بعد ذلك إن شاء الله. ذكر تدبير دبّره الوزير أبو الفضل على سبكتكين لما استوحش منه فانعكس عليه قد قلنا انّ أبا الفضل اتهم سبكتكين بأنّه ستر أبا الفرج وأبا محمد وحامى عليهما وأنّه يريد أن يسعى لأبى الفرج فى الوزارة وكان سبكتكين اتهم أبا الفضل بأنّه دبر على أبى قرّة حتى قتل بعد ذلك بالعذاب الطويل فشرع أبو الفضل فى استصلاح سبكتكين بكل وجه وحيلة فلم يجد إلى ذلك سبيلا فصبر حينئذ على عداوته وأخذ فى التدبير عليه. فكان من ذلك أن أشار على بختيار بأن يستدعى آزاذرويه من الأهواز ويزيد فى حاله ومحله ويقيمه كالضد لسبكتكين لينجذب الأتراك [371] إلى هذا ويفلّهم عن ذلك فقبل بختيار بما أشار به عليه. وورد بختكين واسطا فعظم أتم تعظيم وفخّم أمره أشد تفخيم وعقدت عليه واسط مضافة إلى الأهواز فلم يتم ما قدر من انفضاض [1] الأتراك عن سبكتكين وذاك أنّهم تنبهوا على المقصد وعلموا أنّه إنّما دبر على تفريق   [1] . فى مط: انقضاض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 شملهم وإيقاع التنافر بينهم وكانوا قد تحالفوا على المعاضدة وألّا يتفرقوا. واشفق بختكين آزاذرويه من أن يعتزلهم وينفرد عنهم فصار واحدا منهم فانعكس تدبير الوزير أبى الفضل واضطر إلى العود إلى بابه والنزول تحت حكمه وطلب سلمه بعد معاتبات ومراسلات. ولمّا عاد بختيار إلى بغداد زاد فى منزله سبكتكين وأمر بأن يخاطب بالاسفهسلّار وتموهت الوحشة واندرجت على غير وثيقة. ولما عزم بختيار والوزير على الإصعاد عن واسط قدّما أبا طاهر ابن بقية إلى سبكتكين ليصلح ما تشعث بينه وبين الوزير أبى الفضل ويستعيد له جميل رأيه. فجرى الأمر ايضا فى ذلك على نفاق ووحشة فى السر واندمل الجرح على فساد إلى أن تم على الوزير الصّرف والنكبة واتصل بقتله وإبادته. هلاك أبى طاهر عامل البصرة وكلّ من اتّصل به وفى هذه السنة هلك أبو طاهر الحسين بن الحسن عامل البصرة وكل من اتصل به وعفت آثارهم وزالت نعمهم ولم يبق منهم على وجه الأرض نافخ ضرمة. [372] ذكر السبب فى اجتياح الزمان له ولهم كان هذا الرجل فيه شهامة وكفاية وتهور مع ذلك ومخاطرة، ولما حصل بختيار بواسط أكثر الناس من حديثه وما وصل إليه من الأموال حتى اتسعت فيه الظنون. وكان الوزير أبو الفضل يعلم أنّ ذلك باطل وليس يجب أن يفسد نظام أمور البصرة بصرفه والطمع فى يسير ماله وكانت البصرة معتدلة الحال مستقيمة الأمور. فأغرى بختيار بالمصير إلى البصرة وأقيم فى نفسه أنّه يصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 منها إلى مال كثير ولم يكن وراءها. فسار إليها ولم يجد بها ما كان مولعا به من المتصيدات ولا تمكنت البزاة والجوارح من الصيد لكثرة نخلها وشجرها ولاطفه هذا العامل بالهدايا والتحف وواقفه على مرفق يرفقه به ومشاهرة يقيمها له وتجاوز ذلك إلى أن ضمن له إثارة مال من البصرة على طريق التأويلات على التجار والمعاملين وأراد بذلك الدفع عن نفسه. ووافى الوزير أبو الفضل البصرة بعد أن رتّب عساكره على طفوف البطيحة لأنّ المد وافى وكثر فلم يمكن طلب عمران بن شاهين واحتيج إلى الانتظار إلى وقت النقصان فأمره بختيار بالخلع على أبى طاهر العامل وتقبّل ما بذله له. ولم يستطب البصرة لعدم الصيد الذي ذكرته فعاد إلى واسط ووصى الوزير بتقوية يد العامل والزيادة فى بسطه [373] والرفع منه. فاضطرّ الوزير إلى امتثال ما رسم له وهو لا يختاره ولا يستصوبه. فبسط أبو طاهر العامل يده فى القبض على التجار والعوامّ وتأول عليهم بالمحال واستخرج منهم أموالا كثيرة وظنّ أنّه قد تمسك من بختيار بعهد يثق به وأنّه ممن يعتمد على قوله وذمامه وحدّث نفسه بمنزلة أبى قرّة وأن يرتقى منها إلى منزلة الوزارة. فساء رأى الوزير أبى الفضل فيه وأخذ فى التدبير عليه والسعى على دمه فكتب إلى بختيار يعرفه أنّه قد أخرب البصرة وأفسد نيّات أهلها وأنّهم عرب لا يحملون ما يحمله غيرهم ويزعم أنّ أموالهم الآن قد حصلت والصواب يقتضى إرضاءهم بالقبض على هذا العامل والاستبدال به ومصادرته على مال ينضاف إلى مصادرتهم. ثم دس إلى عزّ الدولة من يغريه به ويعظّم عليه جناياته ويطمعه فى ماله إلى أن أمر بالقبض عليه فقبض الوزير عليه وعلى أخيه والمتصلين به حتى زوجته وعياله وأقاربه وأسبابه كلّهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 عقد البصرة على رأس أبى القاسم المشرف وعقد البصرة على علىّ بن الحسين المعروف بأبى القاسم المشرف وسلّمه إليه لعداوة كان يعرفه بينهما، وأخذ خطه بأن يستخرج منه ومن أسبابه مالا عظيما وأصعد عن البصرة لاستتمام منازلة عمران بن شاهين. وكان هذا العامل- أعنى أبا طاهر- من أهل الشر فكثر خصماؤه [374] وطلاب الطوائل عنده فعسفه علىّ بن الحسين وسلّمه إلى مستخرج كان قد وتره، فنالته منه مكاره عظيمة خاف معها أن يسلم فيكون بواره على يده. فأتى على نفسه ثم ألحق به أخاه وأقاربه وزوجته فأتلف الجماعة بأسرها وعفى آثارها. ثم عطف علىّ بن الحسين على معامليه ومخالطيه [1] وقوم تأول عليهم فصادرهم لصحة المال الذي ضمنه فما صحّ له من جميع الجهات إلّا البعض وانكسر الباقي وانمحت آثار أبى طاهر من الأرض فلم يبق له بقيّة. ذكر سوء تدبير بختيار لأمر عمران منذ انحدر من بغداد إلى أن خرج عائدا إليها وما تمّ لعمران من الطمع فيه والاستظهار عليه كان بختيار لما خرج عن بغداد لمحاربة عمران أظهر أنّه يريد الخروج إلى التصيّد بناحية النعمانية مغالطة لعمران وظنّ أنّه يرهقه عن التحرز منه والاستعداد له. وقد تفعل الملوك مثل هذا ولكن مع إتمام العزائم والصبر على مطاولة   [1] . كذا فى الأصل ومط: مخالطيه. والمثبت فى مد: مخاطبيه. وهو سهو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 العدو بالمكايد التي تشبه هذا الابتداء، لا بأن يكون مبدأ التدبير صوابا يشبه الآراء الوثيقة ثم يتبعه باللعب والاشتغال عنه بالعبث وبترك الاستظهار وإهمال الجند حتى تخرق الهيبة وتزول الحشمة ويظهر للعدو عصيان الجند وقلة النظر فى الحرب والتعويل على الجدّ [1] دون الجدّ حتى يطلع على الحيرة والتبلّد ومكان [375] العورة والضرورة الداعية إلى مقاربته فى طلب الصلح منه والجنوح إلى السلم بعد النزاع إلى الحرب. فإنّ بختيار عمل فى المبدء ذلك العمل الواحد ثم أتبعه بجميع ما ذكرته وذلك أنّه استطاب التصيد الذي أظهره مكيدة لعدوّه وأقام بالنعمانية شهرا مع عساكره التي علم معها عمران أنّ قصده بهم إيّاه لا غير. ثم أمر وزيره أبا الفضل أن ينحدر إلى الجامدة وطفوف البطيحة وبنى أمره معه على أن يسدّ أفواه الأنهار ومجاري المياه إلى البطيحة ويعدل بها إلى غيره وأن يبنى مسنّاة عظيمة يمكن سلوك الديلم عليها مشيا إلى معقله وهذا ضد ما بنى عليه أمره فى الابتداء ولا يشبه الحيلة التي تؤدى إلى إرهاق العدوّ ومنعه من الفكر. فإنّ الهجوم والكبس والبيات يتم بالمعاجلة والركض إلى الغاية دون التمهل والأخذ والتدابير البعيدة والأعمال الطويلة. فلما طالت المدة فى عمل هذه السدود وجرت فى أضعافها وقائع لحقت المدود وغلب الماء والسيل علاج السكور فاحتيج إلى الإمساك عنها والانصراف عن إتمامها إلى حفظ ما عمل منها بالرجال حتى لا يفسدها العدو، لا سيما وعمران متدرب بذلك قد اعتاد فى جميع حروبه أن يمسك عن عدوه حتى ينفق ماله ويكذ رجاله فإذا أحسّ بالمد ومجيء السيول [376] احتال فى تخريب ما يبنى له من السكور وإنّما يكفيه إيقاع ثلمة   [1] . الجّدّ: الحظّ. النصيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 يسيرة فى أحد نواحي السد ثم يحمل الماء فيتولى كفايته فى الهدم والتخريب. فربما أفسد فى ساعة من الليل أو النهار تعب سنة أو نحوها. وذلك أنّ هذه السدود تكون من قصب وتراب يقام فى وجوه المياه الجاريه عند ضعف جريانها وغاية نقصانها فإذا وردت المياه القوية ومنعت من حدورها كفى منها اليسير من المعونة حتى تنبعث ويدفع بعضها بعضا وربما كان سبب انبثاق الماء نقب فأرة ثم يوسعه الماء وينتهى فيه إلى حيث لا حيلة فى سده. ولما عمل بختيار ووزيره ما ذكرته من السدود وأتى المد كان قصاراهما حفظ ما عمل بالرجال حتى لا يتم لعمران حيلة فى هدمه فعدل عمران عن هدم سكوره إلى الانتقال إلى معقل آخر من معاقل البطيحة ونقل غلّاته وزواريقه وجميع أمتعته إلى هناك. فلما انحسر الماء وجاءت ايام الجفاف من السنة الثانية وجد مكان عمران خاليا منه ولم تكن له آلة يطلبه بها فطلب غلّاته فلم يجد فيها شيئا فانصرف خائبا. وضجر العسكر من المقام على الشقاء ولم يصبروا على أذيّة البقّ وحرّ الهواء وانقطاع المواد التي ألفوها [1] فشغبوا عليه وتناولوا الوزير بألسنتهم وهموا بالإيقاع به وتحالف الديلم والأتراك [377] على التعصب واتفاق الكلمة وأبوا أن يقيموا أكثر مما أقاموا. فاضطر بختيار إلى طلب مصالحته على مال يلتمسه منه- وقد كان هابه فى أول الأمر فبذل له خمسة آلاف ألف درهم- فلمّا طلب هذا المال بعد اضطراب الجند وطول المقام وانقطاع الحيلة امتنع عليه منها وبذل ألفى ألف درهم بوساطة سهل بن بشر كاتب بختكين آزاذرويه وكانت بينه وبين عمران صداقة فنجّم عليه هذا المبلغ ثم تماسك عمران وامتنع من التوثقة بما وافق عليه واقتصر منه على اليمين أيضا   [1] . فى مط: ألقوها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 فاضطرّ الوسائط إلى أن يقولوا لبختيار أنّه قد حلف وما حلف. وانصرف بختيار عنه مع عسكره خائبين عليهم الزلّة. وحدث للعسكر زيادة على المعهود من سوء الخدمة وقلّة الطاعة والاستطالة حتى وثبوا على سهل بن بشر مرّة لأجل مال كان حمله معه فأحسوا به وطمعوا فيه ونهبوه واجتهد بختيار فى ارتجاع شيء منه، فما أمكنه ذلك. ذكر الوثوب على الجرجرائى ثم وثبوا أيضا على محمد بن أحمد الجرجرائى- وكان ينظر فى أمورهم ويخلف الوزير عليهم- لأشياء كانوا نقموها عليه وأبوا أن يكون متوليا عليهم فأرضاهم الوزير بصرفه عنهم ووجد السبيل إلى مصادرته فاستخرج منه عشرة آلاف دينار كانت سبب حقده حتى صار فى جملة من سعى به ودبر فى هلاكه. [378] عضد الدولة يندب كوركير لمحاربة سليمان بن محمد بن إلياس وقد كان قبل هذه السنة ندب عضد الدولة كوركير بن جستان لمحاربة سليمان بن محمد بن الياس وكان سليمان هذا بخراسان وأطمع صاحبها فى كرمان والقفص والبلوص فى طاعته. فضم إليه صاحب خراسان جيشا وجاء إلى كرمان فاستغوى هاتين الطائفتين وغيرهم من الأمم المفارقة لطاعة السلطان الأكبر فصارت هذه الطوائف يدا واحدة فى شقّ العصا. فلقيه كوركير بين جيرفت وبمّ وجرت بينهما حرب أجلت عن قتل سليمان وبكر والحسين ابني اليسع أخيه وعدد كثير من قواد خراسان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 والرجال المضمومين إليه وحملت رؤسهم إلى شيراز وأنفذها عضد الدولة إلى حضرة أبيه ركن الدولة. واجتمعت المنوجانيّة [1] وسائر القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد البلوصى وأولاده وغيرهم من الرؤساء على كلمة واحدة فى الخلاف وتحالفوا على الثبات والاجتهاد فضمّ عضد الدولة إلى كوركير عابد بن علىّ فسارا إلى جيرفت فيمن معهما من العساكر فوقعت الوقعة يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من صفر سنة ستّين وثلاثمائة وأجلت عن هزيمتهم وقتل خمسة آلاف رجل من أشدائهم ووجوههم وقتل ابنان لأبى سعيد البلوصى وحصل المعروف بأبى الفوارس المنوجانى فى الأسر وابن أخيه [379] أبو الليث وجماعة يجرون مجراهم. ثم صمد عابد بن علىّ لقصّ آثارهم والتولج إلى مكانهم ليبيد غضراءهم. فتابع الإيقاع بهم والإثخان فيهم وانتهى إلى هرموز فملكها واستولى على بلاد التيز [2] ومكران وحصل فى يده بعد من هلك فى الحروب ألفا أسير من رجالهم ونسائهم وذراريّهم. فلاذوا بطلب الأمان وبذلوا تسليم المعاقل والجبال على أن يدخلوا فى السلم وينزعوا شعار الحرب ويقتنعوا بالأقوات التي تحل وتطيب ويتحلّوا بسيماء المسلمين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويتمسكوا بسائر شروط الإيمان. فعقدوا على أنفسهم بذلك عقدا وثيقا.   [1] . فى مط: المنوجهانيّة. [2] . وفى مط: التبر. والمثبت فى مد النيز. وهو خطأ. تيز: بلدة على ساحل مكران والسند وفى قبالتها من المغرب عمان وبينها وبين كيز مدينة مكران خمس مراحل. (مراصد الإطلاع) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 عدول عابد بن علىّ إلى الخرّميّة والجاسكيّة ثم عدل عابد بن علىّ إلى طوائف أخر من الأمم المخالفة فى حال تصاقبهم يعرفون بالخرّمية والجاشكية يخيفون السبل فى البر والبحر وكانوا ضاموا سليمان بن محمد بن الياس فأوقع بهم وقتل كثيرا منهم وحصل فى يده رئيسهم أبو على بن كلاب فضرب عنقه وقبض على خلق منهم فأنفذهم إلى شيراز فتوطأت تلك الأعمال وصلحت مدّة من الزمان. عضد الدولة يصير بنفسه إلى كرمان ثم لم يلبث البلوص وكانوا أشد هذه الطوائف بأسا وأوعدهم جانبا وأشدهم كفرا أن اشتاقوا إلى عاداتهم من إخافة السبل وسفك الدماء الحرام ونقض [380] ما كانوا تمسكوا به من تلك العهود. فلمّا فعلوا ذلك اعتقد عضد الدولة ألّا حيلة فى صلاحهم ويئس منهم فرأى ألّا يبقى عليهم وعزم على المسير بنفسه إلى كرمان فسار فى ذى القعدة سنة ستّين وثلاثمائة. فلمّا انتهى إلى السيرجان وجد البلوص قد تبسطوا فى الأعمال وسعوا فيها بالفساد ونصبوا للرئاسة عليهم علىّ بن محمد البارزى [1] ولقى الناس منهم عنتا شديدا فى جميع طرقات كرمان وسجستان وخراسان فجرّد عابد بن علىّ فى عسكر كثيف من الديلم والجيل والأتراك والأعراب والأكراد والزطّ والرجال السّيفية وأنفذه إليهم فلمّا أحسّوا بإطلاله عليهم أوغلوا فى الهرب وسلكوا طرقا ضيقة شاقة ظنّوا أنّ العسكر لا يمكنه سلوكها ولا اتباعهم فيها.   [1] . فى مط: الناورى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 ثم إنّ عابدا أنفذ أخاه فى سريّة قوية خلفهم وسار هو فى باقى الجيش من طريق آخر إلى بلادهم التي يأوونها إلى جبال البارز ففتحها [1] عنوة واستنزل عنها محمد بن علىّ البارزى وظفر بصهره أبى دارم وقد كانوا أنفذوا طلائع لهم وعيونا ليأتيهم بالأخبار فنذر بهم وقبض على جماعتهم فلم يرجع إليهم مخبر منهم. فكانوا ساكنين غارّين إلى أن أطلّ الجيش فى الموضع الذي ظنّوا أنّهم آمنون فيه فلم يجدوا مهربا ولا معدلا عن المجاهدة، فثبتوا سحابة [381] يوم الإثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستّين وثلاثمائة، منذ طلوع الشمس إلى غروبها. ثم انجلت الوقعة عن قتل الرجال المقاتلة إلّا القليل وعن الاحاطة بحرمهم وذراريّهم وأملاكهم ونجا فى الوقت رئيسهم المعروف بابن أبى الرجال البلوصى مع جماعة من الوجوه ثم ظفر بهم من بعد فقتلوا جميعا ودخل نفر يسير ممن بقي تحت الأمان وتشبثوا بالعهد والذمام فنقلوا عن تلك الجبال. وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة المزارعين والمستورين من أجناس الرعية حتى طبّقوا تلك المواضع بالعمارات وطهرت تلك الجبال من معرّة أولئك المفسدين. ثم عاد عابد بن علىّ إلى الامة المعروفة بالجاشكية [2] ومن يجرى مجراها من الدعّار وكانوا وراء جبال القفص مما يلي التيز ومكران والسواحل إلى حدود عمان ولهم معرّة شديدة وفساد كثير وجنايات عظيمة على الناس وأنفذ عابد أخاه فى عسكر قوى من الديلم والأتراك والعرب وغيرهم وحمل معه الزاد على الجمازات فى البرّ وعلى الشذاآت والمراكب فى البحر من سيراف إلى مكلّى هرموز وسواحل كرمان فقطع عدّة مضايق   [1] . فى الأصل «من فتحها» . وفى مط: النادر (بدل «البارز» من فتحها. [2] . فى مط: الجاسكية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 حتى وصل إليهم وهم غافلون لا يظنّون أنّ أحدا يصل إليهم. فأوقع بهم وقتل وأسر واصطلم ولم يبق من طبقات [382] الدعّار فى تلك النواحي أحدا. وفى هذه السفرة تنكّر عضد الدولة لكوركير فقبض عليه وردّه إلى سيراف واعتقله اعتقالا جميلا فيه بقية للصلح. ودخلت سنة احدى وستين وثلاثمائة وزارة أبى الفتح ابن أبى الفضل ابن العميد وفيها تمكن الأستاذ الجليل أبو الفتح ابن أبى الفضل ابن العميد رحمهما الله من الوزارة بعد أبيه وفوض إليه ركن الدولة تدبير ممالكه ومكّنه من أعنة الخيل فصار وزيرا وصاحب جيش على رسم والده، إلّا أنّ والده باشر هذه الأمور فى كمال من أدواته وتمام من آلاته على ما شرحناه فيما تقدم، وكان لوفور عقله يدارى أمره مع صاحبه ومع عسكره ثم يسوس رعيّته والممالك التي يراعيها ويدبر الجميع تدبيرا ملائما لوقته موافقا لزمانه فلا يظهر من الزينة وأبّهة الوزارة إلّا بمقدار ما يقيم به مرتبته ولا يجاوز ذلك إلى ما يحسد عليه وينافس، ثم يتواضع تواضعا لا يخرج به إلى غضاضة تلحقه فى جاهه أو تحطّه عن المنزلة العالية التي يرقى إليها وكانت سلامته طول مدته على أصناف الناس وطبقاتهم وقيام هيبته وتمام سياسته متصلة تزيد على الأيام ثناء وثباتا. ذكر خصائص أبى الفتح فى خلقه وسياسته فأما ابنه أبو الفتح فكان فيه [1] مع رجاحته وفضله فى أدب الكتابة وتيقّظه   [1] . وزاد فى مط: انبه (أو ابنه) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 وفراسته [383] نزق الحداثة وسكر الشباب وجرأة القدرة، فتطلعت نفسه إلى اظهار الزينة الكثيرة واستخدام الديلم والأتراك والاحتشاد [1] فى المواكب التي يركب فيها واتخاذ الدعوات لصاحبه وسائر عسكره التي يلتزم فيها الخلع والحملان على الدواب والمراكب والإسراف فى الصلات والنفقات تشبّها بوزراء عزّ الدولة بختيار الذين لا خبرة لهم بعواقب الأمور ولا نظر لهم فى مصالح الملك وإنّما همة أحدهم فى تناول شهواته والوصول إلى لذّاته وإثارة غيظ حسّادهم بإظهار الزينة التي فوق طاقته. وليس يعلم أنّ أول من ينكر ذلك فى نفسه وإن لم يبده له صاحبه فهو يحسده على مساواته له وعلى تمكنه مما يتمكن هو منه ثم مزاحمته له فى الاستظهار والجمع وتبذير الأموال التي يرى أنّه أحق بها منه ثم خوفه من ميل الجند إليه وإجماعهم على جوده وسخائه واعتدادهم بما يصل إليهم له دون صاحبهم وولىّ نعمهم. فكان أبو الفتح ابن العميد يسرف فى ركوب هذه الأهواء ويحب أن يبلغ غاية ما يقدر عليه منها فجلب عليه ذلك ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام فكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند وأحب الراحة والدعة ففوض إليه الأمور ورآه شابّا [384] قد استقبل الدنيا استقبالا فهو يحب التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم ملّه ويستلذّ فيه الانتصاب للأمر والنهى ومخالطة الجند والركوب إلى الصيد ومشى خواص الديلم وكبار الجند بين يديه ثم مشاربتهم [2] ومؤانستهم والإحسان إليهم بالخلع والحملان. فأول من أنكر عليه هذا الفعل عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة   [1] . كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: الاحتشار. [2] . فى مط: مشاورتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 وكتّابهم ثم سائر مشايخ الدولة ورأوه يركب فى موكب عظيم ويغشى الدار والديوان فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الامارة حتى لا يوجد فيها إلّا المستخدمون من الاتباع والحاشية فقط. ثم ترقّى أمره فى قيادة الجيش والتحقق بها إلى أن ندب للخروج إلى العراق فى جيش كثيف من الرىّ والإجماع [1] مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة فى الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه كما سنشرحه فيما بعد بإذن الله. فأقام هناك ونظم أمور بختيار وتلقّب بذي الكفايتين من جهة الطائع لله وأخذ الخلع وواطأ بختيار على أمور خالف فيها عضد الدولة وأوحشه وتأدّى أمره إلى الهلاك. وإنّما ذكرنا هاهنا جملة من سوء تدبيره لنفسه ونحن نشرحها مفصلة فى الأمور التي حدثت فى سنة خمس وستّين وثلاثمائة ليعتبر بها المعتبرون [385] ويجرى مجرى تجارب الأمم التي يتكرر مثلها فيتحرّز منها. فأمّا الآن فإنّا نشرع فى الأمور التي حدثت فى هذا الزمان الذي نحن فى ذكره ونستقصى أخبار بختيار وما عمله فى عوده من البصرة إلى واسط ليتصل حديثه ولا ينقطع بدخول حديث غيره فيه. ذكر السبب فى تجاسر العامة على السلطان والفتن الثائرة بهم حتى خربت بغداد. وذاك أنّ الكتب وردت عليه بأنّ الروم غزوا نصيبين فملكوها وأحرقوها وقتلوا الرجال وسبوا الذراري ثم ورد خلق من ديار ربيعة وديار بكر مدينة السلام واستنفروا المسلمين فى المساجد الجامعة والأسواق وحكوا انفتاح   [1] . فى مط: الاجتماع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 الطريق للروم وأنّه لا مانع لهم من تورّد ديارهم وهي متصلة بالعراق. محاولة الهجوم على دار المطيع لله وإسماعه ما يقبح ذكره فلمّا تجمّع معهم خلق من أهل بغداد صاروا إلى دار المطيع لله وحاولوا الهجوم عليها وقلعوا البعض من شبابيكها فأغلقت الأبواب دونهم بعد أن كانوا يصلون إليه ويأتون عليه فأسمعوه ما كره ونسبوه إلى العجز عمّا أوجب الله على الائمة وتجاوزوا ذلك إلى ما يقبح ذكره. وكان بختيار فى هذا الوقت بالكوفة مظهرا زيارة المشهد وغرضه التصيّد [1] فخرج إليه وجوه أهل بغداد منكرين عليه اشتغاله عن مصالح المسلمين [386] وانصرافه عن تدبيرهم إلى مجاهدة عمران وهو من أهل القبلة، وإمهاله الروم وهم أعداء الملة، ثمّ تشاغله بالصيد واللهو عن جميع مهمّات المملكة. ووعدهم بالعود إلى واسط ومصالحة عمران والانكفاء إلى الثغور فسكنوا وانصرفوا. فلمّا عاد كاتب أبا تغلب وهو صاحب الموصل، يعلمه فيه أنّه عامل على الغزو ويلزمه أن يعدّ له من الزاد والعلوفة ما يسعه وجنده فى الطريق وأنفذ فى ذلك بعض خواصه فقضى ابن حمدان حقّه وردّه بالإنعام والمسارعة إلى ما سأل وهو يعلم أنّه لا يفي بوعد ولا وعيد وأنّه يقول ولا يفعل. ثم أنفذ محمد بن بقيّة برسالته إلى سبكتكين الحاجب وهو ببغداد يستصلحه لوزيره العباس بن الحسين ويستنهضه للغزو معه ويأمره بأن يستنفر من يرغب فى الجهاد. فتقبّل سبكتكين ذلك تقبل المنافق ثم ركب ببغداد فى   [1] . فى مط: التقيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 الجيش واستنفر المسلمين فثار من العامة عدد كثير بأصناف السلاح والسيوف والرماح والقسىّ حتى استعظم ما شاهده منهم ولم يوفق لتربيتهم وضمهم إلى رئيس يقوم بهم بل جعلهم كالعدة لنفسه فصاروا وبالا عظيما وضروا على المحارمات [1] بينهم وأظهروا ضروب العصبية وأثاروا الفتن وأقدم بعضهم على بعض بالقتل واستباحة الأموال والهجوم [387] على الحرم والفروج وتفاقم الأمر بينهم وبلغ كل المبلغ فى الشر وعجز السلطان عن إصلاحهم وإطفاء ما أثاره من نائرتهم حتى صار ذلك سببا لخراب بغداد. وسنذكر شرح هذه الأحوال عند دخول سنة ستّ [2] بعون الله. بختيار يصالح عمران ويعود إلى بغداد وصالح بختيار عمران كما حكينا أمره فيما تقدم وطمع فى مال الصلح واستضعفه. ورجع بختيار إلى بغداد وهي خراب بكثرة الفتن واستطالة العامة وحدوث الحروب فيها وإغارة بعضها على بعض وكثرة رؤسائهم الناجمين فيهم حتى حصل فى كل محلة عدة رؤساء من العيّارين يحامون على محلتهم ويجبونهم الأموال ويحاربون من يليهم فهم لذلك متحاقدون يغزو بعضهم بعضا نهارا وليلا ويحرق بعضهم دور بعض ويغير كل قوم على إخوانهم وجيرانهم. تسحّب الأتراك فأمّا الأتراك فمتسحّبون مقترحون ما لا يتمكّن [3] منه متجاوزون حدود   [1] . فى مط: المحاربات. [2] . وفى الأصل ومط: ستّة، كما هو المثبت فى مد. [3] . كذا فى الأصل ومط: يتمكّن. والمثبت فى مد: تمكّن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 العامة فى سفك الدماء والطمع فى الأموال والفروج حتى قتلوا صاحب شرطة كان لبختيار يقال له خمار، لشيء حقير كان حقده على بعض أصاغر الأتراك فلقيهم راكبا فى موكبه فحملوا عليه وألجئوه إلى الهرب والدخول إلى دار بختكين المعروف بجعدمويه وكان رئيسا معظما فى الأتراك فهجموا عليه وأخرجوه وقتلوه قتلة الكلاب خفقا بالسيوف واللتوت [388] ثم سلموا جثته إلى العامة ففصلوه آرابا حتى أخذ كبده بعض السفهاء وقلبه آخر وكل جارحة منه وجد فى يد سفيه ثم أحرقوا باقى جثته بالنار. وفتحوا السجون وأطلقوا أهل الدعارة منها وقلعوا أبوابها ونقضوا حيطانها وعجز بختيار عن تدبير أمرهم وخاف معرة الأتراك فاستدعى الديلم إلى داره فحضروه بالسلاح وتكلموا فى أمر المقتول أعنى خمار وأنكروا تبسط الأتراك وتحركت الأحقاد بينهم وعمل الديلم على قصد دار سبكتكين الحاجب ومنازل الأتراك وأحسوا بهم فتحرزوا واستعدوا وتعصب العامة معهم فسكّن بختيار تلك الثورة وأغضى عن قتل صاحبه خمار. تعصّب سبكتكين للسنّة على الشيعة ثم عوّل على الحاجب سبكتكين فى تسكين العامة لأن هيبته كانت فى نفوسهم أكبر وقلّد سبكتكين الشرطة ببغداد حاجبا له فسكنت الفتنة مدة أيامه إلا أنّه تعصّب للطائفة المنتسبة إلى السنّة على الشيعة فثار أهل التشيع وعادت الحروب والفتن كأعظم ما كانت. فكانت الأموال تنتهب والقتل بين العامة يستمرّ فى كل يوم حتى صار لا ينكر ولا يمكن حسمه، وظهر نقصان الهيبة وعجز السلطان. وعطف بختيار على وزيره أبى الفضل العباس بن الحسين بمطالبة الأموال وإعطاء الرجال وإرضاء طبقات [389] الجند وكان لا ينظر فى دخل ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 خرج وإنّما يلزم وزيره تمشية الأمور من حيث لا يعينه ولا ينصره ولا يمنع أحدا من جنده شيئا يلتمسه ولا يقبض يده ولا لسانه عن كلّ ما يفسد حاله وشأنه ويحبّ أن تقضى أوقاته فى الصيد والأكل والشرب والسماع واللهو واللعب بالنرد وتحريش الكلاب والديكة والقباج. فإذا وقفت أموره قبض على وزيره واستبدل به فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان. فلمّا بلغ الأمر بوزيره أبى الفضل هذا المبلغ ولم تبق له حيلة فى درهم يأخذه من وجهه عدل إلى طلب الأموال من الوجوه المذمومة التي تقبح [1] الأحدوثة بها وتحرم ولا تحلّ فى شيء من الأديان. فبعث بختيار على مطالبة المطيع لله بمال يوهمه أنّه من وراء ثروة ومال وأنّه يحتاج إلى إخراجه فى طريق الغزو وأنّ ذلك واجب على الإمام. ذكر الرسائل والجوابات التي دارت بين المطيع وبين بختيار وما آل إليه أمر أبى الفضل من الهلاك أجابه المطيع لله بانّ: «الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا فى يدي والىّ تدبير الأموال والرجال وأمّا الآن وليس لى منها إلّا القوت القاصر عن كفايتي [2] وهي فى أيديكم وأيدى أصحاب الأطراف فما يلزمني غزو ولا حجّ ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه وإنّما لكم منّى هذا الاسم الذي يخطب به [390] على منابركم تسكنون به   [1] . فى مط: تفلج. [2] . كذا فى الأصل ومط: كفايتي. والمثبت فى مد: كفائى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 رعاياكم. فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت عن هذا المقدار أيضا وتركتكم والأمر كلّه.» وتردّدت المخاطبات فى ذلك والمراسلات حتى خرجت إلى طرف من أطراف الوعيد واضطر إلى التزام أربعمائة ألف درهم باع بها ثيابه وبعض أنقاض داره. وشاع الخبر ببغداد بين الخاصّ والعام وعند من ورد من حاجّ خراسان وغيرهم من الواردين عن الأقطار: - «إنّ الخليفة صودر.» وكثرت الشناعات. [1] وعوّل أبو الفضل الوزير فيما يحتاج إليه من مال الجند والإقامات التي تلزمه للأتباع والحاشية على مصادرات الرعية والتجار والتأويل عليهم بالمحال. وابتدأ بأهل الذمّة ثم ترقّى إلى أهل الملّة فأخذ أموال الشهود ووجوه البلد من أهل السّتر وبثّ السعاة والغمازين وسمّاهم العمال وأجرى عليهم الأرزاق وكثر الدعاء عليه فى المساجد الجامعة وفى الكنائس والبيع وفى المحافل والمجالس وزادت العامة على ما ذكرت من حالها فى الإغارة والإقدام على النهب والحرق وأسرفت فى ذلك حتى بطلت الأسواق وانقطعت المعايش وتعذّر على أكثر الناس الوصول إلى ماء دجلة حتى شربوا ماء الآبار وحصلوا [2] فى شبه الحصار.   [1] . زاد صاحب تاريخ الإسلام: فشددوا على المطيع لله حتى باع قماشه وحمل أربعمائة ألف درهم فأنفقها ابن بويه فى أغراضه وأهمل الغزو وشاع فى الألسنة أنّ الخليفة صودر كما شاع قبله أنّ القاهر بالله كدى يوم جمعة. فانظر إلى تقلبات الدهر. (مد) [2] . فى مط: وحصروا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 ورام الوزير أبو الفضل تسكينهم فتعذّر عليه حتى أركب إليهم طائفة من الجيش فواقعوهم [391] وكسروهم ونقصت الهيبة أكثر مما كانت عليه وركب أبو الفضل بنفسه لقتال العيارين وواقعهم فلم يقدر عليهم. وكان فى حجابه رجل يعرف بصافى ذميم الأخلاق دنىّ النفس يتعصب لأهل السنة. فضرب محلة الكرخ وهي مجمع الشيعة ومعظم التجار بالنار فعظم الحريق وتلفت البضائع وصارت المضرّة على الرعية فيما دبّره سلطانها أعظم مما جناه سفهاؤها. الوزير يصرف نقيب الطالبيين وكان بين أبى أحمد الموسوي- وهو الحسين ابن موسى ويتولى نقابة الطالبيين- وبين أبى الفضل الوزير مناظرة فيما جرى على الشيعة فأظهر امتعاضا وخرج فى المناظرة إلى المهاترة. فصرفه الوزير عن النقابة بأبى محمد بن الناصر وهو الحسن بن أحمد العلوي وحصل أبو أحمد الموسوي من أعداء أبى الفضل المكاشفين له المثربين عليه وحصل أبو الفضل فريدا لا ناصر له. سبب عداوة سبكتكين للوزير أبى الفضل أمّا سبكتكين فيطلب عنده ثأر أبى قرّة وفى نفسه عليه ما كان منه فى استدعاء بختكين آزاذرويه من الأهواز إلى واسط ليقيم مقامه ويجعله ضدّا له، وشيء آخر كان عظيما عنده قبيحا وهو أنّ سبكتكين كان يختصّ غلاما تركيا من غلمانه، فغضب عليه وأمر ببيعه فى السوق فنصب الوزير أبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 الفضل من اشتراه له بضعف قيمته وتحظّاه ونزل عنده [1] منزلة من كان فى نفسه منه عشق ثم موّله وأعطاه [392] شيئا كثيرا حتى صار أجلّ وأيسر من غلمان سبكتكين. فلحقت سبكتكين من ذلك غيرة شديدة وفسد عليه غلمانه الذين فى داره بما وصل إليه هذا الغلام. فهذه أسباب عداوة سبكتكين وقد حكينا عداوة الجرجرائى له، وعداوة أبى أحمد الموسوي النقيب له، ثم عداوة محمد بن بقية له. وكان ابن بقية قد ملك قيادة بختيار وكان سبب عداوته له أنّ أبا نصر المعروف بابن السراج- واسمه ابراهيم بن يوسف وهو من الأشرار المعروفين بالسعاية- قد جمع بالمكسب الخبيث مالا عظيما وأعتقد [2] ضياعا جليلة فشعثها أبو الفضل تشعيثا يسيرا أخرجه به إلى عداوته والسعى على دمه وكان يجتمع مع المعروف بمحمد بن أحمد الجرجرائى كاتب شرمزن الذي قدمنا خبره وسبب عداوته لأبى الفضل، ويداخلان محمد بن بقية ويعرضانه للمكاسب الجليلة والفوائد العظيمة ولم يزالا به حتى غيّرا رأيه فى الوزير أبى الفضل وأوهماه أنّه ساع عليه وأنّه لن يبعد أن يضمنه من بختيار بمال عظيم ثم تجاوزا ذلك إلى أن أشارا عليه بتقلّد الوزارة وأن يسبقه إلى القبض عليه والراحة منه. ذكر السبب فى تقلّد ابن بقيّة الوزارة لم يكن ابن بقية يستقلّ ولا يكمل لحمل دواة بين يدي وزير ولا يطمع فى شيء من هذه المراتب [393] ولكنه تقدم عند بختيار وقت خلافته لصاحب المطبخ فى توفير وفّره، وخدمة فى جملتها تمسخر. وكان مستخرجا عسوفا شديد القسوة جاهلا وفيه مع ذلك سماحة وسعة صدر   [1] . كذا فى الأصل ومط: عنده. والمثبت فى مد: عنه. [2] . كذا فى الأصل ومط: اعتقد. والمثبت فى مد: أعقد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 وهو فى هذه السيرة متشبه بأهل الشطارة والفتاك والدعار وليس يسلك طريقة أهل الكرم والرياسة ولما أشار عليه هذان بالدخول فى الوزارة والقبض على أبى الفضل قبل أن يسبقه إلى ذلك، دهش وعلم أنّه يعجز عمّا أشارا به عليه. ذكر كلام سديد لابن بقيّة فى تلك الحال إنّه أجابهما بأن قال: «لا صناعة لى ولا توجّه فيما تدعوانى إليه ولى عند صاحبي منزلة كبيرة تحتاج الوزراء إلىّ معها وأخاف أن أدخل فيما ليس من عملي واتهجّن ويقدح فى منزلتي وأحطّ عنها من غير أن أنتفع بالوزارة.» فشجّعاه وجسّراه، وضمن له محمد بن أحمد الجرجرائى أن يخلفه [1] ويكفيه العمل كله ثم صارا إلى سبكتكين الحاجب وذكراه بأفعال الوزير أبى الفضل وحملاه على الشروع فى صرف أبى الفضل ونكبته فقال لهما: - «إنّى لم أزل معتقدا لذلك وإنّما كان توقفى عنه طلبا لمن يقوم مقامه ويسدّ مسدّه. إذ كان محمد بن العباس [2] قريب العهد بالصرف ولم يكن مرضيّا فى وزارته ولا [394] ناهضا بها وقد حفظت على الأمير بختيار أيمان البيعة بأن لا يقلّده وزارته.» فخاطباه فى تقليد ابن بقيّة وضمنا عنه أن ينهض ويغنى ويكفى وأنّهما يعضدانه ويشدّان منه فى التدبير والنظر فى الأمور. فاستروح سبكتكين إلى ذلك وجمع به التشفي من أبى الفضل وفساد أمر بختيار، وتجشّم احتمال الغضاضة فى توفية محمد بن بقية حقوق الوزارة بعد أن لم يكن ممن يجوز   [1] . كذا فى الأصل ومط: يخلفه. والمثبت فى مد: يخفه. [2] . يعنى ابن فسانجس الوزير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 أن يعدّه من أصاغر خدمه ولا يطمع فى دخول داره وإنّما تجرّع ذلك وطابت به نفسه لعظيم ما كان فى قلبه من أبى الفضل. فراسل بختيار فى ذلك وقد كان بختيار ساء رأيه فى أبى الفضل جدّا فاستجاب إليه. وقد كان أبو سهل ديزويه العارض مرموقا بمال عظيم ولم يتمكن منه لمصاهرة كانت بينه وبين شيرزاد بن سرخاب. فلما نفى شيرزاد احتيج إليه فى تسكين الجند مديدة فتدافعت نكبته. ثم إنّ أبا الفضل همّ فى هذا الوقت بالقبض عليه فأحبّ ابن بقية أن يتولى أبو الفضل القبض عليه ثم يتسلمه هو ويستخرج أمواله. فجرى الأمر على ذلك فقبض أبو الفضل على أبى سهل ديزويه [1] فى يوم الخميس وقبض ابن بقية على أبى الفضل يوم الأحد. فكان بينهما ثلاثة أيام واستتمّ القبض على جميع [395] كتّابهما ومن يتصل بهما من أسبابهما وكان ذلك فى سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة. الصلح والمصاهرة بين عضد الدولة وبين منصور بن نوح صاحب خراسان وفى سنة إحدى وستّين وثلاثمائة وقع الصلح بين عضد الدولة وبين أبى صالح منصور بن نوح صاحب خراسان ووقعت المصاهرة فتزوج منصور بن نوح بابنة عضد الدولة ونفذ فى ذلك عابد بن على مع عشرة أنفس مختارين من الأشراف والقضاة والشيوخ المذكورين وتكلّف صاحب خراسان مؤونة عظيمة للرسل والشيوخ وحمل هدايا كثيرة لم تحمل مثلها قطّ إلى عضد الدولة وكتب بينهما كتاب اتفاق بين الجهتين وكتب فيه شهود العراق   [1] . فى مط درويه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 الحاضرون وشهود خراسان خطوطهم. ابن معزّ الدولة يلقّب عمدة الدولة وفى سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة خلع المطيع لله على أبى إسحاق ابراهيم بن معزّ الدولة وكنّاه ولقبه عمدة الدولة. [1] ذكر وقعة بين الدّمستق وبين هبة الله بن ناصر الدولة وفى هذه السنة جرت وقعة بين الدّمستق وبين هبة الله بن ناصر الدولة بناحية ميّافارقين وكانت عدة الدمستق عظيمة كثيفة لكنه اتفق أن لقيه فى مضيق لا تجول فيه العساكر وكان الدمستق فى أول عسكره على غير أهبة تامّة فانهزم الروم وأخذ الدمستق أسيرا وتمكن المسلمون منهم وأعزّ الله دينه وكثر القتل والأسر حتى أنفذ إلى بغداد الرءوس والأيدى وكانت كثيرة فشهرت وكانت [396] هذه الوقعة فى آخر يوم شهر رمضان سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة وحبس أبو تغلب الدمستق إلى أن جرح به جراح عظيم فبطّ وتأدت الحال به إلى الموت بعد أن كان أحسن ضيافته واجتهد فى علاجه وقدّر أن يبلغ به من ملك الروم ما يريد. وزارة محمد بن بقيّة وفى هذه السنة خلع ثانى يوم قبضه على أبى الفضل وهو يوم الاثنين السابع من ذى الحجة سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة على محمد بن بقيّة وكان   [1] . زاد صاحب التكملة: خلع عليه من دار الخلافة بالسيف والمنطقة ورسم بحجبة المطيع لله على رسم أخيه عزّ الدولة فى أيام أبيه. (مد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 إلى هذا اليوم يقدم الطعام إليه ويحمل الغضائر بيده ويتشح [1] بمناديل الغمر ويذوق الألوان عند تقديمه [2] ايّاها على رسم من يخدم فى المطبخ خدمته. فلما وزر عاد يريد الخدمة فى ذلك فنهاه بختيار. وتعجّب الناس من وزارته. كان دنيّا لا يقع عينه إلّا على من كان فوقه ولا يرى نفسه إلّا دون كلّ أحد فازدادت دولة بختيار به سقوطا وإخلاقا وتضاحك صغار الناس به قربا وبعدا. واستخلف حين وزر محمد بن أحمد الجرجرائى وناط الأمور به وبالمعروف بأبى نصر السرّاج واستقصى على أبى الفضل فى المطالبة بالمال حتى تقرر أمره على مائة ألف دينار. فلمّا صحّ أكثرها سلّم إلى أبى الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي الكوفي على أن يخرجه [397] إلى الكوفة ويحبسه عنده فتسلّمه وعاش عنده مديدة وتلف فلم يشكّ أحد أنّه مات مسموما. وقبل ذلك توفّيت زينة بنت أبى محمد المهلّبى- رحمه الله- وقد كان أخوها أبو الغنائم تقدمها وأكثر أهلها وانقرضت [3] الجماعة ثم تبعهم [4] جميع من اشترك فى دم أبى الفضل قتلا من غير أن طال بهم الأعمار وسنذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله. ذكر ما دبّر به ابن بقيّة أمره حتى تماسك مديدة إنّه جدّ فى مطالبة أبى الفضل وأسبابه من خلفائه وحجّابه وغلمانه وكل   [1] . فى مط: يمسح، بدل «يتشح» . [2] . كذا فى مط ومد وفى الأصل طموس. [3] . فى مط: وانقضت. [4] . كذا فى الأصل ومط: تبعهم. والمثبت فى مد: تتبعهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 من انتسب إليه وإلى ديزويه العارض حتى استصفى أموالهم واتسع بما وصل إليه مديدة ومشت الأمور بين يديه فتبجّح بذلك وادعى حسن الأثر وتوصل إلى أن كنّاه المطيع ولقّبه الناصح فخلع عليه الخلع السلطانية بأمر بختيار وإذنه. وكثر ذمّه لأبى الفضل والطعن عليه وادّعى العدل والإنصاف فلم تمض إلّا أيام حتى ارتكب من الظلم والغشم وإثارة الفتن ما صارت أيام أبى الفضل بالقياس إلى أيّامه جارية مجرى أيام العمرين [1] وكل ذلك لسوء نظر بختيار وإهماله الأمور وإقباله على الشهوات واستثقاله مباشرة [398] التدبير حتى سقطت الهيبة وانبسطت العامة وأغار بعضها على بعض وظهرت الأهواء المختلفة والنيّات المتعادية وفشا القتل حتى كان لا يعدم فى كل يوم عدة قتلى لا يعرف قاتلوهم وان عرفوا لم يتمكّن منهم فانقطعت مواد الأموال وخربت النواحي المتباعدة بخراب دار المملكة وظهر فى كل قرية رئيس منها مستول عليها وتباغوا بينهم وحصل السلطان صفر اليد والرعية هالكون والدور خراب والأقوات معدومة والجند متهارجون. ذكر تدبير دبّره الترك وأكابر الحاشية والجند حتى سكن أمرهم مديدة ثم عادت الحال كأسوأ ما كانت شرع ابن بقيّة فى إصلاح ما بين بختيار وسبكتكين وتوسّطه الوجوه والأكابر فتردّدت المراسلات ووجوه الكتّاب والقوّاد وأخذ لكل واحد منهما على صاحبه يمين مؤكدة على التصافي والتآلف. فلمّا تمّ الاتفاق بينهما ركب سبكتكين إلى بختيار مع جماعة من الأتراك   [1] . فى مط: الغمرين وفى الأصل: الغمرّين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 فلقيه وسلّم عليه وانصرف، ولم يعد إليه ولا اجتمعا إلّا فى الموكب وعلى سبيلهما الأولى فى التحرز ونشأت بينهما ظنون سيئة وبلاغات منكرة ووجد الأعداء والمتسوقون [1] طريقا سهلا فى الشر فسلكوه فعادا إلى التنافر. [399] ذكر سبب قوىّ فى عودهما إلى الحال الأولى من العداوة اجتاز ديلمى من سقط الجند سكران فى فناء [2] دار سبكتكين الحاجب فيما يلي دجلة وهو نائم فرمى الديلمي أحد صوالجة الروشن بزوبين كان معه فأثبته فيه على سبيل العبث فظنّ سبكتكين أنّه مدسوس عليه ليرميه فتقدم بأخذه فأخذ وسئل واستقصى عليه فلم يكن لذلك الظنّ أصل فأمر بإنفاذه إلى بختيار وتعريفه ما كان منه فلمّا حصل بحضرته أمر بقتله فقتل، وتحرك الديلم وأنكروه واستشنعوا فعله وشغبوا وحملوا السلاح ولزموا موضع الشغب ثلاثة أيام ثمّ استعطفوا فرجعوا إلى منازلهم والقلوب نافرة. ودخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة خروج بختيار إلى الموصل وفيها خرج بختيار إلى الموصل طمعا فى تناول بعض ما فى تلك الأعمال والاتّساع به وحرصا على التصيّد فى طريقه.   [1] . يعنى السعاة. قال أبو العلاء المعرى فى اللزوميات (1: 21) : ولا تقبلوا من كاذب متسوق (مد) . [2] . قال فى حواشي مد: «قد سقط شيء.» وليس كذلك، فالعبارة مستقيمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 شرح هذه الأسباب وذكرها على التفصيل قد كان أبو الفضل قبل صرفه عن الوزارة الأخيرة أطمع بختيار فى الموصل وقدّر أنّ خروجه إليها يشغله عن نفسه وقصده ويدفعه عن نكبته وليتغلّل بما يتناوله من تلك الأعمال غلّة [1] وما لا يستعين بها فى القضيم والأقوات. فلمّا تقلد محمد بن بقية الوزارة سلك هذه السبل فى بعثه على الخروج، وحرص ابن بقية على الموصل. [400] ذكر سبب ذلك وردت كتب أبى تغلب على ابن بقيّة مع علىّ بن عمرو كاتب أبى تغلب ووزيره بمخاطبة دون ما كانت تكاتب به الوزراء قبل ذلك لانحطاط منزلته فى نفوس الناس وأبت نفس أبى تغلب أن يوفيه جميع ذلك الحق فاغتاظ ابن بقيّة من ذلك وذكر علىّ بن عمرو وصاحبه أبا تغلب بالقبيح وتوعّدهما بالمسير، فتلافاه بالمكاتبة المستوفاة فلم ينصرف ابن بقيّة عن عزيمته. وأحب بختيار الخروج إلى الموصل للأمور التي ذكرناها وقد كان أبو المظفر حمدان وأبو طاهر ابراهيم ابنا ناصر الدولة حصلا ببغداد وطمع أبو تغلب فى استصلاح أخيه إبراهيم ولم يطمع فى حمدان لوكيد العداوة بينهما فكاتب إبراهيم وأرغبه ليقطعه عن مضامّة حمدان وصادف ذلك تقصيرا من بختيار. ونظر إبراهيم فإذا أحوال أخوته الذين أقاموا مع أبى تغلب مستقيمة منتظمة وكاتبه: «يأتى صائر [2] إليك» واستدعى منه نفرا من الفرسان   [1] . كذا فى مط ومد: «ليتغلّل ... غلّة» . وما فى الأصل بالعين المهملة. [2] . كذا فى الأصل ومط: صائر. والمثبت فى مد: سائر. وللصائر أيضا وجه من المعنى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 والأعراب ليصحبوه فأنفذهم إلى قرب بغداد على سمت البرية فهرب إليهم وأخذ معه أخاه المسمى ذا القرنين [1] وكان رهينة فى يد معزّ الدولة ثم فى يد بختيار وهرب من محبسه ليلا وخرج مع أخيه. فلمّا كان الصبح عرف بختيار الخبر فلم يكن له فيه حيلة وجعل ذلك سببا ظاهرا للخروج إلى الموصل والباطن ما تقدّم [401] ذكره. وكان حمدان ابن ناصر الدولة من أشد الناس بعثا له على الشخوص إلى تلك البلاد وطمعا فى التشفّى من أبى تغلب. فاستحلفه بختيار بغموس الأيمان بعد هرب إبراهيم على الثبات معه والنصيحة له وتمّت العزيمة. فخرج بختيار وسبكتكين الحاجب ومحمد بن بقيّة الوزير وذلك فى شهر ربيع الأول من سنة ثلاث. ذكر الحال فى هذه الخرجة وما آل إليه الأمر وقع التدبير على أن يخرج سبكتكين فى الجانب الشرقي على المقدمة ويتلوه بختيار سائرا على أثره وبينهما مرحلة واحدة فإذا صاروا بإزاء تكريت عبر بختيار وسار فى الجانب الغربي واستمرّ سبكتكين سائرا فى الشرقي ففعلا ذلك وسبق بختيار إلى الموصل وقد رحل عنها أبو تغلب إلى سنجار بعسكره كلّه وأخلاها من كل ميرة وكل كاتب ومتصرّف، ثمّ توجه من سنجار إلى مدينة السلام وهو من الجانب الغربي. وتأخر سبكتكين بالحديثة وأظهر التشاغل بعبور السفن فاتصل خبر أبى تغلب وخروجه إلى بغداد ببختيار فكتب إلى سبكتكين يرسم له العبور إلى الجانب الغربي والمسير فى أثر أبى تغلب وأنفذ إليه شطر عسكره وحمدان بن   [1] . هو أبو المطاع وجيه الدولة ولى دمشق من قبل الحاكم صاحب مصر سنة 401: كذا فى تاريخ ابن القلانسي ص 69 (مد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 ناصر الدولة وجمهور العسكر وأنفذ محمد ابن بقية فى الطيارات والزبازب راجعا إلى بغداد بعد أن استخلف [402] بحضرته محمد بن أحمد الجرجرائى. فسبق أبو تغلب وانتهى إلى قرية تعرف بالفارسية [1] على نهر الدجيل بينها وبين بغداد نحو ثلاثة فراسخ فعسكر بها وعامل من اجتاز به من أهل السواد بالجميل ولم يأخذ منهم شيئا إلّا بالثمن الوافر وأظهر العدل والإنصاف. وصارت طلائعه ترد إلى بغداد وخرج إليه جماعة من عوامّ الناس وأوباشهم مستقبلين له مظهرين السرور بمقدمه وبرز أبو إسحاق ابن معز الدولة وكان يخلف أخاه بختيار إلى باب الشماسية وانتقل المطيع لله ووالدة بختيار وجماعة الحرم والأولاد إلى القصر الذي بناه معزّ الدولة بباب الشماسية على طريق التحصن وعقد أبو إسحاق جسرا فى هذا الموضع على دجلة وعبر بطائفة من الجيش الذي كان معه وأظهر أنّه يريد الحرب والمدافعة من غير عزيمة صحيحة وإنّما أراد التماسك إلى أن يصل سبكتكين الحاجب. فتعجّل وصول محمد بن بقية سابقا فى آلات الماء فشد من أبى إسحاق وافتتن الجانب الغربي وعاد العوام إلى حمل السلاح والحرب وطلب الطوائل واستتر التجار وتعطلت الأسواق وعبر أهل النباهة من الغربي إلى الشرقي ونزل سبكتكين بأوانا بإزاء عكبرا. فعدل أبو تغلب من موضعه راجعا إليه فنزل فى قرية بينهما نحو نصف فرسخ [403] وتصافّ العسكران ووقع الطراد بين سرعان الخيل وطوائف من الاعراب ثم تكافّا وجنحا إلى الصلح.   [1] . كذا فى الأصل وهو المثبت فى مد. فى مط: القادسيّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 ذكر مكيدة جرت فى هذه الحرب واجتماع من سبكتكين وأبى تغلب على بختيار وحيلة بينهما لم يتمّمها سبكتكين وضيع فرصته فيها كانت الموافقة فى السرّ تجرى بين أبى تغلب وسبكتكين على الموادعة واظهار الخلاف إلى أن يتمكّن سبكتكين من القبض على الخليفة ووالدة بختيار وحرمه ومحمد بن بقيّة وإظهار العصيان عند ذلك ثم يعود إلى بغداد ويعود أبو تغلب إلى الموصل قاصدا بختيار وهو فى عدد قليل فيتمكن منه ويقلب دولته سريعا. ففكّر سبكتكين فى سوء السمعة ولم يقدم على حرم مولاه وعلى الخليفة وخاف عاقبة ذلك. وبادر محمد بن بقية من بغداد إلى سبكتكين فاجتمع معه وحضرهما رسل أبى تغلب وتقرر الصلح على المبلغ الاول وزيادة ألف كرّ من الحنطة فى كل سنة وعلى أن يطلق أبو تغلب لبختيار ثلاثة آلاف كرّ حنطة عوضا عن مؤونة سفره. وانكفأ أبو تغلب إلى الموصل قاصدا بختيار وهو فى خفّ [1] من عسكره فأيقن الناس أنّ أبا تغلب لم يقدم على القرب من سبكتكين إلّا على ثقة من أنّه لا يحاربه وأنّ ذاك الطراد الذي وقع بين أوائل العسكرين إنّما كان [2] تمويها. ودخل سبكتكين وجميع [404] العسكر بغداد وأسلم بختيار وقامت القيامة على محمد بن بقية من ذلك وطالب سبكتكين بمعاودة المسير واللحاق بصاحبه بختيار فتثاقل عن ذلك واحتجّ بأنّ الرجال لا يستجيبون   [1] . الخفّ: الجماعة القليلة. [2] . فى مط: هو. بدل «كان» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 للعود ثم فكر فى العواقب فانكفأ على مضض ورحل وقد ظهر للناس ما كان همّ به الا أنّه ما فعل ولو همّ وفعل لكانت فرصة عجيبة وكان لا يمتنع عليه شيء من التدبير الذي ذكرناه. ثم جدّ سبكتكين وابن بقيّة وسائر الجند فى المسير مصعدين وقد كان بختيار حين عرف خبر رجوع أبى تغلب إليه جمع إليه أطرافه وردّ قواده من النواحي التي كان فرّقهم فيها وخاف خوفا شديدا وعبّى مصافّه فى الموضع المعروف بالدير الأعلى من ظاهر الموصل وقرب أبو تغلب ونزل أسفل الحصباء [1] على حالة الأهبة والتعبئة ولم يبق بينهما فى المسافة إلّا طول قصبة الموصل فقط وأحجم كل واحد عن صاحبه وعن المناجزة الّا أنّ أبا تغلب كان الأظهر لكثرة عدده وتعصّب أهل الموصل له. وخاض الناس بينهما فى حقن الدماء وتتميم الصلح الذي تقدم ذكره فاشتطّ أبو تغلب فى الحكم والتمس النقصان والحطيطة وطالب بتسليم زوجته بنت بختيار إليه وأن يلقّب لقبا سلطانيا. فأجابه بختيار إلى ذلك كلّه تفاديا من اللقاء. وجرى كلام فى معنى حمدان وأن يفرج عن ضياعه وأملاكه [405] بغلّاتها وعن القلعة المفردة له المسماة وهي قلعة ماردين. وكانت هذه القلعة مسماة لحمدان ومفردة له منذ أيام أبيه وقد رتّب أخاه من أمّه مع ثقات له فيها فاحتال أبو تغلب على هذا الأخ حتى رغب فى مال يتعجله وخان أخاه وسلّمها. فامتنع أبو تغلب من ذلك كله ولم يدخل فى شرائط الصلح شيئا منه وكان غائبا عن هذا الأمر وحاصلا ببغداد مع سبكتكين الحاجب. فضعف بختيار   [1] . والمثبت فى مد: الحصبا. (دون الهمزة) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 عن الاستيفاء وكان غرضه المفالتة وان يفرج له أبو تغلب فخرج الى موضع يقال له: قرن الآئل، على خمسة فراسخ من معسكره فى عرض الموصل بعد ان حلف كل واحد منهما لصاحبه يمينا أخذها عليهما أبو أحمد الموسوي وجماعة من السفراء وانحدر بختيار الى الحديثة وأهل الموصل يتبعونه باللعن والدعاء عليه ويتبعون أصحابه ويتوثبون عليهم. وذاك أن محمد بن أحمد الجرجرائى خليفة ابن بقيّة ظلمهم وعسفهم فكان انصراف بختيار عن هزيمة ظاهرة. فلمّا تحرّك من موضعه وانحدر دخل أبو تغلب الموصل وظفر بجماعة كانوا مالوا إلى بختيار من أصحابه وأهل الموصل فسمل عيونهم [1] . ووجد رجلا عقيليا يعرف بابن العجّاج كان استأمن من عسكره إلى بختيار ولم يخرج عن البلد تعويلا على ما جرى من الصلح فضرب رقبته. ولما وصل سبكتكين ومحمد بن بقيّة وحمدان والجيش واجتمعوا مع بختيار اضطرب حمدان من خروجه عن الصلح وأنف محمد بن بقيّة من الحال التي انصرف عليها بختيار واتفقوا على أن يجعلوا ضرب رقبة هذا العقيلي وسمل العمال [406] ووثوب أهل الموصل على حاشية بختيار وأتباعه عذرا فى الرجوع وحجّة على أبى تغلب فى الفسخ. فعطفت الجماعة بجميع العسكر إلى الموصل. فهرب أبو تغلب عنها الى ناحية يقال لها: تلّ أعفر [2] ، وردّ كاتبه المعروف بأبى الحسن على بن عمرو بن ميمون برسالته إلى بختيار يعاتبه فيها على النقض وينسبه إلى الغدر فقبض محمد بن بقيّة عليه واعتقله وامتهنه واحتجّ عليه بما ذكرنا فجحد أن يكون ما جرى من القتل والسمل بأمر أبى تغلب وأحال فيه على بعض غلمانه. ثم تقرّر الأمر بعد خطوب جرت على إتمام الصلح وقوّمت الغلة وردّت   [1] . فى مط: فسمل على عيونهم. [2] . فى مط: قلّ أعفر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 إلى الورق ووضع عنه ما استخرجه بختيار من الموصل وأعمالها ونجم الباقي على تعجيل وتأجيل وشرط الإفراج عن ضياع حمدان خاصّة دون قلعة ماردين ودون ما أخذ منها ومن ارتفاع الضياع وأن يسلّم القوم الذين قتلوا العقيلي وسملوا العمال لينفذ فيهم بختيار حكمه، فأنفذهم أبو تغلب اليه على ثقة بأنه لا يسيء إليهم لعلمهم جميعا أنهم مأمورون فعفا عنهم بختيار- وعلى أن يلقّب أبو تغلب ويزفّ إليه زوجته وجدّدت الأيمان والعهود على الفريقين وانصرف بختيار وتشاغل فى طريقه بالتصيّد وكان وروده مدينة السلام لعشر خلون من رجب من هذه السنة وورد كاتب أبى تغلب فأنجز له بختيار المواعيد وسأل المطيع لله فى تقليبه فلقّب عدّة الدولة، وأنفذ اليه [407] خلع سلطانية ونقلت اليه زوجته ووقع البدار به ليصح المال. وفى هذه السنة هلك محمّد بن أحمد الجرجرائى وتلف فى المصادرة ذكر السبب فى ذلك كان ابن بقيّة لا يبقى على أحد يتّهمه أو يسبق إلى قلبه منه شيء بل يعاجله قبل التأمّل ويقتله من غير تثبّت. وكان أهلك قوما من أهل الكفاية والكتابة بالظنّ والتهمة وأنهم سيصلحون لمكانه. ولما أفضت إليه الوزارة وكان المتولى للبصرة على بن الحسين الشيرازي المعروف بأبى القاسم المشرف [1] وكان يعاديه ويعتقد أنه ذو كفاية فأراد القبض عليه واستصفاء ماله وإتلافه فتدافع ذلك إلى أن عاد من الموصل فعمل على أن ينفذ محمد بن أحمد الجرجرائى فى ذلك طلبا لإبعاده عن الحضرة ولأن حاله كانت تمهدت عند بختيار لتقدّمه على ابن بقية فى الكتابة ولأنه عقد بينه وبين   [1] . فى مط: المشرق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 قهرمانة بختيار التي يقال لها: تحفة، فكانت تحامى عليه وتتعصب له وكان مع ذلك يتكلّم بالفارسية، وابن بقيّة لا يعرف منها شيأ، فتطاول بهذه الأشياء على ابن بقية واستهان ببعض ما كان يأمره به، ثم بلغه أنّه مهد لنفسه حالا عند بختيار أيام تفرّده بخدمته بالموصل. فلما اجتمعت عليه هذه الأشياء أراد إبعاده عن الحضرة وإخراجه فى القبض على على بن الحسين والنظر فيما كان ينظر فيه. فلما خاطبه فى ذلك نفر منه وأحس بتغيّر نيّته له واجتهد [408] فى أن يعفيه فلم يفعل فانحدر وقد نبا كلّ واحد منهما عن صاحبه. ولو صبر على أن يكون عامل البصرة لما خرج به ابن بقيّة إلى ما خرج ولكنّه لما رءاه يأبى [1] إلا التشبّث بالحضرة والتمسك بما كان ناظرا فيه دون ما سواه اتهمه وازداد شكّا فيه. وكان ابن بقية قدّم كتّابه إلى صاحب له ينوب عنه بالبصرة يقال له: عبد العزيز بن محمد الكراعى، وهو من الأوغاد الأصاغر الذين ارتفعوا بارتفاعه وأمره يعرّفه نيّته فى على بن الحسين ويأمره بالقبض عليه. فانحدر الجرجرائى على أن يصادره وينصب مكانه ضامنا له أو عاملا غيره ويعود فلما استقر بالبصرة وافق على بن الحسين على مال التزمه وأضافه إلى أصل ضمان البصرة وجدد إيقاع العهد عليه وردّه إلى عمله من غير استئذان لمحمد بن بقيّة وكتب إليه بأنّ الصواب أوجب ذلك عنده وأنه مصعد إلى الحضرة فاغتاظ من فعله ورآه بصورة من يستهين به ويؤثر المقام بالحضرة فكتب الى عبد العزيز بن محمد الكراعى بالقبض عليه وعلى علىّ بن الحسين ففعل ذلك. فأما علىّ بن الحسين فإنّه قرّر أمره على بعض المقاربة وردّه إلى العمل   [1] . فى مط: يأتى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 بعد خطوب جرت فيه. وأمّا الجرجرائى فإنّه أخذ خطّه بمال ثقيل فصحّ له بالبصرة شيء يسير واشترط لنفسه أن يحمل إلى بغداد ليصحّ المال إذ كان وطنه بها وفيها نعمته وإنّما كان غرضه [1] [409] بالقهرمانة التي كانت تعزّه. فسابقه محمد بن بقيّة إليها فاشتراه بخمسين ألف درهم منها فأسلمته وخلّت بينه وبينه. وكتب بحمله وتقدّم إلى عامله بواسط وهو محمد بن أحمد المكنى أبا غالب الصريفيني، بأن يتسلّمه حتى يصل إليه ويتولّى من أمره ما الله مسائله عنه. فتسلّمه أبو غالب ومكث فى يده أياما وأظهر أنّه اعتلّ ومات وحساب الجماعة على الله الحكم العدل. وفى هذه السنة بدأت فتنة الأتراك بالأهواز ثمّ عمّت جميع العراق ذكر السبب فى هذه الفتنة كيف نشأت قد كانت الإضاقة فى المال والتسحّب من الرجال زاد على بختيار حتى نبت به الديار وتعذّر عليه الاستقرار. فكان وزراؤه وكتّابه يحتالون له فلا يجدون طريقا لمصلحة ولا يتّجه لهم وجه الصواب. وكلما أمّلوا أملا خابوا، أو قصدوا عدوّا نكبوا ونكصوا. لأنّ الأبنية كانت توضع على أصول غير مستقرّة وقواعد غير قويّة فلا يبعد أن يتقوّض فيعتاص عليهم المذاهب. فاعتقد بختيار ومحمد بن بقية عند منصرفهم من الموصل بالخيبة أن يخرجا الى الأهواز فيستقصيا على بختكين آزاذرويه ويصرفاه عن البلد ويعملا له أعمالا ويطالباه بمال ويمرّا عليه النكبة ثم يفرّقا الأتراك عن سبكتكين ويخفّفا عدد من يبقى منهم ببغداد [410] ويحتالا عليه من البعد ليستريحا منه ويحصّلا أمواله واقطاعه ونعمته ويتّسعا بذلك.   [1] . كذا فى مط. قال فى حواشي مد: لعله سقط مثل «الاجتماع» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 فانحدرا إلى الأهواز فى شعبان سنة ثلاث وستّين. فلما صارا بواسط أنفذ إليهما بختكين ثلاثمائة ألف درهم ثم نزلا الأهواز فحمل إليهما ما يحمل إلى الأصحاب وخدمهما وبذل من نفسه الطاعة فى المحاسبة والموافقة. فلم تمض على ذلك أيام حتى ثارت فتنة بين الأتراك والديلم فى سبب صغير قد كان يجوز أن يستدرك قبل أن يستفحل ويستصعب. فاغتنماه وجعلاه ذريعة إلى إتمام ما كانا همّا به، وأجرياه على تخليط وفساد من غير تحرّز ولا احتياط. ذكر الخطأ الفاحش والتخليط الذي استعمل فى التدبير حتى انعكس وعاد وبالا إنّ بختيار خلف ببغداد والدته وإخوته وأولاده وحرمه وخزائنه وأكثر سلاحه وقطعة من خيله فى قبضة سبكتكين عدوّه الذي هو فى طريق التدبير عليه ومكاشفته بالعداوة. ثمّ أخذ يتطلّب عورة الأتراك الذين معه وينتهز الفرصة الضعيفة فيهم ليفسدهم على نفسه وينبّه سبكتكين على تدبيره عليه. فكان مبدأ هذا الفساد أنّ غلاما من الأتراك نزل بسوق الأهواز دارا تجاور بعض الديلم وكان على بابها لبن مشرّج فأراد أن يبنى به معلفا لدوابّه. واحتاج ذلك الديلمي أيضا إلى شيء منه فوجّه غلامه ليأخذه فمنعه غلام التركي فلم يمتنع وخرجا [411] إلى التنازع والتهاتر فخرج التركىّ من داره لينصر صاحبه ويمنع صاحب الديلمي. وخرج ايضا الديلمىّ لنصرة غلامه فأربى على التركي واستطال عليه فركب فى الوقت واستنهض الأتراك. فثاروا بالديلم وتبادر الديلم وحملوا السلاح واجتمعوا على باب بختيار وبالباب ساحة واسعة قد ضرب فيها وجه من وجوه الأتراك مضاربه وذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 لعزة المنازل فأحاطوا به وهو سكران وسمع الصياح فنهض وركب وعمل على أن يلحق برفقائه فعارضه أحد الديلم وشتمه فثنّى عنانه إليه وهو بغير جبّة فرماه الديلمي فقتله فاستحكمت حينئذ الفتنة وطالبت الأتراك بثأر صاحبهم هذا ورموا الديلم بنشّاب كثير حتى قتلوا رجلا وجرحوا عدّة، وبرزوا بأسرهم عن البلد إلى الصحراء وتبعهم غلمانهم وأتباعهم وقعد عنهم القوّاد والأكابر فى منازلهم على طريق التوقف عن الفتنة والتمسك بالطاعة. واجتهد بختيار فى تسكين النائرة [1] فلم يمكنه ذلك بعد التهابها [2] فاستدعى قوّاد الديلم وشاورهم وقد كانوا يعرفون اعتقاده فى سبكتكين الحاجب والأتراك فقالوا: - «هذا أمر قد انتشر وفى نفك منه ما فيها والصواب أن تقبض على رؤساء الأتراك المقيمين وتستولى على هذه البلاد التي كانت فى يد بختكين وتنهض إلى بغداد لتقلع عنها [412] سبكتكين وتستريح منه ومن الأتراك.» وكانت عادة بختيار أن يسمع من كل مخاطب ويتحدّث مع كل كاذب. فتسرّع إلى قبول ما رأوه ووجّه إلى بختكين آزاذرويه وسهل بن بشر كاتبه وسباشى الخوارزمي وبكتيجور وكان حما لسبكتكين الحاجب فأحضرهم من منازلهم وقبض عليهم وقيّدهم وأدخل يده فى إقطاعات سبكتكين بالأهواز وصرف أسبابه عنها وكتب إلى البصرة بالنداء فى الأتراك والإيقاع بهم فنودي فيهم ونهبت منازلهم وهربوا عنها. ذكر حيلة احتالها بختيار فلم تتمّ له كان بين بختيار وبين والدته اتفاق على أن تظهر عند بعده عن بغداد إلى   [1] . كذا فى الأصل ومط: النائرة. والمثبت فى مد: الثائرة. [2] . كذا فى الأصل ومط: التهابها. والمثبت فى مد: انتهائها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 الأهواز وخفّة الأتراك المقيمين بحضرة سبكتكين أنّ بختيار قد توفى ليصير سبكتكين إليه معزّيا ومشاركا فى المصيبة ووافق أخاه أيضا على مثل ذلك، فإذا حضر أوقعا به وقبضا عليه. فكتب إليهما ساعة قبض على رؤساء الأتراك على الأطيار بالعمل على ذلك الاتفاق. فأشاعا ورود نعيه وظنّا أنّ سبكتكين لا يتأخر عنهما وكان أرزن وأرجح من أن يصير إليهما ولو صار إليهما لما حضر إلّا على نهاية الاستظهار. فإنّ غلمان داره المماليك أربعمائة سوى أتباعهم وسوى الديلم برسمه وسوى حجّابه ومن فى جملتهم. [413] وكان هذا الرأى من بختيار بعيدا من الصواب خليقا بالانتفاض. فاقتصر سبكتكين على مراسلتهم بالمسألة عن الخبر ومن أين صحّ، وتوقّف عن الركوب إلى أن وردت رسل أصحابه وكتبهم بشرح ما جرى على حقيقته. فجمع حينئذ الأتراك المقيمين ببغداد وأعلمهم ما عومل به رفقاؤهم وأنّ الستر قد انخرق وانهتك وأنّ دماءهم قد أحلّت وأبيحت. فدعوه إلى أن يتأمّر عليهم ليطيعوه، فتوقف عن ذلك وراسل أبا إسحاق ابن معزّ الدولة يعلمه أنّ الحال بينه وبين بختيار أخيه منفرجة انفراجا لا التئام له وأنّ أكثر الجيش نافر عنه وأنّه ليس يستحسن أن يعدل عن طاعة مواليه وإنّ عقّوه وباينوه وأنّه يعقد الأمر له ويجمع الأتراك على متابعته وينقل الديلم عن بختيار إليه ويتكفل له بالأمر حتى يستقرّ عليه. ذكر انتقاض [1] هذا التدبير بعد استمراره حتى ثارت الفتنة العظمى لما قبل أبو إسحاق ابن معزّ الدولة هذا الرأى ودخل تحته، علم أنّ بختيار   [1] . فى مط: انقباض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 إمّا أن يصير جالسا فى بيته مزاح العلل فيما يحتاج إليه أو يصير إلى حضرة عمه ركن الدولة. فذهب إلى والدته وقصّ عليها القصة فمنعته من هذه الحال وأشفقت من أن يؤول إلى هلاك أحد ولديها. وصار إليها من كان مقيما بمدينة السلام من الديلم فأطمعوها فى الاستقلال بمحاربة سبكتكين [414] ومن معه من الأتراك، فجمعتهم إلى دارها بالسلاح وأصبح سبكتكين وقد نقض عليه إبراهيم ذلك الاتفاق. فركب فى يوم الجمعة لثمان خلون من ذى القعدة من سنة ثلث مع جميع الأتراك قاصدا الحرب وناصبا، لها فبقى يومين يحاربهم تباعا، فلمّا كان فى الثالث أحرق جوانب الدار بعد أن حاصرها ونفد زاد من كان فيها واستسلم إبراهيم ووالدته وكذلك أبو طاهر ومن كان معه وسألوه أن يفرج لهم عن الطريق لينحدروا إلى واسط ولا يفضح حرم مولاه وأولاده فاستحيا وتذمّم فاجتمعوا جميعا فى حديدىّ وانحدروا وتفرّق الديلم هاربين فى مرقعات إلى بختيار وأقامت منهم شرذمة فى طاعة سبكتكين. وكان المطيع لله أعدّ لنفسه حديديا استظهر به عند حدوث الفتنة فانحدر مع المنحدرين فأنفذ سبكتكين عدّة من الزبازب حتى ردّوه إلى داره ووكل به فيها توكيلا جميلا. واستولى على ما كان لبختيار بمدينة السلام من السلاح والدوابّ والآلات والمنازل [1] فنزل الأتراك فى دور الديلم وتتبعوا حرمهم وودائعهم وسائر أسبابهم. وثارت العامّة من أهل السنة ناصرة لسبكتكين فقوّد من رؤسائهم القوّاد وعرّف العرفاء ونقّب النقباء وخلع عليهم وحملهم على الدواب [415] واستصحبهم وبسطهم وصار له منهم جند.   [1] . فى مط: المتارك. بدل «المنازل» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 خلافة الطائع لله ذكر خلع المطيع وتسليم الأمر إلى ولده كان المطيع لله بعقب علّة من الفالج يسترها وقد ثقل لسانه وتعذّرت الحركة عليه فانكشف حاله لسبكتكين فدعاه إلى تسليم الأمر إلى ولده الطائع [1] لله ففعل وعهد إليه فبرئ من الخلافة وخلعها وأشهد على نفسه سنة ثلاث وستّين يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذى القعدة. [2] ذكر اسباب الفتن الهائجة بين العامة حتى أدّت إلى بوار بغداد لما انبسطت العامة الذين ذكرنا حالهم مع سبكتكين وهم الفرقة المعروفة بالسنة استضاموا الشيعة وناصبوهم لحرب وتحزّب الفريقان وكانت عدة الشيعة قليلا فتحصّنوا في أرباض الكرخ من الجانب الغربي واتصلت الحروب حتى سفكت الدماء واستبيحت المحارم وأحرق الكرخ حريقا ثانيا بعد الحريق الأول فى وزارة أبى الفضل.   [1] . فى مط: الوالي لله. بدل «الطائع لله» . [2] . وفى تاريخ الإسلام. فقال أبو منصور بن عبد العزيز العكبري: كان المطيع لله بعد أن خلع يسمى الشيخ الفاضل. (مد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 فافتقر التجار وغلبهم العيارون على أموالهم وبضائعهم وحرمهم ومنازلهم واحتاجوا أن يتخفّروا منهم وأى فريق كان الخفارة له قصد الفريق الآخر. وانتثر [1] النظام وانخزل السلطان وصارت العصبية بين هذين الصنفين فى أمر الدين والدنيا بعد أن كانت فى أمر الدين خاصة وذلك أنّ الشيعة ثاروا بشعار بختيار والديلم وأهل السنة ثاروا بشعار سبكتكين والأتراك. [416] شرح الحال فيما تأدّى إليه أمر بختيار بالأهواز وما دبر به أمره أدخل يده فى إقطاعات جماعة الأتراك وظفر بذخيرة كانت لبختكين آزاذرويه بجنديسابور واجتمع الأتراك المشغّبون بسواد الأهواز ثم صار بعضهم الى سبكتكين وتلافى بختيار بعضهم. ذكر السبب فى ضرورة بختيار إلى استصلاح الأتراك بعد استفسادهم استوحش غلمان دار بختيار منه واضطربوا عليه وقصده الأتراك الذين هربوا من البصرة وعاتبوه على ما ارتكب منهم من غير ذنب وقال له الديلم: - «إنّه لا بدّ لنا فى الحرب من فرسان وأتراك.» فاضطرب بختيار فى الرأى وترجح فيه ثم قرّره على أن أطلق بختيار آزاذرويه وجعله فى موضع سبكتكين وسمّاه حاجب الحجاب وقدّر أنّ الأتراك يأنسون به ويعدلون عن سبكتكين إليه وكتب إلى البصرة بإيقاع النداء بأنهم آمنون وألّا يعرض لهم وان يردّ ما أخذ منهم، وأطلق سباشى   [1] . كذا فى مط: وما فى الأصل: انتشر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 الخوارزمي وأقرّ بكتيجور على حمله [1] الاعتقال لمصاهرته سبكتكين. وبلغه خبر والدته واخوته وعياله فى انحدارهم إلى واسط فسار إليها. وكتب إلى الحضرتين بفارس والرىّ يشكو ما نزل به ويسئل أن يكشف عنه وتابع المكاتبات وزاد فى تأكيدها بحسب تزايد الفتنة وكتب إلى أبى تغلب ابن حمدان فسأله إنجاده بنفسه وعسكره وعمل على أن يعتصم بعمران بن شاهين فانفذ إليه خلعا وفرسا بمركب ذهب وتوقيعا بإسقاط ما بقي عليه من مال الصلح الذي كان صالحه عليه [417] وخطب إليه احدى بناته وسأله أن ينفذ إليه عسكرا فى الماء يستعين به على حرب الأتراك وترسّل إليه فى ذلك حاجب له يعرف بإبراهيم بن إسماعيل. فلما أدّى اليه الرسالة قال له: - «يا هذا قد جئتنا فى أمور غير متوجهة عندنا ولا لائقة بأحوالنا.» جواب عمران بن شاهين عن رسالته وإتباعه إيّاه بكلام وافق قدرا فجرى كما قال وقدّر - «أما هذا الدين المتروك فالتحمد علينا به مع علمنا بأنّه ساقط باطل لا يحسن لكنّا نقبل ذلك. «وأما الوصلة فأنا رجل لا أواصل [2] أحدا من خلق الله إلّا أن يكون الذكر من عندي والأنثى من عنده وقد خطب إلىّ الطالبيون مع أنّهم موال فما أجبت أحدا منهم الى ذلك لأنّ نفسي لا تسمح له وهؤلاء أولاد أخى هم أكفاء بناتي ما واصلت أحدا منهم ولكن إن شاء أن نتصاهر على السبيل الأخرى فعلت. - «وأما الخلعة والفرس فلست ممن يلبس لباسكم ولا أركب الخيل لأنّ   [1] . حملة: كذا فى الأصل ومط. ولا نوافق مد فى احتمال كونه «حالة» . [2] . كذا فى الأصل: أواصل. فى مط: أوصل. والمثبت فى مد: أداخل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 دوابّي هذه السفن لكن أبا محمد ابني يقبل ذلك ولا يردّه. - «وأما عسكري وإنفاذه فليس تسكن رجالي الى مخالطتكم لكثرة من قتلوا من رجالكم على مرّ السنين والوقائع.» ثم قال للرسول: - «قل له: ينبغي أن تتوقّر [1] وتترزّن ولا تستعمل هذه الخفة والنزق فقد قصدتني محاربا لى فرجعت عنى منهزما وقصدت الأهواز فرجعت منهزما على هذه الحال والصورة من الفتنة [418] وأنا أعلم أنّ أمرك سيتأدّى الى أن تجيئني وتلوذ بى وتحصل عندي وسأذكّرك هذا وتعلم حينئذ أنّى أعاملك بالجميل وبخلاف ما عاملتنى به أنت وأبوك قبلك.» فتعجّب الناس من موافقة كلام عمران هذا المقدور [2] الكائن فإنّ الحال ببختيار آلت إلى المصير اليه والحصول عنده مستجيرا به ومستذمّا على ما سنذكره إن شاء الله. جواب ركن الدولة عن رسالته إليه فأمّا ركن الدولة فإنّه أجاب بجواب صدر عن نيّة صحيحة وشفقة عليه وهو أن قال: - «إنّ الفتق الذي انفتق عليه عظيم يحتاج إلى رجال ومال وسلاح وتدبير وهيبة وطاعة وإنّه قد شاخ وثقلت عليه الحركة وإنّه بإزاء أشغال عائقة وأمور قاطعة ولكنه قد عول فى هذه الحال على ابنه عضد الدولة إذ كانت تلك الأدوات التي عددتها مجتمعة له وحاصلة عنده وإنّه سائر من فارس إليه مع جيش كثيف ويخرج إلى نصرته من عنده الوزير أبو الفتح ابن أبى   [1] . كذا فى الأصل ومط. وهو صحيح. والمثبت فى مد: تتوفر. [2] . فى مط: المقدر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 الفضل ابن العميد. وإنّما بنى ركن الدولة هذه الرسالة على ما كان يكاتبه به ابنه عضد الدولة فإنّه كان يعرف أخبار العراق يوما يوما ويطمع أن يملكها لما يرى من سوء تدبير بختيار لها ولاضطراب الأمور [419] هناك بسوء تأتّى الوزراء وسقوط الهيبة وانتشار الحيل وفساد الرعية وكان مع ذلك فاسد الرأى فى بختيار مضطغنا أشياء كان تقدّم [1] بينهما من مناقشة جرت فى وقت ومنافسة فى مرتبة ومنع مما كان يلتمسه عضد الدولة منه خاصة من دفاتر عزيزة وكان يضنّ بها بختيار وجوار صوانع محسنات كان لا يسمح بها ومن خيل عراب كان يمنع من شرائها له ويحبّ أن يستبدّ بها من البادية وكانت هذه الأشياء مجتمعة فى نفس عضد الدولة فهو يحبّ أن تستحكم الفتن ويستشرى البلاء حتى يزول أمر بختيار ثم يقصد بنفسه وخيله وأمواله ويدبّر أمر تلك الممالك لنفسه ويضمّها إلى ممالكه. فراسل أباه ركن الدولة: «بأنّك قد كبرت عن لقاء الحروب ولا مال عندك. وعندي منه كيت وكيت فى القلاع والخزائن» . وعظّم عليه ما جمعه. ولعمري لقد كانت عظيمة وكانت له مع ذلك هيبة فى أصحابه وتدابير مصيبة ولكنه أحبّ أن يبذلها فى خاصة نفسه لا فى معاونة ابن عمه الذي يتصوره بصورة التخلّف [2] وتضييع الأمور وإهمالها وتفويض الوزارة وتدابير المملكة إلى من لا يرجع منه إلى رؤيّة صادقة ولا تدبير صائب ولا صناعة قوية ولا ذكر بين الناس جميل وهو [420] مع ذلك يظهر له المنافسة ويمنعه من مطالبه ويغضّ [3] من أقدار أصحابه الواردين عليه فى مهمّاته.   [1] . يريد كانت تقدمت. (مد) [2] . كذا فى الأصل ومط: التخلف. والمثبت فى مد: التجلّف. ولكليهما وجه، وللتصحيف دور. [3] . كذا فى الأصل: يغصّ. وفى مط: بعض. والمثبت فى مد: بغض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 وكان يكاتب أباه ركن الدولة بمثل ذلك الظاهر الجميل الذي يجمع الشفقة عليه والمحاماة عنه وتفديته بنفسه ورجاله فى نصرة ابن أخيه الذي هو ابن عمه وباطن رأيه إنّ ذلك الأمر سيضطرب اضطرابا لا تبقى معه بقية إلا باستصلاحه لنفسه دون غيره. جواب عضد الدولة عن رسالته إليه قد كان حبس أباه ركن الدولة عن الحركة بنفسه وأطمعه فى النيابة عنه وكفايته هذا الشغل فأجاب بختيار يشير عليه بأن يقف حيث انتهى وإلّا يزيد الأمر فسادا ولا يبرح من واسط حتى يلحقه ويدبّر نواحيه وأقبل يماطله بالمسير وزحف إليه الأتراك ومن انحاز إليهم من سائر أنواع الجند فحوصر وبلغ منه كل جهد. ولعمري لقد صبر لهم وطاولهم ولكن مصابرة من يحتشمه عدوّه ويبقى عليه وذلك أنّه لما اشتدّ به الحصار وكان نازلا بين النخيل لا مجال لخيل الأتراك فيه وأصحابه ديلم ورجاله يستندون إلى النخيل ويراوغون فيه ولا يخلو فى خلال ذلك من مواقف يصل إليه فيها التركي المداخل المصالت فإذا علم أنّه قد تمكن منه عدوّه يذكّره بالله وبالنعمة [421] وأنّه صنيعته وصنيعة أبيه ويخاطبه بما يرقّ له القلب وتستحي منه العين فينصرف عنه التركي بعد التمكن منه ويحبّ أن يجرى قتله على يد غيره. فلم تزل هذه حاله من الصبر على الجوع والعرى ونفاد السلاح والخوف من إقدام من لا يقبله ولا يحتشمه عليه ويكاتب عمه وابن عمه، وعضد الدولة يتوقف ويعده بالمسير مدافعة المماطل المنتظر به الهلاك وركن الدولة يضجّ من ذلك ويبعث ابنه ويستبطئه إلى أن لم يجد عضد الدولة من المسير بدّا، فسار من فارس وسار أبو الفتح ابن العميد من الرىّ وكانت عدّة أبى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 الفتح الوزير التي استصحبها يسيرة بالإضافة إلى ما استظهر به عضد الدولة كثرة وقوة ومددا وذلك أنّه بالغ جدّا ولم تبق بقية فى الاحتشاد ولم تكن صورته فى ذلك صورة من ينصر ابن عمه على طريق المعاونة والإنجاد ثم الانصراف، بل صورة من يجاهد ويدافع ويقيم بعد الظفر. ولم تخف على الناس هذه الحال منه لكثرة ما استصحبه من آلات خيم المقيم التي يريد أن يستقرّ بها ويتمكن فى كل بلد بالآلات المعدّة لها من الفرش الكثير والزينة التامّة التي لا يستعملها المتوجّه [1] الى معاونة [2] المنصرف بعد الفراغ من نصرة من توجه لنصرته. جواب أبى تغلب فأمّا جواب أبى تغلب ابن حمدان عن رسالته [422] فإنّه أجاب بالمسارعة والإنعام وأنفذ أخاه أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة إلى تكريت فى جمع من جيشه فأقام بها مدة طويلة انتظارا بما يكون من انحدار الأتراك عن بغداد إلى محاربة بختيار فيردّها. ولمّا تمادى الأمر وانحدر بعد ذلك سبكتكين كما سنحكيه، سار أبو تغلب بجميع جيشه إلى مدينة السلام ليوجب على بختيار الحجة فيما بذل له خطّه من إبطال ما تقرر بالموصل وعمل ببغداد ما سنصفه إن شاء الله. ذكر الرسائل التي تردّدت بين سبكتكين وبختيار ثم إنّ سبكتكين راسل بختيار ب: - «انّك قد جنيت على نفسك جناية عظيمة بما ارتكبته ودبّرته وإنّ كل ما   [1] . فى مط: المتوجهة. [2] . كذا فى الأصل ومط ومد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 تعمله وتتصرف فيه خطأ وغلط وإنّ الأمر الآن قد خرج عن اليد فاخرج لى عن واسط حتى تكون هي وبغداد فى يدي بإزاء أموال الأتراك التي قد حصلت علىّ وتكون البصرة والأهواز ونواحيها فى يدك بازاء أموال الديلم واجعل أمرى وأمرك واحدا ولا تدخلنّ بيننا أحدا ولا تفتح للحرب بابا فلست من رجالها وأنا ناصح لك مشفق عليك. حافظ وصيّة مولاي فيك التي ما حفظت مثلها فىّ.» فعرض بختيار هذه الرسالة على الديلم فأنكروها وأكبروها واستخفّوا بقائلها والمتحمّل [1] [423] لها وردّوه بالخيبة والمنابذة فجدّ سبكتكين واستعدّ للحرب وقدم كتابا من الخليفة إلى بختيار ينذره فيه وأجيب عنه بما ليس هذا موضعه ووصل جواب هذا الكتاب إلى الطائع لله وإلى سبكتكين وقد انحدرا عن بغداد وانتهيا إلى دير العاقول ومع وصوله توفّى المطيع لله وكان انحدر مع ابنه الطائع لله وحدث بسبكتكين علّة الموت فمكث فيها بدير العاقول أربعة أيام وتوفّى فحمل إلى مدينة السلام. اجتماع الأتراك على ألفتكين بعد موت سبكتكين وتماسك الأتراك وثبتوا واجتمعوا على ألفتكين مولى معزّ الدولة وكان يتلو سبكتكين عند معزّ الدولة وله رئاسة فى الأتراك وحشمة قديمة [2] ولقاء فى الحروب للأعداء فعقدوا له الرئاسة عليهم وعمل على إتمام العزيمة فى اللقاء. وكان عبر بختيار إلى جانب واسط الغربي وأخلى الشرقي وجمع السفن والزواريق إليه ولم يترك من آلات الماء شيئا فى الجانب الشرقي ونقل التنّاء وطبقات الناس إليه وضرب مصافّه فى منازل واسط وعمل على   [1] . كذا فى الأصل ومط: المتحمّل. والمثبت فى مد: التحمل. [2] . كذا فى مط. وفى الأصل: وقديمة (بزيادة الواو) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 مناجزة الأتراك ولقائهم بالديلم إمّا مناجزة ان ثبتوا له وإمّا مصابرة الى أن يأتيه الغوث من الرىّ وشيراز. وكان استبشر بما اتفق على الأتراك من موت زعيمهم وقدّر أنّهم يضطربون وينتشر أمرهم ثم عرف انتظام أمرهم فتوقف [424] عن الإصعاد. واجتمع الأتراك وزحفوا وعقدوا جسرا بسفن كانت معهم من بغداد وكانت معهم أيضا زبازب كثيرة وجيش للماء وعلى مقدمتهم حمدان بن ناصر الدولة فاستأمن حمدان إلى بختيار بكلّ من معه وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي فأكرمه بختيار ووصله. ذكر السبب فى تسييرهم حمدان مقدمة والسبب فى استئمانه إلى بختيار كان حمدان بن ناصر الدولة ببغداد عند حدوث هذه الفتنة. فدعاه سبكتكين إلى طاعته فأجابه وأخذ عليه العهود والمواثيق بالنصيحة والموالاة وإنّما سكن إليه للعداوة التي بينه وبين أبى تغلب ولأنّ أبا تغلب حافظ على مودة بختيار وواصله ونصره وظاهره فأنفذه سبكتكين على مقدمته. فلمّا توفى سبكتكين كتب إليه ألفتكين يعرفه وفاته وانتصابه فى موضعه ويستدعيه إليه ليستأنفا إيقاع التدبير ويتفقا على المسير. فاعتقد حمدان حين وقف على هذا الكتاب أنّ أمر الأتراك قد اختلّ نظامه بوفاة سبكتكين وعزم على المصير إلى بختيار وكان عرف أيضا مسير عضد الدولة وخيول ركن الدولة. فأنفذ كتاب ألفتكين الوارد عليه إلى بختيار وأعلمه أنّه سيعود إلى ألفتكين ثم ينحدر إليه واشترط شروطا واقترح اقتراحات. فورد ذلك على بختيار وقد عبر إلى الجانب الغربي ولمّا اجتمع حمدان مع ألفتكين ردّه [425] على مقدّمته كما كان فى أيام سبكتكين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 فوافى بمن معه من غلمانه وأسبابه وعبر مستأمنا إلى بختيار فتلقّاه وأكرمه وحمل إليه مالا كثيرا وثيابا فاخرة وعدّة وافرة من الخيل والمراكب والبغال والجمال. وضعفت نفوس الأتراك فتوقفوا يوما ثم زحفوا بأسرهم ونزلوا على دون الفرسخ من واسط وعبروا على جسرهم وتقدموا إلى مصاف بختيار فكانوا يواقعونه بنوائب [1] واتصل ذلك نحو خمسين يوما. وتجاسر العوامّ من الجانبين على استعمال المشاتمة الفاحشة والمسابّة المقذعة. واتفق على حمدان أنّه حمل على الأتراك فى بعض هذه الأيام فرموه ووقع بعض سهامهم فى سماخ [2] فرسه فرمى به ونهض ليركب غيره وعليه الحديد فلم يتمكن من ذلك وعرفه الأتراك فأكبوا عليه بالدبابيس حتى أثخنوه وكاد يتلف. ثم أخذوه أسيرا لا فضل فيه فعولج وبرأ إلّا أنّه لحقه عرج ظاهر من وركه الأيمن وبقي على ذلك بقية عمره ثم من عليه ألفتكين وأطلقه وأخذ منه رهينة وأعاده إلى حاله فشهد معه الحرب يوم ديالى إلى أن انهزم الأتراك وانحاز إلى عضد الدولة. ولم تزل الحرب بين الديلم والأتراك متصلة بواسط والاستظهار للاتراك [426] وأشرف الديلم على الانكسار والهرب دفعات وقتل من الديلم خلق كثير لنقصان جننهم واستظهار الأتراك عليهم بالاسلحة واشتد على بختيار الحصار وأحدق به وصار فى مثل كفّة الحابل [3] وأحاط به الأتراك من كل وجه وكانت صورته كما ذكرت فيما تقدم. واتصلت كتبه إلى أبى تغلب يسأله الانحدار، وإلى عضد الدولة يسأله اللحاق ويعلمه أنّ مملكته قد خرجت من يده وأنّه أحق بها ممن غلب عليها   [1] . فى مط: بتوائب. [2] . سماخ: كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: صماخ. السّماخ: الصّماخ، وهو خرق الأذن. [3] . فى مط: الحائل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 حتى إنّه كتب إليه فى بعض كتبه البيت الذي كتب به عثمان إلى أمير المؤمنين علىّ صلوات الله عليه: [1] فإن كنت مأكولا فكن خير آكل وإلّا فأدركنى ولمّا أمزّق فأمّا أبو تغلب فسار بجميع عسكره بعد أن كان قدّم أخاه الحسين كما كتبنا خبره فيما تقدّم، وصار إلى مدينة السلام فألفاها مفتتنة بالعيارين فقمعهم وقتل جماعة منهم وحمل من بغداد إلى الموصل أشياء كثيرة ظفر بها من آلات فاخرة وأنقاض جليلة وذخائر وودائع. وأمّا عضد الدولة فإنّه سار بعد ما ذكرته من التوقف والإبطاء، واجتمع مع أبى الفتح ابن العميد بالأهواز. ذكر السبب فى رجوع ألفتكين إلى بغداد وهرب أبى تغلب عنها إلى الموصل لما سمع ألفتكين بخبر عضد الدولة وحصوله بالأهواز نخب قلبه ورأى أن يحصل ببغداد ويجعلها [427] وراء ظهره وتكون حربه على ديالى. قال صاحب هذا الكتاب: كنت فى جملة السائرين من الرىّ فى صحبة أبى الفتح ابن العميد وما كان إشفاقنا ولا حذرنا كلّه إلّا من سبق الأتراك إيانا إلى أسفل واسط إلى الموضع المعروف بباذبين وأن يجعلوا النهر وراءهم مع المدينة والميرة وأن يتركونا حتى نقطع إليهم مفازة بنج وبنج [2] ونلقاهم على إعياء وكلال وليس وراءنا عمارة ولا نجد ما ننزل عليه فإن طاولونا أياما كان الهلاك وإن ناجزونا حين ورودنا كانوا جامّين مستريحين ونحن على حال تعب وضعف   [1] . راجع كتاب الإمامة والسياسة 1: 58. (مد) [2] . ما فى مط مهملة تماما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 وكنّا من كثرة العدد على ما وصفت فيما تقدم. فلم يوفّق الأتراك لذلك وانصرفوا إلى بغداد ورأوا من الصواب لهم أن يملكوا بغداد ويجعلوها وراء ظهورهم وتكون حربهم على ديالى فكانت الخيرة لنا فيه ودخلنا واسطا بغير مانع. وقد كان بختيار وأخواه ومحمد بن بقيّة تلقّوا عضد الدولة لما انصرف الأتراك عنهم وترجّلوا له وأعظموه كما يستحق وسار عضد الدولة فى الجانب الشرقي وتقدم إلى بختيار أن يسير بإزائه من الغربي ممتدين إلى بغداد. فأمّا ألفتكين فإنّه لما توسط فى مسيره إلى بغداد أنفذ سرية فى أربعمائة غلام من الأتراك لكبس أبى تغلب فأرهقوه وشغب مع ذلك جنده عليه فهرب [428] إلى الموصل هربا قبيحا وتقطع عسكره. وحصل ألفتكين ببغداد فى حصار شديد قد أحدقت به الخيول من كل وجه وذاك أن بختيار كاتب [1] ضبّة بن محمد الأسدي وهو رجل من أهل عين التمر كثير العشائر وقد جرت عادته بالتبسط بأن يشنّ الغارات على أطراف بغداد ويمنع من جلب الميرة إليها ففعل ووجد الطريق إلى بغيته فنهب السواد وقطع السبل. ثم أنفذ فى الجانب الشرقي ابن أخ لمحمد بن بقية وزيره يعرف بأبى الحمراء وهو لقب غلب عليه، مع طائفة من بنى شيبان ليتطرف بغداد ويحاصرها من ذلك الوجه وكانت خيول عضد الدولة والرىّ وبختيار متوجهين إليه سائرين لحروبه وكان أبو تغلب من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ إليه سراياه ورجاله. فاشتد الحصار به وعزّت الميرة وانحسمت موادّها وثارت الرعية فنهبت الموجود فى المدينة وامتنع الناس بالفتنة أن يتسوقوا أو يتعيشوا [2] وأعيت ألفتكين الحيلة فى التماس ما يحتاج إليه وصار يتتبع   [1] . فى مط: كانت. [2] . العبارة مطابقة لما فى مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 المواطن التي يظن فيها قوتا أو بذرا أو عدة يتناول ذلك حتى انتهى به الأمر إلى أن ركب بنفسه إلى منزل بعض الأشراف فكبسه وأخذ ما فيه. وسار عضد الدولة كما حكينا فى الجانب الشرقي وبختيار بازائه فى الغربي فلما صار بدير [429] العاقول عبّى عسكره تعبئة اللقاء وجعل موكب خاصته فى القلب وفى ميمنته أبا الفتح ابن العميد وجيش الري وفى ميسرته أبا إسحاق ابراهيم بن معزّ الدولة ومحمد بن بقية وطائفة من عسكر بختيار ونزل المدائن على هذه الحالة من الترتيب. وورد خبر الفتكين بأنه برز إلى ديالى ونزل عليه مستعدا للحرب وعقد عليه جسورا ليعبر عليها واعتقد أن يلقى العساكر فى فضاء بين ديالى والمدائن وظن أنّه يتمكن بالجولان فيه مما يريده وذلك فى سنة أربع وستين وثلاثمائة. وعبر ألفتكين تلك الجسور ولم يقع فى الظن أنّه يعبر ديالى ولا أنّه يترك التحصن به والقتال من ورائه فسار عضد الدولة على تعبئة وهيئة حتى انتهى إلى قرية هناك وتراءت مواكب ألفتكين وقد عبّاها كراديس واعترض نهر صغير فى هذه القرية فوقع التشاغل به إلى أن عبرته العساكر وصاروا مع تلك الكراديس فى أرض واحدة [1] . ذكر عجلة وقعت وحرص ظهر من جيش بختيار الذين كانوا فى ميسرة عضد الدولة فكانوا يكسرون العسكر تقدم الجيش البختيارى المرتب فى الميسرة مع أبى إسحاق وابن بقية زحفا بغير أمر وفارق المصافّ وخرج عن النظام حرصا على إظهار فضل   [1] . واحدة: الكلمة ساقطة فى مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 وغناء، وتشوّقا إلى اللقاء فراسلهم عضد [430] الدولة ونهاهم فلم ينتهوا على ما اعتادوه من الاستبداد حتى لحّجوا [1] واستجرّهم الأتراك حتى صاروا بالبعد من العسكر فعطف الأتراك عليهم وقتلوا خلقا منهم وتابعوا [2] الحملات عليهم وأكثروا النكاية فيهم فحينئذ عرفوا الخطأ الذي ركبوه وأنفذ عضد الدولة طائفة من الرجال إليهم فلم يغنوا عنهم وحصلوا فى مثل حالهم. فلمّا رأى ذلك زحف على نظامه وهيأته حتى اتصلوا بهم بعد أن أشرفوا على الهلاك. فلمّا قرب من جمرة القوم ومجتمعهم حمل عليهم فلم يثبتوا واستأمن بعضهم وحكم السيف فى الباقي فقتل خلق منهم وألجأتهم الهزيمة إلى تلك الجسور التي عقدوها على ديالى فازدحموا عليها وأرهقهم الأمر فهلك منهم ومن العيّارين الذين وازروهم بالقتل والغرق خلق كثير وركب عسكر عضد الدولة أكتافهم وعبروا تلك الجسور على آثارهم فاستباحوا عسكرهم وسوادهم وألقوا النار فى خيمهم وخركاهاتهم وأدركهم الليل فبات هؤلاء وهرب أولئك لا يلوى أحدهم على صاحبه. وأنفذ عضد الدولة فى ساعة الفتح بشيرا إلى بختيار وذلك يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى سنة أربع وستّين وثلاثمائة وأقام على ظاهر [431] المدينة إلى أن عرف خبر الأتراك ثم دخل المدينة فى أحسن زىّ وعدّة وطواه متجاوزا إلى باب الشماسية وبختيار يسير بإزائه ويعسكر بحياله وأقام بموضعه إلى أن بعد الأتراك وورد عليه خبرهم من تكريت وأنّهم وصلوا إليها على حال قبيحة من التقطع والتمزق واختلاف الكلمة فحينئذ انثنى الى النزول فى داره. واشتغل قلبه بالطائع لله وحصوله مع الأتراك وتصرّفه على ما يحبون والتنقل معهم فبث إليه رسله وقد كان راسله   [1] . لحّجوا: النقطة غير واضحة فى الأصل، وواضحة فى مط. [2] . وتابعوا: الكلمة ساقطة فى مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 قبل ذلك ولم يزل معه بالتلطف والرفق حتى ردّه إلى دار الخلافة ومواطن الائمة. ذكر ما جرى بين بختيار وبين جيشه وما كان من اعتزاله إياهم وما كان من إنكار ركن الدولة لذلك وما تمّ من الحيلة عليه من انتقاضه وعوده إلى منزلته [1] وحالته لما تمّ هذا الفتح لعضد الدولة لم يشكّ أحد ممن دنا وبعد فى أنّه يستولى على هذه المملكة ويضيفها الى مملكته لضعف بختيار عنها واشتغاله بضروب اللهو واللعب وتجاسر الديلم والأتراك عليه. ففكّر فى حديث الناس وعلم أنّ أباه ركن الدولة لا يصبر على ذلك ولا يحتمله له. فاتخذ دعوة دعا إليها بختيار وإخوته ومحمد بن بقية وسائر عسكر بغداد وخلع عليهم ضروب الخلع على مقدار مراتبهم وجعل ذلك كالوداع وأظهر [432] الرحيل إلى فارس وأمر بإعداد الميرة فى المنازل. ووافق فى السر رؤساء الجند أن يثوروا ببختيار ويشغبوا عليه ويطالبوه بأن يطلق أموالهم ويغير أحوالهم ويحسن [2] مجازاتهم عن صبرهم عليه وثباتهم معه وبذلهم الأنفس فى محاربة الأتراك دونه. ففعلوا ذلك وبالغوا فى الشغب والاقتراحات وبختيار صفر اليد لا يملك ذخيرة ولا تصل يده مع خراب النواحي واتصال الفتن إلى درهم واحد. فراسله عضد الدولة سرّا وواقفه على مقابلتهم بالتشدد والغلظة والصدق عن الحال وانّه لا يعدهم بما لا يقدر عليه وأن يفصح لهم بالاستعفاء عن   [1] . فى مط: منزله. [2] . فى الأصل ومط: يحس. وهو المثبت فى مد. والصحيح ما أثبتناه: يحسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 الرئاسة وأنّه قد برئ إليهم منها ووعده أن يتوسط حينئذ بينهم ويقرره على ما يحب. فلم يجد بختيار عدولا عن ذلك ولا عرف وجه حيلة سوى ما أشار به عليه فبادر إليه واستعفاهم من رئاسته وأغلق أبوابه وصرف كتّابه وأسبابه وراسله فى الظاهر بمقاربة القوم وتدبيرهم فأجابه: بأنّى لست أميرا عليهم ولا معاملة بيني وبينهم فلينظروا لأنفسهم وليعقدوا لمن شاءوا. واتصلت هذه الرسائل ثلاثة أيام والشغب يزيد إلى أن أعلنوا بالقبيح وكادوا يزحفون إليه ويأتون عليه فاستعاذ بعضد الدولة وطلب منه ما كان وعده به [433] من التوسط فراسلهم عضد الدولة بما سكن منهم وأمرهم بالتفرق ووعدهم بالنظر فى أمرهم. ثم استدعى بختيار إلى داره وقد كان خائفا مرعوبا واستدعى أخويه على طريق الإشفاق عليهم والحذر من أن ينصبوا أحدهما علما للفتنة فيفتحوا به بابا إلى الفرقة وراسلهما بختيار أيضا بمثل ذلك حتى حضرا جميعا. ثم جمع الرجال وجماعة الجند وأعلمهم أنّ استيفاء بختيار من النظر واعتزاله إيّاهم وافق محبة منه للنظر فى أمورهم وضمهم إلى نفسه وأنّه يخلطهم بعسكره ويشملهم بإحسانه وأنّه المتولى للأمر وأنّ بختيار إنّما كان خليفة له ولركن الدولة وأنّه الآن قد استعفى فاعفى وبرئ فأبرى. فسكنوا وتفرقوا ووثقوا بوفائه وأنّه من وراء ذلك. وأمر باستظهار على بختيار وأخويه ووكل بهم ثقاته وذلك يوم الجمعة لأربع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وستّين وثلاثمائة وجمع بينهم وبين الوالدة. فأمّا الخليفة الطائع لله فإنّه كان نافرا من بختيار للحروب التي جرت بينه وبينه ولأنّ انتصابه فى الخلافة جرى على يد غيره فى غير أيّامه وسكن إلى عضد الدولة وذمامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 فلمّا اتصل به ما اختاره بختيار لنفسه من الخلع سكنت نفسه وهو حينئذ مع الأتراك وعند ألفتكين بتكريت [434] فجرت بينه وبينهم مناظرات فى الرجوع الى بغداد فسألوه الامتداد معهم إلى الشام فلم يمكن ذلك لأنّ القوم منهزمون وعلى حال اضطراب فوعدهم من نفسه إذا ثبتت أقدامهم وكان له قوة وفيهم منعة أن يحتال لهم ويعود إليهم أو يدبر لهم فى الاجتماع معهم. فاتفقوا على ذلك وانكفأ الطائع لله إلى داره ورحل الأتراك الى الشام [1] . عضد الدولة يأمر بعمارة دار الخلافة وتقدم عضد الدولة بعمارة دار الخلافة وتطرئتها وتجديد فرشها وآلتها وترتيب أسباب الخدمة فيها والتزم فى ذلك مالا جليلا وأخرج الجيش إليه متلقّين واستقبله بنفسه يوم الخميس لثمان خلون من رجب سنة أربع وستّين وكان أول اجتماعهما وانحدر معه فى حديدىّ كان أنفذه إليه ودخلا بغداد. وكان طرح لعضد الدولة بين يديه كرسىّ وقد كان قبّل عضد الدولة الأرض له وجلس على الكرسىّ وأطافت بهما الزبازب والطيارات فى الماء وسار الجيش على شاطئ دجلة ودخل الخليفة داره واستقرّ على سريره. وأنفذ عضد الدولة إلى خزائنه مالا كثيرا وثيابا وفرشا جليلا من جميع الأصناف وعدة من الخيل والمراكب والرقيق [2] والآلات وقرّر يده فى ضياع الخدمة المرسومة بالخلفاء وقد كانت متشذبة قد تحيفها أسباب [435] معز الدولة ثم أسباب بختيار فمنهم من تغلب على حدودها ومنهم من استقطع الخيلفة بعضها ومنهم من ضمن منها ما لم ينصفه من نفسه فيه ولم يسهل إخراج يده عنه فردّ عضد الدولة ذلك كله إلى حقّه.   [1] . ليراجع تاريخ أبى يعلى حمزة ابن القلانسي ص 11. [2] . فى مد: الرفيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 فأمر الطائع لله بإنشاء الكتب عنه إلى النواحي باستقامة أحوال السلطان وتعفّى آثار الفتنة وتألف الشمل وكتبت وفرّقت فى الممالك كلها. خبر عصيان المرزبان ابن بختيار بالبصرة وعصيان ابن بقية بواسط أما المرزبان فإنّ عضد الدولة سام بختيار أن يكاتبه بالاصعاد وكان متوليا البصرة ليرضى بما رضى به أبوه من خلوّ الذرع من تدبير الجند والرعية فكاتب وأنفذ كتابه على يد ثقة من ثقاته يعرف بعلى بن محمد الجوهري وكان صحبه من شيراز ووصّاه بموافقة محمد بن دربند وكان اسفهسلار جيش البصرة وهو قريب للحسين بن ابراهيم وهو متقدم فى جيش عضد الدولة. ولم يقع فى نفس أحد أنّ المرزبان يمتنع ويحدث نفسه بالعصيان لصباه وصغر سنه ولأنّ جيشه من الديلم وهذا المدبر للجيش الذي ذكرناه يهوى هوى عضد الدولة ويرى رأيه. فلقى على بن محمد الجوهري فى طريقه صاحب دواة لعز الدولة بختيار يقال له: عيسى بن الفضل الطبري، قد كان أصعد عن البصرة فعرّفه الصورة واستعمل فى إخراج هذا الحديث إليه غير الحزم والصواب [436] فثنى وجهه عائدا إليه إلى البصرة وسبق إلى المرزبان بالخبر فأشعره الوحشة وأعلمه أن أتاه مكرهة ولقّنه العصيان. فلمّا ورد الجوهري على أثره البصرة بدأ بمحمد بن دربند وأوصل ما كان معه من الكتب إليه فصار به وبها إلى المرزبان وعندهما أنّه غافل فوجده مستعدا للخلاف وقبض عليهما جميعا وأظهر الخلاف وكاتب ركن الدولة بالبكاء والنوح وأعلمه ما جرى على أبيه بختيار وعمومته وأنّ جميع ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 يكاتب من جهة عضد الدولة ووزيره أبى الفتح ابن العميد عن بختيار إنّما هو تمويه وأنّ الحيلة استمرت وتمت لهما على القبض على أبيه وأنّه امتنع ثقة بتداركه إياه ومعه وأنفذ قاصدين عدّة بكتب متوالية. وكان لمحمد بن بقية خليفة بالأهواز من جنسه فى الانسلاخ من صناعة الكتابة [1] يقال له محمد بن عبدان الأهوازي. فلمّا بلغه ما جرى احتوى على ما قدر عليه من المال وأثبت عدة من الرجال وصار الى البصرة داخلا فى سواد [2] أهل العصبية فغلب على المرزبان وشحذ بصيرته فى العصيان ودخل فى وزارته ووعده الكفاية. وأما محمد بن بقية فقد ذكرنا حاله فى البعد من كل فضيلة وكان يتموّه أمره فى أيام بختيار فأما فى دولة عضد الدولة فما كان أبعده من أن يكون عريفا من عرفاء الرجالة ببابه فضلا عن أن يختلط بوزرائه وكتّابه. ولكن أظهر مساعدة كثيرة [437] لعضد الدولة فيما كان يدبره وخدمة فيما كان يراه، وإنّما فعل ذلك حذرا على نفسه وخوفا أن يردّ الى مرتبته وعلما بأن بختيار إن عادت يده فى التدبير قبض عليه وطمع فيه وعامله بما عامل به وزراءه الكفاة عند حاجته إلى المال وكره عضد الدولة أن يخلطه بوزرائه الكفاة مثل نصر بن هارون وكان معه فى هذه الوقعة وهو شيخ الكتّاب قد سلّم له صناعة الحساب خاصة فينسبه الناس الى قلة المعرفة بالرجال ونقصان الرعاية لأهل السابقة والتقدم فى الكفاية وكره أيضا أن يصرفه صرفا قاطعا فيكون قد خيّب ظنه وأكذب تأميله فاستوزره لابنه أبى الحسين ابن عضد الدولة وعرض عليه ما يشاء أن يتقلده من الأعمال فاختار واسطا وتكريت وعكبرا وأوانا وقاطع على هذه الأعمال ووفّر على ما كان العمال   [1] . زاد فى مد بين المعقوفتين: ومن كلّ فضيلة. وهو مأخوذ من الأسطر الآتية. [2] . كذا فى الأصل ومط: سواد. والمثبت فى مد: سوّار، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 يدخلون فيه زيادة عظيمة، فأمر عضد الدولة أن يعقد عليه جميع ذلك. واقترح ابن بقية إقرار اللقب والتكنية السلطانية ولباس القباء عليه. فأجيب الى ذلك وخلع عليه خلعا نفيسة وحمل على دواب بمراكب ذهب وأقطع خمسمائة ألف درهم ورسم له حضور مجالس المؤانسة والمنادمة ولم ينقصه من جميع عاداته إلّا اسم الوزارة لأنّه بالحقيقة لم يكن يتولاها على رسوم الوزراء فيخاطب بها فأظهر سرورا عظيما وشكرا كثيرا ودعاء متصلا وكل ذلك على دخل [1] [438] وغلّ قد أضمره وانحدر الى واسط. وقد كان عمران صاحب البطائح مستوحشا فأحبّ أن يتعلق مع تجدد ملك عضد الدولة بذمام، فأنفذ كاتبه يلتمس عهدا ومنشورا وعقدا وتقريرا، فأجيب إلى ذلك. والتمس أبو تغلب ابن حمدان صاحب الموصل مثل ذلك وضمن حمل المال الذي كان يحمله قديما إلى بختيار فأجابه عضد الدولة الى ما سأل وأعفاه من حمل المال لمكاتبة قديمة كانت بينهما ومودة سالفة، وعقدت أعمال الأهواز على سهل بن بشر النصراني وخلع عليه فشخص إليها وكان محبوسا فى يد بختيار وقد جازفه وصادره. وفرقت أعمال السواد على العمال ودبر الأمور كلّها أبو منصور نصر بن هارون. ولم يبق فى نفس عضد الدولة شيء يتعلق به نفسه إلّا انتزاع البصرة من يد المرزبان. فلمّا حصل ابن بقية بواسط خلع الطاعة وأظهر الخلاف وقبض على من ضم اليه من القواد وأظهر أنّه امتعض لصاحبه بختيار وكان هو المشير [2] بجميع ما جرى متابعة لرأى عضد الدولة. ثم كاتب عمران بن شاهين يستدعى منه المعاضدة ويحذّره تدابير   [1] . كذا فى الأصل: دخل. وهي ساقطة فى مط. والمثبت فى مد: ذحل. والدخل: الخديعة. [2] . فى مط: المسير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 عضد الدولة وأنّه ليس ممن يصبر له [1] على محاورته بتلك الحال فأجابه عمران الى ما سأل. وكاتب المرزبان ابن بختيار يلتمس منه أن يمدّه بالرجال والمال والسلاح فلم يجد عنده ما يحبّ، لتهمته بالانحراف عنه وعن أبيه [439] وعلم أنّه يريد أن يقيم سوقا لنفسه وأحجم ابن بقية عن المصير إليه لتقلد الأهوازي وزارته فبنى أمره على أنّه متى وقع الطلب له هرب إلى عمران وقصد أعمال نهر الفضل فيتغلب عليها. وكتب إلى سهل بن بشر ما أغواه حتى استجاب له وسلك سبيل إرادته. وقد كان عضد الدولة عزم على إنفاذ عسكر الماء لفتح البصرة فلمّا عصى ابن بقية جعل همّه كله واسطا فأنفذ إليه عسكرا قويا فخرج إليه فى آلات الماء فيمن أمدّه بهم عمران من رجاله. ووردت كتب ركن الدولة على المرزبان بأن يتماسك بالبصرة وشجّعه على مقاومة عضد الدولة ووعده بالمصير إلى بغداد بنفسه لإزعاجه وتمكين بختيار وكذلك فعل فى مكاتبة ابن بقية وأبى تغلب ابن حمدان فاضطربت هذه النواحي على عضد الدولة وضاق به الأمر وتجاسر عليه الأعداء من كل وجه وانقطعت عنه موادّ فارس والبحر ولم يبق فى يده إلّا قصبة بغداد وتجاسرت العامة عليه وأشرف على صورة قبيحة. فرأى أن ينفذ أبا الفتح ابن العميد إلى أبيه ركن الدولة متحملا [440] رسالة عنه يصدقه فيها عما جرى ويعلمه فيه بعده عن ممالكه وتضييعه الأموال التي أنفقها، وأنّه قد خاطر مع ذلك بنفسه وجنده كما خاطر هو بوزيره وأكثر جنده، وأنّه قد هذّب [2] مملكة العراق واستعاد الخلافة إلى ممالكه، وأنّ بختيار ليس ممن تستقر بنظره دولة ولا تعتدل على يده مملكة،   [1] . له: ساقطة فى مط. [2] . فى مط: هدب. (بالدال المهملة) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 وأنّه إن خرج عن العراق على تلك الصورة لم يبعد أن تضطرب الممالك كلها ثم لا يمكن تلافيها، ويسأله المدد والإمساك عن نصرة من تفسد على يده مملكته وممالكنا معا وقال لأبى الفتح ابن العميد: - «انظر فإن تيقظ للأمر ونجع فيه هذا القول وأشباهه فاقتصر عليه، وإن رأيته مقيما على رأيه فزد فى الرسالة وقل له: إنّى أقاطعك على أعمال العراق وأحمل إليك عنها ثلاثين ألف ألف درهم وأنت فقير لا مال لك ولا عدة عندك لمثل هذه الحال إن عادت إليك وأنا أعجل لك من جملتها عشرة آلاف ألف درهم وأبعث بختيار وأخوته إليك لتجعلهم بالخيار فإن شاءوا أقاموا فى أوساط ممالكك ومكّنتهم من أى البلدان اختاروه، وإن شاءوا أن يصيروا إلى فارس فيختاروا من أعمالها أى البلدان أحبوه إلى ذلك ووسعت عليهم فى النفقات وأرغدت عيشهم فى أوساط ممالكنا ولم تتركه فى هذه الديار التي استضعفه أهلها وعرف جنده سيرته [441] فيها وانّ الخلافة تخرج عن يده وأيدينا وهو يضعف عن سياسة جنده ويعتمد فى التدبير على الجبايات والمصادرات وتمكين من يرتفع له فى الوقت على يده مالا يقع موقعا من حاجته ثم يضطر إلى نكبته واعتماد غيره. على أنّ هذا الباب أيضا قد انسدّ ولم يبق فيه بقية مما عمله قديما وقد عرف ذلك من نفسه ولذلك استعفى من الأمر. وان أحببت أن تحضر بنفسك العراق لتلى التدبير وتكون سائس الخلافة وبيت الملك ووليت الأمر وتردّ بختيار الى الرىّ فأنصرف الى فارس، كان ذلك وجها من الرأى صحيحا.» وقال لابن العميد: - «وينبغي أن تتبسط فى هذا المعنى فإنّك تجد فيه مقالا واسعا فإن لان لك وعرف صواب قولك وإلّا فزد فى الرسالة فصلا ثالثا تجبهه به وهو: إنّك أيّها الوالد السيد مقبول القول والرأى والحكم، ولكن لا سبيل الى إطلاق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 القوم بعد مكاشفتهم والقبض عليهم وإظهار العداوة لهم. فإنّهم لا يصلحون لى أبدا ولا تنقى جيوبهم ولا تصحّ نياتهم وسيقابلوننى بغاية ما يقدرون عليه فيضطرب الحبل وتنتشر كلمة أهل هذا البيت أبدا. وإن أبيت أن تقبل أحدى الخصال التي عددتها لك وخيرتك فيها وحكمت بانصرافي على هذه الجملة فإنّى سأضرب أعناق هؤلاء [442] الثلاثة الأخوة- يعنى بختيار وأخويه- وأقبض على من أتهمه من حزبه وأخرج وأترك العراق شاغرة ليدبرها من اتفقت له.» فقال له أبو الفتح ابن العميد: - «هذه رسائل صعبة لا يمكنني أن أتلقى ركن الدولة بها وأنا صاحبه ومدبر أمره فإنّى أعرف نصرته لمن ينصره من الغرباء وتصميمه عليه وبلوغه غاية جهده فيه فكيف لبنى [1] أخيه! ولكن الصواب أن يتقدمني إليه من يفرغ جميع ذلك فى أذنه من جهتك ثم أتلوه شافعا له ومتمما ومشيرا.» فتقرر الأمر على ذلك ونفذ فيه من جهة عضد الدولة [ونفذ فيه] [2] ومن جهة أبى الفتح ابن العميد أبو العباس ابن بندار وكان الأمير ركن الدولة يأنس به قديما فتوجهت الرسل وشخص ابن العميد على جمازات عددها مائة يتلوهما. فلمّا بلغ الرسولان الأولان إلى ركن الدولة وشرعا فى تأدية الرسالة وعرف الغرض الأخير منهما لم يمكنهما من إتمام الرسالة ووثب إلى الحربة التي تلى مجلسه فتناولها وهزّها وهرب الرسولان إحضارا من بين يديه. فلمّا سكن غضبه استعادهما وقال: - «قولا لفلان- يعنى عضد الدولة وسمّاه بغير اسمه-: خرجت إلى نصرة   [1] . كذا فى الأصل: لبنى أخيه. فى مط: يبنى أخيه (ببني أخيه) . والمثبت فى مد: ابني أخيه. [2] . بياض فى الأصل وما أثبتناه مكانه بين المعقوفتين هو من مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 ابن أخى أو الطمع فى مملكته؟ أما عرفت أنى نصرت الحسن بن الفيروزان وهو غريب منى مرارا كثيرة أخرج فيها كلها عن [443] ملكي وأخاطر بنفسي وأحارب وشمكير وصاحب خراسان حتى إذا ظفرت وتمكنت من البلاد سلّمتها إليه وعدت من غير أن أقبل منه ما قيمته درهم فما فوقه طلبا للذكر الجميل ومحافظة على الفتوّة؟ أتريد أن تمتنّ أنت علىّ بدرهمين انفقتهما علىّ وعلى أولاد أخى ثم تطمع فى ممالكهم!» وخرج هؤلاء الرسل لا يملكون أرواحهم إشفاقا مما رأوا منه ومما ظهر من غيظه وغضبه. ابن العميد يحجب عن دار الإمارة وبلغ ابن العميد الرىّ وهو الوزير المقرب والأمين المتمكن وعند نفسه أنّ صورته كما كانت فحجب عن دار الامارة وردّ عنها أقبح ردّ وروسل به: - «إنّك خرجت من عندنا ناصرا لبختيار ومدبرا عسكرنا وعسكر فناخسره حتى يستقيم أمر أولاد أخى ثم تأتينى الآن فى صورة فيج [1] تتحمل رسالة فناخسره فيما يهواه حتى يكون مكان أخى وأولاده ويطمع منّى فى أن أرخص له فى القبض عليهم وإزالة نعمهم ويتهددني بالعصيان! أمّا أنت فقد عرفت أنّك اخترته علىّ وسوّلت لك نفسك وزارة العراق ونزهة دجلة! ارجع اليه على حالك فو الله لأصلبن أمّك وأهلك على باب دارك ولأبيدنّ عشيرتك ومن يتصل بك عن وجه الأرض ولأتركنّك وذلك الفاعل (يعنى ابنه) تجتهدان ثم لا أخرج إليكم إلّا بنفسي فى ثلاثمائة جمّازة لا يصحبنى إلّا من عليها [444] من الرجال ثم اثبتوا لى إن شئتم.»   [1] . فيج: كذا فى الأصل وهو الصحيح. فى مط ومد: قبح، وهو خطأ. وفيج فارسي معرّب أصله پيك. أى الرسول والبريد Lpage) .بالإنجليزية) كما مرّ سابقا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 وحلف ركن الدولة محلوفة: - «إنّى إذا بلغت بعض طريقي فى قصدي إياكم لا يبقى معكم رجل واحد إلّا تلقّانى وحصل عندي وإنّه لا يتقرب بك وبعضد الدولة إلّا أخص أوليائكما وأوثق عبيدكما فى أنفسكما وإنّما أتركك الآن وأنت فى يدي لتعود إلى موضعك وتعيد رسالتي وكلامي وتنتظر صحة وعدي ووعيدي.» وأمرّ من هذا الكلام ما هذا جملته وإن كان أكثر من هذا وأشنع. وكان ركن الدولة قبل هذه الحال وعند سماع حال أولاد أخيه من القبض عليهم رمى بنفسه عن سريره وأقبل يتمرّغ ويزبد [1] ويمتنع من الأكل والشرب أياما ومرض من ذلك مرضا لم يستقل [2] منه باقى حياته وكان يقول: - «إنّى أرى أخى معز الدولة متمثلا إزائى يعضّ علىّ أنامله ويقول: يا أخى هكذا ضمنت لى أن تخلفني فى أهلى وولدي!» .» وكان ركن الدولة يعزّ أخاه عزّا شديدا فيراه بصورة الولد لأنّه ربّاه ومكّنه مما تمكّن منه. وتوسط الناس بينه وبين أبى الفتح ابن العميد يشفعون له ويقولون: - «إنّه لم يرد فيما ظننته وإنما احتال فى الخلاص من عضد الدولة بتحمل رسالته، وغرضه أن يجتمع معك لتدبير الأمر بما تراه و [هو] يضمن ضمانا يدخل فى تبعته أنّه يقرر الأمر على رضاك بعد أن تسمع كلامه وتمضى له بما يعمل به فى هواك.» فأذن له [445] حينئذ وجرى بينهما خطاب طويل تقرر على أن يعود ويفرج عن بختيار وإخوته ويقرر الملك فى أيديهم وينصرف كل واحد من   [1] . فى مط: يزيد. [2] . فى مط: لم يستقبل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 عسكر الرىّ وعسكر فارس إلى مركزه وموضعه على صورة جميلة وعلى أكثر مما يمكن أن يعمل من الحيلة فى مثل هذه الحال. فأذن له حينئذ ورجع إلى عند عضد الدولة بخلاف ما خرج وخلا به وعرّفه حقيقة الأمر وأنّه ليس ممن يطمع فى إصلاحه من جهة ركن الدولة. فلمّا رأى عضد الدولة انخراق الأمر عليه من كل وجه ونفد ما صحبه من الأموال ولم يصل إليه شيء من ممالكه اضطر إلى الخروج إلى فارس والإفراج عن بختيار وأخويه ففعل ذلك. وتوسط ابن العميد بينه وبين بختيار وخرج من دار عضد الدولة بعد أن خلع عليه وقبل بساطه وشرط عليه أن يخلفه فى تلك الأعمال ويخطب له وخلع على أبى إسحاق ابن معزّ الدولة على أن يلي أمر الجيش وذلك لما كان اعتقده الجند من ضعف بختيار وسوء تدبيره لهم وزوال هيبته مرة بعد أخرى عن قلوبهم. فلمّا خرجوا من داره وأصعدوا إلى منازلهم فى طيّاره خلعوا الطاعة من غير انتظار ساعة. واجتمع الى بختيار جيشه وعوامّ البلد والعيّارون وأثاروا الفتنة وارتفع عياطهم وصياحهم وقد كان عضد الدولة حفظ [1] عليهم خزائنهم وجميع ما وجد [446] لهم من الدواب والأثاث فما شذّ منها شيء حتى تسلموها كهيئتها يوم فارقوها. وبرز عضد الدولة يوم الجمعة لخمس ليال خلون من شوال سنة أربع وستّين وثلاثمائة عن مدينة السلام قاصدا أعماله بفارس ووافق ابن العميد على المسير فى أثره وألّا يقيم ببغداد بعده أكثر من ثلاثة أيام.   [1] . حفظ. فى الأصل غموض، وما أثبتناه هو من مط، وهو المثبت فى مد بين الهلالين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 ذكر ما جناه أبو الفتح ابن العميد على نفسه وميله الى الهوى واللعب حتى تأدى أمره إلى الهلاك لما خرج عضد الدولة إلى فارس طابت بغداد لأبى الفتح ابن العميد وأحب الخلاعة والدخول مع بختيار فى أفانين لهوه ولعبه ووجد خلوّ [1] ذرع من أشغاله وراحة من تدبير أمر صاحبه ركن الدولة مدة وحصلت له زبازب ودور على الشط وستّارات غناء محسنات وتمكن من اللذات. وعرف بختيار له ما صنع من الجميل فى بابه وأنّه خلصه من مخاليب السبع بعد أن افترسه وأن سعيه بين ركن الدولة وبينه هو الذي ردّ عليه روحه وملكه فبسطه وعرض عليه وزارته وتمكينه من ممالكه على رسمه وألّا يعارضه فى شيء يدبره ويراه فلم يجبه إلى ذلك وقال: - «لى والدة وأهل وولد ونعمة قد ربّيت منذ خمسين سنة وهي كلها فى يد ركن الدولة ولا أستطيع مفارقته ولا يحسن بى أن يتحدث عنى بمخالفته ولا يتم أيضا لك ذلك مع ما عاملك به من الجميل ولكنى [447] أعاهدك إذا قضى الله على ركن الدولة ما هو قاض على جميع خلقه أن أصير إليك مع قطعة عظيمة من عسكره فإنّهم لا يخالفوننى وركن الدولة مع ذلك هامة اليوم أوغد وليس يتأخر أمره.» واستقر بينهما ذلك سرا لا يطّلع عليه إلّا محمد بن عمر العلوي فإنّه توسط بينهما وأخذ عهد كل واحد منهما على صاحبه ولم يظهر ذلك لأحد حتى حدثني به محمد بن عمر بعد هلاك أبى الفتح ابن العميد. ولكن الغلط القبيح من أبى الفتح كان أنّه أقام مدة طويلة ببغداد وطمع فى   [1] . فى مد: خلق، بدل «خلوّ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 أملاك اقتناها هناك وإقطاعات حصّلها وأصول أصّلها على العود إليها. ثم التمس لقبا من السلطان وخلعا وأحوالا لا تشبه ما فارقه عليه عضد الدولة ثم استخلف ببغداد بعض أولاد التنّاء بشيراز يعرف بأبى الحسين ابن أبى شجاع الأرجانى من غير اختبار له ولا خلطة قديمة تكشف له أمره فلمّا خرج كانت تلك الأسرار التي بينه وبين بختيار والتراجم بينهما تدور كلها على يده ويتوسطها ويهدى إلى عضد الدولة جميعها ويتقرب إليه بها. فلمّا عرف عضد الدولة حقيقة الأمر ومخالفة أبى الفتح ابن العميد له ودخوله مع بختيار فيما دخل فيه مع اللقب السلطاني الذي حصّله وهو ذو الكفايتين ولبسه الخلع وركوبه ببغداد مع ابن بقية فى هذه الخلع عرف مكاشفته إياه بالعداوة [448] وكتم ذلك فى نفسه إلى أن تمكن منه فأهلكه كما سنذكره فى موضعه إن شاء الله. ذكر ما جرى عليه أمر ابن بقيّة كان محمد ابن بقية مستوحشا من بختيار لما يعرف من سوء معتقده له، فتوقف بواسط وترددت بينهما كتب ورسائل على يد أبى الحسن محمد ابن عمر العلوي وأبى نصر ابن السراج. فاستحلفا كل واحد منهما لصاحبه فأصعد حينئذ وامتنّ على بختيار بأنّه إنّما استعصى على عضد الدولة بسببه ومن أجله. فقبل منه وزاد فى إكرامه وتجددت بين ابن بقية وبين أبى الفتح ابن العميد مودة ومعاهدة. ألقاب جديدة وفى هذه السنة لقّب أبو الحسن على بن ركن الدولة: فخر الدولة، ولقب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 المرزبان بن بختيار: إعزاز الدولة [1] ، ولقب عمران بن شاهين: معين الدولة، ولقب محمد بن بقية: نصير الدولة، مضافا إلى لقبه الأول ولقب أبو الفتح ابن العميد: ذا الكفايتين وخلع على من حضر من هؤلاء من جهة أمير المؤمنين وأنفذت الخلع إلى من غاب. وبنى محمد بن بقية أمره على تمكين الوحشة وتوكيد العداوة بين بختيار وبين ابن عمه عضد الدولة وأكثر من التسوّق والتنفّق والبذخ والتبجح، وأطلق لسانه إطلاق من لا يترك للصلح موضعا، وثارت الفتن بين العامة وزالت السياسة التي أسسها عضد الدولة من قمع العيارين وظفر ابن بقية بالمعروف بابن [أبى] [2] عقيل صاحب الشرطة الذي كان من قبل سبكتكين [449] وكان من أهل السنة وقد قتل طائفة من أهل الشيعة، فأمر بقتله فقتل فى وسط الكرخ بين العامة، فزادت ضراوة العيارين وعاد الفساد وخاف التجار على أنفسهم وأموالهم. وأخذ ابن بقية فى خدمة الطائع لله ومناصحته وعقد مصاهرة بينه وبين بختيار. وتجددت لبختيار نية فى الخروج إلى الكوفة على أن الظاهر فيه زيارة المشهد بالغرىّ والباطن التصيد، فشخص إليها وصحبه الحسين بن موسى النقيب ومحمد بن عمر العلوي وأقام محمد بن بقية ببغداد وقد كان تنكّر لمحمد بن عمر وقبض عليه لينكبه فلم يطلق ذلك بختيار ولم يتركه فى يده إلّا ساعة من النهار حتى انتزعه منه. فلمّا دخل الكوفة نزل على محمد بن عمر وفى ضيافته فخدمه ولاطفه وجرت بينهما مؤانسات وخلوات واتصل ذلك بمحمد بن بقية وقيل له: - «قد سعى بك ووافق بختيار على نكبتك» .   [1] . فى مط: عزاز الدولة. [2] . ما بين المعقوفتين زيادة فى مط ومد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 فاستوحش ابن بقية واستعدّ للانحدار إلى واسط على سبيل المقاطعة والمخالفة وساعده على ذلك بعض الجند فشرعت والدة بختيار فى إصلاح الحال وكوتب بختيار بالصورة فثنى وجهه مبادرا إلى بغداد وقدم أمامه كتبه ورسائله مع الحسين بن موسى الموسوي بالتلافى وإنكار كل شيء بلغه عنه وأخذ لكل واحد منهما على صاحبه يمينا على التصافي والتراضي فخرج حينئذ محمد بن بقية متلقيا له عائدا إلى طاعته. واتصل [450] بمحمد بن بقية وبختيار أنّ عضد الدولة يريد العود إلى العراق فخرج ابن بقية إلى واسط لجمع المال وإعداد زاد وعتاد واستعمل ضروبا من القبيح فى الكلام والهجر ومنع شذاءات كانت هناك من الاجتياز وواطأ عمران على منع إجازتها وغير ذلك من ضروب الجهل وذلك للحين المتاح له والشقاء المصبوب [1] عليه حتى تأدى أمره إلى أقبح صورة فى الهلاك بأنواع العذاب والمثلة كما سنذكره فى موضعه إن شاء الله. تجدّد الوحشة بين ابن بقيّة وبين بختيار وتجددت بينه وبين بختيار وحشة أخرى بعد عوده إلى بغداد واقتضت الحال القبض على سهل بن بشر النصراني ضامن الأهواز ونكبته التي تأدت إلى القتل. ذكر السبب فى ذلك كان ابن بقية لا يثق ببختيار على تصرف كل حال ولا يدع التحرز منه ونصب العيون عليه وأشدّ ما يكون نفورا منه إذا حلف ووثق له فانهمك فى   [1] . فى مط: والشفاء المصوب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 استمالة الجند ومتابعة الخلع عليهم والصلات لهم ونصب الموائد وعمل الدعوات وأمر أن يحمل المال إلى خزائنه. ووافق بختيار على شيء يقيمه له وصار كالحاجر عليه فمتى طالبه بزيادة على ذلك بعث الجند على مطالبته وأحالهم عليه. فضاق ذرع بختيار به وخاطب جماعة من حاشيته وشيوخ قواده فى تدبير يوقعه عليه حتى يتمكن من نكبته ويستكتب سهل بن بشر وسهل يومئذ فى عمله بالأهواز فأخرج إليه جماعة من كبار قوّاده فيهم الحسن بن أحمد بن بختيار والحسن بن فيلسار وتكيدار [1] الجيلي [451] وجماعة مثلهم وراسله على أيديهم بإيقاع الحيلة عليه. فلمّا وصل إليه هؤلاء القواد برسائل بختيار وعلاماته تقرر الرأى على أن يفلّ [2] الجيش عنه الذين ببغداد ويظهر سهل ومن معه بالأهواز الشغب عليه وترك الرضا به. وورد الخبر بذلك إلى بغداد وقد ضعف بختيار عن إمضاء تلك العزيمة وقد استصلح ابن بقية الجند وملك الأمر فأظهر حينئذ ما فى نفسه وعاتب بختيار ووبخه وذكّره الأيمان التي لا زال يحلفها ثم يعود ناقضا لها وتغاضب عليه وتثاقل عنه فرّق بختيار فى يده وأنكر أن يكون ما أجرى إليه الأهوازيون بأمره وعلمه فقال: - «فأطلق يدي فيهم.» فأجابه إلى ذلك وأمضى حكمه عليهم فألزمه أن يقبض على سهل بن بشر ويسلمه إليه وأن ينفى القواد الذين أظهروا ما أظهروه ففعله وأنفذ ابراهيم ابن إسماعيل الحاجب إلى الأهواز وأمره أن يحتال على سهل بن بشر حتى   [1] . فى الأصل هنا: نكيدار وفى المواطن الآتية: تكيدار. [2] . فى مط: يقلّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 يقبض عليه ويبادر به إلى الحضرة فمضى مسرعا ووصل إلى الأهواز واحتال حتى حضر سهل بن بشر فى منزل أحد القواد فقبض عليه وعرّفه فساد جميع الأمر الذي كان خائضا فيه وحمله للوقت فسلمه إلى ابن بقية. وقد كان الحسن بن فيلسار سبق إلى مدينة السلام فتلافى محمد بن بقية واستصلح نيته وأما الحسن بن أحمد بن بختيار وتكيدار فإنّه استدعاهما، فلمّا قربا من بغداد طردا ونفيا [1] عن [452] العسكر، فعاد الحسن إلى بلده ولحق تكيدار بعضد الدولة. وجد محمد بن بقية فى مطالبة سهل بن بشر بالأموال وبسط عليه المكاره واستخرج منه كل ما أمكنه ثم قتله بالعذاب مع جماعة من الناس سنذكرهم. وفى أثر القبض على سهل بن بشر قلّد بختيار أخاه أبا إسحاق أعمال الأهواز وأنفذه إليها مع طائفة من الجيش وذلك بسفارة محمد بن بقية لأنّه كان استعان بأبى إسحاق ووالدته على بختيار فأعاناه وبلّغاه ما أحب فقضى حقهما بهذا التقليد. وقبض ابن بقية على صاحبه أبى نصر السرّاج وعذّبه حتى قتله ذكر السبب فى ذلك هجمت على ابن بقية علة من حرارة ففصد منها فى اليوم الثاني فما أمسى إلّا ذاهب العقل مسجّى يخور خوار الثور ولا يسيغ طعاما ولا شرابا ولا يسمع كلاما ولا يحير جوابا وظهرت فى فمه رغوة واختلج وجهه وعلا نفسه ولحقه الفواق الشديد واجتمعت فيه أعراض الموت التي لا رجاء معها. وقد كانت لأبى نصر السراج نعمة فاتسعت فى أيامه وعظمت بالدخول   [1] . كذا فى الأصل ومط: نفيا. والمثبت فى مد: بقيا، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 فى الأمور المنكرة وضروب الشر والسعايات وأعداؤه كثيرون. وكان ابن بقية اصطنع رجلا يقال له: الحسن بن بشر الراعي، وكان فى الأصل نصرانيا من رأس عين، فصحب بنى حمدان بالموصل فدخل فى الإسلام لشيء ظهر منه وخاف فأسلم ثم خاف خوفا ثانيا فهرب إلى بغداد واتصل بمحمد بن بقية وحظى عنده فقرب [453] منه ورفعه من حال إلى حال حتى قلّده واسطا. ثم استدعاه إلى بغداد فقلّده خلافته، وتولدت بينه وبين أبى نصر السرّاج منافسة ومضاغنة. فلمّا وقع اليأس من محمد بن بقية استتر ابن الراعي وبادر أبو نصر ابن السراج إلى بختيار فضمن له من جهة أسباب ابن بقية أموالا عظيمة وكتب أسماء أقاربه وأصحابه وكتّابه وسائر أسبابه، فركب بختيار إلى ابن بقية حتى شاهده فى علّته. ذكر اتفاق طريف [1] فى سلامة ابن بقية من علته [2] ثم من قبض بختيار عليه إنّ بختيار أدركته رقّة شديدة له مع اجتهاده كان فى هلاكه وتبرمه به لاستبداده بالأموال والعساكر. فأشار عليه ابن السرّاج بالقبض على الجماعة قبل أن يستتروا فتوقف عن ذلك وألحّ عليه إلحاحا شديدا فلم ينفعه ذلك وأحسّ عيال ابن بقية وأسبابه بما فعله ابن السرّاج فحذروا منه. ثم تماسك محمد بن بقية فى اليوم الرابع من علته بعد أن تردد إليه بختيار دفعتين فى كل يوم فى مدة الحذر عليه وسكنت أطرافه ورجى رجاء [3] ضعيفا وتزايد ذلك الرجاء إلى أن أفاق وهو ساكت ومضت أيام يسيرة فنهض وتراجع إلى   [1] . فى مط ومد: ظريف. [2] . فى مط: أمن عليه. بدل «من علّته» . [3] . فى مط: رجاء عظيما ضعيفا! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 عاداته. وظهر ابن الراعي صاحبه واجتمع أسبابه المتحققون به فصدقوه عن فعل ابن السرّاج وضمنه ابن الراعي منه بمائة ألف دينار فقبض عليه فصح من أمواله وودائعه وأثمان غلاته والمأخوذ من [454] أسبابه أكثر مما ضمنه ابن الراعي ثم بسطت عليه المكاره وأصناف العذاب وحبس فى صندوق ومنع الطعام حتى مات أقبح ميتة. وفى هذه السنة اضطربت كرمان على عضد الدولة ذكر السبب فى ذلك كان فى أعمال كرمان خلق من الرجالة الجرومية لهم بأس شديد وهم متمسكون بالطاعة وأحد وجوههم رجل يقال له: طاهر بن الصمّة، وكان واسع الحال والمعاملة، فدخل فى ضمانات ضمنها وثمار ابتاعها فحصلت عليه أموال طمع فيها وشره إلى كسرها. وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق للإيقاع بالأتراك وخرج وزيره أبو القاسم المطهر بن عبد الله إلى عمان فلم يبق بفارس من العساكر إلّا شيء يسير فخلع طاهر بن الصمّة الطاعة وجمع إلى نفسه هؤلاء الرجالة بالاسلحة التامة واستكثر من عددهم. واتفق أن كان فى نواحي خراسان أمير وجيه من أمراء الأتراك السامانية يقال له يوزتمرّ [1] عظيم المنظر جبار البنية معروف بالبأس والشدة وقد استوحش من محمد بن ابراهيم بن سمجور صاحب جيش خراسان ونفر منه فكاتبه طاهر ابن الصمّة وأطمعه فى أعمال كرمان فسار إليه وصار يدا واحدة   [1] . فى مط: بوزتمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 فى الاستيلاء إلّا أنّ الإمارة ليوزتمر. فبعد مدة شغب الرجال الجرومية فاتهم طاهر أنّه [455] بعثهم على الهيج ففسدت الحال بينهما وزاد الفساد حتى اقتتلا قتالا شديدا فظفر به يوزتمر وأخذه أسيرا وقتل خلقا من رجاله. واتصل ذلك ببعض أولاد الياس وهو الحسين بن محمد بن الياس وهو فى بعض أعمال خراسان وطمع فى الاستيلاء على كرمان وجمع جمعا وصار إليها وانضمّ هؤلاء الرجال الجرومية إليه وأمثالهم من كل ضرب من الدعّار. وقد كان المطهر بلغ من إصلاح عمان ما أراد وفتح جبالها وأوقع بالشراة وانكفأ راجعا إلى أرجان عاملا على المسير إلى حضرة عضد الدولة بالعراق فورد عليه الأمر بالمسير إلى كرمان ليتلافى تلك الحادثة فعاد إلى شيراز وبرز عنها لتسع ليال بقين من رجب سنة أربع وستّين وسار لطيّته [1] مسير السرايا لا يلوى ولا ينثني فأوقع بكل من وجد فى طريقه من أهل التهمة وقتل وصلب وسمل العيون ومثل بكلّ مثلة وبالغ فى القسوة إقامة للهيبة وأسرع المسير حتى انقضّ على يوزتمر فلم يعرف خبره إلّا مع وصوله فبرز إليه وواقعه فانهزم إلى البلدة وهو ببمّ وتحصّن فى قلعة وسطها حصينة فحاصره فيها مطهّر إلى أن أعطى بيده واستأمن وأحضر معه طاهر بن الصمة أسيرا فتسلمه المطهر ثم أمر به فشهر ونودى عليه ثم ضرب عنقه وأعناق [456] جماعة يجرون مجراه وأنفذ يوزتمر إلى بعض القلاع فاعتقله بها وكان آخر العهد به. ثم خرج المطهر فى طلب الحسين بن محمد [2] بن الياس وكان قد جمع عشرة آلاف رجل فى أسلحة تامة مستعدين للقتال فلمّا أشرف عليهم   [1] . الطّيّة: الحاجة والوطر. الضمير والنّيّة. ما فى مط مهمل تماما. [2] . فى الأصل ومط: على. وقد مرّ الإسم آنفا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 استكثر عدّتهم وهاله أمرهم ولم يجد من الحرب بدا. فناصبهم الحرب على باب جيرفت فحملوا عليه حملة ثبت لها ثم حملت ميمنته فأثرت فيهم وألجأتهم الى سور المدينة واختل نظامهم فأكب العسكر عليهم بالنشاب ولم يجدوا مهربا فقتلوا بأسرهم وهرب الحسين وطلب فجيء به أسيرا ولم يعرف خبره بعد ذلك وتطهرت كرمان منه. ودخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة قد ذكرنا مرض ركن الدولة وسبب ذلك وحكينا انصراف عضد الدولة من بغداد على الحال التي وصفناها واستيحاشه من أبيه لما كان منه فى مكاشفته ونصرة بنى أخيه ورأى تجاسر الأعداء عليه واختلال هيبته فى صدور أوليائه ولم يأمن أن يموت ركن الدولة على تلك الحال فينتشر ملكه ولا يجتمع له ما يحب. فراسل أبا الفتح ابن العميد وكان قطع مكاتبة أبيه استيحاشا منه وتجنّيا [1] عليه وسأله أن يتوسط بينه وبين أبيه حتى يعود له كما كان وتلطف مع ذلك فى أن يجتمعا ويعهد إليه ويشهر ذلك فى ممالكه وبين [457] وجوه الديلم والجند. وكان أبو الفتح ابن العميد متمكنا من ركن الدولة ومن الجند أيضا فكان يحبّ أن يتلافى قلب عضد الدولة لما كان منه إليه وهو مع ذلك لا يأمنه ويخشى بادرته ومكايده، فخاطب ركن الدولة وأعلمه ما يخشى من اضطراب الحبل وفساد ما بين أهل بيته باستيحاش عضد الدولة وحذّره من ترك هذه الصورة حتى تستمر وتتمكن من النيات والقلوب ولم يزل به حتى   [1] . كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: تجيا، وهو خطأ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 رقّ ولان وعرف صلاح حال أولاده وممالكه وممالك بنى أخيه فيما دعاه إليه. ثم أشار عليه بأن يأذن له فى الورود عليه حتى يجتمع معه ويراه فقد كان فارقه صبيا ويشاهده الجند بحضرته ويزول ما خامر قلبه وقلوب الناس من اعتراض الوحشة ويجعله ولىّ عهده إذ كان أكبر أولاده وأنجبهم وأوسعهم مملكة وأكثرهم مالا وعدة ورجالا. فأجابه ركن الدولة: بأنّ هذا رأى صواب ولكن ليس فى خزائنه ما يتسع لعضد الدولة ومن يرد معه من الخيل والقواد والغلمان وإن لم يلاطف الجماعة بإقامة الأنزال واتخاذ الدعوات وإفاضة الخلع والحملانات والهدايا على الجماعة افتضح وتهجّن [1] . فقال له أبو الفتح: - «فتسير أنت إليه لتجدد النظر فى تلك الممالك التي طال عهدك بها وتشاهد أولئك العسكر [458] الذين رتّبتهم قديما وحديثا فيها ويلتزم عضد الدولة لك ولجندك وجميع حاشيتك ما أشفقت من التزامه لهم وتقيم السياسة التي لا بدّ لك من إقامتها بين أولادك وممالك.» فقال له: - «هذا يقبح فى الأحدوثة وعند ملوك الأطراف وفيمن يأتى بعدنا من الأمم أن يتحدث الناس أنّ فلانا أوحش ابنه فى أمر رأى إيحاشه وتأديبه فيه ثم قصده يترضّاه.» فكوتب عضد الدولة بجميع هذه الفصول فكتب: «إنّ هاهنا خلّة أخرى يسلم فيها من جميع هذه الأشياء التي ينكرها وهو أن يقصد أصبهان فإنّها من أعماله وأنهض أنا من فارس فأقصده لخدمته   [1] . فى مط: تهجر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 وعيادته من مرضه ويلزمني حينئذ تفقد أسبابه وحاشيته ولا يلزمه لى ولا لأحد ممن يصحبنى شيء ولا يتحدث بأنّه قصدني أو زارني.» فتقرر الرأى على ذلك وتشمّر أبو الفتح ابن العميد له حتى تمّت العزيمة ونهض ركن الدولة مع ضعفه ومرضه وحضر أصبهان واستدعى الأمير فخر الدولة وهو ابنه علىّ وكان مؤيد الدولة فى ولايته مقيما بأصبهان وهو ابنه بويه وحضر عضد الدولة وخرج ركن الدولة فى تلقّيه. فلمّا قرب من البلد وقف على نشز من الأرض حتى ترجّل له عضد الدولة ابنه وقبّل الأرض مرات ثم تقدم إليه فقبل يده [459] ثم تتابع القواد والأمراء وكبار الحاشية بتقبيل الأرض والخضوع له. فرأى لنفسه منظرا يسر مثله الآباء فى أولادهم. ثم سار حتى نزل ونزل كل واحد حيث رسم له ونزل عضد الدولة معه فى دار الامارة فى الابنية التي كان استحدثها مؤيد الدولة. ثم دعا أبو الفتح ابن العميد دعوة جمع فيها ركن الدولة وجميع أولاده ووجوه الأمراء والقواد والحاشية وخاطبهم ركن الدولة بأن عضد الدولة ولىّ عهده وخليفته على ممالكه وأنّ مؤيد الدولة وفخر الدولة خلفاؤه فى الأعمال التي رتبهم فيها. ولزمت أبا الفتح مؤونة عظيمة وحمل إلى كل واحد من ركن الدولة والأمراء من أولاده وقوّاده وحاشيته ما يليق به وكان فى جملة ما خلع على الخواص من الديلم ومن يجرى مجراهم ألف قباء وألف كساء. تقرّر الرئاسة على عضد الدولة وانصرف القوم وقد تقررت الرئاسة من بين أولاد ركن الدولة على عضد الدولة، واعترف له مؤيد الدولة وفخر الدولة به وخدماه بالريحان على الرسم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 المعروف لهم، وخدمه بعدهما كل أمير وقائد ممن حضر، وكتب بذلك عهد قرئ وكتب فيه القوم خطوطهم. وكان بختيار سيىء الظن شديد الحذر مما تقدم له ولجنده من مكاشفة عضد الدولة فهو يحب أن يصلح أمره معه فتتابع كتبه إلى ركن الدولة ويسأله أن يعصمه من الحال التي خافها [460] وأنفذ إليه عيسى بن الفضل صاحب دواته ووافق ذلك هذا الوقت الذي كنا فى ذكره من اجتماع الجماعة بأصبهان فتكلم ركن الدولة فى ذلك وأظهر عضد الدولة فى الحال الإغضاء عنه وشرط عليه أن يقلع عما يوحشه من بعد ولا يعاود شيئا مما ذمّه منه فعلا وقولا. وكان بختيار سكن قليلا إلى ذلك إلّا انّ محمد بن بقية مقيم على خوفه وحذره ويحمل بختيار على مكاتبة سهلان بن مسافر وكان وجه عسكر فخر الدولة وحسنويه بن الحسين البرزيكانى [1] وكان مجاورا لأعماله ومصاهرا له ويحمله أيضا على استمالة فخر الدولة حتى يدخل فى منابذة أخيه عضد الدولة. فترددت الرسل بينهم فتأكدت العهود بينهم واستعدوا جميعا للمعاونة واتفقوا على التعاضد والتوازر إن نابت أحدا منهم نائبة. وحضر كتّاب لهم وجرت موافقة فى أمور مشهورة ظهر منها تقليد كل واحد من فخر الدولة وسهلان بن مسافر ما فى أيديهما من الأعمال رئاسة من قبل السلطان وكتب لهما العهد ولقب سهلان: عصمة الدولة وكنّى وأنفذت الخلع الى الجهتين ووعد حسنويه بمثل ذلك إذا سار. فلمّا وردت عليهم هذه الخلع أحجموا عن لبسها وتوقفوا عن إظهار المنابذة لعضد الدولة فمكثت الخلع على الرسل مطّرحا لا يلبس [2] ولا يتلقّب سهلان ولا يتكّنى وجرى   [1] . ما فى الأصل مهمل فى الأول وفى مط: البرزيكاى. والمثبت فى مد: اليرزيكانى. [2] . يريد مطرحة لا تلبس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 الأمر على غاية الأخلوقة والفضيحة. وواصل بختيار وابن بقية عدّة الدولة [461] أبا تغلب ابن حمدان ومعين الدولة عمران بن شاهين وقطعت الخطبة ببغداد وجميع منابر العراق عن اسم عضد الدولة وزعم بختيار أنّ الرئاسة له بعد ركن الدولة. وشرع ابن بقية فى تلقيب ثان مضاف إلى لقبه الأول وأن ينشأ كتاب عن الخليفة بالزيادة فى المقاطعة والمكاشفة وأشيع ذلك على المنابر وأطلق للناس الكلام القبيح وعظم بختيار وأنزل منزل ركن الدولة بالعراق والممالك المجاورة له وزعم أنّه يلتمس تلك المنزلة من عضد الدولة ومن دونه وتلاه ابن بقية فى هذه المراتب ووجد من جهال الجند مساعدة له ورغبة فى حطام يتناولونه منه ويأكلون عنده واسرارا للبراءة منه وإسلامه. وكان يظن أنّه، عنده إن بلغ ما يحبّ بالتدبير الذي دبّره، فقد فاز وإن انعكس عليه كان بختيار الهالك وهو الناجي فيظن ظنّا خطأ لأنّ من سلك مسلكه لم ينج ولم يخل من ورطة يقع فيها تكون سبب هلاكه. [1] ودخلت سنة ست وستين وثلاثمائة تحرك عضد الدولة نحو العراق من فارس وفى هذه السنة تحرك عضد الدولة نحو العراق ورحل من فارس فجد محمد بن بقية وبختيار فى مكاتبة الجماعة المذكورة. وكان حسنويه بن الحسين الكردي خاصة يغرّ بختيار من نفسه ويطمعه فى أنّه سائر إليه لمعاونته [462] بنفسه وأهل بيته ومن يطيعه من الأكراد وكان يحب أن يشتت الألفة ويفرق الكلمة، لأنّ نظام أمره كان فى انتشار أمر   [1] . وقال صاحب تاريخ الإسلام: وفى رجب عمل مجلس الحكم فى دار السلطان عز الدولة وجلس ابن معروف وحكم لأنّ عزّ الدولة التمس ذلك ليشاهد مجلس حكمه كيف فيها هو. (مد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 هؤلاء الملوك. وكان بروز بختيار وابن بقية يوم الاثنين لليلة بقيت من جمادى الأولى يريدان الزيارة والتصيد ثم الانقلاب إلى واسط قاصدين الأهواز على نية المحاربة. فانتهيا إلى واسط فى انسلاخ جمادى الآخرة ووقعت بينهما وبين عمران بن شاهين مصاهرات وتزوج بختيار بابنة عمران بن شاهين وتزوج الحسن بن عمران بابنة بختيار. وفى هذا الوقت أهلك ابن الراعي بأمر ابن بقية خلقا ممن كان يتهمهم فيهم المعروف بابن عروة وهو ابن أخت أبى قرّة وكان من وجوه العمال وفيهم علىّ بن محمد الزُّطّى وكان إليه شرطة بغداد ومنهم المعروف بابن العروقى وكان أيضا إليه الشرطة بواسط وجماعة يجرون مجراهم وهمّ بقتل صاعد بن ثابت وكان قبض عليه ونكبه ولكنه سلم من القتل. وراسل بختيار من واسط الطائع لله وراسله ابن بقية يسئلانه الانحدار إليهما والمسير معهما فامتنع من ذلك وترددت المكاتبات فى ذلك إلى أن قرر عنده أنّه إنّما يسأل تجشم العناء للصلح والألفة فحينئذ انحدر إلى واسط وسارت الجماعة عنها إلى الأهواز والمكاتبات تتردد فى خلال ذلك [463] بين القوم وبين حسنويه بن الحسين وهو يعد بالمسير. فبينا هم كذلك إذ ورد خبر عضد الدولة فى نزوله أرجان فى جميع عساكره فاضطربت القلوب وكتب عن الخليفة كتاب فى معنى الدعاء إلى السلم والكفّ عن الحرب وأنفذ الكتاب مع خادم من خدم بختيار على أنّه من خدم الخليفة. [1] وكان الطمع فى الصلح فى هذا الوقت محالا. فاستقرّ الرأى بعد مناظرات بين بختيار وأصحابه على أن تكون الوقعة   [1] . زاد فيه صاحب التكملة: فقال عضد الدولة للخادم. قل لمولانا أمير المؤمنين «لا يمكنني الجواب إلّا إذا مثلت بحضرتك» ولم يجب على الكتاب. (مد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 بالأهواز [شاطئ شوراب] [1] والتحصن بالنهر المعروف بسوراب [2] والقتال من ورائه فبرزوا وضربوا مضاربهم على شاطئ سوراب ونفذ أبو إسحاق ابن معزّ الدولة فى طائفة من الجيش إلى عسكر مكرم لضبطها وحفظت المعابر على المسرقان وجردت العساكر من الأعراب والأكراد وغيرهم إلى رامهرمز وذلك أن المقيم كان بها والضامن لها وهو الحسن بن يوسف استأمن إلى عضد الدولة. إفضاء الحال إلى الحرب بين عضد الدولة وبختيار ولما رأى الطائع لله أنّ الحال أفضت إلى الحرب امتنع من المقام وبرز متوجها إلى بغداد. فاجتهد بختيار وابن بقية الجهد كله فى أن يقيم فأبى ذلك وسار إلى دجلة البصرة وأصعد فيها إلى مدينة السلام مجتازا فى أعمال البطيحة. ثم ورد خبر نزول عضد الدولة رامهرمز وهزيمة ذلك العسكر الذي نفذ إليها فزاد قلوب القوم ضعفا وانتقض [464] عليهم رأيهم فى لزوم شاطئ نهر سوراب فرجعوا منهزمين إلى أفنية سوق الأهواز وقطعوا قنطرة اربق وكوتب ابراهيم بن معزّ الدولة بالعود من عسكر مكرم فعاد واجتمع جيشهم. واتصل ببختيار أن سلار بن با عبد الله سرخ هو مع جماعة من وجوه قوّاده وجماعة أخرى عاملون على أن يستأمنوا ويفضّوا عسكره وأشير عليه بالقبض عليهم وتقيدهم وحمله إلى واسط فضعفت نفسه عن ذلك وخشي اضطراب باقى عسكره وضعف عن المحاربة بالأهواز وعمل على أن يرجع إلى واسط موفورا فيجعل الحرب فيها، فمنعه ابن بقية وجميع القوّاد عليه   [1] . ما بين المعقوفتين زيادة من مط. [2] . فى مط: شوراب. ما فى الأصل: سوراب (بالسين المهملة) والإعجام من مط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 وألزموه المقام. وطالبه العسكر بالمال فظهرت خلته وفاقته وابتدأ ابن بقية بمصادرة أهل البلد وكسر بختيار أوانى الذهب والفضة من الحلي والمراكب وضربت عينا وورقا فضعفت آمال جنده. وعقد على دجيل جسرا ضيقا ضعيفا فى أسفل البلد وعلى طريق لا يصلح للعساكر عدّة للهرب. ووردت أخبار عضد الدولة باستظهار شديد ومال كثير وكراع وسلاح وجمال موقرة بالأزواد والآلات وعدة فيول مقاتلة وكان على ثقة من استئمان جماعة من البختيارية إليه منهم سلار سرخ الذي ذكرناه وذلك أنّ كتبه وصلاته كانت متصلة إليهم. وقدم عضد الدولة أمامه أبا الوفاء طاهر بن محمد بن ابراهيم وضم إليه جماعة فيهم المعروف [465] بالكاروى الأهواز مع جيش من رجاله القفص وغيرهم فوردوا الباسيان وجمعوا السفن وصاروا بها إلى الناحية المعروفة ... [1] فعقدوا جسرا. وورد عضد الدولة فعبر عليه وجميع عساكره والأخبار ترد مع ذلك على بختيار وابن بقية فلا يكون فيهما فضل للممانعة عن العبور ويثبتان ثبات التحيين وذلك أنّ من عجز عن ردّ بعض العساكر عن العبور والزحف فى المواضع التي يمكن فيها الممانعة كيف يثبت لجميع العساكر فى الفضاء! وتمسك عضد الدولة بالماء فنزل على شاطئ النهر لأنّ الوقت كان مدخل تموز فنزل من القوم على نحو الفرسخ وبكر يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ستّ وستّين وثلاثمائة على تعبئة ونظام وعدّة واستظهار واحتياط وصافّه بختيار مصافّة مضطربة وجعل الفرسان أمام الرجالة وهذا شيء ما فعله أحد قطّ ولا تجهله عوام الناس حتى لعّاب   [1] . بياض فى الأصل وفى التكملة: كانت الحرب بناحية يقال لها قشان من أعمال الباسيان. (مد) وليس فى مط ما يملأ البياض الموجود فى الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 الشطرنج! فاستأمن سلار سرخ والحسن بن خرامذ ونيباك بن شيرك وهو من أشد الديلم وشجعانهم وعدد كثير من الخواص وكان دبيس بن عفيف رئيس بادية بنى أسد فى ميسرة بختيار فاستأمن وانهزم جيش بختيار وتبعتهم الأعراب والأكراد بالنهب والسلب والقتل والأسر [466] واستأمن تحت السيف خلق وانهزم الفلّ يطلبون الجسر الذي وصفناه فغرق أكثرهم بالمضايقة والمزاحمة. إفلات بختيار وأخيه وأفلت بختيار وأخوه أبو إسحاق ووزيره ابن بقية وعبروا دجيلا واختلفت بهم المذاهب فلم يعرف بعضهم خبر بعض حتى التقوا بمطارا وكان بختيار ألقى سلاحه عن نفسه وتلثم وفيه عدة طعنات بالزوبينات فأمّا أخوه وابن بقية وجماعة من كبار قوّاده فإنّهم وردوا الحويزة نصف الليل فى نحو خمسمائة رجل وباتوا فلحق بهم تمام الألف على صورة قبيحة من الاختلاف ولما أمسوا ساروا نحو نهر الأمير ومن هناك إلى مطارا واجتمعوا مع بختيار. وقد كان ابن بقية عبر بصاحبه ابن الراعي مع خزانته وخزانة بختيار وعدّة كانت معه إلى المأمونية التي بإزاء سوق الأهواز وعوّل فى حفظه على بعض بنى أسد فنهب جميعه. فأنفذ عمران بن شاهين ابنه الحسن وكاتبه وقوّاده فى عدّة زواريق وآلات إلى بختيار وحمل إليه وإلى ابن بقية مالا وثيابا وحمل المرزبان بن بختيار إلى أبيه من الأبلّة وقد كان برز إليها مالا وثيابا وصارت الجماعة إلى الأبلّة فى الماء بعد أن تأثثوا وتزوّدوا إلى واسط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 وصادف بختيار وابن بقية البصرة مفتتنة بالحروب بين ربيعة ومضر [1] فإنّ مضر كانت [467] داخلة فى طاعة عضد الدولة بتدبيرات دبرها وأصول قدمها وأما ربيعة فأقامت على طاعة بختيار ولا لرغبة فيها ولكن مضاغنة لخصومهم من مضر فاتصلت الفتن ودامت الثورة وأحرقت المحالّ وانتهبت البضائع [2] ودخل ابن بقية إلى البصرة لتسكين هذه الفتنة فزادها اشتعالا وفسادا وأحرق بعض خطط المضريين وانصرف والشرّ [3] باق. وأشفقت الجماعة من أن يسير عضد الدولة إلى واسط فيحصل بها فيفوتهم الهرب إن أرادوه فأصعدوا فى الماء واخترقوا البطائح فتلقاهم عمران بن شاهين فى عسكره وآلاته وقبّل يد بختيار وتطاول بختيار له وعطف به إلى دار ابنه الأكبر وهو أبو محمد الحسن فأنزله فيها للوصلة بينهما ولأنّها كانت أحسن دار بالبطيحة وأنزل محمد بن بقية عليه فأقاموا عنده أضيافا ثلاثة أيام فعجب الناس من موافقة ذلك ما كان عمران سبق إليه بالحكم كما حكيناه فيما تقدم. ثم رحلوا ورحل الحسن بن عمران معهم إلى واسط. هرب المرزبان بن بختيار وفى هذه الحال هرب المرزبان بن بختيار من البصرة إلى واسط لاحقا بأبيه فى الشذاآت والزبازب والسفن بكليته وحرمه وأسبابه.   [1] . روى الطبري (2: 450) أنّ مضر كانت تكثر ربيعة بالبصرة. [2] . زاد فيه صاحب التكملة: وورد أبو بكر محمد بن على بن شاهويه صاحب القرامطة الكوفة فى ألف رجل منهم وأقام الدعوة بها وبسورا وبالجامعين والنيل لعضد الدولة. (مد) [3] . فى مط: والسر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 ذكر السبب فى ذلك ظهرت مضر على [468] ربيعة وضعفت نفوس ربيعة بهزيمة بختيار وانخزل المرزبان وخاف أن يؤخذ فبادر إلى واسط موفورا وحينئذ كتب وجوه البصريين إلى عضد الدولة بإنفاذ من يتسلم البصرة فأنفذ أبا الوفاء طاهر بن محمد فدخلها. ولما حصل بختيار بواسط تنكر لابن بقية وذمّ مشورته وندم على قبوله منه وقال: - «قد كنت عملت على الانصراف عن الأهواز قبل الحرب بجيش كثيف وأمر مستقيم وعسكر وآلة وسلاح فإن تمكنت من المقام بواسط أو ببغداد ولحقتني المعونات التي أنتظرها من سائر الجهات وإلّا كان أقل ما فى يدي أن أنصرف عن هذه البلاد بعسكر لم يثلم ولم ينكب فلم يتعذر علىّ أن أغلب على غيرها فأبيت إلّا إخراجى من جميع نعمتي ومملكتي وإفساد ما بيني وبين أجلّ أهلى.» فثبت ابن بقية وقال: - «قد ينال الملوك مثل ما نالك وأعظم منه فيتماسكون وعلىّ أن أصلح أمورك وأبذل نفسي دونك ومساعدة الجند على ذلك.» وتراجع إلى بختيار كثير من الديلم والأتراك واستدعى كراعا كان له ببغداد واستجد سلاحا وخيما وخركاهات وصار إليه من كان بالبصرة وبغداد من الجند وأحوالهم جامّة فصار فى عسكر قوىّ. ووردت عليه كتب حسنويه بن الحسين الكردي يغرّه غرورا ثانيا ويعتذر إليه فى [469] التأخر عنه ويعده بأن ينفذ إليه أولاده واحدا بعد آخر ثم يصير إليه بنفسه فى جميع رجاله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 وعادت المكاتبة بينه وبين فخر الدولة على بن ركن الدولة وأبى تغلب ابن حمدان ورجع ابن بقية إلى ذخيرة كانت له بواسط فتأثّث منها وجرى على عادته فى استمالة الجند وبذل الخلع حتى مالوا إليه وآثروه على بختيار. ذكر بلوى بلى بها بختيار فى تلك الحال حتى أسلم بقيّة ملكه من عجائب ما اتفق على بختيار فى تلك الحال أنّه كان أسر له فى الوقعة بالأهواز غلام تركي يعرف ببايتكين [1] لم يكن [2] من قبل يميل إليه ولا تظهر منه محبة له فجنّ عليه جنونا وتسلى عن كل شيء خرج عن يده إلّا عنه وحدث له من الحزن عليه ما لم يسمع بمثله فامتنع من الطعام والشراب والقرار والسكون وانقطع إلى النحيب والشهيق والعويل واحتجب عن الناس إخلادا إلى البكاء وتضجّر بالجيش وتبرّم بحضورهم واطّرح التدبير وزعم أنّ فجيعته بهذا الغلام فوق فجيعته بالمملكة والانسلاخ منها ومن النعمة. ثم إذا كان وصل إليه وزيره وكتّابه وقوّاده وخواصه فى المهمّ قطعهم عن ذلك بالشكوى بما حلّ به والبوح بما فى نفسه ونقصت أوقاته ومجالسه بهذا [470] الخطب الجليل عنده دون ما سواه وامتنع من الجلوس فى الدست ومن استعمال التمهد بالمخادّ وما أشبه ذلك فخفّ ميزانه عند الناس وسقط من عيونهم فلم يبال بذلك. وصار القوّاد يجتمعون إلى ابن بقية ويقولون: - «دبّر أنت أمورنا فإنّا معك ومطيعون.» فاستهان به ابن بقيّة واستعجزه وجاهر بذلك بعد أن كان يستره وعدل إلى   [1] . فى مط: ببابكز. [2] . فى مط: لم يتمكن، بدل «لم يكن» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 الأخذ بالحزم لنفسه. وأمّا بختيار فإنّه أسقط التجمل [1] فى أمر هذا الغلام عند كل أحد حتى كتب إلى عضد الدولة والحرب قائمة بينهما وهو يطلب ملكه ونفسه يسأله ردّ هذا الغلام عليه وكتب إلى جماعة خواصه المطيفين به وبخدمته يسألهم معاونته فيما رغب فيه إليه. فاستزاد بذلك فضيحة فى العساكر والأمصار وعاتبه الأقارب والأباعد فما ارعوى، بل تمادى. وأنفذ أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي رسولا إليه فى هذا الباب وبذل له على يده فى فدية الغلام جاريتين عوّادتين محسنتين كانتا عنده ولم يكن لهما نظير فى الحذق والبراعة وقد كان أبو تغلب ابن حمدان بذل بإحديهما مائة ألف درهم فأبى أن يبيعها. وقال له: - «إن وقف عليه الأمر فى هذا الفداء فزد أبدا ولا تفكر فى شيء مما بيني وبينه فقد رضيت [471] أن آخذه وأمضى إلى أقصى الأرض وأسلّم إليه ما فى يدي.» فشخص وأدّى الرسالة وقد وجد ذلك الغلام قد اختلط مع غيره من رفقائه المأسورين يوم الوقعة ولم ير له فضل ولا ميّز [2] من بينهم. وأنفذوا إلى شيرزاد هدية للأمير أبى الفوارس ابن عضد الدولة. فلمّا أديت الرسالة وعرف الملك ما عند بختيار من الفجيعة به عجب كل العجب وأمر بردّ الغلام إلى حضرته فردّ. ثم أعاد أبا أحمد الموسوي بجواب الرسالة وضم إليه أبا سعد بهرام بن أردشير الكاتب رسولا وأعلمه أنّه مجيب له إلى ما سأل وأرشده مع ذلك إلى بعثه على الطاعة وحمّله رسائل أخر أمرهما أن يؤديها إلى بختيار سرّا عن ابن بقية وعلى غير مشهد منه ولا من أحد.   [1] . وفى الأصل ومط: التحمل. وكلاهما بمعنى واحد. [2] . ميّز: الشدّة من الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 فلمّا وردا امتثلا الأمر وطويا عنه ما حضرا فيه وأدّياه إلى بختيار وحده على انفراد به فاستوحش ابن بقية استيحاشا شديدا واتهم أنّه التمس القبض عليه وتسليمه إليه عوضا عن الغلام وأنّ بختيار يفعل ذلك لشغفه به فهمّ بالقبض على الرسولين جميعا ومكاشفة بختيار وأن يظهر العصيان. وكان نازلا من واسط فى الجانب الغربي ومعه المال والسلاح والثياب والآمال متعلقة به [472] وبختيار فى الجانب الشرقي خال من ذلك كلّه وإنّما كان ابن بقية يجرى عليه قوته ويعوله كما يعال من لا أمر له وعمل على أن يراسله باعتزال التدبير وأن يصعد إلى بغداد ويخلّى بينه وبين الحرب فإن فعل وإلّا جاهر وطرده وكان ذلك ممكنا منه لو أمضاه. فعدل بختيار إلى تلافيه والرفق به وأظهره على الرسالة المطوية عنه وسكّن [1] نفسه وطيّب قلبه وأراه أنّه راجع إلى رأيه ومتدبر بتدبيره وغير خارج عن إرادته إلى أن تمّ له القبض عليه. ذكر السبب فى قبض بختيار على ابن بقيّة كان ابراهيم بن إسماعيل صاحب بختيار تمكن منه ووثق به صاحبه وكان نقيبا خاملا فتقدم عنده إلى أن استحجبه وذلك بعد رحيل عضد الدولة إلى فارس. ولما اطّلع على الحال التي عليها ابن بقية من التنكر أعلم بختيار أنّه على خطر من وثبة يثبها عليه إشفاقا على نفسه وانتهازا لفرصته مع تمكنه من الجند والمال فقال له بختيار: - «إنّى أخاف شغب الجند وأن يستنقذوه من يدي ويطالبونى بالأموال.» فتضمن له ألّا يجرى شيء من ذلك وإن جرى كان عليه أن يسكنهم   [1] . فى مط أيضا: سكّن. ما فى الأصل: سكنت/ سكّن (كلمة واحدة) بتغيير من الكاتب. والمثبت فى مد: سكنت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 ويرضيهم بما يوجد من أموال ابن بقية وأسبابه وأطمعه فى كثرتها وفى أن تسفر الحال فى القبض عليه فيما بينه وبين عضد الدولة ويصير ذاك طريقا إلى انعطافه وصلاح رأيه وأشار عليه ألّا يستوزر وزيرا بعده [473] وأن يقرّ الكتّاب على أعمالهم ودواوينهم ويخرج أبا العلاء صاعد بن ثابت [1] من محبسه فيردّ إليه استخراج الأموال والاستيفاء على العمال من غير وزارة. فقبل بختيار مشورته وأطلع بختكين آزاذرويه عليها فاستصوبها وكان فى ضنك شديد حتى إنّه احتاج إلى الثلج فالتمس من ابن بقية ثلجا فحمل إليه ثلاثين رطلا ووجد فى خزانة شرابه يوم القبض عليه ستة آلاف رطل كان أعدّها لسماط يتخذه للجند. فلمّا كان وقت العصر من ذى الحجة سنة ستّ وستّين وثلاثمائة عبر ابن بقية فى زبزبه إلى بختيار فوجه فى الوقت جماعة قبضوا على الحسن بن بشر [المعروف] [2] بابن الراعي صاحبه فحين حصل فى أيديهم أمر بالقبض على ابن بقية من غير أن يصل إليه وقبض على جميع ما وجد له من مال وكراع واستخلص أبا العلاء صاعد بن ثابت من محبسه وكان أمر ابن الراعي بقتله فى الليلة المقبلة فكفاه الأجل والمقدار. ووجد فى حبس ابن بقية صاحبه المعروف بالكراعى وكان صادره ولم يبق فيه بقية، فأطلقه بختيار وسلّم إليه ابن الراعي ليطالبه ثم أخذ من يده فاستوحش الكراعى وهرب إلى البطيحة. فتحرك الجند بعد أيام يسيرة من القبض على ابن بقية وطالبوا بأموالهم وعرّضوا بذكره والتأسف عليه فهمّ [474] بختيار بقتله فى الوقت فلمّا تفرق الجند عنه أنفذه فى الليل مقيّدا إلى بغداد موكّلا به وأخرج معه أبا العلاء   [1] . وزاد فى مد: النصراني (بين المعقوفتين) . [2] . فى الأصل ومط: ابن الراعي. وما بين المعقوفتين اقتراح من مد، لتكرّر الكلمة فيما بعد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 صاعد بن ثابت ليطالبه ولم يكن الاحتياط وقع على أقاربه لأنّ بختيار عاجله كما حكيت. ثم كتب على الأطيار إلى مدينة السلام بتحصيلهم فسبق أحد الأطيار وحمله صاحب البرج إلى أسباب ابن بقية على الرسم فى خدمة الناس لهم فوقفوا عليه وأنذر بعضهم بعضا فهرب من هرب واستتر من استتر فالتجأ أخوه وابن أخيه المعروف بأبى الحمراء مع جماعة منهم إلى بنى شيبان ثم إلى بنى عقيل وأقاموا فى البادية. تمام خبر بختيار وما عمله بواسط إلى أن صاعد إلى بغداد كان قبضه على ابن بقية قبل ردّه أبا أحمد النقيب وبهرام بن أردشير الرسولين إلى عضد الدولة فشهدا ذلك عيانا ثم أنفذهما وأنفذ الجاريتين ليفتدي بهما غلامه بايتكين ووافق أبا أحمد العلوي على أن يبذل جميع ملكه إن دعته إلى ذلك حاجة. فجرت خطوب استقرت على أن سلّم الجاريتين وتسلّم [1] الغلام وتواترت البشائر بحصول الغلام بالبصرة فأظهر بختيار السرور العظيم بذلك وأنّه جرى عنده مجرى الظفر بجميع خيرات الدنيا والآخرة واستشعر أنّ نعمته قد عادت إليه وهمّ بالعود [475] إلى بغداد على ما شرط عليه عضد الدولة. وجاء ابراهيم بن إسماعيل حاجبه وأشرف عليه فى اللوم والتقريع وأشار عليه أن يقيم بواسط للمقارعة والمدافعة وجاءه عبد الرزاق ابن حسنويه ثم أخوه أبو النجم بدر بن حسنويه فى نحو ألف فارس ووردت كتب حسنويه بأنّه سائر على أثرهما فأظهر المقام بواسط على مباينة عضد الدولة.   [1] . كذا فى الأصل ومط: أن سلّم الجاريتين وتسلّم الغلام والمثبت المقترح فى مد: أن تسلم الجاريتان ويسلم الغلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 فاتصل ذلك به وأنّه نقض الشرط فبادر برسله إلى أبى أحمد النقيب [العلوي] يرسم له أن يتوقف بالبصرة مع الغلام إلى أن يرحل بختيار عن واسط ويتمسك بالشرائط التي شرطت عليه فوردت كتب العلوي بذلك فاضطرب واجتهد وكاتب وراسل فلمّا لم ينفعه شيء من ذلك أمر بتقديم سواده وعمل على الإصعاد ليلا وأعلم عبد الرزاق وأبا النجم أنّه قد رأى أن تكون الحرب ببغداد لأنّ أبا تغلب ابن حمدان صائر إليه لمعاونته وسألهما الإصعاد معه ففعلا ذلك على استضعاف الرأى فيه وقد كانا اطّلعا على حديث هذا الغلام فكتبا إلى أبيهما حسنويه يصدقانه عن الصورة فلما حصل عبد الرزاق بجرجرايا رحل منصرفا وتوقف أبو النجم بدر على سبيل التذمّم والحياء. وتلوّم بختيار فى طريقه حتى لحقه أبو أحمد العلوي وبهرام بن أردشير [476] ومعهما بايتكين فسلماه إليه فتمم المسير إلى بغداد. وقد كان ابن بقية والمعروف بابن الراعي أظهرا التبلّح فى المطالبة بعد مكاره عظيمة لحقتهما والتمس ابن بقية كتب الأمانات لأهله الهاربين فكتبت وحضروا. ابن بقيّة يطمع فى الوزارة وتجدد لابن بقية طمع فى أن يخطب الوزارة ويبذل لبختيار ثلاثمائة ألف دينار يصححها من جهات كتّابه وأسبابه وذويه ومن البقايا فى النواحي وأن يردّ إلى مرتبته ليقوم بأمر الحرب ويدبر العسكر فبلغ ذلك أصحاب بختيار والقواد الذين أشاروا بالقبض عليه فاضطربوا واجتمعوا إلى بختيار وأعلموه أنّه إنّما يحتال لما يبذله للخلاص وأن يتمكن من الانسلال ثم يثير الفتن التي لا تتلافى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 وفى هذه السنة قبض على أبى الفتح ابن العميد بالرىّ ذكر السبب فى ذلك ... ... [1] [477] ودخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة ذكر السبب فى المثلة بابن بقية وابن الراعي وسمل عيونهما كان بهرام رسول عضد الدولة يخاطب بختيار فى تسليم ابن بقية إليه ليحمله إلى عضد الدولة ويعوضه عنه مالا من خزانته واتصل ذلك بهؤلاء القوم أعنى القواد فحضروا عند بختيار وأقاموا فى نفسه أنّه إن سلّمه إليه صحيحا لم يؤمن أن يصطنعه ويبقى عليه فيكون قد حصل له بحضرته عدوّ من قبله وكثر المشيرون بقتله والراحة منه فتقرر الرأى على سملة وتسليمه مسمولا. فسمل ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وستّين، وجدّ أبو إسحاق ابن معزّ الدولة فى إلحاق صاحبه المعروف بابن الراعي به لشيء كان فى نفسه عليه ولم يكن له شافع لما كان ارتكبه من مكاره [478] الناس فسمل أيضا.   [1] . بياض فى الأصل ومط أقلّ من صفحة من الأصل. هذا، وتجد ذكر نكبة أبى الفتح ابن العميد فى إرشاد الأريب 5: 356- 358. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 بختيار يدخل فى طاعة عضد الدولة وترجح الرأى ببختيار بين الدخول فى طاعة عضد الدولة وبين المقام على معصيته ومحاربته وكان الرسولان مع جماعة من نصحائه يشيرون عليه بطريق السلامة ويعرّفونه عجزه عن مقاومته وقلة عدته من المال والرجال وكان جماعة أخرى من قواده وخواصه فيهم الحسن بن فيلسار يشيرون عليه بالثبات والمقارعة ثم تقرر الأمر واختار السلامة والطاعة من طريق الضرورة. فدخل فى الطاعة وحلف عليها وأعطى صفقة يمينه بها ولبس خلع عضد الدولة وعبر إلى الجانب الغربي على أن يسير إلى الشام ويثبت على أعلامه وراياته اسم عضد الدولة ويقيم الخطبة له فى أى بلد دخله ولما فعل ذلك انصرف عنه بدر بن حسنويه آيسا منه ولحق بأبيه. وبذل له عضد الدولة مالا جليلا على أن يقيم فى كنفه ويلقاه ثم يسير إلى حيث يختار فلم يفعل ذلك ولم يسكن إليه فاشترط عليه شروطا كثيرة كان فيها ألّا ينابذ أبا تغلب ولا يعرض له إلّا بقدر الاجتياز فى أعماله فقط لمراسلة كانت بينه وبين عضد الدولة ولمقامه على العهد القديم، وأطلق لبختيار مالا وقاد إليه جمالا ودوابّ معونة له على نهضته [479] ووقع النداء بمدينة السلام برجوعه إلى طاعة عضد الدولة وأنّه سلم غير محارب وخرج نحو الموصل. بختيار ينقض الشرط فأول ما نقض من شروط عضد الدولة أن اعترض على أبى تغلب ابن حمدان وعمل على لقائه ومحاربته ودفعه عن الديار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 ذكر السبب فى ذلك كان حمدان بن ناصر الدولة خرج معه وسار بمسيره فلمّا صار إلى عكبرا ذكّره أمر نفسه ووعده بأموال ابني ناصر الدولة وما جمعه فى القلاع وما خلّفه لهم ناصر الدولة وكان بالحقيقة كثيرا جدا وزعم أنّه لا يلابس مملكة هي أسهل شوكة من مملكة أبى تغلب وأنّه يتولى حربه ويثق بمصير خلق من رجاله إليه وكذلك من إخوته وأسبابه. فعاهد حمدان على أنّه يمنعه من جميع ما يمنع نفسه ذبّا وحماية وحلف له بأيمان البيعة وجرت بينهما شروط والتزماها ودخلا فيها. فلمّا صار بتكريت صار إليه علىّ بن عمرو كاتب أبى تغلب بهدايا يسيرة وأنزال من قضيم وطعام وسار معه إلى الحديثة وخلا به ودعاه إلى القبض على حمدان وتسليمه إلى أبى تغلب على أن يجتمع معه وينفق أمواله ويبذل سلاحه وآلاته وذخائره وعسكره ورجاله ويعود معه إلى بغداد ويستخلص له ملكه من يد عضد الدولة. فالتوى بختيار واضطرب وذكر أنّه لا يستجيز ذلك مع ما حصل لحمدان فى عنقه [480] من اليمين الغموس ومع ما عليه من عهد عضد الدولة فلم يزل يعاوده ويستعين عليه بوالدته وأخيه أبى إسحاق وحاجبه ابراهيم بن إسماعيل وبجماعة من استولى عليه من أسبابه. واستولى كاتب أبى تغلب هذا أعنى أبا الحسن علىّ بن عمرو على بختيار وتسمّى بالوزارة وجمع لنفسه كتابة بختيار مع كتابة أبى تغلب واستخلف عليه ابنه. واجتهد فى أمر [1] حمدان وإسلامه وذلك أنّ أبا تغلب وأخته   [1] . فى مط: إمرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 المسماة جميلة كانا طالبين عنده بثأر أخيهما أبى البركات. وأقام بختيار على الامتناع إلى أن صار أبو إسحاق إلى الموصل واجتمع مع أبى تغلب وتقرر الأمر بينهما على القبض على حمدان من حيث لا يدخل بختيار فى ذلك لئلا يحنث فى يمينه فرجع إلى الحديثة. وعسف بختيار فى المخاطبة وأعلمه أنّه متى لم يفعل ذلك قصده أبو تغلب وحاربه ولم يقاومه وأنّه إن ساعده صافاه وواخاه وأعاده إلى بغداد وأنفق أمواله وذخائره واستدعى الرجال إلى ذلك من كل وجه مع ما عنده من الاستقلال بعسكره ورجاله. فضعف بختيار فى يده على رسمه فى ضعف العزيمة ولين العريكة فقبض على حمدان وأسلم إلى خصومه وحبس فى قلعة وهرب ابنه المكنى أبا السرايا إلى عضد الدولة. وجمع أبو تغلب الرجال وفتح قلاعه واجتهد وبالغ واجتمع مع بختيار على ظهور الدواب فتحالفا وتعاهدا. فلمّا فرغا من الاستعداد انحدرا من الموصل وكانت عدّة أصناف [481] الرجال معهما خمسة وعشرين ألف رجل. وبلغ عضد الدولة أخبار الجماعة ولم يكن ممن تخفى عليه أمور أعدائه وأوليائه يوما بيوم، فبرز عن مدينة السلام فى جيوشه المنصورة وقدّم مقدّمته مع أبى القاسم سعد بن محمد الحاجب إلى تكريت. وكان أولئك أنفذوا إليها جيشا مع ابراهيم بن إسماعيل حاجب بختيار فأوقع به أبو القاسم وقتل كثيرا من رجاله وكاد ابراهيم يؤخذ أسيرا إلّا أنّه نجا إلى تكريت واستتر عند بعض أهلها ثم هرب منها ولحق بأصحابه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 وفى هذا الوقت قتل ابن بقية وصلب ببغداد ذكر الحال فى ذلك كان حمل مسمولا على ما ذكرناه إلى عضد الدولة عند نزوله بالزعفرانية فتقدّم بأن يشهر فى العسكر على جمل ثم طولب بالمال فلم يذعن بشيء منه فطرح بحضرة العسكر بباب حرب الى الفيلة وأضريت عليه فقتلته شر قتلة وصلب لوقته على شاطئ دجلة فى رأس الجسر بالجانب الشرقي وذلك فى يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستّين وثلاثمائة، ثم نقل إلى الجانب الغربي فصلب بإزاء ذلك الموضع من الشرقي وبقي فيه. وعاد الحديث إلى تمام خبر الوقعة بين بختيار ومن جمع وبين عضد الدولة بقصر الجص [482] اتصل بعضد الدولة أنّ القوم أجمعوا على أنّ يتفرقوا بعد عبور النهر المعروف بالإسحاقى ويأخذوا فى عدّة وجوه إلى بغداد فسار بجميع عساكره إلى قصر الجصّ حتى نزل فوق الغاية التي عزموا على أن يتفرقوا منها وذلك بعد أن استخلف وزيره أبا القاسم المطهر بن عبد الله فى جيش كثيف ببغداد والتقى القوم غداة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال واشتدّت الحرب وثبت القوم بعضهم لبعض وتصابر الفريقان من الديلم فحمل عضد الدولة حملة صادقة فانهزموا وتبعهم الجند يقتلون ويأسرون وقد كان بختيار عمل على الهزيمة فمنعه أصحابه وخاف من الحصول فى الأسر أو القتل، فلمّا تحققت الهزيمة ظفر به بعض الأكراد من العسكر فأخذ سلبه وهو لا يعرفه ثم عرفه غلام تركي يقال له: ارسلان كورموش، فضربه بلتّ وأراد أن يثنّى عليه فتعرّف إليه باسمه واستأسر له وقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 - «احملنى إلى حضرة ابن عمى وخذ جائزتك.» ولحقه فى الحال تركي آخر فحملاه إلى القرب واستأذناه فتوقف، وكان أبو الوفاء طاهر بن ابراهيم حاضرا فأشار بالفراغ منه فلم تطب نفس عضد الدولة به ولحقته دهشة وأراد استبقاءه فألحّ عليه أبو الوفاء وقال: - «ما تنتظر به أن يعود ثالثا وإلى متى يثير علينا هذه الفتن التي لعلنا نكون من صرعاه فى بعضها [483] افرغ منه!» وعلا صوته وأظهر من النصيحة فى هذه الباب والمراجعة الشديدة ما لو قصّر فيه لجاز. فرفع عضد الدولة [يده] إلى عينه يمسحها من الدموع وقال: - «أنتم أعلم.» وكان هناك أبو القاسم سعد الحاجب حاضرا فبادر إليه مع صاحب له واحتزّ رأسه وكان قد جهده العطش حتى كاد يأتى عليه الموت لو ترك لحظة. وقتل فى هذه الوقعة خلق كثير من القواد والأمراء ومن واساه [1] بنفسه وفيهم ابراهيم بن إسماعيل صاحبه وحاجبه وأسر خلق كثير سوى من قتل. ولحقت أبا تغلب ضربة فى منهزمه ولم يكن باشر الحرب بل طلب تلعة بالقرب فوقف عليها وكان دبّر عسكره بأن يقفوا كراديس. فكلما حمل منها كردوس وأبلى وتعب، عاد وحمل كردوس آخر، وغرّه كثرة القوم وكان بختيار عبّى خيله تعبئة الديلم ليلقى بنفسه ويباشر الحرب وتلحقه المعونة من كل وجه فجرى الأمر على ما ذكرت.   [1] . فى مط: ساواه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 أمر عجيب ومن عجيب ما جرى قبل ذلك أنّ أحد الأمراء من عسكر بختيار يعرف بالحسن بن فيلسار أشار عليه وهو ببغداد ألّا يخرج عنها ولا يسلمها إلّا بحرب وإبلاء كثير، فأبى عليه بختيار فاعتزله وشخص الى جسر النهروان مع طائفة كانوا يرون رأيه. فلمّا اجتمعوا هناك عقدوا له الرئاسة على أنفسهم وحدّث نفسه بالمسير إلى جهة شعبانا [484] أو طرف من الأطراف. فبلغ عضد الدولة خبره فلما بلغ إلى القرب من بغداد جرّد خلفه خيلا فلحقوه ووقف للحرب فانجلت عنه أسيرا وبه ضربات فلبث يسيرا ومات وأسر كثير من أصحابه وانفضّ ذلك الجمع. عضد الدولة يتمّم المسير إلى الموصل فأمّا عضد الدولة فإنّه لمّا فرغ من وقعة قصر الجص تمم المسير إلى الموصل فملكها وسائر ما يتصل بها من الأعمال والديار وظن أبو تغلب أنّه يلبث فيها يسيرا ثم يضطر إلى العود إلى بغداد على سيرة من كان قبله. وذلك أنّ رسم الحمدانية إذا ضعفوا عن مقاومة من يقصدهم أن ينقلوا الغلّات والميرة وسائر الأموال والذخائر إلى قلاعهم، وينقلون الكتّاب والدواوين أيضا إليها ويخرجون فى أصحابهم إلى حول الموصل متفرقين فى أعمالها فإذا حصل بالموصل عدوّهم المتغلب عليهم لم يجد بها شيئا غير ما عند الرعية فيضطرون إلى العلوفات والمير ويخرج من يخرج فى طلبهم وينقضّون عليهم من أمكنة غريبة وطرق لا يعرفها الغرباء من العساكر فيأخذون بغالهم وجمالهم ويقتلون ويأسرون من يمانعهم، فإذا صبروا على ذلك أياما يسيرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 وجهدوا ولم يجدوا حيلة ولا معينا من كاتب بلدىّ [1] ولا غيره طلبوا الصلح وقاربوهم للضرورة التي ذكرتها وانصرفوا عنه فيعودون إلى ممالكهم. ولم يكن عضد الدولة ممن يسلك هذه السبيل بل احتاط ونقل من الميرة والعلوفة والأزواد ما تمكن منه وحمل من رجال الموصل وكتّابها الموجودين [485] ببغداد وبتكريت وسائر الأطراف من يرشد ويخدم وكذلك كتاب بغداد كان فيهم من أقام بالموصل وعرف وجوه الأعمال فصبر وأقام إلى أن صار أبو تغلب إلى الشام بعد نوائب نابته وقتل هناك كما سنشرح أمره إن شاء الله. خروج الطائع لله مع عضد الدولة لمشاهدة الحرب وفى هذه السنة خرج الطائع لله مع عضد الدولة لمشاهدة الحرب بينه وبين أولئك الذين قدّمنا ذكرهم أعنى بختيار وأبا تغلب وكان بروز عضد الدولة إلى معسكره بباب حرب من أعلى الجانب الغربي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شوال سنة سبع وستّين، وبرز الطائع لله يوم الخميس لخمس خلون منه. فلمّا انهزم بختيار وأبو تغلب من الوقعة بحضرة قصر الجص عاد الطائع لله إلى منزله ببغداد وسار عضد الدولة كما ذكرنا فيما قبل إلى الموصل. فنزل بظاهرها يوم الأربعاء العاشر من ذى القعدة ودخل الدار يوم الجمعة الثاني عشر. أبو تغلب يلتمس الصلح وترددت الرسل من أبى تغلب إلى عضد الدولة فى التماس الصلح وحمل   [1] . كذا فى مط أيضا: من كاتب بلدىّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 مال فامتنع عضد الدولة وقال: - «إنّا إذا ملكنا ناحية بالسيف وبعد الحرب والمقارعة لم نصالح عليها.» وتشدد فى ذلك حتى صرح لرسله بأنّ الموصل وديار ربيعة أحبّ إليه من العراق وأنّه ليس يبيعها أبدا. وكانت الموصل وأكثر أعمالها ملكا لأبى محمد ناصر الدولة وكان رسمه أن يضايق أصحاب المعاملات من التّناء وأصحاب العقار من أهل البلد ويخاشنهم ويتأول عليهم حتى يلجئهم إلى البيع ويشترى [486] أملاكهم بأوكس الأثمان وطالت حياته وامتدت أيامه حتى استولى على الناحية ملكا وملكا. فلما صار جميع ذلك فى قبض عضد الدولة لم يفرج عنها وطلب أبو تغلب وأسريت إليه السرايا فلم يمكنه المطاولة ولا أن يسير بسيرته التي حكيناها فيما تقدم، فسار إلى نصيبين وسيّر عضد الدولة خلفه أبا الوفاء طاهر بن محمد على طريق سنجار. كان فى جملة من انهزم معه المرزبان بن بختيار ووالدة بختيار وابناها أخوا بختيار ومن أفلت من وقعة قصر الجصّ. فلمّا لحقهم أبو الوفاء نهضوا منهزمين إلى ميافارقين ثم افترقوا. فأمّا والدة بختيار وأخواه وابنه ومن نهض معهم من أسبابهم وبقية الديلم والأتراك المرسومين بهم فإنّهم ساروا إلى دمشق لائذين بألفتكين المعزى [1] وهو الذي حارب عضد الدولة بديالى وانهزم من بين يديه. فلمّا بلغه مسير أولاد مولاه وحرمه وأسبابه إليه تلقّاهم وقضى حقوقهم، وظنّ أنّه يتكثر بهم ويزيد فى عدته بمكانهم ويتقوى بهم، فجرى الأمر بالضد وذاك أنّه لما انهزم   [1] . فى الأصل ومط: المغربىّ، بدل «المعزّى» ، والتصحيح من مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 من العراق إلى دمشق وتغلّب عليها تماسك فيها نحو أربع سنين ودفع جيش المغرب عنها وثبت لعساكر صاحب مصر التي جهّزها إليه واستولى استيلاء قويا وهابه العرب وطار اسمه هناك. فلمّا صار إليه هؤلاء المنهزمون قصدته عساكر مصر على الرسم متضاعفة على العدة التي تقدمت، فسار إليها إلى الرملة ومعه الجماعة للحرب [487] والمقارعة فحين توافت الفرقتان استأمن المرزبان بن بختيار فظهرت المغاربة على ألفتكين وكثروه بعددهم فانهزم وقتل أبو طاهر ابن معزّ الدولة واستأمن أبو إسحاق بن معزّ الدولة فى آخر الأمر. ووقع الطلب على ألفتكين فلحقه المفرج بن دغفل [1] بن الجرّاح الطائي وجاء به أسيرا. وكان صاحب مصر عرف منه ومن الأتراك الذين معه على طول الممارسة بأسا وشدّة فأبقى عليهم وعليه وأحسن إليه وإليهم واتخذهم عدّة وصاحبه ثم اشترى منه ولاءه وصار كالعبد له وحصل أصحابه محصل الجند وأحسن إليهم [2] . وأمّا أبو تغلب فإنّه أقام بميّافارقين ومعه أخته جميلة وكانت وحدها شريكة له فى الأمر والنهى وسائر أخواته الباقيات وحرمه وعياله معه. فلمّا بلغه مسير أبى الوفاء إليه قدّم الحرم والعيال والأموال والسواد إلى حصن بدليس [3] وتوجه بنفسه لاحقا بأسبابه ووصل أبو الوفاء إلى ميّافارقين وهي مغلقة دونه ولها سور وثيق من حجارة سود لا يعمل فيها الحديد وهي من حصون الروم وأبنيتهم القديمة فطواها أبو الوفاء طالبا أبا تغلب وانتهى أبو تغلب إلى أرزن ونزل على نهر يعرف بخويبور ثم عدل من هناك إلى ناحية   [1] . فى مط: دعقيل. [2] . ليراجع تاريخ ابن القلانسي ص 18 21. (مد) [3] . كذا فى الأصل ومط وهو المثبت فى مد. وبدليس بلدة من نواحي ارمينية (مراصد الإطلاع) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 الحسنية ووصل الى قلاعه واستنزل منها مالا على سبيل المخالسة، فعاد الشيخ أبو الوفاء الى ميافارقين لمنازلتها وافتتاحها. واتصل بعضد الدولة مخالفة [488] أبى تغلب إلى قلاعه وأخذه ما أخذ منها فنهض من الموصل بنفسه وهرب أبو تغلب من بين يديه وفارقه جمهور عسكره وأعيان رجاله مستأمنين إلى عضد الدولة منهم بختكين آزاذرويه وبقايا الغلمان المعزيّة والغلمان السيفية فعاد إلى الموصل وقد ترك أبا تغلب مسلوب القوة والعدّة. وسلك أبو تغلب فى هزيمته هذه طريق الجزيرة فجرّد عضد الدولة فى أثره أبا حرب طغان الحاجب وأمره باتباعه ومناجزته فتنكب أبو تغلب الطريق وتعسف الرجوع إلى بدليس [1] وظنّ أنّه لا يتتبّع فكوتب طغان باتباعه وجرّد أبو سعد بهرام بن أردشير فى عسكر مددا له فسار خلفه فهرب من بدليس ودخل بلاد الروم قاصدا ملك الروم المعروف بورد الرومي [2] وهذا رجل تملّك على الروم ثم اختلف الجيش عليه بقسطنطينية ونصبوا أخوين من أولاد ملوكهم وافترقت كلمة الروم وطالت الحرب والمنازعات بين الفريقين وكان ورد هذا قد صاهر أبا تغلب وواصله واعتضد به على خصومه فانعكست الحال بأن صار أبو تغلب هو اللاجئ إليه. واتفق لأبى تغلب أن كان مسيره فى مضايق بين جبال ولحقه عسكر عضد الدولة هناك.   [1] . بدليس: كذا فى الأصل ومد. وفى مط: تدليس. [2] . هو المعروف بالسقلاروس والملكان هما باسيل وقسطنطين ابنا رومانوس وأمهما هي ثلوفانو. (مد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 ذكر غلط اتّفق بجناية جناها أبو سعد بهرام على العسكر حتى كسر وهزم بعد التمكن من أسر أبى تغلب والظفر به وبمن معه [489] كان عسكر عضد الدولة على نهاية الحرص على الظفر بسواد أبى تغلب واشتدّ طمعهم فيه لعلمهم بما معه من المال الصامت [1] الذي أخرجه من القلعة وأنّه لم يترك ذخيرة هناك من جوهر نفيس أو درّ ثمين أو متاع أو عين يخفّ محمله إلّا وهو معه ورأوا الصناديق بعينها التي وصفت لهم أنّها محمولة من القلعة. فحمل الأتراك وفرسان العسكر ومن يوثق بفرسه وسلاحه متسرعين إلى غنيمة تلك الأموال فناداهم أبو سعد بهرام: - «يا فتيان العسكر احفظوا تلك الصناديق فإنّها لمولانا.» وكرر ذلك وتابعه فانكسر القوم ففتروا فى الطلب ونظر إليهم أعداؤهم منخزلين وهم لا يعرفون السبب. فحمل عليهم أبو تغلب فى عسكره فانهزموا ووقع بعضهم على بعض فقتل منهم خلق كثير. وضرب طغان ضربات تعطّل منها كثير من أعضائه وأفلت مع أبى سعد وقد أشرفوا على الهلاك بعد أن أشرفوا على الغنيمة والظفر. وذلك عند دخول سنة ثمان وستين وثلاثمائة ثم إنّ أبا تغلب بعد كسره طغان وأبا سعد أمن وصار إلى حصن زياد وأقام. وكانت جيوش قسطنطينية قد سارت إلى ورد فشغل عنه بنفسه وأنفذ إليه ميرة كثيرة وأشار عليه بأن يلحق به ليجتمعا على حرب خصومه فإذا انهزموا واستظهر عليهم عاد فنصره.   [1] . أى كان هناك أموال تنطق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 ولم تسكن نفس أبى تغلب إلى أن يلقاه [1] فأنفذ [490] إليه طائفة من عسكره على سبيل النجدة والمعونة وأقام بحصن زياد ينتظر. فالتقى الجيشان من الروم وانهزم ورد واتصل ذلك بأبى تغلب فيئس منه وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد شهرين إلى أن فتحت ميافارقين. شرح الحال فى ميّافارقين وفتحها قد كنّا ذكرنا تجاوز أبى الوفاء ميافارقين طالبا لأبى تغلب فلما هرب إلى بلاد الروم وتفرّد أبو حرب طغان الحاجب بطلبه والمسير فى أثره عاد إليها فبرز إليه هزار مرد على أن يواقعه فلم تكن له به طاقة [2] فعاد إلى التحصن فى المدينة. فاقتضى الرأى عند أبى الوفاء أن كرّ إلى أرزن فحاصرها ثلاثة أيام وضعف من فيها عن المقاومة ففتحوها له ودخلوا فى أمانه وطاعته ولم يزل بسائر الحصون المقاربة لها حتى استغرقها وانكفأ حينئذ إلى ميافارقين وناصبه من فيها الحرب ثلاثة أشهر وكسرا وهجم البرد عليه وسقطت الثلوج فاحتمله وصبر. ونصب عليه وعلى عسكره من داخل السور منجنيقات فثبت لها وقابلها بمنجنيقات مثلها ورماهم بالنار والحجارة وهو فى خلال ذلك يفتح الحصون المقاربة لها ويستأمن أهلها ومن فيها من غلمان أبى تغلب المرتبين حتى قضى الله وفاة هزارمرد فكوتب أبو تغلب بذلك فكتب بأن ينصب مكانه غلام من الحمدانية كان مضموما إليه يقال له مونس. وكان بالبلد قاض جاهل متهور ليس [491] فيه من أدوات القضاء شيء يقال له: أبو الحسين المبارك بن ميمون، ويعرف بابن أبى إدريس. فاستولى   [1] . كذا فى الأصل ومط: يلقاه. والمثبت فى مد: تلقاه. [2] . فى مط: طاعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 على تدبير أمر مونس هذا وجمع كلمة أهل البلد ومن كان فيه من المطوّعة وحملة السلاح على الثبات والمدافعة. فكاتبه أبو الوفاء ودعاه إلى الطاعة وبذل له الرغائب فأبى إلّا العناد. وكان يصعد إلى برج من أبراج السور فينادى العسكر ويسمى القواد [1] وصاحب العسكر ومن يلي أمرهم ويشتمهم ويبالغ فى ذكرهم بالقبيح ويتجاوز ذلك إلى مالا يحسن ذكره فعدل أبو الوفاء عنه إلى مكاتبة شيخ من ميّافارقين كان وجهها [2] ومطاعا فيها يقال له: أبو الحسين أحمد بن عبيد الله. ذكر الحيلة التي تمّت لأبى الوفاء فى فتح ميّافارقين وجد أبو الوفاء لأبي الحسين أحمد بن عبيد الله خارج البلد غلاما كان مقيما فى ضيعة له فراسله به ورفق بالغلام ووصله ثم جعله وليجة إلى صاحبه ولم يزل به حتى استجاب للطاعة فأخذ العهد والميثاق على أهل البلد سرّا، فنمى خبره إلى القاضي الذي ذكرناه فسعى فى الفتك به وكاد يتم له ذلك لولا أنّ أهل البلد حاموا عليه ومنعوا منه ولم يزل أمره يقوى وأهل البلد يجتمعون إليه وقد ملّوا الحصار والضيق حتى استظهر بهم. فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من جمادى الأولى سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ثاروا مشغبين [492] على أصحاب أبى تغلب فالتجأ مونس ومن معه إلى منازلهم وقبض أحمد بن عبيد الله على القاضي ابن أبى إدريس وعلى جميع من كان فى حصن ميّافارقين من أصحاب بختيار وحاشيته وفيهم غلام أهوج معروف بالتهور والجهل كان قد داخل بختيار على طريق   [1] . فى مط: القود. [2] . كذا فى الأصل: وجهها. وفى مط: وجها. والمثبت فى مد: وجيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 المنادمة التي تليق بمثله يعرف بابن الطبري، فساعد القاضي على سيرته وجهله فى ذكر الملوك وبسط اللسان فيهم ووجّه إلى مونس الحمداني يلتمس مفاتيح الباب منه ويتهدده متى أخرها وساعدته الجماعة على ذلك فأنفذها والتمس الأمان. فكتب أحمد بن عبيد الله إلى أبى الوفاء يعرفه ما عمله ويلتمس الأمان لمونس ومن معه من الحمدانية فآمنه واستثنى بهذا القاضي وبالمعروف بابن الطبري وأنفذ أبا الفتح المظفر بن محمد الحاجب فى قطعة من الجيش فدخل إلى البلد وملكه وأحسن أبو الوفاء إلى أهله وفرّق فيهم أموالا وتصدق على ضعفائهم بأمر عضد الدولة إياه. وحمل إلى حضرته القاضي وابن الطبري فأمر بضرب رقابهما، وقلبهما وصلبهما من السور على البرج الذي كان يظهر منه ويسيء أدبه فيه [1] . فتح آمد كان أبو الوفاء أنفذ إليها فى أول الأمر أبا على التميمي الحاجب لافتتاحها فتعذرت [2] عليه لحصانتها ووثاقة سورها الذي هو أشد من سور ميّافارقين، فرجع عنها ثم عاد إليها أبو تغلب من بلاد الروم على ما [493] ذكرنا وظنّ أنّه يقيم فيها ويمتنع بها. فلمّا فتحت ميّافارقين علم أنّ الجيش سائر إليه وأنّه لا يثبت مع الحصار ومع ما استمر عليه من الجوائح فأنفذ أخواته سوى جميلة مستأمنات إلى أبى الوفاء وتبيّن أصحابه ضعفه فالتاثوا عليه فهرب إلى الرحبة ومعه أخته جميلة ومن يمسه أمره من حرمه.   [1] . فى مط: فيهم. [2] . فى مط: فيغرب، بدل «فتعذرت» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 وقعد عنه المعروف بأنجوتكين وهو من نجباء الأتراك المعروفين بالشدة والثبات فى المعارك وله قوة على حمل لتّ له ثقيل يعجز عنه غيره وإذا حمل به لم يثبت له أحد وقعد معه جماعة من الأتراك وقصدوا حضرة عضد الدولة مستأمنين إليه. ثم تتابع الناس الذين كانوا مع أبى تغلب من الغلمان والجند والكتاب والولاة والأتباع. وسلك حينئذ أهل آمد بعد انصراف أبى تغلب عنها سبيل أهل ميافارقين ففتحوها سلما وطوعا. واشتمل أبو الوفاء على ديار بكر بأسرها وعاد إلى الموصل ومعه الأسارى بعد أن رتّب فى الحصون من يحفظها من ثقات عضد الدولة ورتّب فى البلدان عمال الخراج والمعاون. ذكر ما عمله أبو تغلب بعد مسيره من آمد لما انصرف من آمد وقصد الرحبة أنفذ من طريقه أبا عبد الله الحسين ابن ناصر الدولة وسلامة البرقعيدى وهو من كبار الحمدانية إلى عضد الدولة برسالة تتضمن الاستعطاف ويسأله الصلح والاصطناع ووصل إلى الرحبة [494] وأقام بها على انتظار الجواب. فورد أبو عبد الله وسلامة البرقعيدى الموصل وأدّى أبو عبد الله ما تحمله فتلقاه عضد الدولة بالجميل وقبل منه تنصّله وبذل له إقطاعا وفضلا على أن يطأ بساطه ويدخل فى ذمامه. وتبيّن أبو عبد الله حزم عضد الدولة وذاك أنّه مع إحسانه إليه وتوسعته عليه منع [الناس] [1] من الوصول إليه فلم يشاهد بعينه إلّا الموكلين به فقط وعرف من أخيه أنّه لا يستجيب لما دعاه إليه عضد الدولة فأخذ بالحزم لنفسه وتعلق بعصمة باطنة اختص بها واعتقد أن   [1] . ما بين المعقوفتين هو من مط. فى الأصل: منع أحدا. وهو المثبت فى مد أيضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 يفارق أخاه ويعود إلى حضرة عضد الدولة فمضى إليه فأعاد الجواب عليه. فكان الأمر على ما ظنّه من مخالفته أخيه لمرسوم عضد الدولة فتوجه إلى الشام لاجئا إلى صاحب المغرب وسار معه أخوه الحسين إلى بعض الطريق ثم فارقه قبيل تدمر على غير استئذان فأنفذ خلفه من يتتبعه فشعّث [1] سواده ولم يلحقه فى نفسه فنجا وحصل بحضرة عضد الدولة على حال جليلة. فتح ديار مضر كان الوالي عليها سلامة البرقعيدى فأنفذ إليه سعد الدولة وهو ابن سيف الدولة جيشا لينزله عنها فجرت بين الفريقين حرب. وكان سعد الدولة هذا قد كاتب عضد الدولة وعرض نفسه [495] وتعلّق منه بعصمة، فأنفذ عضد الدولة أبا أحمد الموسوي النقيب إليها فسلّمها بعد حرب ودخل أهلها فى الطاعة. ولما استولى عليها سلطان عضد الدولة استصفى منها الرقّة وأعمالها خاصة وفوّض باقيها إلى سعد الدولة وجرت مجرى سائر ما فى يده من أطراف الشام. فتح الرحبة ثم فتح الرحبة فتفرّغ لفتح قلاع أبى تغلب. وهذه القلاع هي فى جانب دجلة الشرقي وهي عدّة كثيرة: فمنها أردمشت، ومنها الشعبانى وقلعة أهرور [2] وقلعة مليصى [3] وقلعة   [1] . كذا فى الأصل: فشعّث. وهو المثبت فى مد. وفى مط: يلحق، بدل «سواده» ! [2] . فى مط: أهرون. [3] . فى مط: بلنصى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 برقى. وكانت أردمشت خاصة مملوءة بالأمتعة الفاخرة من أصناف الثياب والفرش والجواهر والصياغات والحلي وسائر أصناف العدد. وكان أبو تغلب رتب فيها رجلا من الأكراد بينه وبينه قربى من جهة والدته فاطمة بنت أحمد الكردية يعرف بابن بادويه وضمّ إليه مملوكا له كان من غلمان أبيه يثق به يقال له طاشتم، فأنفذ إليه عضد الدولة أبا العلاء عبيد الله بن الفضل بن نصر النصراني لمنازلة القلعة والاحتيال فى فتحها. وأنفذ أبو القاسم سعد بن محمد الحاجب إلى الشعبانى وأنفذ صاحبا لأبي نصر خرشيد يزديار الخازن إلى أهرور، فعرف أبو العلاء حال أقارب لأبن بادويه الكردي خارج القلعة فدعاهم إلى خدمة عضد الدولة [496] ورغّبهم فيها وعرّفهم اضمحلال أمر أبى تغلب ووقوع اليأس منه. وكاتبهم عضد الدولة بمشورة أبى العلاء فرغبوا فى الخدمة وصاروا على ثقة مما وعدوا به ثم حملوا على مكاتبة صاحب القلعة وأشاروا عليه بالقبض على طاشتم وتسليم القلعة وذلك أنّ طاشتم كان شديد الطمع فى عود صاحبه ويحب أن تظهر أمانته عنده ففعل ابن بادويه ذلك وبذل للحراس وسائر من يحفظ القلعة البذل الكثير وحكّموا فتم القبض على طاشتم والتقييد وحصلت القلعة بما فيها [1] وظهرت نجابة أبى العلاء واجتهاده وحسن تلطفه وكان قيمة ما فى القلعة على ما حررناه- وكنت [2] فيمن أخرج إليها لنقل ما فيها مما يصلح للخزانة- ومع ما يباع وتبقية ما يبقى فى القلعة نحو عشرين ألف ألف درهم. قال صاحب هذا الكتاب.   [1] . وفى طاشتم هذا ليراجع ما فى كتاب الفرج بعد الشدة 1: 136 (مد) . [2] . فى مط: كتب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 كان عضد الدولة أمرنى أن أصير مع خواشاذه [1] الى هذه القلعة وأحضر إحصاء ما فيها ثم أتسلّم طاشتم مقيدا وأحمله على بغل بإكاف مجردا لا وطاء عليه ومعه أصحابه الذين قيدوه وسلّموا القلعة بالخلع والدواب والمراكب التي حملوا عليها وبين أيديهم البدر والثياب التي حبوا بها ثم أطوف به تحت القلاع الممتنعة التي لم تفتح بعد لينظر من فيها إلى حال طاشتم فيحذروا مثلها ويروا أحوال الباقين فيطمعوا فى مثلها [497] ففعلت ذلك وتحملت رسائل إلى أصحاب تلك القلاع. وجرت أحوال يطول شرحها إلّا أنّ جملتها أنّ القوم لما نظروا إلى هيئة طاشتم وأصحابه دخلهم الرعب من جانب وتجددت لهم الرغبة من جانب، وكانوا قبل ذلك لا يصدقون الرسل بأنّ هذه القلعة التي كان فيها طاشتم فتحت. فلمّا رأوه عيانا وخاطبوه عرفوا وهاء أمر أبى تغلب وقوة عضد الدولة وسلّموا القلاع بعد مدة. ورأيت أنا من طاشتم هذا فى طريقي حصافة وإقبالا على الصلوات ودعاء كثيرا وقد كان أومن على روحه فقط فسألنى فى الطريق المعونة وحسن المحضر عند عضد الدولة. فلما عدنا [2] إلى الموصل وفرغنا من استقراء القلاع على ما وصفت نبت عن طاشتم هذا بحضرة عضد الدولة [3] وعرّفته سداده وأنّه يصلح لخدمته فقال: - «هو كما تقول ولكن السياسة لا توجب اصطناعه.»   [1] . وفى خواشاذه هذا قال ياقوت فى معجم البلدان (2: 255) قرأت فى كتاب بغداد تصنيف هلال بن المحسن الصابي: حدثني خواشاذه خازن عضد الدولة قال: طفت دار الخلافة (يعنى بغداد) عامرها وخرابها وحريمها وما يجاورها ويتاخمها فكان مثل شيراز. (مد) [2] . فى مط: عمدنا، بدل «عدنا» . [3] . من هنا سقط من مط عدة صفحات أى إلى قوله: ولحقته نكسة فى طريقه فمات (على الصفحة [501] من الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 فقلت: «وكيف؟» قال: «لأنّه مانعنا ثم تقرب به إلينا غيره، فإن وقع إحسان إليه سوّينا بينه وبين من خدمنا بالقبض عليه فخبثت نيّات من يخدمنا فى أعدائنا وظنّوا أنّا لا نميّز فى الإحسان بين الولىّ والعدوّ وبين المجيب والممتنع، ومع ذلك فإنّ بين أيدينا قلاعا ما فتحت بعد وإن بلغ أصحابها الممتنعين فيها إحساننا إلى هذا زالت الرهبة عن قلوبهم وطمعوا فى مثل عاقبة هذا بعد حصولهم [498] فى أيدينا إن حصلوا وسلامتهم فى مواضعهم إن سلموا.» ثم قال: - «ولأنّ لى فيه رأيا وهو أن أنفذه إلى صاحبه أبى تغلب فإنّه سيموّه على صاحب مصر [1] به وبقلعته ويدّعى أنّها فى يده وفيها ذخائره وثقاته وأنّ ماله فى هذه القلاع يفي بمؤونته إن أمدّ بالرجال ولا تزال مخاريقه مشتبهة وجائزة هناك إلى أن يطلع عليه هذا وتتقدمه الأخبار بما جرى عليه فحينئذ تبطل تمويهاته وتظهر فاقته وأنّه طريد سيوفنا وإنّما أفلت بحشاشته وليس وراءه عدّة ولا ذخيرة ولا قلعة.» فلمّا سمعت هذا الجواب علمت أنّه صواب فى سياسة الوقت وأنّ معارضته فيه خطأ فأمسكت. وبلغ طاشتم ما عزم عليه من تسييره إلى صاحبه مقيدا بحالته تلك فقلق جدّا وراسلني يسئلنى المصير إلى محبسه فصرت إليه تذمما فوجدته كثير البكاء لا يستقرّ على الأرض قلقا فقلت: - «ما شأنك؟» فقال: «إنّ الملك كان آمنني على نفسي وأراه الآن قد بذلنى لمن لا يبقى   [1] . مصر: كذا فى الأصل، وهو المثبت فى مد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 علىّ.» وأطال هذا المعنى وسألنى معاودة عضد الدولة ومخاطبته فى الأمان الذي معه فحملت نفسي على معاودته فلم يرجع عن رأيه الأول وقال: - «إنّما آمنته على نفسه منى وألّا أصيبه بمكروه وأنا له على ذلك ولست أضمن ألّا يصيبه صاحبه بمكروه.» وتبرّأ مما يجرى عليه من صاحبه وتقدم [499] بالإسراع به. فلمّا بلغ أبا تغلب خبره من موضع يقرب منه تلقّاه بمن قتله. والله أعلم بصحة ذلك إلّا أنّ موته شاع بعد زمان قليل. ذكر ما دبّره عضد الدولة من أمر هذه الممالك وعوده إلى بغداد خلف أبا الوفاء بالموصل لتهذيب المعاملات وترتيب العمال فى الأعمال وتقنين القوانين وتدوين الدواوين وعاد إلى مدينة السلام يوم السبت انسلاخ ذى القعدة سنة ثمان وستّين وثلاثمائة. وخرج الطائع لله فى تلقّيه مع جماعة الجيش والمقيمين وسائر الخواصّ والعوامّ ودخل يوم الأحد لليلة خلت من ذى الحجة واجتاز فى الجانب الغربي على تعبئة من الجيش وبعد أن ضربت له القباب متصلة منتظمة بين عسكره من باب حرب وبين الموضع الذي ينزله من آخر البلد وهو البستان المعروف بالنجمى وعبر فى يوم الاثنين له إلى داره فاستقرّ فيها. ما أكرم به عضد الدولة من جهة الطائع لله خرج أمر الطائع لله إلى خلفائه على الصلاة فى جوامع مدينة السلام بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 يقيموا لعضد الدولة الدعوة تالية لإقامتها له على منابرها ونفذت به الكتب إليهم ورسم أن يضرب على بابه بالدبادب فى أوقات الصلوات. وهذان الأمران من الأمور التي بلغها عضد الدولة واختصّ بها دون من مضى من الملوك على [500] قديم الأيام وحديثها. [1] ودخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة ومن مآثر عضد الدولة وفى هذه السنة ورد الحضرة أخ لسقلاروس الرومي المعروف بورد وقد ذكرنا خبر هزيمته عن جيوش قسطنطينية. وكان صار إلى ديار بكر وأنفذ أخاه هذا إلى عضد الدولة مستنصرا ومستنجدا وباذلا من نفسه الطاعة والمعاهدة ولما كان الملكان الأخوان اللذان بقسطنطينية عرفا ما فعله أنفذا رسولا وجيها إلى عضد الدولة لنقض ما شرع فيه ورد، واجتمع هذان الرسولان على بساطه خاضعين يتنافسان فيه ويتزايدان فى التقرب إليه ويستبقان إلى التماس الذمام منه ولم ينصرفا إلى أن انسلخت سنة تسع وذلك ما لم يكن مثله قطّ وهو من مآثر عضد الدولة. موت عمران بن شاهين وفيها توفى عمران بن شاهين صاحب البطيحة فجأة يوم الخميس لثلث عشرة ليلة بقيت من المحرم وكان ركب فى غداة هذا اليوم للتنزه على عادة كانت له فلما عاد إلى داره تشكّى دون ساعة وفاظت [2] نفسه بعد أن نصبت   [1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: وقد كان معز الدولة أحب أن يضرب له الدبادب بمدينة السلام وسأل المطيع لله ذلك فلم يأذن له قلت: وما ذاك إلّا لضعف أمر الخلافة. (مد) [2] . كذا فى الأصل ومط، وهو لغة فى فاضت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 له الأرصاد أربعين سنة وأنفقت على حروبه الحرائب وبعد أن أذلّ الجبابرة وأرباب الدول وطواهم أولا أولا وقدّمهم أمامه على غصص يتجرعونها وذحول يتحملونها وهو ممنوع الحريم محصّن الساحة محمى من غوائلهم ومكايدهم، فلمّا أطرقه [501] الله لم يكن له مستقدم ولا مستأخر. عضد الدولة يجرّد جيشا لطلب بنى شيبان وفيها جرّد عضد الدولة جيشا مع صاحبه وثقته أبى القاسم على بن جعفر الواذارى وضم إليه أبا العلاء النصراني لطلب بنى شيبان. ذكر السبب فى ذلك كانت هذه القبيلة أعنى بنى شيبان مستعصين قد تعوّدوا النهب والغارة والتلصص وأعيت الحيلة فى طلبهم. وذاك أنّ لهم خيولا جيادا يعوّلون عليها فى الهرب إذا طلبوا فكانت سراياهم تبلغ فى الليلة الواحدة ثلاثين فرسخا وربما زادوا على ذلك فيمسون بموضع ويصبحون على هذه المسافة البعيدة وكذلك يصبحون فى مكان ويمسون منه على مثل ذلك، ولا يصح للسلطان خبرهم ولا يتأتى له طلبهم. وكان لهم رئيس يعرف ... [1] وكانوا مع ذلك قد عقدوا بينهم وبين أكراد شهرزور المتغلبين عليها مصاهرات وأذمّة. وشهرزور هذه لم تزل ممتنعة على السلطان لا يذعن أهلها لحصانة المدينة ولأنّهم فى أنفسهم عتاة ذوو بأس وجلد. فأراد عضد الدولة أن يبدأ بشهرزور ليقطع بين أعراب بنى شيبان   [1] . بياض بالأصل وليس موجودا فى مط ما يملؤه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 وأكرادها. فاتفق شخوص أبى القاسم الواذارى وهو عقيب علّة طالت عليه ولحقته نكسة فى طريقه فمات. [1] وورد خبره على عضد الدولة وكاتب أبا العلاء وأقامه مقامه وأمره باستكمال الخدمة فيما توجّه له [2] . ففعل ووفى وظهرت نجابته المعروفة منه ونهض نهوضا كفى المهم به وشفى الصدور. ولما وصل إلى شهرزور وعسكر على [502] ظاهرها فتحت له فدخلها فى عدة يسيرة على موادعة لأهلها وقبول الطاعة منهم ولم يكن القصد الأول إليهم ولا المراد بلدهم. فهرب بنو شيبان فى البرّ مصعدين إلى نواحي الزوابي على رسمهم فى الإجفال إذا طلبوا. ذكر ما دبّره أبو العلاء من أمرهم حتى ظفر بهم سار أبو العلاء إلى دقوقا وأقام بها أربعة أشهر وكسرا يعمل ضروبا من الحيل والمكايد والمكاتبات المتصلة بضروب من الاستمالة والرفق والإطماع حتى سكنوا إليه وأنسوا به ولم يعجل مع ذلك حتى قربوا بأحيائهم منه فأسرى حينئذ إليهم وأوقع بهم وقعة عظيمة أتت على نفوسهم وأموالهم وذراريّهم وأعزتهم وغنم غنيمة عظيمة وقتل من مقاتلتهم خلقا كثيرا وانصرف بمائتي رأس من رؤوس القتلى وثمانمائة رجل من الأسرى فيهم جماعة من وجوههم ورؤسائهم. فدخل بغداد يوم الخميس لثمان خلون من رجب وشهر هؤلاء الأسارى على الجمال بالبرانس الطوال والثياب الملونة لأربع عشرة ليلة خلت منه وأودعوا الحبوس والمطابق وتفرق أولئك الذين نجوا منهم فى الأطراف   [1] . نهاية ما سقط من مط. [2] . كذا فى الأصل ومط مع شيء من الغموض فى الأصل، ولذلك أثبت فى مد: توخّاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 البعيدة وطفئت جمرتهم وزالت عن أعمال بغداد والسواد مضرّتهم. القبض على نقيب الطالبيين وفيها قبض على أبى أحمد الموسوي نقيب الطالبيين وعلى أخيه أبى عبد الله وعلى قاضى القضاة أبى محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، وأنفدوا إلى فارس وقلّد قضاء القضاة أبو سعد بشر بن الحسين وهو شيخ كبير مقيم بفارس واستخلف له ببغداد أربع خلفاء على أرباع بغداد وهم: أبو بكر محمد بن عبد الله [503] المعروف بابن صبر [1] وكان خليفته على الجانب الشرقي من حد المخرّم وإلى الطرف الأعلى منه، وأبو الحسين عبد العزيز بن أحمد الخرزي وصيّر خليفته على ما بقي من الجانب الشرقي من حدّ المخرّم وإلى الطرف الأسفل، وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الأكفانى خليفته على مدينة أبى جعفر المنصور وما يتصل بها من الجانب الغربي إلى طرفه الأعلى، وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد العماني خليفته على المدينة التي تعرف بالشرقية وهي على غربي دجلة الى طرفه الأسفل، وقسمت نواحي السواد على هذه الحصص بينهم. وفى هذه السنة ورد الخبر بقتل أبى تغلب فضل الله بن ناصر الدولة بالرملة ذكر شرح الحال فى قتله وحرقه [2] كنا قد ذكرنا خبره فى توجهه من الرحبة إلى دمشق وكان بلغه أنّ عضد الدولة كاتب سعد الدولة بن سيف الدولة وجميع البوادي هناك من بنى كلاب وغيرهم بمعارضته فى مسيره وأخذه وحمله إلى حضرته، فاستوحش وعدل   [1] . فى مط: بابى صرد. [2] . فى مط: وحربه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 عن نهج الطريق وأوغل فى البرية فنالته مشقة عظيمة ووصل إلى دمشق من ورائها فوجد فيها من أهلها رجلا يقال له: قسّام، قد تحصن بها وغلب عليها وخالف صاحب المغرب فلم يتمكن من دخولها فنزل فى ظاهرها وأنفذ كاتبه علىّ بن عمرو الى مصر يستدعى من صاحب المغرب النجدة. ووقعت بين أصحابه وبين أصحاب [504] قسام هذا ثورة، فرحل إلى موضع يقال له نوى وفارقه من ههنا ابن عمه أبو الغطريف مستأمنا إلى عضد الدولة وعيّد عيد الفطر بنوى. وورد عليه كتاب من كاتبه من مصر بأنّ صاحب المغرب تقبله ووعده بكل ما أحبّه وأنّه التمس منه أن يسير إليه زائرا. فامتنع أبو تغلب من ذلك وترددت المراسلات والمكاتبات بينهما. فرحل عن نوى إلى منزل يقال له: كفر عاقب على بحيرة طبرية وفارقه من هناك أخوه أبو طاهر ابن ناصر الدولة على اتفاق واستئذان مستأمنا إلى عضد الدولة. وكان صاحب المغرب أنفذ وجها من وجوه غلمانه يقال له: الفضل، إلى دمشق ليحتال على قسام ويفتتح البلاد. فصار الى طبرية وقرب من أبى تغلب وتراسلا فى الاجتماع فسار الفضل إليه وتلقّاه أبو تغلب وتفاوضا فى الموكب ووعده عن صاحب المغرب بكلّ ما أحبّ وبذل له أبو تغلب المسير معه إلى دمشق لفتحها. فكره ذلك للنفرة التي كانت جرت بينه وبين قسام لئلا يوحشه وكان يسلك فى أمره اللطف والحيلة لا طريق الخوف والمقارعة فافترقا وعاد كل واحد منهما إلى موضعه. ثم رحل الفضل الى دمشق فلم يتمّ له ما قدّره فيها. وكان بالرملة دغفل بن المفرّج بن الجرّاح الطائي وهو رجل بدوي استولى على هذه الناحية وأظهر طاعة صاحب المغرب من غير أن يتصرف على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 أحكامها واستفحل أمره وكثرت البوادي معه، فسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليواقعها [505] ويخرجها عن تلك البلاد، فلجأت إلى أبى تغلب وسألته نصرتها ومتّت إليه بالرحم النزارية وكتب ابن الجراح إليه يسأله ألّا يفعل ذلك ومتّ إليه بالحلف الذي وقع قديما فى الجاهلية بين ربيعة واليمن، فتوسط بين الجهتين على التكافّ إلى أن يرجع الى صاحب المغرب ويمتثل ما يرد منه فى الأمر الذي شجر بينهما. ورحل فنزل فى جوار عقيل على أنّه مانع لها المسير والإبتداء بالشرّ فأوحش ذلك ابن الجرّاح والفضل صاحب [1] صاحب المغرب وخافاه وظنا أنّ اجتماعه مع بنى عقيل لتدبير على أعمالهم، فسار الفضل عن باب دمشق على طريق الساحل إلى الرملة. وضجر أبو تغلب من طول مقامه [2] ، واتصل [3] كتب كاتبه إليه بالتسويف والتعليل فسار الى الرملة مع احياء عقيل [4] وذلك فى المحرم سنة 369 فهرب ابن الجراح والفضل من بين يديه حتى [5] بعد، وكتب الفضل يستنجد ويجمع الى نفسه جيوش السواحل وولاته. وجمع أيضا ابن الجراح الرجال واحتشد فتوافت إليهما طوائف كثيرة واستأمن الى أبى تغلب ممن كان معهما اسختكين التركي المغربي وغيره من الأتراك وقطعة من الرجال الاخشيدية والمغاربة وعطف إليه الفضل وابن الجراح فيمن جمعا فوقعت الوقعة على باب الرملة يوم الاثنين لليلة خلت   [1] . لا تكرار فى مط. [2] . مقامه. كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: مقيل، وهو مخالف للأصل. [3] . فى الأصل: اتصال. وهو المثبت فى مد. وما أثبتناه هو من مط. [4] . كذا فى الأصل ومط. والمثبت فى مد: عقلتى! [5] . والمثبت فى مد: حتها! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 من صفر [506] سنة تسع وستّين وثلاثمائة. فلما عاينت عقيل كثرة الناس انهزمت، فضعف [1] أمر أبى تغلب وفارقه اسختكين المغربي طالبا العراق ومستأمنا الى عضد الدولة، وعاد باقى المستأمنة من المضريّين الى الفضل والى ابن الجرّاح ولم يبق مع أبى تغلب إلّا نحو سبعمائة رجل وهم غلمانه الحمدانية فانهزم وانهزموا ولحقهم الطلب فثنوا وجوههم يحامون عن نفوسهم بالمكافحة والمجالدة. فضرب بعض الصعاليك أبا تغلب على رأسه، وعرقب آخر، فرسه، فسقط إلى الأرض وبادر إليه ابن عم لابن الجراح يقال له: مشيّع الطائي، وقتل بعض غلمانه وأسر أكثر أصحابه وحصل أبو تغلب فى عشيّته [2] تلك فى يد ابن الجراح فبكّر مرتحلا بأحيائه وعسكره وسيّره بين يديه على ناقة وقد شدّ رجليه بسلسلة إلى بطنها واعتقد أن يأتى عليه ولا يبقى. فبلغ ذلك الفضل فبكر ليأخذه من يد أبى الجراح فألفاه قد سار فاتبعه. فلمّا قرب خلف ابن الجراح أن يتسلمه منه ويصير به الى مصر فيجري معه مجرى ألفتكين فى اصطناع صاحب المغرب له واستصحابه إياه وقد وتره بالحرب والأسر وأناخ الناقة وضربه بيده ضربتين بالسيف فسقط قتيلا وأخذ رأسه وقطع بعض الشيوخ من العرب يديه ورجليه، لأنّه كان ضرب يد ابن له عند ممانعته عن نفسه فأطنّها. ولحق الفضل وقد قضى الأمر فأخذ رأسه وأنفذه إلى مصر ثم صلب جثته ثم أحرقت. وقد كان خلّف أخته جميلة وزوجته وهي بنت سيف الدولة [507] فى أحياء بنى عقيل. فلما قتل حملوهما [3] مع سائر عياله الى حلب فأخذ سعد   [1] . فى الأصل: فضعفت. [2] . والمثبت فى مد: عشية. ولذلك زاد «الليلة» بعد «تلك» . [3] . فى الأصل ومط: حملوها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 الدولة أخته اليه وأنفذ جميلة الى الرقة وحدرها منها الى عانة وعدل بها من عانة الى الموصل وسلّمت الى أبى الوفاء فكانت فى يده الى أن انحدر الى بغداد فحدرها معه وحصلت معتقلة فى الدار فى بعض حجرها مع جواري عضد الدولة ونسائه. ذكر تلافى بغداد بالعمارة بعد الخراب بأمر عضد الدولة وفى هذه السنة أمر عضد الدولة بعمارة منازل بغداد وأسواقها وكانت مختلّة قد أحرق بعضها وخرب البعض فهي تلّ. المساجد الجامعة وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت أيضا فى نهاية الخراب فأنفق عليها مالا عظيما وهدم ما كان مستهدما من بنيانها وأعادها على إحكام وشيّدها وأعلاها وفرشها وكساها وتقدم بإدرار أرزاق قوّامها ومؤذنيها والائمة والقرّاء فيها وإقامة الجرايات لمن يأوى إليها من الغرباء والضعفاء، وكان ذلك كله مهملا لا يفكّر فيه. مساجد الأرباض والعقارات ثم أمر بعمارة ما خرب من مساجد الارباض المختلفة وأعاد وقوفها وعوّل فى هذه المصالح على عمّال ثقات أشرف عليها نقيب العلويّين. ثم الزم أرباب العقارات التي احترقت ودثّرت فى أيام الفتنة أن يعيدوها إلى أفضل أحوالها فى العمارة وفى الحسن والزينة، فمن قصرت يده عن ذلك اقترض من بيت ماله ليرتجع منه عند الميسرة ومن لم يوثق منه بذلك أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 كان غائبا أقيم عنه وكيل وأطلق له ما يحتاج إليه فعمرت بغداد [508] وعادت كأحسن ما كانت. الدور والقصور ثم وقع التتبع على الدور والمساكن التي على جانبي دجلة فبنيت مسنّياتها [1] وجددت رواشنها [2] بعد أن كان الخراب شاملا لها وتقدم إلى من سمّيت له دار على الشط من كبار الأولياء والحاشية أن يجتهد فى عمارتها وتحسينها. سبب خراب الدور والقصور وكان السبب فى خراب هذه الدور والقصور على الشطّ أنّ بختيار كان نقض دار أبى الفضل العباس بن الحسين الشيرازي التي كانت على الصراة ودجلة حين قبضها عنه ولم يكن لها نظير ببغداد فى الاتساع والحسن، وكان اتخذ فيها بستانا نحو سبعة أجربة مملوأ بالنخل والأشجار والرياحين والأنوار وطرائف الغروس الغريبة وأنشأ فيها المجالس البهيّة والمساكن الفسيحة، فارتفع له من أثمان النقض جملة استكثرها واستطاب بعد ذلك بيع الأنقاض فهدم المنازل الجليلة التي لا يمكن أو يصعب إعادتها.   [1] . كذا فى الأصل: مسنّياتها. والمثبت فى مد: مسناتها. فى مد: مسبباتها. والمسنّاة: ما يبنى فى وجه السيل. [2] . والمفرد: الرّوشن: الكوّة. (فارسىّ) وربما يريد هنا الرّشن: الفرضة اى الثلمة التي ينحدر منها الماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 رفع سنّة الإخراب وبيع الأنقاض فأمر عضد الدولة برفع سنّة الإخراب وبيع الأنقاض وإعادة عمارة بستان عرصة دار العباس بن الحسين وكذلك عمارة البستان بالزاهر المتوسط الشرقي من بغداد. ففعل ذلك فامتلأت هذه الخرابات بالزهر والخضرة والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد. الأنهار والقناطر وكان ببغداد أنهار كثيرة مثل نهر العبارة ونهر مسجد الأنباريين ونهر البزّازين ونهر الزجاج [1] ونهر القلايين ونهر طابق وميزابها الى دجلة [509] والصراة ونهر عيسى ونهر بناحية الحربية يأخذ من الدجيل وكان منها مرافق للناس لسقى البساتين ولشرب الشفة فى الأطراف البعيدة من دجلة. فاندفنت مجاريها وعفت رسومها ونشأ قرن بعد قرن من الناس لا يعرفونها واضطرّ الضعفاء الى أن يشربوا مياه الآبار الثقيلة أو يتكلفوا حمل الماء من دجلة فى المسافة الطويلة، فأمر بحفر عمدانها ورواضعها وقد كانت على عمدانها الكبار المعروفة بنهر عيسى والصراة والخندق قناطر قد تهدمت وأهمل أمرها وقلّ الفكر فيها، فربما انقطعت بها السبل أصلا وربما عمرتها الرعية عمارة ضعيفة على حسب أحوالهم وعلى حسب الاقتصاد والتزجية [2] فلم تكن تخلو من أن تجتاز عليها البهائم والنساء والأطفال والضعفاء فيسقطون فبنيت   [1] . كذا فى الأصل: الزجاج. فى مط ومد: الدجاج. [2] . كذا فى الأصل ومط: التزجية: دفع الأيّام. والمثبت فى مط: الترجبة: نصب ما يدعم النخلة الضعيفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 كلها جديدة وثيقة وعملت عملا محكما. جسر بغداد وكذلك جرى أمر الجسر ببغداد فإنّه كان لا يجتاز عليه إلّا المخاطر بنفسه لا سيّما الراكب، لشدة ضيقه وضعفه وتزاحم الناس عليه. فاختيرت له السفن الكبار المتقنة وعرّض حتى صار كالشوارع الفسيحة وحصّن بالدرابزينات ووكّل به الحفظة والحرّاس. مصالح السواد فأمّا مصالح السواد فإنّها قلّدت الأمناء ووقع الإبتداء بذلك فى السنة المتقدمة لهذه التي نحن فى ذكرها، فغلبت الزيادات وجمعت العدد من القصب والتراب وأصناف الآلات [510] وأعيد كثير من قناطر أفواه الأنهار والمغايض والآجرّ والنورة والجصّ وطولب الرعية بالعمارة مطالبة رفيقة واحتيط عليهم بالتتبع والإشراف وبلغ فى الحماية إلى أقصى حد ونهاية. تأخير الخراج إلى النيروز وأخّر افتتاح الخراج الى النيروز المعتضدي [1] وكان يؤخذ سلفا قبل إدراك الغلّات، وأمضيت للرعية الرسوم الصحيحة وحذفت عنها الزيادات والتأويلات، ووقف على مظالم المتظلمين وحملوا على التعديل ورفعت الجباية عن قوافل الحجيج، وزال ما كان يجرى عليهم من القبائح وضروب العسف وأقيمت لهم السواني فى مناهل الطريق وأحفرت الآبار واستفيضت   [1] . قال صاحب كتاب العيون أنّه فى سنة 279 أحدث المعتضد النوروز الذي يقع فى اليوم الحادي والعشرين من حزيران (مد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 الينابع. حمل الكسوة إلى الكعبة وحملت إلى الكعبة الكسوة المستعملة الكثيرة وأطلقت الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالمدينة وغيرهم من ذوى الفاقة وأدرّت لهم الأقوات من البرّ والبحر وكذلك فعل بالمشهدين بالغري والحائر- على ساكنيهما [1] السلام- وبمقابر قريش فاشترك الناس فى الزيارات والمصليات بعد عداوات كانت تنشأ بينهم الى أن يتلاعنوا وتواثقوا وخرست الألسن التي كانت تجرّ الجرائر وتشبّ النوائر بما أظلها [2] من السلطان القامع والتدبير الجامع. رسوم للفقراء وأصناف العلماء وإفراد حجرة فى داره لمفاوضات الحكماء آمنين من السفهاء وبسطت رسوم للفقراء والفقهاء والمفسرين والمتكلمين والمحدثين والنسابين والشعراء والنحويين والعروضيين والأطباء والمنجمين والحسّاب والمهندسين. وأفرد فى دار عضد الدولة لأهل الخصوص والحكماء من الفلاسفة موضع يقرب من مجلسه وهو الحجرة التي يختص بها الحجّاب، فكانوا [511] يجتمعون فيها للمفاوضة آمنين من السفهاء ورعاع العامة، وأقيمت لهم رسوم تصل إليهم وكرامات تتصل بهم. فعاشت هذه العلوم وكانت مواتا وتراجع أهلها وكانوا أشتاتا ورغب الأحداث فى التأدب والشيوخ فى التأديب، وانبعثت القرائح ونفقت أسواق الفضل وكانت كاسدة، وأخرج من بيت المال أموال عظيمة صرفت فى هذه   [1] . فى الأصل ومط: ساكنيهما. والمثبت فى مد: ساكنها. [2] . فى مط: أطلقها. أظلّه. جعله تحت ظلّه ورعايته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 الأبواب وفى غيرها من الصدقات على ذوى الحاجات من أهل الملّة، وتجاوزهم الى أهل الذمّة. وأذن للوزير نصر بن هارون فى عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم. الغرض من شرح هذه البركات وكنّا بعرض الزيادة من هذه البركات إلى أن أتى أمر الله الذي لا يدفع. وإنّما شرحناها لينظر فيها من يأتى بعدنا ويقرأها الملوك أو تقرأ بين أيديهم فيعملون بمثل ذلك ويسيرون بها لينتشر ذكرهم بالجميل ويطلع الله عز وجل على نيّاتهم فيمكّن لهم ويحسن معونتهم. فلولا خلال كانت فى عضد الدولة يسيرة لا أستحسن [1] ذكرها مع كثرة فضائله، لبلغ من الدنيا مناه، ورجوت له من الآخرة رضاه، والله ينفعه بما قدّمه من العمل الصالح ويغفر له ما وراء ذلك. شخوص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام وفى هذه السنة شخص المطهر بن عبد الله عن مدينة السلام الى أسافل واسط لطلب الحسن بن عمران فأقام على منازلته والتاث عليه أمره فقتل نفسه. ذكر شرح الحال فى قتل المطهّر نفسه لما توفّى عمران بن شاهين وفرغ عضد الدولة [512] من الأعداء الكبار وقتل بختيار وأبو تغلب وملك ديارهم ورجالهم وحصل بمدينة السلام وكانت   [1] . فى مط: لاستحسن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 نفسه تنازع إلى مصر خاصّة، والى ديار الكفر بعد ذلك من الروم وما والاها، كره أن يجاوره النبط مستعصية ويطاوله صغار أصحاب الأطراف ومن يلوذ بالقصب والغياض والآجام ولا يستأصله فعرّض فى مجلسه بذكر الحسن بن عمران والبطيحة وطلب من يكفيه هذا الخطب، فانتدب له أبو الوفاء والمطهر وأظهر كل واحد منهما كفاية فيه. وتقرر الرأى على إنفاذ المطهر فجرّد معه عسكرا فيه أصناف من الرجال وأزاح [1] علته فى السلاح والأموال والعدد والآلات وضمّ إليه أبا الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي وكان فى هذا الوقت بها، فانقلب منها الى واسط حتى اجتمع معه بها، فخلع على المطهر وأكرم وسار يوم السبت للنصف من صفر واستخلف له عضد الدولة على الوزارة وتدبير الأعمال وجمع الأموال أبا الريان حمد بن محمد الاصبهانى وذلك لدربته لا لصناعته ولأنّه عرف بطول الممارسة موارد الأمور ومصادرها، وكان واسطة بين عضد الدولة ووزرائه، وكان كالشريك لهم فيما ينفذونه من أوامره. فلما استقر المطهر بالبريونى [2] من أعمال الجامدة شاور الناس ومحض الرأى، فتقر الأمر على تدبير فاسد قد كان جرّبه من درج قبله مرارا فلم ينتفع به وهو إيقاع السدود على أفواه الأنهار لتنشف البطيحة التي يلجأ إليها [513] عسكر النبط وأنشأ مسنّاة يسلك عليها بالاقدام إلى نفس معاقلهم فأطلقت فى ذلك أموال ضاعت وانقطعت المسالك فى دجلة وبطل ارتفاع الكار ولزمت مؤن الحصار واثبات الرجال وجاءت المدود فحملت على السدود. وتوصل الحسن بن عمران الى بعض تلك السدود فبثقها فامتلأت البطائح   [1] . فى مط: أراح. [2] . ما فى مط مهمل إلّا فى ما قبل الأخير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 بالمياه وكان المطهر إذا سدّ جانبا انثلمت عليه جوانب وإذا حفظ وجها أتاه الخلل من وجوه، واتفق مع ذلك أن جرت بينه وبين الحسن بن عمران وقعة فى الماء فلم يتمّ له ما قدّره من اصطلامه. وكان المطهر قد ألف فيما كان باشره من الحروب المناجزة واعتاد المفاصلة ولم يدفع إلى مصابرة [1] قطّ ولا مطاولة. فشقّ ذلك عليه وبلغ منه وكان يتهم أبا الحسن محمد بن عمر العلوي بمراسلة تجرى بينه وبين صاحب البطيحة وهدايا وملاطفات فى السرّ منه، وأنّه يطلعه على أسرار التدبير عليه ويهديه إلى مصالحه. وكانت أخلاق المطهر معروفة بالشراسة والخشنة وكانت أفكاره سيئة فأوجس فى نفسه خيفة واستشعر وحشة وتوهّم أنّ استصعاب ما استصعب عليه من هذا الأمر عائد عليه بانخفاض منزلة وانحطاط عن رتبة الوزارة وأنّ أبا الوفاء يجد مساغا للطعن عليه وإظهار معايبه لما كان بينهما من العداوة والمنافسة فى المرتبة، واختار الموت على تسلط الأعداء عليه وتمكّنهم منه. فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان جلس فى مجلسه من عسكره، ودخل إليه الكتّاب والقوّاد وطبقات الناس [514] مسلّمين عليه فتقدم إليهم بالتخفيف والانصراف ونهض إلى خيمة كان يخلو فيها واستدعى طبيبه وأمره بأن يفصده وظنّ أنّه إذا انصرف الطبيب حلّ شداد الفصد واستنزف دمه إلى أن يتلف، وكان قريب العهد بإخراج الدم وشرب الأدوية المسهلة من أجل علة نالته قبل حركته من الحضرة. فأعلمه الطبيب أنّه غير محتاج الى الفصد فزجره وطرده ثم صرف من كان واقفا بين يديه   [1] . هنا زيادة فى مط مكرّرة بقدر صفحتين من صفحات الأصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 من غلمانه حتى خلا بنفسه وأخذ سكّين دواته فقطع بها شرايين ذراعيه جميعا وأدخلها إلى باطن ثيابه فخرج نفسه فى مقاتله ودخل إليه فرّاش كان يختص به فرأى دسته الذي كان جالسا فيه مملوء دما فصاح وتوافى إليه الناس فأدركوه وبه رمق وظنّوا أنّ إنسانا أوقع عليه. ثم تكلم بما بان لهم أنّه تولى ذلك من نفسه. وحفظت عليه ألفاظ يسيرة منها أنّ محمد بن عمر العلوي حمله على ما ارتكبه من نفسه وكلمات يسيرة فى هذا المعنى وغيره، ومات من ساعته وحمل الى بلده بكارزين من أعمال فارس فدفن هناك. وكانت هذه الحادثة من عجائب الزمان إذ فتك هذا الرجل بنفسه خوفا من تغير صاحبه له. ونسئل الله التوفيق والعصمة والستر الجميل برحمته. وأنفذ عضد الدولة عبيد الله بن الفضل إلى معسكر المطهر لحفظ أسبابه وتقرير أمر صاحب البطيحة على أمر فى العاجل من حمل مال وموادعة له إلى أن ينظر فى أمره وكان ذلك عقيب عوده من الإيقاع ببني شيبان [515] فانحدر ووفى بما أمر وحمل مالا من قبل الحسن بن عمران وتسلّم منه رهينة وانكفأ بجميع ذلك ودخل الحضرة يوم الأربعاء للنصف من ذى القعدة. انفراد نصر بن هارون بالوزارة وفيها انفرد [1] نصر بن هارون بالوزارة لأنّ أصل الوزارة كانت له ثم شورك بينه وبين المطهر. فلمّا مضى المطهر لسبيله وتفرد نصر بن هارون بوزارته وكان مقيما بفارس يدبّر أعمالها استخلف له عضد الدولة أبا الريان حمد بن محمد.   [1] . سقط من مط: انفرد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 حوادث أخر وفيها ورد رسول لصاحب المغرب برسائل أدّاها وكان دخوله فى شعبان وانصرافه فى ذى القعدة وردّ معه القاضي أبو محمد العماني لتأدية الجواب. وفيها توفى حسنويه بن الحسين فى قلعته المعروفة بسرماج. القبض على محمد بن عمر العلوي وإنفاذه إلى فارس وفيها قبض على محمد بن عمر العلوي بالبطيحة وأنفذ الى فارس وكان السبب فيه ما حفظ من كلام المطهر قبل وفاته فيه [1] وأنفذ أبو الوفاء طاهر ابن محمد الى الكوفة لقبض أمواله وأملاكه فوصل الى شيء عظيم يستكثر من المال والسلاح وضروب الذخائر التي لا يظنّ بمثله أنّه يجمعها ودخلت اليد فى ضياعه وكانت كثيرة تشتمل على جلّ سقى الفرات بل قد تجاوز ذلك إلى غيره من أعمال السواد واصطنع أخوه أبو الفتح أحمد ابن عمر وقلّد الحج بالناس وأقطع إقطاعا سنيّا. وفى هذه السنة أخذ عبد العزيز بن محمد المعروف بالكراعى أسيرا وشهر بالبصرة وبمدينة السلام ثم قتل وصلب الى جانب صاحبه. [516] شرح الحال فى الحيلة التي تمّت عليه حتى أسر وقتل كان هذا الرجل وضيعا ساقطا طبقته عن كل رتبة، واستخدم فى وقت فى تفرقة قضيم الكراع ولذلك عرف بالكراعى. ثم وصل بمحمد بن بقية   [1] . قال ابن الصابي أنّه سمع منه كلام يفهم منه الشكاية من الشريف فقبض عليه عضد الدولة ونقله إلى فارس ودخلت اليد فى أملاكه وأسبابه (مد) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 وجمعتهما عاهة النقص ومناسبة السقوط، فارتفع معه حتى قلّده خلافته بالبصرة وجعله مستوفيا على العمال فأثرى وتموّل، وكان منه فى أيام عصيان ابن بقية بواسط سوء أدب كثير وذكر الملوك بما لا يليق بالملوك بعضهم فى بعض. ثم تنكّر له ابن بقية، فقبض عليه ونكبه. فلمّا قبض بختيار على ابن بقية استخدمه ولما عزم بختيار على الهرب منهزما هرب منه وصار إلى البطائح وكان هناك يجرى على سوء عادته فى سوء الأدب. فدبّر عضد الدولة تدبيرا ثم شطّره عليه ولو قبل جميعه لتمّ أيضا على صاحب البطيحة ما يستغنى معه عن محاربة ومكافحة. وذلك أنّه ووقف [1] جماعة من أهل البصرة ووجوهها أن يخدموا عضد الدولة فى مكاتبة يوقعونها إلى هذا الكراعى ويوهمونه أنّهم يوالونه ويضافرونه، فإذا قربوا منه أثاروا الفتنة بمواطأة من سلطان البصرة ثم سلّموا إليه البصرة حتى إذا اغترّ استدعى الحسن بن عمران ليتقوّى به فإذا صار فى دجلة حيل بينه وبين الرجوع الى البطيحة وخاشنته [2] الكمناء من أعلى وأسفل. وأخذ فبلغ به الجهل أن صدّق بهذا الوعد وعجل فخرج وأخرج معه الحسن بن عمران وسائر عسكره وقال: - «لى بالبصرة أولياء وإخوان قد كاتبوني والبصرة فى أيدينا.» فاغترّ به الحسن ابن عمران [517] وخرج مع عسكره. فلمّا صاروا بمطارا ثار بهم من كان فيها من الرجال وقاتلوهم، وأخطئوا لأنّ تمام التدبير كان فى أن يتركوهم حتى يوغلوا إلى البصرة. فأقام القوم يقاتلونهم ثم ظفر بالكراعى وانهزم الحسن ابن عمران بعد أن ملكت عليه قطعة وافرة من سفنه ورجاله، وحمل الكراعى إلى البصرة فشهر وعوقب وطولب بالمال، ثم أنفذ   [1] . فى مط: وقف. [2] . كذا فى الأصل: خاشنته. فى مط ومد: حاشته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 إلى بغداد فشهر منصوبا على نقنق فى سفينة وعلى رأسه برنس وذلك يوم الخميس لعشر ليال بقين من شعبان فلمّا كان يوم الجمعة لليلتين خلتا من ذى الحجة طرح الى الفيلة فخبطته وصلب إلى جانب ابن بقية. نفاذ عسكر إلى عين التمر وفى هذه السنة نفذ عسكر إلى عين التمر فى طلب ضبّة بن محمد الأسدى- وقد مرّ ذكره وأنّه ممن يسلك سبيل الدعار ويسفك الدماء ويخيف السبل وينهب القرى ويبيح الأموال والفروج- وانتهك حرمة المشهد بالحائر فلمّا أظلّ عليه العسكر المجرّد هرب بحشاشته إلى البادية وأسلم أهله وحرمه فحصل أكثرهم فى الأسر وملكت عين التمر. تدبير عضد الدولة للجمع بين الملك والخلافة وفيها دبّر عضد الدولة أن يقع بينه وبين الطائع لله وصلة بابنته الكبرى، ففعل ذلك وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار [1] وبنى الأمر فيه على أن يرزق ولدا ذكرا منها فيولّى العهد وتصير الخلافة فى بيت بنى بويه ويصير الملك والخلافة مشتملين على الدولة الديلمية. [518] مسير عضد الدولة إلى الجبل وفى هذه السنة سار عضد الدولة الى الجبل وأعمالها ودوّخ همذان والدينور ونهاوند لافتتاح قلاع حسنويه بن الحسين الكردي وتدبير فخر   [1] . زاد فيه صاحب تاريخ الإسلام: وكان الوكيل عن عضد الدولة أبو على (الحسن بن أحمد بن عبد الغفار) الفارسي النحوي والذي خطب القاضي أبو على المحسن ابن على التنوخي. (مد) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 الدولة فى قصده ومقابلته على ما كان منه فى مكاشفته والاجتهاد فى تشتيت شمل الدولة وتفريق الكلمة ومعاضدة بختيار وابن بقيّة، وقد كان أظهر مباينة مؤيد الدولة وكاتب قابوس بن وشمكير. رسائل عضد الدولة إلى مؤيّد الدولة، وإلى فخر الدولة، وإلى قابوس بن وشمكير ولما هلك حسنويه بن الحسين أمّل [1] عضد الدولة أن يكون الشيطان الذي نزغ بينه وبين اخوته قد زال. وأنفذ أبا نصر خرشيد يزديار [2] الخازن برسائل إلى مؤيد الدولة، وإلى فخر الدولة، وإلى قابوس بن وشمكير. أمّا إلى مؤيد الدولة فبإحماده على طاعته التي ما غيّرها ولا كدّرها. وأمّا إلى فخر الدولة فبالمعاتبة والمداراة والزيادة فى الأخذ بالحجة. وأمّا إلى قابوس بن وشمكير فبالمشورة عليه بحفظ الذمّة التي تعلّق بها وحفظ نعمته وترك التعرّض لما يورطه ويهلكه. أجوبتهم عن تلك الرسائل فأمّا مؤيد الدولة فإنّه أجاب جوابا سديدا وأنّه واقف على حدود طاعته وتابع له فى رضاه وغضبه. وأمّا فخر الدولة فأجابه جواب النظير الذي لا يرى لرتبة [3] الملك مزيّة ولا لكبر السن وعهد الأب فضيلة ولا فى المعاودة إلى جميل الطاعة نيّة. وأمّا قابوس فأجاب جواب المتهيّب المحجم المراقب.   [1] . فى مط: أمثل. [2] . فى مط: خورشيد بن وهيار. [3] . فى مط: لزينة، بدل «لرتبة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 افتراق أولاد حسنويه وافترق أولاد حسنويه فرقا واختلفت بهم المذاهب وهم: أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار [519] وعبد الملك. فطائفة منهم انحازت إلى فخر الدولة مظهرة لمشاقّة عضد الدولة، وطائفة وردت حضرته. فأمّا بختيار من بينهم فإنّه نافر إخوته وكان مقيما فى قلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فابتدأ بمكاتبة عضد الدولة وبذل تسليم ذلك إليه وذكر رغبته فى الاعتصام به والدخول فى كنفه ثم تلوّن ولم يف. فتشوّف [1] عضد الدولة للمسير إلى الجبل وتهذيب أعمالها فابتدأ فقدّم عساكره يتلو بعضها بعضا: فجرد أبا الفتح المظفّر بن محمد الحاجب وأبا نصر خواشاذه وأبا الوفاء طاهر بن محمد، وبرز عن داره إلى المعسكر بالمصلى من الجانب الشرقي بعد أن أقرّ أبا الريان بالحضرة على جملته من خلافة الوزارة، ولكن زاد فى منزلته وناط به جميع أمور المملكة، وطال مقامه بالمعسكر الذي برز إليه إلى أن أوغلت تلك الجيوش السائرة على مقدمته. وقد كان أبو نصر خواشاذه [2] وطّأ الأمور عند خروجه لتأدية الرسائل. فواقف القواد والوجوه أن يخدموا عضد الدولة بنيّاتهم، فإذا سار استأمنوا إليه وضمن لهم الإقطاعات السنيّة وحمل إلى بعضهم الهدايا والألطاف فى السرّ. فلما سار تلقّته فى طريقه البشائر بدخول جيشه همذان واستئمان العدد الكثير من قوّاد [520] فخر الدولة ورجال حسنويه وتلقّيهم رايته منحازين إليها. وتلقّاه أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة   [1] . كذا فى الأصل: فتشوّف. وهو المثبت فى مد. فى مط: تشوّق. [2] . فى مط: حواساده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 ومعه جماهير حاشيته وبقية قوّاده وغلمانه فانحلّ أمر فخر الدولة واحتاج إلى مفارقة موضعه واللحاق ببلد الديلم [1] ، فمضى ونزل دارا كان بناها معزّ الدولة بهوسم، ولجأ إلى الداعي العلوي المستولى على ذلك الصقع. وعرّج عضد الدولة إلى نهاوند وافتتح قلعة سرماج واحتوى على ما فيها، وملك غيرها من قلاع تلك البلاد، وألقت إليه الحصون مقاليدها، وأخرجت الأرض أثقالها. ولحقته فى هذه السفرة علّة عاودته مرارا وكانت شبيها بالصرع وتبعه مرض فى الدماغ يعرف بليترغس [2] وهو النسيان، إلّا أنّه أخفى ذلك. ويقال: إنّ مبدأ ذلك به كان بالموصل إلّا أنّه لم يظهر أمره لأحد. وهذا آخر ما عمله الأستاذ أبو على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه رضى الله عنه والحمد لله وصلواته على محمد النبي وآله أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل فرغ من انتساخه محمد بن علىّ بن محمد أبو طاهر البلخي فى منتصف شهر ربيع الأول سنة ستّ وخمسمائة نقله وقابله علىّ بن حنظلة سنة عشرين وخمسمائة فرغ من نقله الحسن بن منصور فى مستهلّ المحرم سنة ثمان وثلاثين حامدا لله ومصليا على نبيه فرغ ابنه محمد بن الحسن فى ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة   [1] . سقط من مط: الديلم. [2] . فى مط: بليثرغس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 [ المجلد السابع ] ذيل كتاب تجارب الأمم للوزير أبى شجاع محمد بن الحسين الملقّب ظهير الدين الروذراورى (حوادث سنة 369 إلى 389 هجرية) ويليه: الملحق بذيل الروذراورى وهو الجزء الثامن، من تاريخ هلال الصابي (حوادث سنة 389 إلى 393 هجرية) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 مقدّمة صاحب الذيل بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي أمّا بعد حمد الله سبحانه والثناء عليه، أهل الحمد والثناء، المفرد بالوحدانية والبقاء الذي لا يحيط به مكان، ولا يغّيره زمان، لا إله إلّا هو مبدع المكان وموجده، ومحدث الزمان ومنفده، خالق الخلق أطوارا، وجاعل الظلمة والضياء ليلا ونهارا، كتب على الخلائق تقلّب الأحوال لأنّه لا يحول، وقضى على الأزمنة حكم الزوال لأنّه لا يزول. والصلاة على رسوله محمد الذي بعثه بالرسالة، وهدى به من الضلالة، وأنفذ بمعرفته من الجهالة، ودلّ على نبوّته بأفضل الدلالة، واختاره من أشرف البلاد وطنا ودارا، واصطفاه من أكرم العباد حسبا ونجارا، حيث المشعر الحرام والمعشر الكرام، وجعله آخر الأنبياء بعثا فى الدنيا إلى العباد، وأولهم بعثا إلى المعاد، وجعلنا من أمّته الذين جعلهم أمّة وسطا، وأبان لهم من الإسلام منهجا جددا، ووفقهم فى الدين فتحرّوا رشدا. فقولهم سديد، وفعلهم رشيد، وهم شهداء على الناس والرسول عليهم شهيد، وعلى آله الذين سبقوا إلى مصاحبته وسعدوا بمرافقته، [3] وشرفوا بمتابعته فى هجرته، وكرموا بإيوائه ونصرته، فهم معالم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 الهدى، ومصابيح الدجى [1] ، كدرارى النجوم تهدى الساري بنورها، وتقى الغاوي من فتنة الدنيا وغرورها. والدعاء لخليفته الإمام المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين صاحب العصر المؤيد بالنصر المختار من شجرة طيبة للشرف [2] والعلاء، «أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها في السَّماءِ» 14: 24 [3] شربت من ماء النبوة الطاهرة عيدانها، وتفرّعت بالخلافة الظاهرة أفنانها. كما قال جدّه العباس لبعض أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين: كان رسول الله دوحة نحن أغصانها وأنتم جيرانها، وهو المنصب العظيم، من المحتد الصميم، والبيت الكريم، الذي أول درجاته النبوّة والكرامة، وثانيهما [4] الخلافة والإمامة. ولا ثالث لها بعد ذلك إلى القيامة. توارثها إمام عن امام. وقام بها أمير المؤمنين المقتدى بأمر الله خير قيام. إنّ الذي رفع السماء بنى لهم ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول [5] شدّ الله عضده بذخر الدين، وولّى عهده فى المسلمين، وباخوته الغرّ الميامين، وجعلها كلمة باقية فى عقبه إلى يوم الدين، [4] وأيّد دولته بجلالها الذابّ عن حماها، المناضل عن علاها، جمال الملة مغيث الأمّة معزّ الدنيا والدين يمين أمير المؤمنين الملك العادل المحبب إلى القلوب، والركن الشديد المعدّ لدفع الخطوب، ودّبر ملكه بنظامه المبارك فى أيامه، قوام الدين رضىّ   [1] . فى الأصل فى مد: الدجا. [2] . فى مد: الشرف. [3] . س 14 ابراهيم: 24. [4] . فى مد: ثانيهما. [5] . أوّل بيت الفرزدق هو هكذا: إنّ الذي سمك السماء بنى لنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 أمير المؤمنين الوزير الظهير، الموفق بحسن التدبير. وبعد أداء الفروض المقدمة الواجبة، والسنن المؤكدة الراتبة، وقضاء حقوقها المستثبتة الأزلية وسلوك طرقها المستقيمة اللاحبة، فإنّ أولى ما صنفه المفيد، وعنى بقراءته المستفيد، جمع أخبار الأمم الخالية، وحفظ تواريخ الأزمان الماضية، لأنها أوفى المصنفات فائدة وأكثرها عائدة، وأحسنها أثرا، وأطيبها ثمرا، إذ كان أنفع العلوم ما أدّت مقاصده إلى التوحيد، ووقفت موارده على تثبيت قدرة الخالق فى نفوس العبيد، وفى تدبير اختلاف الليل والنهار، وتأمّل مجاري الأقدار وتقلّب الأدوار، فى توالى الأمم وتعاقبها، وتداول الدول وتناوبها. قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ 3: 140 [1] اكبر دليل على وحدانية من ينبتهم ثم يحصدهم [5] ويشقيهم ويسعدهم، وينشئهم ويبيدهم، ويعيدهم، ويحييهم ويميتهم «وهو على جمعهم إذا يشاء قدير» تبارك اسمه وجلّ ثناؤه، وعظمت قدرته وكثرت آلاؤه، مرجع الخلق والأمر إليه و «بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» 23: 88 [2] له الحمد كله وبتوفيقه يتضح فى الرشاد سبيله، فلا عبادة إذا أرقى من التوحيد فموقعه من العبادات موقع الرأس من الجسد به اعتداله وبقاؤه، ومحله من الاعتقادات محل الروح من الجسم بها حياته ونماؤه. ولو لم يكن علم القصص عظيما لما من الله تعالى به على نبيه عليه السلام فقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ من قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ 12: 3 [3] وقال سبحانه:   [1] . س 3 آل عمران: 140. [2] . س 23 المؤمنون: 88. [3] . س 12 يوسف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 28: 1- 3 [1] وقال تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ من أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ من لَدُنَّا ذِكْراً 20: 99 [2] ولو لم يكن فى ذلك الا ما ينتفع به المعتبر من قلّة الثقة بالدنيا الفانية، وكثرة الرغبة فى الآخرة الباقية، لكفى ما تنتجه هذه البصيرة من جميل الأفعال، وتحثّ عليه هذه النتيجة من صالح [6] الأعمال. فكيف وأولى ما يعتمده أولو الأمر وأصحاب الزمان، ومن بأيديهم مقاليد الملك والسلطان، وأوجب ما يتشاغل به من إليهم أزمّة الأمور، وعليهم سياسة الجمهور، إدمان النظر فى كتب التاريخ وإحسان التتبع للأخبار، والآثار والتفكر فى حال من مضى من الأخيار والأشرار، ليعلموا ما بقي للمحسن من الصيت الحميد الذي صار له حياة مخلّدة بالأجر [3] الذي اكتسبه، وللمسىء من الذكر القبيح الذي جعل صحيفته مسودّة بالوزر الذي احتقبه، ويتصفّحوا حال الحازم فى حزمه وعقله، والمضيع فى تفريطه وجهله، فيسلكوا من الطرائق أوضحها وأمثلها، ويتقبّلوا من الخلائق أشرفها وأفضلها، ويردوا من المشارب أصفاها وأعذبها، ويرعوا من المراتع أمرأها وأخصبها، ويأخذوا من الأمور بأحزمها، ومن التجارب بأحكمها. فمهما يكن من حسنة اقتبسوا منها، ومهما يكن من سيئة ارتدعوا عنها. فالسعيد من انتفع بالأدب فيما دأب غيره فيه من التجارب، والرابح من حظى بالراحة فيما تعب به سواه من المطالب. لأنّ العقل غريزة فى الإنسان، والتجارب مكتسبة فى الزمان، والرأى [7] لقاح العقل والتجربة نتاجه، والخير مقصد الحجى والاجتهاد منهاجه، ومن أين للإنسان من العمر الطويل، ما يحصل فيه على تجربة الدقيق والجليل. وقيل: العمر قصير   [1] . س 28 القصص: 3. [2] . س 20 طه: 99. [3] . فى مد: وبالأجر. (بزيادة الواو) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 والعلم كثير [1] فخذوا من كلّ شيء أحسنه. فإذا تأمّل المرء سيرة الماضين من الأقوام، جنى مع تقارب الشهور والأيّام، ثمرة ما غرسوه على تطاول الدهور والأعوام، وعلم علل الأحوال وفوائدها، وحيل الرجال ومكايدها، وعرف مبادئ الأمور ومصائرها، وقاس عليها أشباهها ونظائرها، وعمل بأنفع ما حبى به من الفهم والعلم، وانتفع بأصوب ما عمل به فى الحرب والسلم، وأقدم على المواطن التي يرتجى فى أمثالها الظفر، وأحجم عن الأماكن التي يتوقّى فى أشكالها الحذر، وتسلّى بمن تدرّع الجلد عند حدوث النوائب، وتأسّى بمن توقّع الفرج حين ظهور العجائب، وذكر مصير العاقبة إذا أرخت يد الغفلة عنان أشره، ونظر بالبصيرة الثاقبة إذ غطى غرور الدنيا على بصره. فهذان القسمان يجمعان الدين والدنيا، ويبلغان بصاحبهما الدرجة العليا. فأمّا ما فى ذلك من حسن المفاوضة والمذاكرة، وأنس المحادثة والمسامرة، فقد [8] خفّفت القول فيه لأنّه يصغر فى جنب ما قدّمت ذكره من القسمين العظيمين، والأمرين الجسيمين. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل الصيد فى جوف الفرا [2] . وإنّنى تأمّلت كتاب تجارب الأمم وعواقب الهمم، الذي صنّفه أبو على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، فوجدت فوائده غزيرة، ومنافعه كثيرة، وعلمه جمّا، وبحره خضمّا. فراقنى تأليفه، وأعجبنى تصنيفه. فرحم الله مصنّفه وأجزل فى الآخرة أجره كما طّيب فى الدنيا ذكره. فلقد اختار فأحسن الإختيار، ومخض فأتى بزبد الأخبار. وسلك سبيلا وسطا بين التطويل والاختصار. ثم لم يقنع بذلك حتى قرّب مسالك الطرق البعيدة، وبرز من أثناء الإختيار ذكر الآراء السديدة، ونبّه فيها على، مقامات حميدة، وبين   [1] . هذا الرأى منسوب الى بقراط اليوناني (مد) . [2] . فى مد: الفراء (بالمدّ) ، وقاله - صلى الله عليه وسلم - متمثّلا. انظر: الميداني: رقم 3010. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 ما جرى فى كل وقت من خدعة ومكيدة. لئلّا يبعد من يد المتناول قطف الثمرة اليانعة، ولا يطول على فكر المتأمل وجود الزبدة النافعة. وأحر به ذلك، فإنّ فضله وإن لم يدرك زمانه باقى النفع بادى الأثر، والروض ينبئ عن فضيلة الغيث وإن ولى أوان المطر. فدعاني وقوف همّتى عليه إلى اقتفاء أثره، [9] وسلوك ما سنّه فى ورده وصدره. وصلا للسلك الذي بدأ [1] بنظامه، ونيابة عنه فى تشييد ما بناه بعد انقضاء أيّامه، وسنّة لمن بعدنا يستمرّ الآتي منها على سيرة الغابر، ويتصل بحبل الأول فيها حبل الآخر، لا تعاطيا منّا للمساجلة، ولا تماديا فى المماثلة، لا مجاراة فى المضمار، ولا مساواة فى الإختيار، ولا ما قاله زهير: هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا فهيهات كيف الطمع فى اللحاق، وقد شأى المتقدم فى السباق. لا سيما وطرف الفصاحة تحتي كاب، وحدّ البلاغة فى يدي ناب. فأين المصلى من المجلى. وأين الكهام من الحسام. وأين السنيح من المعلّى، وأين العاطل من المحلّى. أريها السها وتريني القمر ولكنى أقول ما قاله فى البيت الثاني: أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا هذا لعمري أقرب إلى الصواب، وأليق بهذا الباب. فأحسنت القياس وسلمت قصبة السباق وأعطيت القوس باريها، وأنشدت الضالّة باغيها. [10]   [1] . فى الأصل: بنا. والاقتراح من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... إذا لشفيت النفس قبل التندّم ولكن بكت قبلي فهيّج لى البكا ... بكاها فكان الفضل للمتقدّم [1] ثمّ إنّ للتصنيف رجالا عنوا بأمره وعاموا فى بحره، وأنسوا بجمع شارده، وتفرّدوا بنظم فرائده. وصاروا بصدده، واستولوا على أمده. فهم لقسيّه براة، وإلى غرضه رماة، وفى طرقه هداة. وقد ربّيت فى غير هذا الوكر، وسقيت من غير هذا الدّر، وتحليت بغير هذه الصناعة، فان قصرت عن بلوغ معانيه، فاحذوا العذر فى العجز وإن وقع سهمي دون مراميه، فأعذر فالنزع [2] فى القوس لين، فلمن سبقنا فضيلة الجمع والاستكثار. ولنا من يمدهم وسيلة الاختيار والاختصار، وكل مجتهد مصيب، وله من حسن الذكر نصيب. فسلّمت إلى من تقدّمنا الفضل فى زمانهم لمحاسن تلك العلوم المشهورة. ولو أنهم أدركوا زماننا لسلموا الفضل إلينا بمحاسن هذه الدولة المنصورة، دولة الإمام المقتدى بأمر الله، أمير المؤمنين ذى الكرم والفخار، والحلم والوقار، والأخلاق الطاهرة، والأفعال الباهرة، والكرامات العجيبة فى المنشأ والمولد، والدلالات الصحيحة فى المغيب والمشهد. به أنقذ الله الرجاء من أسر اليأس [11] وألقى عليه محبة قلوب من الناس، بعد أن فجعوا بذخيرة الدين، وليس للقائم رضوان الله عليهما، عقيب سواه، ولا للبيت أحد يصلح للعهد فيولّاه، فتقطّعت النفوس حسرات، وترجّعت الأنفاس زفرات. وبكت الملة واستولت الوحشة والغمّة، فأتى الحمل الميمون به لتمام، وبدا وجهه المنير فجلا كلّ ظلام، وسارت البشرى بذكره فى سائر الآفاق، وزهت أعواد المنابر باسمه حتى كادت تعود للإيراق. ثمّ كلاه فى الفتنة الحادثة أحسن   [1] . البيتان لعدي بن الرقاع. [2] . لعله فاعذروا لنزع (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 كلاءة بين أعاديه، وألحفه جناحا من الحياطة ستره بين قوادمه وخوافيه. فكانت قصّته كقصّة موسى عليه السلام، حين القى صغيرا فى اليمّ، ونجّى [1] كبيرا من الغمّ. وأعاد القائم بأمر الله رضوان الله عليه إلى مقرّ سلطانه، وفسح فى مدّته وبارك فى زمانه لإتمام عهده وانجاز وعده حتى يسلم الأمر منه على حين السن المستحقّة لتسلم أسبابه وتقمّص جلبابه. فكان ذخيرة الدين خلفا لنجله، وكان القائم بأمر الله عاد فى تلك النوبة لأجله، فاستحقّ بنفسه وارثه شرف الخلافة العظيمة، وحوى فى شرخ الشبيبة جميع محاسن الأخلاق الكريمة، وارتقى من المجد ما لا تبلغ الأوهام ذروته، [12] واجتنى من الحلم ما لا تحلّ الأيام حبوته، وساس الأمور بهمّة عليّة، وسيرة رضية، وخلافة جاءت كالنصر من السماء، ولم يكن مثل ذلك لا مثاله من الخلفاء، وكأنّما عناه أبو العتاهية بقوله: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها فلم تك تصلح إلّا له ... ولم يك يصلح إلّا لها ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها فما خلا متقلّد للخلافة فى عصر ممن ينازع فى ردائها ويجاذب على عنانها، ويترشّح لمحلّها ويتطاول لمكانها، إلى أن يستقّر الرأى فى قراره، ويجتمع الأمر من أقطاره، الّا امام عصرنا المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، فانّه تفرّد فى عصره بهذا الاستحقاق، واجتمعت الكلمة عليه لوقتها بالاصطلاح والاتّفاق. فلم يخطر منازعته بخلد ولا بال، ولو كان الزمان ذا   [1] . والمثبت فى مد: نجا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 لسان لقال: «هذا صاحبي بلا مراء ولا جدال» ، لا جرم أن سعادته مخصوصة بأوفى كمال، محروسة بإذن الله تعالى عن نقصان وزوال، ودولته محوطة بأكرم ظهير وموال. وأنّى يكون للدول الأولى مثل جلال الدولة بن عضد الدولة الهمام ابن الهمام الملك [13] عضد الدولة المعظم من الأخوال والأعمام، الحامى حوزة الإسلام، الملبّي لدعوة الإمام، الذي كرم طرفاه، وعظم شرفاه، ودانت لصولته الأمم، وانكشفت بدولته الظلم، وجرت بنصرته الأقدار، وانفتحت على يديه الفتوح الكبار، أطول الملوك باعا، وأحسنهم فى الدين ذبّا ودفاعا. فهو تاج على جبين الأيام الزاهرة المفتدية [1] . يزيد فى أنوارها، وركن الدولة القاهرة العباسية يدفع عن أقطارها. زاد على أنو شروان بفضله وبمعدلته، وأوفى على بهرام ببأسه ونجدته، وفضل أردشير بتدبيره وسياسته، وساوى الإسكندر بملكه وبسطته. فالشرق والغرب [2] مذعنان لطاعته، والبدو والحاضر منقادان لتباعته كل ذلك ببركات مخالصته لإمامه. وحسن نيته فى محبة أيامه. وأين كان لتدبير الأقاليم وزمّ أمورها، وحفظ الممالك وسدّ [3] ثغورها مثل نظام الملك قوام الدين الذي أعدّ للخطوب أقرانها، حين عجم بالتجربة عيدانها، وجمع رياسة السيف والقلم، لما كفل بسياسة العرب والعجم، بنقيبة فى الدولة ميمونة، وسريرة فى النصيحة مأمونة، وحزم لا يشان بهفوة، وعزم لا يخان بنبوة، وخلق لا تجد فيه عنفا، ورأى لا [14] ترى فيه ضعفا، وهيبة مع طلعة بشر، وتواضع مع رفعة قدر. فإذا قيل له اتق الله سمع وأطاع، وإذا   [1] . كذا فى مد: المفتدية. ولعلّه: المغتدية. [2] . فى مد: المغرب. [3] . فى الأصل: صدّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 خوّف بالله خاف وارتاع. فأفعاله أفعال العباد، وأخلاقه أخلاق الزهاد، مع انقياد الدنيا له فى الإصدار والإيراد، ونفاذ أمره على الرعايا والأجناد، وجمعه فى منهل العدل بين الظباء والآساد. فأىّ دولة تباهي هذه الدولة القاهرة فى مناقبها ومآثرها، وأىّ أيام تضاهى هذه الأيّام الزاهرة فى محاسنها ومفاخرها، وأىّ قول ينتهى الى حدّ وصفها وان امتدّ وطال، وأىّ بليغ يبلغ أمد فضلها وإن أسهب وقال. فأعود الآن الى ذكر ما أنا قاصده من الاختيار، متبرّئا من عهدة ما أورده من الأخبار، لأنّى أتبع فى كتاب التاريخ مسطورها، فأختار بحسب المعرفة عقودها وميسورها. وما عساه يندر من خبر شاذّ تلقف من أفواه الرجال، وخلا التاريخ من ذكره إمّا بخفاء أو نسيان أو إغفال. فإنّه يثبت فى بواطنه، وينظم مع قرائنه. وإذا انتهيت، إنشاء الله سبحانه، إلى أخبار زماننا اتسع المجال، وأمكن المقال، وعمدت حينئذ إلى ما شاهدناه وخبرناه فأخبرت به على وجهه وذكرته مجتهدا فى التحرّى وبحسب الإمكان الذي لا أقدر على سواه، [15] وبقدر الوسع الذي لا يكلّف الله نفسا إلّا إيّاه. وأوّل ما أبدأ به الآن فى كتابي، هو آخر ما ختم أبو على مسكويه [1] رحمه الله، به كتابه فى سنة تسع وستين وثلاثمائة، والله تعالى ولى حسن التوفيق، والهادي فى جميع المقاصد إلى سواء الطريق، وبه أعوذ من الخطل، واعتصم من الزلل، وإيّاه أسأل خاتمة جميلة، بالمغفرة كفيلة. إنّه غفور رحيم. (انتهت المقدمة)   [1] . وإذا قارنّا بين الموطنين اللذين أورد فيهما الروذراورى ذكر مسكويه، تبيّن لنا مرّة أخرى أنّ «مسكويه» لقبه هو، لا لقب أبيه محمد، أو جدّه يعقوب، انظر مقالنا فى التصدير، فى صدر الجزء الأوّل من تجارب الأمم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 [ تتمة خلافة الطائع الله ] [ تتمة سنة تسع وستين وثلاثمائة ] ذكر ما جرى عليه أمر عضد الدولة عند توجّهه إلى الجبل رحل بالعسكر من المصلى فى يوم السبت لثلاث خلون من ذى الحجة وقد استصحب أبا عبد الله الحسين بن سعدان ينفذ الأمور بين يدي عضد الدولة واليه عرض العسكر. فلما حصل بين حلوان وقرميسين عاده المرض الذي كان عرض له من قبل وحجب الناس عنه حجابا وقع به الإرجاف والاضطراب ثم أفاق وظهر وركب إلى قرميسين. ووافاه بنو حسنويه وقد كانوا راسلوا وبذلوا الطاعة بوساطة أبى نصر خواشاذه إلّا أنّه لم يقدر أنهم يأنسون إلى الحضور بأجمعهم. [16] ذكر القبض على بعض أولاد حسنويه واصطناع بعضهم حضروا المعسكر فأقعدوا فى خركاه من وراء السرادق ووكّل بهم خواص الديلم وغلمان الخيول ورتّب الأعراب والأكراد والرجالة [و] [1] الفرس من حوالى المعسكر وبظاهر البلد لئلا يفلت منهم أحد أو من أصحابهم وقبض   [1] . الواو زيادة من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 منهم على عبد الرازق وأبى العلاء وأبى عدنان وبختيار وعلى كتّابهم وأسبابهم ووجوه الأكراد الذين معهم. واستدعى بدر وعاصم وعبد الملك ووصلوا إلى حضرة عضد الدولة وخاطبهم بما رآه من اصطناعهم [1] وحملوا إلى الخزانة فخلع على بدر القباء والسيف والمنطقة الذهب وحمل على فرس بمركب ذهب وقلد زعامة الأكراد البرزيكانى ومن يجرى مجراهم وخلع على كل واحد من عاصم وعبد الملك الدراعة الديباج والسيف بالحمائل وحملا على دابّتين بمركبين مذهّبين ووضع على كل من كان مع المقبوض عليهم من الأكراد السيف ونهبت حللهم بما فيها. ونفذ أبو الوفاء طاهر بن محمد إلى قلعة سرماج فافتتحها [17] وأخذ ما كان فيها من ذخائر حسنويه. ودخلت سنة سبعين وثلاثمائة وسار عضد الدولة إلى نهاوند وأقام بها ورتّب العمال فى النواحي وجدّ فى تناول الموجود لانّه كان من رأيه أن يجعل همذان ونهاوند لمؤيد الدولة ويستضيف الدينور وقرميسين وما يجرى مجراهما إلى أعمال العراق. ثم انتقل فى صفر من نهاوند إلى همذان ونزل دار فخر الدولة بها. ذكر ورود الصاحب أبى القاسم إسماعيل بن عباد فى هذا الشهر ورد الصاحب ابن عبّاد الخدمة عن مؤيّد الدولة وعن نفسه فتلقّاه عضد الدولة على بعد من البلد وبالغ فى إكرامه ورسم لأكابر كتّابه   [1] . فى مد: واصطناعهم (بزيادة الواو) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 وأصحابه تعظيمه ففعلوا ذلك حتى انّهم كانوا يغشونه مدّة مقامه مواصلة ولم يركب هو إلى أحد منهم وكان غرض عضد الدولة بذلك استمالة مؤيد الدولة وتأنيس [18] الصاحب. ووردت كتب مؤيد الدولة يستطيل مقام الصاحب ويذكر اضطراب أموره ببعده فوقع الشروع فى تقرير ارتفاع همذان ونهاوند معهما عليه وتولّى أبو عبد الله محمد بن الهيثم عمل العمل بالارتفاع. ذكر عمل رتّب فى تكثير اعتداد بارتفاع صدر العمل بأن قال: مبلغ ارتفاع النواحي الفلانية. وتمّم الحكاية عن كذا وكذا ورقا صحاحا. من الورق ينفد الخرج كذا وكذا. وأضاف اليه الربع اعتمادا للتكثير. وأنفذ العمل مع أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف وأبى الوفاء طاهر بن محمد وأبى عبد الله ابن سعدان إلى الصاحب أبى القاسم ورسم لأبي عبد الله الحضور معهم عنده وموافقته على أبوابه ففعل واستوفى مناظرته وكمل الارتفاع بزيادة على موجودة. ذكر عود عضد الدولة إلى مدينة السلام [19] برز عضد الدولة إلى ظاهر همذان فى شهر ربيع الآخر للعود إلى مدينة السلام وخلع على الصاحب الخلع الجليلة وحمله على فرس بمركب ذهب ونصب له دستا كاملا فى خركاه يتصل بمضاربه وأجلسه فيه وأقطعه ضياعا جليلة من نواحي فارس وحمل إلى مؤيد الدولة فى صحبته ألطافا كثيرة وضمّ اليه من العسكر المستأمن عن فخر الدولة عددا ليكونوا برسم خدمة مؤيّد الدولة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 ذكر ما جرى عليه أحوال أولاد حسنويه بعد وما جرّه الحسد من إلقاء من نجا منهم بيده الى التهلكة لما قدم بدر وفضل بالسيف والمنطقة أحفظ ذلك عاصما وأوحشه وأقام قليلا ثم انحاز إلى الأكراد المخالفين خالعا للطاعة منابذا لبدر. فأخرج اليه أبو الفضل المظفر بن محمود فى عدة من الأولياء حتى أوقع بمحمود وأخذه أسيرا وأدخله همذان راكب جمل بدراعة ديباج ولم يعرف له خبر بعد ذلك وتفرّد بدر بالخدمة والانتساب [20] إلى الحجبة، وقتل جميع أولاد حسنويه. وفى هذه السنة ورد الكتاب بأنّ أبا على الحسن بن محمان أخذ المعروف بالصيداوى وقتله. ذكر حيلة تمت على الصيداوي حتى أخذ وقتل كان هذا الرجل أحد قطّاع الطريق فى أعمال سقى الفرات فاحتال أبو على ابن محمان فى أخذه بأن دسّ عليه جماعة من الصعاليك أظهروا الانحياز اليه، فلما خالطوه قبضوا عليه وحملوه أسيرا إلى الكوفة فقتله وأنفذ رأسه إلى مدينة السلام فشهره بها. وفى هذه السنة ورد كتاب أبى على الحسن بن على التميمي بالقبض على ورد الرومي [1] .   [1] . هو السقلاروس قد تقدم ذكره (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 ذكر السبب فى ذلك لمّا توفّى أرمانوس ملك الروم اتّفق أن نقفور الدمستق وهو رجل ذو سياسة وصرامة كان قد خرج إلى بعض بلاد الإسلام ونكأ فيها ثم عاد فعرف خبر وفاة أرمانوس حين قرب من القسطنطينية [21] فاجتمع اليه وجوه الجند وقالوا له: - «ان الملك قد مضى وخلف ولدين لا غناء عندهما مع صغر سنهما وما يصلح للنيابة عنهما فى تدبير الملك غيرك ونحن نرى ذلك من المصلحة للناس والمملكة.» فامتنع فراجعوه حتى أجابهم ودخل إلى الملكين وخدمهما وأظهر الحجبة لهما والنيابة عنهما ثم لبس التاج وتزوج بوالدتهما ثم وقع منه جفاء لها استوحشت به منه. ذكر تدبير دبّرته المرأة حتى تمّ لها قتل نقفور لقلّة حزمه راسلت ابن الشمشقيق وأطمعته فى قتل نقفور وأقامته مقامه فى التدبير واستقرّ الأمر بينهما على أن صار هو وعشرة نفر من خواصه سرّا إلى البلاط التي تنزلها هي ونقفور فأدخلته ليلا وكان نقفور يجلس أكثر الليل للنظر فى الأمور وقراءة السير ويبيت على باب البيت الذي يأوى إلى فراشه فيه خادمان، فلما حصل ابن الشمشقيق داخل البلاط هجموا على الموضع وقتلوا الخادمين وأفضوا إلى نقفور وقتلوه ووقعت الصيحة وظهرت القصة واستولى ابن الشمشقيق على [22] الأمر وقبض على لاون أخى نقفور وعلى ورد بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 لاون [1] فأمّا لاون فإنّه كحله وأما ورد فانه حمله إلى قلعة فى البحر واعتقله. وسار إلى أعمال الشام وفعل فيها الأفاعيل وانتهى إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فنزل عليهم ونازلهم. [2] فكان لأمّ الملكين أخ خصىّ وإليه وزارة الملك منذ أيام الملك أرمانوس واسمه بركموس [3] فقيل: إنّه دس على ابن الشمشقيق سمّا فى طعام أو فى شراب فأحسّ به ابن الشمشقيق فى بدنه فسار عائدا إلى قسطنطينية وتوفى فى طريقه واستولى بركموس على الأمر. وكان ورد بن منير [4] كبيرا من كبراء أصحاب الجيوش ومقيما فى بعض الأعمال فطمع فى الأمر وجمع الجموع واستجاش بالمسلمين من الثغور وكاتب أبا تغلب ابن حمدان وواصله وصاهره. وأخرج الملكان اليه عسكرا بعد عسكر فكسرهم واستظهر وسار إلى القسطنطينية ودهم الملكين ما ضاقا به ذرعا فأطلقا ورديس بن لاون واصطنعاه واستحلفاه على المناصحة وأنفذاه للقاء ورد فى الجيوش الكثيرة وجرت بينهما وقائع أبلى كل واحد منهما بلاء ظاهرا حتى تبارزا وتضاربا باللتوت إلى أن وقعت خوذهما عن رؤوسهما. ثم انهزم ورد ودخل إلى بلاد [23] الإسلام مفلولا وحصل بظاهر ميافارقين على نحو فرسخ منها- وأبو على الحسن بن على التميمي الحاجب إذ ذاك بها- وراسل عضد الدولة وأنفذ أخاه اليه فأحسن تقبّله ووثق اليه بخطه وأعاده عليه بوعد جميل فى إنجاده.   [1] . هو الففاس (ورديس) (مد) . [2] . ليراجع فيه تاريخ ابن القلانسي ص 12- 14 (مد) . [3] . هو باسيل أخ لجدة الملكين (مد) . [4] . هو السقلاروس (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وتلاه رسول ملك الروم يلاطف عضد الدولة فى أمره [1] فقوى فى نفسه ترجيح جانب ملك الروم على ورد وبدا له رأى فى تدبير القبض عليه فكاتب أبا على التميمي بالتوصل إلى تحصيله. فخرج أبو على اليه بعد مراسلة ترددت بينهما فى الاجتماع وقبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه وحملهم إلى ميافارقين ثم أنفذهم إلى مدينة السلام. رأى صواب رآه أصحاب ورد وأشاروا عليه فأهمله واستبدّ برأيه كان وجوه أصحاب ورد اجتمعوا اليه قبل القبض عليه وقالوا: - «لسنا نرى أمرنا مع عضد الدولة مستقرّا عن نصرة ومعونة وقد تردّد بينه وبين ملكي الروم فى معنانا وانّا لا نأمن أن يرغّباه [24] فينا فيسلمنا والوجه الاستظهار وترك الاغترار وأن نفارق موضعنا عائدين إلى بلاد الروم على صلح إن أمكننا أو حرب نبذل فيه جهدنا، فامّا ظفرنا أو مضينا أعزاء كراما.» فقال: «ما هذا رأى، ولا رأينا من عضد الدولة الا الجميل ولا يجوز أن نقصده ثم نتصرف عنه من قبل أن نبلو ما عنده.» فلما خالفهم وتركهم تركه كثير منهم وفارقوه. فأقام ورد وأخوه وولده وتحصلوا فى الاعتقال إلى أن أفرج عنهم صمصام الدولة فى آخر أيامه على ما يأتى ذكره فيما بعد إن شاء الله.   [1] . قد ذكر صاحب تجارب الأمم هذه الرسالة فيما تقدم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 ذكر ما جرى عليه أمر فخر الدولة لما صار إلى قزوين بعد هزيمته من همذان قفل عنها إلى بلاد الديلم وحصل بهوسم [1] وأقام بها مدّة. وتردّدت بينه وبين قابوس بن وشمكير [2] مراسلات وأيمان وعهود سببها الاجتماع على عداوة عضد الدولة ومؤيدها، ثم سار إلى خراسان لاستنجاد صاحبها. ودخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة [25] كان عضد الدولة أنفذ أبا نصر خرشيد يزديار [3] إلى قابوس برسالة يستصلحه فيها فعاد بجواب ظاهره المغالظة وباطنه الملاينة [4] فسأل عضد الدولة الطائع لله أن يعقد لمؤيد الدولة أبى منصور على أعمال جرجان وطبرستان وينفذ اليه العهد واللواء والخلع السلطانية فأجابه إلى ذلك. وجلس فى محرّم هذه السنة وجرّد أبا حرب زيار بن شهراكويه إلى مؤيد الدولة عدد كثير وضمّ اليه أبو نصر خواشاذه وأصحاب خزائن المال والثياب والسلاح فوصلا إلى مؤيد الدولة وهو معسكر بظاهر الرىّ وأوصلا اليه الخلع السلطانية فلبسها وركب فى العسكر وسار. فلما انتهوا إلى استراباذ وبينها وبين طبرستان عشرة فراسخ وقابوس مقيم بها حفر بظاهرها خندقا أجرى فيه المياه وبنى عليه أبراجا رتّب فيه الرماة وعمل على المطاولة ولم يهمل مع ذلك الاستعداد للمواقعة إن دعته ضرورة   [1] . هوسم: من نواحي بلاد الجبل، خلف طبرستان (مراصد الإطلاع) . [2] . وردت ترجمته فى ارشاد الأريب 6: 143. [3] . وفى الأصل «بن زياد» والصواب فيما تقدم. [4] . فى الأصل: «المباينة» وهو تصحيف كما نبّه عليه آمد روز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 إليها ونزل مؤيد الدولة على فراسخ من البلد فى موضع ماء وجده، وأنفذ إلى طبرستان من دخلها وملكها لأنّ قابوس أخلاها وجمع العساكر عنده واحتشد بغاية جهده. وطلعت طلائع العسكرين وتمسّك قابوس بموضعه وتوقّف [26] مؤيد الدولة عن مقاربته إشفاقا من تعذّر الماء وأقام الفريقان على هذه الحال أيّاما. ذكر حرب جرت على غير ترتيب آل عقباها الى الخير والاتفاق لم يزل مؤيد الدولة يجيل الرأى ويعمل التدبير إلى أن عرف خبر واد بظاهر البلد يجتمع اليه مياه الأمطار فى أيّام الشتاء وأنّه متى سدّت أرجاء تقاربه وأسيح ماؤها اليه أمكن النزول عليه فركب هو وجماعة من خواصه فى عدد قليل من الغلمان لمشاهدة الموضع وتقدم إلى من كان خرج للمناوشة بالتوقف فى ذلك اليوم وأقام على الجبل من يمنع ويردّ. فما هو أن بعد عن العسكر حتى زحف الديلم منازعين إلى لقاء القوم وقابلهم عسكر قابوس بمثل حالهم واشتد القتال وبلغ مؤيد الدولة ذلك فقامت عليه القيامة وأنفذ جماعة من الحجّاب والنقباء فوجدوا الأمر قد فات عن حدّ القبول، فانكفأ حينئذ إلى موضع المعسكر. ولم تزل [27] الحرب قائمة على ساق إلى أن صوّبت الشمس للغروب. ذكر غلط جرى من قابوس فى ردّ أصحابه بعد أن لاح له الضعف من مؤيد الدولة وردّ قابوس أصحابه وعاد مؤيد الدولة إلى معسكره وقد قتل من أصحابه خلق وجرح أكثر ممن قتل من أصحاب قابوس وخرج فأنفذ مؤيد الدولة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 بدر بن حسنويه فى عدد كثير من الأتراك والأكراد إلى الجبل الحاجز بين الفريقين ليضبطه إشفاقا من أن يسير قابوس على أثرهم فانّه لو تبعهم لنكا فيهم وبلغ مراده منهم. واحتاج مؤيد الدولة إلى المقام أسبوعا حتى ثاب أصحابه واستراحوا وأجرى الماء إلى الوادي، ثم سار ونزل عليه ثم استعدّ أربعة أيام وزحف بعدها فى جميع العسكر. واشتبكت الحرب وحملت ميمنة مؤيد الدولة على ميسرة قابوس فكسرتها وفيها جمرة عسكره، فانهزم ودخل البلد مخترقا إلى جانبه الآخر وثبت القتال من ميمنة قابوس وفيها أخوه [28] جركاس ساعتين بعد الهزيمة لأنّهم كانوا من وراء غيضة ولم يعلموا الصورة، فلمّا عرف جركاس هزيمة قابوس انهزم لا حقا به. وأنفذ مؤيد الدولة جماعة فرسان من عسكره لاقتصاص أثره فنكب قابوس عن الطريق وسار مارّا على القلاع معتقدا لصعود أحدها متى أرهقه طلب إلى أن حصل بنيسابور واجتمع مع فخر الدولة هناك. ولمّا ملك فخر [1] الدولة استراباذ رتّب أمورها واستخلف أحد أصحابه فيها وسار إلى جرجان فنزلها وأقام بها وأنفذ أبا نصر خواشاذه إلى الحضرة ببغداد فى رسائل ووردها فى شهر رمضان مع الأسارى من أقارب قابوس ووجوه أصحابه فأعرض عضد الدولة عنه وأظهر الشكر [2] له وأخرج أبا على الحسن بن محمد إلى جرجان.   [1] . يظهر أنّ المراد مؤيد الدولة وليراجع التاريخ اليمينى 108: 1 الى 110: 1 (مد) . [2] . كذا بالأصل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 ذكر خيانة فى مشورة جرّت نكبة كان عادة أبى نصر إذا أنفذ إلى الرىّ وقرب منها أن يتلقّاه الصاحب أبو القاسم ابن عباد وإذا رآه أبو نصر أن يترجّل له فلمّا [29] خرج فى هذا الوقت مع زيار أحبّ أن يفعل مثل فعله لئلا يكون له، فى الامتناع منه زيادة رتبة عليه. فقال له زيار قول المستشير: - «ما الذي ترى أن تفعل فى خدمة الصاحب إذا لقيته؟» فقال: «أنت أعلم، إلّا أنّ عضد الدولة ينزله المنزلة الكبيرة ويؤثر أن يقضى حقّه، والذي أفعله أنا الترجل له ومتى فعلت ذلك لم تأمن أن يفعل مثل ذلك.» فحمل زيارا على أن يترجّل له عند خروجه لتلقّيه ولم يترجّل الصاحب ولا كان ممن ينقاد لهذا أو يسمح به وإنّما خدعه أبو نصر حتى تمّ غرضه. وبلغ عضد الدولة ذلك فغاظه غيظا عظيما أسرّه إشفاقا من أن يتأدّى الى الصاحب أبى القاسم فيه ما يوحشه، فلما ورد أبو نصر وفى قلب عضد الدولة من [1] هذا الأمر ما فيه اطّرحه وأعرض عنه ثم قبض عليه بعد مدة وحمله الى بعض القلاع بفارس. ولقابوس أبيات قالها بعد الهزيمة مستحسنة: قل للّذى بصروف الدّهر عيّرنا ... هل عاند الدّهر إلّا من له خطر أما ترى البحر تطفو فوقه جيف ... ويستقرّ بأقصى قعره الدّرر فان تكن نشبت أيدى الخطوب بنا ... ومسّنا من توالى صرفها ضرر [30]   [1] . فى الأصل ما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 ففي السّماء نجوم لا عداد لها ... وليس يكسف إلّا الشّمس والقمر سخط عضد الدولة على التنوخي وفيها سخط على القاضي أبى على المحسّن بن على التنوخي وألزم منزله وصرف عما كان يتقلّده. ذكر السبب فى ذلك كان التنوخي مع عضد الدولة بهمذان، فاتّفق يوما أنّه مضى إلى أبى بكر بن شاهويه وكان صديقه ومعه أبو على الهائم، فجلسا يتحدثان فى خركاه وأبو على على بابها وقال ابن شاهويه للتنوخى: - «أيها القاضي اجعل فى نفسك المقام فى هذا البلد مدة هذه الشتوة.» فقال: «لم.» قال: «لأنّ عضد الدولة يدبّر فى القبض على ابن عبّاد» وكان قد ورد إلى حضرته. فانصرف التنوخي من عنده فقال له أبو على الهائم: - «قد سمعت ما كنتما فيه وهذا أمر ينبغي أن تطويه ولا تخرج إلى أحد به ولا سيّما إلى أبى الفضل ابن أبى أحمد الشيرازي.» فقال التنوخي: - «أفعل.» ونزل إلى خيمته وجاءه من كانت عادته جارية بملازمته ومؤاكلته ومشاربته وفيهم أبو الفضل ابن أبى أحمد الشيرازي فقال له: - «ما لى [31] أراك أيها القاضي مشغول القلب؟» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 تفريط فى إذاعة سرّ عاد بوبال فاسترسل اليه وقال له: - «أما علمت أنّ الملك مقيم وقد عمل [1] على كذا فى أمر الصاحب وهذا دليل على تطاول السفر.» ولم يتمالك أن انصرف واستدعى ركابيّا من ركابيّة القاضي التنوخي وقال له: - «أين كنتم اليوم؟» فقال: «عند أبى بكر ابن شاهويه.» فكتب إلى عضد الدولة رقعة يقول فيها: - «كنت عند التنوخي فقال لى كذا وكذا- وذكر انه عرفه من حيث لا يشكّ فيه- وعرفت أنّه كان عند أبى بكر ابن شاهويه وربما كان لهذا الحديث أصل، فإذا ذاع السرّ فيه فسد ما دبّرته فى معناه.» فلما وقف عضد الدولة على الرقعة وجم وجما شديدا وقام من سماط كان عمله للديلم على منابت الزعفران مغيظا واستدعى التنوخي وقال له: - «بلغني عنك كذا وكذا.» فخجل التنوخي، ثم جمع بينه وبين أبى الفضل الساعي به، فواقفه فأنكره، وأحضر ابن شاهويه وسئل عن الحكاية فأنكرها، وسئل أبو على الهائم [32] عما سمعه فقال: - «كنت خارج الخركاه وما وقفت على شيء.» فمدّ وضرب مائتي مقرعة وأقيم فنفض ثيابه وقال:   [1] . وفى الأصل: عولت. والصواب فى الإرشاد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 - «أكثر الله خيركم.» واتّصل ذلك بعضد الدولة فأمر بضربه مائة مقرعة أخرى، واندفعت القصة فرجع التنوخي الى خيمته بعد أن ظنّ أنّه مقبوض عليه وبقي يتردّد إلى خدمة عضد الدولة مدة وهو معرض عنه حتى عاد له إلى بعض الإقبال عليه. ثم رحلوا إلى بغداد فرآه عضد الدولة وعليه ثياب جميلة وتحته بغلة بمركب ثقيل، فقال له: - «من أين هذه البغلة؟» فقال: «حملني عليها الصاحب بمركبها وأعطانى عشرين قطعة ثيابا وسبعة آلاف درهم.» فقال: «هذا قليل لك مع ما تستحقّه عليه.» فعلم التنوخي أنّه اتهمه بذلك الحديث. وورد عضد الدولة إلى بغداد فحكى له أنّ الطائع لله متجاف عن ابنته وأنّه لم يقرّبها فثقل ذلك عليه فقال للتنوخى: - «تمضى إلى الخليفة وتقول له عن والدة الصبيّة إنها مستزيدة لإقبال مولانا عليها.» فعاد التنوخي إلى داره ليلبس أهبة دار الخلافة. ذكر اتّفاق ردىء جاء بالعرض [33] فاتفق أنّ التنوخي زلق عند عوده إلى داره ووثئت رجله فأنفذ إلى عضد الدولة فعرّفه عذره فلم يقبله وأنفذ اليه من يستعلم ما جرى، فرأى غلمانه روقة وفرسا جميلة وعاد اليه فقال: - «إنّه يتعلل وليس بعليل وشاهدته على صورة كذا والناس يغشونه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 ويعودونه.» فاغتاظ غيظا مجددا حرّك ما فى نفسه أولا فراسله بأن: - «الزم منزلك ولا تخرج عنه ولا تأذن لأحد فى الدخول إليك.» [1] إلّا نفر من أصدقائه استأذنه فيهم، واستمر السخط عليه إلى حين وفاة عضد الدولة. وفى هذه السنة أطلق أبو إسحاق ابراهيم بن هلال الكاتب [2] من الاعتقال وكان القبض عليه فى سنة سبع وستّين وثلاثمائة. ذكر السبب فى القبض عليه والإفراج عنه كان قد خدم عضد الدولة عند كونه بفارس بالمكاتبة والشعر والقيام بما يعرض من أموره بالحضرة، فقبله وأرفده فى أكثر نكباته بمال حمله اليه، ولما ورد بغداد فى سنة أربع [34] وستّين ازداد اختصاصه به حتى أشفق من المقام بها بعد عوده. فاستظهر له عضد الدولة بذكره فى الاتفاق الذي كتب بينه وبين عز الدولة وعمدتها أخيه واليمين التي حلفا بها وشرطا عليها حراسته فى نفسه وماله. فلما انحدر عضد الدولة لم يأمن على نفسه فاستتر حتى توسط أبو محمد ابن معروف أمره وأخذ له الأمان من عز الدولة وابن بقيّة وظهر، فتركه مديدة ثم قبض عليه بإغراء من ابن السراج لهما به، وما زال مقبوضا عليه حتى فسد أمر ابن السراج.   [1] . كأنه سقط: فلزم منزله ولم يأذن لأحد (مد) . [2] . وفى الأصل «هليل كاتب» وترجمة ابراهيم بن هلال الصابي موجودة فى ارشاد الأريب 1: 324 ووردت هذه الحكاية ص 330 رواية عن حفيده هلال بن المحسن الصابي (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 ذكر اتفاق عجيب فى خلاص أبى إسحاق وهلاك ابن السراج قد تقدم فى كتاب تجارب الأمم ذكر السبب فى القبض عليه عند إفاقة ابن بقيّة من علّته التي أشفى فيها فلمّا قبض عليه نقل القيد من رجل أبى إسحاق إلى رجله وعاد أبو إسحاق إلى خدمة عز الدولة وكتب عنه فى أيام المباينة بينه وبين عضد الدولة الكتب [35] التي تضمنت الوقيعة فيه [1] فنقم عليه ذلك. فلما ورد عضد الدولة فى الدفعة الأخيرة وحصل بواسط خرج أبو إسحاق بما فى نفسه من الحذر إلى أبى سعد بهرام بن أردشير وهو يتردّد فى الرسائل والوساطة، وسأله اجراء ذكره وإقامة عذره والاحتياط له بأمان يسكن اليه نفسه وكتب على يده كتابا. ففعل أبو سعد ذلك وتنجز له جواب كتابه وفيه توقيع عضد الدولة بالتوثقة والأمان، ودخل عضد الدولة بغداد فأجراه على رسمه. فلما حصل بالموصل كتب إلى أبى القاسم المطهر بن عبد الله فقبض عليه على مضض منه وكراهية. ذكر السبب فى ذلك لما أخرج إلى الديوان ما وجد فى قلاع أبى تغلب من الحسبانات والكتب لتتأمل، كان فيها الشيء الكثير من كتب عز الدولة إلى أبى تغلب بخط أبى إسحاق الصابي فحملت إلى عضد الدولة. فلمّا وقف عليها حرّكت ما فى   [1] . وفى الإرشاد: ومنها الكتاب عن الطائع لله بتقديم عز الدولة وإنزاله منزلة ركن الدولة وهو أعظم ما نقمه عليه (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 نفسه فكتب من هناك بالقبض عليه. فبقى فى الاعتقال يكتب إلى عضد الدولة ويستعطفه بأشعاره إلى أن [36] تقدم عضد الدولة إلى أبى القاسم المطهر بالانحدار إلى البطيحة فسأل حينئذ فى إطلاقه والإذن له فى استخلافه بحضرته لعناية أبى القاسم به فقال: - «اما العفو عنه فقد شفّعناك فيه وعفونا له عن ذنب لم نعف عما دونه لاهلنا- يعنى الديلم- ولا لأولاد نبينا صلى الله عليه- يعنى أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوىّ- ولكنا وهبنا إساءته لخدمته وعلينا المحافظة فيه على الحفيظة منه وأما استخلافك له بحضرتنا فكيف يجوز أن ننقله من السخط عليه والنكبة له إلى النظر فى الوزارة؟ ولنا فى أمره تدبير وبالعاجل فاحمل اليه من عندك ثيابا ونفقة وأطلق ولديه [1] وتقدم اليه بعمل كتاب فى مفاخرنا.» ففعل المطهر ذلك وعمل أبو إسحاق الكتاب الذي سماه: التاجىّ فى الدولة الديلمية. فكان إذا عمل منه جزءا حمله إلى عضد الدولة حتى يقرأه ويصلحه ويزيد فيه وينقص منه، فلما كان تكامل ما أراده حرّر وحمل كاملا إلى خزانته. وهو كتاب بديع الترصيف حسن التصنيف، فان أبا اسحق كان من فرسان البلاغة الذين لا تكبو مراكبهم [37] ولا تنبو مضاربهم. ووجدنا آخره موافقا لآخر كتاب تجارب الأمم حتى إنّ بعض الألفاظ تتشابه فى خاتمتها وانتهى القولان فى التاريخ بهما إلى أمد واحد والكتاب موجود يغنى تأمّله عن الإخبار عنه.   [1] . وهما المحسن وعمر، كذا فى الإرشاد (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 إنّ الجواد عيبه [1] فراره ومن العجب كيف نكبه عضد الدولة وهو الموصوف بحسن السيرة والإنصاف فى السياسة مع ما سبق اليه من خدمته وعرفه أولا من خلوص نيته وأعطاه أخيرا من أمانته وموثقته. إن كان الذي نقم عليه منه هو ما ذكر فى تاريخ من حال الكتب التي كتبها عن عزّ الدولة فغير مستحسن من الملوك أن ينقموا بغير حق وأن ينقضوا الأمان من غير موجب. فلو أنّ عضد الدولة أمره بمثل ما كان عزّ الدولة أمره به هل كان يقدر على خلافه مع كونه فى قبضة سلطانه؟ والله تعالى يقول: «إِلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» 16: 106 [2] . وربما خفى السبب أو أخطأ القياس والأشخاص تفنى والذكر يبقى والشاعر يقول: وكذلك الزمان يذهب بالنا ... س وتبقى الديار والآثار [38] ولو قال: «ويبقى الحديث والاخبار» لكان أقرب إلى الصواب فإنّ الديار تدرس والآثار تذهب والحديث يبقى والاخبار تروى على أنّ عضد الدولة أبقى عليه فى اعتقاله وعاود الحسنى فى إطلاقه وبدأ باستئناف الجميل معه. لو أنّ المنايا أنسأته لياليا ووجدت رواية أخرى [3] فى سبب إطلاقه وهو أنّ عضد الدولة رقّ له لما   [1] . وفى الأصل «عيبه» . [2] . س 16 النحل: 106. [3] . وهي رواية عن أبى ريان أحمد بن محمد الوزير: ارشاد ص 336. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 طال حبسه، وأنّ أبا الريّان وأبا عبد الله ابن سعدان تولّيا الإفراج عنه، ثم شغلت عضد الدولة علّته عن النظر فى أمره واظهار آثار الرضاء [1] عليه بالإحسان اليه وقد حكينا ما رأينا. وفى هذه السنة ورد عن أبى القاسم نوح [2] بن منصور صاحب خراسان رسول يكنى بأبى الغنائم فخرج أولاد عضد الدولة مع سائر الجيش لتلقيه وأكرم غاية الإكرام. وفيها أخرج معه أبو الغنائم نصر بن الحسين والقضاة وأبو محمد الجهرمى وأبو عقبة وأبو محمد ابن عقبة وسالم إلى أبى الغنائم [3] يذكّره بما يعتمده ويورده من جملتها العتاب على فخر الدولة وقابوس وايوائهما وأنّه: إن كان الوفاء بالمعاهدة التي جرت مع السلف واقعا فيجب ان يسلموها يدا بيد إلى مؤيد [39] الدولة ليحمل إليكم مال الموافقة سالفا وآنفا على العادة، فإن أردتم استئناف الصلح بيننا وهدر ما تقدم وأن تجعلوا إيواء العاقّ وقابوس- يعنى بالعاق فخر الدولة- عوضا عن المال بعناكم إيّاهما بالثمن الذي استرخصتموهما به فيبين على ممرّ الأيام الرابح منا ومنكم، وإن قال أبو العباس [4] أنّه يكلّمنا فى أمر قابوس وما كان يجب فى جواب شفاعتنا التسرع اليه، قيل له: - «قد اعترفت وقلت أنت وأبو الحسين العتبى [5] بأنّ الرجل أحد أصحابنا وأنّه جان علينا مستحق للعقوبة وأنّكم شافعون فى بابه ومعلوم أنّ الصلح   [1] . كذا فى مد: الرضاء، بالمدّ. [2] . وفى الأصل: روح. [3] . فى هذه الجملة اضطراب كثير. [4] . هو حسام الدولة تاش حاجب نوح بن منصور (مد) . [5] . هو وزير نوح بن منصور وليراجع التاريخ اليمينى. (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 معقود عن جرجان وطبرستان وعن غيرهما من قومس [1] بدامغان وكرمان وما يلزم واحدا منا ولا من صاحبك ان شفاعتهما ... ثم إنّا نقول فى الجواب: - «إنّه ما كان يجب التسرّع فى باب أبى الحسن ابن سمجور وقد شفعنا فيه، فإن كان ذلك واجبا علينا فهذا واجب عليكم وإن كان بكم التجني فهو ما لا يستعمله أصحاب التحصيل ولسنا ممن يتجنى عليه. وإن اخترتم استئناف الصلح على أن تطردوا العاقّ وقابوس طردا على أن لا يكونا فى بلادكم ويذهبا حيث شاءا [40] من أرض الله قبلنا، وان سألتم أن نرضى بمقامهما عندكم رضينا على أن ينفذا إلى بخارا وينفض عنهما أصحابهما وإن لم ينفضوا [2] عنهم فإنّهم سينفضون من ذات أنفسهم. وان سألتم أن نؤمنهما ليعودا إلى جملنا هدرنا ما تقدم من الموافقة واستقبال الوقت الذي يقع فيه الصلح، فنحن نفعل ذلك كرامة لذلك الكبير ولكن على أن يردوا حضرتنا ويكون ما نفعله معهم تبرّعا منّا ومؤكّلا إلى رأينا من غير اشتراط فذلك خير لهما. وان اخترتم بيعنا بمقامهما عندكم، فإنّنا نسمح لكم بهذين المقبلين المباركين ومال الصلح الذي تأخذونه منّا مستأنفا، فإنه سيذهب لكم عليهما وأكثر، فليس يحسن بكم أن تعطوهما أكثر من ذلك، فان أحسنتم إليهما خسرتموهما والمال جميعا ولم تحصلوا منهما على طائل، وان لم تحسنوا إليهما فارقاكم عن قلى وعادا إلينا بلا منة لكم علينا فى بابهما وتكون مفارقتهما لكم على ما يليق بهما إلى حيث يرمى بهما جدّهما الغار اليه.» وقد كنا نقول لقابوس: - «لا تقبل العاقّ ولا تؤوه، فقد سمعت ما كان من أبى تغلب ابن حمدان   [1] . فى الأصل: قوس. [2] . فى مد: لم يفضوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 حين قبل [41] بختيار الشقىّ ورأيت عاقبتهما، فإن كان محمودا فسترى مغبّة فعلك وسيرى العاقّ مغبة فعله.» ورأيتم فيهما ما يليق بهما ولله الحمد وقد اجتمعا عندكم وأنتم على بصيرة من أمرهما. فان استقر الصلح بنيسابور فليخرج إلى بخارا لعقد الوثيقة وإحكام الأمر على حسب ما رسمناه وبمحضر من القضاة والشهود ووجوه الحاشية والقواد والغزاة وأماثل البلدان، وإن أحبّ أن يتمّ ما خرج له القضاة الثلاثة من حضرتنا استخار الله فيه وتمّمه، وإذا عاد إلى نيسابور أحكم عقد الصلح فيها بشهادات الأماثل، وإن رأى الصواب فى أن يشهد على أبى العباس فى نسخة العهد الذي يتولى تجديده ببخارا أو يأخذ خطه فيها فعل. وقد كان عضد الدولة متوقفا عن إنفاذ أبى غنائم [1] وقال له: - «ان القوم قد غدروا ونكثوا العهد ورفضوا الودّ ولم يبق بعد إيواء فخر الدولة وقابوس هوادة.» وقد سبق منهم فى قصة ابن سمجور ما قد سبق مما يدلّ على فساد الدخائل. فما زال أبو غنائم يراجعه ويعرض عليه ما يصله من كتبهم الدالة على بذل الموافقة حتى أذن له فى الخروج على ما تقدم [42] ذكره إبلاء للعذر. فأمّا قصة ابن سمجور وتنكّر آل سامان عليه فالسبب فى ذلك أنّه كان رجلا قد حنكته التجارب وهذّبته الأيام ورأى الدولة الديلمية وهي فى ابتدائها تسرى فى البلاد سرى النار فى الهشيم فكان يرقع الخرق   [1] . وفى الأصل: أبى غانم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 ويعتمد الرفق [1] ويسلك طريق المفارقة فعرف عند آل سامان بالمداهنة والصغو إلى غيرهم وسعى بفساد ذات البين وأغمار حتى آل الأمر إلى ازالة قدمه عن مستقرها. وأخبرنا من نثق به عن صدر عظيم فى زماننا هذا انّه قال وضربه مثلا فى غرض له: - «انّ ابن سمجور كان كالسد لبلاد سامان يوارى عوراتهم ويغطّى هناتهم وكان يصرف ما يحصل من مال البلاد التي فى يديه فى مسالحها [2] ومحارسها وأنفذوا يلتمسون منه مالا ويتجنون عليه أقوالا وأفعالا.» فقال فى الجواب: - «اعلموا أنّ مثلي معكم مثل ستر من خرق على باب دار خراب، فدعوه بحاله مسبلا على الباب [43] فإنّكم ان رفعتموه بانت آثار الخراب.» فلم يقبلوا منه وكان الأمر كما زعم. ونعود إلى سياقة التاريخ: ودخلت سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة عدّة حوادث منها الحرب بين المؤيّد والفخر على باب جرجان وفيها أخرج أبو القاسم [3] سعد الحاجب وقراتكين مددا لمؤيد الدولة عند ورود فخر الدولة وقابوس وعساكر خراسان.   [1] . لعله الرتق (مد) . [2] . فى مد: مصالحها. والتغيير بقرينة «محارسها» . [3] . وفى الأصل «أبو الحسن» وهو غلط (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 شرح الحال فى ذلك قد تقدّم ذكر اجتماع فخر الدولة وقابوس بنيسابور، ولمّا حصلا بها أقام قابوس ومضى فخر الدولة إلى صاحب خراسان فاستجار به وسأله المعونة وأقام عنده إلى أن جرد معه ناس وجماعة من أكابر القوّاد وسارت الجماعة حتى نزلت على باب جرجان ومؤيد الدولة بها. ووقعت الحرب بين الفريقين أياما كانت بينهم سجالا، ثم وقع الخلف بين عساكر خراسان وانصرفوا، ورجع فخر الدولة وقابوس إلى نيسابور مفلولين. وفيها خرج أبو الفوارس [44] ابن عضد الدولة من بغداد الى كرمان للمقام بها والولاية عليها والإبعاد عن الحضرة، وقد كانت علّة عضد الدولة قويت واستحكمت. وفيها ورد أبو اسحق محمد بن عبد الله بن محمد بن شهرام ومعه رسول ملك الروم. ذكر ما جرى بين عضد الدولة وملك الروم فيما تردّدت به الرسالة كان سبب هذه الرسالة ما تقدم ذكره من دخول ورد إلى بلد الإسلام فخاف ملك الروم وأنفذ رسولا إلى عضد الدولة فى أمره. فأخرج أبو بكر محمد ابن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني بجواب الرسالة فعاد ومعه رسول يعرف بابن قونس فأعيد وأنفذ معه أبو اسحق بن شهرام فاستثنى على ملك الروم بعدّة حصون ووصل معه رسول يعرف بنقفور الكانكلى بهدية جميلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 نكت من جملة مشروح [1] وجد بخط [45] ابن شهرام دلت منه على دهاء وحزم وقوّة رأى قال: لما حصلت بخرشنة عرفت انّ الدمستق خرج من القسطنطينية آخذا فى الاحتشاد والاستعداد ومعه رسول حلب المعروف بابن مامك وكليب حمو أبى صالح السديد. فأمّا كليب فإنّه كان مع ورد وحصل فى جملة العصاة الذين أومنوا وأقرّوا فى بلد الروم بعد ان صودروا وهّم الروم بمصادرته أسوة بغيره وارتجاع الضياع التي سلمت اليه حين سعى فى تسليم قلعة برزوية إليهم، فتوصل كليب إلى البركموس والدمستق بما أرضاهما به وضمن لملك الروم فى أمر حلب وغيرها ضمانات دفع بها الشر العاجل وبذل تعجيل ما يتعلق بخراج حلب وحمص لما كان صهره وأنّه لا يخالفه، فتخلص بهذه الحجة. وأما رسول حلب فإنّه لم يفعل معه أمر الّا انّه طولب بخراج ما مضى من السنين. وحصل الدمستق بموضع عادل عن جادّة البريد فعدل ابن قونس بى اليه ووجدته حدث السن معجبا بنفسه لا يؤثر تمام الهدنة لا حوال منها أنّه يستغنى عنه فى العاجل فتبطل سوقه [46] ومنها أن يقع الطمع فيه من ملك الروم «ولا نأمن بوائقه» والثالثة ما يرجوه ويشتهيه لنفسه، الّا انه أظهر جميلا وقبل الهدنة وشكر عليها. ثم سألنى عما وردت فيه، فذكرت جملته وواقفه ابن قونس على نسخة الشرط فلما وقف عليه قال: - «لو تمّ للرؤساء ان نخلّى لهم عما يريدونه من البلدان والحصون باللطف   [1] . كذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 والرفق لكان كل رئيس يتلطف ويستغنى بذلك عن جميع الرجال وبذل الأموال.» قلت: «إذا كان اللطف والرفق من وراء قوّة وقدرة فهو دليل الفضل ويجب تلقيه بالقبول.» قال: «أما حلب فليست ببلدكم ولا يريدكم صاحبها وهذا رسوله وكليب يبذلان لنا خراجها ويسألان الذبّ عنها، وأما الحصون فإنّها أخذت فى زمان عمّى نقفور وغيره من الملوك ولا فسحة فى النزول عنها، فإن كان معك غير هذا وإلّا فلا تتعب نفسك بطول الطريق.» فقلت: «ان كان أمرك ملك الروم بانصرافي فعلت، وإن كنت قلته من تلقاء نفسك فيجوز أن يسمع الملك كلامي وأسمع جوابه وأعود بحجة.» فأذن لى فى السير. فسرت إلى القسطنطينية ودخلتها بعد أن تلقّانى من أصحاب [47] ملكها من أحسن صحبتي إليها فأكرمت وأنزلت فى دار نقفور الكانكلى الذي وصل الآن معى رسولا وهو خصيص بملك الروم، ثم استدعيت فدخلت إلى البركموس فقال: - «قد وقفنا على الكتب وقد أحيل فيها على ما تقوله، فاذكر ما عندك.» فأخرجت الشرط الظاهر فلما وقف عليه قال: - «أليس قد تقرر الأمر مع محمد بن الطيب (يعنى أبا بكر الباقلاني) على ما طلبتموه من ترك خراج بلد أبى تغلب الماضي والمستأنف ورضى بما شرطناه عليه من رد الحصون التي أخذت منّا والقبض على ورد وقد رضى مولاك بما شرطنا وفعل ما أردنا وطلبنا، إنّ خطه معك بتمام الهدنة.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 فقلت: «ما عقد محمد بن الطيب معكم شيئا [1] .» فقال: «ما خرج من عندنا الّا على تقرير ما شرطناه عليه وان ينفذ خطّ مولاكم بإتمامه.» فقد كان أحضر كتابه بالرضا بجميع ما يمضيه هو، فاحتجت إلى أن أتطلب مجالا أقاوم به مجالهم. ذكر بديهة جيّدة انقدحت لابن شهرام فى دفع حجّة الخصم فقلت: «ما عقد محمد بن الطيب شيئا [2] ولكن ابن قونس قرر هذا الشرط [48] وأخذ نسخته بالرومية.» فاشتطّ البركموس وقال لابن قونس: - «من أمرك بهذا؟» فقال: «ما قررت شيئا [3] ولا محمد بن الطيب قرر شيئا [4] .» وانصرفت. فاستعادنى بعد أيام وعاود قراءة الشرط ووقف عند فصل كان قيل فيه «ما تقرر مع شهرام على ما فى النسخ الثلاث» فقال: - «هذه واحدة وأين الأخريان؟» فرجعت إلى الموضع فوجدت السهو قد وقع فى ترك ذلك فقلت: - «معنى هذا اللفظ أن يكون الشرط على ثلاث نسخ، إحداها تكون عند   [1] . فى مد: شيء. [2] . فى مد: شيء. [3] . فى مد: شيء. [4] . فى مد: شيء. وهذا التكرار ينبئ عن أنّ الأصل كان كذلك عن قصد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 الملك [1] وأخرى بحلب والثالثة تكون بالحضرة.» قال ابن قونس: - «ليس كذا قيل لى «أمل علىّ تفسير الشرط» .» قال البركموس: - «لا ولكن هذه النسخة هي الظاهرة والأخرى بترك الحصون والثالثة بترك ذكر حلب وإمضاء الشرط على ما قرره محمد بن الطيب، وانما أنفذ هذا ليأخذ خطّ الملك وخاتمه بذلك.» فقلت: «هذا محال، وما عندي الا ما ذكرته من حال حلب والحصون على ما تضمّنه الشرط الذي وقفت عليه.» فقال: «لو كان ورد فى عسكره وقد [49] أخذتمونا كلنا أسرى ما زاد على هذا، فكيف ذاك أسير.» جواب سديد لابن شهرام فقلت: «أمّا قولك: لو كان ورد فى عسكره، فهو غلط لأنك تعلم أنّ أبا تغلب- وأقل تابع لعضد الدولة أكبر منه- عاون وردا فأهلك ملك الروم سبع سنين فكيف لو أمدّه عضد الدولة بعساكره! وهو اليوم وان كان أسيرا فى أيدينا فإنّنا لم نفعل به ما تفعلون أنتم بأسراكم من المثلة، وكونه بالحضرة أحوط لنا لأنّنا لم نستأسره، لربما كان يضيق صدره بمدافعتنا ايّاه أو ييأس [2] منّا فيستوحش ويمضى.» والآن فهو متصرف على أمرنا وساكن إلى ما شاهده بالحضرة من العز والأمن والحبل فى أيدينا بأطرافه.»   [1] . فى مد: ملك. [2] . وفى الأصل يأنس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 فاشتد عليه خطابي ووجم منه وعرف صحّته وقال: - «الذي تطلبه لا طريق اليه فان أردت إمضاء ما تقرر مع محمد بن الطيب والّا فانصرف.» فقلت: «ان أردت أن أنصرف من غير أن أسمع كلام ملك الروم فعلت.» فقال: «ما أقوله أنا عنه، ولكن استأذنه فى ذلك.» ثم استدعيت [50] بعد أيام فحضرت فاستعاد ملك الروم ما جرى فأعيد عليه بمحضرى فقال: - «يا هذا قد جئت بأمر منكر لانّه جاءنا رسول لكم فشرط علينا ما أجبناه اليه وشرطنا عليه ردّ الحصون التي أخدت أيام العصيان وتريد حصونا أخر وبلادا أخذها الملوك من قبلي، فإن رضيتم بما تقرّر أولا، والا فامض بسلام.» فقلت: «اما محمد بن الطيب فما قرر شيئا وأما الشرط الذي قد ورد معه فقد قطعتم فيه نصف بلدنا فكيف يجوز أن نقرّر علينا أمرا، فانّ الحصون التي فى ديار بكر منها شيء فى قبضك وإنّما هو فى أيدينا وليس لك فيها غير المنازعة ولا تدرى ما يحصل منها.» فقال البركموس: - «هذا رجل ذو جدل وتمويه للأقوال، والموت خير من الدخول تحت هذا الحكم، فدعه ينصرف الى صاحبه.» وقام فانصرفت. فاستدعاني البركموس بعد أن تكاملت مدة مقامي شهرين فى القسطنطينية وأحضر القربلاط والد الدمستق وهو مكحول وعددا من البطارقة وتناظرنا فى أمر الحصون، وبذلوا خراج حصن كيفا الذي فى يد والدة أبى تغلب وهو يؤدى الخراج إليها فقلت: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 - «أنا أدع لكم [51] خراج سمند [1] .» فقالوا: «ما معنى هذا؟» فقلت: «إنّما نذكر الأطراف فى الشرط لتعلموا أنّ ما وراءها داخل فى الهدنة معها وحصن كيفا داخل من دون آمد بخمسة أيام فكيف تذكرونه؟» وجرى جدل فى أمر حلب حتى قال القربلاط: - «إن حمل صاحب حلب الخراج إلينا علمنا حينئذ أنّك مبطل فى قولك، وأنّه يريدنا دونكم.» قلت: «وما يؤمنني أن تحتالوا على كاتبه كليب حميه حتى يعطيكم شيئا تجعلونه حجة؟ فأمّا بغير حيلة فأنا أعلم أنّه لا يكون.» وانصرفت. ثم أحضرنى ملك الروم بعد ذلك وقد وصل خراج حلب، فوجدت كلامهم غير الاول قوة وتحكّما فقالوا: - «هذا خراج حلب قد حضر وصاحبها قد سألنا أن نشارطه على حرّان وسروج ومعاونته عليكم وعلى غيركم.» فقلت: «أما الخراج وأخذكم ايّاه فأنا أعلم أنّه بحيلة، لأنّ عضد الدولة ظنّ أنكم لا تستجيزون ما قد فعلتموه، فلم ينفذ عسكرا يمنع عسكركم، وأما ما تحكونه عن صاحب حلب، فأنا أعرف بما عنده وكلّ ما يقال لكم عنه غير صحيح، والدعوة فيها فهي قائمة لعضد الدولة.» قالوا: «هل معك شيء غير هذا؟» قلت: «لا.» قالوا: «فتودّع الملك [2] وتنصرف مصاحبا.» [52]   [1] . يعنى سمندو المذكورة فى قصيدة المتنبي (مد) . [2] . فى مد: فيودّع ملك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 قلت: «الساعة.» وأقبلت بوجهي نحوه لتوديعه. رأى سديد رآه ابن شهرام فى تلك الحال قال: ثم تأمّلت الحال فوجدت البركموس والقربلاط وجماعة معهما ليس يؤثرون الهدنة، وأصحاب السيوف يخافون لئلّا تبطل سيوفهم وتنقص أرزاقهم على رسم الروم إذا هادنوا، ولم يبق لى طريق سوى مداراة ملك الروم والرفق به فقلت: - «أيها الملك يجب أن تتأمّل ما فعله عضد الدولة معك ولم يعاون عليك عدوّك ولم يتعرض لبلادك أيام اشتغالك بمن عصى عليك، وتعلم أنّك إن أرضيته وحده وهو ملك الإسلام والا احتجت أن ترضى ألوفا من أصحابك، ثم لا تدرى هل يرضون أم لا، ثم إن لم يرضوا ربما احتجت الى رضائه [1] من بعد، وتعلم أنّ كل من حول عضد الدولة لم يرغبوا فى هدنتك وانّما هو وحده أراد ففعل ما أراد، ولم يقدم أحد على مراجعته، وأراك تريد هدنته ولعلّ من حولك لا يساعدونك على مرادك.» فاهتزّ لخطابى وبان فى [53] وجهه الامتعاض من علمي بالاعتراض عليه من أصحابه، وقام وانصرفت. وكان المشرف علىّ الخصيص بملك الروم، وهو الذي يوقع عنه بالحمرة ولا يمضى أمر دونه، نقفور الكانكلى الذي وصل معى رسولا فسألته أن ينصرف معى ففعل.   [1] . كذا فى مد: رضائه، بالمدّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 ذكر ما رتّبه ابن شهرام مع خصيص ملك الروم حتى بلغ به غرضه فلما خلوت به قلت: - «أريد أن تتحمل عنى رسالة الى ملك الروم فقد طال مقامي وتعرّفنى آخر ما عنده، فان فعل ما أريده والّا فلا وجه لمقامى.» ولا طفت هذا الكانكلى بشيء حملته اليه ووعدته عن عضد الدولة بجميل وكان مضمون رسالتي: «انّه يجب عليك أولا أن تحفظ أيها الملك نفسك ثم ملكك ثم أصحابك، ولا تثق بمن صلاحه فى فسادك. فانّ بمعاونة أبى تغلب عليك تمّ فى بلد الروم ما جرى، وكيف تكون الحال مع عضد الدولة ان عاون عليك أيها الملك؟ وانّى [54] أرى أصحابك لا يريدون تمام الهدنة بينك وبين أوحد الدنيا وملك الإسلام، والإنسان لا يخفى عليه إلّا ما لم يجرّبه، وأنت فقد جربت سبع سنين عند عصيان من [1] عصى عليك لملكك وملكك لا نفسك يبقى [2] الروم فما يبالون هذا ان لم يتحرك هو بنفسه. وقد نصحت لمّا رأيت من ميل صاحبي إليك وإيثاره لك، فتأمل خطابي واعمل بعد ذلك برأيك.» فعاد نقفور وقال: - «يقول لك: الأمر كما ذكرت، ولكن ليس يمكن مخالفة الجماعة ويرونى بصورة من قد خانهم وأهلكهم ولكن سأتمم الأمر وأفعل ما يمكن فعله.» ومن الاتفاق الحميد أنّ البركموس مرض مرضا شديدا فتأخر عن الركوب   [1] . وفى الأصل: مع. [2] . فى الأصل: يبقى نفسك، والتصحيح من حواشي مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 وتردّدت الرسالة بيني وبين ملك الروم. ثم استدعاني أيّاما متوالية وتولى خطابي بنفسه وساعدني الكانكلى بغضا للبركموس ومنافسة له، الى أن أجاب الى الهدنة على جميع ما تضمنه الشرط بعد مراجعات جرت لإخراج حلب فإنّه ما أجاب اليه. فلمّا ضايقته فيه وقلت: - «هذا كله بغير حلب لا يتم.» فقال:- دع هذا فلا نسلّم غير ما سلّمنا ولا نخلّى عن بلد نأخذ خراجه إلّا بالسيف، ولكنّى أحملك رسالة الى صديقي [55] ومولاك فإنى أعلم أنّه فاضل وإذا عرف الحق لم يعدل عنه.» ثم قال لمن حوله: - «تباعدوا.» وقال لى سرّا من كل أحد: - «قل له: والله إنى اشتهى رضاك ولكنّى أريد حجّة فيه، فإن أردتم أن نحمل إليكم الخراج عن حلب أو أتركه لكم تأخذونه على أن تصرفوا ابن حمدان عنها فافعلوا ما بذلتموه على لسان ابن قونس.» اشارة الى تسليم ورد. فقلت: «ما سمعت هذا ولا حضرته وإننى أستبعد فعله.» فتنكّر علىّ وقال: - «دع التطويل فما بقي شيء تراجعني فيه.» وأمر أن تكتب جوابات، فكتبت وأحضرت لتوديعه. واقع جيّد وقع لابن شهرام وأشفقت أن يعرض من المقادير فى موت من قد طلبوا تسليمه ما يعرض مثله فنخرج من الجميع بغير منية وتحصل الهدنة عن بلدنا الى دون الفرات وبلد باد بغير حلب فقلت: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 - «أنتم تعلمون أنّى عبد مملوك ولست مالكا وما أقدر أن أزيد على ما أمرت به وقد صدقتك عنه والذي شرطته الآن فى أمر حلب فقد حلفت لك أننى ما [56] سمعته بالحضرة. فهل لك أيها الملك فى أمر قد وقع لى أنّه صواب؟» قال: «ما هو؟» قلت: «تكتب كتابا بالهدنة بيننا وبينك عن جميع ما [فى] أيدينا من حمص الى بلد باد ولا نذكر فيه حديث من قد التمست تسليمه ولا غيره وتحلف بدينك وتوقع فيه خطّك وتختمه بخاتمك بحضرتى ويخرج به صاحبك معى الى الحضرة فإن رضى به وإلّا عاد صاحبك.» قال: «فاكتب أنت شرطا مثله.» قلت: «إنّ سلّمت أنت شرطك بما طلبت.» قال: «ان ذكرت فى خطك تسليم الرجل.» قلت: «لا أقدم على ذكر ما لم يرسم لى.» قال: «فإنّنى أكتب شرطين: أحدهما عما قطع الفرات وبلد باد والآخر بذكر حمص وحلب على الشرط، فإن اختار مولاك ما قطع الفرات على إبعاد ورد كان إليه، وان اختار الآخر فعل ما يختاره.» قلت [1] : «فيكتب الشرط ولا يذكر فيه شيء من هذا.» قال: «فتكتب أنت أيضا ما أعطى خطّا بغير خط آخذه.» قلت: «ولكن يكتب ترجمانك نسخة ما أقوله، فإذا رضى عضد الدولة بما تقوله كتبته بحضرته ووقع فيه بخطّه.» فرضي بهذا وكتبت الشروط والكتب عليه، وتقررت الهدنة على عشر   [1] . وفى الأصل: قال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 سنين. ولما فرغت من ذلك قلت له: [57]- «لا تجعل رسولك مثل فيج، ووافقه على ما تحبّ أن يفعله بعد ما تقرّر معى بحسب ما يشاهده وأمض كلّما يمضيه. فقال: «قد فعلت.» وكتب ذكر ذلك فى الكتب. وركب البركموس من داره لما برئ وقامت قيامته لأحوال: منها انفراد الكانكلى بصاحبه، ومنها إتمام الأمر بغير حضوره، ومنها أمر حلب وحمص وما ضمنه له كليب. كلام لملك الروم استمال به قلب البركموس قال له على ما حدّثنى به بعض خواصّهم: - «يا بركموس ما معى أحد يشفق علىّ مثلك ولا من يحل منى محلك، لأنّك منّى بأدنى نسب وسبب وهؤلاء فكما قال الرسول لا يبالون من كان ملكا، كنت أنا أو غيرى، ويجب أن تحفظ نفسي ونفسك ولا تسمع كلام القربلاط ولا تثق به ولا برأيه لنا، فقد علمت ما حدّثنا به ابراهيم عنه وعن ابنه [1] من إضمار الغشّ لملكنا وخبث نيّاتهما فى أمرنا.» قلت لمن حدثني: - «ومن ابراهيم؟» قال: «رسول كان للدمستق إليكم جاء الى الملك ناصحا وعرفوا أنّه [58] أنفذه إليكم يطالب منكم إعانته على العصيان.» فقبل البركموس [2] هذا القول من ملك الروم واستدعاني ورأيت من   [1] . وفى الأصل: أبيه. [2] . وفى الأصل: بركمونس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 خطابه وانبساطه معى غير الأول إلّا أنّه لم تكن تخفى على وجهه كراهية لهذا الأمر ورتّب معى هذا الكانكلى رسولا بعد امتناعه، لكن ملك الروم لم يجد أحدا يجرى مجراه فى ثقته، فألزمه وساعده البركموس عليه، فقال له: - «ليس بحضرة الملك أكبر منّى ومنك فإمّا أن تسير أو أسير.» وجدّ فى الأمر حتى ظننت أنّه فعل ذلك إيثارا لابعاده وحسدا لما رأى من اختصاصه. موت عضد الدولة وحضور رسول ملك الروم مجلس صمصام الدولة فهذه نكت معان من ألفاظ ابن شهرام وعضد الدولة عليل والناس عنه محجوبون فأمر بشرح ما جرى عليه أمره ليعرض- فإنّ علّة عضد الدولة التي توفّى فيها كانت فى هذا الوقت- وحضر رسول ملك الروم المذكور مجلس صمصام الدولة بعد وفاة عضد الدولة، وتسلمت الهدايا منه، وتمّم معه ما ورد فيه وكتب شرطان: أحدهما الهدنة التي قرّرها ابن شهرام على إتمام مبانيها وإلقاء مراسيها، والشرط الآخر بما تقرّر آنفا مع نقفور. [59] ذكر ما تقرّر فى أمر ورد وأخيه وولده جرت مخاطبات تقرّر آخرها على أن يقيم نقفور وينفذ صاحبا له مع رسول من الحضرة ليأخذ خط ملك الروم وخاتمه لأخى ورد وابنه والأمان والتوثقة لهما بضمان الإحسان وإعادتهما الى مراتبهما القديمة وأحوالهما المستقيمة. فإذا وصل ذلك أقدما حينئذ على ملك الروم مع نقفور ويكون ورد مقيما فى هذه البلاد ممنوعا من طروق بلد الروم بإفساد، فإذا عرف ما يعاملان به من الجميل فى الوفاء بالعهد المبذول لهما اتبعا حينئذ وردا فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 السنة الثالثة بعد أخذ التوثقة لهما بما يرضيهم حسب ما فعل مع ابنه وأخيه، وأن يكون ما يحمله الآن ابن حمدان من حمص وحلب الى ملك الروم من مال المفارقة عنهما محمولا على استقبال إطلاق ورد الى بلد الروم الى خزانة صمصام الدولة، فإن دافع ابن حمدان حينئذ عن حمل، ألزمه ملك الروم ذلك لئلا يتكلف صمصام الدولة [60] تجهيز عسكر اليه، وأن يجرى أمر بلد باد على ما كان عليه من الملاطفة التي كان يحملها الى ملك الروم على أن لا يعاون بادا ولا يجيره إن التجأ الى الروم. وأنفذ الشرطان جميعا وعاد الجواب عنهما بإمضاء ما تقرّر ثمّ تجدّد فى أمر ورد وإطلاقه من الاعتقال ما سيأتي ذكره من بعد [1] . وفى الثامن من شوال من هذه السنة توفى عضد الدولة وأخفى خبره. وفى التاسع منه قبض على أبى الريّان. فلمّا قبض عليه أخذت من كمّه رقاع مشدّدة ومنها رقعة فيها: أيا واثقا بالدّهر غرّا بصرفه ... رويدك إنّى بالزّمان أخو خبر ويا شامتا مهلا فكم ذى شماتة ... تكون له العقبى بقاصمة الظّهر فلمّا وقف أبو عبد الله ابن سعدان عليها قال لحاجبه: - «امض وسله عنها.» ففعل فقال: - «هذه رقعة أنفذها أبو الوفاء طاهر بن محمد الىّ عند القبض عليه ولست أحسن قول الشعر ولكن أقول إنّها [2] كانت من أبى الوفاء من قبل.   [1] . فى مد: بعده. [2] . فى مد: ابها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 ونختار الآن طرفا من سيرة عضد الدولة ونورده هاهنا عن ذكر خاتمة أيامه فإنّه أحفظ لترتيب القول ونظامه. [61] أخبار من سيرة عضد الدولة كان ملكا كامل العقل، شامل الفضل، حسن السياسة، كثير الإصابة، قليل السقطة، شديد الهيبة، بعيد الهمة، ثاقب الرأى، صائب التدبير، محبّا للفضائل، مجتنبا للرذائل، باذلا فى مواطن العطاء كأن لا سخاء بعده، مانعا فى أماكن الحزم حتى كأن لا جود عنده، يستصغر الكبير من الأمر ويستهون العظيم من الخطب. وكان يقول على ما يحدّث عنه: - «الأرض أضيق عرصة من أن تسع ملكين.» فأمّا أفعاله فى تدبير نفسه وترتيبه فى قسمة زمانه فإنّه كان يباكر دخول الحمام، فإذا خرج منه ولبس ثيابه أدى فرض الصلاة، ودخل اليه خواصه وحواشيه، فجلس منهم أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف بحضرته ويضع دواته بين يديه، ثم يؤذن لأبى القاسم المطهر بن عبد الله وزيره ومن قام مقامه بعده [62] فيسأله عما عمله فيما سبق التقدم به اليه، فيخبره بذلك ثم يذكر له ما عرض من الأمور ويستأذنه فى كلّ أمر فيوعز اليه بما يعتمده فيه. ويفعل مثل ذلك مع أبى الحسن على بن عمارة وأبى عبد الله ابن سعدان عارضى الجيش ذاك للديلم وهذا للاتراك والاعراب والأكراد. فإذا ترحّل النهار سأل عن ورود النوب المترددة بالكتب ولها وقت معلوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 تصل فيه وتراعى من ساعات النهار فإن اتفق أن تتأخر قامت القيامة ووقع البحث عن العارض العائق، فإن كان بعائق ظاهر فيه عذر قبل، أو عن أمر يحتاج الى إزالته أزيل أو من تقصير النوبيين أنزل العذاب بهم. ولقد ذكر بعض الطراد أنّ أحد المرتبين قالت له امرأته: - «قد طبخنا أرزا فتوقف لتأكل منه وتمضى.» فتوقف بقدر ما أكل وتأخرت النوبة ذلك المدى فضرب الطراد والمرتبون ما بين شيراز الى بغداد أكثر من ثلاثة آلاف عصا. لا جرم أنّ النوب كانت تصل من شيراز فى سبعة أيام وكان يحمل مع المرتبين بواكير الفواكه والمشموم من نواحي فارس وخوزستان فتصل طريّة سليمة. وقيل: إنّ بعض أصاغر الحواشي حمل فى النوبة [63] من همذان فى كتانتة [1] دنانير يسيرة الى منزله وقد كان عادتهم جارية بذاك فقصرت عن أهلها وعرف عضد الدولة الخبر فلم يزل يكشف عن ذلك إلى أن ظهر للخرائطى آخذ الدنانير فأمر بقطع يده. فإذا وصلت النوبة كان فضّ ختومها وفتح خرائطها وأخرج [2] الكتب منها بحضرته ويأخذ منها ما كان الى مجلسه ويخرج الباقي الى ديوان البريد فيفرّق على أربابه. ثم يقرأ الكتب اليه كتابا كتابا ويطرحه الى أبى القاسم عبد العزيز، فإذا تكامل وقوفه عليها جدّد أبو القاسم قراءتها عليه فيأمره فى جواب كل فصل بما يوّقع به تحته، وأخرج منها ما يأمر بإخراجه ليواقف عليه المطهر بن عبد الله أو من يجرى مجراه فى تذكرة وهي أبدا بين يديه يعلق فيها ما يعرض له.   [1] . فى مد: كتانة. [2] . فى مد: إخراج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 ثم يسأل عن الطعام عند فراغه من ذلك فإذا حضر الوقت الذي رسمه بالأكل فيه استدعاه فأصاب منه وطبيب النوبة قائم على رأسه وهو يسئله عن شيء شيء من منافع الأغذية ومضارّها ثم يغسل يده وينام، فإذا انتبه جدد الوضوء وصلى الصلاة الوسطى وخرج الى مجلس الشرب فجلس وحضر الندماء والملهون. ووافى أبو القاسم عبد العزيز فقعد [64] بحضرته على رسمه وعرض عليه ما كتبه الكتّاب أو كتبه هو بنفسه من أجوبة الكتب الواردة، فربّما زاد فيها أو نقص منها ثم تصلح وتختم وتجعل فى اسكدارها وتحمل الى ديوان البريد فتصدر فى وقتها. ومتى غاب أبو القاسم ابن عبد العزيز لأمر يقطعه أو تأخّر فى داره واحتيج الى كتاب يكتب، يستدعى كاتب النوبة فأجلس بين يديه وتقدم بما يريده اليه أو أملاه عليه وهو مع ذلك يشرب ويسمع الغناء ويسأل عمّا يمضى من أشعاره وما يجب معرفته من اخباره ولا يزال على ذلك الى أن يمضى صدر الليل ثم يأوى الى فراشه. وإذا كان يوم موكب برز للأولياء ولقيهم ببشر وتأنيس تعلوهما هيبة ووقار وأجاب كل ذى حاجة بما يجب فى السياسة من بذل ومنع، وتفرق الناس عند انتصاف النهار وأقام أصحاب الدواوين وكتّابهم الى حين غروب الشمس. فأمّا عموم الأيام فإنّ الأمر يجرى على ما تقدّم ذكره. عضد الدولة والجارية فيقال: إنّه مال فى بعض الأيام الى جارية ميلا دعاه إلى أن خلا معها خلوة أطالها وانقطع بها عن مراعاة ما كان يراعيه من الأعمال، فلمّا حاول النظر فى ذلك من غد وجده قد [65] تضاعف فشقّ عليه تلافى ما مضى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 ثم دعاه الشغف بالجارية الى أن خلا معها نوبة ثانية كالأولى فى الإطالة فوقف من الأمور أكثر مما كان، وتأمّل الصورة فرأى الخلل قد استمر، فأحضر شكر الخادم وتقدم اليه بأخذ الجارية وتغريقها فأخذها شكر وراعى ما عرفه من شدة وجده بها فاستبقاها ولم يحدث حدثا فى بابها. فلمّا مضت على ذلك أيام قال له: - «يا شكر لقد عجّلنا على تلك الجارية وكان التثبت أولى.» فقال: «يا مولاي قد والله تثبتّ فى أمرها خوفا من ندمك على ذهابها فاستبقيتها.» قال: «فردّها الى موضعها.» فردّها وعاود عضد الدولة الخلوة بها والانقطاع إليها وعاد الخلل الى حاله السالفة، فاستدعى شكرا وأمره بتغريقها وقال: - «ما يساوى طاعة النفس فى شهوتها ترك الدنيا وإفساد سياستها.» فغرقت ومضت الى حال سبيلها. هذه الحكاية وجدناها فى كتاب التاريخ كما سطرناها وهي حكاية مستفاضة قد سمعناها مختلفة النسبة الى عدة ملوك والله أعلم بالصحيح [1] . وكان ضبطه لداره أشدّ ضبط ونظره فى أمر الصغير من أمر الخزائن والمطابخ والاقامات [66] والوظائف مثل نظره الى الكبير من أمور الممالك، فلا يطلق درهما فى غير وجهه، ولا يمنع أحدا مما يستحقّه. تدبيره لجنده فأمّا ما ذكر فى أمر تدبيره لجنده فقد كانت أموالهم مطلقة فى أوقاتها   [1] . وفى ترجمة عضد الدولة فى تاريخ الإسلام أنّه كان من أفراد الملوك لولا ظلمه، كان سفاكا للدماء حتى إنّ جارية شغل قلبه بميله إليها فأمر بتغريقها. والحكاية موجودة فى الفخرى أيضا (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 متتبعة فى تصرفاتها وأكثر كتّابهم وأصحابهم عونا له عليهم. وطبل العطاء يضرب فى كل يوم ويحضر من ينتهى اليه الدعوة من القوّاد ومعه أصحابه بأحسن رتبة فقبض ماله والزيادات فى الأصول محظورة على العموم إلّا عند الفتوح وما تدعو السياسة اليه من استمالة القلوب. فقيل إنّ طغان الحاجب- وكان أكبر الأتراك فى دولته- راسل عضد الدولة وقد جرده الى بعض الثغور وسأله زيادة عشرة أرطال خبزا فى خزانته، فدفعه عن ذلك وحمل اليه خمسة آلاف درهم صلة وقال له: - «هذا ثمن ما استزدتناه للسنين الكثيرة ولو أجبناك الى مرادك على ما طلبتنا به لا تفتح علينا باب لا يمكننا سدّه.» قصّته مع الوارد من الديلمان وحدث أبو الحسن ابن عمارة العارض قال: - ورد الى عضد الدولة فلان الديلمي [67]- وأسماه- من أرباب البيوتات المذكورة بديلمان فأكرمه وعظّمه وخلع عليه وحمله على فرس بمركب ذهب. واتفق أن دعا قائدا من أقاربه بالحضرة كانت له مروءة حسنة فشاهد من آلته ومروءته وزيّه وتجمّله ما كثر فى عينه، فاستقصر حاله عند ما شاهده فأحضر كتابا كان عضد الدولة قد استخدمه له وقال له: - «قد دعاني ابن عمى ورأيت من مروءته ما استحسنته وشاهدت عليه فرجية ورداء من حالهما كيت وكيت وأريد ان تبتاع لى مثلها.» فقال: «نحتاج لثمن ذلك الى ما تقصر عنه أيدينا فى هذا الوقت.» فقال: «خذ المركب الذهب فارهنه.» فصار الكاتب الى عضد الدولة فعرّفه ما جرى، فاستدعاني- يعنى أبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 الحسن ابن عمارة العارض نفسه- وقال لى [1] : - «أحضر فلانا القائد الذي دعا الديلمي الوارد من ديلمان.» فأحضرته وعرّفته حضوره، فقال: - «اخرج اليه وقل له: ليس يكفيك بطرك بالنعمة الخالصة لك وتشاغلك بالتترّف عن الجندية وشروطها حتى تريد أن تفسد عسكرنا علينا وتعمل الدعوات وتظهر الزينة. الآن قد ندبناك للخروج الى البلد الفلاني فتأهّب واخرج.» [68] قال: «فلما أوردت عليه هذا القول قبّل الأرض وتنصّل وكاد يموت، وانصرف على عزم الخروج.» ثمّ رسم بعد ذلك إحضار الديلمي الوارد من ديلمان، فلمّا حضر أمر أن يفرش له بساط منجرد ويطرح عليه صدر مثله وثلاث مخادّ مخلقة ولبس جبّة رثّة وعمامة شهجانى [2] وجلس وأوصل الديلمي وتشاغل عنه ساعة، الى أن علم أنّه قد شاهد فرشه وثيابه وسأله عن حاله وخاطبه خطاب مؤانس له: - «أراك يا فلان تتأمّل فرشنا وثيابنا ولعلك تقول- كيف يقنع ملك الدنيا بهذا؟ نعم إنّ الشرف والجمال بالأصول والأفعال والمواقف فى التدبير والحروب، والثياب الحسان والترفّه، والنعمة للنساء والمخانيث، وتالله إنّ الرجل ليدخل علىّ وهو متصنّع متعمّل، فأتصور أنّه فارغ عاطل، ويدخل وهو مقتصد مسترسل، فأراه بصورة من له نفس وهمّة.» ثمّ حادثه بعد ذلك ساعة وانصرف. [قال] وعاد الكاتب فقال له عضد   [1] . وفى الأصل: له. [2] . قال الثعالبي فى لطائف المعارف (119) : قد بقي الى الآن اسم الشاهجانى على الثياب الرقيقة، فإنّها كانت تجلب من مرو شاهجان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 الدولة: - «أى شيء جرى بعد انصراف صاحبك؟» قال: لما عاد من حضرة مولانا سألنى عما كان واقفنى على ابتياعه من الرداء والثوب للفرجية فأحضرتهما له. فقال: - «ردّهما على صاحبهما [69] وارتجع المركب وردّه الى موضعه.» فتبسّم عضد الدولة. وحدث أبو نصر خواشاذه قال: رأيه فى دفع المشاهرات «كان بالقصر جماعة من الغلمان تحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة بالحضرة. فلمّا كان فى آخر شهر قد بقي منه ثلاثة أيام استدعاني وقال لى: - «تقدم الى الخازن فى بيت المال بأن يزن كذا وكذا ألف درهم ويسلّمها الى أبى عبد الله ابن سعدان ليحملها الى نقيب الغلمان بالقصر. فقلت: «السمع والطاعة.» فأنسيت ذلك وسألنى عنه بعد أربعة أيام، فاعتذرت بالنسيان فخاطبني بأغلظ خطاب فقلت: - «أمس كان استهلاك الشهر والساعة تحمل المادة وما ههنا ما يوجب شغل القلب بهذا الأمر.» فقال: «المصيبة بما لا تعلم، ما فى فعلك من الغلط أكثر منها فيما استعملته من التفريط، ألا تعلم أنّا إذا أطلقنا لهؤلاء الغلمان ما لهم وقد بقي فى الشهر يوم كان الفضل لنا عليهم، وإذا انقضى الشهر واستهلّ الآخر حضروا عند عارضهم فأذكروه فيعدهم، ثم يحضرونه فى اليوم الثاني فيعتذر إليهم ثم فى الثالث فتبسط فى اقتضائه ومطالبته ألسنتهم، فتضيع المنّة وتحصل الجرأة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 ونكون الى الخسارة أقرب منّا الى الربح.» ولعل عضد الدولة نظر [70] فى هذا الوقت الى ما وجد فى سيرة المعتصم رضوان الله عليه، وهل ينكر لبنى هاشم أن يقتدى بأقوالهم أو يهتدى بأفعالهم وهم الأصدقون أقوالا، والأكرمون أفعالا، والأشرفون أنسابا، جبال الحلوم، وبحار العلوم، وأعلام الهدى، وساسة الدين والدنيا، وفرسان الحروب والمحاضر، وأملاك الاسرّة والمنابر، الى مكارمهم ينتهى الكرم، وبمآثرهم تنجلي الظلم، المعتصم بينهم المعتصم. خبر مأثور فى سياسة جند يقال: إنّ جندا كانوا بدمشق فطالبوا عاملها برزق استحقّوه وشكوا اليه ضيقة وحاجة، فاحتج بأنّ المال الحاصل للحمل، وأنّه لا يقدم على أخذ شيء منه، وسيقيم لهم وجوها من بعد، ودعتهم حاجتهم الى أن مدّوا أيديهم وأخذوا بعض ما يستحقّون وكتب العامل على البريد الى الحضرة بذلك. وكان المعتصم بنيّة الغزو وقام يكتب جوابه وقال: - «انتفيت من الرشيد لئن لم يعيدوا المال الذي أخذوه ساعة وصول هذا الأمر لأجعلنّ وجه الغزاة إليهم [71] ولأجعلنّهم حصائد السيوف.» فعاد الجواب أسرع ما يكون إلى العامل فأحضر الجند وقرأ عليهم الكتاب ونظر بعضهم الى بعض وقالوا: - «هو المعتصم وإنّه يقول ويفعل.» وتبادروا الى ردّ ما أخذوه، فما كان طرفة عين حتى اجتمع المال كأنّه لم يبرح وسألوا العامل التنصل عنهم الى المعتصم وذكر صورتهم التي أحلّت فى أمثالها المحرّمات فكتب بذلك الى الحضرة فأمر المعتصم بالجواب وذمّ فعل العامل وتبيّن خطيئته كيف جنى على السياسة وجرّأ الجند بتأخير أعطيتهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 عن أوان وجوبها، ويحذّره أمثالها، وأمره بإطلاق ما اجتمع لهم من مال استحقاقهم وإسلافهم عطاء آخر لحسن طاعتهم. ونعود الى ذكر ما نختاره من كتاب التاريخ [1] وحدّث أبو الحسن ولد عمارة قال: دخل بعض الأتراك الخواصّ الى ديوان الجيش ومعه صكّ يريد أن يثبته، فقال للكاتب: «أثبته.» فقال: «أنا مشغول بعمل استدعاه الملك وما أنا متفرغ لعمل صكّ [2] [72] اليوم.» فأخذ الحساب من يده ووضعه فى الأرض وقال له: - «قدّم أمرى أولا.» فكتب صاحب الخبر بذلك فى وقته فلم يستتمّ الكاتب اثبات الصكّ حتى استدعاني عضد الدولة وقال: - «قد جرى من فلان الديلمي كذا وكذا، فاخرج الى ديوانك واستدع الصكّ من كاتبك وحرّقه بين يديك، وتقدّم بأن تجرّ رجل الديلمي من موضعه الى باب العامة ووكّل به من النقباء من يطالبه بالخروج الليلة من البلد الى ديلمان.» ففعلت ذلك، وتقدّم فيما بعد ألّا تعمل أعمال الجند إلّا فى أيدى المديرين.   [1] . والواضح أنّ هذا تاريخ هلال الصابي (مد) . [2] . فى مد: صكك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 عضد الدولة وأسفار والتنّاء وقيل: إنّه كان رفع أسفار بن كردويه عن قبول الظلامات فيه ومطالبة كتّابه بحضور مجالس الحكم فيما يتعلق به إجلالا له، وأنّ أحد التنّاء [1] تظلّم منه فى معاملة ورفع قصّته [2] الى عضد الدولة فوقّع على ظهرها: أخونا [أبو] زهير يرتفع عن مثل هذا الفعل والدعوى عليه بذلك باطلة، وإنّ التوقيع حمل الى أسفار، فأنصف الرجل. وحكى عن بعض التنّاء أنّه قال: - حصلت ضيعتي فى أيام عضد الدولة فى إقطاع أسفار بن كردويه، وكان من الظلم على حال معروفة، وكان عضد الدولة قد رفع عنه وعن زيار بن شهراكويه العدوى [73] فى كل فعل وتتابعت علىّ جوائح ولم تحصل لى ما يفي بالخراج، فاجتمع لأسفار على ثلاثة آلاف وستمائة درهم اعتقلنى بها وأساء الىّ وقيّدنى وأدخل يده فى نيابتي فأقمت فى حبسه سبعة أشهر. فأنس بى الموكّل وعلم أنّى لا أتمكّن من الهرب مع القيد الذي فى ساقى فكان يستخلفنى موضعه عند خلوّ الباب وانتصاف النهار ويمضى الى منزله فيتشاغل بشغله ويعود. وضاق صدري، فانتهى بى سوء الحال وشدّة القنوط الى أن اخترت الموت على الحياة فحملت نفسي فى بعض الأيام عند مضّى البواب وخلوّ الباب على أن خرجت أمشى بالقيد. وكان أسفار ينزل فى دار صاعد بن مخلد بدرب الريحان والزمان صائف والماء ناقص، فلزمت شاطئ دجلة حتى وصلت الى الميدان الذي تحت دار   [1] . التّنّاء: المقيمون. [2] . فى مد: قصّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 عضد الدولة والناس يرونى فى طريقي، فمن منكر لى يقول: «مجنون وقد أفلت» ومن عارف بى قد علم أنّى هارب. فلمّا وقفت فى الميدان رأيت الستائر ممدودة وعضد الدولة قائم على الروشن وأنا لا أعلم، وعلى ابن بشارة الفراش على قرب منه، فصحت ودعوت، فبادر الىّ على بن بشارة وأومى الىّ «أن اسكت وصر الى باب [74] البستان» . فصرت اليه وخرج الىّ وقال: - «من أنت وما قصتك؟» فشرحت له حالي وظلامتي من أسفار، فأجلسنى عند البوابين وعاد، وإذا به قد خرج فأدخلنى وقال: إنّ الملك كان واقفا وقت مجيئك وهو الذي رآك فإذا رأيته فقبّل الأرض بين يديه وأكثر الدعاء له. فمشيت وأنا أحجل فى القيد حتى قربت منه فى الموضع الذي شاهدته أولا فيه، فتداخلني من الهيبة والجزع ما لم أملك نفسي معه، فقبّلت الأرض مرارا ودعوت له دعاء كثيرا وبكيت وسكتّ. فقال لعلى بن بشارة: - «قل له حتى يشرح صورته.» فقلت: «ما لى لسان يطاوعني على القول لعظم ما قد تداخلني من الرهبة والخوف.» فقال: «تكلم ولا تخف.» فقلت: «إنّ أسفار قبض ضيعتي وطالبني بما لا قدرة لى عليه وحبسني فى القيد منذ سبعة أشهر.» فأطرق ساعة ثم قال لى: - «عد الى دار أبى زهير وأعلمه أنك جئتنا وشرحت حالك لنا وأنّا أمرناك بالعود اليه.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 فقلت: «يا مولانا أخافه.» وجهلت فى قولي هذا. فقال: «لا تخف فأنا من ورائك وعد لتعرف ما ينتهى اليه أمرك.» فقبّلت الأرض وخرجت أجرّ نفسي وأحجل فى قيودي حتى وافيت باب أبى زهير، فإذا البوّاب [75] قد عاد فلم يجدني وبثّ الركابية والغلمان فى طلبى، وعرف أبو زهير خبري فضرب البواب مائة مقرعة والدنيا قائمة على ساق. فلمّا رآني الغلمان صاحوا: - «ها هوذا» وقالوا: - «أين مضيت؟» فقلت: - «مضيت الى الملك عضد الدولة فأوصلنى وشكوت اليه أمرى فأمرنى بالعود الى القائد وعدت.» فلمّا سمع الغلمان ذلك ذكروه لأسفار فأحضرنى وقال: - «أين كنت؟» قلت: «يا صاحب الجيش لما ضاق صدري وغلب يأسى صبري، قصدت باب الملك، فوجدته قائما على الروشن وبين يديه الأستاذ على بن بشارة، فدعوت له وشكوت اليه حالي فأوصلنى [1] وحدّثته حديثي فأمرنى بالعود إليك. فقلت: أخاف أن أعود. فقال: «عد فإنّنا من ورائك. وقد جئت.» فقال أسفار: - «تؤاخذ إذا.»   [1] . كذا فى مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 وأحضر من فكّ القيد وأعطانى عمامة وثوبا ومائة درهم وقال: «انصرف مصاحبا.» فقلت: «ضيعتي.» فقال: «اخرج إليها وتصرّف فيها ولا تطمع مستأنفا فى كسر خراجها.» فدعوت له وخرجت من عنده فمضيت من فورى ذلك الى روشن عضد الدولة وصحت ودعوت له. فدنا خادم من الروشن وأومى الىّ أن- «تقدّم الى الباب» فتقدمت اليه وجاءني الخادم فقال: [76]- «من أنت؟» فقلت: «المحبوس الذي كان منذ ساعة بحضرة مولانا.» وتقدم الىّ بالعود فدخل وخرج الىّ علىّ بن بشارة فأدخلنى، ورأيت الملك جالسا على عتبة البيت الذي بناه على دجلة، وغلمان وقوف بالقرب منه، فقبّلت الأرض ودعوت له، فقال: - «كيف جرى الأمر؟» فشرحت له الحال وأريته الثياب والدراهم التي أعطانيها أسفار. فاستدنى علىّ بن بشارة وأسرّ اليه شيئا [1] لم أسمعه، ثم قال لى: - «كم عليك لأبى زهير؟» فقلت: «ثلاثة آلاف وستمائة درهم.» قال: «نحن نؤدّيها اليه عنك لتبرأ منها فى ديوانه وتكون مقابلة له على الجميل الذي عاملك به.» فقبّلت الأرض ودعوت له، وأخذ علىّ بن بشارة بيدي ودخلت الى الخزانة فأخذ ثلاثة آلاف وستمائة درهم فى كيس، واستدعى أحد نقباء   [1] . فى مد: شيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 النوبة وقال له: - «امض مع هذا الرجل فاحمل هذا الكيس الى أبى زهير أسفار وقل له: هذه الدراهم التي أنفذناها إليك لعوض عملك على هذا الرجل، فأثبتها فى ديوانك باسمه.» فخرجت والنقيب معى والكيس معه، وصرنا الى دار أبى زهير ودخلنا اليه. فلمّا وضع النقيب الكيس بين يديه وأدّى الرسالة قام قائما وقبّل الأرض ثلاث [77] دفعات وقال: - «أنا عبد وخادم وهذا مال مولانا.» وهب لى خمسمائة درهم وللنقيب خمسمائة وانصرفنا.» الذي مضى فى هذين الخبرين هو تدبير لطيف وتوصّل جميل الا أنّ رفع العدوى عن أحد الاتباع وإن كان عظيم القدر مضر بالسياسة أىّ إضرار، والقاعدة إذا وضعت على ذلك كانت «عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ» 9: 109. [1] ولقد رأينا فى زماننا من سياسة ملك الإسلام عضد الدولة البارسلان رحمه الله وكان أقوى جندا، ما هو أوفى جدّا. وأين كان من الملوك من يصول كصولته ويهاب كهيبته! ونقتصر هاهنا على إيراد خبر واحد من أخباره التي ينتهى القول بنا [2] الى ذكر أيامه بمشيئة الله سبحانه. ذكر خبر فى إقامة سياسة حكى أنّ غلاما خصيصا بسنكلو أخذ من بعض المزارعين بطّيخا على قارعة الطريق بغير رضاه وانتهى الخبر الى عضد الدولة رحمه الله، فطلبه   [1] . س 9 التوبة: 109. [2] . لعله: بها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 فأخفى شخصه رجاء أن يسكن غضبه ويعفو عنه أو يقتصر من عقوبته على السوط دون السيف. فاستدعى بسنكلو الى بين [78] يديه وأقسم لئن لم يحضر الغلام ليقيمن السياسة فيه بدلا عنه- وسنكلو يومئذ صاحب الجيش ومعه جمرة العسكر وأمره قوى وجانبه منيع وهو أشد الترك بطشا وأخشن الجند جنبا- فملكه الرعب وكان قصاراه البدار بإحضار الغلام. فلمّا أحضر وسّطه بالسيف وأجرى الفرس بين شلويه على سنّة لهم فى قتالهم. قياس العضد بالمعتضد فى سياسة الجناة ويوشك أن يكون لهذه السياسة باطن بأن تكون قد سبق للغلام جريمة يستحقّ بها القتل وأتبعها بهذه الصغيرة التي يجرى فى مثلها التعزير فقتله عضد الدولة رحمه الله، بالجريرة الكبيرة التي أوجبت قتله، وأظهر للعامة أنّه قتله بصغيرته الظاهرة لهم اقتداء بخبر وجدته فى بعض الكتب مرويّا عن المعتضد بالله رضى الله عنه، وهو أنّه كان سائرا فى موكبه فتظلم أحد الرعية من بعض الجند فيما يقارب قصّة البطيخ، فأمر بإحضاره وسحبه الى السجن وحبسه الى أن يعود الى مستقرّ عزّه فيأمر فيه. فلمّا كان فى اليوم الثاني وأصبح الناس رأوا رجلا مصلوبا فتحدثوا بقتل الجاني بالأمس وصلبه. فدخل أحد خواص [1] المعتضد اليه وقال له [79] عند خلوّ مجلسه: - «يا أمير المؤمنين قد كان التعزير فيما جرى يقنع من غير صلب.   [1] . هو أبو محمد عبد الله بن حمدون النديم والحكاية موجودة فى إرشاد الأريب 1: 159 وفى كتاب الأذكياء لأبى الفرج بن الجوزي ص 42 قصة بطيخ أخذه بعض غلمان جلال الدولة رواها من تاريخ هلال الصابي (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 فقال له: - «أتعرف الرجل.» قال: «نعم.» قال: «فامض الى السجن فانظر. فلمّا دخل رأى الرجل حيّا وهو مقيد فعاد وقال: - «قد وجدته حيّا.» قال المعتضد: - «إنّما أمرت بإخراج غيره من المفسدين الذين قطعوا الطريق وأخذوا المال وقتلوا ووجب صلبهم، فهو الذي رأيتموه مصلوبا وظهر للعامة أنّ المصلوب هو الجاني بالأمس إيداعا للرهبة فى قلوبهم، فما تعديت حدود الله.» ولقد وفّق المعتضد بالله رضى الله عنه، وهل يدافع عن حسن سياسة يضرب بها المثل؟ وبلغني أنّ بعض أمراء مصر كثر المفسدون فى أيامه فقتل وتعدّى حدود الله التي أتت بها الشريعة فتضاعف الفساد حتى وقف أمره، فأشير عليه باتباع الشرع فأحضر أحد الفقهاء المجتهدين وشاوره واستفتاه وعرض عليه من فى السجون وذكر له أحوالهم، فأفتاه بما أمر الله تعالى به، فأقام الحدود فيهم بالعدل من غير زيادة ولا نقصان وسلك هذه الطريقة الحميدة فيمن ظفر به من المفسدين، فما مضى من الزمان إلّا قليل حتى استقامت له الأحوال فانقطع الفساد فأمنت البلاد [80] وليس للمخلوقين أن يحتاطوا بصلاح الأمّة بزيادة على أمر الخالق ربّ العالمين، سبحانه وتعالى. وما أحسن سيرة هذه الدولة التركية، فإنّ مندوبا للمظالم قد وسموه ب «أميرداذ» معناه أمير العدل يجلس للمظالم والى جانبه حاكم من أهل العلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 يرجع ذلك الأمير الى رأيه وكلمه وينفذ ما تأمر الشريعة فى الجند والرعية. وكلّ عبد من عباد الله تعالى فى إمداده بحسن التوفيق لم يهذّب بسياسة الأقرب فالأقرب ولم يذلّل بهيبته الأصعب فالأصعب، نسب [1] الى إحدى خطتين: إمّا ظلم فى طبعه وإمّا عجز فى نفسه، وكلتاهما غير حميدة. ولم يكن مثل ذلك يخاف على عضد الدولة بن بويه مع كمال فضله، ولعله سمح لأسفار وزيار بهذا الفعل. ان الخبر صحيح [2] لمداراة عاجلة، ليتلافاها من بعد بسياسة شاملة، فإنّ غوره كان بعيدا وصبره لمداواة كل خطب عتيدا. وهو من الملوك الذين لا يقدح الثلم فى سياستهم بحال، ولا يجد العيب فى سيرهم أدنى مجال. ونعود الى سياقة الأخبار حدّث أبو إسحاق ابراهيم بن هلال [3] الصابي قال: «لمّا ورد عضد الدولة فى [81] الدفعة الثانية خرجت لاستقباله الى المدائن وخدمته، وخفت أن يتطرّق على دارى الشاطئة [4] الترك فى سورة الدخول لأننى من حواشي البختيارية وسألته إنفاذ من يحرسها فأنفذ معى أحد النقباء الأصاغر وتقدّمت عائدا والنقيب معى. فكان يمضى أكثر النهار فى أشغاله. فاتفق أن هجم على الدار أحد القوّاد الأكابر وطرح أصحابه أحمالهم وفرشوا فرشهم وربطوا دوابّهم وتقدّموا إلينا بالانتقال فأيسنا من دورنا ومضى غلماني يطلبون النقيب. فلمّا حضر سلّم   [1] . فى الأصل: ونسب. [2] . يريد ان كان الخبر صحيحا (مد) . [3] . وفى الأصل هليل. [4] . وأمّا هذه الدار فليراجع ما قال فيها حفيده هلال فى كتاب الوزراء ص 288 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 على القائد وقبّل يده ووقف بين يديه وأخذ يحادثه ثم قال له الديلمي: «فيم جئت؟» قال: «أنفذنى الملك لأحفظ هذه الدور ممن يتعرّض لها.» فقال له: - «هذا كاتب من أصحاب بختيار فأىّ شيء بينه وبين الملك؟» قال: «كان يخدمه وله موضع عنده.» قال أبو اسحق: - فو الله ما استتمّ النقيب كلامه حتى نهض القائد الديلمي ورمى بكرسي كان جالسا عليه وقال لغلمانه: ارفعوا. وركب فى الحال وخرجوا بعده فما رأيت هيبة أعظم من هيبته.» وأمّا ذكر ما فعله فى أمر الحماية [82] فإنّه حمى البلاد من كل مفسد وحفظ الطرق من كل عائث وهابه الحواضر والبوادي. وكان منه فى قتل داود بن مصعب العقيلي آمر بنى عقيل وسيدها بأبى القاسم ابن الباهلي ما شاع ذكره. ذكر مكيدة فى قتل داود بن مصعب وكان من خبره أنّ عضد الدولة أنفذ أبا القاسم ابن الباهلي الى داود برسالة يدعوه فيها الى الطاعة والدخول الى بغداد وضمّ اليه عشرين رجلا من الحمدانية وواقفه على الفتك ان وجد غرّة منه. فلمّا حصل عنده وكان نازلا بالقرب من سنجار أورد عليه ما تحمله ورغّبه فى الخدمة فقال له داود: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 - «أما الطاعة فأنا ألزمها، وأما الدخول الى الباب فما جرت لى عادة به.» فلم يزل يراوضه وهو مقيم على أمره فيما بذله وامتنع عنه. وعوّل ابن الباهلي على اغتياله وواقف فراشا كان معه على ذلك، وطلب الغرّة فوجدها عند رواح الجمال والبقر والغنم، فإنّ الصياح يكثر والرجال والنساء مشغولون بإبلهم ومواشيهم وضمّها إلى [83] بيوتهم وحلب ألبانها فعمل على فعل ما يريد فعله فى هذا الوقت واستأذن على داود فى بعض العشايا وحضر عنده وأخذ فراشه معه- وقد خرج اليه بسره- ورسم له أن يمسك داود إذا خلا مجلسه وغمزه بعينه واستصحب سكّينا ماضية فى كمّه. وراحت الإبل والمواشي فارتجّت الحلّة بأصواتها وضوضاء الناس وحادثه ساعة ثم غمز الفراش فوثب وأخذ يدي داود ومسكهما وضربه ابن الباهلي بالسكّين فى صدره وكرر ذلك حتى أصاب مقتله وخرج غير عجل ولا مضطرب والفراش خلفه طالبا للصحراء والعبد عن البيوت كأنّه قاضى حاجة وقد أعدّ له وللفراش [1] فرسين فركباهما وسارا سيرا رفيقا حتى أوغلا فى الصحراء ثم حثّا وعدلا عن طريق الموصل وتعسفا الطريق الى برقعيد [2] ونزلا منها الى دجلة وانحدرا فى سفينة. ودخل أصحاب داود عليه بعد ساعة فوجدوه طريحا قتيلا ولم يجدوا ابن الباهلي فعلموا أنّ الفعل له. ومضى قوم من الفرسان يتبعون أثره فى الطريق المؤدية الى الموصل فلم يجدوه فأخذ من كان معه من كان معه من الحمدانية فقتلوا صبرا، ومضت على ذلك السنون وقتل ابن الباهلي بالكوفة قتله بنو عقيل. [84]   [1] . ولعلّه: الفرّاش، بدل «وللفرّاش» . [2] . برقعيد: بليدة فى طرف بقعاء الموصل من جهة نصيبين (مراصد الإطلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 وقد قيل: «كل قاتل مقتول» وهو أسهل الأمرين، لأنّ ما جاء من الوعيد فى القرآن وفى الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لمن قتل نفسا بغير حقّ مع ما يلقاه فى الدار الآخرة أشدّ نكالا وأعظم عقابا وأدوم عذابا، نسأل الله تعالى العفو والعافية فى الدنيا والآخرة. إطماع المطلوب فى الصفح عنه ثمّ الغدر به وذكر أبو الحسن محمد بن عيسى الهيتى قال: «أخرجت الى هيت لتقرير ارتفاعها وارتفاع الأنبار على أبى العلاء الحسن بن محمد الإسكافي، فورد علينا فى بعض الأيام كتاب من عضد الدولة يرسم فيه المسئلة عن أعرابى من بنى عقيل تناول شيئا [1] من بعض زواريق المعادن والمطالعة باسمه وحاله. فأحضرت الملاحين وسألتهم عن هذه الحال فلم يعرفوها، فكتبت بذلك وورد الجواب بأن نزيد فى البحث، فلم أزل أتعرف وأسأل كل واحد حتى ذكر لى بعض الملّاحين أنّ فلانا العقيلي اعترض سفينة من سفن المعادن وهي مصعدة والتمس من بعض المدادين قطعة من شاروفة فأخذها قهرا من صدره وأنّه لم يجر سوى ذلك فأحضرنا المسيّب بن رافع وطالبناه بالأعرابى فقال: - «ما تريدان منه.» فأعلمناه أنّ الملك طلبه. قال أبو الحسن الهيتى: وكان بيني وبين [85] المسيب أنسة ومودة فأقسم على أن اطلعه على الصورة فذكرتها له فانصرف واجما وغاب عنّا يومين ورجع ومعه جماعة من أهل المطلوب وبنى عمّه   [1] . فى الأصل: شيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 وسألونا الإمساك عنه وانتهى الأمر فيما بيننا وبينهم الى أن تصححوا ذنبه. قال أبو الحسن: - فلم أتجاسر على مكاتبة عضد الدولة بذلك. وكتب به أبو العلاء وعنده أنّه قد أثر أثرا منه فعاد الجواب اليه بإنكار ما كان منه فى قبول ما قبله من المال وإطماع القوم فى الرضاء [1] عنهم وأنّ الغرض حسم مواد الفساد فى الطرق وقيل له فيما خوطب به: - «لولا أنّها أول جناية لك لأنفذنا من يحسن تقويمك وتأديبك.» وكوتبت أنا بالتماس الأعرابى وأخذ المسيب بتسليمه وإطماعه واطماع بنى عمّه فى الصفح عنه إذا سلّموه فاعدتّ خطاب المسيب والقوم فى إحضار الرجل فأحضروه وسلّموه فاعتقلته وكتبت بحصوله. فورد الكتاب بأن أطالبه بالشاروفة التي أخذها فإذا أحضرها خنق بها فى الموضع الذي أخذها منه وصلب ففعلت ذلك. ثم راسل عضد الدولة المسيب ووجوه بنى عقيل بأنّه: متى لم يضمن أكابركم أصاغركم ويلزموا عهدتهم ويضبطوا الطرق [86] ويحموا مواد الفساد صرفناكم من ممالكنا. فحملهم الخوف على العبور الى الجانب الشامي وأوغلوا فى البرية.» ومن العجب من حسن سياسة عضد الدولة إطماع المطلوب فى الصفح عنه إذا حضر وإطماع بنى عمه فى مثل ذلك إذا أحضروه ثم الغدر به بعد تسليمه. قال الله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ» 5: 34 [2] . واستجابة الرجل الى الحضور طمعا فى الأمان قبل القدرة عليه هو توبة   [1] . كذا فى مد: الرضاء (بالمدّ) . [2] . س 5 المائدة: 34. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 فالغدر به بعد بذل الأطماع فى العفو قبيح إن كان ما ذكر فى هذه القصة صحيحا. قتل القطّاع بالحلاوات المسمومة ومن بعض توصله ما وجدنا فى عين التاريخ وهو أنّ عضد الدولة أنفذ أحمالا من الأمتعة الى مكة مع تجار أو حاج. فلمّا انتهوا الى بعض الطريق عند بعض أحياء العرب خرج عليهم قوم منهم فقطعوا عليهم فقال المأخوذ: - «هذه الأحمال لعضد الدولة الملك.» فسبّوه عند ذكره وعاد المأخوذ الى حضرة عضد الدولة وحكى ذلك. فتقدّم بعمل شيء كثير من الحلاوات المسمومة وأعاد المأخوذين وأصحبهم أمتعة وجعل تلك الحلاوة المسمومة فى جملتها وقال: - «تعمدوا لقاء القوم فإذا وقعوا [87] عليكم فقولوا: إنّ هذه الامتعة والحلاوات أنفذها عضد الدولة لفقراء مكة. فإذا أخذوا الأحمال فعودوا لوقتكم. ففعلوا ذلك وصادفوا القوم فأخذوا ما صحبهم وأكلوا من تلك الحلاوات فهلكوا. [1] فإن كان هذا الخبر صحيحا فإنّه كيد يأباه كلّ ذى دين ويأنف منه كل سلطان مكين. فذو الدين يراه من أعظم الآثام وذو السلطان يراه عجزا وضعفا فى الانتقام. وفيه تغرير نفوس من لا ذنب له. فهل كان يأمن أن يأكل من ذلك النساء والولدان ومن عسى أن ينزل بالحىّ من ضيف بريء الساحة؟ قال الله تعالى:   [1] . وردت هذه الحكاية فى كتاب الأذكياء ص 41 رواية عن تاريخ محمد بن عبد الملك الهمذاني (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى 6: 164. [1] واستفتى رجل ابن عباس رضوان الله عليه فى قتل أولاد المشركين فقال: - «ان علمت منهم ما علمه الخضر عليه السلام من الغلام الذي قتله فاقتلهم» إيجابا عليه بأنّه لا يجوز له قتل من لم يبلغ الحلم منهم. ومن غريب مكايد عضد الدولة ومن غريب مكايده التي تتداولها الألسن ما كاد به طائفة من القفص والبلوص حين أوغل فى بلاد كرمان لتنظيفها منهم [2] فإنّه انتهى اليه أنّ قوما منهم بيوتهم من وراء جبل بحيث لا يمكن الوصول إليهم إلّا بعد سلوك مضيق، إذا وقف فيه عدد قليل [88] منع عسكرا كثيرا. فلمّا أيس من الوصول إليها بالقوة أعمل الفكر فى الحيلة وراسلهم: بأنّى لا أنصرف عنكم إلّا باتاوة. فقالوا: «ما لنا مال نؤديه إليك.» فقال: «أنتم أصحاب صيد وأريد من كل بيت كلبا.» فهان عليهم ذلك فأنفذ من عدّ بيوتهم فأخذ منهم كلابا بعددها. ومن شأن الكلب أن يلوذ بصاحبه ويبصبص له وحوله، ويحتكّ به ويألف بيته حتى إنّه إذا أفلت من فراسخ كثيرة عاد الى مربضه. فأمر بأن يشدّ فى أعناقها حلق النفط الأبيض وتجتمع عند مضيق الجبل ثم تضرب النار فى النفط ويخلّى سبيلها ويتبعها العسكر. ففعلوا ذلك وأسرعت الكلاب عدوا وأحس القوم بركوب العسكر فلقوهم فى المضيق وطلب كل كلب صاحبه لائذا به من حرق النار. فكلّما احتكّ بالرجل أسرت   [1] . س 6 الأنعام: 164. [2] . وذلك فى سنة 364 كما تقدم ذكره (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 النار اليه وأفرجوا عن الطريق والكلاب تتبعهم، وتعدّت النار إليهم فاحترق عدد كثير منهم. وهجمت الكلاب على البيوت فخلا أهلها وأسرع العسكر وراءهم ووضعوا السيف فيهم واستأصلوا شأفتهم. إيداع الرهبة فى صدور الرعيّة فأمّا ما أقامه من الهيبة وأودعه [89] صدور الرعية من الرهبة فإنّه كان قد منع كل واحد من حمل السلاح بالحضرة إلّا من كان مستخدما فى المعونة أو مرتبطا فى جملة الرجالة المرتزقة، فإن وجد مع غيرهم سلاح أخذ وحبس وألزم جناية. وحظر أيضا أن يضرب واحدا أو يمدّ اليه يده، فمن فعل ذلك أخذ وعوقب وحبس واغرم فكانت أيدى الناس مقبوضة. قال صاحب التاريخ: وإنّنى لأذكر فى درب أبان من الجانب الشرقي وأبو اسحق جدّى [1] إذ ذاك فى الاعتقال وكان فى هذا الدرب رجل شيرازى رث البزّة يذهب فى أمره مذهب التطايب ويضحكنا إذا جلس معنا. فبينما هو فى بعض الأيام قاعد مع والدي على باب دارنا ومعنا رجل يعرف بابن مواتة من أولاد الشهود والجيران إذ اجتاز بائع رمان، فدعاه ابن مواتة وسامه وجرى بينهما ما رفع له ابن مواتة يده فلطمه. فقبض الرجل الشيرازي يده على كمّ ابن مواتة وقال: - «قم الى دار الملك.» قال له: - «أصنع ماذا؟»   [1] . أبو إسحاق هو ابراهيم بن هلال الصابي وحفيده هو هلال بن المحسن بن ابراهيم الصابي وهو «صاحب التاريخ» (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 قال: «أطالع بما فعلته من لطم الطوّاف ويؤخذ بحقّه منك ثم يجرى [90] حكم السياسة فيك.» لقد مات ابن مواتة خوفا وجزعا وعطف والدي على الشيرازي يسأله الإمساك والطوّاف يقول عند ما شاهده من الحال: - «قد وهبت وسامحت.» وهو يقول له: - «إذا وهبت حقّك وهب السلطان حقّه.» ويقول لوالدي: - «لا أتمكن من الإمساك لأنّ خبرنا قد رفع الساعة الى الحضرة وإذا أمسكت صار لى ذنب أهلك به وتنقطع معيشتي وأنا أرتزق رزقا سلطانيا على نقل هذه الأشياء.» وانتهت الحال الى أن قبّل والدي وابن مواتة يده فخلى عنه وقال: - «قد دخلت معكم فى خطر أسأل الله تعالى السلامة منه.» وصرنا بعد ذلك نخافه ونرهبه. وكان معلمو الصبيان مواقفين على أن يسألوا أولاد الجند الذين فى مكاتبهم عن أمور آبائهم ومتصرفات أحوالهم فى منازلهم ويكتبون بذلك الى ديوان البريد ولهم على ذلك رزق دارّ. ذكر حيلة لطيفة عادت باقامة هيبة عظيمة بين رعية بعيدة خبر الحلاوىّ [91] كان أحد جواسيس عضد الدولة العائدين من مصر ذكر لعضد الدولة فى جملة ما أخبر به أنّه تقدّم الى شيخ حلاوي فى زقاق القناديل بمصر فدفع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 اليه درهما تاجيّا ليبتاع به شيئا [1] مما بين يديه، فردّه عليه وتنازعا فيه فشتمه وشتم الآمر بضرب الدرهم وأنّه سأل عن اسم الحلاوى حتى عرفه وسمّاه. قال أبو عبد الله ابن الحسين بن محمد الحلاوى الموصلي: بينما أنا فى منزلي فى بعض الليالي إذ طرق بابى نقيب ومعه نفّاط فجزعت منه وخرجت إليه فقال لى: - «ابن محمان يستدعيك.» فمضيت معه إليه فلمّا حضرت بين يديه وجدت عنده فرّاشا من دار عضد الدولة فقال لى: - «إنّ مولانا سأل عن صانع حاذق فوصفت له ورسم إنفاذك الى الدار فصر مع هذا الفرّاش إليها.» فقلت: «السمع والطاعة.» فنزلنا سمارية من سماريات النوبة كانت مقدمة فى المشرعة وانحدرنا وصعدنا الى الدار فوقّفنى فى الصحن ودخل ثم خرج فأدخلنى الى الحجرة التي فى ظهر القبة الخضراء وإذا عضد الدولة جالس وشكر قائم. فلمّا رأيته قبّلت الأرض مرارا فقال الملك: - «قد أزعجت فلا بأس عليك وما دعوناك إلّا لخير.» [92] فقبّلت الأرض. ثم قال: - «قد احتجنا الى استخدامك فى أمر تنفذ فيه إلى الموصل وتقدّمنا بإطلاق نفقة لك تخلّفها لعيالك فخذها من أبى الثناء (يعنى شكرا) .» فقلت: «السمع والطاعة.»   [1] . فى مد: شيأ (إبقاء على ما فى الأصل) وقد تكرّر ذلك فى هذا الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 فقال: «انصرف وانظر فى أمرك وادفع النفقة الى أهلك ولا تعرّض أنت لأخذ شيء منها فما بك فى طريقك حاجة إليها.» فخرج شكر وأعطانى عشرين دينارا وانصرفت بها إلى أهلى وذكرت لهم الصورة ووصيّتهم بما أريد. فلمّا كان من غد آخر النهار وحضر من يستدعينى فصرت معه إلى الدار ووصلت إلى حضرة عضد الدولة بين العشاء والعتمة فقال لى: - «اخرج فى هذه الساعة مع من نسلّمك إليه إلى مصر فإذا حصلت بها فاقصد باب الجامع وسل عن منير الخادم الأبيض فإنّه يكون هناك يبيع الفراخ المسمنة وهو معروف فإذا رأيته فقل له: صديقك يقرئك السلام. فسيقوم من موضعه ويمشى فاتبعه إلى منزله فإذا دخلت فانزع ثياب سفرك التي عليك والبس الثياب التي يسلّمها إليك وخذ منه ما تريده لنفسك واقصد بعد ذلك زقاق القناديل فإنّك سترى شيخا حلاويا اسمه كذا ويعرف بكذا فاسئل عنه لتتحقق أنّه هو. ثم اجلس عنده فاذكر له صنعتك [93] ومعرفتك بأمر الحلواء وتوصّل إلى أن تعمل عنده من يومك والزمه وخفّف مؤنتك عليه وإن دعاك الى منزله فامض معه فإذا عملت معه خمسة عشر يوما أو أكثر وعرفك الناس واشتهر عنك جودة الصنعة فاستأجر بإزاء دكانه دكانا وابتع ما تريده من آلة ومتاع واستدع ثمن ذلك من منير الخادم فإنّ زبون الحلاوى سيعدل إليك ويقف أمره ويسئلك الشركة فإذا سألكها فأجبه إليها وشاركه وأقم فيها معه شهرا. ثم أظهر له شوقك الى بغداد والى عيالك الذين بها وصفها عنده وعظّم الكسب بها فى عينه وابعثه على الخروج إليها وعده المواعيد الكثيرة فإن احتجّ عليك بأهله وولده فقل له: معى دنانير وأنا أدفعها إليك لتجعلها نفقة لهم مدة غيبتك عنهم. وأعلمه أنّك تفعل ذلك إيثارا لصحبته وأنّه إذا حصل ببغداد أنزلته دارك وجعلته فى دكانك وأعطيته قسما وافرا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 الربح مما تتجر فيه من مالك فإن أحبّ بعد ما يشاهده المقام أقام وإن آثر العود إلى مصر زوّدته من طريق العراق ما يعود به إلى أهله واجهد فى حمله معك الى حضرتنا واخدم فى ذلك خدمة تحظ [94] بحسن العاقبة فيها وتناول من منير ما تحتاج اليه لنفسك وله واحفظ السر واحترس من حيلة تتمّ عليك واجتز على طريق الموصل فى عودك.» فلمّا سمعت ذلك كلّه قلت: - «السمع والطاعة وأرجو أن يوفّقنى الله لمّا أهّلت له.» فأخذ شكر بيدي وعدل بى الى موضع ونزعت ثيابي وألبست مبطنة ودفعت الىّ عشرون دينارا وقال: «هذه نفقة طريقك.» ثم استدعى أعرابيا اسمه حسّان جالسا فى الصحن وسلّمنى اليه وقال له: - «هذا الرجل فاحفظه وأوصله [1] الى حيث وقفت عليه.» فأخذ الأعرابى بيدي ونزلنا فجلسنا فى سمارية من سماريات النوبة وصعدنا باب خراسان ومشينا الى وجه الجامع فإذا هناك أربعة أجمال ورجلان من العرب وركبا وركب الأعرابى وركبت وسرنا وما زلنا من موضع الى موضع آخر حتى وصلنا إلى مصر فى سبع وعشرين ليلة فحطّنى القوم وقال لى صاحبي منهم: - «امض فى حفظ الله وهات علامة بوصلك.» فقلت: «العلامة أنّ مولانا قال لى: إذا عدت فخذ على طريق الموصل.» ولا والله ما سألونى من أنا ولا فى أىّ شيء توجّهت. وقصدت باب الجامع فإذا الخادم الأبيض فسلّمت عليه وقلت له [95] ما   [1] . فى الأصل: وواصله (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 وصيّت به فرحب بى ونهض معى فى الحال الى منزله ونزع ثيابي وأعطانى ثيابا نظافا من عنده. وجرى الأمر مع عضد الدولة [1] مدة مقامي بمصر على ما كان مثّله عضد الدولة حتى كأنّه حاضر معنا وما زلت أرفق بالحلاوى وأعده وأمنّيه حتى أجاب الى الخروج. فعدت الى الخادم وودّعته ونزعت الثياب التي أعطانيها ولبست المبطنة التي وصلت بها وأخذت نفقة وتوجّهت أنا والشيخ الحلاوى معى وما زلنا ننتقل من مكان الى مكان حتى وصلنا الموصل وأقاربى بها فنزلنا عند بعضهم. واستأجرنا فى كورة [2] البريد وما زلنا ننتقل الى أن وصلنا الى بغداد وانحدرنا الى منزلي والشيخ معى لنجدّد الوضوء ونصلى ونعبر. فما استقررت حتى حضر نقيب من الدار يستدعينى ومن معى فعجبت من ذلك وكان صاحب الخبر قد كتب يخبرنا فبادرت ومعى الشيخ وعبرنا الى الدار وجلسنا فى موضع منها الى أن خلا وجه عضد الدولة. ثم أدخلت والشيخ معى وقد طار لبّه وعظم رعبه وهو يحتسب الله علىّ وأنا أسكن منه وقد تداخلني له الرحمة الشديدة وعدل بى الى موضع فيه شكر فنزعت ما كان علىّ من الثياب وأنا أراها قد أخذت [96] وحملت الى حضرة الملك فأعطيت ثيابي التي نزعتها عند خروجي ومثلت بين يديه أنا والشيخ فقال: - «كيف جرى الأمر؟» قلت: «كما مثّله مولانا.» قال للشيخ: - «أأنت فلان بن فلان الحلاوى؟» قال: «نعم.»   [1] . لعله: وجرى الأمر مع من وصفهم عضد الدولة (مد) . [2] . لعله: ركوبة (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 قال: «لا تخف وإن كنت قد أسأت الى نفسك وجشّمتها السفر عن منزلك بالفضول من قولك وفعلك.» فبكى الشيخ بكاء شديدا فتركه قليلا ثم قال: - «يا هذا هبك رددت الدرهم الذي من ضربنا ولم تحبّ أخذه من الرجل الغريب الذي وقف بك فما بالك شتمته وشتمت الذي أمر بضربه؟ ولولا أنّ فى تأديبك والفتك بك، وأنت شيخ غريب ولعلّ وراءك من يتوقعك ومادته منك، بعض الإثم واللوم لأمرنا بتقويمك لكنا نهب جنايتك لمن خلفك من عيالك وقد تقدمنا بإطلاق نفقة لك تردك الى بلدك فلا تعاود مثل ما كان منك وتحدّث فى بلدك بصفحنا عنك وعن جرمك ومنّتنا عليك.» فبكى الشيخ حتى كاد يموت ولم يكن له لسان يجيب به وخرجنا وأعطانى شكر عشرين دينارا وقال: - «اصرفها فى نفقتك.» وأعطى الشيخ دنانير وحملته الى منزلي وأكرمته واستأجرت له ما ركبه فى بعض القوافل الى الموصل [97] . فذكر أنّ الشيخ لمّا عاد الى مصر تحدّث بحديثه وشاع ذلك هناك فكان الغريب إذا جلس الى بعض أهل البلد صاحوا: الحذر الحذر. فتمسك الناس عن ذكر عضد الدولة وقال الحسين الحلاوى: - «كانت فى المبطنة التي لبستها ملطفات وما علمت بها إلّا بعد عودي.» مراعاته للقوانين فى كلّ الأحوال وأما ذكر مراعاته للقوانين وحفظها فى الأحوال جميعا فإنّه كان لا يعوّل فى الأمور إلّا على ذوى الكفايات ولا يقضى فيمن لا غناء عنده حقوق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 ذوى الشفاعات ولا يجعل لمن حوله من ذوى المناصب ولا لأحد من الأقارب والأباعد مساغا فى الجنس المفوض الى كلّ فرقة منهم ويجرى الأمر فى ذلك على أحسن نظام ويزمّه بأحسن زمام. قال أبو محمد الحسن ابن أبى الفرج ابن مسلمة [1] الشاهد قال: - «أحبّ أبو العبّاس محمد بن نصر بن أحمد بن مكرم الشاهد أن تقبل شهادة أبى يعلى محمد ابنه وكان أبو عمر محمد ابن عبد الله بن أيّوب القطّان صهره على ابنته ومعاملا لأبى زهير أسفار [98] ابن كردويه ومختصّا به.» وقال أبو العباس لأبى عمر: - «أنا أعلم نبوك عن [2] أبى يعلى ابني لما تنكره من أخلاقه وقد أحببت أن تقبل شهادته وشرعت فى أخذ الخطوط بتزكيته وهذا أمر هو فى يدك فإن ساعدتنى عليه مشى وإن وقف فما يقف إلّا بك.» فقال له: - «والله لا تركت ممكنا.» فقال أبو العباس: - «القائد [أبو] زهير كثير القبول منك قليل الخلاف عليك وإن خاطب عضد الدولة على ذلك مع حصول التزكية لم يقع امتناع عليه فيه وأريد أن تجعل هذه الحاجة أكبر حوائجك إليه.» فقال: «أفعل.» قال أبو عمر: - «فدخلت إلى أسفار وقلت له: يا صاحب الجيش قد خدمتك الخدمة التي وجب بها الحقّ لى عليك، ولى حاجة فيها قيام جاهي فى البلد قد   [1] . فى الأصل: المسلمة. [2] . وفى الأصل: على. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 جعلتها ثمرة أملى فيك.» فقال لى: - «ما هي؟» فقلت: «أبو العباس يريد أن تقبل شهادة أبى يعلى ابنه واستشفع بى إليك فى خطاب عضد الدولة.» فقال: «أفعل، وقد جرت العادة فيما بيني وبين الملك بأن أراسله فيما أريده على لسان ثقة.» وأحضر الرجل الذي أشار اليه، فحمّله فى ذلك رسالة استوفاها فمضى وعاد وقال: «يقول لك الملك: مالك وللخطاب فى مثل هذا الأمر؟ [99] » قال أبو عمر: «فاستدعاني أسفار حتى سمعت الجواب فقلت: يا صاحب الجيش والله ما يقبل منى أبو العباس ذلك ولا يقدّر إلّا أنّى قد قصرت فى مسئلتك مع علمه بموضعي منك وموضعك من الملك وأنك لا ترد فى الكبير فضلا عن الصغير.» فقال: «ما جرت لى عادة بمعاودته ولكنى أعاوده بعد أيام.» ومضت على ذلك مديدة فأعاد الرجل الرسالة وجدد السؤال فعاد مثل الجواب الأول. فأظهرت الوجوم والانكسار ومضت أيام وهو يراني كاسف البال فقال لى: «يا با عمر قد عملت على الركوب الى الدار فى غد.» ووصل الى حضرة عضد الدولة ووقف ساعة ثم قال: قد راسلت مولانا فى أمر أبى يعلى ابن مكرم دفعتين وعاد الجواب يرسم فيه الإمساك ولى فى تمام هذا الأمر جاه والقوم الذين سألونى فى ذلك فى اختلاط وأمل قوىّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 ومتى وقف انكسر جاهي عندهم وعند الناس.» فضحك وقال: «يا با زهير مالك وللخطاب فى مثل هذا وفى الشهادة والشهود؟ إنّما يتعلق بك الخطاب على زيادة قائد أو تقويد خاصة نقل رتبة الى رتبة. فأما قبول الشهادة فليس لنا ولك قول فيه وهو متعلق بالقضاة ومتى عرفوا من إنسان ما يرون معه قبول [100] شهادته فعلوا ذلك بغير أمر ولا شفاعة شافع إليهم وإلينا وإذا أقمت عذر نفسك عند من سألك بمثل ما قلنا لك عرف صحّة ذلك.» وانصرف أسفار بهذا الجواب وحدّث أبا عمر به ووقف الأمر فى قبول شهادة أبى يعلى إلى أن توفّى عضد الدولة. وأما ما ذكر من صدقاته ومبرّاته وما تأدى [1] ذلك من فضل احتياطه ومراعاته فإنّه كان يخرج عن افتتاح مال كلّ سنة شيئا كثيرا فى البرّ والصدقة ويكتب إلى العمّال فى النواحي بتسليمه إلى قضاتها ووجوه أهلها ليصرفوه الى ذوى الحاجة والمسكنة. قال أبو نصر خواشاذه: أعطانى عضد الدولة فى بعض الأيام توقيعا على أنّه بثلاثين ألف درهم للصدقة ورسم وزن ذلك وتفرقته بحسب ما جرت به العادة وكان قد غلط وكتب: - «يخرج من الخزانة ثلاثون بدرة للصدقة» فرددته وقلت: - «يا مولانا المال ثلاثون ألف درهم والتوقيع ثلاثون بدرة [101] »   [1] . لعله: تعدى (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 فقال: «أرنيه.» فقال: «لن أعود فيها فأخرجها.» فأخرجتها فأطلقت فى الصدقات. وقد شوهد فى كثير من تذاكيره وما كان يوقعه فى تقاويمه: - «نذرنا للأمر الفلاني كيت وكيت وكذا وكذا ألف درهم للصدقة» فى مواضع كثيرة. فكان لا يهمّ بعزم ولا يكون فى سرور أو همّ إلّا وهو يقدم نذرا: أمّا فى السرور فلكماله. وأمّا فى الهمّ فلزواله. وذلك مبنىّ على جميل اعتقاد وحسن يقين وصحة إيمان وإقرار بالمعاد. وكان يطلق للكتّاب والعمّال المتعطلين إذا شكوا أحوالهم وقصورهم أو اطلع على ذلك منها ما ينسب إلى الأسلاف التي لا يحاسبون بها عند استعمالهم واستخدامهم. وكان المستخدمون يستسلفون من أبى يعلى سليمان بن الحسن الناظر فى التمور والأمتعة البصرية على ما يسبّب به أرزاقهم ما يأخذون به منه التمر وما يجرى مجراه بفضل فى ثمنه فيرغب الطالب فى الأخذ للحاجة والاتساع بالسلف ويرغب المعطى فى الأسلاف للزيادة فى الأثمان والفائدة مردودة للسلطان. وتوفّى عضد الدولة وعلى المتصرفين والمتعطّلين من هذه الأسلاف مال جزيل كثير. وبازاء ذلك من احتياطه ما [102] ذكره أبو نصر خواشاذه قال: قباء سقلاطون للجلوس فى نيروز حضر نيروز وأراد أن يقطع عضد الدولة فيه قباء سقلاطون يجلس فيه للتهنئة فقال لى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 - «أحضر من الخزانة ثوبا يصلح للقباء.» فمضيت فاخترت منها ثوبا حسنا مستعملا فجئته به فلمّا وضعته بين يديه تأمّله وأخذه ورمانى به وقال: - «ليس من هذا طلبت.» فظننت أنّه قد استرذله وأراد ما هو أرفع منه فعدت وأخرجت من بابة أخرى ما هو أجود منه فأحضرته. فلمّا ملا عينه منه قال لى: - «يا أعمى القلب ليس من هذا.» فبقيت متحيّرا لا أدرى ما أصنع ورجعت إلى الخزانة فقال لى أبو نصر بندار: «ما لي أراك ضيق الصدر وقد أخذت ثوبين ورددتهما.» فعرّفته الصورة فضحك وقال: - «لو أعلمتنى لكفيتك ما اشتغل قلبك به.» وقام وفتح سفطا فيه ثياب سقلاطونيات متقاربات يسوى الثوب منها خمسة دنانير وأخذ ثوبا واحدا منها فتركه بين يدىّ وقال: - «احمله اليه فإنّه يرضيه.» فأخذته وحملته فلمّا وضعته بحضرته وشاهده وأدخل يده فيه وقلّبه قال: - «هذا جيّد.» فتقدم بقطعه وإعداده ولبسه فى يوم ذلك الفصل ووهبه لبعض الديلم. [103] وأمّا حبّه للعلم فأمّا محبّته للعلوم وتقريب أهلها فإنّه كان يكرم العلماء أوفى إكرام وينعم عليهم أهنأ إنعام ويقرّبهم من حضرته ويدنيهم من خدمته ويعارضهم فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 أجناس المسائل ويفاوضهم فى أنواع الفضائل. فاجتمع عنده من كل طبقة أعلاها وجنى له من كل ثمرة أحلاها. وصنفت فى أيامه المصنفات الرائقة فى أجناس العلوم المتفرقة، فمنها: كتاب الحجة فى القراآت السبع، وهو كتاب ليس له نظير فى جلالة قدر واشتهار ذكر، ومنها كتاب الإيضاح فى النحو، وهو مع قلّة حجمه يوفى على الكتب الكبار التي من جنسه فى قوة عبارة وجودة صنعة. وحكى أبو طالب أحمد بن بكر العبدى [1] صاحب كتاب شرح الإيضاح أنّ عضد الدولة كان ضنينا بهذا الكتاب محبّا للاختصاص بقراءته دون كل أحد وإنّ رجلا توصل الى كتبه بخطه بحيلة، فأمر عضد الدولة بقطع يده لنفاسة الكتاب فى نفسه وحلاوته فى قلبه حتى سئل فى أمره فعفى عنه. ومنها الكنّاش [2] العضدي فى الطب [104] المؤلف فى أيامه. [3] الموفى على غيره بيانا وحسن ترتيب وكمالا وغير ذلك من المقالات الرياضية والرسائل الهندسية. وأمّا آثاره الجميلة وأما ما عمله من الآثار الجميلة فإنّه جدّد بفارس وخوزستان، منها ما هو باقى الأثر عند الناظر شائع الخبر عند السامع. وعمد الى مصالح بغداد فأوجدها بعد العدم وأعادها الى ريعانها بعد الهرم، واستدرّ أفاويق الأعمال   [1] . وردت ترجمته فى ارشاد الأريب 1: 381 (مد) . [2] . فى مد: الكناس. والأصحّ الكنّاش: دفتر تدرج فيها الشوارد والفوائد. والكنّاشات هي الأصول التي تتشعّب منها الفروع. [3] . ومؤلفه على بن العباس المجوسي يعرف بابن المجوسي وليراجع ترجمته فى تاريخ الحكماء لجمال الدين القفطي ص 232 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 بعد أن كانت متصرّمة واستمدّ ينابيع الأموال بعد أن كانت مستهدمة [1] وفعل فى تجديد العمران وبناء البيمارستان ووقف الوقوف الكثيرة عليه ونقل أنواع الآلات والأدوية من كل ناحية اليه [2] ما يدرك العيان بعضه إلى الآن، وعمل السكور وأنفق فيها الأموال وأعدّ عليها الآلات ووكّل بها الرجال وألزمهم حفظها بالليل والنهار وراعى ذلك منهم أتمّ مراعاة فى آونة المدود الجوارف وأزمنة الغيوث الهواطل وأوقات الرياح العواصف. فقيل: إنّه لما سدّ المطهر بن عبد الله بثق السهلية رتّب عليه ابراهيم المعروف بالأغرّ، وأمره بالمقام عليه [105] ومواصلة تعليته الى حين انقضاء المدود. قال ابراهيم: فأقمت على هذا السكر زمانا طويلا والرجال معى وشقيت شقاء طويلا وكان لى منزل بجسر النهروان وبيني وبينه مدى قريب فكنت لا أتجانبه على الإلمام به ولا على دخول الحمام إشفاقا من أن يكتب صاحب الخبر بجسر النهروان بخبري. فلمّا مضت المدة الطويلة على هذه الجملة من حالي عصفت ريح فى بعض الليالي وورد معها مطر شديد فدخلت القبة المبنية على السكر أستتر بها من الريح والمطر واجتهدنا فى أن نشعل سراجا فلم يدعنا عصوف الريح وضجرت وضاق صدري ونازعتني نفسي أن أقوم فأمضى فى الظلمة الى جسر النهروان وأبيت فى منزلي وأعاود بكرة موضعي. فبينما أنا فى ذلك وقد حققت عزمي عليه إذ سمعت كلاما على باب القبّة فقلت لغلامي: - «انظر ما هو.»   [1] . لعله: مسدمة (مد) . [2] . فى الأصل: مما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 فخرج وعاد وقال: - «انسان على جمل قد أناخ عندنا.» ودخل الرجل وسلّم فرددت عليه وقلت للغلام: - «أشعل سراجا.» فقدح وأشعل وجاء بالنار فى نفاطة فإذا الرجل من خواص عضد الدولة عربي قد ورد من بغداد فقلت له: - «ما تشاء.» فقال: «استدعاني الساعة الأستاذ شكر وقد خرج من حضرة [106] الملك فقال: أمر مولانا أن تمضى على جمازة وتقصد سكر السهيلة وتدخل الى القبّة التي على ظهر المروحة فإن وجدت ابراهيم الأغرّ هناك فأعلمه أنّنا نجازيه على خدمته وطول ملازمته وادفع إليه هذا الكيس ففيه ألف درهم ليصرفه فى نفقته وإن لم تجده وكان قد دخل إلى داره بجسر النهروان فاقصده واهجم عليه فى منزله وخذ رأسه واحمله.» وترك [1] الكيس بين يدىّ وقال: - «احمد الله على ما كفاك إيّاه.» وعاد من وقته، فبقيت حيران وعزمت على نفسي ألّا أدخل جسر النهروان. وأما ذكر ما رتّبه فى تربية أولاده ودبّر به دار مملكته بفارس عند غيبته عنها فإنّ له من محاسن التدبير فى أمثلته التي مثّلها لأصحابه فى تذاكير   [1] . والمثبت فى مد: واترك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 وجدت له ما يدلّ على علوّ همّته وحسن سياسته فى تربية أولاده وقسمة أيامهم بين آداب البراعة والشجاعة وأوقات الجدّ واللعب والاقتصاد فيما يجرى بينهم من الترافه والتهاجر وتهذيب من يلوذ بهم [107] ويكون فى جملتهم. فإنّ الأخلاق بالممازحة [1] تعدى وبالمجاورة تسرى. وترتبت الأمور بدار مملكته بفارس فى حال غيبته بالعراق وغيرها لتجرى على السداد وتستمرّ على الاستقامة والاطّراد. فكان إذا بعد عنها بجثمانه لم يبعد عنها بسلطانه كالشمس التي يبعد جرمها عن العالم وضياؤها فيه موجود. والقليل من ذكر سيرته ينبئ عن الكثير فنجنب الإطالة والإكثار إذ قد شرطنا الاقتصار والاختصار. ونذكر الآن طرفا مما رواه صاحب التاريخ من أخبار أضافها إلى جملة محاسنه وهي بضدّها أشبه، فأفردناها عنها إذ «لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ» 41: 34 [2] «وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ.» 35: 20- 21 [3] ذكر الرسوم التي أحدثها عضد الدولة زاد فى المساحة واحدا فى عشرة بالقلم وأضافه الى الأصول وجعله رسما جاريا واستمرّ الى هذه الغاية فى جميع السواد. وأحدث جنايات لم تكن ورسوم معاملات لم تعهد وأدخل يده فى جميع الأرحاء وجبى [108] ارتفاعها وجعل لأهلها شيئا منه وكثرت الظلامة من ذلك فى آخر أيّامه ... «إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» 13: 11 [4] ...   [1] . كذا فى مد. ولعلّه «بالممازجة» . [2] . س 41 فصّلت: 34. [3] . س 35 فاطر: 20- 21. [4] . 13 الرعد: 11. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 فأزاله صمصام الدولة بعده وأطلق الارتفاع للملّاك. وجعل للمراعى وفرائض الصدقات ديوانا وأفرد له عمالا وكتّابا وجهابذة فارتفع من أعمال السواد ما زاد على ألف ألف درهم فى السنة. وأدخل يده فى وقوف السواد ورتّب لها ناظرين متصرفين وقرّر لأربابها اجارة تطلق لهم عنها فتحصل منها جملة كثيرة وصارت فى المقبوض وخرجت فى الإقطاعات من بعد ذلك. وقرّر على أسواق الدوابّ والحمير والجمال عما يباع فيها من جميع ذاك وفعل فى ضرائب الأمتعة الصادرة والواردة ما زاد فيه على الرسوم القديمة وحظر عمل الثلج والقزّ وجعلهما متجرا للخاص وكانا من قبل مطلقين لمن يريد عملهما والمتجر فيهما. ولعل صاحب التاريخ قصد بإيراد هذه الأخبار فى محاسنه الفضيلة فى إقامة وجوه المال واستنباط ينابيعه. ولا خير فى مال يسيء ذكرا ويحبط أجرا وكلّما يجمع من أشباه تلك الوجوه فإنّه جمع تبديد وما يشرب من أمثال هذه المناهل فإنّه شرب تصديد [109] والخبر المشهور المروىّ [1] عن النبىّ صلى الله عليه وسلّم قوله: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ومن سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة.» ذكر أخبار ضبط مسرف لا يليق بملك حدّث أبو على ابن مكيخا صاحب ديوان الخزائن قال: سألت عضد الدولة فى بعض الأيام وقد صادفت منه طيب نفس وإقبالا   [1] . ليراجع كتاب الاعتصام 1: 231. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 على زيادة فى عادته وذكرت له تضاعف مئونتي وقصور مالي عن كفايتي فقال لى: - «أليس الموجب لك فى كل شهر كذا وكذا ولك من رسم الكسوة كذا وكذا فى الفصلين؟» قلت: «نعم.» قال: «فأنت تحتاج لراتبك ومؤنك وغلمانك ودوابّك الى كذا وكذا فما وجه الاستزادة؟ هذا فأنت تأكل فى كل أيامك مع أبى منصور نصر بن هارون.» فقبّلت الأرض وتأخّرت، فإذا هو يحاسبني ويعتدّ علىّ بما آكله على مائدة أبى منصور. وحكى أبو على أيضا أنّ عضد الدولة [110] رأى له يوما بغلة بمركب حديد ثقيل فتركه مدة وقبض عليه وألزمه مالا فعرض فى جملة ما يبيعه من رحله دست ديباج كان له وبلغ عضد الدولة خبره فاستدعاه ليشاهده ويحتسب له بما يقوّم به. قال أبو على: - «وقد كنت أعطيت فيه ألفا وخمسمائة درهم.» فقال: «احتسبوا له بألف ومائتي درهم.» فقلت: «قد دفع به ألف وخمسمائة درهم وثمنه علىّ أكثر من ذلك.» فغاظته هذه المراجعة وتقدّم الى الخادم بأن يسلم الىّ دستا دونه بكثير إلّا انّه شبيه به فأخذته ولم يمكني أن أقول شيئا فى أمره فاجتهدت أن يحتسب لى بألف ومائتي درهم المبذولة فقال: - «لا حاجة بنا الى دسته.» وكان قصاراى ان بعت هذا المسلّم بتسعمائة درهم. وحدث أبو الحسن رستم بن أحمد قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 استكتبنى عضد الدولة لأبى جعفر الحجاج بن هرمز عند وروده من ديلمان ورسم لى أن أعمل تذكرة بما يحتاج اليه راتبه فى كل يوم ونفقاته فى كل شهر. فعملت وأحضرت التذكرة وكان فيها رطلية شمع فى كل ليلة فوقف عليها ونقص كثيرا منها وزاد فى أبواب وقال: - «رطل شمع فى كل ليلة سرف [111] وينبغي أن يكون فى كل أسبوع رطلية وأن يواقف الفراش على أن يتركها فى تورها وتقدم بين يديه المنارة عليها سراج بفتيلتين فإن حضر من يحتشم رفعت وأحضر التور والشمعة فأوقدت فإذا انصرف شيلت وأعيدت المنارة.» فقلت: «السمع والطاعة.» وجرى الأمر على ذلك. وحدّث أبو الحسن على بن أبى على الحاجب قال: كان لعضد الدولة فرجية سقلاطون مبطنة بقماقم فكان يلبسها كثيرا فى الطريق بين بغداد وهمذان. وكان أحد الديلم قد أغرى بطلبتها وواصل المسألة فى بابها وعضد الدولة يعده ويدفعه حتى زاد لجاجه فعارضه يوما فى موكبه وقال: - «يا مولانا قد طال الوعد بهذه الفرجية وأسأل إنجازه اليوم.» فاغتاظ وقال: - «نعم.» وكان يمشى فى ركابه أصحابه الركاب ومن جانبه الأيمن أحمد بن أبى حفص وفى جانبه الأيسر ابن فارس فقال لهما سرّا وأرسل كمّى الفرجية: - «اقربا منّى وأفتقا البطانة من الظهارة واجذباها وسلّماها الى الموكبدار.» ففعلا ذلك ونزل عضد الدولة وحضر الديلمي مذكرا فأخرجت اليه فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 الحال طاقا بغير بطانة [112] فبقى متعجبا وأخذها وأمسك. فلما خلا الملك استدعاهما وقال لهما: - «أنا أعلم أنكما فضوليان وكأنّى بكما وقد قلتما «ما أشحّ هذا السلطان! طلب منه بعض خواصّه فروة منذ أمد ودافعه بها فلمّا أراد عطاءها له أمره بكذا بخلا بالبطانة» » فقبّلا الأرض وقالا: - «لا إله إلّا الله يا مولانا ان تتصوّرنا بهذه الصورة.» فقال: «بلى أنتما كذلك، فاعلما أنّ فى جوانبنا من الثياب السقلاطون ما يمكننا أن نعمّ به عسكرنا لو أردنا أن نعطى جميعها وهذه البطائن الوبر قليلة وإنّما تحمل إلينا منها فى السنة من البلاد البعيدة الخارجة عن ممالكنا العدّة اليسيرة ولو وهبنا لهذا الديلمي بطانة الفرجية لرفعناه الى منزلة لا يستحقها لأنّه أقل من أن يدفع إليه مبطنا. ثم طلب منا غدا من هو أجل منه جبّة مبطنة بوبر فخرج ما فى خزائننا من هذا الجنس الى نفر قليل.» وقد ذكر أرسطاطاليس فى رسالته المشهورة: «إنّ الملوك ملك سخىّ على نفسه سخىّ على رعيته وملك شحيح على نفسه شحيح على رعيّته وملك سخىّ على نفسه شحيح على رعيّته وملك شحيح على نفسه سخىّ على رعيته. فسابقهم الى الفضل [113] من كان سخيّا على نفسه سخيا على رعيته وتاليه من كان شحيحا على نفسه سخيّا على رعيته وعضد الدولة كان كذلك إلّا أنّ طلب الدرجة العليا أعبق بذوي الكرم وسبب الغاية القصوى أولى بأولى الهمم. ولعل بعض من يقرأ كتابنا يقول: أما كان يسع طىّ هذا البساط وقطع هذا الرباط فكم قد طوى من خبر ومحا من أثر. بلى ولكنا أردنا الخير وقصدنا النفع حتى إذا تأمل المتأمل ذلك وتلك الأحاديث الجميلة والأفاعيل الشريفة استلذ من طيبها واستروح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 من نسيمها الى كل ما يهزّ أريحيته لفعل الخير وبناء المجد وإطالة الذكر واقتناء الحمد. فإذا انتهى الى ما قد ذكر أخيرا وجد من الكدر فى المنهل والشرق بالزلال الذي شربه ما يحذّره إهمال اليسير من رياضة أخلاقه فيصفيها تصفية الذهب الخالص. والسعيد من تأدب بغيره والكمال عزيز فى كل حال.» وقد قيل: لا سلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حىّ من الناس يسلم [114] ذكر وفاة عضد الدولة سامحه الله توفّى عن سبع وأربعين سنة وأشهر وعلّته التي توفّى بها مشهورة. ولم تكن أمثال هذا العمر عمله ولا فى أضعافه أمله ولكن فى خفاء مواقيت الآجال مشغلة بأكاذيب الآمال. وما أحسن قول عدىّ بن زيد: ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المهيمن الخلّاق ذاك عضد الدولة سامحه الله. أعجب بصحّة عقله وفيه دهاء، وهذا عضد الدولة البارسلان رحمه الله، أعجب بقوة بأسه، ومنه ليعلم أنّ البشر لا يملك شيئا وأنّ الملك لله الواحد القهّار. ونورد ههنا كلمات قيلت عند وفاة عضد الدولة فيها حكمة بالغة وموعظة نافعة: ذكر أبو حيّان التوحيدي فى كتاب الزلفة أنّه لما صحت وفاة عضد الدولة كنّا عند أبى سليمان السجستاني وكان [115] القومسى حاضرا والنوشجاني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 وابو القسم غلام زحل [و] ابن المقداد والعروضي والأندلسى والصيمري، فتذاكروا الكلمات العشرة المشهورة التي قالها الحكماء العشرة عند وفاة الإسكندر فقال الأندلسى: - «لو قد تقوّض مجلسكم هذا بمثل هذه الكلمات لكان يؤثر عنكم ذلك.» فقال أبو سليمان: - «ما أحسن ما بعثت عليك [1] أمّا أنا فأقول: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها وأعطاها فوق قيمتها وحسبك أنّه طلب الربح فيها فخسر روحه فى الدنيا.» وقال الصيمري: - «من استيقظ للدنيا فهذا نومه ومن حلم بها فهذا انتباهه.» وقال النوشجاني: - «ما رأيت غافلا فى غفلته ولا عاقلا فى عقله مثله. لقد كان ينقض جانبا وهو يظنّ أنّه مبرم ويغرم وهو يرى أنّه غانم.» وقال العروضي: - «أما إنّه لو كان معتبرا فى حياته لما صار عبرة [فى] مماته.» قال الأندلسى: - «الصاعد فى درجاتها الى سفال والنازل من درجاتها الى معال.» وقال القومسى: - «من جدّ للدنيا هزلت به ومن هزل راغبا عنها جدّت له. انظر الى هذا كيف انتهى أمره والى أى حظّ وقع شأنه وإنّى لأظنّ أنّ الرجل [116] الزاهد   [1] . لعله: عليه (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 الذي مات فى هذه الأيام ودفن بالشونيزية أخفّ ظهرا [1] . وأعزّ ظهيرا من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.» وقال غلام زحل: - «ما ترك هذا الشخص استظهارا بحسن نظره وقوّته ولكن غلبه ما منه كان وبمعونته بان.» وقال ابن المقداد: - «إنّ ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإنّ ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف.» فقال أبو سليمان: - «ما عندك فى هذا الحديث أحسن مما سمعت أبا إسماعيل الخطيب الهاشمي لمّا نعاه على المنبر يوم الجمعة يقول فى خطبته: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلّا اتخذت دونه جنّة تقيك. ماذا صنعت بأموالك والعبيد ورجالك والجنود وبخولك العتيد وبدهرك الشديد. هلّا صانعت من عجل على السرير وبذلت له من القنطار الى القطمير. من أين أتيت وكنت شهما حازما وكيف مكّنت من نفسك وكنت قويا صارما. من الذي وطّأ على مكروهك وأناخ بكلكله على ملكك. لقد استضعفك من طمع فيك ولقد جهلك من سلم العزّ لك! كلّا، ولكن ملكك من أخسرك بالتمليك وسلبك من قدر عليك بالتهليك [2] إنّ فيك لعبرة للمعتبرين [3] وإنّك لآية للمستبصرين. جافى [117] الله جنبك عن الثرى وتجاوز عنك بالحسنى، ونقل روحك الى الدرجات العلى وعرّفنا من خلفك خيرا وعدلا يكثر من   [1] . فى الأصل: أحفظهما. والاقتراح من مد. [2] . فى الأصل بالقهر لك (مد) . [3] . فى الأصل انّ فيك لمعتبرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 أجلهما الدعاء وثناؤنا عليك أنّه على ذلك قدير، وهو عليه بصير [1] .» ذكر ما جرى عليه الأمر فى قيام صمصام الدولة بالملك كانت سعادة عضد الدولة قوية فى أحواله حتى فى موته. فإنّه انكتم أمره مع عظم قدره للسياسة التي قدّمها فى الأمور والهيبة التي أودعها بنات الصدور واختياره من الأصحاب كلّ من كان بحسن التدبير خبيرا وبخدمة الملوك جديرا. فلمّا توفى أخفى خبره، فأحضر الأمير أبو كاليجار المرزبان الى دار المملكة كأنّه مستدعى من قبل عضد الدولة. فلمّا حضر أخرج الأمر إليه بولاية العهد والنيابة فى الملك واستخلاف أخيه أبى الحسين أحمد بن عضد الدولة بفارس على أعمالها. وكتبت عن عضد الدولة كتب بذلك إلى كلّ صقع حسب العادة وضمّنت ذكر القبض على أبى الريّان حمد بن محمد وذمّ أفعاله واستدعاء [118] أبى منصور نصر بن هارون الى الحضرة ليقوم مقامه فى أعماله، وأنفذ مع كل كتاب نسخة يمين بالبيعة لتؤخذ على الأمراء والقواد وأتباعهم من الأصحاب والأجناد. وروسل الطائع لله فى ذلك وسئل كتب عهد له مقرون بالخلع والألقاب واللواء وإمضاء ما قلّده عضد الدولة من النيابة عنه. فأنعم بالإجابة ولقّبه صمصام الدولة، وشرّفه بالعهد واللواء والخلع السلطانية وجلس صمصام الدولة جلوسا عامّا حتى قرئ العهد بين يديه وهنّأه بما تجدّد لديه.   [1] . وفيه قال سبط ابن الجوزي فى كتابه مرآة الزمان: بين كلام هؤلاء وأولئك المتقدمين المتكلمين على تابوت الإسكندر كما بين الملكين فى المساواة (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 ونظر أبو عبد الله ابن سعدان فيما كان أبو الريان ينظر فيه من أمور الأعمال واستمرّت الحال فى إخفاء وفاة عضد الدولة الى أن تمهّد الأمر لصمصام الدولة. وفى هذا الوقت أزيل ما كان قرر على الأرحاء والطحون وأجرى الناس على رسومهم القديمة. وفيه خلع على أبى الحسين أحمد وأبى طاهر فيروز شاه ابني عضد الدولة للتوجّه الى شيراز وأعمالها وخرج معهما أبو الفتح نصر أخو أبى العلاء عبيد الله بن الفضل برسم النيابة عن أخيه فى مراعاة أمرهما. ذكر ما جرى عليه أمرهما [119] لما أفضى الأمر الى صمصام الدولة قبض على الأمير أبى الحسين فى الدار ببغداد ووكّل به. وكانت والدته ابنة ملك الديلم [1] وشوكة الديلم قوية فعزمت على قصد الدار متنكرة عند اجتماع الديلم فيها فإذا حصلت فيها استغاثت بهم وهجمت على صمصام الدولة وانتزعت ابنها منه. فعرف صمصام الدولة ذلك فخاف وراسلها رسالة جميلة ووعدها بالإفراج عنه وتقليده أعمال فارس، وفعل ذلك ووافقه على المبادرة ليصل الى شيراز قبل ورود شرف الدولة أبى الفوارس إليها وأزاح علته فى جميع ما يحتاج اليه. فسار إلى الأهواز وعليها إذ ذاك أبو الفرج منصور بن خسره. فلمّا وصل إليها طالبه بمال والتمس منه ثيابا وأشياء أخر فمنعه ايّاها ظاهرا وحملها إليه   [1] . هو أبو الفوارس ماناذر بن جستان بن المرزبان السلار بن احمد بن مسافر كذا فى مرآة الزمان فى ترجمة سنة 371 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 باطنا مراقبة لصمصام الدولة وانتسجت بينهما حالة جميلة واستقرّ أنّ يستوزره عند تمهد أموره. فأشار عليه أبو الفرج بالتعجيل الى أرجان، فان وصلها وقد سبق شرف الدولة الى شيراز أسرع الكرة إلى الأهواز. فلمّا وصل إلى أرجان ورد الخبر بحصول شرف الدولة بشيراز وكرّ راجعا ودخل الأهواز وعوّل على أبى الفرج فى مراعاة [120] الأمور وتدبير الأعمال وأظهر المباينة وارتسم بالملك وتلقّب بتاج الدولة، وأقام الخطبة لنفسه. وعرف صمصام الدولة ذلك فجرد اليه أبا الحسن على بن دبعش الحاجب فى عسكر كثير. وندب الأمير أبو الحسين أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدى للقائه فالتقيا [1] بظاهر قرقوب ووقعت بينهما وقعة أجلت عن هزيمة ابن دبعش فأسر وحمل الى الأهواز وشهره بها. فاستولى الأمير أبو الحسين على ما كان معدّا بالأهواز وبقلعة رامهرمز من الأموال وفرّقها فى الرجال وصرف همته الى جمع العساكر وأرغبهم فمالوا اليه وانثالوا عليه فاشتد أمره وسار [الى] البصرة فملكها ورتب أخاه أبا طاهر فيروز شاه بها ولقبه ضياء الدولة. وجرى أمره على السداد ثلاث سنين الى أن انصرف إلى أصبهان وقبض عليه شرف الدولة وحمله الى قلعة فى بعض نواحي شيراز. مسير شيرزيل من كرمان واستيلاؤه على شيراز وفى هذه السنة سار شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل من كرمان إلى   [1] . وفى الأصل: بالنقباء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 شيراز واستولى على الأمر. شرح الحال فى ذلك [121] لما توفّى عضد الدولة كتب بعض الخواص بالخبر الى كرمان فسار شرف الدولة عند وقوفه على ذلك إلى فارس كاتما أمره. ذكر رأى سديد فى كتمان أمر حتى تم ّ فلمّا وصل الى إصطخر قدم ابراهيم ديلمسفار أمامه وأمره بالإسراع الى شيراز وإخفاء خبره والقبض على أبى منصور نصر بن هارون ففعل ابراهيم ذلك ودخل دار أبى منصور على غفلة من أهلها ووجده فى مجلس نظره، فقبض عليه ووكّل به وقال للديلم: - «هذا أبو الفوارس فاخرجوا لخدمته.» فتلقّاه العسكر ودخل البلد واستقرّ. ثمّ أظهر وفاة عضد الدولة وجلس للعزاء وأخذ البيعة على أوليائه وأطلق لهم ما جرت به العادة من العطاء. بذا قضت الأيّام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد [1] [و] أزال التوكيل عن كورتكين بن جستان وقلّده اصفهسلارية عسكره وأفرج عن الاشراف: أبى الحسن محمد بن عمر وأبى أحمد الموسوي [122] وأخيه أبى عبد الله وعن القاضي أبى محمد [ابن] معروف [2] وعن ابى نصر خواشاذه بعد أن طال بهم الاعتقال وضعفت فى خلاصهم الآمال وكما تطرق   [1] . البيت للمتنبي. [2] . هو عبيد الله بن احمد المعتزلي قاضى القضاة ولى بعد عمر بن أكثم وتوفى سنة 388. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 النوائب من حيث لا يحتسب فقد يأتى الفرج من حيث لا يرتقب. فأمّا أبو منصور ابن هارون فإنّه وكّل أمر مطالبته الى المعروف بالشابشتى الحاجب فعسفه حتى إنّه انتهى به إلى أن ملأ طستا بالجمر ووضعه على صدره فمات. ذكر اتفاق عجيب كان أبو منصور ابن هارون يبغض هذا الشابشتى فى أيام نظره ويبعده من بين يديه ويقول: - «إنّى أكره هذا الرجل كرها لا أعرف سببه.» حتى كان هلاكه على يده وبان أنّ تلك الكراهية لعلة خافية. ذكر اغترار بسلامة عاجلة آلت بصاحبها إلى هلاك كان سبب سوء رأى شرف الدولة فى نصر بن هارون اغترار نصر بيومه وترك النظر لغده وأنّه كان يضايقه فى أيام عضد الدولة [123] فى آرابه ويستقصى عليه فى أسبابه، ثم لعداوة كانت بينه وبين أصحابه فهم لا يزالون يوغرون صدره عليه ويقبحون أثره لديه. ومن سوء التدبير التقصير بأهل بيت الملك فكم قد حرّ [1] ذلك من وبال! ولم يكن سبب هلاك محمد بن عبد الملك الزيات الوزير على يد المتوكل على الله إلّا ما سبق من تقصيره فى أيام أخيه الواثق بالله والخبر مشهور [2] .   [1] . فى مد: حرّ. [2] . انظر الطبري 11: 1370. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 اغتيال أبى الفرج أبا محمد أخاه وفى هذه السنة اغتال أبو الفرج ابن عمران أبا محمد أخاه [1] وانتصب فى موضعه وكتب إلى الحضرة يظهر الطاعة ويسئل التقليد والولاية. ذكر حسد حمل صاحبه على قطيعة رحم كان أبو الفرج جاهلا متهورا فحسد أبا محمد على موضعه فأعمل الحيلة فى الفتك به. واتفق أن أختهما اعتلّت فقال أبو الفرج لأبى محمد: - «إنّ أختنا مشفية فلو عدتها.» ففعل وركب إليها ورتب أبو الفرج فى دارها قوما ووافقهم على مساعدته. فلمّا دخل أبو محمد وقف أصحابه لأنّها دار حرم. وحمل أبو الفرج سيفه على عادته ومشى من ورائه. فلمّا تمكّن منه [124] جرد السيف وضربه. وخرج القوم الذين رتبهم فساعدوه على الإجهاز عليه ووقعت الصيحة فصعد أبو الفرج إليهم مطلعا عليهم من سطح الدار وقال: - «قد فات الأمر ولكم عندي الإحسان.» فسكتوا ثم وضع فيهم العطايا فأطاعوه وأمّروه. مقتل الراعي بنصيبين وفى هذه السنة قتل أبو على الحسن بن بشر الراعي بنصيبين وكان وإليها وعاملها.   [1] . هو الحسن بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة قد تقدم ذكره وفى الأصل: بن عمر بن أبان والصواب فى الكامل لابن الأثير 9: 17 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 ذكر سيرة عادت بخراسان دنيا وآخرة كان هذا ابن الراعي ظالما شريرا وخبره فى سمل عينه قد تقدم فى كتاب تجارب الأمم [1] ثم ولى نصيبين فأساء الى أهل البلد واستحلّ محارمهم. فلمّا شاعت الأراجيف بعلة عضد الدولة وبعد ذلك بموته ثار العامة وقصدوا داره للفتك به فخرج فى لباس امرأة وغمز عليه فأخذ وقتل ومثل به ثم أحرق. واستولى أحد الأكراد على البلد وورد الخبر بذلك فأخرج أبو سعد بهرام بن أردشير لتلافي الأمر. فلمّا وصل الى الموصل تقاعد به أبو المطرّف عاملها وانزاح المستولى عليها منها ولحق بباد. وكان أمر باد قد قوى بميافارقين فعجل بهرام الى قصده واستهان بأمره وواقعه فأجلت الوقعة عن هزيمة بهرام [125] وأسر جماعة من الديلم الذين معه. وشمت أبو المطرّف به وكتب الى أبى القاسم سعد الحاجب يطعن على بهرام ويقول: - «انه قد جنى على الدولة وأطمع بادا وإننى قد عملت على مكاتبة باد وإعلامه موقع الخطأ فى المكاشفة.» فأجابه سعد بجواب يقول فيه: - «أنا وارد. والسيف أصدق أنباء من الكتب» .» فلمّا وصل الى أبى المطرّف الجواب قال: سيوف لعمري يا لؤىّ بن غالب ... حداد ولكن أين بالسيف ضارب   [1] . ليراجع ما تقدم 2: [478] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 فبلغ ذلك سعدا فأحفظه وأسرّ فى نفسه عليه. ذكر خبر باد ومبدأ أمره باد لقب وهو أبو عبد الله الحسين بن دوشنك [1] من الأكراد الحميدية وكان يتصعلك كثيرا ويمضى الى الثغور ويغزو بها دائما وكان فظيع المنظر عظيم الهيكل. فلمّا حصل عضد الدولة بالموصل حضر على الباب بوساطة زيار بن شهراكويه [2] ثم هرب. ذكر فراسة دلّت على دهاء [126] يقال: إنّه لمّا خرج من بين يدي عضد الدولة مضى على وجهه هاربا فسأله أصحابه عن سبب هربه فقال: - «شاهدت رجلا ظننت أن لا يبقى علىّ بعد حصولى فى يده.» وطلبه عضد الدولة فى أثر خروجه آمرا بالقبض عليه وقال: - «هذا رجل ذو بأس وبطش وشرّ وغدر ولا يجوز الإبقاء عليه.» فأخبر بهربه وحصل بثغور ديار بكر وأقام بها الى أن استفحل أمره. ثم خرج اليه أبو القاسم سعد الحاجب فكان من أمره معه ما سيأتي ذكره فى موضعه.   [1] . ولعله: روشنك. [2] . هو أبو الحرب ذكره ابراهيم الصابي فى رسالة كتبها عن صمصام الدولة فى سنة 375 الى أبى القاسم سعد الحاجب وهو مقيم بنصيبين على محاربة باد الكردي يأمره فيه أن ينفذ الى الحضرة الوثيقة المكتتبة على باد (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 ودخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة ركوب صمصام الدولة إلى دار الخلافة وفيها ركب صمصام الدولة الى دار الخلافة وخلع عليه الخلع السبع والعمّة السوداء وسوّر وطوّق وتوّج وعقد له لواءان وحمل على فرس بمركب ذهب وقيد بين يديه مثله وقرئ عهده بتقليده الأمور فيما بلغت الدعوة من جميع الممالك وعاد الى داره. وجدّدت له البيعة وأطلق رسومها وأقيمت الدعوة وغيّرت السكة. وزارة الحسين بن أحمد بن سعدان وفيها خلع على أبى عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان خلع الوزارة وكان رجلا باذلا لعطائه مانعا للقائه فلا يراه أكثر من يقصده إلّا ما بين [127] نزوله من درجة داره الى زبزبه ومع ذلك فلا يخيّب طالب إحسان منه فى أكثر مطلبه لكن يسير البشر أملك للقلوب من كثير البرّ. فبسط يده فى الإطلاقات والصلات وتقرير المعايش والتسويفات وأحدث من الرسوم استيفاء العشر من جميع ما تسبب به الأولياء والكتّاب والحواشي من أموالهم وأرزاقهم والتوقيع فى آخر الصكاك الى العمال بمقاصّة أربابها به وجمعه عليهم وأخذه منهم وصرفه فى مشاهرات غلمان الخيول ونفقاتهم. وانضاف الى ضيق خلقه ما اتفق فى وقت نظره من غلاء سعر. فتطيرت العامة ورجموا زبزبه وشغّبوا الديلم عليه لأجله وهجموا على نهب داره وانتهت الحال الى ركوب صمصام الدولة الى مجتمعهم حتى تلافاهم وردّهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 ورود زيار وسعد بن محمد من جرجان وفيها ورد زيار بن شهراكويه وأبو القاسم سعد بن محمد الحاجب عائدين من جرجان فندب أبو القاسم الى الموصل لقصد باد وتلافى خطئه وجدد معه عسكرا اجتهد فى عدّته وعدّته. ذكر ما جرى عليه أمر سعد بن محمد مع باد [128] سار سعد، فلمّا حصل بالموصل قبض على أبى المطرّف عاملها وفى نفسه عليه تمثله بالبيت الذي تقدم ذكره واعتقله بالموصل. ويمّم سعد الى لقاء باد وهو واثق باقتناصه وربّ واثق خجل. فتواقعا على خابور الحسينية فانهزم سعد واستولى باد على جميع الديلم فأسر بعضا وقتل بعضا ثم ضرب رقاب الأسرى صبرا وسار الى الموصل. وقد كان سعد سبقه إليها عند الهزيمة فثار العامة به وخرج ناجيا بنفسه حتى بلغ تكريت وكتب الى الحضرة بخبره فأجيب بأن يقيم فى موضعه. ذكر حصول باد بالموصل وإفراجه عن أبى المطرّف لما حصل باد بالموصل أفرج عن أبى المطرّف واستوزره. وقويت شوكته بما تمّ له من كسر عساكر السلطان دفعة بعد أخرى واستولى على الأعمال وجبى وجوه الأموال وخرج عن حكم البوادي والمتطرفين وصار فى أعداد الخوارج المتجوفين وأرجف بأنّه محدّث نفسه بأخذ سرير الملك وقامت له هيبة فى النفوس وعظم ذلك على صمصام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 الدولة وابن [129] سعدان وزيره وقطعهما الهمّ به عن سائر الأمور. ولم يبق فى الحضرة من يندب لهذا الأمر مع استفحاله إلّا زيار بن شهراكويه. فوقف على المسير اليه وخلع عليه واستظهر له فى العدد والعدد وأخرج معه شكرا فى الغلمان الأتراك وسار الى الموصل وانضم إليهما أبو القاسم الحاجب من تكريت وواقعوا بادا فى صفر سنة أربع وأجلت الوقعة عن انهزام باد وأسر كثير من أقاربه وأصحابه وورد الخبر بذلك فسكن ما عليه الناس من الأراجيف به. ثم وصل الأسارى الى بغداد فشهروا. ذكر ما جرى عليه أمره بعد الهزيمة لما انهزم باد وخيّم زيار بظاهر الموصل خرج سعد الحاجب الى الجزيرة من الجانب الشرقي فى عدد وافر وحصل باد فى أطراف بلاده يجمع الرجال الى نفسه ليقصد ديار بكر. فرأى ابن سعدان ان كتب الى سعد الدولة ابن حمدان وبذل له تسليم ديار بكر إليه على ما كانت مع أبيه واستدعى منه تجريد أصحابه إليها قبل استيلاء باد عليها. فأنفذ ابن حمدان أصحابه إلى ميافارقين فأقاموا مديدة ثم انصرفوا ولم يكن لهم [130] طاقة بمقاومة باد وملك باد ميافارقين وسار إلى تلّ فافان مرهبا وراسل فى الصلح وتثاقل العسكر الذي مع سعد عن المسير معه الى لقائه فعمل على العدول الى الحيلة ودس رجلا لقتل باد غيلة [1] .   [1] . وفى الأصل: لغيلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 ذكر حيلة جيّدة لو وافقت قضاء يقال: إنّ الرجل الذي دسّه دخل على باد فى خيمته ليلا ووصل إلى موضع منامه وضربه بالسيف ضربة على رجله ظنّ أنّها على رأسه وصاح باد وهرب الرجل فلم يلحق ومرض باد لتلك الضربة حتى أشفى واجتهد سعد فى انتهاز الفرصة منه عند مرضه فلم يطاوعه من معه. وكان شكر قد توجّه مع الأتراك إلى نصيبين على أن يكون مسيرهم ومسير سعد من الجانبين فاضطرب من كان معه من الأتراك عليه. وراسل باد زيارا وألقى عليه نفسه وردّ أمره إليه. فمال زيار للصلح غير مظهر للميل مراقبة لأبى القاسم سعد وأشار على باد بسلوك سبيل الاستصلاح معه أيضا. فلمّا أعيت سعدا الحيل وكثرت عليه الأسباب والعلل وعلم أنّ كثير الاجتهاد مع معاندة الأيام ضائع وقليله مع مساعدتها نافع، صالح بادا على [131] أن تكون له ديار بكر والنصف من طور عبدين من غربيها وعاد سعد إلى الموصل وزيار بها وانحدر زيار إلى الحضرة وأقام سعد بمكانه. وكان أمر هذه الوقعة والصلح فى سنة أربع ولكن سياقة الحديث اقتضت إيراده ههنا فى أخبار سنة ثلاث. استيلاء المظفّر على الأمر وفى هذه السنة قتل المظفر بن على الحاجب أبا الفرج محمد بن عمران وأجلس أبا المعالي ابن أبى محمد الحسن بن عمران فى الامارة ثم استولى المظفر على الأمر بعد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 ذكر ما جرى عليه الأمر فى ذلك قد تقدّم ذكر ما كان من أبى الفرج فى قتل أخيه أبى محمد. فلمّا جلس فى الإمارة قدّم القوم الذين ساعدوه وجفا مشايخ القوّاد، فأحفظ الأكابر تقدّم الأصاغر. وكان المظفر أحد قوّاد عمران الذين أبلوا معه فى حروبه فاتفق هو والمعروف بابن الشعراني اصفهسلار الجند وقالا لشيوخ القوّاد: - «قد فعل هذا الرجل ما فعل من استحلال محرّم أخيه وصبرنا عليه مع وجوب حقّه وحق أبيه ولم يقنعه سوء فعله حتى استأنف حطّ منازلنا وتقديم أراذلنا ولا نأمن أن يتعدى الأمر من [132] بعد إلى إزالة نعمتنا واطّراح حرمتنا.» فاتفقت كلمة الجماعة على كراهيته ثم تكفل المظفر لأبن الشعراني بأمر قتله وتكفل ابن الشعراني بأمر جنده وتواعدا على ذلك. ذكر تهوّر سلم صاحبه بالاتفاق ثم إنّ أبا الفرج ركب من دار الإمارة إلى بناء استحدثه وعرف المظفر خبره فقصده إلى الموضع ودخل عليه فلمّا رآه أبو الفرج قال له: - «فيم حضرت؟» قال: «علمت ركوب الأمير فأحببت خدمته.» وحضر من أعطاه كتابا. فلمّا أخذه وتشاغل بقراءته جرّد المظفر سيفه وثار اليه فضربه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 وبادر [1] من كان بين يديه من خواصه الى المظفر بسيوفهم وهو كالجمل الهائج يدافعهم عن نفسه وأكبّ على أبى الفرج ضربا حتى فرغ منه وقد أصابته جراحة فى يده وضربات فى ذباب سيفه. ونزل فى ورجيته [2] إلى المنصورة التي بها دار الإمارة وأخرج أبا المعالي ابن أبى محمد ابن عمران وهو صغير السنّ فأقامه أميرا وأطلق المال وأرضى الجند. ومضى أبو الفرج بعد أخيه سريعا، صرع أخاه فأصبح بعده صريعا، وباع دينه فخسرهما جميعا، وكذلك كل قاتل مقتول، وكل خاذل [133] مخذول، وكن كيف شئت فكما تدين تدان. ونعود إلى ذكر ما جرت عليه الحال بعد ذلك لمّا فعل المظفر ما فعله أظهر الصرامة وقيل له فى التوثقة من العسكر بالأيمان فقال: - «التوثقة سيفي من استقام غمدته عنه ومن اعوجّ سللته عليه.» وكتب إلى الحضرة بما فعله من أخذ ثأر أبى محمد وإعادة الأمر إلى ولده [3] وسأل فى تقليده وأنفذ من استحلف صمصام الدولة له ولنفسه فأجيب إلى ذلك جميعه وأخذ المظفر أمره بالرهبة وقتل الشعراني مع بضعة عشر نفسا من القواد الذين ساعدوه فى يوم واحد. ومضت أيام والمظفر يتولى الأمور وأبو المعالي صبىّ لا فضل فيه ولا تدبير، ثم نازعت المظفر نفسه إلى التردّى برداء الإمارة والتفرّد بها لفظا   [1] . وفى الأصل: وباد. [2] . كأنّه مشتق من ورج (ارج) كلمة فارسية معناها المرتبة (مد) . [3] . وفى الأصل: والده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 ومعنى. ذكر منصوبة عملها المظفر فى إظهار إمارته أمر كاتبه أن يكتب كتابا عن السلطان إليه بالتعويل فى تدبير الأمور [134] عليه ثم أمره بإحضار ركابي غريب وتسليم الكتاب إليه ومواقفته على الدخول بالكتاب عند احتفال المجلس بالناس مغبّر الثياب والوجه كأنّه بشعت بشعث [1] الطريق ففعل ذلك. فلمّا كان فى غد ذلك اليوم واجتمع الناس دخل الركّابىّ على تلك الصورة وأوصل الكتاب إليه. فلمّا أخذه المظفر قبّله ودفعه إلى الكاتب فقرأه وأظهر الاستبشار وقال لأبى المعالي فى الوقت: - «قم إلى أمّك.» وتظاهر بالإمارة ثم أحضر الجند وتوثّق منهم، وقد كان أباد من خاف جانبه ولم يبق إلّا من أمن بوائقه، وتلقّب بالموفّق واستمال القلوب وعدل عن الطريق الأول. ذكر ما اعتمده من حسن السيرة لمّا استتبّ له الأمر على ما أراد حمل الناس على محجّة العدل وخفض لهم جناح اللين وكفّ يده عن القتل واستعمل الرأفة بعد تلك الفظاظة والرحمة، بعد تلك القساوة. وردّ على أرباب الضياع ما كان قبضه عمران وولده منهم وأجرى على   [1] . والمثبت فى مد: بشعت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 أبى المعالي وأمّه جراية واسعة وأقرّهما فى دارهما مدّة طويلة ثم أمرهما بالانصراف فانصرفا إلى واسط وكانت جرايته [135] دارّة عليهما مع بعدهما عنه. ومضت مدة فعهد فى الأمر إلى أبى الحسن على بن نصر الملقّب أخيرا بمهذّب الدولة، ولقّبه إذ ذاك بالأمير المختار، وإلى أبى الحسن على بن جعفر من بعده وهما ابنا أختيه. وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة مؤيد الدولة بجرجان وجلس صمصام الدولة للعزاء به وجاءه الطائع لله معزّيا. ذكر ما جرى عليه الأمر فى وفاة مؤيّد الدولة وإلى أن استقرّت الإمارة لفخر الدولة من بعده لما انصرفت عساكر خراسان الواردة مع فخر الدولة وقابوس الانصراف الذي تقدّم ذكره استقرّ مؤيد الدولة بجرجان وجعلها داره وأقام أبو الحسن على بن كامة عنده. واتصلت الأخبار باشتداد علة عضد الدولة والعهد على صمصام الدولة فى الملك من بعده وأخذ البيعة له على جنده وتفرقة الأموال بالحضرة على الرجال، فشغب الجيش بجرجان وأفردوا خيمهم إلى ظاهر البلد والتمسوا الزيادة والإحسان [136] وتوسط زيار بن شهراكويه والحسن بن ابراهيم الأمر معهم حتى سكنوا وعادوا. فاستأذن بعد ذلك زيار ومن كان معه فى المسير إلى بغداد فرفق مؤيد الدولة بهم إيثارا لمقامهم فلم يفعلوا نزاعا إلى أوطانهم مع ما تجدد لهم من أمر صمصام الدولة على ما قد ذكر فقضى عند ذلك حقوقهم وأذن لهم فى الانصراف فانصرفوا شاكرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 ذكر ما دبّره مؤيّد الدولة فى الاستيلاء على الملك وحالت المقادير دونه لمّا علم مؤيد الدولة بوفاة عضد الدولة سمت نفسه للاستيلاء على الممالك والقيام مقامه فيها وكان قد أنفذ أبا على القاسم إلى فارس متحملا لرسالة إلى الأمير أبى الفوارس ابن عضد الدولة. فورد كتاب أبى على هذا عليه بوقوع الخطبة له فى بلاد فارس وثبوت اسمه على الدينار والدرهم. وقدم أبو نصر خواشاذه ورسول من الأمير أبى الفوارس إليه فلبث عنده أياما وعاد بالجواب ثم راسل أخاه فخر الدولة بالوعود الجميلة [137] وبذل له ولاية جرجان وتقويته بما يحتاج إليه من الأموال فلم يسكن فخر الدولة إلى قوله وأقام بموضعه. وبينما الحال على ذلك إذ جاءه الأمر الذي لا يغلب والنداء الذي لا يحجب فخضع لأمر الآمر مطيعا ولبّى دعوة الداعي سريعا قضية الله سبحانه فى الأولين والآخرين ومشيئته فى الذاهبين والغابرين. قال الله تعالى: «لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» 19: 94- 95. [1] ذكر كلام سديد للصاحب ابن عبّاد ولمّا عرضت لمؤيد الدولة علة الخوانيق واشتدت به قال له الصاحب: - «لو عهد أمير الأمراء عهدا إلى من يراه يسكن إليه الجند إلى أن يتفضل الله تعالى بعافيته وقيامه إلى تدبير مملكته لكان ذلك من الاستظهار الذي لا ضرر فيه.»   [1] . س 19 مريم: 95. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 فقال له: - «أنا فى شغل عن هذا وما للملك قدر مع انتهاء الإنسان إلى مثل ما أنا فيه فافعلوا ما بدا لكم.» ثم أشفى فقال له الصاحب: - «تب يا مولانا من كل ما دخلت فيه وتبرّأ من هذه الأموال التي لست على ثقة من طيبها وحصولها من حلّها، واعتقد متى أقامك الله وعافاك صرفها فى وجوهها وردّ كل ظلامة تعرفها وتقدر على ردّها.» ففعل [138] ذلك وتلطف به وقضى نحبه ولعلّ الصاحب اقتدى فى هذا القول بقصة ابن أبى دؤاد مع الواثق بالله رضى الله عنه إلّا أنّ تلك قول وفعل: خبر حسن فيه تنبيه على فعل خير [1] يقال: إنّه لمّا اشتدت علة الواثق التي توفى فيها وكان فى حبسه جماعة من الكتّاب والعمّال وهم فى ضنك شديد من المطالبة دخل ابن ابى دؤاد عليه وسأله عمّا يجد فشكا الواثق بالله شدة ما به إليه فقال: - «يا أمير المؤمنين إنّ فى حبسك جماعة وراءهم عدد كثير من العيال وهم فى ضرّ وبؤس ولو أمرت بالإفراج عنهم لرجوت لك الفرج من هذه الشدة.» فقال له: - «أصبت.» وأمر بذلك فأفرج عنهم. فلمّا أصبح حضر ابن أبى دؤاد عنده على رسمه فقال له الواثق:   [1] . وردت هذه الحكاية رواية عن على بن هشام فى كتاب الفرج بعد الشدة 1: 99- 98. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 - «إنّى وجدت البارحة بعض الخف.» فقال ابن أبى دؤاد: - «وفّق الله لأمير المؤمنين. فلقد رفعت البارحة ألوف من الأيدى بالدعاء له كانت ترفع من قبل بالدعاء عليه. هذا وقد عاد من أفرج عنهم إلى دور شعثة وعيال جياع وأحوال مختلّة ولو قد أطلقت ضياعهم [139] المقبوضة وأعيدت إليهم أموالهم المأخوذة لكان الدعاء أكثر والأجر أعظم.» فأمر الواثق عند ذلك بتسليم ضياعهم إليهم وإعادة ما أخذ من أموالهم وخرج الأمر بذلك على يد ابن أبى دؤاد، فقام بتمامه فى يومه وأحيا الله أقواما على يده. ولم يكن قد بقي للواثق أجل فمضى لسبيله واستصحب أجر ذلك الفعل معه وفاز ابن أبى دؤاد بهذه المنقبة بقية الدهر. ونعود الى سياقة الحديث. ذكر ما دبّره ابن عبّاد بعد وفاة مؤيد الدولة كتب فى الوقت إلى فخر الدولة بالإسراع وأرسل أخاه وبعض ثقاته ليستوثق منه باليمين على الحفظ والوفاء بالعهد. وتجرّد الصاحب لضبط الأمر ووضع العطاء فى الجند ونصب أبا العباس خسر فيروز بن ركن الدولة فى الامارة تسكينا للفتنة وإزالة للخلف فى عاجل الحال، وكتب الناس مثنى [1] وفرادى إلى فخر الدولة بالطاعة وهو يومئذ بنواحي نيسابور على حالة مختلفة [2] وإضاقة شديدة. وقد أنفذ نصر بن الحسن بن فيروزان [3] الى الصاحب ببخارا مع من نفذ   [1] . وفى الأصل: مثنى الامارة. [2] . لعله: مختلة. [3] . هو خال فخر الدولة وله قصة مع الصاحب ابن عباد: ارشاد الأريب 2: 306. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 من جهة قابوس من [140] وجوه قوّاده حين استدعاهما صاحب بخارا للخلف الواقع بينه وبين ابن عمّه عبد الملك بعقب انهزام عساكره بباب جرجان. فاعتذر إليه فى تأخرهما عنه بنفوسهما وأنفذ إليه أصحابهما المذكورين. فلمّا ورد إلى فخر الدولة كتاب ابن عباد، وتلاه كتب وجوه العساكر أولا فأولا، سار على الفور وعرف قابوس الخبر فأرسل إليه: - «أنّ بيننا ما أريد مفاوضتك فيه.» فأجابه بأننى: - «قد توجّهت ولا قدرة لى على العود بعد التوجّه ومهما أردت فاكتب به.» وبادر يطوى المنازل نحو جرجان. ذكر وصول فخر الدولة إلى جرجان واستقراره فى دار الإمارة لما ورد الخبر بقرب وصول فخر الدولة إلى جرجان قال الصاحب ابن عبّاد للجند: - «إنّما أخذت البيعة عليكم لأبى العباس خسر فيروز على أنّه خليفة أخيه فخر الدولة فبادروا إلى تلقّيه وخدمته.» فندبوا عند ذلك أبا الحسين محمد بن على بن القاسم العارض للاستيثاق بجماعتهم، فسار إليه ولقيه بالتعزية بأخيه والتهنئة بالملك والتوثق [141] للأولياء، فأكرمه فخر الدولة وتقبّل منه ما أورده. وبادر الناس بعد أبى الحسين إلى خدمته فوجا فوجا وهو يقرّبهم ويدنيهم. ثم تلقّاه الصاحب أبو القاسم ابن عبّاد مع الأمير أبى العباس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 خسر فيروز وأكابر القوّاد فرحّب به فخر الدولة وبالغ فى إكرامه وتناهى فى إعظامه ونزل بظاهر المدينة فى الموضع الذي كان مؤيد الدولة معسكرا فيه عند قتال عسكر خراسان، ثم دخل البلد من غده وأخذت البيعة له بالطاعة والمخالصة واستقرّت الإمارة عليه. وكذلك الدهر يتقلّب من حال إلى حال وينتقل بأهله بين أسفل وعال والبؤس والنعيم فيه إلى زوال. ذكر كلام اختبر به ما فى نفس فخر الدولة لمّا انتظم الأمر لفخر الدولة قال له الصاحب: - «قد بلّغك الله يا مولاي وبلّغنى فيه ما أملته لنفسك وأملته لك ومن حقوق خدمتي عليك إجابتى إلى ما أوثره من ملازمة دارى واعتزال الجندية والتوفر على أمر المعاد.» وقال له: - «لا تقل أيها الصاحب هذا، فإنّنى ما أريد الملك [142] إلّا لك ولا يجوز أن يستقيم أمرى إلّا بك، وإذا كرهت ملابسة الأمور كرهت ذاك بكراهيتك وانصرفت.» فقبّل الأرض شكرا وقال: - «الأمر أمرك.» وتلا ذلك أنّه خلع عليه خلع الوزارة وأكرمه منها بما لم يكرم وزير بمثله ثم عمل فخر الدولة والصاحب جميعا على أخذ على بن كامة والاستيلاء على ماله وأعماله، وعلما أنهما لا يقدران عليه لجلالة قدره فعدلا إلى إعمال الحيلة فى أمره . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 ذكر حيلة تمّت فى قتل علىّ بن كامة اجتمع رأيهما على مواقفة شرابي كان له على سمه فتوصّلا إليه وقرّرا أمور ذلك واتفق أنّ على بن كامة عمل دعوة واحتفل فيها واحتشد وسأل فخر الدولة والصاحب الحضور عنده. فواعداه بذلك وراسلا الشرابي بفعل ما تقرر معه فى هذا اليوم وأعطياه سمّا موجبا. ودخل على بن كامة خزانة الشراب يتخيّر الأشربة ويذوقها فطرح الشرابي السمّ فى بعض ما ذاقه فأحس فى الحال باضطراب جسمه فدخل بيتا وطرح نفسه فيه وألقى عليه كساء وعلم فخر الدولة [143] خبره فتأخر عن الحضور. وأطعم الناس وسقوا وتركه أصحابه فى موضعه وعندهم أنّه نائم ولم يقدموا على إنباهه. فلمّا كان من غد رأوه على خملته فدخلوا إليه فوجدوه ميتا. فأنفذ فخر الدولة إلى داره من توكل بها وإلى خزانته من استظهر عليها والى قلاعه من أخذها وإلى أعماله من تولّاها. وكان لعلى بن كامة أولاد فلم يتمّ لهم الأمر مع فخر الدولة. وليس العجب من فخر الدولة فى سمّ الرجل كالعجب من الصاحب الذي سأل بالأمس فى الخبر الذي تقدّم هذا الخبر فى الإذن له فى ملازمة داره والتوفر على أمر المعاد. ووصل أبو نصر شهريسلار بن مؤيد الدولة الى حضرة فخر الدولة فى هذا الوقت فأكرمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 ذكر السبب فى ذلك كان أبو نصر بأصبهان مقيما نائبا عن أبيه مؤيد الدولة فى ولده وحرمه. فلمّا عرف خبر وفاته بادر بمن خفّ معه يريد جرجان فبلغه فى بعض الطريق خبر استقرار فخر الدولة فى الامارة فأقام بموضعه وكاتبه يستأذنه فى الإتمام إلى حضرته. فأجابه بالجميل وصلة [144] الرحم وأمره بالإتمام والمسير فسار ووصل إلى جرجان فأكرم غاية الإكرام. وقدم أبو على القاسم بن على بن القاسم عائدا من فارس مع المال المحمول وقد كان مؤيد الدولة أنفذه إليها حسب ما تقدم ذكره. وأنفذ فخر الدولة أبا القاسم القاضي العلوي رسولا إلى الأمير أبى الفوارس ابن عضد الدولة وأقام بجرجان يجمع الأموال ويملأ بها القلاع إلى أن ورد إليه تاشى هاربا من خراسان فأنزله بجرجان وقرّر عليه ارتفاعها وانصرف هو إلى الرىّ وأقام تاشى بها إلى أن توفى وقيل مات مسموما. وفى هذه السنة شغب الأتراك ببغداد وبرزوا متوجهين إلى شيراز بعد أن كانت طائفة منهم قد سارت قبلهم ولحقت بفارس. فركب زيار بن شهراكويه فى أثر هؤلاء وردّ أكثرهم وأخذ أبا منصور ابن أبى الحسن الناظر وكان قد خرج هاربا وولده مع شرف الدولة لم يقبض عليه فردّ بعد أن جرح لأنّه مانع عن نفسه واعتقل. وكان خال ولد أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف. فلمّا عرف عبد العزيز هربه من الليل خاف أن يسعى أبو عبد الله بن سعدان به إلى صمصام الدولة ويوغر صدره عليه وينسب هربه إليه فرأى أن يسبق بإظهار إبراء الساحة قبل أن [145] ينتهز عدوّه الفرصة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 ذكر رأى سديد وقع لعبد العزيز بن يوسف أمن به ما خاف وقوعه وذلك أنّه غلّس فى صبيحة تلك الليلة إلى الدار وجلس فى الدهليز وراعى قيام صمصام الدولة من منامه وانتظر حضور على ابن أبى على الحاجب وكان له صديقا. فلمّا حضر الحاجب خرج إليه عبد العزيز بما فى نفسه وسأله الاستئذان له على خلوة قبل كل أحد فدخل الحاجب وأعلم صمصام الدولة بحضوره فإذن له. فلمّا حضر قبّل الأرض وبكا بكاء شديدا وقال: - «قد خدمت عضد الدولة وخدمتك ولم تعهد منى إلّا الصدق والمناصحة.» وحلف بطلاق صاحبته أخت أبى منصور وبالأيمان المغلظة إن كان عرف خبر أبى منصور فيما عمل عليه من الهرب أو شاوره فيه. فسكن منه صمصام الدولة وخاطبه بما طابت نفسه به وانصرف من بين يديه وقد زال إشفاقه وخوفه. وحضر من الغد ابن سعدان وأشار إلى أبى القاسم عبد العزيز فى هرب [146] أبى منصور فى أثناء كلامه إشارة لم يتقبلها منه صمصام الدولة وقال: - «أبو القاسم بريء من هذا الأمر ولا علقة له فيه.» فأمسك حينئذ ابن سعدان وزادت العداوة بينهما وجدّ أبو القاسم فى إفساد حال ابن سعدان حتى تمّ له القبض عليه والانتصاب فى مكانه حتى يأتى شرح ذلك من بعد بإذن الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 ودخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وفيها شرف فخر الدولة من حضرة الطائع لله بالخلع السلطانية والعهد واللواء وزيادة اللقب وسلّم جميع ذلك إلى أبى العلاء الحسن بن محمد بن سهلويه رسول فخر الدولة. شرح ما جرى عليه الأمر فى ذلك لمّا توفّى مؤيد الدولة وانتصب فخر الدولة فى موضعه شرع أبو عبد الله ابن سعدان فى إصلاح ما بين صمصام الدولة وبينه، وكاتب الصاحب أبا القاسم ابن عباد فى ذلك. وتردّد بينهما ما انتهى إلى ورود أبى العلاء ابن سهلويه للسفارة فى التقرر وتنجز الخلع السلطانية لفخر الدولة [147] فأكرمه أبو عبد الله ابن سعدان إكراما بالغ فيه وأقام له من الأنزال وحمل إليه من الأموال ما جاوز به حدّ مثله. واتصلت مدة مقامه من المكاتبات ما دلّ على إظهار المشاركة بين الجندين فى كل تدبير وتقرير وتجديد السنّة التي كانت بين الإخوة عماد الدولة وركنها ومعزّها من الاتفاق والألفة. وسدّى الصاحب فى ذلك قوله وألحم، وأسرج فيه عزمه وألجم، حتى أنّه كان لا يجرى أمر ولا بال بحضرة فخر الدولة إلّا كتب به مساهما ولا يعرف حالا يتعلق بمصلحة صمصام الدولة إلّا أشار بها مناصحا. فمن جملة ما كتب الصاحب بشرحه إلى الحضرة ذكر وصول أبى سعيد أحمد بن شبيب صاحب جيش خوارزم رسولا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 أمير خراسان متحملا من الرسالة ألطف الأقوال وورود كتب أبى [العباس] تاش [1] مشتملة من القرب والإخلاص على أجمل الأقوال وأنّ الخطاب دارّ مع الرسول الوارد فى الصلح على قواعد أوّلها طاعة الخلافة، فهي التي لا دين إلّا بها ولا دنيا إلّا معها. ثمّ أن لا يفرج لهم عن شيء من هذه [148] البلاد ولا يكون منهم فى باب قابوس قول أو فعل فى معونة وإسعاد وأن يردّ إلى بخارا ويستخدم فى أبعد الأطراف وأن يقتصر على المال المبذول الذي يجرى مجرى المعونة من أمير المؤمنين لهم على ما أسند [2] إليهم من الثغور وأنّه قد أخرج مع الرسول العائد أبو سعد صالح بن عبد الله، فإذا استتب التقرير واستحصف العقد أنفذت نسخته على شروطه إلى بغداد حسب ما يقتضيه التمازج بين الحضرتين. ومما نطقت به الكتب من المشورة والرأى الحثّ على استمالة الأمير أبى الحسين واستخلاص طاعته وأنّ فخر الدولة قد راسله وخاطبه فى ذلك بما يجرى مجرى التقدمة والتوطئة ومتى أريد التكفل بالتمام فهو على غاية الطاعة. وقد أثبت على الدينار والدرهم اسم فخر الدولة وكتب من البصرة بإقامة الدعوة كما أقامها بالأهواز وليس يتجاوز ما ينهج له ولا يتعدّى ما يحكم به، والصواب طلب التوازر والتعاطف وترك التباين والتخالف. ولا يقال هذا إلّا من طريق ابتغاء المصالح لصمصام الدولة وجمع الأهواء [149] المتفرقة إليه وردّ القلوب النافرة عليه. ثمّ لمّا طال مقام ابني سهلويه وتمادت به الأيّام ساء ظنّ فخر الدولة   [1] . ليراجع التاريخ اليمينى 1: 134 (مد) . [2] . فى الأصل: سدّ. والاقتراح بقرينة «إليهم» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 والصاحب ووردت كتب على ابن سعدان بالمعاتبة. وكان السبب فى تأخر ذلك خطب باد واتساع الخرق فيه وشغل ابن سعدان به عن كل أمر ينجزه وإرب يقتضيه. فلمّا ورد الخبر بهزيمة باد واستقرّ الأمر فى ذلك وأسفر الخطب عن المراد كما قد تقدم ذكره، خلا درع ابن سعدان وخوطب الطائع للَّه على ما يجدّده لفخر الدولة من الخلع السلطانية فأجاب. وجلس على العادة فى أمثالها وحضر أبو العلاء الرسول وأحضرت الخلع السبع والعمّة السوداء والسيف والطوق والسواد واللواء والدابّتان بمركبى الذهب وقرئ العهد بتولية الأعمال التي فى يده وأضيف الى لقبه الأول فلك الأمّة وسلّم جميعه إلى أبى العلاء. وضمّ إليه أبو عبد الله محمد بن موسى الخازن وخرجا إلى جرجان وسلّما ذلك وعادا وأقام أبو العلاء برسم النيابة عن فخر الدولة بالحضرة إلى آخر أيام صمصام الدولة. وفى هذه السنة ورد كتاب أبى بكر محمد بن شاهويه مبشّرا بإقامة الدعوة لصمصام الدولة بعمان [150] . ذكر ما جرى عليه الأمر بعمان إلى أن عادت إلى شرف الدولة كان المتولى بها فى الوقت أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن [1] من قبل شرف الدولة فما زال ابن شاهويه يفتل له فى الذروة والغارب حتى أماله إلى الحملة وأزاله عما كان عليه من الانحياز إلى شرف الدولة.   [1] . وفى الأصل «الحسين» وهو غلط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 وكان صغوه مع من ببغداد لكون أبى على الحسن ولده بها فجمع الأولياء والرعية بعمان على طاعة صمصام الدولة وخطب له على منابر تلك الأعمال. ووصل الخبر إلى بغداد فأظهرت المسرة وجلس صمصام الدولة للتهنئة وكتب كتب البشائر إلى أصحاب الأطراف على العادة وأنفذ إلى أستاذ هرمز العهد بالتقليد مع الخلع والحملان. وأحضر ابنه أبو على الحسن وخلع عليه ونقله من رتبة النقابة إلى رتبة الحجبة. ولمّا عرف شرف الدولة عصيان أستاذ هرمز أخرج إليه أبا نصر خواشاذه فى عسكر استظهر فيه ووقعت بينهما وقعة أجلت عن ظفر أبى نصر وحصول أستاذ هرمز أسيرا تحت اعتقاله واستيلائه على رجاله وأمواله. وعند بلوغ أبى نصر ما أراده من ذلك [151] رتّب بعمان من يراعيها ويشحنها بمن يحميها وعاد إلى فارس ومعه أستاذ هرمز فشهر بها ثم قرّر عليه مالا ثقيلا وحمل إلى بعض القلاع مطالبا بتصحيحه. وفى هذه السنة أفرج شرف الدولة أبو الفوارس عن أبى منصور محمد بن الحسن بن صالحان وعن أبى القاسم العلاء بن الحسن وعن أبى الحسن الناظر أخيه واستوزر أبا منصور من بينهم وردّ الأمور إلى نظره. ذكر ما جرى عليه الأمر فى اعتقالهم والإفراج عنهم والتعويل على أبى منصور فى الوزارة ولمّا وصل شرف الدولة أبو الفوارس إلى شيراز قبض على نصر بن هارون كما تقدّم ذكره واستوزر أبا القاسم العلاء بن الحسن فقصر أبو القاسم فى أمور الحواشي والخواص وهم أفسدوا رأى شرف الدولة فيه وأغروه به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 وبأخيه أبى الحسن الناظر على سخيمة كانت فى نفس فخر [1] الدولة على أبى الحسن فقبض بعد مدة يسيرة عليهما وعلى أبى منصور محمد بن الحسن ابن صالحان معهما وأمر بحملهم إلى بعض القلاع. وردّ النظر إلى أبى محمد [152] على بن العباس بن فسانجس وإلى [2] أبى الحسن محمد بن عمر العلوي فإنّه أشار به للمودة البغدادية التي جمعتهما وعوّل على أبى منصور فى الوزارة من بينهم فاتفق له بالعرض ما صار سببا لثباته فيها. ذكر اتفاق حميد صار سببا لثبات قدم حكى أبو محمد [3] ابن عمران أنّ شرف الدولة أنفذ رسولا إلى القرامطة. فلمّا عاد الرسول من وجهه سأله عن مجاري الأحوال، فقال له فى جملة الأقوال: - «إنّ القرامطة سألونى عن الملك فوصفت لهم حسن سياسته وجميل سيرته. فقالوا: من حسن سيرة الملك أنّه استوزر فى سنة واحدة ثلاثة لغير ما سبب.» فحصل هذا القول فى نفس شرف الدولة ولم يغيّر على أبى منصور أمرا وبقي فى خدمته إلى أن توفّى. وأما أبو الحسن الناظر فإنّه أنفذ إلى جرجان برسالة وتوفّى بها. وأما أبو القاسم العلاء فإنّه أقام فى داره إلى أن خرج شرف الدولة إلى الأهواز فخرج معه على ما [153] سيأتي ذكره فى موضعه.   [1] . لعله يريد شرف الدولة (مد) . [2] . وفى الأصل: ابن. [3] . لعله: أبو الحسن محمد (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 وفى هذه السنة قبض على أبى عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان ومن يليه وعلى أبى سعد بهرام وأبى بكر بن شاهويه وسائر أصحابهم ونظر أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف فى الأمور ودبّرها مديدة. ودخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة فيها شورك بين أبى القاسم وبين أبى الحسن أحمد بن محمد بن برمويه فى الوزارة وتنفيذ الأمور وخلع عليهما جميعا. شرح الحال فيما جرى عليه أمر هذه الوزارة المشتركة كانت الحال فيما بين أبى القاسم وبين أبى الحسن بن برمويه ثابتة على الإخاء جائزة على الصفاء، وكانا يتجاوران فى منازلهما ويتزاوران فى مجالسهما، فهما أبدا عاكفان إمّا على معاشرة وإمّا على مشاورة. فلمّا توفّى أبو الحسن على بن أحمد العماني كاتب والدة صمصام الدولة سعى أبو عبد الله ابن سعدان لأبى نصر والده فى كتابتها فعمل أبو القاسم عبد العزيز فى [154] عكس ذلك للعداوة التي بينهما. ذكر كلام سديد لعبد العزيز بن يوسف فى تحذير صمصام الدولة من الحجر عليه قاله له: إنّ أبا عبد الله قد استولى على أمورك وملك عليك خزائنك وأموالك وإذا تمّ له حصول والده مع السيدة حصلنا تحت الحجر معه وهذا أبو الحسن ابن برمويه رجل قد خدم عضد الدولة وهو أسلم خبيّة وأطهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 أمانة وأليق خدمة للحرم [1] لأنّه كان خصيّا [ابن] الياس [2] واشتراه عضد الدولة من البلوص عند حصوله فى أسرهم. فوقّر هذا القول فى سمع صمصام الدولة وقبله وقلّد أبا الحسن كتابة والدته. فلمّا نظر أبو القاسم بعد أبى عبد الله ابن سعدان استخلف أبا سعد الفيروزآباذي وأبا عبد الله ابن الحسين بن الهيثم. فاستوحش أبو الحسن ابن برمويه بعدوله عنه بعد أن قدّر أنّ الأمور تكون مفوضة إليه للحال التي بينهما. فواصله أياما على رسمه ثم انقطع عنه وصار يجتاز ببابه ولا يدخل إليه. وشرع مع والدة صمصام الدولة فى طلب الأمر لنفسه فتغيّر أبو القاسم [155] عليه واعتقد كل واحد منهما عداوة صاحبه. ذكر رأى ضعيف أشارت به والدة صمصام الدولة عليه فعمل به خاطبته على أن يجمع بين أبى القاسم وبين أبى الحسن فى الوزارة فأجلبها إليه وخوطب أبو القاسم فى ذلك فامتنع. وجدّت السيدة فى الأمر وتردد من الخطاب ما انتهى آخره إلى إلزامه الرضا [3] به فخلع عليهما وسوى فى الرتبة والخطاب بينهما وجلسا جميعا فى دست واحد فى دست الوزارة المنصوب، وتقرّر أن يكون اسم أبى القاسم متقدما فى عنوانات الكتب عنهما.   [1] . والمثبت فى مد: الحرم. [2] . هو اليسع بن محمد بن الياس وكان انهزم إلى خراسان بعد استيلاء عضد الدولة على قلعة بردسير فى سنة 357 كما تقدّم ذكره. [3] . كذا فى مد: الرضاء (بالمدّ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 فلم يتمّ ذلك واستعلى أبو الحسن بقوة سرّه واستظهاره بعناية السيدة به وخوف الناس منه، وصار الأمر سخيفا بهذا الرأى الضعيف. والدولة إذا كفلها النساء فسدت أحوالها ووهنت أسبابها وبدأ اختلالها وولّى إقبالها والأمر إذا ملكنه انتقضت قواه وانهدم بناه ولم تحمد عقباه والرأى إذا شاركن فيه قلّ سداده وضلّ رشاده وعند ذلك يكون الفساد إلى الأمور أسرع من السيل إلى الحدور. لا جرم أنّ أبا القاسم احفظه ذلك وما عاملته السيدة [156] من نصرة أبى الحسن عليه و [لمّا] رأى أنّ أبا الحسن أشدّ بطشا فى عداوته من ابن شهراكويه [1] شرع فى إخراج الملك من يدي صمصام الدولة واستغوى أسفار بن كردويه ووافقه على ذلك. ذكر ما جرى عليه الأمر فى عصيان أسفار كان قد تردّد بين صمصام الدولة وبين زيار بن شهراكويه أسرار اطّلع عليها أبو القاسم بحكم امتزاجه بالخدمة وخرج بها إلى أسفار وخاض فيها الغمرات وأشعر قلبه وحشة أخرجته من أنس الطاعة. وتقرّر بينهما فى ذلك ما أحكما عقده ودخل معهما فى هذا الرأى المظفر أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وأبو منصور أحمد بن عبيد الله الشيرازي كاتب الطائع يومئذ وقد كان صمصام الدولة اعتلّ علة أشفى فيها. فواقف أسفار أكابر العسكر وأصاغرهم على خلع صمصام الدولة وإقامة الأمير أبى نصر- وسنّه فى الوقت خمس عشرة سنة- خليفة لأخيه شرف الدولة ووعدهم بمواعيد الإحسان واستظهر عليهم بمواثيق الأيمان وابتدأ   [1] . وفى الأصل: ابن شهران. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 الفتنة بالتأخّر عن الدار واستعمال التخبّى [1] وترددت [157] اليه من صمصام الدولة مراسلات التأنيس والتسكين فما زادته إلّا إغراء وتغميرا. فصار إليه أبو القاسم عبد العزيز وأبو الحسن ابن برمويه وأبو الحسن ابن عمارة العارض برسالة من صمصام الدولة هي ألطف ممّا تقدم. فلمّا حصلوا عنده امتنع من لقائهم وقبض عليهم وجمع العسكر وأحضر الأمير أبا نصر ونادى بشعار شرف الدولة وأفرج عن أبى القاسم لأنّ القبض عليه كان بموافقة منه واجتمعوا على تدبير الأمور وترتيبها، وتولّى المظفر بن الحسن بن حمدويه وأبو منصور الشيرازي أخذ البيعة على الجند. وبلغ صمصام الدولة الخبر وقد أبلّ من مرضه، فتحير فى أمره وجمع غلمان داره وراسل الطائع لله فى الركوب، فاستعفى وامتنع منه. ذكر رأى سديد واتّفاق حميد اتّفقا لصمصام الدولة أسفر بهما الأمر عن الظفر لمّا رأى الخطب معطّلا استنصر فولاذ بن ماناذر [2] مستصرخا وبذل له المواعيد الكثيرة على ذلك وكان فولاذ مع القوم فيما عقدوه لكنّه أنف من بعد رتبة الانحطاط لأسفار عن رتبة المتابعة. وكان من [158] حميد الاتّفاق إطلال المساء وحجاز الليل، ولو سار أسفار فى الوقت الذي أظهر فيه ما أظهره الى صمصام الدولة لأخذه ولم يكن له دافع عنه لكنّه ظنّ أن لن يفوته الأمر وكان قدرا مقدورا. فأصبحوا وقد خالفهم فولاذ وانحاز إلى صمصام الدولة فحضر لديه وأكّد   [1] . والمثبت فى مد: التخبى. [2] . وفى الأصل: ماناذار. هو ملك الديلم وابنه مولاذ مذكور مع الصاحب ابن عباد: ارشاد الأريب 2: 305. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 العهد والعقد عليه وتنجّز منه توقيعا بجميع ما التمسه من جهته وتكفّل له بالذبّ عن دولته والقيام بخدمته. وانضاف إلى صمصام الدولة فولاذ ورجاله والجيل وهم أقاربه وأخواله وغلمان داره وعدّتهم كثيرة وشوكتهم قويّة ففتح خزانتي السلاح والمال وعجّل لهم وأعطاهم ووعدهم من بعد ومنّاهم وسار بهم فولاذ مصعدا للقاء القوم. ذكر تدبير جيد دبّره فولاذ فى أمر الحرب نزل إلى زبزب صمصام الدولة وجلس على كرسيّه فى دسته وعلى رأسه علامته ومن ورائه وأمامه الزبازب والطيارات، حتى ظنّ النّاس أنّ صمصام الدولة قد خرج بنفسه. وسير العسكر بإزائه على الظهر. فلمّا انتهى إلى الجزيرة بسوق يحيى وجد الجيل وعدّتهم قليلة يقاتلون ديلم أسفار [1] وقد [159] ثابتوهم وصابروهم. فصعد من الزبزب وعبّى المصاف، وسار قليلا قليلا حتى صدم عسكر أولئك- وعندهم أنّ تحت العلامة صمصام الدولة- فانكسروا. ورآهم أسفار من روشنه مولّين فأيقن بالهزيمة، فركب وولّى هاربا، وتبعه طائفة من أقاربه وشيعته وأبو القاسم عبد العزيز، وأفلت أبو الحسن ابن عمارة العارضى جريحا وأخذ الأمير أبو نصر وحمل إلى صمصام الدولة. فرقّ له لما شاهده وعلم أنّه كان لا ذنب له فلم يؤاخذه وتقدّم باعتقاله وترفيهه فكان فى الخزانة محروسا مراعى. ونهبت دور الديلم والأتراك العاصين ودور أتباعهم وأشياعهم.   [1] . أسفار: لعلّ أصله الفارسي «الأسوار» : الفارس. عرّبت الواو فيه إلى الفاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 وقتل فى الليلة التي وقعت فى صبيحتها الهزيمة أبو عبد الله ابن سعدان. ذكر مكيدة لعبد العزيز فى أمر ابن سعدان صارت سببا لقتله لمّا قبض أسفار على أبى القاسم وأبى الحسن ابن برمويه وأبى الحسن ابن عمارة انتهز أبو القاسم الفرصة وأرسل فى الحال إلى صمصام الدولة يغريه بابن سعدان ويوهمه أنّ الذي جرى كان من فعله وتدبيره وأنّه لا يؤمن ما يتجدّد [160] منه فى محبسه فسبق فى هذا القول إلى ظنّه. وكان أحمد بن حفص المحرى عدوّا له فزاد بالإغراء به فأمر حينئذ بقتله وقتل معه أبو سعد بهرام على سبيل الجرف وقد كان خليفته وقت نظره وقتل أبو منصور غيظا لأبى القاسم. قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. 8: 25 [1] وكان أبو بكر ابن شاهويه معتقلا فسلم لحسن اتّفاق. ذكر اتّفاق عجيب سلم به ابن شاهويه من القتل كان محبوسا فى حجرة تتصل بالحجرة التي فيها هؤلاء، لكن بابها خلف الأخرى فإذا فتح ذلك غطّى هذا فلا يؤبه له، فانستر لهذه العلّة وسكنت سورة الفتنة فأفرج عنه من بعد. وأطلق أبو الريّان حمد بن محمد من الاعتقال وعوّل عليه فى الوزارة وعلى أبى الحسن على بن طاهر فى كتابة السيدة، وكتب الكتب بذكر البشارة إلى فخر الدولة وسائر الأطراف وقبض على أخوى أبى القاسم وكتّابه   [1] . س 8 أنفال: 25. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 وأصحابه. وكان المظفر أبو الحسن ابن حمدويه وأبو منصور الشيرازي هربا من دار أسفار يوم الهزيمة فظفر بهما وقرّر أمرهما [161] على مال صودرا عليه. وخلع الطائع لله على صمصام الدولة وجدّد له تشريفا وإكراما وخلع على أبى نصر فولاذ بن ماناذر الخلع الجميلة وخوطب بالإصفهسلارية [1] بعد أن استحلف على الوفاء والمناصحة. ومضى أسفار بن كردويه وأبو القاسم ومن معهما إلى الأهواز مغلولين. ذكر ما جرى عليه أمر أسفار وعبد العزيز بن يوسف والأتراك الخارجين من بغداد خرجوا من بغداد إلى جسر النهروان وساروا إلى الأهواز. فلمّا حصلوا بها تلقّاهم الأمير أبو الحسين وأرغبهم فى المقام. فأمّا الأتراك فإنّهم أظهروا الموافقة وأسرّوا غيرها، ثم ركبوا فى بعض الأيّام غفلة وساروا. فتقدّم الأمير أبو الحسين إلى سابور بن كردويه يتتبعهم وردّهم فركب وراءهم ولحقهم بقنطرة أربق [2] فلم يكن له بهم طاقة وجرت بينهم مناوشة ورموه فأصابوا بعض أصحابه ومضوا هم وعاد هو. وأما أسفار بن كردويه فإنّه أقام بالأهواز مكرما وكان أخوه سابور زعيم [162] الجيش فقدم عليه أسفار لكبر سنّه وجلالة قدره وأقام على ذلك إلى أن أقبل شرف الدولة من فارس، فأنفذه الأمير أبو الحسين إلى عسكر مكرم لضبطها فى خمسمائة رجل من الديلم. فلمّا حصل شرف الدولة   [1] . الإصفهسلاريّة: قيادة الجيش، رئاسة الجيش. وأصله الفارسي: «سپاه» أى الجيش أو العسكر، و «سالار» أى الرئيس والقائد. [2] . أربق: ويقال بالكاف: أربك. من نواحي رامهرمز من خوزستان (مراصد الإطلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 بالأهواز صار أسفار إليه، فأمر بالقبض عليه وحمل إلى بعض القلاع بفارس. وكان بها إلى أن توفى شرف الدولة وأفرج عنه عند الإفراج عن صمصام الدولة وأقام بفارس مديدة ومضى إلى الرىّ. وأمّا أبو القاسم عبد العزيز، فإنّ أبا الفرج منصور بن خسره تكفّل بأمره وأعظم منزلته وعرف له حق تقدّمه فجازى أبو القاسم إحسانه بسوء النيّة فيه وحدّث نفسه بطلب مكانه وألقى ذلك إلى بعض من عوّل عليه فيه. فأحسّ أبو الفرج واستظهر لنفسه بالتوثيق من الأمير أبى الحسين ومن والدته باليمين على إقراره فى نظره وترك الاستبدال به. ولم يزل يتوصّل حتى غيّر نيّة الأمير أبى الحسين فى أبى القاسم ونقصه فى المنزلة التي كان أنزله ايّاها فى ابتداء وروده واطّرح الرجوع فى شيء من الأمور إلى رأيه «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» 42: 40 [1] والبادئ أظلم. وبقي على هذه الحال إلى أن ورد شرف الدولة فقبض عليه مع أسفار وأنفذ إلى القلعة وأفرج عنه بعد وفاته. ورود إسحق وجعفر الهجريّين وفى هذه [163] السنة ورد اسحق وجعفر الهجريان فى جمع كثير وهما من القرامطة الستّة الذين يلقّبون بالسادة. فملكا الكوفة وأقاما بها الخطبة لشرف الدولة. فوقع الانزعاج الشديد من ذلك بمدينة السلام لما كان قد تمكّن فى قلوب الناس من هيبة هؤلاء القوم وقوّة بأسهم ومسالمة الملوك لهم لشدّة   [1] . س 42 الشورى: 42. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 مراسهم حتى إنّ عضد الدولة وعزّ الدولة قبله أقطعاهم إقطاعات بواسط وسقى الفرات. فكانت مآربهم تقضى ومطالبهم تمضى وأبو بكر ابن شاهويه صاحبهم يجرى بالحضرة مجرى الوزراء فى حاله، والإصغاء من الملوك راجع إلى أقواله، وأكابر الناس يخشونه مجتملين لكبره منقادين لأمره، ولا سبب إلّا اعتزاؤه إلى هؤلاء القوم. ذكر ما جرى عليه أمر اسحق وجعفر القرمطيّين لما ورد الخبر باستيلائهما على الكوفة بدأهما أبو الريان بالمكاتبة وسلك معهما طريق الملاطفة والمعاتبة ودعاهما إلى الموادعة والمقاربة وبذل لهما ما يحاولانه. وعوّل على أبى بكر ابن شاهويه فى [164] الوساطة معهما وكان قد أطلقه من الاعتقال وتلافى بالإحسان إليه والإجمال. فعدلا فى الجواب الى التعليل والتدفيع، وجعلا ما كان من القبض على ابن شاهويه حجّة فى اللوم والتقريع، وزاد الخطب معهما فى بثّ أصحابهما فى الأعمال ومدّ أيديهما الى استخراج الأموال، حتى لم يبق للصبر موضع ولا فى القوس منزع. وحصل المعروف بأبى قيس الحسن بن المنذر وهو وجه من وجوه قوّادهم بالجامعين فى عدد كثير، فجرّد إليهم من بغداد أبو الفضل المظفر بن محمود الحاجب فى عدّة من الديلم والأتراك والعرب وأخرج أبو القاسم ابن زعفران إلى ابراهيم بن مرح العقيلي لتسييره فى طائفة من قومه. وحصل أبو الفضل الحاجب بجسر بابل والقوم بإزائه فعقدوا جسرا على الفرات. فإلى أن فرغ منه وصل ابراهيم وابن زعفران وحصلا مع القرامطة على أرض واحدة وتناوشوا وتطاردوا وفرغ الجسر وعبر سرعان الخيل من الأتراك وفرسان الديلم وحملوا مع ابراهيم بن مرح وأصحابه على القوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 حملة واحدة انكشفت عن هزيمتهم وأسر أبو قيس زعيمهم مع جماعة من قوّادهم وأسرع إليه ابراهيم بن مرح، فضرب عنقه لثأر له عنده. وعاد الفلّ إلى الكوفة. وجاء البشير إلى بغداد فأظهرت البشارة بها. [165] ذكر ما كان من القرمطيّين بعد قتل أبى قيس صاحبهما لمّا عاد الفلّ إليهما هزّتهما الحميّة- وللقرامطة نفس أبيّة- فجهّزا جيشا جعلا عليه قائدا من خواصّهما يعرف بابن الجحيش واستكثروا معه من العدّة [1] والعدّة، ووصل الخبر بذلك إلى بغداد فأخرج أبو مزاحم بجكم الحاجب فى طوائف من العسكر وعبر إلى القوم وهم بغربي الجامعين وواقعهم وقعة أجلت عن قتل ابن الجحيش وأسر عدد من قوّادهم وانتهاب معسكرهم وسوادهم ونجا من نجا منهم هاربا إلى الكوفة. فرحل القرمطيان فيمن تخلّف عندهما وولّوا أدبارهم. ودخل أبو مزاحم الكوفة وقصّ آثارهم حتى بلغ القادسية، فلم يدركهم وعاد إلى الكوفة. وزالت الفتنة وبطل ناموس القرامطة عند ذلك وذهبت الهيبة التي اشرأبّت النفوس منها. ولكلّ قوم سعادة تجرى إلى أجل معدود وتنتهي إلى أمل محدود ثم تعود إلى نقصان وزوال وتغيّر من حال إلى حال، إلّا سعادة الدين فإنّها إلى نماء، فإذا انفصلت من دار الفناء [166] اتصلت بدار البقاء. وفى هذه السنة أفرج عن ورد الرومي ومن معه من الأسرى بسفارة زيار بن شهراكويه.   [1] . والمثبت فى مد: العد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 شرح ما جرى عليه أمر ورد فى الإفراج عنه وإصعاده إلى بلد الروم قد تقدّم ذكر القبض عليه فى أيام عضد الدولة وبقي فى الاعتقال إلى هذا الوقت فسفر زيار فى إطلاقه وخاطب صمصام الدولة على اصطناعه فاشترطت عليه وله شروط وتوثّق منه فيها ووثق له على الوفاء بها. وأمّا ما اشترط عليه فهو أن يعترف لصمصام الدولة بالصنيعة ويكون حربا لمن حاربه سلما لمن سالمه من المخالفين فى الدين والموافقين عليه وأن يفرّج عن جماعة المسلمين بين من أحاطت ربقة الأسر برقابهم [1] أو طالت يد الحصر فى أعناقهم ويعينهم على النهوض إلى بلادهم وحراستهم على طبقاتهم فى نفوسهم وأموالهم وحرمهم وأولادهم، وأن لا يجهّز جيشا إلى ثغر ولا يغضى العين لأحد من أصحابه فى مثل ذلك على غدر، وأن يسلم سبعة من حصون الروم برساتيقها ومزارعها آهلة عامرة [167] وأن يفي بقيّة ما عاش بجميع ما قرّر معه واشترط عليه. وأمّا ما شرط له فالتخلية عن سبيله وحمايته من الأيدى الخاطفة حتى يخرج هو ومن فى صحبته موفورين من البلاد التي تضمّها مملكة صمصام الدولة وأن يكون أمر الحصون إذا سلّمها مجرى العادة المستمرّة فى حراسة أهلها وإقرارهم على أملاكهم وحقوقهم وإجرائهم فى المعاملات والجبايات [2] على رسومهم وطقوسهم [3] . واستوثق من أخيه قسطنطين ومن ابنه أرمانوس بمثل ما استوثق منه   [1] . والمثبت فى الأصل: بأرقابهم. [2] . وفى الأصل: والجنايات. [3] . والمثبت فى مد: طسوقهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وكتب بذلك كتب وسجلّات استؤذن الخليفة الطائع لله فى إمضائها فأذن فيها وأمر بإحكام قواعدها ومبانيها. فلمّا استقرّت القاعدة أفرج عنه وحمل إليه مال وثياب وجلس صمصام الدولة للقائه. ذكر ترتيب جلوس صمصام الدولة بحضور ورد قال صاحب التاريخ: عهدي بصمصام الدولة وجلس حتى يلقاه ورد ويشاهده ويخدمه ويشكره وقال: كان الوقت شتاء والدار ومجالسها مملوءة بالفرش الجليلة وستور الديباج النسيجة معلقة على [168] أبوابها وغلمان الخيل بالبزّة الحسنة والأقبية الملّونة وقوف سماطين بين يدي سدّته وكانت قد نصبت فى السّدلىّ الذهب الذي تفتح أبوابه إلى البستان وإلى بعض الصحن، والديلم من بعدهم على مثل ترتيبهم وزيّهم إلى دجلة. وعبر ورد وأخوه وابنه فى زبزب أنفذ إليهم يمشون بين السماطين إلى حضرة صمصام الدولة وبحضرته كوانين من ذهب موضوعة فيها قطع العود توقد. فلمّا قرب منه ورد طأطأ رأسه قليلا وقبّل يده، ووضع له كرسي ومخدّة فجلس عليهما. وسأله صمصام الدولة عن خبره فدعا له وشكره بالروصيّة [1] والترجمان يفسّر عنه وله. وقال قولا معناه: - «قد تفضلت أيها الملك ما لا أستحقّه وأودعت جميلا عند من لا يجهله، وأرجو أن يعين الله على طاعتك وتأدية حقوق فعلك.» وقام ومشى الحجّاب والأصحاب بين يديه كفعلهم عند مدخله وعبر فى   [1] . كذا: بالروصيّة. وفى المواطن الآتية: الروسيّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 الزبزب إلى داره. ذكر ما جرى عليه أمر ورد بعد إصعاده من بغداد [169] لمّا توجّه تلقاء بلده استمال كثيرا من البوادي وأطمعهم فى العطاء والإحسان وأخذ فى المسير حتى نزل على ملطية وبها كليب عاملا لملكى الروم عليها وكليب من أصحاب ورد- كما قد تقدّم ذكره فى المشروح الذي وجد بخط ابن شهرام- فأطاعه وحفظ عهده وسلّم إليه ما كان معدّا عنده فلمّ به شعثه وقوى به حزبه وعمل على المسير إلى ورديس بن لاون مظهرا حربه. فتردّدت بينهما رسائل انتهت إلى تقرير قاعدة فى الصلح على أن يكون قسطنطينية وما والاها من جانبها لورديس بن لاون وما كان من الجانب الآخر من البحر لورد واتّفقا بعد توكيد الأيمان بينهما على الاجتماع. وسار كل واحد منهما للقاء صاحبه فاجتمعا على ميعاد، فلمّا تمكّن منه ابن لاون قبض عليه. ذكر غدر ورديس بن لاون بورد وقبضه عليه ثم مراجعته الحسنى بالإفراج عنه كان ورد قد وثق بما أكّده من العهود التي اطمأنّ إليها واعتقد ورديس [170] بالبديهة أنّه فرصة قد قدر عليها فغدر به وقبض عليه وحمله إلى بعض القلاع. فلمّا راجع رويته علم أنّه أقدم على خطّة شنعاء تبقى عليه سمة الغدر وتجلب إليه وصمة فى الذكر وأجرى إلى فعله نكرا ينفر كلّ قلب عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 معاهدته ويحمل كل قريب على مباعدته. فاستدرك الأمر بتعجيل الإفراج عنه والاعتذار إليه وتجديد المواثيق معه، فعادا إلى ما كانا عليه من الألفة والاتّفاق ودفعا أسباب الفرقة والشقاق. وانصرف ورديس فنزل بإزاء قسطنطينية منازلا لباسيل وقسطنطين ملك [1] الروم، وقد اجتمعت الكلمة عليه وانضوى العساكر وأهل البلاد إليه، وبقي الملكان فى قلّ من الناس متحصّنين بالمدينة وبحصينها. ذكر تدبير لملكى الروم عاد به أمرهما إلى الاستقامة بعد الاضطراب لمّا انتهت الحال منهما إلى الضعف راسلا ملك الروسية واستنجداه. فاقترح عليهما الوصلة بأختهما، فأجاباه إلى ذلك وامتنعت المرأة من تسليم نفسها إلى من يخالفها فى دينها. وتردد من الخطاب فى ذلك ما انتهى إلى [دخول] ملك الروسية فى النصرانية وتمّمت الوصلة معه وهديت المرأة [171] إليه فأنجدهما من أصحابه بعدد عديد وهم أولو قوّة وأولو بأس شديد. فلمّا حصلت النجدة بقسطنطينيّة عبروا البحر فى السفن للقاء ورديس وهو يستقلّهم فى النظر ويهزأ بهم: كيف أقدموا على ركوب الغرر. فما هو إلّا أن وصلوا إلى الساحل وحصلوا مع القوم على أرض واحدة حتى نشبت الحرب بينهم واستظهر فيها الروسية وقتلوا ورديس وتفرّقت جموع عساكره. وثاب أمر الملكين إلى الاستقامة والاعتدال واشتدّ ملكهما بعد التضعضع والانحلال وراسلا وردا واستمالاه وأقرّاه على ولايته. فأقام على جملته   [1] . الصواب: ملكي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 مديدة ثم توفّى وقيل: إنّه سمّ. وتقدّم بسيل [1] فى الملك وظهر منه حسن سياسة وأضاء له رأى وقوة عزم وثبات قلب، حتى إنّه صبر على قتال بلغر خمسا وثلاثين سنة يواقعهم ويواقعونه والحرب [لم تزل] بينهم حتى ظفر بهم وملك ديارهم وأجلى عنها الجمّ الغفير منهم وأسكنها الروم بدلا عنهم. وشاع ذكره فى عدله ومحبّته للمسلمين وطال عهده [2] فى بلادهم وملكه بالكفّ عن بلادهم وإحسان معاملته مع من يحصل فى ممالكه منهم. وفى هذه السنة همّ صمصام الدولة بأن يجعل على الثياب الأبريسميّات والقطنيّات [172] التي تنسج ببغداد ونواحيها ضريبة العشر فى إتمامها. [3] ذكر السبب فى ذلك كان أبو الفتح الرازي كثّر ما يحصل من هذا الوجه وبذل تحصيل ألف ألف درهم منه فى كلّ سنة. فاجتمع الناس بجامع المنصور وعزموا على المنع من صلاة الجمعة وكان المدن تفتتن، فأعفوا من إحداث هذا الرسم. فتوى الخوارزمي الفقيه فى انتحار المعذّب وفيها مات أبو العباس ابن سابور المستخرج تحت المطالبة بالتعذيب والمعاقبة. فقيل: إنّه عرضت فتوى على أبى بكر الخوارزمي الفقيه مضمونها:   [1] . بسيل باسيل. [2] . والمثبت فى مد: أعده. [3] . فى الأصل: اثمامها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 - «ما يقول الشيخ فى رجل مطالب معاقب قد تردّدت عليه مكاره هوّنت عليه الموت، هل له فسحة فى قتل نفسه وإراحتها مما تلاقيه.» فكتب فى الجواب: - «إنّه لا يجوز ولا يحلّ فعله، والصبر على ما هو فيه أدعى إلى تضاعف ثوابه وتمحيص ذنوبه.» فلمّا انصرف حاملها، قال بعض الحاضرين لزهير بن أبى بكر: - «هذه فتوى ابن سابور المستخرج.» قال أبو بكر: - «ردّوا حاملها.» فردّوه، فسأله عنها، فأخبر أنّها لابن سابور فقال أبو بكر: - «قل له: إن قتلت نفسك أو أبقيت عليها [173] فعاقبتك إلى الخسارة ومصيرك إلى النار.» حركة شرف الدولة من فارس طالبا العراق وفيها اتصلت الأخبار بحركة شرف الدولة [1] من فارس طالبا للعراق. فأخرج إليه أبو عبد الله محمد بن على بن خلف رسولا وسفيرا فى تقرير. الصلح. فورد كتابه من الأهواز يذكر فيه: أنّه صادف شرف الدولة بها فبلغ ما تحمّله من الرسالة فقوبل بالجميل الدالّ على حسن النية، ووعد بإحسان السراح وضمّ رسول اليه ليقرّر أمر الصلح والصلاح.   [1] . وفى الأصل: سيف الدولة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 القبض على أبى الريّان وبعد ذلك قبض على أبى الريّان حمد بن محمد وعلى أصحابه وأسبابه. ذكر السبب فى ذلك كان أبو الحسن على بن طاهر قد استولى على أمور والدة صمصام الدولة بحكم كتابتها، وعظمت حاله ومنزلته عندها وعند صمصام الدولة لأجل خدمتها. وقد تقدّم القول بأنّ تملّك النساء لأمور الدولة عائد عليها بعظيم الخلل، فلا يزال بهنّ النقض والإبرام حتى تزيغ القلوب وتزلّ الأقدام. وكان ابن طاهر هذا وأبو عبد الله ابن عمّه قد استوحشا من أبى الريّان، فأفسدا حاله عند صمصام الدولة واستعانا بالسيدة عليه، وقرفاه بالميل إلى شرف الدولة وأنّ نفوذ [1] ابن خلف لإصلاح [174] أمره معه، وما زالا يعملان الحيلة حتى تمّ القبض عليه. ذكر ما جرى عليه أمر أبى الريّان حضر الدار على رسمه وجلس ينظر فيما جرت عادته بالنظر فيه. ومن غريب الاتفاق أنّه فقد خاتمه فى تلك الحال ولم يعلم كيف سقط من يده وطلب فلم يوجد. ثم استدعى إلى حضرة صمصام الدولة وعدل به إلى الخزانة ووقع القبض عليه. فكانت مدة وزارته هذه سبعة أشهر وأيّاما. واستولى أبو الحسن وأبو عبد الله ابن عمه على الأمور كان إليهما مصادر   [1] . وفى الأصل: نفود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 الأوامر فى الأصول، ونصبا أبا الفتح ابن فارس وأبا عبد الله ابن الهيثم لمراعاة الفروع وكانا يحضران فى حجرة لطيفة فى دار المملكة ويوقّعان بإخراج الأحوال وإطلاق الصكاك واستيفاء الأموال وجرت الحال على ذلك إلى أن زال صمصام الدولة. وورد فى أثر القبض على أبى الريان أبو نصر خواشاذه رسولا عن شرف الدولة ومعه أبو عبد الله ابن خلف فتلقّاه صمصام الدولة فى خواصّه وقوّاده وأكرمه. [175] ذكر ما جرى عليه الأمر فى وروده قد كان أبو نصر هذا وأبو القاسم العلاء بن الحسن وأكثر الحواشي الذين مع شرف الدولة يحبّون المقام بفارس لأنّها وطنهم وبها أهلهم ونعمهم وفى جبلّة البشر حبّ الأوطان واختيار الثواء بين الأهل والإخوان. وكان أبو الحسن محمد بن عمر يشير على شرف الدولة بقصد العراق وهم لا يتابعونه فى الرأى على هذا الاتفاق، ويقولون: غرضه العود إلى مستقرّ قدمه والرجوع إلى بلده وأملاكه ونعمه وأنّ عضد الدولة منذ أعرض عن فارس وأقبل على العراق لم يكن له بال رخىّ ولا عيش هنىّ. وكان شرف الدولة يوعيهم لهذا الأمر سمعا ويحبّ المقام بشيراز طبعا لأنّ، فيها مولده وبها منشأه ولما قيل: بلاد بها نيطت علىّ تمائمى ... وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها فلذلك كانت كلمة هذه الجماعة عنده قويّة ومشورتها لديه مقبولة مرضيّة. فلمّا ورد عليه ما ورد من كتب صمصام الدولة ووالدته وأبى الريّان يبذل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 الطاعة والبخوع بالتباعة والإذعان بإقامة الدعوة [176] والتظاهر بشعار النيابة، وجد هذا القول من قلبه قبولا وأنفذ أبو نصر خواشاذه لإتمام هذه القاعدة رسولا وأصحبته تذكرة تشتمل على التماس الخلع السلطانية واللقب وإقامة الخطبة وإنفاذ الأمير أبى نصر مكرّما واستدعاء آلات وفرش وخدم وجوار عازما على القناعة بذلك. فلمّا حصل بالأهواز وأتته الدنيا طوعا بإقبالها وألقت البلاد مفاتيح أقفالها بدا له من ذلك الرأى فعزم على قصد العراق مصمّما وسار نحو بغداد متمّما. وسيأتي ذكر ذلك فى موضعه بإذن الله تعالى. شرح الحال فى مسير شرف الدولة من فارس واستيلائه على الأهواز وانصراف الأمير أبى الحسين عنها لمّا عزم شرف الدولة على المسير من فارس كتب إلى الأمير أبى الحسين بالجميل والإحسان وبذل له إقراره على ما فى يديه من الأعمال والبلدان وأعلمه أنّ مقصده بغداد لاستخلاص الأمير أبى نصر أخيه وأنّه لا يحدث فى الاجتياز فى بلاده أمرا يضرّه أو يؤذيه. فلم يقع هذا القول [177] من الأمير أبى الحسين موقع التصديق وعرض له من سوء الظنّ ما يعرض للشقيق. واتفق أنّ والدته توفّيت وهي بنت ملك ماناذر ملك الديلم ولها الحسب الصميم والخطر العظيم، وكانت تكاتب شرف الدولة وتجامله وشرف الدولة يجلّها لبيتها الجليل ويراقبها لإذعان طوائف الديلم لها بالتبجيل. فلمّا مضت لسبيلها خلا سابور بن كردويه بالأمير أبى الحسين فثنّاه عن هذه الطريقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 ذكر رأى أشار به سابور على الأمير أبى الحسين فى هذه الحال قال له: إنّ هذه الكتب الواردة هي على وجه الخديعة والمكر، وإذا اغتررت لم تأمن أن تحصل معه فى حبائل الأسر فما سار من فارس إلّا لطلب الممالك جميعها والاحتواء على عاصيها ومطيعها ولا يبدأ إلّا بك وما لنا لا نحاربه ونقاتله ولنا من العسكر والعدّة ما نقاومه ونماثله؟ فأصغى إلى قوله وعمل لأمر المحاربة معدّا، وشمّر عن ساق المباينة مجدّا. فبينما هو فى ذلك إذ ورد الخبر بنزول قراتكين الجهشيارى أرجان على مقدمة شرف الدولة ونزل شرف الدولة أرجان وسار قراتكين إلى رامهرمز. [178] وتبرّز الأمير أبو الحسين إلى قنطرة أربق وأنفذ أسفار بن كردويه إلى عسكر مكرم لضبطها وبدأ الديلم يتسللون إلى شرف الدولة لواذا وتقطعت الكلمة المجتمعة جذاذا، وتحيّز الغلمان الأتراك إلى جانب من العسكر ونادوا بشعار شرف الدولة. فأشرف الأمير أبو الحسين وسابور بن كردويه وأبو الفرج ابن خسره على أن يؤخذوا ويسلّموا. فعرّج الأمير أبو الحسين إلى فورة الاختلاط على الجبل وسار من ورائه طالبا صوب المأمونية وراسل سابور بن كردويه باللحاق به. فلحقه بعد هنات جرت له حتى خلص إليه، وثلثهما أبو الفرج ابن خسره وتبعهما غلام من غلمان داره فسار هو ومن معه طالبين حضرة فخر الدولة حتى وردوا أصفهان. فكتب منها إلى فخر الدولة وهو يومئذ بجرجان يشكو إليه أمره ويرجو منه نصره، وكتب فى جوابه وعدا لم يعقبه وفاء وأظهر له ودّا لم يتبعه صفاء. ووقع له على الناظر بأصفهان بما قدره فى الشهر مائة ألف درهم فاجتمع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 عنده بتطاول مقامه فلّ من الديلم الذين كانوا فى جملته، وتبيّن له سوء رأى فخر الدولة فألبس عليه أمره وضلّ طريق الصواب عنه. ذكر تدبير سيّء [179] ألقى به نفسه إلى الهلاك لما يئس من صلاح حاله أظهر لمن كان بأصفهان من الأولياء ما لا حقيقة له وأعلمهم أنّ بينه وبين شرف الدولة مراسلة استقرّ معها النداء بشعاره والانضواء إلى أنصار واستمال قوما من الجند المقيمين بها وعمل على التغلّب على البلد. وكان المتولى لتلك الأعمال أبو العباس أحمد بن ابراهيم الضبىّ [1] وندّ الخبر إليه، فعاجل الأمر وقصد دار الأمير أبى الحسين فى عدّة قويّة وأوقع به وانهزم من كان حوله من لفيفه وأسر هو وأبو الفرج ابن خسره واعتقلا فى دار الإمارة. وأمّا أبو الفرج فإنّه قتل من يومه، وأمّا الأمير أبو الحسين فإنّه صفد وحمل إلى الري واعتقل بها مدّة يسيرة ثم نقل إلى قلعة ببلاد الديلم ولبث فيها عدّة سنين. فلمّا اشتدّت بفخر الدولة العلّة التي قضى فيها نحبه أنفذ إليه من قتله. ويروى له بيتان قالهما فى الحبس وكان يقول الشعر وهما: هب الدّهر أرضانى وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى وفكّ من الأسر   [1] . وترجمته فى إرشاد الأريب 1: 65 وليراجع فيه أيضا 2: 311- 310 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 فمن لى بأيّام الشّباب الّتى مضت ... ومن لى بما قد فات فى الحبس من عمرى [180] وسار شرف الدولة من أرجان ودخل الأهواز وقد تمهّدت الأمور فأطلق من كان اعتقله الأمير أبو الحسين من أصحابه وقبض على أسفار وعبد العزيز ابن يوسف وعلى أصفهان [1] على بن كامة الوارد معه، وأخرج العلاء بن الحسن إلى البصرة للقبض على الأمير أبى طاهر ابن عضد الدولة وعلى من كان فى جملته من الخواصّ فقبض عليه وعاد العلاء بن الحسن بعد تقرير أمر البصرة وأعيد إلى شيراز للمقام بها. واستدعى أبو منصور محمد بن الحسن ابن صالحان وعوّل على أبى نصر سابور [2] بن أردشير فى مراعاة الأمور إلى أن يصل أبو منصور وأزمع شرف الدولة على المسير إلى العراق. الطائع لله يبرز للتعزية وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة ابن مؤيّد الدولة فجلس صمصام الدولة للعزاء وبرز الطائع لله لتعزيته. قال صاحب التاريخ: عهدي بالطائع لله وهو فى دسته منصوب على ظهر حديدي وهو لابس السواد والمعمّمة الرصافية السوداء، وعلى رأسه شمسة وبين يديه الحجّاب والمسوّدة [3] وحول الحديدى الأنصار والقرّاء والأولياء فى الزبازب، وقد قدم إلى مشرعة دار المملكة من باب الميدان فنزل   [1] . فى مد: أصفهان بن (بزيادة «بن» . [2] . وفى الأصل: ابن سابور. [3] . وفى الأصل: المسودّه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 صمصام الدولة إليه وقبّل الأرض بين يديه وردّه [181] بعد خطاب جرى بينهما فى العزاء والشكر. ودخلت سنة ستّ وسبعين وثلاثمائة فيها وقع الخوض مع أبى نصر خواشاذه فى إنجاز ما وعد به وإحكام قواعده ومبانيه، فأجيب إلى جميع ما تضمنته التذكرة إلّا إنفاذ الأمير أبى نصر، فإنّه أرجى أمره إلى أن يستبين أمر الصلح. ذكر ما تقرر الأمر عليه مع أبى نصر خواشاذه فى ذلك قرّرت أقسام الصلح على أقسام ثلاثة: قسم منها يعمّ الفريقين، وقسمان يخصّ كلّ فريق قسم منها. فأمّا الأمر الذي يعمّ فهو: تألّف ذات البين حتى لا يدرك طالب نبوة مقصدا فى تنفير، وتصافي العقائد حتى لا يجد جالب وحشة مطمعا فى تكدير، فإن ظهر عدوّ مباين لأحدهما ناضلاه جميعا عن قوس الموافقة والمساعدة ودافعاه المظاهرة والمعاضدة، وأن يمنع كلّ واحد من تعرّض ببلاد الآخر ولا يطمع فيها جندا ولا [182] يقطع منها حدّا ولا يجير منها هاربا ولا يأوى متحيّزا أو موازيا. وأمّا ما يخصّ شرف الدولة: فهو أن يوفيه صمصام الدولة فى المخاطبة ما يقتضيه فضل السنّ والتقديم، ويلتزم من طاعته ما يوجبه حتى الإجلال والتعظيم، ويقيم له الخطبة على منابر مدينة السلام وسائر البلدان التي فى يديه ويقدم بعد إقامة دعوة الخليفة عليه. وأمّا ما يخصّ صمصام الدولة: فهو أن يكفّ شرف الدولة عن سائر ممالكه وحدودها ويمنع أصحابه كافة عن طرقها وورودها وأن يراعيه فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 كلّ أمر يستمدّ فضله فيه مراعاة الأخ الأكبر لأخيه وتاليه. وصدر كتاب المواضعة بالاتفاق على تقوى الله تعالى وطاعة الخليفة الطائع لله وامتثال ما أمرهما به من الألفة على الشروط المذكورة. وجعل على نسختين ختم أحدهما بيمين حلف بها صمصام الدولة معقودة بأن يحلف بمثلها شرف الدولة. فلمّا تحرر ذلك جلس الطائع لله وحضر الأشراف والقضاة والشهود ووجوه أصحاب صمصام الدولة وأبو نصر خواشاذه وقرئ كتابه إلى شرف الدولة وزين الملّة بالتلقيب والتقليد وسلّمت الخلع الكاملة واللواء. وندب أبو القاسم على بن الحسن الزينبي الهاشمي [183] وأحمد بن نصر العباسي الحاجب ودعا الحاجب للخروج من قبل الطائع لله بذلك وأبو على ابن محمان من قبل صمصام الدولة برسالة جميلة مشتملة على خفض الجناح والاستمالة إلى الصلاح والإذعان بالطاعة والولاء والترقيق بالرحم والإخاء وسارت الجماعة على هذه القاعدة المذكورة. ووجد فيما خلّفه أبو الحسن ابن حاجب النعمان [1] نسخة أخرى بمثل الذي تقدم ذكره واتّصلت بها يمين، واشتمل آخرها على لفظ شرف الدولة بذلك، وأنّه قد ألزم ذلك وأشهد الله عليه به وحلف باليمين المذكورة فيه. وعلى ظهرها بخطّ أبى الحسن ابن حاجب النعمان: «بسم الله الرحمن الرحيم: ثبت بحضرة سيدنا ومولانا الإمام الطائع لله أمير المؤمنين أطال الله بقاه، وأعزّ نصره وأدام توفيقه وكبت عدوّه، ما تضمّنه الاتّفاق المكتوب فى باطن هذا الكتاب وصحّ عنده التزام شرف الدولة وزين الملّة أبى الفوارس أمدّ الله تأييده، لصمصام الدولة وشمس الملّة أبى كاليجار   [1] . وترجمته فى إرشاد الأريب 5: 359. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 مولى أمير المؤمنين أعزّ الله نصره، ما شرح فيه بعد أن ألزم له مثله. فحكم مولانا أمير المؤمنين أعزّ الله نصره عليهما به وجمعهما إلى الائتلاف عليه فى طاعته وخدمته وقطع [184] به بينهما الفرقة والاختلاف. وأمر بهذا التوقيع تأكيدا لما تصافيا عليه وإلزاما لهما الوفاء به وأنعم بعلامة بخط يده الكريمة فى أعلاه والحكم الشريف النبوي فى منتهاه والله عون مولانا أمير المؤمنين على ما التزماه وتوخّياه.» «وكتب على بن عبد العزيز بالحضرة الشريفة وعن الإذن السامي والحمد لله حمد الشاكرين.» علامة الطائع لله: «الملك لله وحده» نقش الخاتم فى الإسرنجه [1] المسك والعنبر: «الطائع لله» . وأمر هذه النسخة عجيب لأنّ هذا الصلح لم يتمّ وما عاد به أبو نصر خواشاذه ونفذ فيه أبو على ابن محمان لم يلتئم، وربما يكون ذلك فيما كتب بالأهواز وأنفذ إلى بغداد ثم انتقض والله أعلم. ذكر ما جرى عليه أمر الرسل الخارجين إلى شرف الدولة انحدرت الجماعة إلى واسط ومدبّرها قراتكين الجهشيارى. فأكرمهم الكرامات الوافية وأقام لهم الإقامات الكافية وسار أبو علىّ على طريق الظهر. فورد كتاب شرف الدولة فى أثر ذلك إلى قراتكين بالقبض عليه وحمله إلى الأهواز. فركب فى جماعة من [185] الغلمان متبعا له فلحقه بباذبين [2] وقد نزل بها، فقبض عليه وعلى جميع ما صحبه مما كان حمل إلى شرف الدولة، وردّه إلى واسط واعتقله. ثم أنفذه وما كان معه على طريق البصرة.   [1] . لعله: إسرنجة (دون الألف واللّام) . [2] . باذبين: قرية كبيرة كالبلد تحت واسط على ضفّة دجلة (مراصد الإطلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 وتوجّه أبو نصر خواشاذه فى الماء إلى البصرة مع رسل الطائع لله وتمّم منها إلى حضرة شرف الدولة فوجده وقد تغيّر عما فارقه عليه من حاله، وانقادت له الأمور انقيادا ألواه عمّا كان مائلا إليه. وخلا به أبو الحسن محمد بن عمر فثنّاه إلى ما أراده، فلم يكن لأبى نصر موضع قول إلّا فيما علّا بناء هذه الرأى وشيّده. وقد كان العمّال والمتصرفون مضوا إلى شرف الدولة من كلّ بلد من أعمال العراق وتقدّم أبو علىّ التميمي من واسط وتلاه أبو عبد الله ابن الطيّب من النهروانات وأبو محمد الحسن بن محمد بن مكرم من الكوفة. وقصد الناس حضرته على طبقاتهم من كل فجّ عميق ووافاه الديلم والأتراك فوجا بعد فوج وفريقا أثر فريق. وكان نفوذ قراتكين الجهشيارى إلى واسط على مقدمته بعد وصول أبى عبد الله ابن الطيّب فضمّه إليه ناظرا فى البلد وأعماله ومقيما لنفقات قراتكين الجهشيارى ورجاله. فمدّ ابن الطيب جناحه على الأعمال ويده إلى [186] الأموال. فلمّا حصل [أبو] محمد ابن مكرم بالأهواز كثرت الأقوال على ابن الطيب فيما أخذه من النهروانات عند مفارقته لها وبواسط عند حصوله بها، أخرج أبو محمد ابن مكرم للقبض عليه والنظر بواسط. ذكر ما جرى الأمر عليه فى ترتيب القبض على ابن الطيب وإخفاء الحال فيه إلى أن تم ّ أنفذ أبو محمد من الأهواز وفى الظاهر أنّه رتّب فى إقامة المير لشرف الدولة وعساكره بين الأهواز وواسط وفى الباطن قرّر معه النظر بواسط والقبض على أبى عبد الله ابن الطيّب وإخوته، فأصحب كتبا باطنة وظاهرة بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 فلمّا حصل بواسط واجتمع مع قراتكين وواقفه على ما ورد فيه قبض على الجماعة الحاضرين والغائبين فى يوم واحد بتدبير دبّره وبقوم قدم إنفاذهم إلى كل من عاتبا على ميعاد قرّره ومقدار وقته. ورأى أن يسلك مع أبى عبد الله على طريق المياسرة والمقاربة، فأحتسب له بجميع الظاهر [187] المأخوذ منه فى جملة مال المطالبة واعتمد مع إخوته إظهار بعض التشديد والاستقصاء ثم سهّل أمورهم عند التحقيق والإستيفاء وعلم أنّ أعمال السلطان عوارىّ، فتساهل وقارن وجامل وقارب. فمن أحسن فإنّما يحسن لنفسه ومن أساء إنّما يسيء إليها، والعارية فى الحالين مردودة، وأيام لبثها عند المعار معدودة، ومهما سلكه الإنسان من طريق فنجاحه فيه بهداية وتوفيق. ذكر مسير شرف الدولة من الأهواز لمّا استتبّت له الأمور بواسط سار إليها فى عساكر كثيرة بالجموع الظاهرة التجمل وكانت زينته وأهبته فى صاحته [1] من كل نوع على أحسن ما شوهد فقيل: إنّ جماله كانت ثلاثة عشر ألف رأس وجمال عسكره أكثر من هذا العدد وغلمان خيوله مع الخدم ألف وثمانمائة ما بين غلام وخادم إلى ما يتبع ذلك ويشاكله من كلّ ما يكون للملوك المخوّلين والسلاطين المموّلين. يقول صاحب التاريخ هذا القول ويستكثر هذا القدر. ولو أدرك هذه الدولة القاهرة ورأى سلطانها وغلمانها وأركانها [188] وعدّتها ورجالها وزينتها وأموالها لعلم أنّ الذي استكثره فى قبيل الإقلال، ولأقرّ أنّ البحر لا يقاس   [1] . كذا فى مط: صاحته. وهي أرض لا تنبت شيئا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 بالأوشال. فلمّا استقرّ شرف الدولة بواسط سار قراتكين إلى دير العاقول ولمّا أجلت الأحوال بمدينة السلام حدر بالأمير أبى نصر ابن عضد الدولة إلى حضرة شرف الدولة مع غلام من الخواصّ. وزادت أمور صمصام الدولة اختلالا وتناقصت حالا فحالا، وشغب الديلم حتى أحاطوا بداره مطالبين بالمال ورفعوا سجف المراقبة ونادى سلارسرخ بشعار شرف الدولة، وثار العامة فى عرض هذه الفتنة وكبسوا حبس الشرطة فأطلقوا من فيه، وآذنت [1] دولته بزوال وعقدته بانحلال ولم يزل الأولياء والحواشي والنظار والعمّال يصيرون إلى حضرة شرف الدولة بالأهواز وواسط من غير احتشام ويقدمون من غير احجام. فلمّا رأى صمصام الدولة ووالدته وأبو حرب زيار وفولاذ بن ماناذر ما قد انتهى الأمر إليه، أجالوا الرأى بينهم. ذكر رأى سديد رآه زيار فى تلك الحال وأشار به على صمصام الدولة فلم يعمل به [189] أشار بالإصعاد إلى عكبرا ليعرف بذلك من هو معهم ممن هو عليهم ويتميّز الآنس بهم من النافر عنهم. وقال: - «إنّ الجيل كلّهم فى طاعتنا مخلصون وفى سلكنا منخرطون ولا بد من أن ينضاف إليهم قوم آخرون فإن رأيتم عدّتنا كثيرة وشوكتنا قويّة بحيث تتكافى فى المقارعة أخرجنا ما فى أيدينا من المال وأطلقناه للرجال، وإن ضعفنا عن القراع وعجزنا عن الدفاع تمّمنا إلى الموصل وينضمّ أبو القاسم سعد الحاجب ومن العساكر إلينا ويكثر جمعنا ويقوى أمرنا. فإنّ الديلم   [1] . والمثبت فى مد: أذن. بالشيء: أعلم به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 والأتراك سيكثرون عند شرف الدولة ثم لا يزال بهم التنافس والتحاسد حتى يحدث بينهم التباين والتباعد وبإزائهم منك ملك تعلق به آمالهم وتطمح نحوه أبصارهم وهي الأيام والغير والقضاء والقدر والأمر يحدث بعده الأمر.» ذكر رأى آخر سديد أشار به فولاذ فلم يقبل منه قال فولاذ: - «الصواب المسير إلى قرميسين والحصول فى أعمال بدر بن حسنويه ومكاتبة فخر الدولة- وكان فى صلح صمصام الدولة [190] بحسب ما نسجه ابن عباد بينهما- واستمداد عسكر والمسير على طريق أصفهان إلى فارس والتغلّب عليها.» وفيها أخر: «اين شرف الدولة وذخائره؟ فليس بإزائنا فى تلك الأعمال أحد يقاومنا ويدافعنا، وإذا حصلنا بها لم يستقرّ لشرف الدولة قدم بالعراق ولم يستمرّ له أمر على الاتساق ويضطرب أمره وتنحل قراه وينزل فى الصلح على حكم اختياره ورضاه.» فمال صمصام الدولة إلى رأى زيار فى الإصعاد ووقع الشروع فى ترتيب أسبابه ثم بدا له من ذلك. ذكر رأى خطأ استبدّ به صمصام الدولة فى إسلام نفسه إلى شرف الدولة لمّا رأى الخرق قد اتّسع والأمر قد التبس ضاق صدره وقلّ صبره. وكلّ ملك لم يكن صدره فى النائبات رحيبا وصبره فى الحادثات عتيدا ونفسه فى المعضلات مديدا أوشك أن يضمحلّ شأنه ويولّى زمانه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 فعمل على اطّراح ذلك كلّه والانحدار إلى شرف الدولة ونزل إلى زبزبه [1] مستبدّا برأيه غير ناظر فى بصائره وواردا على أمر غير [191] عالم بمصادره. فلمّا حصل تحت روشن [2] زيار قدم [3] إلى فنائه وتقدّم باستدعائه فنزل إليه وعنده أنّه يصعد إلى داره. فلمّا لم يبصر لصعوده أثرا قال: - «إلى أين أيّها الملك؟» قال: «إلى أخى.» قال: «أوقد تغيّر رأيك عمّا كنا عليه.» قال: «نعم.» قال: «لا تفعل فإنّ الملك عقيم والخطب عظيم، والملوك لا تصل أرحامها ولا ترعى للقربى ذمامها، وفى إسلام النفوس أخطار وحسن الظنّ فى مثل هذه المواطن اغترار، فراجع فكرك وتبّصر أمرك.» فقال له: «ما أرى لنفسي رأيا صوابا إلّا ما عملت عليه.» قال له: «خار الله لك.» ثم قال له صمصام الدولة: - «فعلى ماذا عملت أنت؟» قال: «إذا كنت قد رأيت ذلك رأيا وأنت أنت لم أرغب بنفسي عن نفسك، ولم يكن خوفي أعظم من خوفك.» فقال له: «أمّا أنت فلا أرى لك أن تضع يدك فى يد شرف الدولة.» وودّعه وانحدر. فلمّا قرب من معسكر شرف الدولة وقد خيّم بنهر سابس أنفذ من يؤذن   [1] . الزبزب: ضرب من السفن. [2] . الرّوشن: الكوّة. فارسيّة. [3] . والمثبت فى مد: قدّم، بتشديد الدال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 بوصوله. فوافى أبو نصر خواشاذه فى زبزب وقرب من زبزبه وخدمه. ثم قال له: - «الملك يتعرّف خبر الأمير، والحمد لله على ما وفّقه من هذا العزم الذي يبلغ فيه مراده.» ثم صار إلى المشرعة وهناك دابّة قد قدّمت لأجله [192] فركبها ونزل عند خيمة شرف الدولة وهو واقف ينتظره وبين يديه حواشيه وخواصّه وقد ارتجّ المعسكر بالخبر. فلمّا وصل إليه قبّل الأرض ثلاث مرّات بين يديه وقرب منه. فقبّل يده فسأله شرف الدولة عن حاله فى طريقه فاستصوب رأيه فى وروده. فأجابه صمصام الدولة جوابا شكره فيه وأراه قوّة نفسه به. فوقف قليلا، ثم قال له شرف الدولة: - «تمضى وتغيّر ثيابك وتتودّع من تعبك.» فخرج من حضرته وحمل إلى خيمة وخركاه قد ضربتا له بغير سرادق وفى صدر الخركاه ثلاث مخادّ. فدخل وجلس على المخدّتين وأطرق إطراق الواجم وأبصر أمر غلطه، فبان عليه أسف النادم. وأخرج أبو الحسن نحرير وأبو بكر البازيار إلى بغداد للاحتياط على ما فى دار المملكة والخزائن والإصطبلات. ذكر ما جرى عليه أمر زيار وفولاذ لمّا انحدر صمصام الدولة ولم يبق لهما ملجأ أعيتهما الحيل وضاقت بهما السبل فحدّثا نفوسهما بالانحدار ووقع فى قلوبهما حسن [193] الظنّ لتبيّن مواقع الأقدار، فغابت عنهما الآراء وظلّت عليهما تلك الأنحاء. وقام الرشيد فانحدر بعد صمصام الدولة على الأثر وحملا أمرهما على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 الغرر، فأمّا زيار، فإنّه قبض عليه بعيد وصوله وقتل. وأمّا فولاذ، فاعتقل ثم حمل إلى قلعة نهر. وسار أبو على التميمي من دير العاقول إلى مدينة السلام بعد انحدار صمصام الدولة فدخلها وسكّن البلد. وورد شرف الدولة ونزل الشفيعى فى شهر رمضان واجتمع فى عسكره من الديلم الواردين والمقيمين تسعة عشر ألف رجل ومن الأتراك ثلاثة آلاف غلام فاستطال الديلم على الأتراك فوقعت بينهم مناوشة. ذكر الفتنة التي جرت بين الديلم والأتراك كان الديلم قد أعجبهم كثرتهم وغرّتهم قوّتهم فجرت منازعة بين نفر من الطائفتين فى دار وإصطبل جرّت خطبا عظيما: فإنّ النار بالعودين تذكى ... وإنّ الحرب أوّلها كلام [1] فاجتمع الديلم بالحلبة وركب الغلمان وجرت بينهم حرب كانت [194] اليد فيها للديلم. وقيل: إنّهم ذكروا صمصام الدولة وهمّوا بانتزاعه. ذكر اتّفاق سلم به صمصام الدولة من القتل بعد إشرافه عليه قال أبو منصور أحمد بن الليث: حدّثنى صمصام الدولة قال: كنت فى خركاه بالشفيعى وليس بيني وبين شرف الدولة إلّا لبدها وثوب   [1] . الأغانى 6: 128 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 خيمة تجاورها، وقد ثارت الفتنة وذكرت فى الديلم، فسمعت نحرير الخادم يشير على شرف الدولة بقتلى ويقول: - «نحن على شرف أمر عظيم فما يؤمننا أن يهجم الديلم علينا وينتزعونه من أيدينا فيصير إلى الملك ونصير إلى الأسر.» وشرف الدولة يمتنع عليه وعلى من كان يشدّ رأيه فلمّا زاد الأمر أقيم على باب الخركاه التي كنت فيها غلام بسيف وأظنّه وصىّ بقتلى إن هجم الديلم فارتعت وأقبلت على القراءة فى مصحف كان فى يدي، واستخلصت فى الدعاء إلى الله تعالى بالخلاص، ففضّل الله بالسلامة وتفرّق جمع الديلم. ذكر تفريط جرى من [195] الديلم فى هذه الحرب حتى آل أمرهم إلى التشرّد والهلاك كان الاستظهار للديلم على الأتراك فى أول الأمر، لأنّهم أفلتوا من أيديهم مولّين. فحملهم الحنق والطمع فيهم حين قلّوا فى أعينهم على تتبع آثارهم وتشوّشت مصافّهم والديلم إذا اضطربت تعبيتهم بانت عورتهم. فوجد الأتراك مجالا من ورائهم وأمامهم فحملوا عليهم من وجوههم وظهورهم. وكانت الدائرة على الديلم ولم يمض إلا ساعة حتى قتل منهم زهاء ثلاثة آلاف رجل وكرّ الغلمان إلى البلد فنهبوا دورهم واحتووا على أموالهم وقتلوا كل من أدركوه منهم، وتشرّد الديلم فبعض أصعد إلى عكبرا وبعض مضى إلى جسر النهروان، ولاذ الأكثر منهم بخيم شرف الدولة. وبان سداد الرأى الذي كان رآه زيار لصمصام الدولة فى الإصعاد إلى عكبرا. فلو أنّه قبل منه لكان مع هذه الفتنة قد ثاب أمره إلى الصلاح لكن القدر غالب والتسليم للقضاء واجب. ودخل شرف الدولة [196] فى ثانى هذا اليوم والديلم اللائذون به قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 أحدقوا بركابه ونزل فى المضارب تحت الدار الملكية. وركب الطائع للَّه فى غد فى الحديدى مهنئا له بالسلامة، وتلقّاه شرف الدولة إلى آخر دار الفيل، فقبّل الأرض بين يديه وعاد الطائع لله إلى الدار. ووقع الشروع فى إصلاح ما بين الديلم والأتراك فيسّر الله إتمامه وأخذت العهود على الطائفتين فتصالحوا وتواهبوا وتهذّبت الأمور وجرت على الإرادة وكان ذلك من أقوى دلائل الإقبال والسعادة. ذكر جلوس شرف الدولة للتهنئة وما جرى أمر صمصام الدولة عليه فى الاعتقال لمّا حضر عيد الفطر جلس شرف الدولة جلوسا عامّا، ودخل الناس على طبقاتهم. وجاء صمصام الدولة فقبّل الأرض بين يديه ووقف من جانب السرير الأيمن وجاء بعده الأمير أبو نصر ابن عضد الدولة وفعل مثل ذلك ووقف. وحضر الشعراء فأنشدوا، وعرّض بعضهم [197] بذكر صمصام الدولة بما فيه غميزة عليه، فأنكر شرف الدولة ذلك ونهض من المجلس. ولم يعرف لصمصام الدولة خبر بعد ذلك الموقف حتى قيل: إنّه حمل إلى فارس فاعتقل فى القلعة وسيأتي ذكر ما جرى عليه الأمر فى كحله، ثم عود الملك إليه بفارس فى موضعه، بأذن الله. ولمّا حصل شرف الدولة بمدينة السلام سأل عن أبى الريّان وطلب فوجد ميتا مدفونا بقيوده فى دار أبى الهيجاء عقبة بن عتّاب الحاجب، وكان سلم إليه بعد القبض عليه وأمر بقتله فقتله. فأخرج من مدفنه وسلّم إلى أهله. وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة أبى القاسم المظفّر بن على الملقّب. بالموفّق أمير البطيحة واستقرار الأمر بعده لأبى الحسن على بن نصر بالعهد الذي عهده إليه حسب ما تقدّم ذكره، وكتب إلى شرف الدولة ببذل الطاعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 والخدمة ويسئل التقليد والتلقيب والخلع. فأجيب إلى ذلك جميعه ولقّب بالمهذّب، أولا ثم بمهذب الدولة، من بعد. ذكر استقرار الإمارة بالبطيحة على الملقّب بمهذّب الدولة [198] لمّا توفّى المظفر انتصب أبو الحسن على بن نصر فى موضعه. وكان أبو الحسن على بن جعفر يفوقه فى كثير من الخلال سخاء وشجاعة وأبوّة ولكنّه قدّمه ووطئ عنقه تمسّكا بالوصيّة التي أحكم المظفر عقدها وقلّدهما عهدها. وكان مع تقديمه إيّاه ينزل نفسه منه منزلة المشارك فى الأعمال والمشاطر فى الأموال. فأبقاه على بن نصر وقاربه وأفرد له النواحي الكثيرة والمعايش الجليلة، وخلّى بينه وبين ارتفاعها. واستمرت الحال على ذلك [إلى] أن توفّى علىّ بن جعفر فارتجع علىّ بن نصر ما كان فى يديه سوى أملاكه الصحيحة فإنّه أقرّها على ولديه. وتدرّجت الأحوال لعلىّ بن نصر الملقّب بمهذّب الدولة فى أفعاله الرضيّة الى الرتبة العلية حتى عظم قدره وسار ذكره واستجار به الخائف فأجاره بأمانه ولاذ به الملهوف، فوطّأ له كنف إحسانه وسلك بالناس طريقة جميلة فى العدل والإنصاف وصارت البطيحة معقلا لكلّ من قصدها من الأطراف واتّخذها الأكابر وطنا فبنوا فيها الدور وشيّدوا فيها القصور، وقصدها المسترفد [1] [199] والشعراء من كلّ صوب وفجّ إلى بابه، فأوسعهم جودا ونوالا وإكراما وإفضالا. وكاتب ملوك الأطراف وكاتبوه وقاربهم وقاربوه وزوّجه بهاء الدولة ابنته   [1] . قال فى حواشي مد: «لعلّه سقط شيء.» ولم يسقط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 ونقلها إليه، واستعان به فى عدّة أوقات فأعانه واستدان منه فأدانه، وخطب له بواسط والبصرة وأعمالها وصرفت إليه الدنيا أعنّة إقبالها. وتوّجت الأيام مفرق مفاخره بمقام القادر بالله رضوان الله عليه فى جواره فضاعفت له هذه المنقبة حسبا وصارت له إلى استحقاق المدح سببا ولولا كرم نفسه وخيرها لما مدحت البطيحة ولا أميرها: نفس عصام سوّدت عصاما ... وعوّدته الكرّ والإقداما وهذه عقبى أفعال الخير، فإنّها تبلغ بصاحبها درجة توفى على آماله وتنتهي به إلى منزلة لا تخطر بباله. فالسعيد من قدّم عملا صالحا لأخراه وخلّف ذكرا جميلا فى دنياه. وسيأتي ما تصرّفت به الأمور فى مواضعه بعون الله تعالى وحسن توفيقه. ذكر ما اعتمده شرف الدولة من الأفعال [200] الجميلة عند استقراره بمدينة السلام ردّ على الشريف أبى الحسن محمد بن عمر جميع ما كان له فى سائر البقاع من الأملاك والضياع، وجدّد عنده آثار النعمة والاصطناع. فاستضاف ضياعا إلى ضياعه وتضاعفت موارد ارتفاعه، فكان خراج أملاكه فى كلّ سنة ألفى ألف وخمسمائة ألف درهم يصححها فى ديوان السلطان، وناهيك بذلك ثروة حال وكثرة استغلال. وردّ على الشريف أبى أحمد الموسوي أملاكه وأقرّ ابن معروف على قضاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 القضاة وراعى لكلّ من الكتّاب والمتصرفين معه [1] وادرّ عليه معيشة ورزقة ورفع أمر المصادرات وقطع أسبابها وردم [2] طرق السعايات وسدّ أبوابها. ذكر اتّفاق عجيب دلّ على حسن نيّة وعاد بصرف أذيّة ذكر أبو الفضل مهيار بن حاتم المجوسي أستاذ الدار أنّه سلّم إلى شرف الدولة [201] مدرجا فيه سعاية، فوقف عليه وطواه وتركه على كرسىّ مخادّه ونهض من مجلسه وانسيه. فلمّا كان بعد أيام ذكره فقال لى: - «يا با الفضل، امض الى ذلك المجلس واطلب مدرجا تركته هناك.» فمضيت إلى المكان فلم أجده، وسألت عنه فلم أعرف خبره. فعدت إليه فأخبرته فشقّ عليه وشدّد علىّ فى الكشف عنه. فخرجت من بين يديه وأنا قلق لما رأيت من شغل قلبه، وأحضرت كلّ حاضر فى الدار وغائب عنها من الحواشي والفرّاشين وبالغت فى الوعيد والتهديد وكدت أوقع ببعضهم. فبينما أنا فى ذلك إذ حضر فرّاش ومعه قطعة من قرطاس وقال: - «وجدت الغزلان عند المخادّ وقد أكل أكثره وبقيت منه بقيّة هي هذه.» فدخلت إلى شرف الدولة وشرحت له ما قال الفراش وأريته القطعة الموجودة. فلمّا تأمّلها سرّى عنه وقال: - «هذه قطعة من المدرج وقد كنت عازما على تعفية أثره لئلا يقف أحد على خبره. فإذا كان الغزال قد كفانا أمره فقد أراد الله تعالى بذلك صرف الأذى عن الناس، ولعن الله الشرّ وأهله.» فانظر إلى آثار الخير ما أحسن موضوعها، وأصغ إلى أخبار العدل ما   [1] . لعلّه: حقّه. [2] . والمثبت فى مد: وذمّ. والتصحيح من اقتراح مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 أطيب مسموعها، وقسها بضدها من الشرّ والظلم [202] تجد لهما منظرا فظيعا ومسمعا شنيعا. فطوبى لمن حكم فى التمييز سمعه وبصره، ثم وفّق فى الإختيار للأحسن وتتبّع أثره. ونظر أبو نصر سابور بن أردشير فى الأعمال والمعاملات وغمس يده فيما انحلّ عن الديلم من الإقطاعات ونظر فى الأمور ونفّذها إلى حين ورود أبى منصور محمد بن الحسن بن صالحان على ما يأتى ذكره. ودخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة فيها ورد الأمير أبو منصور وتلقّاه الناس كافّة من مدينة السلام إلى المدائن. ثمّ تلقّاه شرف الدولة إلى الشفيعى فدخل البلد على غاية الإكرام. وانتظمت الأمور على يديه كلّ الانتظام وطالب العمّال بعمل المصالح وأخذهم بإقامة العمارات ووجد الأسعار متزايدة والأقوات متعذّرة فرتّب نقل الغلّات من بلاد فارس فى البحر وجدّ فى حملها من كلّ بلد. واستتر سابور ابن أردشير مدة، ثم توسّط أبو بكر الفرّاش حاله على أخذ الأمان له من أبى منصور فآمنه. ذكر بعض أخلاقه وطرائقه [203] كان الغالب عليه فعل الخير وإيثار العدل وحسن الطريقة فى الدين. فإذا سمع الأذان بالصلاة ترك جميع شغله ونهض من مجلسه لأداء فرضه، ثم عاد بعد ذلك إلى أمره. قال صاحب التاريخ: - «ما رأينا وزيرا دبّر من الممالك ما دبّره، فإنّ مملكة شرف الدولة أحاطت بما بين الحدّ من كرمان طولا إلى ديار ربيعة وبكر، وعرضا إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 الإحساء والرقّة والرحبة وحلوان. وكانت له تجارات وحمولات بنيسابور تقبل توقيعاته عليها فى المعاملات وإنّه عرضت عليه رحال باستحقاق بعض الجند والحواشي فوقّع بمالها على الموصل وعمان نصفين [1] .» ونحن نقول: كيف به لو أدرك زماننا ورأى هذه الدولة القاهرة التي تجول عساكرها وجند ملكها فى الأقطار [2] بأمره، فتردّ مشارع الخليج كما تردّ مشارع جيحون وسراياها الآن بالخفار قاربة لورد النيل، وكفى بما بين هذه الموارد الثلاث ممالك واسعة الطول والعرض، وأوامر وزيره نافذة فيها بالإبرام والنقض، والدهماء ساكنة فى جميعها برأيه وتدبيره، والهيبة ضابطة لجميعها بسياسة وتقريره. وأين من يوقع على الموصل وعمان ممن يوقّع على أعمال الشام وأقاصى خراسان! إنّ الفرق بينهما بعيد: تريني السّها [204] وأريه القمر وأىّ فخر فى أن يقبل فى بلاد المخالفين خطّ يكتب على معاملة تاجرية [3] فإن يكن ذلك من جملة المناقب فأمر التجار إذا أنفذ فى المشارق والمغارب. لأنّهم يكتبون بالأموال الجمّة على معاملاتهم فيكون أسرع فى الرواج من مال الجباية والخراج. وإنّما الفخر فى نفاذ الأحكام على البلاد التي مهّدتها السيوف للأقلام والملك ما قطر الدم من الصفائح فى افتتاح أعماله ثم جرى المداد فى الصحائف بإطلاق أمواله.   [1] . روى هذا بعينه سبط ابن الجوزي فى تاريخه مرآة الزمان عن ابن الصابي (مد) . [2] . وزاد فى مد [نافذ] والعبارة مستقيمة بدونه. [3] . لعله: تجارية (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 وليس هذا موضع بسط المقال فى ذكر هذه الفضائل ولكنّا ننتهز الفرصة أوّلا فأوّلا فى إقامة الشواهد والدلائل على تفصيل والدليل على تفضيل زماننا حسب [1] ما قدّمنا ذكره فى صدر كتابنا هذا لتكون أقوالنا محقّقة بالبيان ودعاوينا مصدّقة بالبرهان. فأحسن القول ما صاحبه الصدق فزانه، وأسوأه ما مازجه الكذب فشانه. والله تعالى ولىّ حسن التوفيق بمنّه. ونعود إلى سياقة التاريخ. وفى هذه السنة ندب قراتكين الجهشيارى لقتال بدر بن حسنويه وخلع عليه الخلع الجليلة وفيها السيف والمنطقة الذهب وخرج شرف الدولة إلى معسكره لوداعه. [205] ذكر ما جرى عليه أمر قراتكين فى هذا الوجه كان شرف الدولة مغيظا على بدر بن حسنويه لانحرافه عنه وتحيّزه إلى فخر الدولة فلمّا استقرّت قدمه وقرب من طاعته كل جامح شرع فى تدبير أمر بدر. وكان قراتكين قد جاز الحدّ فى التبسّط، فرأى أن يخرجه فى هذا الوجه. فإمّا أن يظفر ببدر ويشفى منه صدره وإمّا أن يستريح من قراتكين فيلغى أمره. فجرد معه من العساكر وأصحبه من الخزائن ما استظهر فيه وعرف تداريجه فاستعدّ واحتشد وتلاقيا على الوادي بقرميسين. ذكر خدعة تمّت لبدر على قراتكين وعسكره لتفريطهم وقلّة حزمهم لمّا تواقعوا انهزم بدر حتى توارى عنه، وظنّ قراتكين وعسكره أنّه قد   [1] . بالأصل: خبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 مضى على وجهه. فنزلوا عن خيولهم وتفرّقوا فى خيمهم فلم يلبثوا ساعة [206] حتى كرّ بدر راجعا وأكبّ عليهم إكبابا أعجلهم من الاستعداد والتجمّع وقتل منهم مقتلة عظيمة واحتوى على جميع ما فى معسكرهم. وأفلت قراتكين بحشاشة نفسه فى شرذمة من غلمانه وعاد فى يومين إلى جسر النهروان وتلاحق الفلّ به واحد بعد واحد، وحمل إليه من بغداد ما لمّ به شعثه ودخل إلى داره. واستولى بدر بعد ذلك على أعمال الجبل وما والاها وقويت شوكته. ذكر ما جرى عليه حال قراتكين بعد عوده فى سوء تدبيره وما انتهى أمره إليه حتى آل إلى قتله قد تقدّم القول فيما كان حصل فى نفس شرف الدولة منه لإسرافه فى استعمال الدالّة واستيلاء كتّابه وأصحابه والتجاء كلّ متعزز إلى بابه. وعاد من الهزيمة المذكورة وقد زاد تجنّيه وتغضّبه وتضاعفت تبسّطه وتسحّبه، وأغرى الغلمان بالتوثّب فى دار المملكة على الوزير أبى منصور حتى لقوه بالصعب، وقالوا له: - «أنت كنت السبب [207] فى هزيمتنا بتأخيرك المال والسلاح والنجدة عنّا.» فلوطفوا ودفعوا عنه. ثمّ وقع الشروع فى إصلاح الحال بين الوزير وبين قراتكين فتمّ. وأسرّ شرف الدولة من ذلك غيظا فكتمه فى قلبه وأمسك مرويّا فى تدبير خطبه. فلم تمض أيّام حتى قبض عليه وقيّد ثمّ قتل من يومه وأنفذ إلى داره من قبض على أصحابه وكتّابه واحتاط على معاملاتهم وأسبابهم. وخاض الغلمان فى الشغب لأجله. فلمّا أيقنوا بقتله وأرضى أكابرهم تبعهم أصاغرهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 فأمسكوا. وقدم طغان الحاجب بينهم وأقيم مقامه فيهم. فلزموا بعد ذلك الطريقة السويّة واستشعروا المراقبة والتقيّة. ومن أعظم الأغلاط دالّة الأتباع على السلاطين وإن سبقت خدمهم وسلفت حرمهم. فإنّها موذنة بزوال نعمهم منذرة بورود مناهل الحمام. ومثل المدال على السلطان بتمكّنه منه كمثل راكب الأسد: فبينما تراه عزيزا رفيعا إذ صار بين براثنه ذليلا صريعا ألا وأنّ ذلك لمن أخطر المراكب وأحقّها بسوء العواقب. وكفاك بقصّة قراتكين تذكرة وتبصرة. ولما تمهّدت الأمور عقد مجلس حضره الأشراف والقضاة والشهود [208] وجدّدت التوثقة فيه بين الطائع لله وبين شرف الدولة، واستقرّ ركوب شرف الدولة إلى دار الخلافة. ذكر ما جرى عليه الأمر فى جلوس الطائع بحضور شرف الدولة ركب شرف الدولة فى الطيّار بعد أن ضربت له القباب على شاطئ دجلة وزيّنت الدور التي عليها فى الجانبين بأحسن زينة، وجلس الطائع لله جلوسا عامّا وخلع عليه الخلع السلطانية وتوجّه وسوّره وطوّقه وعقد له بيده لوائين أسود وأبيض وقرئ عهده بين يديه. وخرج من حضرته فدخل على أخته المتصلة بالطائع لله، وأقام عندها إلى وقت العصر، ثم انكفأ إلى داره والناس مقيمون على انتظاره. ولما حمل اللواء تخرّق وانفصلت منه قطعة، فتطيّر من ذلك. فقال له الطائع لله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 - «إنّما حملت الريح منه قطعة، وتأويل ذلك أن تملك مهبّ الريح.» وكان أبو عبد الله محمد بن أحمد معروفا فى جملة من حضر مع شرف الدولة. فلمّا رآه الطائع للَّه قال له: مرحبا بالأحبّة القادمينا ... أو حشونا وطال ما آنسونا.» [209] فقبّل الأرض وشكر ودعا. وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة سعد الحاجب بالموصل. ذكر ما جرى عليه أمر سعد بعد انحدار زيار من الموصل إلى أن توفّى لمّا أراد زيار الانحدار أقرّ سعدا على الحرب وأبا عبد الله ابن أسد على الخراج. فلم يلتئم ما بينهما وحصلا على وحشة. وورد شرف الدولة مدينة السلام فكاتب سعدا بإقراره على الأمر تأنيسا له وكان من عزمه أن يضربه بأبى على التميمي بوعد سبق من شرف الدولة إليه فمات أبو على وبطل ذلك. وعرف شرف الدولة ما يجرى بين سعد وأبى عبد الله ابن أسد من الخلف فى الأمور، فأمر باستدعاء ابن أسد وترتيب ابن أخيه فى مكانه نائبا عنه وكتب سعد يذكر تضاعف ما تأخّر للأولياء من أرزاقهم وفرط مطالبتهم بما اجتمع فى استحقاقهم، فعوّل به فى الجواب على بقايا للموصل وأعمالهم [1] بحسب ما ذكره ابن أسد بالحضرة. وأخرج إليه أبو سعد الحسن بن عبد الله الفيروزآباذي وأمر بمناظرة الديلم   [1] . لعله: أعمالها (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 على النزول عن الفائت جميعه أو معظمه. فلمّا وصل أبو سعد إلى [210] الحصباء خيّم بها فحمل إليه سعد أنزالا فلم يقبلها. ذكر رأى سيّء لأبى سعد من ردّ ما حمله ومكيدة لسعد تمّت عليه كان من غلط الرأى ما اعتمده أبو سعد من ردّ ما حمله إليه سعد من الأنزال. فإنّ ذلك عاد بسوء ظنّه فيه وأوجس فى نفسه أنّه لم يفعل ذلك إلّا عن قاعدة أحكمت فى طلب مكروهه. وكان الديلم يميلون إلى سعد ويطيعونه، فأوحشهم من أبى سعد ووضعهم باطنا على الإيقاع به فشغبوا وراسلوا سعدا: بأنّك لم تزل تعدنا وتمطلنا بورود من يرد من حضرة السلطان للنظر فى أمورنا وقد ورد هذا الرجل وما رأينا وجها لما كنّا نتوقعه وبلغنا أنّه معوّل على المسير إلينا لاستنزالنا عن أموالنا وإرضائنا من البقايا وهذا ممّا لا نقنع به. فأجابهم جوابا ظاهرا أسكتهم به وراسل أبا سعد بأنّ: الصواب أن ترفق بهم إذا راسلوك رفقا لا تلين لهم فيه وتستوفى عليهم استيفاء لا تنفّرهم به. فلمّا حضره رسلهم [211] غلّظ فى جوابهم فوثبوا به وهمّوا بقتله فهرب وألقى نفسه إلى دجلة فاستنقذ منها إلى بعض السفن وهو مجروح وعبر إلى الجانب الشرقي إلى أن سكنت النائرة. ثم ردّه سعد الحاجب وأنزله داره وأمر بمداواته مما به. ومضت أيام فاعتلّ سعد الحاجب وقضى نحبه- وقيل إنّ أبا سعد الفيروزآباذي واطأ بعض خواصه على سمّه- فلمّا توفّى ظهر أبو سعد وجلس فى داره واحتاط على ماله وتولّى الأمور إلى أن وصل إليه من الحضرة من اجتمع معه على تحصيل التركة وحملها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 وأخرج أبو نصر خواشاذه إلى الموصل لحفظ أكنافها وزمّ أطرافها. وتجدّد لباد بن دوشنك مع وفاة سعد الحاجب طمع فى التغلّب على البلاد فصار إلى طور عبدين وهو جبل مطلّ على نصيبين. ذكر ما جرى عليه أمر أبى نصر خواشاذه مع باد عند إصعاده من الموصل لمّا عرف أبو نصر الخبر دعته الضرورة لقصد نصيبين لدفع باد [212] فكتب إلى الحضرة يستمدّ ويستنجد، فأمدّ وأنجد بما هو غير كاف، وخاف أن يجرى حاله مع باد على ما جرت عليه حال أبى سعد بهرام وأبى القاسم سعد فاستدعى بنى عقيل واستدناهم وعوّل فى حرب باد عليهم، لأنّهم أخفّ خيولا وأسرع خروجا وقفولا والأكراد خيولهم بطاء وعددهم للحرب ثقال. ذكر رأى رآه أبو نصر فى إقطاع البلاد حين تعذّرت عليه وجوه الإطلاق كان الوزير أبو منصور يقصده لشغب بينهما، فأخّر أمره وعلّله بالمواعيد ثم كان قدّر ما حمله له بعد تلك المواعيد المكررة ثلاثمائة ألف درهم، وأين يقع ذلك القدر من مثل هذا الخطب! وكان أبو نصر يعلّل من معه بوصول الحمل. فلمّا عرف مبلغه رأى أن يكتم أمره خوفا أن يظهر فتنقطع الآمال وتتفرّق الرجال، [1] ويهجم عليه باد فينهزم بأسوأ حال. فعدل إلى تفرقة البلاد على العرب وتسليمها إليهم وقال:   [1] . والمثبت فى مد: «الآجال» وفقأ للأصل. والتصحيح أيضا من اقتراح مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 - «هذه بلاد بإزاء عدوّ وقد استفحل أمره وإذا حصلت لهؤلاء العرب دفعوا عنها فى عاجل الحال لنفوسهم دفع القوم عن حريمهم. فإن قوى أمر السلطان [213] كان انتزاعها من أيديهم أسهل من انتزاعها من يد باد. فكان الواحد منهم يكتب قصّة ويسأل فيها إقطاعه الخربة الفلانية- وتكون ضيعة جليلة- فيوقّع له بها من غير إخراج حال ولا تعرّف ارتفاع. وارتفق كاتبه على ذلك أموالا جمّة. ذكر حيلة سحر بها باد عين من بإزائه واسترهبهم كان يقيم البقر على رؤس الجبال ويجعل بينها رجّالة يبرقون بالسيوف والحراب فإذا شوهدوا من بعد ظنّوا رجالا فلا يقدم العسكر على الصعود إليهم. فاتّفق أنّه نزل أخ لباد وقاتل قوما من العرب فقتل وبلغ قتله من باد كلّ مبلغ وضعف أمره. فبينما هو فى ذلك إذ ورد الخبر على أبى نصر بوفاة شرف الدولة فكتمه وعاد إلى الموصل فأظهر فيها العزاء به. وانفسح باد وأصحابه وتمكّن من طور عبدين واستضافها إلى ديار بكر ولم يقدم على الإصحار خوفا من العرب. فصار الجبل له والسهل لبنى عقيل ونمير. وكان أبو نصر على إصلاح أمره ومعاودة حرب باد إذ أصعد إبراهيم وأبو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة [214] إلى الموصل. وسيأتي ذكر ما جرى عليه أمرهم من بعد بإذن الله تعالى. ودخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة فيها قبض على شكر الخادم من الموضع الذي كان مستترا فيه وحمل إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 حضرة شرف الدولة وعلى أبى منصور أحمد بن عبيد الله بن المرزبان الشيرازي لأجله. شرح الحال فى ذلك كان شكر قد أسلف إلى شرف الدولة ما أوحشه وتولّى إبعاده عن بغداد إلى كرمان فى حياة عضد الدولة وقام بأمر صمصام الدولة، فحقد عليه شرف الدولة. فلمّا انحلّ أمر صمصام الدولة ووقع اليأس منه خاف شكر. وكان أبو منصور أحمد بن عبيد الله بن المرزبان الشيرازي صديقا خصيصا له فقال له: - «شرف الدولة قد أقبل وأرى الاستظهار لنفسي بالاستتار ثمّ أعمل الحيلة فى الخروج عن البلد فأعدّ لى موضعا عندك لأصير إليك.» فقال له أبو منصور: - «أمّا حصولك فى دارى فلا يخفى لكثرة من يطرقها ولكن أختار لك مكانا منه.» فلمّا كان فى [215] الليلة التي انحدر فيها صمصام الدولة إلى شرف الدولة استدعى من قبل أبى منصور من يصير به ليلا إلى الموضع الذي أعدّه. فأنفذ إليه زوجته بنت أبى الحسين ابن مقلة ونزل شكر فى سمارية وأصعد إلى الجسر كأنّه ماض إلى عكبرا. ثم انتقل إلى سمارية أخرى مع المرأة ولبس خفّا وإزارا كان قد استصحبهما وصارت به إلى دار أبى بكر محمد بن موسى الخوارزمي الفقيه، فأقام عنده مديدة. ففطن به فانتقل إلى دار رجل بزّاز فى رحبة خاقان يعرف بابن هارون كان أبو منصور الشيرازي يثق به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 ذكر رأى سديد رآه البزّاز وقبله شكر ثم خالفه فيه من بعده قال له: - «أيّها الأستاذ، ملاك أمرك وأمرى فى سترك أن أتولّى خدمتك ولا يدخل إلى بيني وبينك وبين هذه المرأة- أشار إلى زوجته- رابع.» فقال: «افعل.» فقام الرجل بخدمته. فلمّا مضت مدة راسل شكر أبا منصور وقال له: - «لى جارية حبشيّة، وأنا أثق بها وأريد أن تتولّى خدمتي.» فأجابه: بأننى لا آمن عليك. فراجعه حتى استقرّ الأمر على [216] إحضارها فأحضرت وأقامت معه. وكان قد علق قلبها بهوى. فكانت تأخذ من الدار المأكول وغيره وتخرج إلى حيث يدعوها هواها وربّما احتبست فى أكثر الأوقات فلحق شكرا ضجر من فعلها ومنعها من الخروج فلم تمتنع. ذكر فساد رأى شكر فيما دبّر به أمره لم يقنع بما غلط فيه من الخروج بسرّه إلى غير أهله وقد قيل فى المثل «لا تفش سرّك إلى أمة» حتى غلط ثانيا بالضجر فى غير وقته. فإنّه لمّا كثر ضجره منها رماها فى بعض الأيام بحميدى أصاب به وجهها فخرجت من الدار غضبى ومضت إلى باب شرف الدولة وصاحت «النصيحة النصيحة» فسئلت عنها فقالت: - «لا أقولها إلّا له.» فأدخلت الدار وأخرج إليها بعض خواصّ الحاشية، فأخبرته بحال شكر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 فرتّب مع صاحب المعونة من الخواص من يمضى للقبض عليه فقالت: - «قد جرى بيني وبينه نفرة، وربّما استوحش وانتقل، فابدءوا بدار أبى منصور الشيرازي.» ففعلوا ذلك فما شعر أبو منصور وهو قاعد فى داره عند حرمه [217] إلّا بهجوم القوم عليه بغتة، فقبض عليه وفتشت الدور والحجر فلم يوجد شكر. فمضوا إلى دار البزّاز وكبسوها وأخذوا شكرا منها وحملا جميعا إلى حضرة شرف الدولة. فأمّا شكر فإنّ نحريرا استوهبه قبل وصوله فوهبه له وعدل به إلى داره وأحسن إليه. ومضت مديدة وحضر وقت الحج فسأله الاستئذان له فى الحج فأذن له وخرج ثم عدل عن مكة إلى مصر وحصل عند صاحبها. وأمّا أبو منصور فإنّه اعتقل فتلطّف الوزير أبو منصور ابن صالحان فى أمره. ذكر تدبير لطيف عمله الوزير أبو منصور فى خلاص أبى منصور الشيرازي قال لشرف الدولة: - «هذا رجل إليه ديوان الضياع وعليه علق وحسبانات وأنا آخذه إلى الديوان وأتولّى محاسبته ومطالبته بما عليه.» فسلم إليه ونقله إلى حجرة تجاور داره، وأولاه الجميل. ثم توصّل إلى إطلاقه بعد شهور. ولم يوجد فى بقية أحداث هذه السنة ما فيه ذكر تدبير وسياسة. [218] ودخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة فيها أنفذ الطائع أبا الحسن علىّ بن عبد العزيز [بن] حاجب النعمان كاتبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 إلى دار القادر بالله رضوان الله عليه، وهو أمير للقبض عليه فخباه الله تعالى منه. ذكر السبب فى ذلك وما جرى عليه الأمر فيه لمّا توفّى اسحق بن المقتدر بالله والد القادر بالله رحمة الله عليهم، جرى بينه وبين أخته آمنة بنت معجبة منازعة فى ضيعة وطال الأمر بينهما وعرضت للطائع لله علّة [1] أشفى منها ثم ابلّ. فسعت آمنة بأخيها القادر بالله إلى الطائع لله وقالت له: - «إنّه شرع فى تقلّد الخلافة عند علّتك.» فظنّ ذلك حقّا وتغيّر رأيه فيه. وأنفذ أبا الحسن ابن حاجب النعمان وأبا القاسم ابن أبى تمام الزينبىّ [2] العباسي الحاجب للقبض عليه فأصعدوا فى الماء إلى داره بالحريم الطاهري. فحكى القاضي أبو القاسم التنوخي عن صفية بنت عبد الصمد ابن القاهر [219] بالله قالت: - «كنت فى دار الأمير أبى العباس- تعنى القادر بالله- يوم كبست بمن أنفذه الطائع لله وقد جمع حرمه فى غداة هذا اليوم وكنت معهنّ. فقال لنا: رأيت البارحة فى منامي كأنّ رجلا يقرأ علىّ «الَّذِينَ قال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» 3: 173   [1] . وفى الأصل: على. [2] . أبو تمام الزينبي هو الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن محمد الشريف قاضى القضاة قدم بغداد مع معز الدولة واشترى دارا بأربعة وعشرين ألف دينار وولى نقابة بغداد وتفقه على أبى الحسن الكرخي توفى سنة 372. كذا فى تاريخ الإسلام (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 [1] وقد خفت أن يطلبني طالب. وهو فى حديثه إذ شاهد زبزب ابن حاجب النعمان قد قدم إلى درجة داره فقال: - «إنّا لله، هذا حضور مريب بعقب هذا المنام.» وصعد القوم من الزبزب إليه وتبادرنا إلى وراء الأبواب، فقالوا له: - «أمير المؤمنين يستدعيك.» فقال: «السمع والطاعة» . وقام فقال له أبو الحسن: - «إلى أين؟» فقال: «ألبس ثيابا تصلح للقاء الخليفة.» فعلق بمكّه ومنعه. فبرزنا إليه وأخذناه من يده ونزل إلى سرداب فى الدار ووقفنا فى صدره حتى تخلّص، وعاد القوم إلى الطائع لله وعرّفوه الحال [2] .» وانحدر القادر بالله بعد ذلك مستخفيا إلى البطيحة، فأقام عند مهذّب الدولة إلى أن عقدت له الخلافة. وجعل علامته حين تقلّد الأمر «حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» 3: 173 تبرّكا بالرؤيا التي رآها. ومن بعد هذه [220] الحكاية نقول: إنّ الله تعالى إذا اصطفى عبدا أظهر عليه آثار الكرامات ودلّ على اصطفائه بالآيات والعلامات، وإذا اختاره لأمر هيّأ له أسبابه وفتح عليه أبوابه ونجّاه من كلّ سوء يخشاه وجعل إلى الخير مآله وعقباه. قال سبحانه فى محكم التنزيل «وَيُنَجِّي الله الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» 39: 61. [3]   [1] . س 3 آل عمران: 173. [2] . وردت هذه الحكاية فى الدول المنقطعة رواية عن ثابت بن سنان (مد) . [3] . س 39 الزمر: 61. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 كحل صمصام الدولة وفى هذا الوقت أخرج محمد الشيرازي الفرّاش لكحل صمصام الدولة. ذكر ما جرى عليه الأمر فى ذلك كان نحرير الخادم يحضّ شرف الدولة على قتل صمصام الدولة ويقول له: - «إنّه ملك قد قعد على السرير ولا يؤمن الدهر وحوادثه ودولتك مع بقائه على خطر.» فيعرض شرف الدولة عن هذا القول. فلمّا اعتلّ وأشفى ألحّ عليه فى ذلك وقال له: - «إن لم تر القتل فالكحل إذا.» فأخرج محمد الفرّاش لسمل صمصام الدولة، وسلّم إليه شيئا أمر بأن يكحله به ثلاثة أيام كحلا ويشدّ عليه عينيه. فمضى الفرّاش. فقبل أن يصل توفّى شرف الدولة. فحصل الفرّاش بسيراف والقلعة التي فيها [221] صمصام الدولة كانت من أعمالها وعاملها رجل يهودي يسمّى روزبه. فذكر الفراش للعامل ما ورد فيه فقال: - «هذا أمر قد بطل حكمه مع وفاة شرف الدولة، ولا يجوز تمكينك منه إلّا بعد إعلام أبى القاسم العلاء بن الحسن الناظر.» فكتب إليه يستأذنه فعاد جوابه بتمكينه مما ورد فيه. فقصد القلعة وكحل صمصام الدولة بما صحبه فذهب ناظره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 ذكر قلّة حزم فى استرسال عاد على صاحبه بوبال كان فى جملة الموكّلين بصمصام الدولة فرّاش يسمّى بندارا وقد أنس به لتطاول المدة. فقال له قول المترثّى: - «كيف الملك؟» فقال له بالاسترسال: - «قد بقيت من نظري بقيّة أبصر بها من تلك الكوّة.» فأعاد بندار قوله على محمد. فاجتمعا على أن يحصّا [1] عينيه بمبضع. فلمّا عاد صمصام الدولة إلى الملك بفارس، رام بندار أن يخدمه على رسمه فأمر صمصام الدولة بأن يكون مع الستريين [2] بالبعد منه. فقال بندار: - «هكذا استحقّ من الملك بعد خدمتي له وصحبتي معه؟» فأعيد قوله عليه. فقال: - «أما يرضى بالإبقاء [222] عليه حتى يدلّ بهذه الدالّة.» واتصل الحديث بالأمير أبى طاهر واطلّع على قصّته، فأمر بأخذه وصلبه فصلب. وكان صمصام الدولة يقول: - «ما سملنى [3] إلّا العلاء بن الحسن فإنّه أمضى فىّ أمر ملك قد مات.» ولمّا قبض عليه واقفه على ذلك ثم عفا عنه. وحصل محمد الفرّاش ببغداد. فلمّا ورد عميد الجيوش أبو على الحسن بن أستاذ هرمز من العراق قال: - «أريد أن أشفى صدري بقتله جزاء له على سوء فعله.»   [1] . حصّ الشيء: قطعه وأخذ منه حصّة. [2] . قال ابن بطوطا أن الستائريين الذين يمسكون دواب الخدام على باب المشور. [3] . والمثبت فى مد: سلمني. وهو تصحيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 فهرب منه إلى مصر وأقام بها إلى أن مات عميد الجيوش. وفى هذه السنة توفّى شرف الدولة وقام الأمير أبو نصر مقامه فى الملك. ذكر ما جرى عليه الأمر فى علّة شرف الدولة واستقرار الأمر للأمير أبى نصر بعده اعتلّ شرف الدولة العلّة التي توفّى فيها وكانت من استسقاء. فلمّا اشتدّت به ندب أبا على ولده إلى الخروج إلى فارس للنيابة عنه بها وأخرج معه والدته وجماعة من حرمه وأصحبه جلّ عدده [223] من مال وسلاح وضمّ إليه عددا كثيرا من وجوه الأتراك. وعلى أثر انحدار ولده غلب عليه المرض حتى غلب اليأس منه على الرجاء فيه. فاجتمع وجوه الأولياء وراسلوه باستخلاف الأمير أبى نصر فيهم إلى أن يبلّ من مرضه فأجابهم إلى سؤالهم وروسل الأمير أبو نصر بالحضور، فامتنع وأظهر القلق والجزع. واستقرّت الحال على إظهار استخلافه فى غد ذلك اليوم. وغدا الناس إلى دار المملكة لذلك. فجرى من بعض القوّاد والخواصّ مطالبة باستحقاقهم خرجوا فيها إلى التشديد، فتقوّض الجمع من غير تقرير أمر. وعاجلت شرف الدولة منيّته. فقضى نحبه وكتم أمره ليلة واحدة وأصبح الناس وعند أكثرهم خبره. واجتمع العسكر فطلبوا الأمير أبا نصر برسم البيعة وتردّد الخوض معهم فى أمر العطاء ومبلغ ما أطلق لكلّ واحد منهم. فتولّى خطابهم بنفسه وأعلمهم خلو الخزائن من المال الذي يعمّهم ووعدهم بكسر ما فيها من الأوانى والصياغات وضربها عينا وورقا وصرفها إليهم. وأطلّ المساء وراحوا إلى منازلهم من غير استقرار وباكروا الغدو إلى الدار فوجدوا الأمير أبا نصر قد أظهر المصيبة وجلس للتعزية [224] فأمسكوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 عن الخطاب. وخرج تابوت شرف الدولة وتقدّم للصلاة عليه أبو الحسن محمد بن عمر العلوي وحمل إلى المشهد بالكوفة. فكان مقام شرف الدولة ببغداد سنتين وثمانية أشهر وأيّاما وعاش ثماني وعشرين سنة وخمسة أشهر، ثم بلغ الكتاب أجله ودعاه الداعي فاستعجله، وبزّته المنية ثوبي ملكه وشبابه واختطفته من بين حشمه وأصحابه، فمضى غضّا طريّا إمّا سعيدا وإمّا شقيّا فى سبيل لا بدّ للخلائق من سلوكها، ولا فرق فيها بين سوقتها وملوكها. ولربّما كانت السوقة أخفّ ظهورا وأسرع فى تلك الغمرات عبورا. فأفّ لدار هذه صورة سكّانها ولشجرة هذه ثمرة أغصانها! لقد ضلّ من اتخذ هذه الدار قرارا واستطاب من هذه الشجرة ثمارا. فطوبى لمن قصّر فى الدنيا أمله وأصلح للآخرة عمله. قال الله تعالى: «إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» 40: 39. [1] وتردّدت بين الأمير أبى نصر وبين الطائع لله مراسلات انتهت إلى أن حلف كل واحد منهما لصاحبه على الصفاء والوفاء وركب الطائع لله من غد للعزاء. [225] ذكر ما جرى عليه الأمر فى ركوب الطائع لله للتعزية قدم الطيّار على باب الدرجة، وفرش سطحه بدبيقى وعليه مقرمة ديباج حمراء منقوشة ووسطه بديباج أصفر وعليه مقرمة دبيقية، ووقف الغلمان الأتراك الأصاغر بالسيوف والمناطق فى دائر المجلس الأوسط ووافى   [1] . س 40 غافر: 39. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 حجّاب شرف الدولة الأتراك والمولّدون فى الزبازب بالثياب السود والسيوف والمناطق وكلّ منهم قائم فى زبزبه واجتمع من السفن التي فيها العامة عدة كثيرة. وخرج الطائع لله من داره وتحته فرس صنابىّ بمركب خفيف وسرج مغرىّ [1] أحمر، وعليه قباء ملحم أسود وعمامة خزّ سوداء على رصافية وهو متقلّد بسيف، وبين يديه خمسة أرؤس فوق سروجها جلال الديباج ونزل إلى الطيّار فجلس فى المجلس الأوسط على المقرمة فى الدست على خلاف عادة الخلفاء فإنّهم كانوا يجلسون على سطح حرّاقة وبين يديه مجلس طيّار وقيل: إنّه فعل ذلك لأنّه كان فى عقيب علّة، وأراد أن يخفى ما بوجهه من آثارها. فوقف بين يديه أبو الحسن على بن عبد العزيز كاتبه ودجى خادمه [226] والعباس حاجبه. وسار الطيّار إلى دار المملكة بالمخرم فنزل الأمير أبو نصر متّشحا بكساء طبرى والديلم والأتراك بين يديه وحواليه الى المشرعة التي قدّم إليها الطيّار وقبّل الأرض وصعد أبو الحسن ابن عبد العزيز إلى الأمير أبى نصر فأدّى إليه رسالة عنه بالتعزية، فقبّل الأرض ثانيا ودعا وشكر. وعاد أبو الحسن إلى حضرة الطائع لله وأعلمه شكره ودعاءه، وعاود الصعود إلى الأمير أبى نصر لوداعه عن الطائع لله، فأعلمه شكره ودعاءه، فقبّل الأرض ثالثا وانحدر الطيّار على مثل ما أصعد وعاد الأمير أبو نصر الى داره. ثم ركب الأمير أبو نصر بعد خمسة أيّام إلى حضرة الطائع لله، فخلع عليه الخلع السلطانية ولقّبه بهاء الدولة وضياء الملّة، وقرئ عهده بين يديه بالتقليد   [1] . مغرة: موضع بالشام، من ديار كلب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 وقدّم إليه فرس بمركب ذهب وقيّد بين يديه آخر بمثل مركبه وسار العسكر حواليه إلى باب الشماسية فى القباب المنصوبة ونزل إلى الطيّار وانحدر إلى دار المملكة. ذكر ما دبّره بهاء الدولة عند قيامه بالملك [227] أقرّ الوزير أبا منصور ابن صالحان على الوزارة وأصحاب الدواوين وغيرهم على ما كان إليهم. ثم صرف أبا سعد ابن الخيّاط عن ديوان الإنشاء مع مدّ يده وعوّل فيه على أبى الحسن على بن محمد الكوكبي المعلم، وخلع عليه الطائع لله وكنّاه ولقّبه بالكافي، وكانت الخلعة درّاعة دبيقية [1] وعمامة قصب وحمله على فرس بمركب. وقبض على نحرير الخادم وأبى نصر ابن كعب فاعتقلا ثم قتلا. فأمّا نحرير فكان هلاكه على يد الحسين الفرّاش، فأمّا أبو نصر ابن كعب فعلى يد أبى الحسن الكوكبي. شرح الحال فى ذلك كان بهاء الدولة شديد الميل إلى نحرير كثير الثناء عليه. فلمّا توفّى شرف الدولة أراد منه أن يجرى فى خدمته على ما كان عليه فى خدمة شرف الدولة. فامتنع نحرير وتظاهر بلبس الصوف، واجتهد معه كل الاجتهاد مراسلة بالشريف أبى الحسن محمد بن عمر والوزير أبى منصور محمد بن صالحان ومشافهة بنفسه، فما أجدى معه نفعا. [228]   [1] . دبيق: بليدة كانت بين الفرما والتّنيس من أعمال مصر، تنسب إليها الثياب الدبيقيّة (مراصد الإطلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 ذكر ما ارتكبه نحرير من اللجاج حتى آل به شرّ مآل لم تزل الحكماء وأولو العقول الراجحة يحذّرون ركوب مطيّة [1] اللجاج، فإنّها كثيرة الكبوة والنفور، تلقى صاحبها إلى الورطة والثبور. قال أبو نصر الحسين بن الحسن المعروف بالأستاذ الفاضل: كنت قائما بين يدي بهاء الدولة وهو يخاطب نحريرا ويقول له: - «لا تزهد فىّ مع رغبتي فيك، فأنا أولى بك على ما كنت عليه من قبل.» ونحرير يقبّل الأرض ويستعفى. إلى أن انتهى بهاء الدولة إلى أن قال له باللغة الفارسية وقد دمعت عيناه: - «افعل لله.» فأقام نحرير على أمر واحد فى اللجاج الذي لا يقابل الملوك بمثله وانصرف من بين يديه ودخل الحسين الفرّاش بعد ساعة وقال: - «قد طلب نحرير عشرين ألف درهم من الخزانة.» فقال: «احملوها إليه.» ذكر حيلة عملها الحسين الفرّاش نفّر بها قلب بهاء الدولة من نحرير حتى أمر بالقبض عليه [229] لمّا حملت الدراهم إلى نحرير عاد الحسين الفرّاش وقال:   [1] . والمثبت فى مد: مطبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 - «عرفت أنّه معوّل على الهرب فى هذه الليلة وأنّه أخذ الدراهم وجعلها فى أكياس نفقة الطريق.» فانزعج بهاء الدولة لذلك وسهر ليلته يراعيه وينفّذ فرّاشا بعد فرّاش إلى داره ليعرف ما هو فيه. إلى أن أسفر الصبح ولم يكن لما ذكره الحسين الفرّاش أصل وإنّما أراد الإغراء به. وعطفت الجماعة بعد ذلك على بهاء الدولة باللوم له ولا سيّما أبو الحسن ابن عمرو فإنّه كان عدوّا لنحرير وقال: - «أيّها الملك قد أسرفت فى مداراة هذا الخادم إسرافا يشيع ذكره وأصرّ على مخالفتك إصرارا يصغر عنه قدره.» وما زالوا بهذا القول وأمثاله حتى غيّروا رأيه فى نحرير وزادوا غيظه منه. فحضر نحرير بعد أيّام ومعه أبو نصر ابن كعب وكان خصيصا به، وأبو الحسن محمد بن عمر وأبو منصور الوزير وأبو سعد ابن الخيّاط فى الحجرة مجتمعون، فأذن بهاء الدولة فى القبض عليه. ورأى أبو نصر أمارات التغيّر والتنكّر، فأشار إلىّ بيده وقال: - «ما الخبر؟» فأومأت إليه بالقيام فقام وتبعه أبو سعد ابن الخيّاط، وأخذ أبو نصر ابن كعب إلى الخزانة فاعتقل فيها. وبقي أبو الحسن محمد بن عمر ونحرير. فقال له محمد بن عمر: [230]- «يا هذا قد أسرفت فى الدولة ومن أنت وما قدرك حتى تمتنع من خدمة هذا الملك العظيم؟» فأغلظ له فى القول ونحرير مطرق. فلمّا زاد الأمر عليه رفع رأسه وقال له: - «أيّها الشريف، أين كان هذا القول منك فى أيّام مولاي وأنت ترى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 أفضل آمالك إذا تبسّمت فى وجهك؟ فأمّا الآن وأنا على هذه الحال فاستعمال ما أنت مستعمله لؤم قدرة وسوء ملكة، وكيف ألام على ترك الدنيا بعد ملك ابتاعنى بألف درهم، ثم رفعنى إلى أن كنت تخدمنى ولا أخدمك، وتحتاج إلىّ ولا أحتاج إليك؟» فاغتاظ أبو الحسن ابن عمر وانصرف. وأخذت بيد نحرير فأقعدته على الفراش من الأرض فقال لى: - «أريد أن تحمل إلىّ مصحفا وأن تقول لمولانا الملك: ما كان امتناعي عليك إلّا ما جرت به الأقدار من إدبارى وقد خدمتك وخدمت أخاك وأوجبت عليك حقّا بذلك وأسألك أن لا تسلمني إلى عدوّ يشتفى منّى وأن تكون أنت الآمر بما تفعل بى.» وأعدت قوله على بهاء الدولة فقال: - «ارجع إليه واحمل إليه مصحفا كما طلب وقل له: هذه ثمرة لجاجك، فإلى من تريد أن أسلمك؟» وحملت إليه المصحف وأعدت عليه القول، فقال: «إلى أبى جعفر الحجاج.» وعدت إلى بهاء الدولة فأعلمته، فاعترض [231] الحاضرون على ذلك، فلم يصغ بهاء الدولة إلى أقوالهم وتقدّم بحمله إلى أبى جعفر فحمل. ذكر مكيدة أخرى عملها الحسين الفراش ليتمكّن بها من قتل نحرير جاء الحسين الفرّاش بعد أيام، فقال لبهاء الدولة: - «أيّها الملك قد بلغني عن ثقة صادق أنّ أبا جعفر الحجّاج معوّل على الركوب فى غد و [على] مسئلتك فى أمر نحرير. فإن أجبته إلى ذلك أفرجت عن عدوّ لا تأمنه فيما عاملته به، وقد علمت طاعة الأتراك له، وإن منعته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 أضفت إلى استيحاش نحرير استيحاش أبى جعفر.» قال: «فما الرأى؟» قال: «أن تسبقه إلى أخذه من داره.» قال: «فإلى أين يحمل؟» قال: «إلى دارى التي نأمن فيها على مثله.» فأمر عند ذلك بإنفاذ من يأخذه، فنقل واعتقل فى غرفة. ومضت أيّام واتّفق أنّ بهاء الدولة خرج يوما فى آخر النهار من الحجرة والحسين الفرّاش يسارّ أخاه وظهره إلى الموضع الذي خرج منه بهاء الدولة فلم يشعر به، حتى رآه أخوه فأنذره. فأقبل إليه فقال له بهاء الدولة وقد رأى فى وجهه وجوما وتغيّرا: - «فى أىّ شيء أنت؟» قال: «يا مولانا ذكر أخى أنّ جماعة من الغلمان الشرقيّة [232] اجتازوا على دارى ورآهم نحرير من الغرفة فصاح إليهم وقال لهم: أنا نحرير، فاهجموا على الدار واستخلصونى. فخاف الموكّلون به أن يؤخذ من أيديهم فقتلوه.» فقال: «ويلك ما تقول؟» قال: «ما يسمعه مولانا.» فورد على بهاء الدولة من ذلك ما أزعجه وعرف بعد ذلك أنّ ما حكاه الحسين الفرّاش باطل، وأنّه هو الذي أمر الموكّلين بقتله، فأسرّها فى نفسه ولم يبدها له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 ذكر ما جرى عليه أمر أبى نصر ابن كعب فى قتله كان أبو الحسن الكوكبي نقله إلى داره وأخذ منه مالا. فلمّا قتل نحرير خاف أن يظهر ما وصل إليه منه. قال أبو نصر المعروف بالأستاذ الفاضل: كنت فى بعض الأيّام جالسا مع الكوكبي، فوافاه بعض غلمان الخزانة وأسرّ إليه شيئا لم أسمعه وعاد فقال لى الكوكبي: - «أتدرى ما نحن فيه.» قلت: «لا.» قال: «قد أسقى ابن كعب السمّ دفعتين وما عمل فيه، وسقى ثالثا وكان غاية فعله أن أظهر نفخا فى وجهه.» فوجمت من قوله. فلمّا كان فى غد قال لى: - «أعندك خبر ابن كعب؟» قلت: «لا.» قال: «لم ينفع ذلك السمّ حتى [233] أعنّاه بالسيف» وهو يضحك. ذكر مقابلة عجيبة فيها عبرة وتذكرة لمّا تجرّأ الفرّاش والكوكبي على ما تجرّءا عليه عجّل الله الانتقام منهما جميعا. فأمّا الفرّاش فإنّه اعتقل فى دار نحرير وقتل بعد قليل، وأمّا الكوكبي فإنّه سقى السمّ عند قتله مرارا فلم يعمل فيه حتى خنق بحبل الستارة، وحضر بعض الأتراك فوجأه بسكين كانت معه. فانظر إلى هذه المقابلة الوجيعة الشريفة كيل الصاع بالصاع: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 كن [1] كيف شئت كما [2] تدين تدان وإذا كانت هذه حال الدنيا التي عود الله فيها للمقابلة إمهالا، فما ظنّك فى الآخرة التي جعل الله فيها لكل ذرّة مثقالا؟ فتعسا للظالم ما أشقاه وتبّا له ما أجهله وأعناه. أتظن أنّه ظلم غيره؟ كلّا، إنّه ما ظلم إلّا نفسه. أما تعلم أنّ الحاكم عدل وأنّ القضاء فصل؟ فهلّا أعد لموقف سؤاله جوابا فى اليوم الذي قال الله تعالى: «يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» 78: 40. [3] قتال بين الديلم والأتراك وفى هذا الوقت جرت منافرة بين الديلم والأتراك أثارت من الصدور [234] اضغاثا ولقحت بينهم حربا عوانا. وتحصّن الديلم بالدروب وعظمت القصة واستمرّ القتال بينهم حربا عوانا. وتحصّن الديلم بالدروب وعظمت القصّة واستمر القتال أيّاما حتى برز بهاء الدولة إلى معسكر الأتراك وخيّم عندهم لأنّهم كانوا أخشن فى القوة جانبا وألين فى الطاعة عريكة. فتلافى الأمر وراسل الديلم ورفق بالأتراك حتى ألقت الحرب أوزارها ووقع الصلح وعاد الأتراك إلى البلد وتواهبوا وتصافحوا وحلفت كل طائفة للأخرى.   [1] . فى الأصل ومد: وكن، بزيادة الواو. [2] . فى الأصل ومد: فكما، بزيادة الفاء. هذا إذا اعتبرناه مصراعا من بيت، كما اعتبر فى مد. [3] . س 78 النبأ: 40. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 وقويت شوكة الأتراك وعلت كلمتهم وضعف أمر الديلم بعد هذه الوقعة وتفرّق جمعهم وتسللوا فى كلّ طريق، ومضى فريق بعد فريق. ذكر ما جرى عليه أمر أبى على بعد انحداره انحدر الأمير أبو على ومن فى صحبته على ما تقدّم ذكره. فلمّا حصلوا بواسط استعجمت عليه أخبار شرف الدولة وانقطعت النوبة المترددة بالكتب، فساءت الظنون. ثم ورد عليهم ما دلّ على اليأس منه، فسار الأمير أبو على والأتراك على الظهر وانحدرت الخزائن والحرم والأثقال إلى البصرة ووقع الاجتماع بمطارا. ووردت الكتب بوفاة شرف الدولة وانحدر [235] أبو شجاع بكران بن أبى الفوارس والحاجب أبو على ابن أبى الريّان ليرد الجماعة فأشير على الأمير أبى على بالتعجيل إلى أرجان، [1] ففعل وصحبه خواص الحرم فى عمّاريات واستصحب ما خفّ محمله وعوّل على طاهر بن زيد صاحب عبادان فى توجيه بقية الحشم والأثقال التي معهم فى البحر إلى أرجان فقدّم بتنفيذ شيء منها. ووصل بكران وابن أبى الريان فاستوقفا كلّ من كان تأخّر مع بقية الأثقال وقالا لهم: - «إنّما وردنا لتطبيب قلوبكم.» [ثم] ورد الأمير أبو على إلى حضرة بهاء الدولة عمّه ليقضى فيه حقّ شرف الدولة عليه وأعاد الجماعة من عبادان إلى البصرة. ثم شغب الديلم بالبصرة وطلبوا رسم البيعة ولم يكن للمال وجه، فأخذ   [1] . أرّجان، وعامّة العجم يسمّونها أرّغان، وقد خفّف المتنبّى الراء فى شعره، وهي مدينة كبيرة كثيرة الخير، وهي برّيّة بحريّة، سهليّة جبلية، وهي من كورة فارس (مراصد الإطلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 بكران على سبيل القرض من تلك الثياب والصياغات شيئا كثيرا وصرفه إليهم ثم وقع اليأس من عود الأمير أبى على فتسلّم البقية. وحصل الأمير أبو على بالرجال وكان أبو القاسم الرضيع بها على ما رتّبه شرف الدولة من النيابة عنه وحصل معهما عدد الأتراك وفيهم مثل خمارتكين الحمصي [1] وأبو الغارات والبكّى ومن يجرى مجراهم وكانوا جمهور العسكر فعملوا على المسير إلى فارس. ذكر رأى رآه أبو القاسم [236] العلاء بن الحسن بالبادرة وندم عليه بعد الرويّة لمّا انتهى إليه تميّز القوم خاف أن يستقيم الدولة للأمير أبى على ولا يكون له فيها قدم. فاستعجل بمكاتبة الأمير أبى على وأبى القاسم الرضيع وعرّفهما ما اعتمده من جمع كلمة الديلم على الطاعة. وكان المرتّب فى القلعة التي فيها صمصام الدولة والأمير أبو طاهر قد أطلقهما وكذلك المرتبة التي فيها فولاذ بن ماناذر أيضا وحصل الثلاثة ... [2] كلمة الديلم على تمليك صمصام الدولة وأبى طاهر ونادوا بشعارهما وقام فولاذ بتقرير ذلك. وندم أبو القاسم العلاء بن الحسن على مكاتبة الأمير أبى على، وعلم أنّ أبا القاسم الرضيع باستيلائه سيستعلي عليه ويستبد بالأمر دونه، فكاتب صمصام الدولة وأبا طاهر [و] فولاذ واستدعاهم ووعدهم ومنّاهم. وسار الأمير أبو على حتى نزل على ثلاثة منازل من شيراز.   [1] . وفى الأصل «بن الحفصي» والصواب فيما بعد. [2] . بياض فى الأصل. لعله سقط «واجتمعت» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 ذكر ما دبّره أبو القاسم العلاء بن الحسن فى أمر الرضيع حتى قبض عليه [237] اختار ستّين رجلا من وجوه الديلم وواقفهم على أن يلتقوا الأمير أبا على ويخدموه، ويعرّفوه عن الأولياء طاعتهم له، ويطالبوه بالقبض على أبى القاسم الرضيع قبل الدخول إلى البلد، وترتيب من يقوم مقامه بعد الاستقرار فيه. وضمن العلاء بن الحسن لهؤلاء الوجوه إقطاعات الرضيع بفارس وكانت كثيرة فطمعوا فيها وبالغوا فى خطابهم حتى أجيبوا إلى القبض على الرضيع وحمل إلى العلاء بن الحسن فأنفذه إلى القلعة. وتمم الأمير أبو على والأتراك إلى شيراز فخيّموا بظاهرها. ذكر حيلة رتّبها العلاء بن الحسن أفسد بها الحال بين الديلم والأتراك حتى بلغ غرضه أحضر غلاما من الأتراك يعرف بانوشتكين وخدعه وقال له: - «هل فيك لاستخدامك فى أمر يكون فيه رفع لقدرك وتقديم لمنزلتك؟» قال: «نعم.» قال: «تعرّض للديلم فتقتل منهم رجلين أو ثلاثة على سبيل الغيلة وتهرب لاظهرك من بعد وأوفى لك بما وعدتك به.» فانخدع الغلام لجهله وخرج [238] وصعد إلى حائط بستان ورمى رجلين من الديلم جازا تحته بفردات أصابت مقاتلهما وثارت الفتنة بين الديلم والأتراك ثم وقع الشروع فى إصلاح ما بين الفريقين وتمّ على ذحل. وعدل العلاء بن الحسن إلى مراسلة الأمير أبى على ووالدته ويحذّرهما من الديلم وبوادرهم لما ظهر من ميلهم إلى صمصام الدولة وأبى طاهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 فخرج الأمير أبو على من دار الإمارة مستخفيا بالليل إلى مخيّم الأتراك وتبعته والدته. وأصبح الديلم قد أجمعوا رأيهم على الإبتداء بالأمير أبى على والاحتياط عليه فوجدوهم قد برزوا إلى المعسكر فكشفوا القناع ونابذوا الأتراك وجرت بينهم مناوشات فى عدّة أيام. ثم ارتحل الأتراك بالأمير أبى على وساروا إلى فسا، فوجدوا بها أبا الفضل ابن أبى مكتوم عاملا وتحت يده مال معدّ يريد حمله إلى شيراز وعنده نحو أربعمائة من الديلم. فراسلوه واستمالوه فمال إليهم واستوزره الأمير أبو على وفرّق المال المجتمع عليهم وحاصروا الديلم المقيمين بها فى دار لجأوا إليها. فلمّا فتحوها قتلوهم بأسرهم وقوى أمر الأتراك بما حصل فى أيديهم من أسلابهم. وعاد الأمير أبو على مع علافهم إلى أرّجان ومضى البكى ومعه جمرة العسكر إلى باب شيراز وقد حصل فيها صمصام الدولة [239] فأقاموا بظاهرها مدّة يقاتلون الديلم وينهبون السواد. ثم ضجروا من المقام فانصرفوا إلى أرجان. ذكر سوء تدبير ابن أبى مكتوم فى عداوة البكّى حتى هلك كان قد جرى بين [ابن] أبى مكتوم وبين البكى تنافر أصرّ البكى على عداوته فيه. فلمّا قرب من البلد تلقّاه الأمير أبو على [و] ابن أبى مكتوم معه يسير على جانبه. فحين وقف للقاء الواردين سبقوا إليه وخدموه والبكى بمعزل عنهم. ثم تقدّم أحد الأتراك إلى ابن أبى مكتوم فجذبه بكمّ دراعته وساعده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 الباقون على سحبه إلى البكى فضرب عنقه. وسار البكى لوقته إلى الأمير أبى على وقد ماج الناس وتوارى أكثر الحواشي. فحين بصر به قبّل الأرض بين يديه واعتذر إليه وقال: - «إنّ عبيدك ما أقدموا على قتل هذا الرجل إلّا لما عرفوه من سوء نيته فيك وفيهم واطلعوا عليه من مكاتبة صمصام الدولة وتسليمك وتسليمهم ونحن خدمك ومماليكك ورؤوسنا ونفوسنا دونك.» فأجابه بما أظهر به الرضاء [1] عنه. ومضت مديدة ووافى أبو على [240] الحسن بن محمد بن نصر رسولا من حضرة بهاء الدولة بالمواعيد الجميلة فكاثر الأتراك وكاثروه واستمالهم فى السر حتى اتفقت كلمتهم على الانكفاء إلى حضرة بهاء الدولة بواسط. فلمّا قرب منها تلقى وأكرم ووصل إلى حضرة بهاء الدولة وهو فى مجلس أنس فقرّبه وأدناه وباسطه وسقاه ثم قبض عليه بعد أيام وحدر إلى البصرة واعتقل بها. وسار بهاء الدولة إلى فارس. فلمّا عاد إلى العراق استدعاه وتولّى أبو الحسن الكوكبي المعلّم قتله خنقا بيده. ذكر ما جرى عليه أمر صمصام الدولة فى خلاصه وعوده إلى الملك بفارس بعد شرف الدولة قد تقدّم ذكر خلاصه وخلاص أبى طاهر وحصولهما بسيراف. فلمّا ارتحل الأمير أبو على والأتراك من باب شيراز كتب أبو القاسم العلاء بن الحسن إليهما بما فعله من تمهيد الأمور وأشار عليهما بتقديم السير فساروا ونزلوا بدولت آباذ، ثم دخلا البلد.   [1] . كذا فى الأصل: الرضاء، بالمد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 فاستولى الأمير أبو طاهر على الأمر بقوّة نفسه وشدّة بأسه، وتقلّد فولاذ بن ماناذر أمور الديلم [241] ومايله العلاء بن الحسن فتعاضدوا، وصارت كلمتهما واحدة. ثم مات الأمير أبو طاهر وقيل: إنّه سمّ، فغلب فولاذ على الأمور واستبدّ بالتدبير وعرض من فساد الحال بينه وبين العلاء ما صار سببا لانفصاله عن فارس وحصوله بالرىّ. وسيرد ذلك فى موضعه إن شاء الله. وفى هذا الوقت ورد الخبر بمسير فخر الدولة من همذان طالبا أعمال خوزستان ومحدّثا نفسه بقصد العراق. ذكر السبب فى حركة فخر الدولة لطلب العراق كان الصاحب ابن عبّاد على قديم الأيام وحديثها يحبّ بغداد والرياسة فيها ويراصد أوقات الفرصة لها. فلمّا توفّى شرف الدولة سمت نفسه لهذا المراد وظنّ أنّ الغرض قد أمكن. فوضع على فخر الدولة من يعظّم فى عينيه ممالك العراق ويسهل عليه فتحها وأحجم الصاحب عن تجريد رأى ومشورة بذلك نظرا للعاقبة وتبرّيا [1] من العهدة إلى أن قال له فخر الدولة: - «ما الذي عندك أيّها الصاحب فيما نحن فيه.» فقال: «الأمر لشاهانشاه وما يذكر [242] من جلالة تلك الممالك مشهور لا خفاء به وسعادته غالبة، فإذا همّ بأمر خدمته فيه وبلّغته أقصى مراميه.» فعزم حينئذ على قصد العراق وسار إلى همذان ووافاه بدر بن حسنويه وأقام بها مدّة يجيل الرأى ويقلّبه ويدبّر الأمر ويرتّبه، حتى استقرّ العزم على أن يسير الصاحب وبدر بن حسنويه على طريق الجادّة، ويسير فخر الدولة   [1] . ما فى مد: تبرّئا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 وبقية العسكر على طريق الأهواز، ورحل الصاحب مرحلة. ذكر رأى أشير به على فخر الدولة اقتضى ردّ الصاحب من الطريق قيل لفخر الدولة: - «من الغلط مفارقة الصاحب لك، لأنّك لا تأمن أن يستميله أولاد عضد الدولة فيميل إليهم.» فاستعاده وسارت الجماعة إلى الأهواز وكان أبو منصور ابن عليكا واليا للحرب بالأهواز، وأبو عبد الله ابن أسد ناظرا فى الخراج على ما رتّبهما شرف الدولة. فلمّا توفّى شرف الدولة عمل أبو الحسن الكوكبي المعلّم فى تغيير أمر أبى منصور ابن عليكا والقبض عليه، وندب لذلك أخا للحسين الفرّاش، وانتهى [243] الخبر إلى أبى منصور من أصحابه بالحضرة فترك داره ورحله وأكثر كراعه، ومضى مع بعض العرب قاصدا حضرة فخر الدولة ونهب الديلم بعد انصرافه رحله، وكان شيئا كثيرا. ذكر رأى سديد لأبى عبد الله ابن أسد استرجع به المأخوذ وحفظ فيه السياسة جمع قوّاد الديلم وقال لهم: - «إنّ هذا الرجل والكراع المأخوذ هو اليوم لبهاء الدولة، وإذا أخذ ونهب كان ذلك خروجا عن الطاعة. فإمّا أن تردّوا المأخوذ وإمّا أن تخلوا عنّى لأفارق موضعي وأنتم بشأنكم أبصر.» فقالوا: «إنّما فعل ذلك أصاغرنا الذين لا قدرة لنا على انتزاع ما فى أيديهم.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 فراجعهم وراجعوه حتى التزموا ردّ المنهوب وتحالفوا على استخلاصه. ففعلوا ذلك فأعادوه. ثم عدلوا إلى المطالبة بمال البيعة فجمع أبو عبد الله صدرا من مال الارتفاع وقوّم بقية الرحل والكراع على القوم وأرضاهم به. وشاع خبر مسير فخر الدولة فوقع بين الديلم والأتراك [244] تنافر أدّى إلى حرب بينهما أيّاما. ثم سار الأتراك ومن مال إلى بهاء الدولة من الأهواز على سمت العراق. ذكر ما جرى عليه أمر فخر الدولة عند حصوله بالأهواز وما اعتمده من سوء التدبير والسياسة حتى عاد بالخيبة كان الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد سبق إلى الأهواز وملكها ولحقه فخر الدولة بعد عشرين يوما وخيّم ببستان البريدي. وتشوّف الجند إلى ما يكون من عطائه وإحسانه. فلم يكن منه فى ذلك ما اقتضته الحال ولا بعض ما كانت عليه الآمال. وحضر المهرجان فقاد القوّاد الخوزستانية خيلا برسم خدمته على ما جرت به العادة فى مثل هذا الفصل، فردّها عليهم وسامهم أن يمكنوا المخيّرين من اختيار ما يرتضونه لمراكبه، وأخذ من خيلهم جيادها فنفرت قلوبهم لذلك. ثم حظر على إقطاعاتهم ومنعهم التصرف فى ارتفاعها وإن لم يظاهرهم بحلها وارتجاعها ومدّ العمّال فى أثناء الخطر أيديهم فى تناول موجودها. فضاقوا صدورا وازدادوا نفورا. فأمّا وجوه الديلم الذين وصلوا مع فخر الدولة، فإنّ نيّاتهم ساءت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 أيضا [245] لأنّ إقطاع كل واحد منهم بالرىّ وأعمال الجبل كان من عشرين ألف درهم إلى ثلاثين ألف درهم. ورأى كل واحد من قوّاد الديلم الخوزستانية وإقطاعه ما بين مائتي ألف درهم إلى ثلاثمائة ألف درهم فكثر تحاسدهم وظهر تحاقدهم. وكان من عجيب الاتفاق (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) [1] أنّ دجلة الأهواز زادت فى تلك الأيام زيادة لم تجر بها العادة ودخل الماء إلى الخيم فأخذ بعضها. فرحل فخر الدولة وعسكره وعظم فى أعينهم ما رأوه لأنّهم ألفوا المدود [2] وقال بعضهم لبعض: إنّما حملنا الصاحب إلى هذه البلاد طلبا لهلاكنا. فاشمأزّت قلوبهم وساءت ظنونهم وتقلقل الأمر ولاح من كلّ وجه وهي أسبابه. واتصلت الأخبار إلى بغداد بحصول فخر الدولة بالأهواز. ذكر ما دبّره بهاء الدولة فى تجهيز العسكر للقاء فخر الدولة لمّا عرف وصول فخر الدولة إلى الأهواز انزعج انزعاجا شديدا وندب الحسين بن على الفرّاش للخروج فى هذا الوجه والقيام بتدبير الحرب، وقدّمه وعظّمه ولقّبه: الصاحب، مغايظة لابن عباد وخلع عليه [246] خلعا توفى على قدر من هو أوفى منه، وأصحبه من المال والسلاح والآلات كل خطير كثير وجرد معه أبا جعفر الحجاج بن هرمز وألفتكين الخدام ومعهما عسكر جرّار. وسار بعد أن خرج بهاء الدولة لتوديعه فرتّب نفسه فى طريقه ترتيب   [1] . س 8 الأنفال: 42. [2] . الصواب: ما كانوا ألفوا، كما سيأتي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 الملوك فى مجالسه ومواكبه وانخرق فى العطاء وأسرف فى التدبير. وكان السبب فى بلوغه هذه المرتبة مع عناية بهاء الدولة تجرّد أبى الحسن الكوكبي المعلّم لتشييد أمره لا عن صفاء له، وإنّما قصد بمساعدته على ذلك إبعاده عن الحضرة والاستراحة منه. فإنّه كان شديد الاستيلاء على بهاء الدولة. فلمّا حصل بواسط وبعد، حكيت عنه حكايات وأقوال، ووجد فى تغيّر رأى بهاء الدولة متسع ومجال. ذكر السبب فى تغيّر رأى بهاء الدولة فى الحسين الفرّاش وما جرى عليه الأمر فى القبض عليه وردّه من الطريق إلى بغداد وقتله فى دار نحرير [247] قال أبو نصر المعروف بالأستاذ الفاضل: لمّا أراد الحسين الفرّاش التوجّه، قال لى بهاء الدولة: - «أريد أن أشاهده إذا ركب فى موكبه وبرز إلى مضاربه.» فقلت: «الأمر لك.» فخرج ووقف من باب الحطّابين ينظر إلى الطريق، فاجتاز للحسين عدّة غلمان أتراك بالسيوف والمناطق وتحتهم الخيل بالمراكب الجميلة فقال لى: - «يا با نصر هذه المراكب من الخزانة؟» قلت: «نعم، لمّا بيعت ابتاعها وطرّاها.» واجتازت بعد ذلك جنائبه بمراكب ذهب وغير ذهب، وفيها بغلة عليها مركب كان يحبّه بهاء الدولة، فأخرج فيما بيع وحصل له فقال: - «يا با نصر هذا مركبي الفلاني؟» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 قلت: «نعم.» ولم يزل يسأل عن شيء شيء ويقول: - «متى جمع هذا وحصّله!» فلمّا مضى الحسين عاد بهاء الدولة إلى مجلسه. ورأيت وجهه قد تغيّر ونشاطه قد فتر، ودخل الحجرة فنام إلى العصر ولم يطعم طعاما إلى آخر النهار، ثم راسله الحسين الفرّاش على لساني يسأله الأذن فى ضرب طبول القطاع. فامتنع عليه من ذلك وقال: - «هذا لا يجوز.» وعدت إليه بهذا الجواب فاشتطّ وقال: - «بمثل هذه المعاملة يراد منى أن أدفع فخر الدولة وقد استولى على المملكة مما ذهب فيه مذهب الجهل؟» واتّفق أنّ أحمد الفرّاش كان حاضرا معى [248] وسامعا لما يجرى. وقمنا وسبقني أحمد الفرّاش فحدّث بهاء الدولة بما جرى. ثم جئت من بعد فسألنى عمّا كان من الجواب، فقلت: - «قد كان أحمد الفرّاش حاضرا وتقدّمنى إلى حضرتك ولعلّه قد شرحه.» فقال: «أعده.» فحسّنت ما أورده، فقال: - «ما كان هكذا.» قلت: «إذا كان مولانا قد عرف الأمر على صحّته فما الفائدة فى تكرير إعادته؟» ثم تتابعت الأخبار بما يفعله الحسين فى طريقه من الأفعال التي تجاوز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 الحدّ فوجد أبو الحسن الكوكبي سبيلا إلى تقبيح آثاره، وحكى عنه الحكايات التي أدّت إلى بوازه. فقال له بهاء الدولة فى بعض الأيّام وقد جاراه ذكره: - «أنفذ من يقبض عليه.» فانتهز أبو الحسن الكوكبي الفرصة وبادر بإنفاذ أبى الفتح أخى أبى عبد الله بن عليان وأبى الحسن على بن أبى على لذلك. ذكر اتّفاق عجيب انكتم به الأمر عن الحسين الفرّاش حتى قبض عليه ذكر الثلاثة المنحدرون أنّهم لمّا وصلوا إلى مطارا والحسين بها ساء ظنّه بورودهم فأنفذ إلى زبازبهم من فتّشها وأخذ ما وجده من الكتب فيها. [249] فلحسن الاتفاق لهم وسوء الاتفاق عليه كانوا قد استظهروا بترك الملطّفات المكتوبة بالقبض عليه فى سمارية كانت فى صحبتهم، إلّا أنّها مفردة من جملة ما يخصّهم، فلم يجدوا إلّا الكتب الظاهرة التي كانت إليه فأنس وسكن. ثم اجتمعوا مع أبى جعفر وألفتكين فأوصلوا إليهما الملطفات ووقفوهما على ما رسم فيها. وصاروا إلى الحسين واجتمعوا فى خركاه له وحادثوه ساعة ونهضوا من عنده وأطبقوا عليه بابها ووكّلوا به وبخزانته، ثم حملوه مقيّدا إلى البصرة وسلّموه إلى بكران بن أبى الفوارس وأبى على ابن [أبى] الريان فحمل منها إلى بغداد. وقد أوغر عليه صدر بهاء الدولة، فحبس فى دار نحرير وأمر بإخراج لسانه من قفاه، فمات ورمى من بعد إلى دجلة. فكان بين استخدامه فى الكنس والفرش وبين الخلع عليه مدة يسيرة وبين الخلع عليه وبين قتله مدة أيسر من الأولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 وإنّ من صعد من الحضيض الأوهد إلى محلّ الفرقد، ولم يكن ليديه بأسباب الخير تعلّق، ولا لقدميه فى أبواب البر تطرّق، يوشك أن يهوى سريعا ويخرّ صريعا فتنبتّ حباله [1] وتنقطع أوصاله فتحوّل حاله إلى الفساد. وتحور ناره الى الرماد. فالنار فى الحلفاء أعجل وقودا [250] وصعودا ولكنها أسرع خمودا وهمودا، وهي فى جزل الغضا أبطأ عملا، لكنها أبقى جمرا وأفسح مهلا. والمعوّل فى كل حال على العاقبة فعندها تبين الناجية من العاطبة. وعوّل بهاء الدولة بعد أخذ الحسين الفرّاش على أبى العلاء عبيد الله بن الفضل فى هذا الوجه وأنجح فيه ما يأتى شرحه بأذن الله تعالى. ذكر ما رتّبه فخر الدولة فى تجهيز الجيش إلى الأهواز لمّا عرف فخر الدولة دنوّ عسكر بهاء الدولة من أعمال خوزستان جرّد العساكر للقائهم فسار ابن الحسن خاله وشهفيروز بن الحسن وغيرهما فى ثلاثة آلاف من الديلم وبدر بن حسنويه فى أربعة آلاف من الأكراد ودبيس بن عفيف الأسدى وكان قد انحاز إليه فى عدة كثيرة من العرب. فلمّا تلاقى العسكران أجلت الحرب عن هزيمة أصحاب فخر الدولة. ذكر اتفاقات كانت سببا لهزيمة عسكر فخر الدولة [251] لم يكن فى التقدير وظنّ النفس ورأى العين أن يثبت لهم عسكر بهاء الدولة لولا النصر فإنّه من عند الله.   [1] . والمثبت فى مد: حاله، واقترح أن يكون «حباله» والحقّ معه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 فاتفق أنّ المعركة كانت بقرب أنهار وجاءت زيادة مدّ أخذ الصحارى وظنّ عسكر فخر الدولة أنّها مكيدة عملت بفتح بثق عليهم يغرقون فيه، ولم يكن لهم علم بحال المدود ولا هي عندهم من المألوف والمعهود. فولّوا أدبارهم ونكصوا على أعقابهم [1] إلى الأهواز واستأسر أناس من أكابرهم واستأمن كثير من أصاغرهم. وقيل: إنّ بدر ابن حسنويه وقف بنجوة من الأرض واعتزل الحرب وإنّ دبيس بن عفيف انصرف قبل اللقاء. وربّما كان سبب هذا الفعل من الصاحب ما اعتمده فخر الدولة معه من الارتياب به وردّه حين سار من همذان على جادّة العراق خوفا من ميله إلى أولاد عضد الدولة ومثل ذلك ما أثّر فى القلوب وأقام البريء مقام المريب، ثم ما استمر من مخالفته إيّاه فى آرائه. فلمّا عاد الفلّ إلى الأهواز قلق فخر الدولة وتقلقل رأيه وتململ. ذكر رأى سديد رآه الصاحب لم يساعده عليه فخر الدولة [252] قاله له: أمثال هذه الأمور تحتاج إلى توسع فى العطاء وضايقت الناس مضايقة وأضعفت فينا آمالهم وقطعت منا حبالهم. فإن استدركت الأمر بإطلاق المال واستمالة الرجال ضمنت لك ردّ أضعاف ما تطلقه بعد سنة من ارتفاع هذه البلاد. فلم يكن منه اهتزاز لهذا القول وكان قصارى ما فعل تلافى القوّاد الأهوازية بإزالة الحظر عن إقطاعاتهم فلم يقع هذا الفعل موقعا منهم مع ذهاب ارتفاعها فى تلك السنة.   [1] . والمثبت فى مد: أعناقهم، وهو تصحيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 ولم تسمح نفس فخر الدولة بعطاء، للشحّ [1] الغالب عليه. وأخذ الناس فى التسلل لاحقين بأصحاب بهاء الدولة حتى كان النقباء يطوفون فى صبيحة كل يوم على الخيم فيجدون كثيرا منها قد خلا من أصحابها. واتسع الخرق على الراقع وأعضل الداء على الطبيب: كما أنّ الأديم إذا تفرّى ... بلى وتعفّنا غلب الصّباحا [2] فضاق فخر الدولة ذرعا بالمقام مع انتشار الحبل فى يديه وتفرّق الناس عنه وانصرف عائدا إلى الرىّ وقبض فى طريقه على جماعة من القوّاد الرازيّة وقتلهم. ووافى أبو العلاء عبيد الله بن الفضل فدخل الأهواز وملك الأعمال. وأما أبو عبد الله بن أسد فإنّ الديلم قبضوا عليه قبل وصول [253] الصاحب إلى الأهواز وتوفّى فى الاعتقال من علّة عرضت له. ومرض الصاحب بالأهواز مرضا أشفى منه ثم أقيل فتصدّق بجميع ما كان فى داره من المال والثياب والأثاث، ثم استأنف عوض كل شيء من بعد. ذكر ما حفظ على الصاحب فى مقامه بالأهواز قيل: إنّ قوما تظلّموا إليه من حيف لحقهم فوقّع على ظهر قصّتهم: يظلمون شهرا وينصفون دهرا. وهذا توقيع طريف. فهل يجوز الغفول عن الظلم ساعة فكيف شهرا وما يدريه لعل الله يحدث قبل الشهر أمرا. وقيل: إنّه رسم لكتّاب البلد عمل حساب بارتفاع كل كورة، فعملوه   [1] . وفى الأصل: للشيخ. [2] . لعله الدباغا: والمثل المشهور: كدابغة وقد حلم الأديم (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 وحملوه إليه. فأمر بجمع العمّال والمتصرفين وأن يخرج ارتفاع كل ناحية ويعرض عليهم ويزايد بينهم. فكان ينادى على النواحي بين العمّال كما ينادى على الأمتعة بين التجّار. وهذا الحديث مستطرف فى حكم النظر. وقيل: إنّه غير مستنكر عند كتّاب الرىّ وتلك البلاد، لأنّ معاملاتهم جارية على عقود وقوانين. فأمّا العراق وما والاها فلم نسمع بمثل ذلك فيها [254] إلّا ما كان من قديم الناس من المزايدة بين التجّار فى غلّات السلطان. ذكر خبر مستحسن فى ذلك قيل: إنّ أحد الوزراء- وأظنّه على بن عيسى والله أعلم- جمع التجّار إلى مجلس نظره فى بعض السنين ليبيع الغلّات عليهم فتقاعدوا بالأسعار على اتّفاق بينهم فبرز أحدهم فزاد زيادة توقّف عنها الباقون ظنّا منهم أنّه لن يقنع بذمّة رجل واحد دون الجماعة. لأنّه مال عظيم فأمضى الوزير البيع له. فلمّا خافوا فوت الأمر زادوه عشرة آلاف دينار فقال الوزير: - «قد نفذ السهم وسبق القول والغلّات للرجل والثمن لنا وله الإختيار فى قبول الزيادة منكم أو ردّها عليكم فهي له خالصة دوننا.» فسألوا الرجل قبول الزيادة أو المشاركة فقبل الزيادة وولّاهم البيع وبرئت ذمّته من الثمن وعاد إلى منزله بعشرة آلاف دينار. فما أحسن هذا الفعل الكريم والمذهب المستقيم وكم فى أثناء الوفاء بالعقود والثبات على الشروط والصدق فى الوعود، من مصلحة خالصة وسياسة شاملة! وإن لاح فى أولاها بعض الغرم ففي عواقبها كل النعم وإذا لم يوثق بأقوال الصدور فعلام [255] تبنى قواعد الأمور؟ والسياسة بنيان والصدق قاعدة، والبنيان يشدّ بعضه ببعضه. فإذا اضطربت القاعدة آل البنيان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 إلى النقض. ونعود إلى سياقة التاريخ. وفى هذه السنة أفرج عن أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف وعاد إلى بغداد ناجيا من الهلاك بعد أن كان أشرف عليه. ذكر أناءة اعتمدها العلاء بن الحسن فى بابه أدّت إلى خلاصه كان قد حصل فى القلعة معتقلا على ما تقدّم ذكره والعلاء بن الحسن يراعيه مراعاة مستورة. فورد عليه فى آخر أيام شرف الدولة [من] يأمره بقتله فانزعج لهذه الحال، لما كان بينهما من حرمة الاتصال وثبت فى إمضاء ما ورد. وتجدد من وفاة شرف الدولة ما تجدّد، فأنفذ فى تلك الفترة من أخرجه من الحبس وأشار عليه بقصد العراق فسار إلى البصرة واستأذن فى الإصعاد فأذن له. ذكر القبض على ابن عمر العلوي وعلى كاتبه وفيها قبض على أبى الحسن محمد بن عمر العلوي وعلى كاتبه أبى الحسن على بن الحسن. ذكر ما جرى عليه الأمر فى ذلك [256] كانت حال أبى الحسن محمد بن عمر قد تضاعفت فى أيام شرف الدولة، وقد تضاعف ارتفاع أملاكه حتى إنّ أبا الحسن على بن طاهر لمّا خرج إلى نواحي سقى الفرات لتأمل أحوالها فى أيام شرف الدولة، عمل فى عرض ما راعاه عملا بارتفاع ضياعه اشتمل على عشرين ألف ألف درهم. وعرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 الشريف أبو الحسن ذلك فضاق صدره وساء ظنّه. ذكر رأى سديد رآه ابن عمر فى تلك الحال استمال به قلب شرف الدولة استدعى على بن الحسين الفرّاش الملقّب بالخطير. فلمّا أحضر عنده قال له: - «احمل عنّى رسالة إلى الملك وقل له: يا مولانا ما لأحد علىّ نعمة كنعمتك ولا منّة كمنتك. أطلقتنى من حبسي ومننت علىّ بنفسي ورددت أموالى وضياعي إلىّ وزدت فى الإحسان الىّ. وبلغني أنّ ابن طاهر عمل بضياعى عملا بعشرين ألف [ألف] درهم وهذه الضياع هي لك ومنك. وقد أحببت أن أجعل نصفها للأمير أبى على هدى ونحلة طيّبة عن طيب نفس وانشراح صدر.» فأعاد [1] على بن الحسين الفرّاش الرسالة على شرف الدولة. ذكر جواب لشرف الدولة عن [257] رسالة أبى عمر تدلّ على شرف نفس وعلوّ همّة قال شرف الدولة فى الجواب: - «قل له: قد سمعت رسالتك وكلّ جميل اعتددت به فاعتقادى يوجب لك أوفى منه. والله لو أنّ ارتفاعك أضعاف ما ذكرته لكان قليلا لك عندي. وقد وفّر الله عليك مالك وأملاكك وأغنى أبا على عن مداخلتك فى ضياعك، فكن فى السكون والطمأنينة على جملتك. فانظر إلى هذه الهمّة ما أشرفها   [1] . لعلّه: فعرض (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 وأعلاها، وأنصت إلى هذه الأحدوثة ما أطيبها وأحلاها. وتلك مواهب من الله يخصّ بها من يشاء من عباده والمرء يصيب بحسن التوفيق لا بحوله واجتهاده.» فلمّا توفّى شرف الدولة وانتقل الملك إلى بهاء الدولة استولى أبو الحسن المعلّم على الأمور وامتدّت عينه إلى حاله، وأشار على بهاء الدولة بأخذ نعمته وقبض أملاكه، فقبض عليه وعلى وكلائه وكتّابه وبقي فى الاعتقال الذي يرد ذكره فيما بعد. وفى هذه السنة خرج أمر بهاء الدولة بإسقاط ما يؤخذ من المراعى من سائر السواد. وفيها عاد أبو نصر خواشاذه من الموصل بعد إصعاد ابني حمدان إليها. ذكر خروج ابني حمدان من [258] بغداد وذكر ما جرى عليه أمرهما فى حرب أبى نصر خواشاذه لمّا توفّى شرف الدولة شرع أبو طاهر ابراهيم وأبو عبد الله الحسين ابنا حمدان فى الخروج إلى الموصل واستأذنا فى ذلك فوجدا رخصة انتهزا بها الفرصة. فأصعدا بأهلهما أجمعين وعلم من بالحضرة وقوع الغلط فى إصعادهما فكوتب أبو نصر خواشاذه بدفعهما وردّهما. فلمّا وصلا إلى الحديثة راسلهما أبو نصر بالرجوع من حيث جاءا. فهما إن خالفاه ودخلا البلد قبض عليهما فأجاباه جوابا جميلا ببذل الطاعة وقبول ما يؤمران به. وعاد الرسول وسار [ا] على أثره حتى نزلا بالدير الأعلى. وثار أهل الموصل على الديلم والأتراك فنهبوا أرحالهم وأخذوا أموالهم وخرجوا إلى ابني حمدان وأظهروا المباينة والعصيان. فأنفذ أبو نصر من كان معه من العسكر لقتالهم فقامت الحرب بينهم إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 العصر ثم انهزم أصحاب السلطان وهلك منهم عدد كثير قتلا وغرقا ولحق الباقون بأبى نصر فاعتصموا بدار الإمارة التي هو نازل فيها وتبعهم ابنا حمدان والعامة، فغلقت الأبواب دونهم واستوعب القتال بقية النهار. ثم حجز الليل بينهم وعاد ابنا حمدان إلى مخيّمهما. ذكر رأى سديد رآه ابنا حمدان [259] فأحسنا فيه الظنّ علما للعاقبة لمّا جرى ما جرى [و] علما أنّ العامة لا تقنع إلّا بقتل الديلم وأنّ السلطان لا يغمض على مثل هذه الجناية خافا عواقب الأمر وراسلا أبا نصر فى ليلتهما وقالا له: - «نحن خدم السلطان وقد جرت الأقدار بغير الاختيار ولا قدرة لنا الآن على ضبط العامة لما فى نفوسهم من الديلم وهم فى غد يحرقون الدار ويسفكون الدماء فإمّا أن تصير إلينا وإمّا أن تعلم أنّك مهلك نفسك.» فعرف أبو نصر خواشاذه أنّهما قد نصحاه وخرج إليهما ليلا فأكرماه ثم عدلا إلى تدبير أمر العامة فأحضرا شيوخهم ووجوههم وقالا لهم: - «إنّ كنتم تؤثرون مقامنا بين ظهرانيّكم فولّونا أموركم ولا تشفوا بقتل أصحاب السلطان صدوركم، فإنّه شفاء يعقب داء عضالا، ولا تجدون من السلطان فى ذلك إغضاء وإجمالا. والذي نراه أن تكفّوا أحداثكم عن القتل وانصراف هؤلاء القوم عنكم صرفا جميلا ويتلطف السلطان أقدامنا عندكم.» فأجابوه بالسمع والطاعة وبذل المكنة والاستطاعة وبكر العوام إلى الدار فلم يزل ابنا حمدان والمشيخة بهم رفقا ولطفا حتى استقر الأمر بعد هناة على أن يهبوا الدم وينهبوا الأموال وأن يصعد الجند إلى [260] السطوح ويقف على الدرج من الشيوخ من يمنع العامة من الصعود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 ودخلوا الدار وخرجوا بنهب الموجود. ثم غلقت الأبواب وصار جند السلطان محبوسين أيّاما إلى أن انحدروا بأسوأ حال فى الزواريق إلى بغداد وأفرج عن أبى نصر وأحسن إليه وعاد إلى الحضرة. وتشاغل ابنا حمدان بالنظر فى أمورهما وانثال عليهما من بنى عقيل العدد ولم يكن لهما من الجند إلّا العامة والثلاثون ألف من الحمدانية. ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة فيها كانت الوقعة بين باد وبين أبى طاهر [1] وأبى عبد الله ابني ناصر الدولة بن حمدان وبين بنى عقيل بظاهر الموصل. ذكر ما جرى عليه الحال فى هذه الوقعة من قتل باد وهزيمة أصحابه لمّا حصل أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا ناصر الدولة بظاهر الموصل استضعفهما باد وطمع فى قصدهما وأخذ البلد منهما. وعلم أن لا جند لهما سوى العامّة فكاتب أهل الموصل واستمالهم. فأجابه بعضهم وسار فى ستة آلاف رجل من أصناف الأكراد ونزل فى الجانب الشرقي. فخافه [161] ابنا حمدان وعلما أن لا طاقة لهما به فلجأ إلى بنى عقيل وراسلا أبا الدواد محمد بن المسيب وسألاه النصرة وبذلا له النزول على حكمه فالتمس منهما الجزيرة ونصيبين وبلد وعدّة مواضع فأجاباه إلى ملتمسه. فلمّا استقرت بينهم هذه القاعدة سار إليه أبو عبد الله ابن حمدان ووافى به   [1] . وفى الأصل: أبى نصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 فى ألفى فارس إلى بلد وهي فى أعلى الموصل فى الجانب الغربي [1] وعبرا دجلة وحصلا مع باد على أرض واحدة وباد عنهما غافل وبحرب أبى طاهر وأهل الموصل متشاغل. فجاءته طليعة من طلائعه تخبر بعبورهما فخاف أن يعبر إليه من بازائه ويكبسه أبو عبد الله وبنو عقيل من ورائه. فتقدّم إلى أصحابه بالانتقال واللوذ بأكناف الجبال، واضطربوا واخلطوا ما بين سابق مستعجل ولاحق مرتحل وثابت فى المعركة مستقبل. ذكر اتفاق عجيب آل إلى هلاك باد بعد انقضاء مدّته بينما الحال على ما ذكر من اختلاط أصحاب باد إذ قتل عبد الله حاجبه المعروف بعروس الخيل، ففجع به وانزعج لفقده وأراد الانتقال من فرس [262] إلى فرس، فحوّل رجله من ركاب إلى ركاب ووثب فسقط إلى الأرض بثقل بدنه، فاندقّت ترقوته والحرب قائمة بين الفريقين حتى عرف أبو [2] على الحسن بن مروان ابن أخته خبره. فصاروا إليه فقالوا له: - «احمل نفسك كي تلحق الخيل.» فقال لهم: - «لا حراك بى فخذوا لنفوسكم.» فانصرفوا فى خمسمائة فارس طالبين الجبل عرضا حتى خلصوا إليه من السهل. وجدّل بنو عقيل منهم فرسانا وسلم بنو مروان وأكثر من معهم وساروا فى لحف الجبل إلى ديار بكر. وحصل باد فى جملة القتلى وبه رمق فعرفه أحد بنى عقيل، فأخذ رأسه   [1] . بلد: اسم لمواضع كثيرة. انظر مراصد الإطلاع. [2] . وفى الأصل: أبا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 فحمله إلى ابني حمدان وأخذ عليه منهما جائزة سنيّة ودل على جثّته فحمل إلى الموصل وقطعت يده ورجله وحملت إلى بغداد وصلب شلوه على باب دار الإمارة بالموصل. فثار العامّة وقالوا: - «هذا رجل غاز فلا تحلّ المثلة به.» فحطّ وكفّن وصلّى عليه ودفن. وظهر من محبة العامّة له بعد هلاكه ما كان طريفا. بل لا يستطرف من الغوغاء تناقض الأهواء ولا يستنكر للرعاع اختلاف الطباع، وهم أجرأ الخلق إذا طمعوا وأخبثهم إذا قمعوا. ومضى أبو على ابن مروان من فوره إلى قلعة كيفا، وهي قلعة على دجلة حصينة جدّا وبها زوجة باد الديلمية. [263] ذكر حيلة لابن مروان ملك بها القلعة لمّا وصل إلى باب القلعة قال لزوجة باد: - «قد أنفذنى خالي إليك فى مهمّات.» فظنّته حقا. فلمّا صعد وحصل عندها أعلمها بهلاكه، ثم تزوّج بها ورتّب أصحابه فيها ونزل فقصد حصنا حصنا حتى رتّب أمر جميع الحصون، وأقام ثقاته فيها وصار إلى ميافارقين. [1] ونهض أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان إلى ديار بكر طمعا فى فتح القلاع وحملا معهما رأس باد، فوجدا الأمر ممتنعا وقد أحكم ابن مروان بناه وحمى حماه. فعدلا إلى قتاله ووقعت بينهما وقعة كان الظفر فيها لابن مروان، وحصل أبو عبد الله ابن حمدان أسيرا فى يده.   [1] . ميّافارقين: أشهر مدينة بديار بكر. قيل: ما بنى منها بالحجارة فهو بناء أنو شروان، وما بنى منها بالآجرّ فهو بناء أبرويز (مراصد الإطلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 ذكر جميل لابن مروان إلى أبى عبد الله عند أسره لم يشكر عليه فساءت عاقبة أمره لمّا أسر ابن مروان أبا عبد الله أحسن إليه وأكرمه وأفرج عنه. فصار إلى أخيه أبى طاهر وقد نزل على آمد. فأشار عليه بمصالحة ابن مروان [264] وموادعته والانكفاء عن ديار بكر فأبى أبو طاهر إلّا معاودة حربه مع جمع كثير من بنى عقيل ونمير، واضطرّ أبو عبد الله إلى مساعدته كما ينصر الأخ أخاه ظالما ومظلوما. وسارا إلى ابن مروان فواقعاه وكان النصر له قهرهما وأسر أبو عبد الله أسرا ثانيا، فأساء إليه وضيّق عليه واعتقله زمانا طويلا إلى أن كاتبه صاحب مصر فى بابه فأطلقه بشفاعته وخطابه ومضى إلى مصر وتقلّد منها ولاية حلب [1] وأقام بتلك الديار حتى توفّى وله بها عقب. وأمّا أبو طاهر فإنّه انهزم ودخل نصيبين وقصده أبو الدؤاد محمد بن المسيّب، فأسره وعليّا ابنه والرغفير أمير بنى نمير فقتلهم صبرا. وملك محمد بن المسيّب الموصل وأعمالها وكاتب السلطان وسأل إنفاذ من يقيم عنده من الحضرة. فأخرج المظفّر أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وذلك عند غيبة بهاء الدولة عن بغداد ومقام أبى نصر خواشاذه بها فى النيابة عنه. فلم تدخل يد المظفّر إلّا فى أبواب المال وفيما كان له ولأبى نصر خواشاذه من الأموال والإقطاع فى النواحي، فاستولى بنو عقيل على سوى ذلك.   [1] . وفى تاريخ ابن القلانسي ص 51 أنّه فى سنة 387 ولى صور من قبل الحاكم صاحب مصر (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 القبض على صاحب المعونة ببغداد وقتله وفى هذه السنة قبض على أبى الفرج محمد بن أحمد بن الزطّى صاحب المعونة ببغداد. [265] ذكر ما جرى عليه أمره فى القبض عليه إلى أن قتل كان هذا الرجل قد تجاوز حد الناظرين فى المعونة وأسرف فى الإساءة إلى الناس حتى وترهم، وبالغ فى أيام صمصام الدولة بعد فتنة أسفار فى منع أسباب أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف وتطلّب حرمه واستيصال أمواله ونعمه، وأغرق فى الفعل القبيح معهم ومع غيرهم. وكثرت الطوائل لديه واجتمعت الكلمة عليه وأطمع بهاء الدولة وأبو الحسن الكوكبي المعلّم فى ماله وكثر عندهما مبلغ حاله فقبض عليه واعتقل فى الخزانة وكرّر الضرب عليه أيّاما. ووقع الشروع فى تقرير أمره فاجتمع أبو القاسم عبد العزيز وأبو محمد ابن مكرم على نصب الحبائل لهلاكه، ووضعا أبا القاسم الشيرازي على أن يضمّنه بمال كثير. ذكر مكيدة تمّت لعبد العزيز بن يوسف فى أمر الزطّى حتى هلك [266] قال أبو نصر الحسين بن الحسن المعروف بالأستاذ الفاضل: إنّ أبا القاسم عبد العزيز هو الذي سعى واجتهد فى أمر ابن الزطي وذكره عند المعلّم بكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 ما خوّفه منه وقال: - «نحن بصدد حرب والمسير للقاء عدو، والحوادث لا تؤمن ومتى استبقيت هذا الرجل لم نأمنه جميعا على من نخلّفه وراءنا من حرمنا وأولادنا وفى الراحة منه قربة إلى الله تعالى وأمن فى العاقبة.» قال المعلّم: - «إنّ الملك قد أطمع فى مال كثير من جهته.» فقال عبد العزيز: - «لعمري إنّه ذو مال ولكنّه لا يذعن به طوعا ولا يعطيه عفوا. وهذا أبو القاسم الشيرازي يبذل فيه ألف ألف وخمسمائة ألف درهم ويقول: إنّ المال لا يصحّ وهو حىّ تخافه أصحاب الودائع.» وحضر الشيرازي وبذل مثل ذلك بلسانه. قال الأستاذ الفاضل: فقلت له: - «هل أنت على ثقة مما بذلته؟» فقال لى سرّا: - «علىّ الاجتهاد، فإن بلغت المراد وإلّا حملت إلى زوجة هذا- وأشار إلى المعلّم- عشرة آلاف درهم وقد خلّصتنى من يده.» وضحك وضحكت. ولم يزل عبد العزيز بالمعلم حتى تقرّر الأمر على قتله. واستؤذن بهاء الدولة وتحقق عنده المال المبذول عنه. فأذن فى ذلك وعبر بالرجل إلى الجانب الغربي وحمل رأسه إلى المعلّم، فأنفذه إلى محمد بن مكرم فوضعه فى غد فى دهليزه ليشاهده الناس. وهذه حكاية عجيبة [267] وليس العجب من قتل ابن الزطي. فإنّه كان من الأشرار وما آل إليه الأشرار من البوار، وإنّما العجب من استيلاء المعلّم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 على بهاء الدولة واستيلاء المرأة على المعلّم حتى يلعبا بالرجال ويتحكّما بالدماء والأموال. وإنّ أمثال هذه الأحوال لتكسو الدول من العار برودا وتنظم لها من المساوى عقودا. فإذا أحبّ الله صلاح دولة طهّرها من مثل هذه الأدناس وقيّض لتدبيرها أخيار الناس، فتكون ما بقيت منصورة مؤيّدة، ثم تبقى محاسنها فى الصحف محفوظة مؤبّدة. وعوّل بعد قتل ابن الزطّى على أبى محمد الحسن بن مكرم الحاجب وخلع عليه، فأبان فيها أثرا جميلا وأخذ العيّارين والدّعّار أخذا شديدا بعد أن كان قد استشرى أهل الفساد. فقامت الهيبة واستقامت الأمور على السداد، وأمن البلد وهرب كل ذى ريبة. ثم استعفى منها وخرج فى الصحبة إلى واسط. ذكر السبب فى ذلك كان رأى أبى الحسن المعلّم فاسدا فى الوزير أبى منصور، وإنّما أقرّه على الوزارة تأنيسا لأبى القاسم العلاء بن الحسن وتقريرا لحيلة تتمّ عليه. فلمّا فعل بفارس ما فعله ووقع اليأس من خداعه بعد كشف قناعه، قدّم على [1] القبض [268] على الوزير أبى منصور ما كان أخّر، وعوّل على أبى نصر [2] سابور بن أردشير فى النظر وخلعت عليه خلع الوزارة ونقل الوزير أبو منصور إلى الخزانة ونزل أبو نصر سابور داره. وعلى ذا مضى الناس! منصور ومخذول ومولّى ومعزول ومختار ومردود ومشتهى ومملول، وأعمال السلطان عوارى لا بدّ من استرجاعها، وملابس لا بد من انتزاعها. والسعيد من حسنت من تلك العواري حاله، وكرمت فى   [1] . قال فى مد: «لعله: من.» ولا داعي لذلك. [2] . فى الأصل: منصور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 خلال تلك الملابس خلاله. فإذا ارتجعت منه بقي له من المجد حظّ موفور، وإذا انتزعت منه صفا عليه من الحمد برد محبّر، فختمت بالصالحات أعماله وذكرت بعده بالخيرات أفعاله. مسير بهاء الدولة إلى شيراز وفيها سار بهاء الدولة متوجّها إلى شيراز بعد استتباب أبى نصر خواشاذه فى خلافته ببغداد وخلع عليه وطرح له دستا كاملا فى دار المملكة الأولى وثلاث مخادّ فى الدار الداخلة وما رئي [1] أحد من الوزراء والأكابر جلس فى هذه الدار على مثل ذلك، وكتب له عهد ذكر فيه ب «شيخنا» ، وهو أوّل من خوطب بهذا الاسم من الحواشي. وعوّل على أبى عبد الله ابن طاهر فى النيابة عن الوزير أبى نصر سابور ببغداد فلم يستقم ما بينه وبين أبى نصر [269] خواشاذه واستمرّ الفساد بينهما إلى أن عاد بهاء الدولة، فقبض عليهما على ما يأتى ذكره فى موضعه. ذكر ما جرى عليه أمر بهاء الدولة فى هذه السفرة انحدر ومعه أبو الحسن المعلّم والوزير أبو نصر سابور، والأمر لأبى الحسن فى الكبير والصغير وهو الغالب على الرأى فى التدبير. وأقام بواسط أيّاما وسار ونزل بمعسكر أبى جعفر ابن الحجاج ودخل البصرة فشاهدها وعاد إلى مخيّمه. وورد عليه خبر وفاة أبى طاهر أخيه، فجلس لعزائه. ثم توجّه إلى الأهواز وسيّر أبا العلاء عبيد الله بن الفضل على مقدّمته ومعه جمهور عسكره   [1] . فى الأصل: رؤي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 فصار إلى أرجان ودخلها، وفتح القلعة بالجند وملكها، وكان فيها من أصناف الأموال شيء كثير. فلمّا وصل الخبر إلى بهاء الدولة سار إلى أرجان ونزلها وأمر بحطّ جميع ما كان فى القلعة من المال وغيره وتسليمه إلى الخزّان وكان من العين ألف [1] ألف دينار ومن الورق ثمانية آلاف ألف ألف درهم [2] ومن الجوهر والثياب والآلات والأسلحة ما يذّخر الملوك مثله. [270] ذكر ما جرى فى أمر هذا المال حتى تفرّق أكثره لمّا حصل المال فى الخزائن أحبّ بهاء الدولة تنضيده بأجناسه فى مجلس الشرب. فنضّد جميعه على أحسن تنضيد ووكّل الحفظة والخزان به فى موضعه أيّاما. فكان منظرا أنيقا إلّا أنّه شاع من ذلك ما صار إلى التفرقة طريقا. فعند ذلك شغب الأتراك والديلم شغبا متتابعا. فأطلقت تلك الأموال حتى لم يبق منها بعد مديدة غير أربعمائة ألف دينار وأربعمائة ألف [3] ألف درهم حملت إلى الأهواز. وتوجّه أبو العلاء ابن الفضل من أرجان إلى النوبندجان، وهزم من كان بها من عساكر صمصام الدولة وأثبت أصحابه فى نواحي فارس. وبرز أبو منصور فولاذ بن ماناذر من شيراز، وسار على مقدمة صمصام الدولة وواقع أبا العلاء بخواباذان [4] فهزمه.   [1] . لعله زائد. [2] . كذا: ثمانية آلاف ألف ألف درهم. [3] . لعله زائد (مد) . [4] . كذا فى الأصل: خواباذان. وما فى المراصد: خوبذان: وهو موضع بين أرّجان والنوبندجان من أرض فارس وهناك قنطرة عجيبة الصفة عظيمة القدر (مراصد الإطلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 ذكر هذه الوقعة والمكيدة التي كانت سببا لهزيمة عسكر بهاء الدولة لمّا حصل أبو العلاء والأتراك بإزاء فولاذ والديلم فى وادي خواباذان وقنطرة [271] حجاز بين الفريقين تطرّق قوم من الغلمان إلى جمال الديلم فساقوها وعادوا بها إلى معسكرهم ورآهم بقية الغلمان الأتراك فطمعوا فى مثل ذلك، وركب من الغد منهم سبعون غلاما من الوجوه وعبروا القنطرة. وكان الديلم قد أرسلوا جمالا مهملة لا حماة معها على سبيل المكر والخديعة فاستاقهم الغلمان وكرّوا راجعين. ووقعت الصيحة فركب فى أثرهم فرسان من الديلم والأكراد كانوا معدّين ووصل الغلمان إلى القنطرة فوجدوا من دونها خمسمائة رجل من الديلم كان فولاذ قد رتّبهم وراء جبل بالقرب. فلمّا عبر الغلمان بأموالهم رأوهم على القنطرة بالرصد فلم يكن للغلمان سبيل إلى العبور ولحقهم الفرسان فأوقعوا بهم وقتلوهم عن بكرة أبيهم، وأخذوا رؤوس أكابرهم فأنفذوها إلى شيراز. وكان ذلك وهنا عظيما وثلما كبيرا فى عسكر بهاء الدولة. وراسل فولاذ أبا العلاء فأطمعه وخدعه ثم سار إليه وكبسه، فانهزم من بين يديه وعاد إلى أرجان مفلولا. ولمّا وصل الخبر بذلك إلى صمصام الدولة سار من شيراز. وغلت الأسعار بأرّجان ونواحيها وضاقت المير والعلوفة. ثم وقع الشروع فى الصلح وتردّدت فيه كتب ورسل فتمّ على أن يكون لصمصام [272] الدولة فارس وأرّجان، ولبهاء الدولة خوزستان والعراق، وأن يكون لكل واحد منهما إقطاع فى بلاد صاحبه. وعقدت العقود وأحكمت العهود وحلف كل واحد منهما للآخر على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 التخالص والتصافي بيمين بالغة، وشرطت وحرّرت على النسختين وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز. وورد أبو عبد الله الحسين بن على بن عبدان نائبا عن صمصام الدولة بالحضرة وناظرا فيما أفرد له من الإقطاع بالعراق، وعوّل على أبى سعد بندار ابن الفيروزان فى النيابة عن بهاء الدولة بفارس. وفاة صاحب مصر الملقب بالعزيز وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة أبى الفرج يعقوب بن يوسف وزير صاحب مصر الملقّب بالعزيز [1] . ذكر حاله وما جرى عليه أمر الوزارة بمصر من بعده كان أبو الفرج كبير الهمّة عظيم الهيبة فاستولى على الأمر ونصح صاحبه فيه فقرب من قلبه وتمكّن من قربه، ففوّضت الأمور إليه واستقامت على يديه. فلمّا اعتلّ علّة الوفاة ركب إليه صاحب مصر عائدا ووجده على شرف اليأس فحزن له وقال: - «يا يعقوب، وددت أن تباع فأبتاعك بملكي أو تفدى فافتديتك. فهل من حاجة توصى بها؟» فبكى [273] يعقوب وقبّل يده ووضعها على عينه وقال: - «أمّا فيما يخصّنى فلا، فإنّك أرعى لحقّى من أن أسترعيك، وأرأف   [1] . والوزير هو أبن كلس. وردت هذه القصة فى تاريخ أبى يعلى ابن القلانسي ص 32 وهي مأخوذة من تاريخ هلال الصابي. وفى إرشاد الأريب 2: 411 وردت قصة ابن كلس هذا مع ولد للوزير أبى الفضل ابن حنزابة (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 بمخلّفى من أن أوصيك، ولكنّى أقول لك فيما يتعلق بدولتك: سالم الروم ما سالموك واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكّة، ولا تبق على المفرّج بن دغفل ابن الجراح متى أمكنت فيه الفرصة.» ولم يشغله ما كان فيه من فراق دنياه عن نصح صاحبه ومحبّته وهواه، وكذلك حال كل ناصح صدوق. ثم توفّى فأمر صاحب مصر بأن يدفن فى قصره فى قبّة كان بناها لنفسه وحضر جنازته فصلّى عليه وألحده بيده فى قبره، وانصرف من مدفنه حزينا لفقده وأغلق الدواوين أيّاما من بعده. واستخدم أبا عبد الله الموصلي مدّة ثم صرفه وقلّد عيسى بن نسطورس وكان نصرانيا. فضبط الأمور وجمع الأموال ومال إلى النصارى وولّاهم الأعمال وعدل عن الكتّاب والمتصرّفين من المسلمين، واستناب بالشام يهوديا يعرف بمنشا بن ابراهيم بن الفرار، فسلك منشا مع اليهود سبيل عيسى مع النصارى، واستولى أهل هاتين الملّتين على جميع الأعمال. ذكر حيلة لطيفة عادت بكشف هذه الغمّة [274] كتب رجل من المسلمين قصّة وسلّمها إلى امرأة وبذل لها بذلا على اعتراض صاحب مصر بالظلامة وتسليمها إلى يده وكان مضمونها: «يا مولانا، بالذي أعزّ النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بمنشا بن الفرار وأذلّ المسلمين بك إلّا نظرت فى أمرى.» وكانت لصاحب مصر بغلة معروفة إذا ركبها مرّت فى سيرها كالريح ولم تلحق. فوقفت له المرأة فى مضيق، فلمّا قاربها رمت بالقصة إليه ودخلت فى الناس. فلمّا وقف عليها أمر بطلبها فلم توجد وعاد إلى قصره متقسم الفكر فى أمره واستدعى قاضيه أبا عبد الله محمد بن النعمان وكان من خاصّته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 وأهل أنسه فشاوره فى ذلك فقال ابن النعمان: - «أنت أعرف بوجه الرأى.» فقال: «لقد صدقت المرأة فى القصّة ونبّهت من الغفلة.» وتقدّم فى الحال بالقبض على عيسى بن نسطورس وسائر الكتّاب من النصارى وكتب إلى [1] الشام بالقبض على منشا بن الفرار وجماعة المتصرفين من اليهود، وأمر بردّ الدواوين والأعمال إلى الكتّاب المسلمين والتعويل فى الإشراف عليهم فى البلاد [2] . ذكر تدبير توصّل به عيسى بن نسطورس إلى الخلاص والعود إلى النظر [275] كانت بنت المتقلّب بالعزيز المعروفة بستّ الملك كريمة عليه حبيبة إليه لا يردّ لها قولا. فاستشفع عيسى بها فى الصفح عنه وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار. وكتب إليه يذكره بخدمته وحرمته فرضي عنه وأعاده إلى ما كان ناظرا فيه وشرط عليه استخدام المسلمين فى دواوينه وأعماله. فتنة العيّارين وفى هذه السنة كثرت فتن العيّارين بعد انحدار بهاء الدولة ورفعت الحشمة وجرى من الحرب بين أهل الدروب والمحالّ نوبة بعد نوبة ما أعيا فيه الخطب وتكرّر الحريق والنهب تارة على أيدى العيّارين وتارة على أيدى الولاة. وولى المعونة عدّة فما أغنوا شيئا واستمرّ الفساد إلى حين عود بهاء الدولة.   [1] . وفى الأصل: من. [2] . وفى تاريخ ابن القلانسي ص 33: على القضاة فى البلاد (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 ودخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ذكر القبض على سابور الوزير فيها قبض على أبى [نصر] سابور الوزير بالأهواز ونظر أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف فى الأمور. ذكر السبب فى ذلك لمّا عاد بهاء الدولة بعد الصلح إلى الأهواز شغب الديلم والأتراك وطالبوا [276] بإطلاق المال وذكروا أبا الحسن المعلّم وأبا نصر سابور وأبا الفضل محمد بن أحمد عارض الديلم وعلى بن أحمد عارض الأتراك وجاهروا بالشكوى منهم وظاهروا بالكراهية لهم. وتردّدت بينهم وبين بهاء الدولة مراسلات انتهت إلى أن استوهب منهم أبا الحسن المعلم وأبا القاسم على بن أحمد وأرضاهم بالقبض على أبى نصر سابور وأبى الفضل محمد بن أحمد، وقلّد أبا القاسم عبد العزيز الوزارة وخلع عليه. ومن حسن سياسة الملوك أن يجعلوا خاصّتهم كلّ مهذّب الأفعال محمود الخصال موصوفا بالخير والعقل معروفا بالصلاح والعدل فإنّ الملك لا تخالطه العامّة ولا أكثر الجند، وإنّما يرون خواصّه. فإن كانت طرائقهم سديدة وأفعالهم رشيدة عظمت هيبة الملك فى نفس من يبعد عنه لاستقامة طريقة من يقرب منه. فقد ورد عن الإسكندر أنّه قال: - «انّا إذا فتحنا مدينة عرفنا خيارها من شرارها قبل تجربتهم.» قيل له: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 - «كيف؟» قال: «لانّا نرى خيارهم يتصافون إلى خيارنا وشرارهم إلى شرارنا.» وروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنّه قال: - «ما شيء أدلّ على شيء ولا الدخان على الدخان [1] من الصاحب على الصاحب.» قال عدىّ بن زيد: [277] عن المرء لا تسأل وأبصر [2] قرينه ... فإنّ القرين بالمقارن يقتدى وإذا كان خواصّ الملك ممن يقدح فيهم وتذكر مساويهم، قلّت الهيبة فى النفوس فأظهر الجند استقلالا لأمره، ثم صار الإضمار نجوى بينهم، ثم زادت الحيرة فصارت النجوى إعلانا. فعند ذلك تقع المجاهرة وترتفع المراتبة ويتحكمون عليه تحكّم الآمر لا المأمور، والقاهر لا المقهور. وفى هذه السنة أنفذ خلف بن أحمد عمرا ابنه إلى كرمان ودفع تمرتاش عنها. شرح [ما] [3] عليه أمر خلف بن أحمد صاحب سجستان فى إنفاذ عمرو ابنه إلى كرمان ويتّصل هذا الحديث بما جرى بعد هذه السنة من أحوال تلك البلاد كان أبو أحمد خلف بن أحمد المعروف بابن بنت عمرو [4] بن الليث   [1] . لعله: النار. [2] . ويروى: وسل عن» بدل «وأبصر» . [3] . سقط: «ما» فى الأصل. [4] . وفى الأصل: عمر. والصواب فيما بعد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 الصفّار قد ورد العراق فى أيام معزّ الدولة، وخلع عليه بالحضرة الخلع السلطانية لولاية سجستان. وكان ردىء الدخيلة فى الباطن جيّد الناموس فى الظاهر، شديد الطمع فى الأموال، متوصلا إلى أخذها باللطف والاحتيال، ويقول: [278]- «ليس يجب أن يكون للرجال من الرعيّة أكثر من عشرة آلاف درهم. لأنّها ذخيرة لذي الحاجة وبضاعة لذي التجارة» . ذكر الحيلة التي استمرّ عليها خلف بن أحمد فى أخذ أموال رعيته كان يتبع أمور أهل البلاد فى مكاسبهم ومتاجرهم وبضائعهم وذخائرهم. فإذا عرف استظهار قوم منهم عمل ثبتا بأسمائهم. وخرج على وجه التنزّه والتصيّد ونصب رجلا من أصحابه فى النيابة عنه ووافقه على أخذهم ومطالبتهم بالفضل الذي يقدّر أنّه فى أيديهم. فإذا علم أنّ المال معظمه قد صحّ من جهتهم، رجع فيشكون إليه ما عوملوا به. فيظهر لهم التوجّع ويتقدّم بالإفراج عن من بقي منهم فى الاعتقال ومسامحتهم بما تأخّر عليهم من المال، ويحضر صاحبه الذي استنابه فيجلله بالإنكار، وربّما ضربه بمشهدهم ليزول ما خامر قلوبهم من الاستشعار. وكان يمشى إلى المسجد الجامع فى كل جمعة بالطيلسان. وربّما خطب وصلّى بالناس وأملى الحديث وله إسناد عال ورواية عن شيوخ العراقيّين ومحدّثى الحرمين. وكان عضد الدولة عند حصوله بكرمان [1] قرّر معه هدنة على أن لا   [1] . وذلك فى سنة 357. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 يتعرّض [279] كلّ واحد منهما ببلاد صاحبه، وكتبا بينهما كتابا بذلك شاع ذكره عند أمراء سامان [1] وكبراء أهل خراسان وجرى الأمر على المسالمة مدّة أيام عضد الدولة. فلمّا توفّى وملك شرف الدولة وانصرف أبو على الحسين بن محمد الحاجب عن كرمان وتقلّدها تمرتاش وسار شرف الدولة إلى العراق، تحدّثت نفس خلف بالغدر، ثم أحجم عن الأمر. فلمّا توفّى شرف الدولة وملك صمصام الدولة فارس ووقع الخلف بينه وبين بهاء الدولة قوى طمعه وجهّز جيشا مع عمرو ابنه، فلم يشعر تمرتاش بهم حتى نزلوا بعيص أردشير ليلا، وكان هو وعسكره فى موضع يعرف بتركياباد من أبنية أبى عبد الله بن إلياس [2] ومعهم أموالهم وعلاهم. فكان قصاراهم أن تركوا الدور وما فيها من الأموال ودخلوا بردشير [3] بما أمكنهم حمله وحصلوا فى الحصار وملك عمرو بن خلف جميع أعمال كرمان سوى بردشير وجبى الأموال وصار تمرتاش [4] إلى فارس. وكانت بينه وبين العلاء بن الحسن عداوة من أيّام شرف الدولة فوجد العلاء فى هذا الوقت الفرصة التي كان يتوقّعها فى أمره. ذكر الحيلة التي رتّبها العلاء بن الحسن فى القبض على تمرتاش وقتله من بعد [280] قال العلاء ابن الحسن لصمصام الدولة:   [1] . فى الأصل: ساسان. [2] . أظنّه اليسع ابن محمد بن الياس (مد) . [3] . وفى المراصد بالسين المهملة: أعظم مدينة بكرمان وبينها وبين السيرجان مرحلتان. [4] . وفى الأصل: وصادر الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 - «إنّ تمرتاش فى جنبه بهاء الدولة ولا يؤمن أن يميل إليه ويقيم الخطبة له.» وقرّر معه تجهيز عسكر كثير من الديلم لمعونته وموافقة وجوههم على القبض عليه عند الحصول ببردشير، فأخرج أبا جعفر نقيب نقباء الديلم وتقدّم إليه بذلك. وسار أبو جعفر إلى كرمان وعرف عمرو بن خلف حصوله بالشيرجان [1] فعاد إلى بمّ ونرماشير. وتمّم أبو جعفر إلى بردشير. فاستقبله تمرتاش مبعدا فى استقباله وسارا جميعا إلى الخيم التي ضربت لأبى جعفر. فلمّا وصلا إليها قال أبو جعفر لتمرتاش: - «بيني وبينكم ما يجب أن نتواقف عليه فى هذا العدوّ والصواب أن نقدّمه.» فعاد إلى مضاربه. وكان أبو جعفر قد رتّب فيها قومان من الديلم لما يريده فحين نزلا قبض عليه وقيّده فأنفذ إلى داره من احتاط على خزائنه وإصطبلاته وكان مموّلا، فوجد له ما عظم قدره. وحمل تمرتاش إلى شيراز فحبسه العلاء، ثم قتله. ولمّا فرغ أبو جعفر من أمر تمرتاش سار بالعسكر الذي صحبه وبمن كان مقيما ببردشير يطلب مواقعة عمرو بن خلف. ذكر ما جرى عليه أمر [281] أبى جعفر فى هزيمته لمّا التقى الفريقان بدارزين وهي فى سهل من الأرض يتّسع فيها اطّراد الفرسان استظهر ابن خلف عليه بكثرة من الفرسان وضاقت المير على أبى   [1] . قال فى المراصد ذيل «شيرجان» : وما أظنّها إلّا سيرجان قصبة كرمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 جعفر ومن معه. فهرب ليلا وعاد على طريق جيرفت. وبلغ الخبر صمصام الدولة ومدبّرى أمره فانزعجوا منه، ثم أجمعوا أمرهم وأخرجوا العباس بن أحمد الحاجب إلى هذا الوجه فى عدد كثير من طوائف العسكر وسار متوجّها للحرب. ذكر ما جرى عليه أمر عمرو بن خلف فى هذه الوقعة وهزيمته وما آل حاله إليه من القتل لمّا حصل العبّاس بن أحمد الحاجب بقرب الشيرجان، برز إليه عمرو بن خلف ووقعت الوقعة على باب البلد. فكانت الدائرة على عمرو وأسر ألفتكين وكان وجيها فى عسكره والمعروف بابن أمير الخيل صهر خلف وعدد كثير من السجزيّة وذلك فى محرّم سنة اثنتين وثمانين. وعاد عمرو إلى سجستان مفلولا مع نفر من أصحابه. ولمّا دخل إلى أبيه قيّده وأزرى به وعجزه [282] فى هزيمته. وحبسه أيّاما ثم قتله بين يديه، وتولّى غسله والصلاة عليه ودفنه فى القلعة. فليت شعري ما كان مراده من قتل ولده! ما [1] كان عذره فى قطع يده بيده؟ أتراه ظنّ أنّه يشفى غلّته أو يجبر وهنه بفتّ عضده؟ كلا بل خاب ظنّه وزاد وهنه وطال حزنه لقد فعل فى الدنيا نكرا وحمل للآخرة وزرا. فويل للقاسية قلوبهم ما أبعدهم من الصواب وأقربهم من العذاب! ووصل أبو على ابن أستاذ هرمز إلى فارس وقرب من خدمة صمصام الدولة فشرع فى إنفاذ أستاذ هرمز أبيه [2] إلى كرمان وقرّر الأمر معه واستعيد العباس وتوجّه أستاذ هرمز.   [1] . والمثبت فى مد: أما. [2] . وفى الأصل: ابنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 فقال أبو بكر ابن عمرو بن يعقوب كاتبه: لمّا انتهى الخبر إلى خلف بن أحمد وجم لذلك الجند، ورأى أنّه قد رمى [1] بحجره حين لا قدرة له على الذبّ عن حريمه لتمزّق رجاله واضطراب حاله، وعلم أنّه متى قصده فى عقر داره وهو على هذه الصورة انتهز فيه الفرصة. فعمد إلى إعمال الحيلة. ذكر حيلة عملها خلف بن أحمد فى تعليل أستاذ هرمز عن قصده [283] كتب كتابا غير معنون أقام فيه العذر لنفسه وجعل حجّته فى نقض الهدنة العضدية اختلاف صمصام الدولة وبهاء الدولة. إذ كان من شروط الهدنة أنّها ماضية بينهما مدة حياتهما ومنتقلة إلى أولادهما بعدهما ما لم يختلفوا وأنّ نقضه لها كان لهذا العذر، وأنّه متى استونف معه الصلح أجاب إليه. وأنفذ الكتاب على يد أحد الصوفية. قال أبو بكر: فلمّا وصل الكتاب قرأته على أستاذ هرمز وعرّفته ما فى الصلح من الصلاح. فتقدّم إلىّ بكتب جوابه على نحو ما وقع الإبتداء، ففعلت. واستمرّ خلف على هذه الطريقة فى مواصلة المكاتبة وتقرير أمر الهدنة حتى استقرّت. وكتب بها كتابا أخذ فيه خطوط الشهود وتوثّق بالأيمان والعهود. واتصلت المهاداة والملاطفة بين الجهتين وخلف فى أثناء هذه الأحوال يجمع المال ويثبت الرجال ويتجدد العهد، حتى إذا قويت شوكته نقض عهده. وأظهر كتابا من المعتضد بالله رحمة الله عليه، ببلاد كرمان إقطاعا لجدّه عمرو [ابن] الليث الصفّار وجعل ذلك عذرا عند ملوك الأطراف العارفين بما   [1] . وفى الأصل: وفى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 استقرّ من تلك المعاهدة. ذكر مكيدة لخلف أراد بها [284] إساءة سمعة أستاذ هرمز كان بسجستان قاض يعرف بأبى يوسف البزّاز مقبول القول بين الرعيّة يعظمونه غاية الإعظام ويجرونه عندهم مجرى الإمام. فاستدعاه خلف وأخرجه رسولا إلى أستاذ هرمز وضمّ إليه رجلا من الصوفية يعرف بالحلبي كالمؤانس له، وسلّم إلى المتصوّف سمّا وواقفه على أن يقتله فى طعام يحمل إليه من دار أستاذ هرمز وفى عقب حضوره على طبقه، لينسب الناس قتله إليه. ورتّب للصوفي جمّازات بين سجستان وبمّ وقال له: - «إذا قضيت الأرب فأهرب.» فتوجّه أبو يوسف غافلا عمّا يراد به، ووصل إلى أستاذ هرمز وهو ببمّ، فأكرمه وسمع منه ما أورده عليه ووعده بالجواب عنه. ودخل الصوفي بينهما فى السفارة وحصلت له بها قدم عند أستاذ هرمز فآنس به. فأشار عليه باستدعاء أبى يوسف إلى طعامه ليشاهد فضل مروءته فيتحدّث به فى بلده. فقبل منه واستدعى أبا يوسف لذلك، فاستعفاه وامتنع. فصار الصوفي إلى أبى يوسف وقال له: - «إنّ فى امتناعك عليه إيحاشا له.» ولم يزل به حتى لبّى دعوته وحضر عنده فى بعض ليالي شهر رمضان. واتّخذ الصوفي شيئا كثيرا من القطائف. فمنه ما عمله بالفانيد السجزى على عادة تلك البلاد ومنه ما عمله بالسكّر [285] الطبرزد واللوز على رسم أهل بغداد، وجعل السمّ فى البغدادي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 فلمّا انصرف أبو يوسف من دار أستاذ هرمز بعد إفطاره معه، سأله الصوفي عن حاله وما شاهده من مروءته. فما زال أبو يوسف يذكر شيئا شيئا حتى أفضى الحديث إلى ذكر القطائف. فوصف أبو يوسف جودة ما أحضر منه على الطبق. فقال الصوفي: - «ما أظنّ القاضي أكل ممّا يصلح عندنا فى العراق، وقد عملت منه شيئا ليأكله ويعلم أنّ لبغداد الزيادة على كلّ بلد.» وقام وأحضر ما أودعه السمّ. فاستدعى أبو يوسف جماعة من أصحابه ليأكلوا معه. فقال له الصوفي: - «هذا شيء نحبّ أن يتوفّر عليك، وقد عملت لاصحابنا ما يصلح لهم.» وأحضر ما كان عمله على رسم تلك البلاد، ودعا القوم إليه، وأكل أبو يوسف من المسموم [1] وأمعن فيه. وخرج الصوفي من الدار وقصد باب البلد وركب جمّازة معدّة ودخل المفازة متوجّها إلى سجستان ونام أبو يوسف. فما مضت ساعة حتى عمل السمّ فيه وطلب الصوفي، فلم يلحق ولا عرف له خبر، فأحسّ بالحيلة. قال أبو بكر الكاتب: - «فجاءني رسوله فى جنح الليل يستدعينى. فجئته وهو كما به يتقلّب على فراشه ويحتسب الله على خلف. فوصّانى بحفظ ما يخلفه ومعاونة أصحابه على حمله إلى بلده وتسليمه إلى ورثته. وبقي ساعة وقضى [نحبه] [286] وعرف أستاذ هرمز الخبر فقلق لأجله. ثم رأى كتمان الأمر وأحسن إلى أصحاب أبى يوسف وأعادهم موفورين.» ووصل الصوفىّ إلى خلف وحدّثه الحديث، فقرر معه أن يقول فى المحفل   [1] . وفى الأصل: المصوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 الذي يجتمع الناس فيه: أنّ أستاذ هرمز غدر بأبى يوسف وسمّه وقتله، وأراد أن يفعل بى مثل ذلك فخرجت على وجهى هاربا منه، وأنّه قد نقض العهد وعزم على المسير إلى هذه البلاد. ثم عقد مجلسا فيه القضاة والشهود ووجوه الخاصّة والعامّة وأحضر الصوفي حتى أورد ما توافقا عليه. فما استتمّ الصوفي كلامه حتى أجهش بالبكاء والنحيب وقال: - «وا أسفاه على القاضي الشهيد.» ونادى: «النفير لغزو كرمان.» فكتب محاضر بذلك، وأنفذها إلى أصحاب الأطراف، وشنّع على أستاذ هرمز بالغدر والنكث. وندب ولده طاهرا المعروف بشير بابك [1] مع أربعة آلاف غلام وخمسة آلاف رجل من السجزيّة إلى كرمان. فسبحان من خلق أطوارا وجعل منهم أخيارا وأشرارا! ما كان أجرأ [2] هذا الرجل على فعل المحظور وقول الزور! أتراه ما سمع قول الله تعالى: «وَمن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» 4: 93 [3] . وقوله سبحانه: وَمن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ به بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ [287] بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» 4: 112 [4] ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» 14: 34 [5] ولقد أقدم على ظلم عظيم.   [1] . وفى تاريخ هلال الصابي هو «شير باريك» (مد) . [2] . والمثبت فى مد: أجرى. [3] . س 4 النساء: 93. [4] . س 4 النساء: 112. [5] . س 14 إبراهيم: 34. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 ذكر ما جرى عليه أمر طاهر بن خلف بكرمان سار طالع مع عسكره إلى نرماسير وبها شهفيروز ابن بنت ملكا بن وندا خرشيد فى عدّة من وجوه الديلم والجيل [1] وفيهم سراهنك بن سياهجيك الجيلي قريب زيار بن شهراكويه، وكان فارسا شجاعا، فوصلوا إلى باب البلد سحرا. فما شعر الناس إلّا بنعرة الأتراك. وبادر الديلم عند ذلك إلى ميدان فى البلد، فاجتمعوا فيه وتشاوروا فيما بينهم فيما يدبّرون به أمرهم مع قصورهم عن مقاومة من نزل بساحتهم. فبينما هم فى تراجع القول إذ أحرق السجزية أحد أبواب البلد وصعدوا السور. واستقرّ رأى الديلم على الخروج من باب يفضى إلى البساتين والحيطان وسلوك طريق بينهما تضيق عن مجال الفرسان وتوجّهوا على هذه النيّة. فلمّا وصلوا إلى الباب صادفوا السجزيّة داخلين منه. فتلاقوا وكان يقدم الديلم سراهنك بن سياهجيك. فرمى مليلين [2] الدواتى أحد قوّاد خلف بزوبين سقط منه صريعا ورمى آخر فقتله وثلّث. فانهزم السجزية ناكصين على أعقابهم [288] إلى الصحراء. وخرج الديلم بأهلهم وأموالهم ولزموا حيطان البساتين وقصدوا جبلا كان قريبا منهم وصعدوا فيه حتى خلصوا ومضوا إلى جيرفت. ولم يقدم فرسان ابن خلف على اتّباعهم فى تلك الطريق ودخل طاهر بن خلف نرماسير [3] بعد انصرافهم منه.   [1] . وفى الأصل: والخيل. [2] . كذا فى الأصل. [3] . ورد هذا الإسم فى هذا الكتاب بضبطين: بالسين المهملة والشين المعجمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 وبلغ أستاذ هرمز الخبر وهو ببمّ، وكان فى القلعة التي هو بها سلاح كثير له خطر كبير. ذكر ما دبّر به أستاذ هرمز أمره عند وصول الخبر إليه جمع إليه من كان معه من الديلم وشاورهم فى الأمر فقالوا: - «لا طاقة لنا اليوم بهذا الرجل مع قوة شوكته، لا سيّما وقد انقطع عنّا العسكر الذين كانوا بنرماسير، والصواب أن نحمل من هذه الأسلحة ما نقدر على حمله ونحرق الباقي، لئلا يستظهر العدوّ به علينا ونمضي إلى جيرفت ونقرّر رأينا هناك» . فاستصوب رأيهم وعمل به وبادر إلى جيرفت وأقام بها يستكثر من الرجال ويستعدّ للقتال. وسار ابن خلف إلى بردسير [1] لأنّها قطب كرمان ومن ملكها وقلعتها تمكّنت قدمه واستقام ملكه. [289] ذكر ما جرى عليه أمر ابن خلف فى قصد بردسير وما آل أمره إليه من الهزيمة كان الحامى ببردسير فى ذلك الوقت أبو بكر محمد بن الحسن قريب أبى الوفاء طاهر بن محمد، فجاهد فى الذبّ عن البلد ثلاثة أشهر ثم ضاقت الميرة، فكتب إلى أستاذ هرمز يعلمه اشتداد الحصار به وأنّه متى لم يدركه سلّم البلد.   [1] . ورد هذا الاسم فى هذا الكتاب حينا بالسين المهملة وحينا بالشين المعجمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 فبلغ ذلك من أستاذ هرمز كلّ مبلغ وخاف أن تتمّ الحيلة فيه. فسار من جيرفت فى سنة أربع وثمانين والزمان شات، ولاقى عسفا فى طرق سلكها وأخطار ركبها. فلمّا قرب من بردسير أخذ فى لحف الجبل حتى صار بينه وبين القلعة ثلاثة فراسخ ثم رتّب مصافّه وسار. وعرف من فى القلعة وروده، فضربوا البوقات والطبول وبرزوا. وتلاقى السجزية عسكر أستاذ هرمز واقتتلوا عامّة النهار وأستاذ هرمز زحف بعسكره إلى باب البلد حتى إذا شارفه قلع السجزية مضاربهم من موضعها وتأخّروا واختلطوا محاصرين [1] لعسكر أستاذ هرمز. وقوى بعضهم ببعض وهابهم السجزية وأحجموا عن الإقدام عليهم وأقاموا يوما واحدا. [290] ثم أوقدوا النيران ليلا يوهمون بها أنّهم مقيمون، ورحلوا. وعرف أستاذ هرمز خبر انصرافهم سحرا فأنفذ أبا غالب ابنه فى جماعة من الفرسان لاقتصاص آثارهم فسار مجدّا فى طلبهم وقتل جماعة ظفر بهم منهم. ورحل أستاذ هرمز يطوى المنازل إلى نرماسير، فوصلها وقد دخل طاهر بن خلف المفازة عائدا إلى سجستان. ونعود إلى سياقة التاريخ. عود بهاء الدولة من الأهواز إلى مدينة السلام وفى هذه السنة عاد بهاء الدولة من الأهواز إلى مدينة السلام وقبض على أبى نصر خواشاذه وأبى عبد الله ابن طاهر.   [1] . يريد: واختلط عسكر المحاصرين بعسكر أستاذ هرمز (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 ذكر السبب فى ذلك كان أبو الحسن المعلّم يتوقّع فى كل ناظر خدمة وهديّة وكان أبو نصر فيه شحّ يمنعه عن ذلك، فإذا أشير عليه قال: - «إنّما يفعل هذا الفعل من يرتزق أو يرتفق.» ففسد رأى أبى الحسن فيه فسادا عرفه كلّ أحد، وبلغ أبا نصر فخافه وهمّ بالهرب عن قرب بهاء الدولة، واستدعى من العرب من يخرج معه. ثم توقّف وأشار عليه أهل أنسه بتلافى أبى الحسن بما يحمله إليه، فنازلهم إلى ألف دينار. فقالوا له: - «تكون وزنا يلقى بها بواسط.» فلم يفعل وأخذ خطّ بعض الباعة به وأنفذه إليه فلم يقع موقعه، إلّا أنّه قبله تأنيسا له. وورد مدينة [291] السلام فقبض عليه وأخذ له عند القبض عليه من عدّة مواضع ما بلغ قيمته ألفى ألف دينار وأفرج عنه بعد ذلك بمدّة. فانظر إلى هذا الشحّ المطاع كيف ألقى صاحبه فى المهالك، وأخرجه إلى ضيق المسالك. فإنّه ضيّع الكثير من حيث حفظ القليل. والجوّاد أملك لماله من الشحيح. لأنّ ذلك يبدّله: إمّا لنفع عاجل وإمّا لذخر آجل. وهذا يخزنه: إمّا لحادث وإمّا لوارث. فذاك محظوظ وهذا محروم. وذاك مشكور وهذا مذموم. وقد قيل: أنفق فى حالتي الإقبال والإدبار والإنفاق فى زمن الإقبال لا ينقص حالا والإمساك فى زمن الادبار لا يحفظ مالا. قال الله تعالى: «وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» 59: 9 [1] .   [1] . س 59 الحشر: 9، س 64 التغابن: 16. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 القبض على ابن طاهر فأمّا أبو عبد الله ابن طاهر فإنّه كان نائبا عن أبى نصر سابور، إلّا أنّه أقرّ على أمره عند القبض على سابور بالأهواز، لأنّه أعطى أبا الحسن المعلّم ما أرضاه، ثم [لم] [1] يدفع عنه كراهة منه لإيحاش أبى القاسم عبد العزيز، فقبض عليه وقرّر أمره على مال صحّحه وخلّى عنه. سكون فتنة العيّارين وفيها سكنت الفتنة وتتبع العيارون وأخذوا وقتلوا واطمأن الناس وقامت الهيبة. وكان فى جملة العيّارين المأخوذين إنسان يعرف بابن جوامرد [2] من وجوههم، وكان قد أبقى فى أيام [صمصام الدولة] [292] وحرس الأسواق. فسئل بهاء الدولة فى أمره فآمنه، [3] ومن أبقى أبقى عليه، ومن أساء أساء [4] إليه، ومن أحسن أحسن إليه. وفيها هرب أبو منصور فولاذ بن ماناذر من شيراز. ذكر السبب فى هرب فولاذ لمّا استفحل أمره بفارس وزاد على حدّ أصحاب الجيوش حصل صمصام الدولة تحت حكمه وجعل اسمه مقترنا باسمه فى المناشير وكتب فيها: «هذا كتاب من صمصام الدولة وشمس الملّة أبى كاليجار بن عضد الدولة   [1] . وفى الأصل: يدفع، بدون «لم» . [2] . أصله الفارسي: جوانمرد: ذو الفتوة: العيّار. [3] . الضبط فى مد: فأمنه. [4] . لعله: أسىء. هذا إذا اعتبرنا الكلام تعقيبا من صاحب الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 يمين أمير المؤمنين، ومن عبده وصاحب جيشه نجم الدولة أبى منصور مولى أمير المؤمنين.» كانت بينه وبين العلاء بن الحسن المودّة التي تقدّم ذكرها. ثم استحالت عداوة ثبتت على الأيام أصولها وبسقت فروعها. فعمل فولاذ على القبض عليه وخاطب صمصام الدولة على ذلك، فأجابه إلى مراده منه. ذكر الحيلة التي رتّبها فولاذ على العلاء بن الحسن وانعكاسها حتى صارت الدائرة على فولاذ [293] صار فولاذ إلى دار الإمارة وفيها أبو القاسم العلاء بن الحسن على عادته. فقدم إليه واستقبله وقضى حقّه وأخذ بيده وما شاه وحادثه. ثم وقف على باب بيت ودفع فى صدره حتى حصل بالبيت وأغلق بابه عليه ووكّل به قوما. فاشتغل فولاذ بلقاء الديلم وسلامهم وخطابهم على أمورهم. وكان البيت الذي حصل فيه له باب آخر قد سمّر فعالجه حتى فتحه وخرج منه ودخل على صمصام الدولة فى حجرة خلوته. فقال له: - «قد قبض هذا الرجل علىّ، وغرضه فى ذلك أن لا يترك بين يديك من يخدمك، وفى نفسه أن يعلو على الملك.» قال: «فما الرأى.» قال: «أن تقبض عليه إذا دخل إليك الساعة وعلىّ أن لا يجرى من العسكر قول فى معناه.» ففعل وتقدّم إلى بعض الحواشي بالقبض عليه إذا أقبل إلى حضرة صمصام الدولة والعدول به إلى بعض البيوت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 وسمع علىّ الأرزنانى [1] النديم الحديث، وكان يتجسّس على صمصام الدولة لفولاذ. فلمّا وافى فولاذ أومى علىّ [2] إليه بيده أن: - «ارجع فإنّك مأخوذ.» فرجع فولاذ نافرا وانصرف إلى داره. وخرج العلاء بن الحسن إلى وسط العسكر على أثره وأظهر لهم عصيانه ونادى للركوب إليه والقبض عليه. فعرف فولاذ ما عوّل عليه العلاء، فأخذ ما خفّ من ماله على الجمّازات وسار. وتبعه العلاء مغذّا فى طلبه [3] قانعا بما تمّ عليه [294] من هربه. ومضى فولاذ إلى الأكراد الخسروية فنزل عليهم. وعاد العلاء وأقطع الديلم إقطاعات فولاذ واستقام الأمر له. وكاتب الأكراد وطالبهم بفولاذ وسبق إليهم بالوعيد إن لم يسلموه وكانوا قد طمعوا فى مال فولاذ. وانضاف إلى الطمع فيه الخوف من العلاء، فنهبوه وأفلت بنفسه منهم وحصل بالرىّ وأقام عند فخر الدولة، إلى أن توفّى. فأمّا علىّ الارزنانى، فإنّ صمصام الدولة أمر بقتله فقتل. ذكر القبض على عبد العزيز بن يوسف وأصحابه وفيها قبض على أبى القاسم عبد العزيز بن يوسف وعلى أصحابه وأسبابه. وكانت مدة نظره ببغداد شهرين ونصفا. وقلّد أبو القاسم على بن أحمد الأبرقوهى الوزارة وخلع عليه.   [1] . وفى الأصل: الأرزبانى. [2] . والضبط فى مد: علىّ. [3] . لعله سقط: ثم انصرف (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 وفى هذا الوقت قبض على الطائع لله وقد جلس لبهاء الدولة. ذكر السبب فى القبض على الطائع لله رضوان الله عليه كان أبو الحسن المعلم- وبئس القرين هو- قد كثّر عند بهاء الدولة مال الطائع لله وذخائره وأطمعه فيها وهوّن عليه أمرا عظيما وجرّأه على خطّة شنعاء، فقبل منه وقبض عليه. ثم لم يحظ من ذلك إلّا بسوء الذكر إلى آخر الدهر. ولولا أنّ حسنات أيام القادر بالله رضوان الله عليه، أسبلت [295] على مساوئ هذا الفعل سترا، لما وجد عند الله تعالى ولا عند المخلوقين عذرا. لكن محاسن ذلك الإمام التقىّ الرضىّ أعادت وجه الدين مشرقا وعود الإسلام مورقا. فأمّا شرح ما جرت عليه الحال يوم القبض فلم نذكره إذ لا سياسة فيه فتحكى، ولا فضيلة فتروي. إلّا أبياتا للرضىّ أبى الحسن الموسوي رحمه الله. فإنّه كان فى جملة من حضر. فلمّا أحسّ بالفتنة أخذ بالحزم وبادر الخروج من الدار، وتلوّم من تلوّم من الأماثل، فامتهنوا وسلبت ثيابهم وسلم هو فقال: أعجب لمسكة نفسي بعد ما رميت ... من النوائب بالأبكار والعون ومن نجاتي يوم الدار حين هوى ... غيرى ولم أخل من حزم ينجّينى مرقت منها مروق النجم منكدرا ... وقد تلاقت مصاريع الرّدى دوني وكنت أول طلّاع ثنّيتها ... ومن ورائي شرّ غير مأمون من بعد ما كان ربّ الملك مبتسما ... إلىّ أدنيه فى النّجوى ويدنيني أمسيت أرحم من أصبحت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون ومنظر كان بالسّرّاء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضّرّاء يبكيني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 هيهات أغترّ بالسلطان ثانية ... قد ضلّ ولاج أبواب السلاطين [1] [296] وبالله تعالى نستعين من شرّ الفتن وانقلاب الزمن، وإيّاه نسأل سلامة شاملة وعاقبة حميدة بمنّه.   [1] . من قصيدة طويلة له، أولها: لواعج الشّوق تخطيهم وتصمينى ... واللّوم فى الحبّ ينهاهم ويغرينى أنظر: ديوان الشريف الرضىّ، طبعة وزارة الإرشاد بالأفست، طهران 1406 هـ. ق. ج 2، صص 444- 448. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 خلافة القادر بالله ولمّا انصرف بهاء الدولة إلى داره- وقد حمل الطائع لله قبله إليها واعتقل فيها- أظهر أمر الخليفة القادر بالله أبى العبّاس أحمد بن اسحق بن المقتدر بالله رضوان الله عليهم، ونادى بشعاره فى البلد. وكتب على الطائع كتابا بالخلع وتسليم الأمر إلى القادر بالله رضى الله عنه، وشهد الشهود فيه عليه، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام. وانحدر إلى حضرة القادر بالله من خواصّ بهاء الدولة من يهنّيه بالخلافة ويصعد فى خدمته إلى مدينة السلام. وشغب الديلم والأتراك مطالبين برسم البيعة ومنعوا من الخطبة باسم الخليفة فى يوم الجمعة، فقيل: - «اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله. [1] » فقيل: «اللهم أصلح عبدك وخليفتك» [2] ولم يسمّ. وتردّدت الرسل بين بهاء الدولة وبين العسكر، فأرضى الوجوه والأكابر ثمّ   [1] . وزاد فى مد: «الخليفة فى يوم الجمعة» اعتبرناه زائدا وخلطا. [2] . وزاد فى مد: القادر بالله. حذفناه بدليل قوله: «ولم يسمّ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 قرّر لكلّ واحد ثمانمائة درهم وأخذت البيعة على الجماعة واتفقت الكلمة على الرضا [1] والطاعة. وأقيمت الخطبة باسم أمير المؤمنين القادر بالله أبى العبّاس أحمد رضوان الله عليه، فى يوم الجمعة الثالث من شهر رمضان. وقيل: إنّ القادر بالله [297] رضوان الله عليه، رأى رؤيا قبل ورود الخبر إليه بمصير الأمر إليه. ذكر الرؤيا التي رآها القادر بالله رضوان الله عليه قال هبة [الله] بن عيسى كاتب مهذّب الدولة: كنت أغشى مجلس القادر بالله فى مقامه بالبطيحة فى كل أسبوع يومين. فإذا حضرت رفعنى وإذا رمت تقبيل يده منعني. فدخلت إليه يوما فوجدته قد تأهّب، لم تجر عادته بمثله ولم أر منه ما عوّدنيه من الإكرام، وجلست دون موضعي فما أنكر ذلك منّى، ورمت تقبيل يده فمدها إلىّ. فاختلفت بى الظنون لزلّة منّى، فإن تكن فأسأل إعلامى بها، فإمّا أن أطلب مخرجا منها بالعذر، أو ألوذ فيها بالعفو. فأجابنى بوقار أن اسمع: - «رأيت البارحة فى منامي كأنّ نهركم هذا- وأومى إلى نهر الصليق- قد اتسع حتى صار عرض دجلة دفعات، وكأنّى متعجب من ذلك وسرت على حافته [مستعظما] لأمره ومستطرفا لعظمه. فرأيت دستاهيج قنطرة عظيمة [2] فقلت: ترى من قد حدّث نفسه بعمل قنطرة فى هذا الموضع على مثل هذا البحر الكبير؟ وصعدته فكان [298] بثقا محكما ومددت عيني وإذا بازائه مثله، وزال الشكّ عنّى فى انهماد دستاهيج قنطرة وأقبلت أصعد وأصوّب فى التعجب. فبينما أنا واقف عليه إذ رأيت شخصا قد تأمّلنى من ذلك الجانب   [1] . كذا فى مد: الرضاء. [2] . وفى مرآة الزمان: وإذا بقواعد قنطرة عظيمة. وكلمة دستاهيج، لعلّ معناها درابزين (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 وناداني: يا أحمد أتريد أن تعبر؟ قلت: نعم. فمدّ يده حتى وصلت إلىّ وأخذنى وعبر بى. فهالني فعله فقلت له وقد تعاظمنى أمره: من أنت؟ قال: علىّ بن أبى طالب. هذا الأمر صائر إليك ويطول عمرك فيه، فأحسن إلى ولدي وشيعتي.» فما أنهى الخليفة هذا المقال من قوله حتى سمعنا صياح ملّاحين وضجيج ناس. فسألنا عن ذلك فقيل: - «ورد أبو علىّ ابن محمد بن نصر وجماعة معه.» فإذا هم الواردون للإصعاد به فقد تقرّرت الخلافة له. فعاودت تقبيل يده ورجله وخاطبته بإمرة المؤمنين وبايعته. ثم قام مهذّب الدولة بخدمة الخليفة فى إصعاده وانحداره أحسن قيام، وحمل إليه من المال والثياب والآلات ما يحمل مثله إلى الخلفاء، وأعطاه الطيّار الذي كان صنعه لنفسه، وشيّعه إلى بعض الطريق وأنفذ هبة [الله] بن عيسى فى خدمته. فلمّا وصل إلى واسط اجتمع الخدم بها وطالبوا برسم البيعة وجرت لهم خطوب انتهت إلى أن وعدوا بإجرائهم مجرى البغداديّين. فلمّا تقررت أمورهم عليه ورضوا. سار. فلمّا بلغ الجبل انحدر بهاء الدولة ووجوه الأولياء وأماثل الناس لتلقّيه [299] وخدمته ودخل دار الخلافة ليلة الأحد ثانى عشر رمضان. ذكر جلوس القادر بالله أمير المؤمنين رضوان الله عليه على سرير الخلافة جلس ثانى يوم حصوله فى الدار جلوسا عامّا وهنّئ بالأمر وأنشد المديح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 بالشعر. وكان من ذلك قصيدة للرضىّ أبى الحسن الموسوي [1] أولها: شرف الخلافة يا بنى العبّاس ... اليوم جدّده أبو العبّاس هذا الذي رفعت يداه بناءها ال ... عالى وذاك موطّد الآساس [2] ذا الطّود بقّاه الزمان ذخيرة ... من ذلك الجبل الأشمّ الرّاسى وتمامها مثبت فى ديوان شعره [3] ولقد صدق الموسوي فى قوله. [4] إنّ القادر بالله جدّد معاهد الخلافة وأنار أعلامها، وكشف غمم الفتنة وجلّى ظلامها، ويقولون: لئن كان لكلّ من الائمة رضوان الله عليهم مناقب مروية وطرائق مرضية، فإنّ لأربعة منهم فضائل أفردوا بمزاياها وحظوا بمرباعها وصفاياها: قام أمير المؤمنين السفّاح سفح دماء الأعداء وتأخّى كشف الغمّاء [5] وتفرّد وتفضّل بفضيلة الإبتداء، والمنصور بالله، أيّد بالنصر فى توطيد [300] قواعد الأمر، فذلل كلّ صعب وأزال كلّ شعب وثقّف كلّ مناد [6] ومهّد لمن بعده أحسن مهاد، ثم المعتضد بالله عضد الدولة بحسن تدبيره وسياسته وتلافاها بشرف نفسه وعلوّ همّته وأعادها بعد الضعف إلى   [1] . وفى كتاب عمدة الطالب (طبع بمبئي 1318 ص 184) أنّه كان الرضى يرشح إلى الخلافة وكان أبو اسحق الصابي يطمعه فيها ويزعم أنّ طالعه يدلّ على ذلك. [2] . والمثبت فى مد: الأساس. [3] . انظر: ديوان الشريف الرضىّ، طبعة وزارة الإرشاد بالأفست، طهران 1406 هـ. ق. ج 1، صص 546- 549. [4] . قوله: شعره. والكلام الآتي لصاحب الكتاب. [5] . فى الأصل: كسف ناجى الغماء (مد) . [6] . كذا فى مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 القوّة وبعد اللين إلى الشدّة وبعد الأود إلى الاستقامة وبعد الفتنة إلى السلامة، ثم القادر بالله قدر من صلاحها على ما لم يقدر عليه سواه وسلك من طريق الزهد والورع ما تقدّمت فيه خطاه، فكان راهب بنى العباس حقّا وزاهدهم صدقا. ساس الدنيا والدين وأغاث الإسلام والمسلمين واستأنف فى سياسة الأمر طرائق قويمة ومسالك مأمونة سليمة هي إلى الآن مستمرة والقاعدة عليها مستقرّة لم تعرف منه زلّة ولا ذمّت له خلّة. فطالت أيّامه وطابت أخباره وأقفيت آثاره وبقيت على ذرّيّته الشريفة أنواره رضى الله عنه رضاه عن الائمة المتقين، وجعلها كلمة باقية فى عقبه إلى يوم الدين.» حمل ما كان أخذ من دار الخلافة وحمل إلى القادر بالله بعض ما كان أخذ من دار الخلافة من الأثاث والأوانى والآلات وجعل كتّابه وحجّابه وحواشيه جميعهم من أصحاب بهاء الدولة، ثم أعاد القادر بالله بعد ذلك حاشية الدار القدماء إلى مواضعهم. وكان مدة مقامه [301] بالبطيحة من يوم وصلها إلى يوم خرج منها سنتين وأحد عشر شهرا. توقير أخت بهاء الدولة فأمّا أخت بهاء الدولة التي كانت فى حبال الطائع لله فإنّ دارها حرست يوم القبض من النهب. ثم نقلت إلى دار بمشرعة الصحراء أقامت فيها موقّرة إلى أن توفّيت. وفى هذه السنة ورد الخبر بوفاة سعد الدولة أبى المعالي ابن سيف الدولة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 بعد قتله بكجور غلامه [1] . شرح الحال فى عصيان بكجور وما آل إليه أمره من القتل ونبذ من أخبار المصريين تتصل بها فى هذه السنة وما بعدها كان لسعد الدولة غلام يعرف ببكجور فاصطنعه وقلّده الرقّة والرحبة واستكتب له أبا الحسن على بن الحسين المغربي. فلمّا طالت مدّته فى ولايته جحد الإحسان وحدّث نفسه بالعصيان واستغوى طائفة من رفقائه فصاروا إليه وخرج إلى أبى الحسن المغربي بسرّه، فأشار إليه بمكاتبة صاحب مصر الملقّب بالعزيز والتحيّز إليه فقبل منه وكاتبه واستأذنه فى قصد بابه فأذن له. وسار عن الرقّة بعد أن خلّف عليها سلامة الرشيقى غلامه وأخذ رهائن أهلها على الطاعة. فلقيته كتب صاحب مصر وخلعه [302] وعهده على دمشق، فنزل بها وتسلّمها ممن كان واليا عليها. ووجد أحداثها وشبّانها مستولين، ففتك بهم وقتل منهم، وقامت هيبته بذلك. [2] وترددت بينه وبين عيسى بن نسطورس الوزير مكاتبات خاطبه فيها بكجور بخطاب توقّع عيسى أوفى منه. ففسد ما بينهما وأسرّ عيسى العداوة له وأساء غيبه وقطع بكجور مكاتبة عيسى وشكاه إلى صاحب مصر، فأمر عيسى باستئناف الجميل معه فقبل ظاهرا وخالف باطنا. وخاف بكجور عيسى ومكيدته فاستمال طوائف من العرب وصاهرهم فمالوا إليه رغبة وعاد إلى الرقّة وكتب إليه صاحب مصر يعاتبه على فعله فأجابه جواب المعتذر الملاطف.   [1] . وأما ابتداء أمر بكجور هذا فليراجع تاريخ ابن القلانسي ص 27 (مد) . [2] . وهذا فى سنة 377: ابن القلانسي ص 30 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 ذكر السبب فى مسير بكجور إلى حلب لقتال مولاه [1] كان لبكجور رفقاء بحلب يوادّونه. فكاتبوه وأطمعوه فى الأمر وأعلموه تشاغل سعد الدولة باللذة، فاغترّ بأقوالهم وكتب إلى صاحب مصر يبذل له فتح حلب ويطلب منه الإنجاد والمعونة فأجابه إلى كل ملتمس. وكتب إلى نزّال الغورى وإلى طرابلس بالمسير إليه متى [2] استدعاه من غير معاودة. وكان نزّال هذا [203] من قوّاد المغاربة وصناديدهم ومن صنائع عيسى وخواصّه. ذكر الحيلة التي رتّبها عيسى مع نزّال فى التقاعد ببكجور حتى ورّطه كتب عيسى إلى نزّال سرّا بأن يظهر لبكجور المسارعة ويبطن له المدافعة. فإذا تورّط مع مولاه وصادمه تأخّر عنه وأسلمه. فرحل بكجور عن الرقّة وكتب إلى نزّال بأن يسير من طرابلس ليكون وصولهما إلى حلب فى وقت واحد وسار إليها. ورحل نزّال وأبطأ فى سيره وواصل مكاتبة بكجور بنزوله فى منزل بعد منزل وقرب عليه الأمر فى وصوله. وقد كان سعد الدولة كتب إلى بسيل عظيم الروم وأعلمه عصيان بكجور عليه وسأله مكاتبة البرجى صاحبه بأنطاكية بالمسير إليه متى استنجده بالمسير إليه فسار. وبرز سعد الدولة فى غلمانه وطوائف عسكره- ولؤلؤ الجراحي الكبير   [1] . ليراجع ابن القلانسي ص 34 (مد) . [2] . وفى الأصل: من. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 يحجبه- ولم يكن معه من العرب إلّا عمرو بن كلاب وعدّتهم خمسمائة فارس إلّا أنّهم أولو بأس ومن سواهم من [1] عدّته وعدّته. فنزل إلى الأرض وصلّى وعفّر خدّيه وسأل الله تعالى النصر. ثم استدعى كاتبه وأمره بأن يكتب إلى [304] بكجور عنه ويستعطفه ويذكّره الله ويبذل له أن يقطعه من الرقّة إلى باب حمص ويدعوه إلى الموادعة ورعاية حقّ الرقّ والعبودية. ومضى بالكتاب رسول فأوصله إليه. فلمّا وقف عليه قال: الجواب ما يراه عيانا. فعاد الرسول وأعاد على سعد الدولة قوله وأخبره أنّه سائر على أثره. فتقدّم سعد الدولة وتقارب العسكران ورتّب المصافّ ووقع الطراد. ذكر وجود عاد على سعد الدولة بحفظ دولته وشحّ آل ببكجور إلى ذهاب مهجته كان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد إليه وقد طعن أو جرح خلع عليه وأحسن إليه. وكان بكجور شحيحا فإذا عاد إليه رجل من رجاله على هذه الحال أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفا فى أمره. وقد كان سعد الدولة كاتب العرب الذين مع بكجور وآمنهم ووعدهم ورغّبهم. فلمّا حصلت كتبه بالأمان معهم عطفوا على [2] سواده ونهبوه واستأمنوا إلى سعد الدولة. ورأى بكجور ما تمّ عليه من تقاعد نزّال به وانصراف العرب عنه وتأخّر رفقائه الذين كانوا كاتبوه ووعدوه بالانحياز إليه إذا شاهدوه. فاستدعى أبا   [1] . زاد هاهنا ابن القلانسي ص 34: ومن سواهم من بطون العرب بنى كلاب مع بكجور ... وأعجبه- يعنى سعد الدولة- ما رأى من عدته وعدته إلخ (مد) . [2] . وفى الأصل: عن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 الحسن المغربي كاتبه وقال له: - «لقد غررتنى فما الرأى الآن؟» قال له: - «أيّها الأمير لم أكذّبك فى شيء قلته ولا أردت [305] إلّا نصحك. والصواب مع هذه الأسباب أن ترجع إلى الرقّة وتكاتب صاحب مصر بما اعتمده نزّال معك وتعاود استنجاده.» وكان فى العسكر قائد من القوّاد يجرى مجراه فى التقدّم فسمع ما جرى بينهما فقال لبكجور: - «هذا كاتبك إذا جلس فى دسته قال: الأقلام تنكّس الأعلام. فإذا تحققت الحقائق أشار علينا بالهرب والله لاهربنا.» وحلف بالطلاق على ذلك وسمع أبو الحسن المغربي قوله فخاف وكان قد واقف بدويّا من بنى كلاب على أن يحمله إلى الرقّة متى كانت هزيمة وبذل له ألف دينار على ذلك. فلمّا استشعر ما استشعر قدّم ما كان أخّره وسأل البدوي تسييره إلى الرقّة فسيّره. ذكر ما دبّره بكجور بفضل شجاعته فحالت المقادير دون إرادته لمّا رأى الأمر معضلا عمل على أن يعمد إلى الموضع الذي فيه سعد الدولة من المصاف ويحمل عليه بنفسه ومن ينتخبه من صناديد عسكره موقعا به فاختار وجوه غلمانه وقال لهم: - «قد حصلنا من هذه الحرب على شرف أمرين صعبين من هزيمة وهلاك وقد عوّلت على كيت وكيت فإن ساعدتمونى رجوت لكم الفتح.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 فقالوا: «نحن طوعك وما نرغب بنفوسنا عن نفسك.» فغدر واحد من الغلمان واستأمن إلى لؤلؤ [306] الجراحي وأعلمه بما عوّل عليه. ذكر ما فعله لؤلؤ من افتداء مولاه بنفسه فنجّاهما الله بحسن النيّة أسرع لؤلؤ إلى سعد الدولة وأخبره الحال وقال: - «قد أيس بكجور من نفسه وهو لا شكّ فاعل ما قد عزم عليه، فانتقل من مكانك إلى مكاني لأقف أنا فى موضعك وأكون وقاية لك ولدولتك.» فقبل سعد الدولة رأيه ووقف لؤلؤ تحت الراية وجال بكجور فى أربعمائة غلام شاكّين فى السلاح ثم حمل فى عقيب جولته حملة أفرجت له العساكر ولم يزل يخبط من تلقّاه بالسيف إلى أن وصل إلى لؤلؤ وهو يظنّه سعد الدولة فضربه على الخوذة ضربة قدّها ووصلت إلى رأسه ووقع لؤلؤ إلى الأرض. وحمل العسكر على بكجور وبادر سعد الدولة عائدا إلى مكانه مظهرا نفسه لغلمانه. فلمّا رأوه قويت شوكتهم وثبتت أقدامهم واشتدّوا فى القتال حتى استفرغ بكجور وسعه، ثم انهزم فى سبعة نفر. ذكر ما جرى عليه أمر بكجور بعد الهزيمة إلى أن قتل كان تحته فرس ثمنه ألف دينار فانتهى إلى ساقية تحمل الماء إلى رحا الطريق سعتها [307] قدر ذراعين فجهد الفرس على أن يعبرها خوضا أو وثبا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 فلم يكن [1] فيه ووقف ولحقته عشرة فوارس من العرب فرجلته وأصحابه وجرّدوهم من ثيابهم وآبوا عنهم بأسلابهم. ونجا بكجور ومن معه إلى الرحا فاستكنوا فيه. بكجور ورجل من بنى قطن ثم خرجوا من بعد إلى قراح فيه زرع فمرّ بهم قوم من العرب وكان فيهم رجل من بنى قطن كان بكجور يستخدمه كثيرا فى مهمّاته فناداه: أن ارجع، فرجع وهو لا يعرفه فأخذ ذمامه، ثم عرّفه نفسه وبذل له على إيصاله الرقّة حمل بعيره ذهبا، فأردفه وحمله إلى بيته وكساه. وكان سعد الدولة قد بثّ الخيل فى طلبه وجعل لمن أحضره حكمه. فساء ظنّ البدوي وطمع فيما كان سعد الدولة بذله واستشار ابن عمه فى أمره فقال: - «هو رجل بخيل وربما غدر فى وعده وإذا قصدت سعد الدولة به حظيت برفده.» فأسرع البدوي إلى معسكر سعد الدولة وأشعره بحال بكجور واحتكم عليه مائتي فدان زراعة ومائة ألف درهم ومائة راحلة محمّلة برّا وخمسين قطعة ثيابا فبذل له سعد الدولة ذلك جميعه. وعرف لؤلؤ الجراحي الخبر وتقرّر أن يمضى البدوي ويحضره. فتحامل وهو مثخن بالضربة التي أصابته ومشى يتهادى على أيدى غلمانه حتى حضر عند سعد الدولة.   [1] . كذا فى مد. ولعلّه «لم يتمكّن» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 ذكر حزم أخذ به لؤلؤ دلّ منه [308] على أصالة رأى لمّا حضر سأل عمّا يقوله البدوي فأخبر به فقبض لؤلؤ على يده وقال له: - «أين أهلك.» فقال: - «فى المرج على فرسخ.» فاستدعى جماعة من غلمانه وأمرهم أن يسرعوا إلى الحلّة ويقبضوا على بكجور ويحملوه فتوجّهوا وهو قابض على يد البدوي، والبدوي يستغيث. فقدم لؤلؤ إلى سعد الدولة وقال: - «يا مولانا لا تنكر علىّ فعلى، فإنّه منى عن استظهار فى خدمتك فلو عاد هذا البدوي إلى بيته لم نأمن أن يبذل له بكجور مالا جمّا فيقبل منه وتطلب منه بعد ذلك أثرا بعد عين والذي طلبه البدوي مبذول وما ضرّ الاحتياط.» فقال له سعد الدولة: - «أحسنت يا أبا محمد، لله درك.» ولم يمض ساعات حتى أحضر بكجور فشاور سعد الدولة لؤلؤا فى أمره، فأشار عليه بقتله خوفا من أن تسأل أخت سعد الدولة فيه فيفرج عنه، فأمر عند ذلك بضرب عنقه. فسار سعد الدولة إلى الرقّة فنزل عليها وفيها سلامة الرشيقى وأبو الحسن المغربي وأولاد بكجور وحرمه وأمواله ونعمه. فأرسل إلى سلامة يلتمس منه تسليم البلد فأجابه: - «بأنّى عبدك وعبد عبدك إلّا أنّ لبكجور علىّ عهودا ومواثيق لا مخلص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 لى عند الله منها إلّا بأحد أمرين: إمّا أنّك تذم لأولاده على نفوسهم وحرمهم [309] وتقتصر فيما تأخذه منهم على آلات الحرب- وعددها- وتحلف لهم على الوفاء به، وإمّا بأن أبلى [1] عذرا عند الله تعالى فيما أخذ علىّ من عهد وعقد معى من عقد.» فأجابه سعد الدولة إلى ما اشترطه من الذمام وحلف له بيمين مستوفاة الأقسام ودخل فيها الأمان لأبى الحسن المغربي بعد أن كان قد هدر دمه. إلّا أنّه أمّنه على أن يقيم فى بلاده. فهرب إلى الكوفة وأقام بمشهد أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه السلام. ذكر ما جرى عليه أمر سلامة الرشيقى وأولاد بكجور فى خروجهم من الرقّة وغدر سعد الدولة لمّا توثّق سلامة لنفسه ولأولاد بكجور سلّم حصن الرافقة وخرجوا منها ومعهم من الأموال والزينة ما كثر فى عين سعد الدولة. فإنّه كان يشاهدهم من وراء سرادقه وبين يديه ابن أبى الحصين القاضي وقال له: - «ما ظننت أنّ حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه الأثقال والأموال.» فقال له ابن أبى الحصين: - «إنّ بكجور وأولاده مماليكك وكلّما ملكه وملكوه هو لك لا حرج عليك فيما تأخذه منهم ولا حنث فى الأيمان التي حلفت بها، ومهما كان فيها من وزر وإثم فعلىّ دونك.» [310]   [1] . فى الأصل أبى: والصواب عند ابن القلانسي (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 فلمّا سمع هذا القول أصغى إليه وغدر بهم وقبض على جميع ما كان معهم. فما كان أسوأ محضر هذا القاضي الذي حسّن لسعد الدولة تسويل الشيطان وأفتاه بنقض الأيمان، ثم لم يقنع بما زيّن له من غدره ولبّس عليه من أمره حتى تكفّل له بحمل وزره. وهل أحد حامل وزر غيره؟ أما سمع قول الله تعالى فى أهل الضلالة: «وَقال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ من خَطاياهُمْ من شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» 29: 12 [1] . وكان أولاد بكجور كتبوا إلى العزيز بما جرى على والدهم وسألوه مكاتبة سعد الدولة بالإبقاء عليهم. ذكر ما جرى بين صاحب مصر وسعد الدولة من المراسلات وما اتّفق من وفاة سعد الدولة بعقب ذلك كتب صاحب مصر إليه كتابا يتوعّده فيه ويأمره بالابقاء عليهم وتسييرهم إلى مصر موفورين ويقول فى آخره: - «فإن خالفت كنت خصمك ووجّهت العساكر نحوك.» وأنفذ الكتاب مع فائق الصقلبى [2] أحد خواصه وسيّره على نجيب إسراعا به. فوصل فائق إلى سعد الدولة وقد وصل من الرقّة إلى ظاهر حلب وأوصل إليه الكتاب. فلمّا وقف عليه جمع وجوه عسكره وقرأه عليهم ثم قال لهم: - «ما [311] الرأى عندكم.» قالوا له: - «نحن عبيد طاعتك ومهما أمرتنا به كنّا عند طاعتك منه.»   [1] . س 29 العنكبوت: 12. [2] . وفى الأصل: الصقلى. والصواب عند ابن الفلانسى ص 38 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 فأمر بإحضار فائق فأهانه وقال له [1] : - «عد إلى صاحبك وقل له: لست ممن يستفزّه وعيدك وما بك حاجة إلى تجهيز عسكر إلىّ، فإننى سائر إليك وخبري يأتيك من الرملة.» وقدّم قطعة من عسكره إلى حمص أمامه وعاد فائق إلى صاحبه فعرّفه ما سمعه ورآه فأزعجه وأقلقه. وأقام سعد الدولة بظاهر حلب أيّاما ليرتّب أموره ويتبع العسكر الذي تقدّمه، فعرض له القولنج أشفى منه وعاد إلى البلد متداويا وأبلّ وهنّئ بالسلامة. وعوّل على العود إلى المعسكر، فحضرت فراشه فى الليلة التي عزم على الركوب فى صبيحتها إحدى حظاياه، وتبعتها النفس الشهوانية المهلكة فواقعها وسقط عنها وقد جفّ نصفه. وعرفت أخته الصورة فدخلت إليه وهو يجود بنفسه واستدعى الطبيب فأشار بسجر الندّ [2] والعنبر حوله فأفاق قليلا فقال له الطبيب: - «أعطنى يدك أيها الأمير لآخذ مجسّك.» فأعطاه اليسرى فقال: - «يا مولانا اليمين.» فقال: «أيّها الطبيب ما تركت لى اليمين يمينا.» فكأنّه تذكّر ما فرط من خيانته وندم على نقض العهد ونكثه. ومضت عليه ثلاث ليال وقضى نحبه بعد أن قلّد عهده لولده أبى الفضائل ووصّى إلى لؤلؤ الجراحي به [312] وببقيّة ولده.   [1] . وزاد ابن القلانسي أنّه أمر بإعطائه الكتاب ولطمه حتى يأكله (مد) . [2] . وفى الأصل: النار. والصواب ما قاله ابن القلانسي (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 ذكر قيام أبى الفضائل ابن سعد الدولة بعد أبيه وما جرى له مع العساكر المصرية جدّ لؤلؤ فى نصب أبى الفضائل فى الأمر وأخذ له البيعة على الجند، وتراجعت العساكر إلى حلب واستأمن منها إلى صاحب [مصر] وفاء الصقلى [1] وبشارة الإخشيدي ورباح وقوم آخرون فقبلهم وأحسن إليهم وولّى كلّا [2] منهم بلدا. وقد كان أبو الحسن المغربي بعد حصوله فى المشهد بالكوفة كاتب صاحب مصر وصار بعد المكاتبة إلى بابه. فلمّا توفّى سعد الدولة عظّم أمر حلب عنده وكثّر له أموالها وهوّن عليه حصولها وأشار باصطناع أحد الغلمان وإنفاذه إليها. فقبل منه إشارته وقدّم غلاما يسمّى منجوتكين فخوّله وموّله ورفع قدره ونوّه بذكره وأمر القوّاد والأكابر بالترجّل له وولّاه الشام واستكتب له أحمد بن محمد القشوري وسيّره إلى حلب وضمّ إليه أبا الحسن المغربي ليقوم بالأمر والتدبير. ذكر مسير منجوتكين من مصر إلى حلب ونزوله عليها [313] لمّا وصل إلى دمشق تلقّاه قوّادها وأهلها وعساكر الشام كلّها فأقام بها مدّة. ثم رحل إلى حلب وقد استعدّ واحتشد ونزلها فى ثلاثين ألف رجل وتحصّن أبو الفضائل ابن سعد الدولة ولؤلؤ بالبلد.   [1] . وفى تاريخ ابن الفلانسى ص 39: رقى الصقلبى. [2] . والمثبت فى مد: كل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 وقد كان لؤلؤ عند معرفته بورود العساكر المصرية كتب إلى بسيل عظيم الروم وذكّره ما كان بينه وبين سعد الدولة من المعاهدة والمعاقدة، وبذل له عن أبى الفضائل ولده الجري على تلك العادة، وحمل إليه ألطافا كثيرة واستنجده وأنفذ إليه ملكوثا [1] السرياني رسولا. فوصل إليه ملكوثا وهو بإزاء عساكر ملك البلغر مقاتلا. فقبل ما ورد فيه وكتب إلى البرجى صاحبه بأنطاكية بجمع عساكر الروم وقصد حلب ودفع المغاربة عنها. فسار البرجى فى خمسة آلاف رجل ونزل بجسر الحديد بين أنطاكية وحلب وعرف منجوتكين وأبو الحسن ذلك فجمعا وجوه العسكر وشاوراهم فى تدبير الأمر. ذكر مشورة أنتجت رأيا سديدا كان فى أثنائه الظفر بالروم أشار ذو الرأى والحصافة منهم بالانصراف عن حلب وقصد الروم [314] والإبتداء بهم ومناجزتهم لئلّا يحصلوا بين عدوّين. فأجمعوا على ذلك وساروا حتى صار بينهم وبين الروم النهر المعروف بالمقلوب. فلمّا تراءى الجمعان تراموا بالنشّاب وبينهم النهر، وليس للفريقين طريق إلى العبور. فبرز من الديلم الذين فى جملة منجوتكين شيخ فى يديه ترس وثلاث زوبينات ورمى بنفسه إلى الماء والمسلمون ينظرون إليه والروم يرمونه بالنبل والحجارة وهو يسبح قدما والترس فى يده والماء إلى صدره. وشاهد المسلمون ذلك وطرحوا نفوسهم فى أثره، وطرحت العرب خيولهم   [1] . فى الأصل: ملكونا. والصواب عند ابن الفلانسى ص 41 ص 14 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 فى النهر وهجم العسكر عن المخاض، وحصلوا مع الروم على أرض واحدة ومنجوتكين يمنعهم فلا يمتنعون. وأنزل الله تعالى النصر عليهم وولّى الروم أدبارهم [1] بين مقتول ومأسور ومفلول. وأفلت البرجى فى عدد قليل وغنمت منهم الغنيمة الكثيرة وجمع من رؤس قتلاهم نحو عشرة آلاف رأس وحملت إلى مصر. وتمّم منجوتكين إلى أنطاكية ونهب رساتيقها وأحرقها وكان وقت إدراك الغلّة. فأنفذ لؤلؤ وأحرق ما يقارب حلب منها، إضرارا بالعسكر المصري وقاطعا الميرة عليهم. وكرّ منجوتكين راجعا إلى حلب. ذكر تدبير لطيف دبّره لؤلؤ فى صرف العساكر المصريّة عن حلب [315] لمّا رأى لؤلؤ هزيمة الروم وقوّة العساكر المصرية وضعفه عن مقاومتهم كاتب أبا الحسن المغربي والقشوري ورغّبهما فى المال وبذل لهما منه ما استمالهما به، وسألهما المشورة على منجوتكين بالانصراف عن حلب فى هذا العام والمعاودة فى القابل [2] لعلّة تعذّر الأقوات والعلوفات. فأجاباه إلى ذلك وخاطبا منجوتكين به فصادف قولهما منه شوقا إلى دمشق وخفض العيش وضجر من الأسفار والحروب وكتبت الجماعة إلى صاحب مصر بهذه الصورة واستأذناه فى الانكفاء. فقبل أن يصل الكتاب ويعود الجواب رحلوا عائدين وعرف صاحب مصر ذلك. فاستشاط غضبا ووجد أعداء أبى الحسن المغربي طريقا إلى الطعن عليه فصرفه بصالح بن   [1] . وفى ابن القلانسي ص 42: وولت الروم وأعطوا ظهورهم وركبهم المسلمون ونكوا فيهم النكاية الوافية قتلا وأسرا وقهرا وأفلت البرجى إلخ. [2] . أى العام القابل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 على الروذبارى. ذكر ما دبّره المتلقب بالعزيز فى إمداد العسكر بالميرة وإعادتهم إلى حلب آلى على نفسه أن يمدّ العسكر بالميرة من غلّات مصر. فحمل مائة ألف تلّيس- والتلّيس قفيزان بالمعدّل- فى البحر إلى طرابلس ومنها على الظهور إلى حصن أفامية [1] . ورجع منجوتكين فى السنة الثانية إلى حلب ونزل عليها وصالح بن على الروذبارى المدبّر. فكان يوقّع للغلمان بجراياتهم وقضيم دوابّهم إلى أفامية على [316] خمسة وعشرين فرسخا فيمضون ويقبضونها ويعودون بها. وأقاموا ثلاثة عشر شهرا وبنوا الحمّامات والخانات والأسواق وأبو الفضائل ولؤلؤ ومن معهما متحصّنون بالبلد. وتعذّرت الأقوات عندهم فكان لؤلؤ يبتاع القفيز من الحنطة بثلاثة دنانير ويبيعها على الناس بدينار رفقا بهم ويفتح الأبواب فى الأيّام ويخرج من البلد من تمنعه المضرتان عن المقام [2] وأشير على منجوتكين بتتبّع من يخرج وقتله، ليمتنع الناس من الخروج ليضيق الأقوات عندهم فلم يفعل. وأنفذ لؤلؤ فى أثناء هذه الأحوال ملكوثا إلى بسيل عظيم الروم معاودا لاستنجاده. وكان بسيل قد توسّط بلاد البلغر فقصده ملكوثا إلى موضعه وأوصل إليه الكتاب وقال له: - «متى أخذت حلب فتحت أنطاكية بعدها وأتعبك التلافي وإذا سرت   [1] . أفامية (فامية) : مدينة حصينة من سواحل الشام وكورة من كور حمص (مراصد الإطلاع) . [2] . كذا فى الأصل وعند ابن الفلانسى ص 43: ويخرج من الناس من أراد من الفقراء من الجوع وطول المقام وقد كان أشير إلخ. والمضرتان هما الجوع والوبا (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 بنفسك حفظت البلدين جميعا وسائر الأعمال.» ذكر مسير بسيل إلى الشام لقتال العساكر المصرية وما جرى عليه أمره فى ذلك لمّا سمع بسيل قول ملكوثا سار نحو حلب وبينه وبينها ثلاثمائة فرسخ. فقطعها فى سنة وعشرين يوما، وقاد الجنائب بأيدي الفرسان، وحمل الرجالة [317] على البغال. وكان الزمان ربيعا وقد أنفذ منجوتكين وعسكره كراعهم إلى المروج لترعى فيها وقرب هجوم بسيل عليهم من حيث لا يشعرون. ذكر ما دبّره واعتمده لؤلؤ من رعاية حرمة الإسلام وإنذار منجوتكين بخبر هجوم الروم أرسل إلى منجوتكين يقول له: «إنّ عصمة الإسلام الجامعة لنا تدعوني إلى إنذاركم والنصح لكم وقد أظلّكم بسيل فى جيوش الروم، فخذوا الحذر لأنفسكم.» وجاءت طلائع منجوتكين بمثل الخبر فأحرق الخزائن والأسواق والأبنية التي كان استحدثها ورحل فى الحال منهزما. ووافى بسيل فنزل على باب حلب وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ ولقياه، ثم عاد ورحل فى اليوم الثالث إلى الشام. وفتح حمص ونهب وسبى ونزل على طرابلس فمنعت جانبها منه فأقام نيّفا وأربعين يوما، فلمّا أيس منها عاد إلى بلاد الروم. وانتهى الخبر إلى صاحب مصر فعظم ذلك عليه وأمر فنودي بالنفير فنفر الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 ذكر مسير المتلقّب بالعزيز من [318] مصر لغزو الروم وما اتفق من موته وجلوس ولده المتلقّب بالحاكم فى موضعه خرج من داره مستصحبا جميع عساكره وعدده وأمواله وسار منها مسافة عشرة فراسخ حتى نزل بلبيس [1] وأقام بظاهرها. وعارضته علل كثيرة أيس منها من نفسه فأوصى إلى أرجوان [2] الخادم الذي كان خصيصا به ومتولّيا لأمر داره، بولده المتلقّب بالحاكم من بعده، ثم قضى نحبه. وقام أرجوان بأمر الحاكم ودعا الناس إلى البيعة وحالفهم على الطاعة وأطلق لهم العطاء وذلك فى شهر رمضان سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة، وانكفأ الحاكم إلى قصر أبيه وهو يومئذ ابن خمس عشرة سنة. وتقدّم أبو محمد الحسن بن عمّار وكان شيخ كتامة وسيّدها، ويلقّب بأمين الدولة، وهو أول من لقّب فى دولة المغاربة ونفذّ أوامره فى الخزائن والأموال إطلاقا وعطاء حتى على جواري القصر هبة وعتقا. واستولى أصحابه وقلّت مبالاتهم وأشاروا عليه بقتل الحاكم فلم يعبأ به استصغارا لسنّه واستهانة بأمره. وأرجوان فى أثناء ذلك يحرس الحاكم ويلازمه ويمنعه الركوب والظهور من قصره. واتّفق شكر العضدي معه فتعاضدا وصارت كلمتهما واحدة [319] حتى تمّ لهما ما أراداه.   [1] . وفى الأصل: بتليس. والصواب عند ابن القلانسي ص 44 (مد) . [2] . أو: برجوان (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 ذكر ما دبّره أرجوان فى أمر ابن عمّار ومكاتبة منجوتكين والإستنصار به عليه لمّا زاد أمر ابن عمار فى تمكّنه كتب أرجوان إلى منجوتكين وشكا إليه ما هم فيه، ودعاه إلى قصد مصر ومقابلة نعمة العزيز عنده وكشف هذه الغمّة عن ولده. فتقبّل منجوتكين كتابه وركب إلى المسجد الجامع بثياب المصيبة وجمع الناس وذكرهم جميل العزيز إليهم. ثم خرج إلى ذكر ما له عليه خاصّة من الإصطناع وما يلزمه من خدمة ولده بعده. ثم ذكر تغلّب ابن عمّار على الملك وسوء سيرته وما يلقاه أئمّتنا المقيمون بمصر من الذّلة والهوان، وبكى بكاء شديدا رقّت له القلوب وخرّق ثيابه واقتدى الناس به فى البكاء وتخريق الثياب وأجابوه إلى الطاعة وبذل المهج من غير التماس عطاء ولا مؤونة. فشكرهم وعاد إلى داره وأجمع أمره للمسير فسار إلى الرملة. ذكر ما دبّره ابن عمّار فى تجهيز [320] الجيش وما آل إليه أمر منجوتكين من الهزيمة لمّا وصل الخبر إلى ابن عمّار بما فعله منجوتكين عظم عليه وجمع وجوه كتامة [1] وأخبرهم بما تجدّد، وأظهر أنّ منجوتكين قد عصى على الحاكم فبذلوا الطاعة والانتهاء إلى ما يأمرهم به. وأحضر أرجوان وشكر العضدي واستمالهما واستحلفهما على المساعدة والمعاضدة، فحلفا له اضطرارا.   [1] . وفى الأصل: كتابه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 وندب العساكر لقتال منجوتكين وقدّم أبا تميم سالم [1] بن جعفر عليها وأمدّه من الأموال والعدد ما أسرف فيه. وكان عيسى بن نسطورس على حاله فى الوزارة، فبلغه عنه ما أنكره فضرب عنقه. التقاء أبى تميم ومنجوتكين وسار أبو تميم من مصر ورحل منجوتكين من الرملة بعد أن ملكها والتقيا بعسقلان وتواقعا. فأجلت الوقعة عن هزيمة منجوتكين وأصحابه وتتبّعوا. وجعل أبو تميم لمن يأتيه بمنجوتكين عشرة آلاف دينار ومائة ثوب. فانبثّت العرب فى طلبه وأدركه على بن الجرّاح فأسرّه وجاء به إلى أبى تميم فسلّمه إليه وقبض المال منه. فحمل إلى مصر وأبقى ابن عمّار عليه واصطنعه وأحسن إليه استمالة للمشارقة بذلك. وسار أبو تميم فنزل طبرية وأنفذ أخاه عليّا إلى دمشق فاعتصم أهلها عليه ومنعوه الدخول، وكاتب أخاه بعصيانهم واستأذنه [321] فى قتالهم. فكتب أبو تميم إلى متقدّميهم من الأشراف والشيوخ وحذّرهم عواقب فعل سفهائهم. فلمّا وصل الكتاب إليهم خافوا وخرجوا إلى علىّ مذعنين بالطاعة ومنكرين لما فعله أهل الجهالة فلم يعبأ بقولهم وزحف إلى باب البلد، فملكه وأحرق وقتل وعاد إلى معسكره. ووافى أبو تميم فى غد، فأنكر على أخيه ما فعله، وتلقّاه وجوه الناس فشكوا إليه ما أظلّهم. فأحسن لقاءهم وأمّن [2] جناتهم، فسكنوا وعادوا إلى معايشهم.   [1] . وعند ابن الفلانسى ص 46 سليمان. وهو ابن فلاح. [2] . والمثبت فى مد: وأمن، دون تشديد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 ذكر ما اعتمده أبو تميم الكتامى [1] من حسن سيرة ملك بها قلوب الرعيّة ركب إلى المسجد الجامع فى يوم الجمعة بزىّ أهل الوقار، واجتاز فى البلد بسكينة وبين يديه القرّاء وقوم يفرّقون الدراهم على أهل المسكنة، وصلّى الجمعة وعاد إلى القصر الذي نزله بظاهر دمشق، وقد استمال قلوب العامة بما فعله. ثمّ نظر فى الظلامات وأطلق من الحبوس جماعة من أهل الجنايات، فازدادوا له حبّا واستقرّت قدمه واستقام أمره. وعدل من بعد إلى النظر فى أمور السواحل فهذّبها، وولّى أخاه طرابلس وصرف عنها جيش [2] بن الصمصامة. وكان جيش هذا من شيوخ [322] كتامة أيضا إلّا أنّه كانت بينه وبين أبى تميم عداوة. فلمّا عزله عن طرابلس مضى إلى مصر وجها واحدا واجتمع مع أرجوان سرّا ورمى نفسه عليه فقبّله وبذل له المعاونة. ورأى أرجوان الفرصة قد أمكنت ببعد كتامة عن مصر، إلّا العدد القليل منهم. فقرّر مع الأتراك المشارقة الفتك بهم وأحكم الأمر فى الاستيثاق. وأحسّ ابن عمّار بذلك فعمل على الفتك بأرجوان وسبقه إلى ما يحاوله منه. ذكر ما همّ به ابن عمّار من الفتك بأرجوان وشكر وما دبّراه فى التحرّز منه حتى سلما منه وتورّط هو رتّب ابن عمّار جماعة فى دهليزه وواقفهم على الإيقاع بأرجوان وشكر   [1] . وفى الأصل: الكناني. [2] . وفى الأصل: حبش. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 إذا دخلا داره. وكان لأرجوان عيون على ابن عمّار فصاروا إليه وأخبروه بما قد رتّبه. فاجتمع أرجوان وشكر وتفاوضا الرأى فى التحرّز مما بلغهما وقرّرا بينهما أن يركبا عند ركوبهما جماعة من الغلمان يتبعوهما. فإن أحسّا على باب ابن عمّار بما يريبهما رجعا القهقرى وفى ظهورهما من يمنع عنهما. فرتّبا ذلك وتوجّها إلى دار ابن عمّار. فلمّا [323] قربا من الباب بانت لهما شواهد الشرّ وما كانا أخبرا به. فكرّ راكضا ومنع عنهما الغلمان الذين كانوا وراءهما ودخلا قصر الحاكم باكيين صارخين وثارت الفتنة. واجتمع المشارقة وعبيد الشرى على باب القصر، وركب الحسن بن عمّار فى كتامة ومن انضاف إليهم من القبائل إلى الصحراء، وفتح أرجوان الخزائن ففرّق الأموال وحثّ الرجال. وبرز ثلاثة من وجوه الأتراك فى خمسمائة فارس لقتالهم فواقعوهم وكسروهم وهرب ابن عمّار واستتر عند بعض العامة. ذكر ما دبّر به أرجوان أمر الملك لمّا تمّ له الظفر فتح باب القصر وأخرج الحاكم وأجلسه وأخذ له بيعة مجدّدة على الجند وأمن وجوه كتامة وقوّادها فحضروا وأعطوا أيديهم بالطاعة ومهّد الأمور فى يومه وليلته. وكتب الملطّفات إلى الأشراف وإلى وجوه العامّة بدمشق بالإيقاع بأبى تميم ونهبه والى المشارقة بمعاونتهم عليه. ذكر ما تمّ على أبى تميم من أهل دمشق [324] بقلّة حزمه وضعف رأيه كان أبو تميم مع سياسته مستهتزا باللذات ووصلت الملطّفات وأبو تميم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 مشغول بلهوه. فلم يشعر إلّا بهجوم المشارقة والعامّة على قصره. فخرج هاربا على ظهر فرسه، ونهبوا خزائنه وأوقعوا بمن كان فيه من كتامة وعادت الفتنة بدمشق واستولى الأحداث. وكان فهد بن ابراهيم النصراني المكنّى بأبى العلاء يكتب لأرجوان من قبل. فلمّا صار الأمر إليه استوزره. ولم يزل أرجوان [1] يتلطّف للحسن بن عمّار حتى أخرجه من استتاره وأعاده إلى داره وأجرأه على رسمه فى إقطاعاته واشترط عليه إغلاق بابه واستحلفه على لزوم الطريقة المستقيمة. وكان أهل صور قد عصوا وأمّروا عليهم رجلا ملّاحا يعرف بالعلّاقة، وكان المفرّج [2] بن دغفل بن الجرّاح قد نزل على الرملة وعاث فى البلاد وانضاف إلى هذين الحادثين نزول الدوقس صاحب الروم فى عسكر كثير على حصن أفامية. فاصطنع أرجوان جيش بن محمد بن الصمصامة وقدّمه وجهّز معه عسكرا وسيّره إلى دمشق وبسط يده فى الأموال ونفذ أمره فى الأعمال. ذكر ما جرى عليه أمر جيش [325] بن الصمصامة فى هذا الوجه إلى أن توفّى سار جيش ونزل على الرملة وعليها وحيد الهلالي واليا فتلقّاه طائعا، وصادف أبا تميم بها فقبض عليه قبضا جميلا. وندب أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان فى عسكر إلى صور، بعد أن كان أنفذ إليها مراكب فى البحر مشحونة بالرجال. فأحاطت العساكر بها برّا وبحرا، وضعف أهل صور عن القتال وأخذ العلاقة فحمل إلى   [1] . الأصل محرّف والصواب عند ابن القلانسي ص 5 (مد) . [2] . وفى الأصل: الفرج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 مصر فسلخ وصلب بها وأقام ابن حمدان بصور واليا عليها. وسار جيش لقصد المفرّج بن دغفل بن الجرّاح، فهرب من بين يديه واتبعه حتى كاد يدركه. فضاقت الأرض على ابن الجرّاح وعاذ بالصفح وأنفذ إليه عجائز نسائه يطلب الأمان. فكفّ جيش عنه وأمّنه واستحلفه على ما قرّره معه وعاد سائرا إلى عسكر الروم النازل على حصن أفامية. فلمّا وصل إلى دمشق تلقّاه أهلها فى أشرافها ووجوه أحداثها مذعنين له بالانقياد راغبين إليه فى استصحابهم للجهاد فجزاهم خيرا. ذكر مكيدة بدأ جيش بها فى هذه النوبة مع أحداث دمشق إلى أن أمكنته [326] الفرصة منهم فى الكرّة الثانية أقبل على رؤساء الأحداث وبذل لهم الجميل ونادى فى البلد برفع المؤن وإباحة دم كل مغربىّ يتعرض لفساد. فاجتمعت الرعيّة وشكروه وسألوه دخول البلد والنزول بينهم، فلم يفعل وأقام ثلاثة أيام وسار بعد أن خلع على رؤساء الأحداث ووصلهم، ونزل بحمص واجتمعت عساكر الشام وتوجّه إلى حصن أفامية. فوجد أهلها وقد اشتدّ بهم الحصار فنزل بإزاء عسكر الروم وبينه وبينهم النهر المعروف بالمقلوب، ويعرف بالعاصى. التقاء المسلمين والروم عند نهر العاصي ثم التقى الفريقان من بعد وتنازعا الحرب وكان المسلمون يومئذ فى عشرة آلاف من الطوائف وألف فارس من بنى كلاب. فحملت الروم على المسلمين فزحزحوهم عن مصافّهم وانهزمت الميمنة والميسرة واستولى الروم على كراعهم وعطفت بنو كلاب على أكثر ذلك فنهبوه، وثبت بشارة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 الإخشيدي فى خمسمائة فارس. ورأى من فى حصن أفامية من المسلمين ما أصاب إخوانهم، فأيسوا من نفوسهم وابتهلوا إلى الله تعالى يسألونه الرحمة، فاستجاب لهم. ذكر ما أنزل الله تعالى على المسلمين [327] من النصر فقتل زعيم الروم على يد أحدهم كان الدوقس [1] قد وقف على رابية وبين يديه ولد له وعشرة غلمة وهو يشاهد ظفر أصحابه وأخذهم للغنائم. فقصده كردى يعرف بأحمد بن الضحّاك السليل على فرس جواد وبيده اليمنى خشت [2] فظنّه الدوقس مستأمنا إليه أو مستجيرا فلم يحفل به. فلمّا دنا منه حمل عليه فرفع الدوقس يده متّقيا وضربه الكردي بالخشت فأصاب خللا فى الدرع فخرقه ونفذ فى أضلاعه وسقط إلى الأرض ميتا. وصاح المسلمون: - «إنّ عدوّ الله قد قتل!» ونزل النصر فانهزمت الروم وتراجع المسلمون، ونزل من كان فى الحصن وقتل من الروم مقتلة عظيمة. وباتوا غانمين مستبشرين بِنِعْمَةٍ من الله وَفَضْلٍ 3: 171 و «إِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» 9: 120 [3] . ثم سار جيش بن الصمصامة إلى باب أنطاكية فسبى وأحرق، وانصرف عائدا إلى دمشق وقد عظمت هيبته فى النفوس.   [1] . هو داميانوس ويعرف بالدلاسينوس: كذا فى تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكى (مد) . [2] . ولعلّه تصحيف «خشب» ، أو هو «خشت» : الآجرّ غير المطبوخ (فارسي) . [3] . س 9 التوبة: 22. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 ذكر تمام هيبته فى المكيدة التي كان بدأ بها جيش فى تسكين أحداث دمشق [328] حتى ظفر بهم لمّا عاد إلى دمشق استقبله أهلها مهنّئين داعين. فتلقّاهم بالبشاشة والبشر وزادهم من الكرامة والبرّ وخلع على وجوه الأحداث وحملهم على الخيل والبغال ووهب لهم الجواري والغلمان. وعسكر بظاهر البلد وسألوه الدخول والجواز فى الأسواق وقد كانوا زيّنوها إظهارا للسرور فلم يفعل وقال: هذه عساكر وإذا دخلت لم آمن أن تثقل وطأتهم. والتمس منهم أن يخلوا قرية على باب دمشق [1] ليكون مقامه فيها، فأجابوه إلى ذلك وتوفّر على استعمال العدل وتخفيف الثقل، فاستخصّ رؤساء الأحداث واستحجب جماعة منهم. وكان يعمل لهم سماطا يحضرونه فى كل يوم للأكل عنده ويبالغ فى تأنيسهم. فلمّا اطمأنّوا ومضت مدّة على ذلك أحضر قوّاده وتقدّم بأن يكونوا على أهبة لما يريد استخدامهم فيه وتوقّع ما يأمرهم به فى رقاع مختومة والعمل بما فيها. ثم كتب رقاعا بقسمة البلد وعيّن لكل من قوّاده الموضع الذي يدخل منه ويفتك فيها وختمها وأعدّها. ثم رتّب فى حمام داره قوما من المغاربة وتقدّم إلى أحد خواصّه بأن يراعى حضور رؤساء الأحداث طعامه. فإذا أكلوا [329] وقاموا إلى المجلس الذي جرت عادتهم بغسل أيديهم فيه، أغلق بابه عليهم وأمر المتكمنين فى الحمام بالخروج على أصحابهم والإيقاع بهم.   [1] . وعند ابن القلانسي ص 52: يعرف ببيت لهيا (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 وحضر القوم على رسمهم وبادر جيش بإنفاذ الرقاع إلى قوّاده وجلس معهم للأكل. فلمّا فرغ وفرغوا نهض إلى حجرته ونهضوا إلى المجلس فأغلق الفرّاش عليهم بابه وخرج من فى الحمام فأوقعوا بأصحابهم وقتلوهم بأسرهم. وركب القوّاد ودخلوا البلد فقتلوا قتلا ذريعا وثلموا السور من كل جانب ونزلت المغاربة دور دمشق وركب جيش، فدخل دمشق وطافها واستغاث الناس به ولاذوا بعفوه، فكفّ عنهم واستدعى الأشراف استدعاء حسن ظنّهم فيه. فلمّا حضروا أخرج رؤساء الأحداث وأمر بضرب رقابهم بين أيديهم، ثم صلب كل واحد منهم فى محلّته، حتى إذا فرغ من ذلك قبض على الأشراف وحملهم إلى مصر واستأصل أموالهم ونعمهم ووظّف على البلد خمسمائة ألف [1] دينار. ثم جاءه أمر الله الذي لا يغلب وقضاؤه الذي لا يوارب ولاقته المنية التي تجعل العزيز ذليلا والكثير قليلا [2] فما أغنت عنه عندها قدرة ولا حيلة ولا نفعته معها فدية ولا وسيلة. وكان سبب منيّته علّة باطنة حدثت به [330] : ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره ... تنوّعت الأسباب والدّاء واحد وورد الخبر إلى مصر بموته فقلّد محمد ولده مكانه. واستقامت الأمور على يد أرجوان وجرت بينه وبين بسيل عظيم الروم   [1] . زدنا كلمة «ألف» من ابن القلانسي (مد) . [2] . وأما موت جيش وقصّته مع أبى بكر الحرمي الزاهد فليراجع فيه ابن القلانسي ص 54: وأبو بكر هو محمد بن عبد الله بن حسن بن هارون الوضّاحى توفى سنة 436 كذا فى تاريخ الإسلام (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 مراسلات وملاطفات انتهت إلى تقرير الهدنة مدّة عشر سنين وصلحت الحال مع العرب. وكان يواصل النظر فى قصر الحاكم نهاره أجمع، إلّا ساعة فى وقت الظهر، ثم يعود إلى منتصف الليل ويوفى السياسة حقّها وفهد بن ابراهيم بين يديه ينفّذ الأمور أحسن تنفيذ. فلم يزل على هذه الوتيرة إلى أن قتل. ذكر السبب فى قتل أرجوان وشرح الحال فى ذلك كان أرجوان يأخذ الحاكم بتهذيب الأخلاق وينصحه- والنصح مرّ المذاق- ويمنعه كثرة الركوب لفرط الإشفاق ويصدّه عن التبذير فى غير موضع الاستحقاق. فصارت له هذه الأحوال ذنوبا، ثم لأنّ لكل امرئ أجلا مكتوبا. وكان مع الحاكم خادم يعرف بريدان [1] الصقلبى قد خصّ به. فأنس فى شكوى أرجوان إليه فزاده ريدان إغراء به وقال: إنّه يريد [331] أن يجعل نفسه فى موضع كافور الإخشيدي ويجريك مجرى ابن الإخشيد فى الحجر عليك. ولم يزل بالحاكم حتى حمله على قتل أرجوان واستقرّ بينهما أن يستدعى أرجوان فى وقت الظهر بعد انصرافه إلى داره وأن يؤمر الناس بالركوب إلى الصيد ليتفرّقوا، فإذا حضر أمر بقتله. ففعل ذلك وقال الحاكم لريدان: - «إذا حضر أرجوان وتبعني إلى البستان فاتّبعه. فإذا التفتّ إليك فاغتله بالسكّين.» فبينما هما فى الحديث إذ دخل أرجوان فقال:   [1] . وفى الأصل: زيدان. وهذا غلط. وليراجع ابن القلانسي ص 55 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 - «يا مولاي الحرّ شديد، والبزاة لا تصيد فى مثله.» فقال: «صدقت، ولكنّا ندخل البستان ونطوف ساعة ونخرج.» فقام ومشى أرجوان خلفه ريدان بعده فأهوى ريدان عند التفات الحاكم إليه بالسكين إلى ظهر أرجوان فأطلعها من صدره. فقال أرجوان: - «يا مولاي غدرت.» وصاح الحاكم بالخدم وتكاثروا وأجهزوا عليه، وخرج الخدم الكبار، فردّوا الجنائب وبغال الموكب والجوارح. فسألهم شكر العضدي عن الحال فلم يجيبوه، فجاء الناس أمر لم يفهموه. وعاد شكر والموكب وشهر الجند سيوفهم وظنّوا حيلة تمّت لابن عمّار على الحاكم وأحاطوا بالقصر وعظم الأمر واجتمع القوّاد والوجوه. فلمّا رأى الحاكم زيادة الاحتياط ظهر من منظرة على أعلى الباب وسلّم على الناس، فترجّلوا له [332] وخدموه، وأمر بفتح الباب وأنفذ على أيدى أصحاب الرسائل رقاعا بخطّ يده إلى شكر وأكابر الأتراك والقوّاد مضمونها: - «إنّى أنكرت من أرجوان أمورا أوجبت قتله وقتلته. فالزموا الطاعة وحافظوا على ما فى أعناقكم من الأيمان.» فلمّا وقفوا عليها أذعنوا وسلّموا، واستدعى الحسين بن جوهر، وكان من شيوخ القوّاد، فأمره بصرف الناس. فصرفهم وعادوا إلى دورهم والنفوس خائفة وجلة من فتنة تثور بين المشارقة والمغاربة. ثم جلس الحاكم بعد عشاء الآخرة واستدعى الحسين بن جوهر وفهد بن ابراهيم، وتقدّم بإحضار الكتّاب فحضروا وأوصلهم إليه وقال لهم: - «إنّ فهدا كان كاتب أرجوان وهذا اليوم وزيرى، فاسمعوا له وأطيعوا.» وقال لفهد: - «هؤلاء الكتّاب خدمي، فاعرف حقوقهم وأحسن إليهم.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 وأمر بأن يكتب إلى سائر ولاة البلاد بقتل أرجوان وتسكينهم فى أعمالهم ونفّذت الكتب وسكن الناس وأمن ما خيف من الفتنة. وكان ذلك فى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. ومضى أرجوان كأنّه لم يكن ولو علم أنّ هلاكه على يد الحاكم لأقصر عن ذلك الاجتهاد فى حفظه. وربّ حافظ دواء داؤه فيه، وحامل سلاح حتفه به، وضنين بذخر وباله منه. ومع الأحوال كلّها فالإفراط [333] فى منع الملوك عن شهواتهم جناية، والإقصار عمّا يلزم من نصحهم خيانة، لكن بشرط الإقتصاد. وقد قيل: كثرة المراقبة نفاق، وكثرة المخالفة شقاق. وكم من شفيق على الملوك قد هلك بفرط شفقته وحبيب صار بغيضا بكثرة نصحه. ولم يبعد العهد بما شوهد من فعل الملك أبى كاليجار بخادمه المتلقّب بالمؤيد وقصته مناسبة لقصة أرجوان. وما أحسن الرواية التي تروى عن المأمون رضوان الله عليه، حين سأل جلساءه عن أرفه الناس. فقال كل واحد منهم قولا لم يعجبه فقال المأمون: - «أرفه الناس عيشا رجل أتاه الله كفاية لا يعرفنا ولا نعرفه.» وقال بعض العقلاء: - «مثل السلطان كمثل النار. فلا تقرب منها قربا تباشر فيه لهبا، ولا تعبد عنها بعدا تفقد معه ضوءها.» وجملة القول، أنّ القرب من الملوك عزّ مع تعب، والبعد منهم ذلّ مع راحة، والعيش فى الخمول، وتختلف الطباع فى هذا الاختيار، وكلّ امرئ ميسّر لما خلق له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 ذكر ما جرت عليه الأمور بعد قتل أرجوان [334] استوزر فهد بن ابراهيم وقدم الحسين بن جوهر ولقّبه بقائد القوّاد. ثم استمرّ الفتك منه بالناس، فقتل فى المدة اليسيرة العدد الكثير. واستحضر بعد أربعة أشهر الحسن بن عمّار من داره. فلقيه بالإحسان وأعطاه يده بالأمان وانصرف مسرورا إلى داره وركب الناس إليه يهنّئونه بالعفو عنه، ثم قتله بعد أسبوع. ثم قتل فهد بن ابراهيم بسعاية كاتبين من كتّاب الدواوين به، وولّاهما الأعمال ثم قتلهما. ثم قتل الحسين بن جوهر ولم يكن فى شرح أحوال قتلهما ما يستفاد منه تجربة، لأنّه اختباط واختلاط. ثم قتل عليّا ومحمدا ابني المغربي وأمر بإحضار أبى القاسم الحسين بن على صاحب الشعر والرسائل الذي وزر ببغداد وأخويه. فظفر بأخويه فقتلا واستتر الوزير أبو القاسم وما زال يعمل الحيلة حتى هرب مع بعض [أهل] [1] البادية وحصل عند الحسّان بن المفرّج بن الجرّاح واستجار به وأجاره. وقد كان فى نفس الحاكم ما جرى على عساكر مصر بباب حلب. فعوّل على يارختكين [2] العزيزي للخروج إلى الشام وقدمه وكثّر أمواله ونعمه وأمر وجوه القوّاد بتبجيله والترجّل فى موكبه. وكان فى جملة من أمر بخدمته والترجّل له علىّ ومحمود ابنا المفرّج [وجاءا] إلى أبيهما وعرّفاه ما أمرا به من الترجل ليارختكين والمشي بين [335] يديه وما لقياه من ذلك من المشقّة وانّ نفوسهما تأبى الصبر على   [1] . الكلمة زدناها. [2] . وعند ابن القلانسي هو «ختكين» والصواب «ياروغتكين» فى تاريخ الإسلام (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 هذه المذلّة ثم حذّراه يارختكين وتوجهه وقالا: - «إنّك لا تأمن أن ينتهز فيك فرصة ويستفحل أمره فينبو [1] بك وبنا المقام فى هذه الديار فدبّر أمرك فى فسحة من رأيك وعاجله فى الجفار قبل وصوله إلى الرملة واعتضاده بعساكرها.» وكان يارختكين سار فى عدّة قليلة على أن يجمع عساكر الشام ويسير بها إلى حلب، وصحبه أهله وماله وعدد كثير من التجّار. فلمّا توسط الجفار أشار أبو القاسم المغربي على حسّان بن المفرّج بلقائه وانتهاز الفرصة فيه. فسار حسان إلى أبيه وسهّل عليهما الأمر، فاجتمع رأيهما على ذلك. وجمعا العرب ورصدا وصول يارختكين إلى غزّة وعرف يارختكين الخبر فجمع ذوى الرأى من أصحابه وشاورهم. ذكر رأيين كلّ منهما سديد لو ساعد القدر فيه قال أحدهم له: - «إنّك من الرملة على عشرة فراسخ وبها خمسة آلاف رجل، وعندك خيول مضمّرة ولو أسريت ليلا لصبحت الرملة وحصلت فى قصرك آمنا، وعرفت العرب خبرك فهابوك وراقبوك، وسرنا بعدك على طمأنينة.» [336] فاعترض آخر وقال: - «هذا المرء اليوم فى ابتداء أمره فإذ [2] شاع بين الناس أنّه أشفق وهرب لم تبق له هيبة فى النفوس ولكن الرأى أن يستدعى قائدا من قوّاد الرملة فى ألف فارس ليلقانا بعسقلان.»   [1] . فى الأصل ومد: ينبوا. [2] . كذا فى مد: فإذ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 فاستقرّ الأمر على ذلك وكتب يارختكين إلى قائد يعرف بابن سرحان يستدعيه وأنفذ الكتاب مع رسول قدّر لوصوله وخروج ابن سرحان ثلاثة أيام. فاتّفق أنّ الرسول أخذ فى الطريق قبل وصوله إلى ابن سرحان. ذكر عجلة ضاع الحزم بها لمّا مضى يومان من الثلاثة التي قدّرها يارختكين سار على طريق الساحل وهو لا يشكّ فى تعجيل ابن سرحان إليه. وكان حسّان بن المفرّج قد عرف خبره. فبثّ الخيل من كلّ جانب، فوقعت على يارختكين وجرت بين الفريقين حرب شديدة كانت الغلبة فيها للعرب وأسر يارختكين وأخذ ولده وحرمه وأموال التجّار وجعل أكثر ذلك فى يد حسان. وعادت العرب إلى الرملة وشنّوا الغارة على رساتيقها وخرج العسكر الذي بها فقاتلوهم قتالا همّت العرب معه بالانصراف. ذكر رأى أشار به ابن [337] المغربي فى تلك الحال قال لهم الوزير أبو القاسم ابن المغربي: - «إن رحلتم على هذه الصورة وقع الطمع فيكم، وإن صبرتم حتى تفتحوا البلد خافكم الحاكم وملكتم الشام. والرأى أن تبادروا وتنادوا فى السواد وتسمعوا الشراة فى الجبال بإباحة النهب والغنيمة.» فقبلوا منه وحشروا فنادوا، فوافى خلق كثير وزحفوا إلى البلد وملكوه وأساؤا الملكة بالفتك والهتك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 وتأدى الخبر إلى الحاكم فانزعج وكتب إلى المفرج بن دغفل كتابا عاتبه فيه وحذّره سوء العاقبة وطالبه بانتزاع يارختكين من يد حسان وحمله إلى مصر ووعده على ذلك بخمسين ألف دينار. ذكر رأى لابن المغربي قصد به تأكيد الوحشة بين حسان وصاحب مصر قال لحسّان: - «إنّ والدك سيركب إليك ولا يبرح من عندك إلّا بيارختكين ومتى أفرجتم عنه وعاد إلى الحاكم ردّه إليكم فى العساكر التي لا قبل لكم بها.» فلمّا سمع حسّان ذلك- وكان فى رأسه نشوة- أحضر يارختكين بقيوده، فضرب عنقه صبرا. وأنفذ رأسه إلى المفرج. فشقّ عليه ما جرى وعلم فوت الأمر فأمسك. [338] ثم اجتمع الوزير أبو القاسم مع المفرج وأولاده وقال لهم: - «قد كشفتم القناع فى مباينة الحاكم ولم يبق من بعد للصلح موضع.» وأشار عليهم بمراسلة أبى الفتوح الحسن بن جعفر العلوي واستجذابه به إليهم ومبايعته على الإمامة، فإنّه لا مغمز فى نسبه، وسهل الخطب عليهم فى ذلك. ذكر ما جرى عليه أمر أبى الفتوح العلوي المتلقّب بالراشد بالله كان أبو الفتوح بمكّة أميرا. فمضى إليه ابن المغربي وأطمعه فى الأمر فطمع فيه. وجمع بنى حسن وشاورهم، فصبوا إلى العزّ وأعطوه أيديهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 بالبيعة. ثم عاد [1] الناس إليه وتلقّب بالراشد بالله، وصعد المنبر وخطب لنفسه. واتفق أنّ إنسانا موسرا توفّى تلك السنة بجدّة، ووصّى لأبى الفتوح من تركته بمال لكي يسلم الباقي لورثته. فمدّ يده إلى التركة فاستوعبها بمشورة ابن المغربي عليه بذلك وسار لاحقا بآل الجراح. فلمّا قرب من الرملة تلقّوه وقبّلوا الأرض بين يديه وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ونزل الرملة. ونادى فى الناس بأمان الخائفين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ونسى نفسه فى أخذ تركة التاجر بجدّة، إلّا أنّ الناس تراجعوا إلى معايشهم [339] وظهروا من استتارهم. وركب فى يوم الجمعة والمفرج وأولاده وسائر أمراء طىّ مشاة بين يديه حتى دخل المسجد ودعا ابن نباتة الخطيب [2] وأمره بصعود المنبر وأسرّ إليه بما لا يبدأ به [3] فصعد وقد طالت الأعناق. فحمد الله وأثنى عليه وقرأ: - بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ من نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ من الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ 28: 0- 6 [4] . ولمّا فرغ أبو الفتوح من الصلاة عاد إلى دار الإمارة.   [1] . لعله: دعا. [2] . قد كان توفى سنة 272 الخطيب المشهور (مد) . [3] . يريد بما يبدأ به. [4] . س 28 القصص: 1- 6. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 ونرى أنّ أبا الفتوح اتّبع فى هذا الاستشهاد بهذه الآيات محمد بن عبد الله بن حسن فيما جرى بين المنصور بالله وبينه من المكاتبات فإنّه استشهد بها. ويتضمن كتاب الكامل الذي صنفه أبو العباس المبرّد ذكرها [1] وقد نظر [2] المنصور فيها ولولا شرط الاختصار لذكرناها فإنّها عجيبة جدّا. وقد قارعا على الأحساب «والنبع يقرع بعضه بعضا» . وما أحسن أدب القائل حين دخل إلى المنصور بالله بعد قتل إبراهيم بن عبد الله بن [340] حسن بن حسن أخى محمد، والناس ينالون من ابراهيم والمنصور يكره كثيرا من ذلك فقال: - «أجرك الله يا أمير المؤمنين فى ابن عمّك وغفر له ما استحلّه من قطيعتك.» أو ما هذا معناه. فتهلّل وجه المنصور سرورا بصوابه، وقرّبه إليه من دون أصحابه. والله تعالى يقول: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» 8: 75 [3] . ذكر ما دبّره صاحب مصر عند وصول الخبر إليه لمّا تأدّى إلى الحاكم شرح ما جرى، عظم عليه وكبر لديه. وكتب إلى حسان ملطّفات وبذل له بذولا كثيرة، وإلى المفرج بمثل ذلك، واستمال آل الجرّاح جميعهم، وحمل إلى على ومحمود ابني المفرّج أموالا جزيلة حتى فلّهما عن ذلك الجمع وجعلهما فى حيّزه مع جماعة من العرب.   [1] . طبع مصر 1308، 2: 220. [2] . لعله: ناظر (مد) . [3] . س 8 الأنفال: 85. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 وبدأ أمر الحاكم يقوى وأمر أبى الفتوح يضعف، وبان له تغيّر آل الجرّاح عليه، وانضاف إلى ذلك ورود الخبر بنزول ابن عمّه على ملكه طالبا موضعه. ذكر تحاسد بين الأهل عاد بوبال [341] كان لأبى الفتوح ضدّ من بنى عمّه يعرف بابن أبى الطيب يخاطب بالإمرة وبينهما تحاسد وتنازع. فكتب إليه الحاكم فى هذا الوقت وقلّده الحرمين وأنفذ له ولشيوخ بنى حسن مالا وثيابا. فسار مع من انضوى إليه من بنى عمّه إلى مكّة وبها صاحب أبى الفتوح، فنازله وأسرعت النجب إلى أبى الفتوح بالخبر، فازداد قلقا وخاف خروج الحرمين من يده. وكان حسّان قد أنفذ والدته فى أثناء هذه الخطوب إلى مصر بتذكرة تتضمن أغراضه وسأل فى جملتها أن تهدى له جارية من إماء القصر. فأجابه الحاكم إلى جميع ما سأل من إقطاع وتقرير وأمضاه، وكتب له أمانا بخطّ يده وأهدى له جارية جهّزها بما بلغ قيمته مالا عظيما. فعادت والدة حسّان إليه بالرغائب له ولأبيه، فسرّ بذلك وأظهر طاعة الحاكم ولبس خلعه. وعرف أبو الفتوح الحال فأيس معها من نفسه، فركب إلى المفرج مستجيرا به وقال: - «إنّما فارقت نعمتي وأبديت للحاكم صفحتي سكونا إلى ذمامك، وأنا الآن خائف من غدر حسّان، فأبلغنى مأمنى وسيّرنى إلى وطنى.» فحفظ المفرج ذمامه وضمّ إليه من أجازه وأدّى القرى. فتلقّاه بنو حسن وأصحابه ومضوا إلى مكة واستقامت أموره بها وكاتب الحاكم واعتذر إليه فقبل عذره. وأمّا الوزير أبو [342] القاسم فإنّه استجار بالمفرج حتى سيّره إلى العراق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 وصبر الحاكم مدة يسيرة ثم جرّد العساكر مع على بن جعفر بن فلاح أخى أبى تميم ولقّبه قطب الدولة وسار فى عشرين ألف وتلقّاه على ومحمود ابنا المفرج طائعين. وكان الحاكم قد خدع كاتبا للمفرج يعرف بابن المدبّر، وبذل له بذولا على قتل المفرج بالسمّ. فتوصّل الكاتب إلى أن سقاه سمّا فمات وهرب ابن المدبّر إلى مصر ووفى له الحاكم بما وعده ثم قتله من بعد. وكذلك عاقبة من خان مولاه وباع دينه بدنياه، فهو يخسرهما جميعا ويحتقب إثما عظيما. واضمحلّ أمر حسّان وأخذت معاقله وصار طريدا شريدا مدّة حتى ضاقت عليه أرضه. فأنفذ والدته والجارية إلى مصر لائذا بالأمان واستشفع إلى الحاكم بأخته فشفعها فيه وأعطى والدته خاتمه وثياب صوف كانت على بدنه وعمامة على رأسه والحمار الذي يركبه. فعادت الجارية بجميع ذلك إليه وأقامت والدته. فبادر حسّان إلى الورود ودخل البلد على ذلك الحمار بتلك الثياب فعفا عنه وأعطاه أرضه واصطنعه وأقطعه وأعاده إلى الشام ولم يتعرّض حسّان بعدها بفساد إلى أن قتل الحاكم. ونعود إلى سياقة التاريخ. مسير خمارتكين إلى الرحبة والرقّة وفى هذه السنة المقدّم ذكرها [343] وردت كتب أهل الرحبة والرقّة إلى الحضرة باستدعاء من يسلمون إليه البلاد، فندب خمارتكين الحمصي للمسير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 ذكر ما جرى عليه أمره فى ذلك سار إلى الرحبة وملكها وأقام بها أيّاما ثم سار إلى الرقّة وبها سعد السعدىّ، فاعتصم بالرافقة وجرت بينه وبين خمارتكين وقعات ولم يتمّ فتحها وعاد إلى الرحبة. وقد بلغه اضطراب الأمور ببغداد فرجع واعترضه قوم من العرب فى رجوعه فأخذوه أسيرا فى أيديهم حتى افتدى منهم بمال. وفيها خرج أبو جعفر الحجاج بن هرمز إلى أعمال الموصل مع عدد كثير من العسكر وحصل بها. واجتمعت بنو عقيل وزعيمهم يومئذ أبو الدواد محمد بن المسيّب على حربه فجرت بينهما وقائع ظهر من أبى جعفر فيها شجاعة سار ذكره بها حتى إنّه كان يضع كرسيّا فى وسط المصافّ ويجلس عليه والحرب قائمة بين يديه وتمكّنت له فى قلوب العرب هيبة بذلك. واستنجد من الحضرة، فأنجد بالوزير أبى القاسم علىّ بن أحمد [1] واستقرّ الصلح مع العرب على المناصفة فيما قرب من أعمال الموصل وبقي أبو جعفر هناك إلى أن توفّى محمد بن المسيّب وعاد بنو [344] عقيل فأخذوا منه البلد. وفيها وصل الأشراف والقضاة والشهود إلى حضرة القادر بالله رضوان عليه، وسمعوا يمينه لبهاء الدولة بالوفاء وخلوص النيّة وتقليده ما وراء بابه ممّا تقام فيه الدعوة، وذلك بعد أن حلف له بهاء الدولة على صدق الطاعة والقيام بشروط البيعة.   [1] . هو أبو القاسم الأبرقوهى (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 ودخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة خروج الوزير أبى القاسم لقتال بنى عقيل وفيها خلع على الوزير أبى القاسم علىّ بن أحمد وندب إلى الخروج إلى الموصل وقتال بنى عقيل. ذكر السبب فى ذلك وما انتهى إليه الأمر فيه كانت الحال بين أبى القاسم وبين أبى الحسن المعلّم قد بدأت فى الفساد ودخلت بينهما بلاغات حلّت عرى الوداد. وكان أبو القاسم يجرى نفسه معه مجرى الكاتب حتى إنّه نزل يوما معه فى زبزبه، فجلس على الكهوار بين يديه والناس يشاهدونه ويتعجّبون منه. ووردت كتب أبى جعفر الحجاج باجتماع بنى عقيل عليه، فأشار أبو الحسن على بهاء الدولة بإخراج أبى القاسم [345] فتقدّم إليه بذلك وجرّد معه عددا كثيرا من طوائف العسكر وسار بعد أن ركب إليه بهاء الدولة وودّعه. فوصل إلى الموصل وخيّم بظاهرها واجتمع مع أبى جعفر وانصرف بنو عقيل وبدأ بإحكام قواعد الأمور، فلم يمهله أبو الحسن المعلّم حتى كاتب أبا جعفر بالقبض عليه. ذكر رأى سديد لأبى جعفر نظر فيه للعاقبة علم أبو جعفر أنّه إن فعل ذلك اضطرب الأمور وطمعت العرب ولم يمكنه الثبات، فتوقف وراجع أبا الحسن وأعلمه وجه الغلط فيما رآه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 واتصل الخبر بأبى القاسم بما يجرى من الخوض [1] فى بابه من عيون له على بهاء الدولة وأبى الحسن وخواصّهما [2] وعوّل على مهادنة بنى عقيل وأخذ رهائنهم وعمل على الانكفاء إلى بغداد. ولمّا رأى أبو الحسن أنّ أبا جعفر قد توقّف عمّا كاتبه فيه، فأخرج أبا الفتح محمد بن الحسن الحاجب إليه ليلزمه إمضاء العزيمة فيما أمره به. فحكى أبو نصر محمد بن على بن سياجيك وكان كاتب أبى القاسم يومئذ، قال: لمّا وصل الخبر إلينا بما تقرّر من خروج أبى الفتح محمد بن الحسن [346] على القاعدة المذكورة، ثم تلاه كتاب من تكريت بوصوله إليها، خاف أبو القاسم وأشار عليه من يثق به بالهرب. ففرقت نفسه عنه، وعزم على الانكفاء إلى بغداد ولم يأمن أن يظهر فيمنعه أبو جعفر. ذكر ما رتّبه أبو القاسم من الحيلة حتى تمّ له الانحدار راسل أبا جعفر وقال له: - «قد توقف محمد بن المسيّب عن تفرقة العرب من حوله وتسليم ما وقف على تسليمه من النواحي وقال: لست فاعلا ذلك إلّا بعد أن تنحدر أنت ومن معك من العسكر وآمن انتقاض ما تقرر، وقد عزمت على أن أنتقل بمعسكرى من موضعه وأظهر الانحدار، فليكن أدعى إلى سكونه.» فاستصاب أبو جعفر رأيه وأمر أبا القاسم بالرحيل ليلا وأصبح على عشرة فراسخ من الموصل.   [1] . فى الأصل: الخواص. [2] . وفى الأصل: من خواصهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 فراسله أبو جعفر وعاتبه على فعله. فردّ عليه جوابا معللا بالاعتذار وقال: - «إنّ الأولياء طالبوني بالانحدار ولم يمكن مخالفتهم.» ووصل إلى الحديثة وقد نزلها أبو الفتح الحاجب فخرج وتلقّى الوزير وخدمه وأعطاه كتابا من بهاء الدولة مضمونه: - «إنّ الأمور قد [347] وقفت ببعدك وخيّل لنا أنّ أبا جعفر منعك من العود ولم يقف عند ما تدبّره به. فأنفذنا أبا الفتح ليواقف أبا جعفر على طاعتك والرضاء [1] بما تقرره ليتعجّل عودك.» فوقف أبو القاسم على الكتاب. فلمّا نزل مخيّمه استدعى أبا الفتح وراوضه على أن يصدقه عن باطن الأمر وبذل له ثلاثة آلاف دينار. فحلف له أبو الفتح على تقابل الظاهر والباطن فيما أوصله إليه. فقال أبو نصر: فاستدعاني الوزير بعد خروج أبى الفتح من عنده وقال لى: - «قد ورد هذا الكتاب بما قد علمته وقد كتب أصدقاؤنا ونصحاؤنا بما عرفته فما الرأى؟» قلت له: - «ليس إلّا مراسلة أبى الدواد فإنّه نازل بازائنا، وأخذ الذمام منه والعبور إليه والمقام عنده ثم تدبير الأمر مع الأمن.» فقال: - «لعمري إنّ هذا هو الرأى الذي توجبه الخبرة فى حراسة النفس ولكنّى أستقبح ذلك وسأدخل بغداد متوكّلا على الله تعالى.» ثم ورد الخبر فى أعقاب ذلك بالقبض على أبى الحسن المعلّم وقتله.   [1] . كذا فى الأصل ومد، بالمدّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 فدخلت إلى الوزير فأقرأنى الكتاب الوارد بذكر ذلك وعنده من يحتشمه فأظهرت وجوما. فلمّا خلا عدت إليه وفى وجهى آثار الاستبشار، ووجدته مفكرا مطرقا فلما رآني قال: - «أظنّك قد سررت بما ورد.» قلت: «نعم.» قال: «وما ذاك مما يسرّ، لأنّ ملكا قرب رجلا [348] كما قرب بهاء الدولة أبا الحسن وفوّض إليه التفويض الذي رأيته ثم أسلمه للقتل بمرأى عينه لحقيق بأن تخاف ملابسته.» وفيها ورد أبو العلاء عبيد الله بن الفضل قادما من الأهواز وكان أبو الحسن المعلّم قد مدّ عينه إلى حاله وماله واستدعاه للقبض عليه. ذكر تدبير جيّد سلم به أبو العلاء عبيد الله بن الفضل لمّا أحسّ أبو العلاء بما همّ به أبو الحسن ملأ عينه بالتحف والملاطفات وعمل الدعوات المترادفات وسلك معه سبيل التذلل والمخادعة حتى اندفعت عنه النكبة وتجدّد من قتل المعلّم ما كفى به أمره. وفيها أفرج عن أبى الحسن محمد بن عمر العلوي. وفيها قبض على أبى الحسن المعلّم وقتل. شرح حال أبى الحسن المعلم فى القبض عليه وقتله كان قد استولى على الأمور الاستيلاء الذي تقدّم ذكره ووتر القريب والبعيد وخنق أبا على ابن شرف الدولة بيده وأفسد نيّات وجوه العسكر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 والرعيّة [349] وفعل الأفاعيل المنكرة وأملى له حتى امتلأت صحيفته. فشغب الجند فى هذا الوقت وبرزوا إلى ظاهر البلد وراسلوا بهاء الدولة بالشكوى منه وطالبوه بتسليمه إليهم فأخذهم باللطف ووعدهم بإزالة شكواهم وأن يتولّى بنفسه أمورهم ويقتصر أبو الحسن المعلّم على خدمته فيما يخصّه. فلم يقنعوا، فبذل لهم أن يبعده عن مملكته إلى حيث يأمن على مهجته ويبلغ الجند مرادهم ببعده ولا يتقبّح هو بتسليمه وقتله. فكان جوابهم أخسّ من القول الأول. فقال بكران لبهاء الدولة وكان السفير بينه وبين العسكر: - «أيّها الملك إنّ الأمر على خلاف ما تقدّره وأنت مخيّر بين بقاء أبى الحسن وبين بقاء دولتك، فاختر أيّهما شئت.» فقبض عند ذلك على أبى الحسن وعلى جميع أصحابه وأسبابه وظنّ أنّهم يرضون ويعودون. فلم يفعلوا وأقاموا على المطالبة بتسليمه إليهم فتذمّم من ذلك وركب بنفسه ليسألهم العود والاقتصار على ما جرى من القبض على المعلّم فلم يقم أحد منهم إليه ولا خدمه وأبوا أن يرجعوا إلّا بعد تسليمه. فسلّم حينئذ إلى أبى حرب شيرزيل [1] وسقى السمّ دفعتين فلم يعمل فيه، فخنق بحبال الستارة ودهمه أحد الغلمان بسكين فقضى نحبه وأخرج ودفن. ثم عاد [350] الجند إلى منازلهم وسكنت الفتنة. ولو أنّ بهاء الدولة اقتصد فى أمر هذا المعلّم لكان ذلك أحسن بداية وأجمل توسّطا وأحمد عاقبة وآمن مغبّة وأطيب أحدوثة. ولكنّه أخطأ باختيار من لا خير فيه، ثم أفرط فى تقريبه ثم أسرف فى تمكينه، لا جرم   [1] . فى الأصل (سريريل) والصواب فى تاريخ هلال الصابي (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 أنّ السمعة ساءت والرقية رفعت والحشمة ذهبت والوصمة بقيت ولم يسلم المعلّم مع ذلك كلّه. فيا قرب ما بين العزّ وهذا الهوان وذلك الإكرام وهذا الإسلام! «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» 44: 29 [1] . تسليم الطائع إلى القادر وإنزاله فى حجرة وفيها سلم الطائع إلى الخليفة القادر بالله رضوان الله عليه وأنزله فى حجرة من حجر خاصّته ووكّل به من يحفظه من ثقات خدمه. وأحسن ضيافته ومراعاة أموره حتى إنّه كان يطالب من الخدمة بمثل ما كان يطالب به أيّام خلافته وكان القادر بالله رضوان الله عليه، يتفقّد ما يقام له ويقدّم بين يديه أكثر تفقّد مما يخصّ به نفسه. وأقام على ذلك إلى أن توفّى رضوان الله عليه. وفيها ورد الوزير أبو القاسم على بن أحمد والعسكر فى صحبته. [351] ذكر ما جرى عليه أمر الوزير أبى القاسم وما استقرّ فى أمر النظر بعد القبض عليه ورد وعنده أنّه قد كفى ما يحاذره بهلاك المعلّم وكان بهاء الدولة قد نقم عليه لأسباب أكّدها المعلّم فى نفسه، أحدها ما كان منه بمقاربة بنى عقيل ثم صحّ فى نفسه أنّ الشغب الواقع من العسكر كان بكتبه ورسائله إليهم. فقبض عليه وخلع على أبى عبد الله [2] الحسين بن أحمد وردّ إليه العرض   [1] . س 44 الدخان: 29. [2] . وفى الأصل «أبى عبد الله بن الحسين» وهو غلط (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 وأقرّ أبا الحسن على [1] بن سهل الدورقي على رسمه فى نيابة الوزارة. وخوطب أبو منصور ابن صالحان على تقلّد الأمر، فاستعفى فاستقرّ الأمر على استدعاء أبى نصر سابور، وكان قد صار إلى البطيحة مستوحشا من المعلّم فكوتب بالحضور فحضر. وأشير على بهاء الدولة بالجمع بينه وبين أبى منصور ابن صالحان فى الوزارة. فأمر بذلك بعد أن قرّره معهما وخلع عليهما جميعا وطرح لهما دستا كاملا وكانا يتناوبان فى تقديم اسم أحدهما على الآخر فى المكاتبات. ذكر القبض على أبى القاسم بشيراز وفيها قبض صمصام الدولة على أبى القاسم العلاء بن الحسن بشيراز. [352] ذكر ما جرت عليه الحال فى ذلك كان العلاء بن الحسن غالبا على أمر صمصام الدولة ووالدته كثير الإفضال على أصحابه وحاشيته. ولم يكن مع ذلك مغضيا لهم على أمر يحلّ عرى السياسة. وكان قد اصطنع أبا القاسم الدلجى واستصحبه من الأهواز لما أعاده شرف الدولة إلى شيراز وقدّمه وقرّبه. ثم ولّاه ديوان الإنشاء حين حصل صمصام الدولة بشيراز وخلع عليه ورتّبه فى ذلك ترتيب الوزراء ومضى الأمر على هذا زمانا. وتبسّط الرضيع وسعادة وكتّاب السيدة والدة صمصام الدولة واستولوا   [1] . فى الأصل: بن على. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 وطالبوا العلاء بما تقصر المادّة عنه وتضطرب الأمور معه. فضاق مجال قدرته عن اقتراحاتهم ففسدت الحال بينه وبينهم لأجل ذلك، وشرعوا فى فساد أمره، فوجدوا عند أبى القاسم الدلجى مساعدة لهم عليه عند صمصام الدولة طمعا فى حاله وحال [من] دونه فقبض عليه وعلى كتّابه وحواشيه وعلى ابنته وزوجة العلوي الرازي، وطولبوا أشدّ مطالبة وعوقبوا أشدّ معاقبة حتى تلفت ابنته وجماعة من أصحابه تحت الضرب. وبقي العلاء معتقلا فى بعض المطامير [353] لا يعرف له خبر. إلى أن فسد أمر أبى القاسم الدلجى فتغيّر رأى السيدة والدة صمصام الدولة وقبض عليه فى سنة ثلاث وثمانين وأفرج عن العلاء بن الحسن وردّ إليه النظر. ذكر ما جرى عليه أمر العلاء بن الحسن فى عوده إلى الوزارة أخرج من محبسه وقد ضعف بصره وحصل فى دار السيدة وعولج حتى برئ وخلع عليه وردّ إلى الوزارة وصحب صمصام الدولة إلى الأهواز. ثم رجع إلى أرّجان فأقام بها على النظر فى أمور فارس. فلمّا جرى ما جرى بتلّ طاؤوس وعاد الديلم منهزمين وانهزم صمصام الدولة إلى شيراز، فسار العلاء إلى الأهواز وقاتل عسكر بهاء الدولة ثم مات بعسكر مكرم. ولم تخلص نيّته لصمصام الدولة بعد ما لحقه وابنته وأهله، بل أهلك دولته بإقطاع الإقطاعات وإيجاب الزيادات وتمزيق الأموال وتسليم الأعمال، وتأدّت أمور صمصام الدولة إلى الاضطراب وأحواله إلى الاحتلال. وهكذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 يعيس [1] فى فساد الأمور كلّ حنق موتور. ورود الخبر بنزول ملك الروم على خلاط وأرجيش وفيها ورد الخبر بنزول ملك الروم على خلاط وأرجيش وأخذهما وانزعج الناس لذلك، ثم ذكر من بعد [354] استقرار الهدنة بين أبى على الحسن ابن مروان وبينه مدة عشر سنين وانصرف عن الأعمال. [2] ودخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة استيلاء أولاد بختيار على القلعة وفيها ورد الخبر باستيلاء أولاد بختيار على القلعة التي كانوا معتقلين فيها ومسير أبى [على] الحسن بن أستاذ هرمز من شيراز إليهم والقبض عليهم وقتل نفسين منهم. ذكر الحال فى ذلك وما انتهى إليه أمرهم قد تقدّم ذكر حال هؤلاء القوم واحسان شرف الدولة إليهم بالإفراج عنهم ولمّا همّ بقصد العراق أخرجهم إلى بعض دور شيراز وجعل معايشهم وإقطاعاتهم منها. فلمّا توفى قبض عليهم وحبسوا فى قلعة خرشنة فكانوا فيها إلى أن مضى صدر كبير من أيّام صمصام الدولة.   [1] . فى مد: عيسى (كذا) . [2] . يبدو فى العبارة اضطراب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 ذكر حيلة عملها أولاد بختيار ملكوا بها القلعة [355] استمالوا حافظ القلعة ومن كان معه من الديلم فطاوعوهم فأفرجوا عنهم. ثم أنفذوا إلى أهل تلك النواحي المطيفة بالقلعة وأكثرهم رجّالة أصحاب سلاح ونجدة، فاجتذبوا منهم عدّة كثيرة واجتمعوا تحت القلعة. وعرف صمصام الدولة الخبر فأخرج إليهم أبا على ابن أستاذ هرمز فى عسكر وسار. فلمّا قرب من القلعة تفرّق من كان اجتمع تحتها من الرجال وتحصّن بنو بختيار والديلم فيها ونزل أبو على عليها محاصرا ومحاربا. ذكر ما دبّره أبو على ابن أستاذ هرمز فى فتح القلعة راسل أحد وجوه الديلم الذين فى القلعة وأطمعه فى الإحسان والزيادة فى المنزلة. فاستجاب له وواقفه على أن ينزل إليه حبلا من أعلى القلعة ليرتقى به الرجال إلى بابها وكان على سنّ من الجبل. فلمّا دنا الحبل خاطب أبو على ابن أستاذ هرمز جماعة من الذين معه على الصعود، فتوقّفوا حتى ابتدر [1] أحد أصحابه فصعد. فلمّا دنا يقرب من الباب اضطربت يده على الحبل فخرّ متردّيا وأحجم الباقون. فصبّ بين أيديهم أموالا وبسط [356] منهم آمالا وابتدر [2] قوم من أصحابه فيهم لوثة وجرأة، فصعدوا إلى القلعة واحد بعد واحد حتى حصل عدد منهم على الباب. ففتح لهم ودخلوا القلعة وملكوها، فقبض على أولاد بختيار وكانوا   [1] . لعله: انتدب. [2] . لعله: وانتدب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 ستّة. وكتب كتابا بالفتح إلى صمصام الدولة فأنفذ فرّاشا تولّى قتل نفسين من أولاد بختيار وأنفذ الباقون إلى قلعة الجنيد فاعتقلوا فيها. وفيها ندب أبو العلاء عبيد الله بن الفضل للخروج إلى الأهواز وخلع عليه. ذكر السبب فى ذلك كانت بين الشريف أبى الحسن محمد بن عمر وبين [أبى] العلاء عبيد الله عداوة ومباينة وتقدّم أبو العلاء عند بهاء الدولة وقرب منه بخدمته له. فاجتمع أبو الحسن محمد بن عمر وأبو نصر سابور الوزير واتفقا على الشروع فى إبعاده. فأرسل الوزير أبو نصر سابور الأستاذ الفاضل أبا نصر الحسين بن الحسن إلى بهاء الدولة وقال له: - «قل للملك: أنا أعلم ما فى نفسك من أمر فارس وقد انحلّ أمر صمصام الدولة ومضى أكثر أعوانه ولك عشرون ألف ألف درهم معدّة: منها ما آخذه من أبى محمد ابن مكرم والمتصرفين بالأهواز، ومنها ما وجوهه لائحة. والتدبير فى هذا الأمر أن يخرج أبو العلاء إلى الأهواز كأنّه عائد [357] إليها للمقام بها ويجرّد معه قطعة من العسكر ثم تتبعه بعد مدة بطائفة أخرى. فإذا تكاملت العساكر هناك أظهرنا حينئذ ما نظهره.» وسار أبو العلاء من الأهواز فأعجل القوم عن أهبة واستعداد. فأعاد الأستاذ الفاضل أبو نصر على بهاء الدولة ما ذكره سابور، فتشوّفت نفسه إليه وتعلّق طمعه به، وأمر فى الجواب بما يجب ترتيبه، وكتب بالقبض على أبى محمد ابن مكرم وأصحابه، وتقدّم إلى أبى العلاء بالمسير بعد أن أعلم بباطن التدبير واستكتمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 ذكر تفريط من أبى العلاء فى إذاعة سرّ عجّل به قال الأستاذ الفاضل: فو الله لقد خلع علىّ وسرت فى موكبه إلى داره. فما استقرّ فى مجلسه حتى دخل أبو الحسين شهرستان بن اللشكرى لتهنئته. فقال: - «يا با الحسن أىّ دار تريدها بشيراز.» فغمزته فتنبّه واستدرك وقال لشهرستان: - «إنّما أردت بالأهواز.» ولم يخف الخبر وشاع. فإنّ القول كالسهم، إذا نفذ على كبد القوس فات. وأقام أبو العلاء فى معسكره أيّاما كثيرة ولم يخرج معه أحد، وبطل ما كان سابور بذله فى أمر المال [358] وحصوله. وخرج أبو العلاء بعد ذلك فى شر ذمة قليلين. فسار إلى الأهواز فما وصلها إلّا وقد عرف الخبر بفارس ووقع الشروع من هناك فى المسير إلى العراق. وفيها جلس القادر بالله رضوان الله عليه، لأهل خراسان عند عودهم من الحجّ وخوطبوا على أمر الخطبة وإقامتها، وحملوا رسالة وكتبا إلى صاحب خراسان فى المعنى. شغب الديلم وفيها شغب الديلم لأجل النقد وفساد السعر وغلائه [1] وتأخّر العطاء، ونهبوا دار الوزير أبى نصر سابور وأفلت منهم ناجيا بنفسه، وراسلوا بهاء   [1] . وفى الأصل: وغلاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 الدولة بتسليمه وتسليم أبى الفرج محمد بن علىّ الخازن [1]- وكان ناظرا فى خزانة المال ودار الضرب- وتردّد القول بينهم إلى أن وعدوا بالإطلاق وتجويد النقد، وسكنت الفتنة. واستمرّ سابور على استتاره وروسل وهو مستتر بتسليم أبى القاسم على بن أحمد وكان سلّم إليه ليعتقله عنده فسلّمه، وحمل فى هذا الوقت إلى الخزانة فى دار المملكة. ولمّا جرى على سابور ما جرى استعفى أبو منصور ابن صالحان من التفرّد بالنظر وأظهر العجز عنه. وكانت الإقامات قد زادت على قدر المادّة وأحوجت النظّار إلى التسكع فيها. وصارت الهمّة جميعها مصروفة إلى ما يحصل لأبى العبّاس أحمد بن علىّ وهو الوكيل فى هذا الوقت. فبدأ عند ذلك أبو القاسم علىّ بن أحمد [359] فى طلب العود إلى الوزارة وراسل بهاء الدولة وبذل له أن يكفيه الاهتمام بأمر الإقامة متى مكّنه وبسط يده. فاشرأبّت نفس بهاء الدولة لذلك فأحاله إليه واستوزره وخلع عليه. ذكر ما جرى عليه أمر أبى القاسم علىّ ابن أحمد فى هذه الوزارة قبض على جماعة من الكتّاب والمتصرّفين وأخذ منهم مالا مبلغه ستّة آلاف [2] درهم وأحضر أبا العبّاس الوكيل وقرّر عليه تقريرا صالحا عن نفسه وأعطاه وأقام له وجوها بالإقامة لمدّة أربعة أشهر وأخذ خطّه باستيفاء ذلك وأنفذه إلى بهاء الدولة فحسن موقعه عنده وملك به رأيه وقلبه. لكنه أفسد   [1] . تقلد البصرة فى أواخر سنة 402: ارشاد الأريب 2: 120 (مد) . [2] . لعله سقط: ألف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 قلوب الحواشي وأبعد بعضهم ومضت على ذلك مدّة وحالة تزداد عند بهاء الدولة تمكّنا واستقرارا وتزداد قلوب الحواشي منه استيحاشا ونفارا. وكان قد قلّد أبا محمد الحسن بن مكرم البصرة حربا وخراجا فى أعجاز نكبته بالأهواز وأمره بالقبض على أبى عبد الله ابن طاهر وكان ناظرا بالبصرة فقبض عليه وحبسه. ذكر سبب وجد به الحواشي طريقا [360] إلى فساد حال الوزير أبى القاسم ورد الخبر أنّ أبا عبد الله ابن طاهر قتل فى محبسه، وأنّه وضع عليه قوما دخلوا إليه وفتكوا به. فوجد الحواشي سبيلا إلى الوقيعة فى الوزير وعرّفوا بهاء الدولة من قتل [1] أبى عبد الله على الوجه القبيح ما غيّر رأيه فقال: - «قد قتل فى تلك الكرّة المعلم وفى هذه الكرّة ابن طاهر أفتراه بمن يثلّث؟» وانتهى هذا القول إلى أبى القاسم من عيون كانت له فى الدار بحضرة بهاء الدولة. فخاف وهرب فى ليلة يومه. ذكر ما جرت عليه الأمور بعد هرب الوزير أبى القاسم علىّ بن أحمد وعود أبى نصر سابور [2] قصد أبو نصر سابور دار بكران واستعاذ به حتى أصلح له قلوب الديلم   [1] . وفى الأصل: قبل. [2] . قال صاحب تاريخ الإسلام: وفى هذه السنة ابتاع الوزير أبو نصر سابور دارا بالكرخ وعمرها وسمّاها دار العلم ووقفها على العلماء ونقل إليها كتبا كثيرة (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 وأمن جانبهم وظهر من داره. وأفرج عن الجماعة الذين اعتقلهم الوزير أبو القاسم ورتّب فى كلّ من الدواوين كاتبا يتولّى أمره ونظر هو فى الخبر والبريد والحماية ظاهرا، وفى تدبير الأمور وتقريرها وتنفيذها باطنا. فكانت الجماعة يصدرون عنه ويوردون إليه وجرت الحال على هذا الترتيب [361] أشهرا ثمّ تظاهر بالعمل. وفيها وردت كتب أبى العلاء عبيد الله بن الفضل ويذكر فيها مسير عساكر فارس مقبلة إلى الأهواز ويحثّ على إمداده بالعساكر. ذكر ما دبّره بهاء الدولة فى ذلك ندب أبا طاهر دريده شيرى. [1] للخروج إلى الأهواز فى جماعة من الديلم وجرّد أبا حرب شيرزيل إلى البصرة. وورد الخبر بانفصال عسكر فارس من أرّجان فأمر بهاء الدولة بإخراج مضاربه ثمّ ورد الخبر بحصولها برامهرمز. فندب طغان الحاجب فى عدد كثير من الغلمان وخلع عليه وأخرج معه عيسى بن ماسرجس [2] ناظرا فى خلافة الوزارة وأخرج ما فى الخزائن من الأوانى الذهب والفضة فكسرت وضربت دنانير ودراهم وفرّقت عليهم. ثم ورد الخبر بدخول عساكر فارس وعليهم أبو الفرج محمد ابن علىّ بن زيار إلى الأهواز، وهزيمة أبى العلاء عبيد الله بن الفضل وحصوله أسيرا فى أيديهم.   [1] . وفى الأصل دربرشيرى. [2] . وفى الأصل: ماسرجيس. هو أبو العباس وله قصّة مع أحمد النهرجورى الشاعر ومع ابن حاجب النعمان: إرشاد الأريب 2: 120 و 5: 260 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 ذكر ما جرى عليه أمر أبى العلاء بعد الأسر والاتّفاق الذي سكن به [362] لمّا أسره أبو الفرج ابن زيار حمله إلى شيراز وصمصام الدولة بدولت آباد [1] للتوجّه على سمت العراق فأدخل المعسكر على جمل وقد ألبس ثيابا مصبّغة وطيف به وكلّ أحد لا يشكّ أنّه مقتول. فاتفق أنّه أجيز على خيم السيدة والدة صمصام الدولة فأومئ بيده كالمستغيث المسترحم. فبدرته قهرمانة من الديلميات بالسبّ فسمعتها السيدة فأنكرت قولها عليها. وتقدّمت بحطه عن الجمل ونزع الثياب المصبوغة عنه وإلباسه غيرها وحمله إلى القلعة واعتقاله بها وإحسان مراعاته فيها. فكان فعل هذه المرأة سبب حياته والإبقاء عليه. ولمّا ورد على بهاء الدولة خبر كسر عسكره بالأهواز وأسر أبى العلاء انزعج انزعاجا شديدا وتقدّم إلى طغان بالمسير. ورأى خلو خزائنه من المال وحاجته إليه. فأمر الوزير أبا نصر بالانحدار إلى واسط واجتذاب ما يلوح له وجه منه ومراسلة مهذّب الدولة والاستدانة منه على رهن يجعل له عنده وسلّم إليه من الجوهر والآلات كل خطير. عقد القادر بالله على ابنة بهاء الدولة وفيها عقد القادر بالله رضوان الله عليه على ابنة بهاء الدولة [2] بصداق   [1] . قال ياقوت فى معجم البلدان: دولتاباذ موضع ظاهر شيراز تسير إليه العساكر إذا أرادوا الأهواز. [2] . وفى تاريخ الإسلام أنّ اسمها «سكينة» وفيه أيضا أنّ هذه السنة بلغ كرّ القمح ستة آلاف وستمائة درهم غياثية والكارة الدقيق مائتين وستين درهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 مائة ألف دينار بحضرته والولىّ الشريف أبو أحمد ابن موسى الموسوي وتوفّيت قبله النقلة. [363] ودخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة مصاهرة بين المهذّب والبهاء وفيها وقع العقد لمهذّب الدولة أبى الحسن على ابنة بهاء الدولة وللأمير أبى منصور ابن بهاء الدولة على ابنة مهذّب الدولة. وكل عقد منهما كان على صداق مائة ألف دينار وحمل المهذّب بالمبلغ مالا وغلّة، وخطب له بواسط وأعمالها واحتسب له من مال ضماناته بأسفل واسط بألف ألف وثلاثمائة ألف درهم غياثية منسوبة إلى الإقطاع. وكان عيار الدرهم الغياثى ثمانية ونصف حرفا [1] فى كل عشرة. مراسلة بين البهاء والفخر وفيها أشار أبو نصر خواشاذه على بهاء الدولة بمراسلة فخر الدولة باستصلاحه واستكفافه عن مساعدة صمصام الدولة فاستصوب ذلك ورسم له السفارة فيه. فاختار أبا الحسن الأقسيسى [2] العلوي للخروج فى الرسالة نيابة عن أبى نصر خواشاذه وخرج الأقسيسى فقبل أن يصل إلى مقصده قبض عليه. ذكر السبب فى ذلك كان بين أبى نصر خواشاذه وبين أبى نصر سابور صداقة ومخالطة. [364]   [1] . كذا في مد. [2] . قال ياقوت معجم البلدان: الاقساس قرية بالكوفة ينسب إليها جماعة من العلويين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 فلمّا انحدر أبو نصر سابور إلى واسط هرب إلى البطيحة فوجد أعداء أبى نصر خواشاذه طريقا إلى السعى فحسّنوا لبهاء الدولة القبض عليه. فتأمّل هذه الآراء الطريفة والأهواء العجيبة فى تقارب ما بين القبض والإطلاق والعزل والتولية حتى صار الأمر عجبا والجد لعبا. على أنّ الحياة الدنيا لعب ولهو ولكن فى اللعب مستقيم ومختلّ. وهذا من المختل الذي تخالفت أعجازه وبواديه، وتناقضت أواخره ومباديه. فهل ترى فى جميع ما شرد من أخبار الدولة البهائية نظاما مستقيما تحمد سلوك مذاهبه وتدبيرا جيّدا ينتفع بمعرفة تجاربه؟ كلّا فجميعه واهي الأسباب وما يجرى فيه من صواب فإنّما هو بالاتّفاق. ونعود إلى سياقة التاريخ. وفيها سار طغان والغلمان من واسط إلى خوزستان. شرح ما جرى عليه أمره فى هذا الوجه وظفرهم بعساكر صمصام الدولة وانهزامه من بين أيديهم لمّا شارفوا السوس انهزم أصحاب صمصام الدولة عنها ودخلوها [365] وتقدّم ارسلان تكين الكركيرى فى سريّة من الغلمان إلى جندي سابور ودفعوا من كان بها وانتشرت الأتراك فى أعمال خوزستان وعلت كلمتهم وظهرت على الديلم بسطتهم. ووصل صمصام الدولة إلى الأهواز وقد اجتمعت معه جيوش الديلم وبنو تميم وبنو أسد. فلمّا حصل بدستر [1] رحل ليلا على أن يسرى فيكبس معسكر الأتراك.   [1] . كذا فى مد. لعله: بتستر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 ذكر اتفاق سيىء عاد بضدّ التقدير ضلّ الادلّاء الطريق وساروا طول ليلتهم على حيرة وأسفر الصبح عنهم وبينهم وبين معسكر الأتراك مدى بعيد. وشاهد [1] بعض طلائع طغان بسواد العسكر فكرّ إليه راجعا وأخبره وقال: - «تأهب لأمرك فإنّ الديلم قد صبّحوك موكبا.» فركب وتلاحق به الغلمان واستعاد كلّ من كان قد ذهب ممتارا فاجتمعوا حوله فكانوا نحو سبعمائة غلام والديلم ومن معهم فى ألوف كثيرة. فصعد أرسلان تكين الكركيرى تلّ طاؤوس فوقف عليه وقسم طغان الغلمان كراديس وأنفذ كردوسا مع يارغ [2] وقال له: - «سر عرضا وأخرج على الديلم من ورائهم وبلبلهم فى سوادهم لنشاغلهم نحن عن أمامهم. فإذا حملت [366] حملنا عليهم.» فسار على ذلك ووقف طغان والغلمان بين يديه يطاردون الفرسان، وزحف الديلم فملكوا التلّ ونزل أرسلان تكين الكركيرى عنه ووقف صمصام الدولة عليه ووقع يارغ وكردوسه على السواد وحمل على المصافّ وحمل طغان والغلمان وكانت الهزيمة. ووقف سعادة وعنان صمصام الدولة فى يده متحيّرا ما يدرى ما يصنع. فقال له يارغ بالفارسية: - «ما وقوفك يا حجّام خذ صاحبك وانصرف.» فولّى عند ذلك صمصام الدولة ومضى ولم يتمكّن رجّالة [صمصام] الدولة   [1] . لعله: وشعر. [2] . وفى الأصل: يارخ (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 من الهرب مع إرهاق الأمر واشتداد الطلب وكدّ السير. فاستأمن منهم أكثر من ألفى رجل وتقطّع الباقون وغنم الأتراك غنما عظيما. ذكر ما دبّره الغلمان فى قتل المستأمنة إليهم من الديلم لمّا اجتمع الديلم المستأمنون إلى خيم ضربها طغان لهم تشاور الغلمان فيهم فقالوا: - «هؤلاء قوم موتورون وعدّتهم أكثر من عدّتنا، وإن استبقيناهم معنا خفنا ثورتهم، وإن خلّينا عنهم لم نأمن عودتهم.» فاستقرّ رأيهم على القتل وطرحوا الخيم عليهم ودقّوهم بالأعمدة حتى أتوا عليهم. فكانت هذه [367] الوقعة أخت وقعة الحلبة فى كثرة من قتل من الديلم [1] ووردت الأخبار فى أمثالها وسار طغان إلى الأهواز فدخلها واستولى على جميع أعمالها وعادت طائفة من الغلمان إلى مدينة السلام. ذكر ما فعله بهاء الدولة عند حصوله بواسط استقرض من مهذّب الدولة مالا بعد القرض الأول واستقرّ بينهما فى أمر البصرة أن يحدر بهاء الدولة عسكرا ويضمّ مهذّب الدولة إليهم عددا من رجاله. فجرّد أبا كاليجار المرزبان لذلك فى طائفة من الجند ورتّب مهذّب الدولة أصحابه معهم وانحدر الجماعة. وكان أبو الطيب الفرّخان قد وصل من سيراف فى البحر وملك البصرة   [1] . ووقعة الحلبة انهزم فيها قوم خرجوا من بغداد لقتال البساسيرى فى سنة 450 وقتل منهم جماعة. ليراجع الكامل لابن الأثير 9: 441 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 فواقعوه بنهر الدير وكان الظفر لهم ودخل المرزبان بن شهفيروز البصرة وخطب لمهذّب الدولة بها تاليا لبهاء الدولة. ولمّا ورد الخبر على بهاء الدولة بهزيمة صمصام الدولة رحل سائرا إلى الأهواز وآثر أن يبتدئ بالبصرة فقصدها ونزل بها. [368] ذكر ما جرى عليه أمر الوزارة فى البصرة فى هذه السنة استوزر بهاء الدولة عند حصوله بها أبا الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه ونظر فى السابع من شعبان واعتزال فى الثالث والعشرين منه. وبان من ركاكة أفعاله فى هذه الأيام القريبة كلّ أمر سخيف منها: أنّه كان فى مجلس نظره يوما وهو حفل بالناس وأبو العبّاس الوكيل حاضر فقال: - «ادعوا لى أبا العبّاس الوكيل.» فقال له أبو العبّاس: - «ها أنا يا مولانا.» فقال: «نعم.» والحاضرون يتغامزون عليه. ومنها: أنّه ركب إلى دار الفضل يعوده فوقف على مزمّلة العامة فاستسقى منها ماء. ثمّ لمّا وصل إلى باب الفاضل حجب وانكفأ وعرف الفاضل حضوره فأنفذ أصحابه إليه حتى لحقوه فى بعض الطريق فأعادوه ودخل إليه فشكا فى أثناء الحديث حاله إليه وأراه قميصا رثّا تحت ثيابه يلتمس بذلك مراعاة من بهاء الدولة ومعونة. ثم استعفى بعد أيام من النظر وشرع أبو العباس عيسى بن ماسرجس فى خطبة الوزارة وراسل الفاضل أبا نصر فى السفارة فيها بعد أن كان قد [369] بذل أبو على الحسن الأنماطى لبهاء الدولة عنه بذولا ووعده بملاطفات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 يحملها [1] وعشرة آلاف دينار يخدمه بها. ذكر رأى سديد أشار به الفاضل على ماسرجس فلم يعمل به أشار عليه فى جواب رسالته بأن يلاطف أبا على الحسن بن محمد بن نصر صاحب البريد وأبا عبد الله الحسين بن أحمد العارض ومكاتبتهما ويسألهما النيابة عنه ويخاطب أبا عبد الله العارض بسيّدنا، ليكون عونا له على تقرير أمره فلم يقبل. قال الفاضل: فما راعني إلّا حضور من أخبر بوروده ونزوله فى بعض البساتين. ثم جاءني رسوله يستقرض منى مائة دينار فحملتها إليه فى الحال، وعجبت من التماسه هذا القدر النزر مع ما بذل عنه [أبو على] لبهاء الدولة. ثم حضر عند بهاء الدولة وترك بين يديه دينارا ودرهما وخدمه وانكفأ. فأنكر بهاء الدولة ذلك من فعله فقال للانماطى: - «أين ما وعدتنا به؟» فعنوان خدمته يدل على ما وراءه. فقال الأنماطى: - «يحمل ما أعده من بعد.» فمضى ذلك اليوم وغيره ولم يحمل شيئا، وكاتب أبا عبد الله العارض بمولاي ورئيسى. فاجتمع هو وأبو على الحسن بن محمد بن نصر على إفساد أمره. [370]   [1] . فى الأصل: فحملها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 ذكر ما رتّباه من الحيلة فى أمره حتى انحلّ وضعا منصور بن سهل وكان هو العامل فى الوقت [1] على أن أشاع فى البلد أنّ ابن ماسرجس قد بذل بذولا كثيرة فى مصادرات التجّار وفتح المخازن وأخذ أمتعة المجهزين والبحرانين [2] فماج الناس وكادت الفتنة تثور ورفع أبو على ذلك الخبر إلى بهاء الدولة وعظم الأمر فى نفسه. واتّفق أنّ الفاضل أبا نصر غاب أيّاما فى بعض الأشغال. فخلا أبو عبد الله وأبو علىّ ببهاء الدولة وقالا له: - «قد ورد هذا الرجل بيد فارغة وما وفى بشيء مما بذله والبلد على ساق خوفا منه ولا يؤمن حدوث فتنة يبعد تلافيها وأبو الحسين ابن قاطر ميز يبذل أن يأخذ منه مالا يخفّف به عنك أثقالا.» وسهّلا عليه الأمر فى ذلك، فأحالهما على الفاضل أبى نصر فى الجواب وقال: - «اجتمعا به إذا عاد وقرّرا الأمر.» فلمّا عاد الفاضل اجتمعا معه وقالا: - «إنّ الملك قد أمرنا بالقبض على أبى العباس.» فقال: «لايّة حال.» قالا: «لما ظهر من نفور الرعيّة منه ولنكوله عمّا كان بذل عنه.» فقال لهما: «هذا مما لا يسوغ فعله وكيف يصرف اليوم رجل مستدعى بالأمس بغير سبب يقوم به الغدر وهل يجلب ذلك إلّا سوء المقالة من الناس فينا [371] ونسبتهم إيّانا إلى سخافة الرأى وضعف النحيزة وأنّ خدمة هذا   [1] . هو عامل البصرة فى حدود سنة 400: ارشاد الأريب 2: 122 (مد) . [2] . كأنّه يريد: البحريّين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 الملك لا تستقيم على أيدينا؟ وأنا أحضر عند الملك وأعرّفه ما فى ذلك.» فقالا له: «تعرّفه ماذا؟ وقد أنفذنا أبا الحسن الكراعى كاتبك وأصحابك إلى الرجل ووكّلنا به.» فوجم أبو نصر وأطرق ونفذ السهم وسلم الرجل إلى الحسن بن قاطرميز فطالبه واستقصى عليه. ذكر ما جرى عليه أمر صمصام الدولة بعد انصرافه من الوقعة لمّا انصرف به سعادة من المعركة سار عائدا إلى الأهواز. فلمّا عبر به وادي دستر كاد يغرق. فاستنقذه أحد بنى تميم ووصل إلى الأهواز فى عدد قليل من الديلم وترحّل عنها طالبا أرّجان. فتلقّاه أبو القاسم العلاء بن الحسن وحمل إليه من الثياب والرحل ما رمّ [1] به شعثه وسيّره إلى شيراز ومعه الصاحب أبو على ابن أستاذ هرمز وتلقّته والدته بما يجب تلقّيه به من المراكب والثياب والتجمل. وكان بينها وبينه نفرة. فلمّا رأته بكت بكاء شديدا وكان صمصام الدولة فى عمارية وعليه ثياب سود حزنا وكآبة لا يطعم فى الأيّام إلّا اليسير من الطعام فسكنت [372] والدته منه وقالت له: - «ما زالت الملوك تغلب وتغلب وإذا سلمت المهجة رجوت الأوبة.» فغيّرت ثيابه وأصلحت حاله وحصل بشيراز ثم تلاحق الناس به وتكامل الديلم عنده من بعد. ولم نجد فى بقيّة شهور هذه السنة ما يستفاد منه تجربة.   [1] . كذا فى مد: رمّ. ولعلّه: لمّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 ودخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وفاة الصاحب بن عبّاد وما جرى فى علّته وبعد موته فيها توفّى الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبّاد بالرىّ ونظر فى الأمور بعده أبو العباس أحمد بن ابراهيم الضبىّ ويلقّب بالكافي الأوحد. شرح ما جرت عليه الحال فى ذلك لما اعتلّ ابن عبّاد كان أمراء الديلم وكبراء الناس يروحون إلى بابه ويغدون ويخدمون بالدعاء وينصرفون. وعاده فخر الدولة عدّة مرات. فيقال: إنّه قال لفخر الدولة أوّل مرّة وهو على يأس من نفسه: - «قد خدمتك أيّها الأمير خدمة استفرغت قدر الوسع وسرت فى دولتك سيرة جلبت لك حسن الذكر بها. فإن أجريت الأمور بعدي على نظامها وقرّرت القواعد على أحكامها نسب [1] ذلك الجميل السابق إليك ونسيت أنا فى أثناء ما يثنى به عليك ودامت [373] الأحدوثة الطيّبة لك. وإن غيّرت ذلك وعدلت عنه كنت أنا المشكور على السيرة السالفة وكنت أنت المذكور بالطريقة الآنفة وقدح فى دولتك ما يشيع فى المستقبل عنك.» فأظهر فخر الدولة قبول رأيه. وقضى ابن عبّاد نحبه فى يومه. وكان أبو محمد خازن الكتب ملازما داره على سبيل الخدمة له وهو عين لفخر الدولة عليه، فبادر بإعلامه الخبر. فأنفذ فخر الدولة ثقاته وخواصّه حتى احتاطوا على الدار والخزائن. ووجدوا   [1] . وفى الأصل: نسبت. والصواب فى إرشاد الأريب 7001 فى ترجمة أبى العبّاس الضبىّ رواية عن هلال الصابي (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 كيسا فيه رقاع أقوام بمائة وخمسين ألف دينار مودوعة له عندهم. فاستدعاهم وطالبهم بالمال فأحضروه وكان فيه ما هو بختم مؤيّد الدولة. فرجّمت الظنون فى ذلك: فمن مقبّح لآثاره ينسبه إلى الخيانة فيه، ومحسن لذكره يقول: إنّما أودعه مؤيد الدولة لأولاده. ونقل جميع ما كان فى الدار والخزائن إلى دار فخر الدولة. وجهّز ابن عباد وأخرج تابوته وقد جلس أبو العباس الضبىّ للصلاة عليه والعزاء به. فلمّا بدا على أيدى الحمّالين قامت الجماعة إعظاما له وقبّلوا الأرض ثمّ صلّوا عليه وعلّق بالسلاسل فى بيت إلى أن نقل إلى تربة له بإصفهان. وقال القاضي أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد: - «إنّنى لا أرى الترحّم عليه. لأنّه مات [374] عن غير توبة ظهر عليه.» فنسب عبد الجبّار فى هذا القول إلى قلّة الرعاية. ثم قبض فخر الدولة عليه وعلى المتعلّقين به وقرّر أمرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم فباع فى جملة ما باع ألف طيلسان وألف ثوب من الصوف المصري. فهلّا نظر هذا القاضي فى شأن نفسه ثم أفتى فى شأن غيره مثل ابن عبّاد الذي قدم قدمه وأثّل نعمته وراش جناحه ومهّد أحواله! صدق المثل «تبصر القذى فى عين غيرك وتدع الجزع المعترض فى حلقك» [1] فرحم الله من أبصر عيب نفسه فشغل بستره عن عيب غيره. وبلغنا أنّ رجلا من الصالحين لقى أخا له فقال له: - «إنّى أحبّك فى الله.»   [1] . عبارة المؤلف أقرب إلى الموجود فى التلموذ منها إلى الموجود فى الإنجيل (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 فقال الآخر: - «لو تظهر لك عيوبي لأبغضتنى فى الله.» فقال له: «عيبي يشغلني عن تأمّل عيب غيرى.» نسأل الله توفيقنا بما يعصم جوارحنا وقلوبنا وصنعا جميلا يستر مساوينا وعيوبنا. بين فخر الدولة وأبى العبّاس الضبّى وقلّد فخر الدولة أبا الحسن ابن عبد العزيز قضاء القضاة وطالب أبا العبّاس الضبّى بتحصيل ثلاثين ألف ألف درهم من الأعمال ومن المتصرّفين فيها وقال له: - «إنّ الصاحب أضاع الأموال وأهمل الحقوق وقد ينبغي أن يستدرك ما فات منها.» فامتنع أبو العباس من ذلك مع تردّد القول فيه. وكتب أبو على ابن حمولة يخطب الوزارة وضمن عنها ثمانية آلاف ألف درهم وأجيب إلى [375] الحضور. فلمّا قرب قال فخر الدولة لأبى العبّاس: - «قد ورد أبو على وقد عزمت على الخروج فى غد لتلقّيه وأمرت الجماعة بالترجّل له. فلا بدّ أن تخرج إليه وتعتمد مثل ذلك معه.» فثقل ذلك على أبى العبّاس وقال له خواصّه ونصحاؤه: - «هذا ثمرة امتناعك عليه وقعودك عمّا دعاك إليه وسيكون لهذه الحال ما بعدها.» فراسل فخر الدولة وبذل ستّة آلاف ألف درهم عن إقراره على الوزارة وإعفائه من أن يلقى أبا على. وخرج فخر الدولة وتلقّاه ولم يخرج أبو العباس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 ورأى فخر الدولة أنّ من الصلاح الإشراك بينهما فى النظر. فسامح أبا على ابن حمولة بألفي ألف درهم من جملة الثمانية التي بذلها وسامح أبا العباس بمثلها من الستّة، وقرّر عليهما جميعا عشرة آلاف ألف درهم وجمع بينهما فى النظر وخلع عليهما خلعتين متساويتين ورتّب أمرهما على أن يجلسا فى دست واحد ويوقّعا جميعا: فيوما يوقّع هذا ويعلم [1] ذاك ويوما يوقع ذلك ويعلم هذا. ووقع التراضي بذلك ونظرا فى الأعمال. وقبضا على أصحاب ابن عباد وتتبّعا كلّ من جرت مسامحة باسمه فى أيّامه وقرّرا المصادرات فى البلاد، وأنفذا أبا بكر ابن رافع إلى استراباذ ونواحيها بمثل ذلك. ما فعله ابن رافع فى إستراباذ فقيل: إنّه جمع الوجوه وأرباب الأحوال وأخّر الإذن لهم [376] حتى تعالى النهار واشتدّ الحرّ ثم أطعمهم طعاما أكثر ملحه ومنعهم الماء عليه وبعده، وطالبهم بكتب خطوطهم بما يصحّحونه. فلم يزل يستام عليهم وهم يتلهّفون عطشا إلى أن التزموا عشرة آلاف ألف درهم. واجتمع لفخر الدولة فى الخزائن والقلاع ما كثّره المقلّلون. ثم تمزّق بعد وفاته فى أقرب مدّة فلم يبق منه بقيّة. وكذاك مال كلّ ثروة ذميمة المكاسب، ومصير كلّ زهرة خبيثة المنابت. فلئن عمر خزائنه لقد خرب محاسنه. ولئن جمع المال الجزيل لقد ضيّع الذكر الجميل. ثم لم يحظ من ذلك إلّا بالأوزار التي احتقبها والآثام التي اكتسبها. وقبّح الأحدوثة التي علقت بأخباره سماتها، وبقيت على الأيّام   [1] . وفى مد: يعلّم (بالضبط) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 عظاتها، إذ لم يبق من عظامه رفاتها. «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» 92: 11 [1] فيا ندم النادم إذا ترك ما اكتسبه وراء ظهره، وانقلب بثقل الوزر وسوء الذكر إلى قبره. وأصعب من ذلك ما بعده «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا من أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» 26: 88- 89 [2] . صمصام الدولة يقتل أتراك فارس وفيها أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك. فقتل قوم منهم بشيراز وأجفلت طائفة منهم، فعاثوا فى بلاد فارس. فجرّد صمصام الدولة إليهم من دفعهم عنها وانصرفوا إلى كرمان وبها أبو جعفر أستاذ هرمز، فدفعهم أيضا فدعتهم الضرورة [377] إلى قصد بلاد السند واستأذنوا ملكها فى دخول بلده. ذكر الحيلة التي عملها صاحب السند على الأتراك حتى قتلهم أظهر لهم القبول وخرج لاستقبالهم ورتّب أصحابه صفّين وهم رجّالة، وواقفهم على الإيقاع بهم إذا دخلوا بينهم. ففعلوا ذلك ولم يفلت منهم إلّا نفر حصلوا بين القتلى وهربوا تحت الليل. وفاة أبى نصر خواشاذه وفيها توفّى أبو نصر خواشاذه بالبطيحة وسبب حصوله بها أنّه لمّا قبض عليه خرج فى الصحبة إلى واسط واعتقل بها فتوصّل إلى الهرب.   [1] . س 92 الليل: 11. [2] . س 26 الشعراء: 89. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 قال صاحب الخبر [1] : فأذكر وقد انحدرت إلى مهذّب الدولة واجتمعت مع أبى نصر. فرأيت كتب فخر الدولة وصمصامها وبهائها وبدر بن حسنويه إليه يستدعيه كلّ واحد منهم، ويبذل له من المعيشة والإحسان ما يرغب فى مثله. لكن فخر الدولة قال له فى كتابه: - «لعلّك تسيء الظنّ بمعتقدنا للقبيح الذي قدّمته فى خدمة عضد الدولة عندنا وما كنّا لنؤاخذك بطاعة من قدّمك واصطنعك ومناصحة من كان [378] يصنعك ويرفعك، وأن نعتدّ لك من وسائلك لم نجعله ذنوبك [2] وقد علمت ما عاملنا [3] به أبو القاسم إسماعيل ابن عبّاد وأنّنا طوينا جميع ما كان بيننا وبينه واستأنفنا معه من الإكرام والتفويض ما لم يقدّره ويظنّه. ولك علينا عهد الله وميثاقه فى أيماننا من كلّ ما تخافه وتحذره وإنّا لك بحيث تحبّه وتؤثره. فإن أردت الخدمة قدّمناك إلى أعلى رتبها وأرفع درجها، وإن رأيت الاعتزال والدعة أوجبنا لك مائة ألف درهم معيشة من أصفهان ووفّرناك على المقام فى دارك بها.» فقلت له: «فإلى أىّ جهة ميلك.» فقال: «ما كنت أنفر إلّا من جهة فخر الدولة وقد وثقت به ولم يعلق قلبي إلّا به وأنا عازم على قصد الرىّ عند ورود من أستدعيه من أصحاب بدر بن حسنويه.» فعاجلته المنيّة المريحة من الحلّ والترحال القاطعة للحاجات والأشغال. وفيها ورد الخبر بمسير العلاء بن الحسن والديلم من أرّجان ووفاة طغان   [1] . وهو هلال الصابي (مد) . [2] . الجملة محرّفة (مد) . [3] . والمثبت فى مد «علمنا» وفقا للأصل. واقتراح التصحيح من تعاليق مد أيضا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 بالأهواز، فسار بهاء الدولة على سمت الأهواز. ذكر ما جرى عليه الأمر مع العلاء بن الحسن واستيلائه على الأهواز لمّا توفّى طغان الحاجب كوتب بهاء الدولة بخبره وبما عوّل عليه الغلمان [379] وما حدّثوا به أنفسهم من العود إلى بغداد. فانزعج لذلك وعلم ما فى أثنائه من ذهاب الدولة مع استعداد العلاء للمقارعة، وقدّم تسيير أبى كاليجار المرزبان بن شهفيروز إلى الأهواز للنيابة عنه، ورمّ العسكر بها وكان بينهما تذمّما [1] فى جميع الأمور مستقلا للتوقيع والتدبير. وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى ألفتكين الخادم للمقام بموضعه، وكان حصل برامهرمز منصرفا مرّتين إلى عساكر فارس. فلم يستقرّ بألفتكين قدم وانكفأ إلى الأهواز، وكوتب أبو محمد ابن مكرم بالنظر فى الأعمال والجدّ فى استخراج الأموال وإرضاء الجند. وقرب العلاء بن الحسن فعرّج على عسكر مكرم ونزل بهاء الدولة بطلا [2] وترددت بينه وبين العلاء مراسلات ومكاتبات سلك فيها العلاء سبيل اللينة والإطماع والمكر والخداع. ثمّ سار على نهر المسرقان لازما له إلى أن حصل بخان طوق. ووقع الحرب بينه وبين أبى محمد ابن مكرم وألفتكين ومن فى جملتهما من الغلمان، وصدق الفريقان وزحف الديلم بين البساتين والنخيل حتى دخلوا البلد ودفعوا أبا محمد وألفتكين منه.   [1] . لعله: وكان بينهما قديما (مد) . [2] . طلا: قلعة بآذربيجان، أصلها: تلا، حولها بحيرة كان فيها ذخائر التتر، وفيها قبر هولاكوخان الذي فتح البلاد (مراصد الاطّلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 وأرسل أبو محمد وألفتكين إلى بهاء الدولة وأشاروا عليه بالعبور والبدار فتوقّف عن ذلك ووعد وسوّف ثمّ أمدّهما بثمانين غلاما من غلمان داره مع خدم للخيل، فعبروا وحملوا على الديلم من ورائهم بغرّة الصّبوة [1] وقلة التجربة، فأفرج الديلم لهم حتى توسّطوهم، ثمّ انطبقوا عليهم [380] فقتلوهم. وعرف بهاء الدولة ما جرى على غلمانه فضعفت نفسه وهمّ بالهزيمة وخاف أن يظهرها فيطمع فيه بنو أسد. فتقدّم بأن تسرج الخيل ويطرح عليها السلاح وتحمل الأثقال، وأظهر أنّه يقصد الأهواز. فلمّا رتّب ذلك جميعه ركب وأخذ سمت الأهواز قليلا، ثم عطف فتوجّه تلقاء الجزيرة وأمن ما خافه من اختلاط العسكر عند الهزيمة، وتعسّف فى طريقه حتى عاد إلى عسكره بظاهر البصرة. ذكر ما جرى عليه أمر أبى محمد ابن مكرم والغلمان لمّا عرف أبو محمد والغلمان خبر بهاء الدولة فى انصرافه ساروا إلى عسكر مكرم وتبعهم العلاء بن الحسن والديلم ورفعوهم عنها فارتفعوا ونزلوا براملان بين عسكر مكرم ودستر. وتكرّرت الوقائع بين الفريقين مدّة، لأن الأتراك كانوا يركبون إلى باب البلد ويخرج الديلم إليهم ويقاتلونهم قتال المحاجزة لا المناجزة، ومع الأتراك دستر وسوادها يمتارون منها. ثم سار الأتراك إلى رامهرمز ومنها إلى أرجان واندفع من كان فيها من بين أيديهم واستولوا عليها واستخرج أبو محمد لهم الأموال منها وأقاموا بها   [1] . والمضبوط فى مد: الصبوّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 ستّة [381] أشهر ثم كرّوا راجعين إلى الأهواز. وبلغ العلاء خبرهم حين قربوا فأنفذ إلى قنطرة أربق من قطعها ووصل أبو محمد والغلمان إليها. فطرحوا الأجذاع وأعمدة الخيم عليها وعبروها وحصلوا مع الديلم على أرض واحدة ونزلوا بالمصلّى وخيّم العلاء نحو شهرين. ثمّ رحل الأتراك من معسكر مكرم وتبعهم العلاء فوجدهم قد امتدوا واسطا وكان العلاء بن الحسن قد رتّب مناجزة أبى جعفر بالسوس عند مصير الأتراك إلى أرّجان وفرّق مقطعى كلّ كورة فيها. فلمّا عاد بهاء الدولة إلى واسط على ما يأتى ذكره ولم يبق بينه وبين الديلم من يحول دونه جرّد قلّج فى عدة من الغلمان وسيّره إلى السوس. وكتب إلى أبى محمد ابن مكرم ومن فى جملته من الغلمان بالتوقّف عن الإتمام فلقيهم قلّج والكتب فى الطريق، فرجعوا وحصل المعسكر جميعه مع أبى محمد وأقاموا ببصنّى [1] . وفيها عاد أبو القاسم على بن أحمد من البطيحة إلى حضرة بهاء الدولة للوزارة. ذكر ما جرت عليه حاله فى هذه النوبة قال الأستاذ الفاضل أبو نصر: لمّا عاد بهاء الدولة إلى معسكره بظاهر [382] البصرة وقفت أموره فتردّدت بينه وبين أبى القاسم مراسلة فى العود إلى خدمته. فاستقرّ ذلك بوساطة مهذّب الدولة بعد أن اشترط على بهاء الدولة أنّه إن مشى الأمر على يديه وإلّا أعاده محروسا إلى البطيحة.   [1] . وفى مراصد الإطلاع: بصنّا، من نواحي الأهواز، صغيرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 وكان السفير بينهما الشريف أبو أحمد الموسوي. ولم أعرف ذلك إلّا بعد استقراره وكنت فى بقايا علّة واستأذنت بهاء الدولة فى الإصعاد إلى بغداد للمداواة فلم يأذن. فلمّا ورد الرجل ومضى على وروده ثلاثة أيّام راسلني الملك وقال: - «كنت استأذنتنا فى الإصعاد إلى بغداد للمداواة وقد أذنّا لك.» فعلمت أنّ هذا القول على أصل، وأنّ الغرض إبعادى فقبّلت الأرض وقلت: - «السمع والطاعة.» وانصرف الرسول. ذكر رأى سديد رآه الفاضل فى استمالة قلب بهاء الدولة قال الفاضل: أخذت دواة ودرجا [1] وأثبتّ ما كان لى بالبصرة من صامت وناطق حتى لم أترك إلّا ما كان على جسدي وحملت جميعه على التذكرة به إلى الخزانة وقلت: - «هذا ما أملكه وأنا مع إصعادى مستغن عنه والخزانة مع كثرة الخرج محتاجة إليه.» واستأذنت فى الحضور للوداع، فوقع ذلك [383] موقعا جميلا وأذن لى فى الحضور. وجاءني فى أثناء ذلك الشريف أبو أحمد الموسوي وكان يتّهمنى بالميل إلى الشريف أبى الحسن محمد بن عمر ويستوحش منّى لأجله فقال: - «قد بلغني أنّك تصعد الليلة إلى بغداد وما كنت أوثر البعد عن سلطانك   [1] . الدّرج: ما يكتب فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 ولو وقفت وتركتني أتوسّط ما بينك وبين هذا الوزير الوارد وأتوثّق لكلّ واحد من صاحبه لكان أولى.» فقلت: «قد كنت على العزم الذي بلغ الشريف وإذ قد رأى لى الصواب فى المقام أقمت يومين [أو] ثلاثة معوّلا على تفضّله فيما يقرّره- وأردت بهذا القول كتمان حقيقة أمرى عنه إشفاقا من أن يعرف الوزير خبري- فراسل بهاء الدولة فيما تعرّفنى به [1] وربما بلغ غرضه فى تعاجل الحال.» وانصرف الشريف أبو أحمد ولم تقلّنى الأرض حتى مضيت إلى المضرب وودّعت بهاء الدولة وقبّلت الأرض وبكيت، فبكى لبكائى وقال: - «لا تشغل قلبك فإنّنى لك على أجمل نيّة، وما أنفذتك إلّا إلى مملكتي وأين كنت فإنّك على بال من مراعاتى وملاحظتى.» وخرجت فاتّبعنى بعض خواصّه وقال: - «إنّ الملك يأمرك أن تتوقّف ليسلّم إليك رهونا تحملها إلى مهذّب الدولة وتستقرض عليها مهما أمكنك.» فأشفقت من أن أتربّث فتتجدّد من الوزير فى أمرى مراسلة بهاء الدولة بما أتّقيه فقلت للرسول: - «تقول لمولانا: إننى قد أحسست [384] بأول دور الحمّى وأنا أصعد وأتوقّف بنهر الدير إلى أن يلحقني ما يرى إنفاذه.» فدخل وخرج وقال: - «امض فإنّا نحمل على أثرك ما يصحبك.» فاغتنمت الفرصة وأسرعت ولم أتوقّف ووصلت إلى واسط. فما استقررت بها حتى ورد على الطائر كتاب من عبد العزيز بن يوسف يقول فيه:   [1] . لعله: فيراسل بهاء الدولة فيما يقرفنى به (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 - إنّ الرجل- يعنى الوزير أبا القاسم على بن أحمد- وقف أمره وعاد إلى البطيحة فبادرت فى الحال إلى الإصعاد علما بأنّ الكتب سترد بالعود إلىّ. فما بلغت فم الصلح [1] حتى صاح بنا ركابيّان وردا من البصرة ومعهما كتاب بهاء الدولة إلىّ بالانحدار. فاعتذرت فى الجواب بقربى من مدينة السلام وأننى أدخلها وأحصل من المال والثياب ما أعلم أنّ الحاجة داعية إلى تحصيله وأعود. فأمّا سبب فساد أمره فإنّه عامل أبا العبّاس الوكيل بما أوحشه به واستشعر أبو عبد الله العارض وأبو الفرج الخازن منه واجتمعت كلمة الحاشية عليه، وتطابقوا على فساد أمره خوفا من بوادره. وعوّل بهاء الدولة على القبض عليه فذكّره الشريف أبو أحمد العهد الذي استقرّ مع مهذّب الدولة بالقبيح وأخرج عن اليد، فعند ذلك فسح فى عوده مع الشريف أبى أحمد إلى بغداد. ودخلت سنة ستّ وثمانين وثلاثمائة [385] وفيها ملك لشكرستان بن ذكىّ البصرة وانصرف أصحاب بهاء الدولة عنها شرح الحال فى ذلك كان لشكرستان ذا نفس أبية وهمّة علية ولم يزل يلوح من شمائله فى بدء أمره ما يدلّ على ارتفاع منزلته وقدره وهو من جملة من انحاز عن بهاء الدولة إلى صمصام الدولة وحصل مع العلاء بن الحسن بالأهواز. فلمّا انصرف الأتراك إلى أرّجان على ما تقدّم ذكره، حدّثته نفسه بالخروج   [1] . فم الصلح: نهر كبير فوق واسط، عليه عدة قرى، وعند فمه كانت دار الحسن بن سهل، وفيه بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وهو الآن خراب (مراصد الاطّلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 إلى البصرة ودفع بهاء الدولة عنها. والتمس من العلاء بن الحسن مساعدة على ذلك فأحجم العلاء عن إفراد بعض العسكر عن نفسه، لحاجته إلى الاستظهار بكثرة العدد. فبينا تردّد الخطاب بينهما إذ ورد إليهما نحو أربعمائة رجل من الديلم مستأمنين من ديلم بهاء الدولة. فضمّهم لشكرستان إليه وفرّق فيهم خمسة آلاف دينار من ماله وسار بهم إلى حصن مهدى. وجرّد بهاء الدولة أبا مقاتل خمارتكين البهائى لقتاله، فجرت بينهما مناوشات واعتصم الديلم بالبلد ولم يقدر خمارتكين على مواقعتهم فيه. فلمّا كان فى بعض الأيّام عاد منهم وخرج لشكرستان على أثره وحمل نفسه على الصعب وسار على التعسّف [386] حتى حصل هو ومن معه بلشكرابان. وتسلّل إليه من بقي مع بهاء الدولة من الديلم ولم تكن لأصحاب بهاء الدولة قدرة عليهم لإعتصامهم بالبساتين والمياه التي يضيق مجال الفرسان فيها. ثم ضاقت عليهم الميرة وانقطعت عنهم المادّة فقطعوا النخل وأكلوا جمّارها وأكلوا الزرع. وكان أبو العبّاس ابن عبد السلام وطائفة من أهل البصرة مائلين إلى بهاء الدولة ونزلوا بإزاء الديلم يصدقونهم القتال. وكان أبو الحسن ابن أبى جعفر العلوي مائلا إلى لشكرستان بن ذكىّ مضادة لابن عبد السلام لما بين الفريقين من المباينة. فحمل العلوي إلى الديلم فى السماد دقيقا أمارهم به ونفّس عنهم كربهم، وعرف بهاء الدولة ذلك وظفر ببعض السفن التي حملت فيها الميرة فأنفذ من يقبض عليه فهرب وكبست داره ونهبت. وطلبت هذه الطائفة فاستوحشوا وصار منهم عدد كثير مع أبى جعفر إلى لشكرستان وقويت بهم شوكته وجمعوا له سفنا وحملوا الديلم فيها على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 ركوب أخطار وشدائد حتى جعلوهم على أرض البصرة ووافوا بهم إلى محالّهم وواقعوا أصحاب بهاء الدولة فهزموهم ونهبوا دور بنى عبد السلام وطائفته وخرّبوها. وجلا [1] ناس كثير من البصرة ونبا ببهاء الدولة مكانه [387] وخرج البلد عن يده وأصعد إلى واسط على الظهر فوصل إليها وقد تقطّع عسكره وتمزّق سواده. ذكر ما جرى عليه أمر لشكرستان بالبصرة إلى أن استقرّ ما بينه وبين مهذّب الدولة من الصلح لمّا حصل لشكرستان [2] بالبصرة بطش بأهلها فقتل وسفك، وخرج الناس على وجوههم لفرط الهيبة الواقعة فى نفوسهم ومدّ يده إلى أموال التجار فخرب البلد وتشرّد كل من فيه. وكتب بهاء الدولة إلى مهذّب الدولة يقول له: - «إذا كان لشكرستان قد غلب على البصرة فأنت أحقّ بها منه.» فاستعد مهذّب الدولة للقتال وجرّد أبا عبد الله ابن مرزوق إليه فى عدّة كثيرة من الرجال وكاتب أبا العباس ابن واصل وكان بعبّادان وغيره من أصحاب الأنهار بالاحتشاد والاستظهار والاجتماع مع ابن مرزوق على حرب لشكرستان، وانحدر ابن مرزوق ودفعه عن البصرة. فاختلفت الرواية فى دفعه عنها، فقيل: إنّ أهل البصرة قويت نفوسهم فوثبوا على الديلم وانصرف لشكرستان من غير حرب إلى أسافل دجلة. وقيل: بل عقد جسرا [388] فى الموضع المعروف بالجلّ وقال:   [1] . وفى الأصل: وخلا (مد) . ولضبط الأصل أيضا وجه من الصحّة. خلا، أى: مضى. [2] . كذا فى مد: لشكرابان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 - «الديلم يرمون كل من يرد من نهر عمر.» وجعل أمامه سلسلة حديد ممتدة من إحدى حافتي نهر ابن عمر إلى الأخرى ليدفع عن الجسر ما يرسل على الماء من شاشات القصب المضرمة بالنار تغوص بثقلها فتعبر الشاشات عليها فتغرقها. فى عسكر البطيحة من نهر ابن عمر وجمعوا قصبا كثيرا بعرض النهر وأرسلوه مضرما بالنار وجعلوا سفنهم التي فيها مقاتلتهم من ورائه، فوقع على السلسلة وتقطّعت وعلى السفن الصغار فاحترقت ووصل إلى الجسر ودخل عسكر البطيحة البصرة يقدمهم ابن مرزوق وعسكره إلى الجزيرة. وحصل لشكرستان بسوق الطعام وهي فسيحة واستمرّ القتال بين الفريقين وكان للديلم الاستظهار فى الحرب ولهؤلاء قطع الميرة. فراسل لشكرستان مهذّب الدولة وسأله المصالحة والموادعة وبذل له الطاعة والمتابعة على أن يقيم له الخطبة ويسلّم ابنه إليه رهينة. فمال مهذّب الدولة إلى الصلح وسلّم لشكرستان ابنه أبا العز واتّصل الصفاء واستمرّ الوفاء زمانا طويلا. وأظهر لشكرستان طاعة صمصام الدولة وبهائها وأمّر نفسه واعتضد بما عقده بينه وبين مهذّب الدولة من المودة، وعسف أهل البصرة مدة، ثمّ عدل فيهم وأحسن السيرة بهم وخفّف [389] الوطأة عنهم بعد أن قرّر نصف العشر عليهم. وكان يؤخذ من سائر ما يتبايع حتى من المأكولات، وعاد البصريون إلى دورهم ومنازلهم. والذي تكثر به العشرة وتطول فيه الفكرة ويستفاد منه التبصّر وتنتفع بمثله التجربة خامل حالتي بهاء الدولة ومهذّبها. كيف اختلّ أمر ذلك وهو عريق فى الملك صاحب مملكة لسوء سيرته! وكيف استقام أمر هذا وهو دخيل فى الإمارة صاحب بطيحة لحسن طريقته! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 لقد ضلّ من ظنّ أنّ الملك يستقيم بالظلم والمال ويثمر بالجور، أو الارتفاع يكثر بالحيف، أو الضرع يدرّ بالعسف. لا ورافع السماء ومؤتى الملك من يشاء، ما يصلح الملك إلّا بإحسان السيرة وإحكام السياسة وترتيب الخاصة وتهذيب العامة والهيبة فى الجند والعدل فى الرعيّة. وهيهات أن يصلح الملك تدبير مملكته إلّا بعد تدبير مدينته، أو تدبير مدينته إلّا بعد تدبير داره، أو تهذيب رعيته إلّا بعد تهذيب جنده، أو تهذيب جنده إلّا بعد تهذيب حاشيته، أو تهذيب حاشيته إلّا بعد تهذيب نفسه. ولولا أننا لا نباهى أصحاب عصرنا أطال الله بقاءهم، من الملوك والوزراء الماضين إلّا كلّ من كان عالى الرتبة فى العلاء والمجد، طيب الأحدوثة بالثناء والحمد، لأوردنا فى هذا الفصل ما تتبيّن به مقادير [390] التفاوت والفضل ويقوى معه الدليل على ما قدّمناه فى صدر كتابنا هذا من تفضيل زماننا بهم. لكنّا لا نقيس الفاضل بالناقص ولا المخدج بالكامل ولا العاجز بالقادر ولا النابى بالباتر. لأن الشيء يقاس بما يناسبه ويشبّه بما يقاربه. ونعود إلى سياقة التاريخ. عود سابور بن أردشير إلى الوزارة وفيها عاد أبو نصر سابور بن أردشير إلى الوزارة ونظر نحوا من شهرين ثم هرب. ذكر ما جرى عليه أمر أبى نصر سابور فى هذه النوبة كان بهاء الدولة أنفذ أبا عبد الله العارض وأبا نصر الفاضل إلى مهذّب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 الدولة واستقرضا منه قرضا وتطيّبا إلى سابور وقرّرا معه العود إلى الوزارة. فلمّا حصلا بالبطيحة وقرّرا الأمر مع سابور، حضرا عند مهذّب الدولة ليعلماه بحال ما استقرّ. فقال مهذّب الدولة: - «أنتما فى طرف والملك فى آخر.» وأخرج كتابا بخطّ بهاء الدولة يسأله إنفاذ أبى القاسم علىّ بن أحمد. فلمّا شاهداه وجما وقالا: - «قد يجوز أن يكون هذا قد بدا له بعدنا رأى آخر.» وانصرفا فقال أبو عبد الله العارض للفاضل: - «ما فعل الملك ما فعله إلّا على أصل، والصواب القعود هاهنا والأخذ بالحزم.» فقال له الفاضل: - «لا يضعف [391] قلبك، واصعد معى، ودعني ألقى الملك وأحلّ ما عقد بعدنا معه، فإنّى أعرف بأخلاقه منك، ومتى تأخّرنا بلغ أعداؤنا منّا مرادهم.» وما زال به حتى أصعد معه. فلمّا وصلا إلى بهاء الدولة قال لهما: - «ما وراءكما.» قالوا [1] : «كنّا قررنا مع مهذّب الدولة أمر القرض ومع سابور أمر النظر. فوافى كتابك باستدعاء أبى القاسم على بن أحمد، فانتقض جميع ذلك وانصرفنا بعد النجاح بالخيبة.» فلمّا سمع ذلك وجم- ولم يكن لأكثر ما قالاه من أمر القرض حقيقة لكنهما قصدا بذلك تقديمه- فقال لهما: - «ما كتبت ما كتبته إلّا بما ألزمنيه أبو أحمد الموسوي، وإذا كنتما قد   [1] . كذا فى مد: قالوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 قرّرتماه فالرأى العدول إليه.» وأمر بكتب الكتب إلى مهذّب الدولة بالشكر على ما أورداه عنه، وبإخراج سابور إلى الحضرة [1] وتطيّب نفسه وحثّه على البدار. وانصرف الفاضل إلى داره ليغيّر ثياب السفر، وواقف أبا عبد الله على المقام بحضرة بهاء الدولة إلى أن تنفذ الكتب لئلا يدخل إليه من يثنيه. ونفذت الكتب وورد أبو نصر سابور وقد استوحش الشريف أبو أحمد الموسوي منه لما أسلفه إليه. فقال لبهاء الدولة: - «بيني وبين العلاء بن الحسن مودّة، وأنا أخرج إليه وإلى صمصام الدولة وأستأنف أمر الصلح.» فمال بهاء الدولة إلى قوله واستروحت [392] الجماعة إلى بعده وأذن له فى ذلك ونظر سابور إلى الأمور. وبدأ أبو القاسم علىّ بن أحمد يكتب إلى بهاء الدولة ويشرع معه فى تقلّد الأمر وبلغ أبا [2] نصر من ذلك ما انزعج منه، وأراد الاختبار لما عند بهاء الدولة فيه. ذكر الحيلة التي عملها سابور فى اختبار بهاء الدولة خلا به وقال له: - «أيّها الملك، قد علمت أنّنى قصير اللسان فى خطاب الجند، وقد استشعروا فىّ الطمع واستشعرت منهم الخوف. ولو استدعيت أبا القاسم علىّ بن أحمد وعوّلت عليه فى منابذتهم ومعاملتهم ووفّرتنى على جمع المال وإقامة وجوهه، لكان ذلك أدعى إلى الصواب.»   [1] . وفى الأصل: إلى سابور. [2] . فى الأصل: أبو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 فقال له بهاء الدولة: - «هذا هو الرأى وقد أردت أن أبدأك به. فإذ قد سبقت إلى القول فيه فهذا كتاب أبى القاسم يخطب الخدمة، وقد تقرّر الأمر معه على هذه القاعدة.» فسمع أبو نصر ذلك وانصرف من حضرته وأطلق يده للتوقيعات فى الجند ولم يبق وجها إلّا أحال عليه أكثر مما فيه. فلمّا علم أنّه لم يبق بواسط ما تمتدّ إليه يد، فارق مكانه وهرب إلى الصليق، وكتب بهاء الدولة إلى أبى القاسم يستدعيه. [393] وأنفذ إليه أبا الفضل الإسكافى رسولا بما بذله له من بسط اليد والتمكين، وانحدر أبو الفضل واجتمع معه وأصعدا. فلمّا حصلا فى بعض الطريق عدل أبو القاسم على بن أحمد عن السمت. فقال له أبو الفضل: - «إلى أين أيّها الوزير.» قال: «إلى حيث أبعد به عنكم. أما علم بهاء الدولة أنّ أبا نصر فرّق أمواله وأفسد أمره وأبطل مملكته؟ وأنا رغبت فيما رغبت فيه أولا، لأنّه كان هناك ما يمكن تمشية الأمور به. فأمّا الآن فلم يبق إلّا شجى الحلوق وقذى العيون ولقاء المكروه. فلما أنشط لذلك.» وفارقه ومضى إلى الجبل وبقي مجلس النظر خاليا حتى ورد أبو العبّاس عيسى بن ماسرجس ونظر فى الأمور. استكتاب القادر بالله أبا الحسن ابن حاجب النعمان وفيها استكتب القادر بالله رضوان الله عليه، أبا الحسن علىّ بن عبد العزيز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 حاجب النعمان [1] . ذكر السبب فى ذلك كان رجلان من التجّار خرجا للحجّ. فتبايعا عقارا فى الكرخ وهما بمكّة، وأشهدا إنسانا من الذين حضروا الموسم، وردّ [2] المشترى إلى مدينة السلام فحاول ثبوت كتابه عند القضاة الأربعة وهم أبو عبد الله الضبّى وأبو محمد ابن الأكفانى وابو الحسين ابن معروف وأبو الحسين الجوزي [394] بشهادة من شهد من التجّار. وقد كان القادر بالله رضى الله عنه، أمرهم أن لا يقبلوا فى مثل ذلك إلّا شهادة الشهود المعدّلين. فتنجّز المشترى كتبا من بهاء الدولة إلى القضاة باستماع قوله، وإلى الشريف أبى الحسن محمد بن عمر والوزير أبى منصور ابن صالحان- وكان نائبا عن بهاء الدولة ببغداد- بالزامهم ذلك. فخاطباهم فقالوا: السمع والطاعة، إلّا أبا عبد الله الضبّى. فإنّه امتنع واحتجّ بما رسم له من دار الخلافة. وغاظ الشريف أبا الحسن فعله فأطلق لسانه بالوقيعة فيه. وفارق الضبّى داره بالكرخ وعبر إلى الحريم معتصما به. وسمع أبو محمد الأكفانى شهادة القوم، وعزم القاضيان الآخران على مثل ذلك. فاستدعوا إلى دار الخلافة وأغلظ القول عليهم واعتيقوا إلى آخر النهار، ثم اذن لهم فى الانصراف والعود من غد. وكان قوم من الشهود زكّوا التجار الذين شهدوا فى الكتاب، منهم ابن   [1] . ليراجع قصة صرف القادر بالله ابن حاجب النعمان عن كتابته بأبى الحسن أحمد بن على البتى الذي كان يكتب له عند مقامه بالبطيحة إرشاد الأريب 1: 238- 237 (مد) . [2] . لعله: ثم ورد (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 النشاط وأبو اسحق بن أحمد الطبري. فطعن الضبّى عليهم عند الخليفة، فخرج التوقيع بإسقاطهم وأمر بقراءته على المنبر فى المسجد الجامع. وعرف الشهود ذلك ومضى أبو اسحق الطبري إلى أبى الحسن محمد بن عمر مستصرخا وكان خصيصا. وبلغ أبا الحسن على بن عبد العزيز ما يجرى من الخوض فى الأمر. ذكر تدبير لطيف توصّل [395] به ابن حاجب النعمان إلى خدمة دار الخلافة استدعى القاضي أبا محمد ابن الأكفانى وأبا اسحق الطبري سرّا، وقال لهما: - «قد علمت ما أنتم عليه وإن طويتموه عنّى ومتى روسل الخليفة بى، توصّلت إلى مرادكم.» فصار أبو اسحق إلى ابن عمر وأشار عليه بإنفاذ على بن عبد العزيز الى دار الخلافة فراسل أبا منصور ابن صالحان فى ذلك فكان جوابه: - «إنّك عارف بما وردت به كتب بهاء الدولة من منع ابن حاجب النعمان عن دار الخلافة وإخراجه إلى حضرته، فكيف يجوز أن تنفذه فيما هذه سبيله؟» فعاد مراسلة ثانية وسهّل الأمر، فأذن أبو منصور فى ذلك من غير اختيار. وانحدر أبو الحسن على بن عبد العزيز إلى دار الخلافة ووصل إلى حضرة القادر بالله رضى الله عنه، وأعاد ما حمله من الرسالة، وكانا قالا له: - «تخدم الحضرة الشريفة عنا بالدعاء وتقول: إنّ الذي جرى فى هذه القصة مما يوحش بهاء الدولة ويشعره التغير له والعدول عنه فيما كان مستخدما فيه.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 وأتبع ما يورده عنهما من نفسه بأن قال: - «يا أمير المؤمنين ما الذي فعل [396] هؤلاء القضاة مما خرجوا به عن حكم الشريعة أو حدث من الشهود حتى أسقطوا الإسقاط الذي يقرأ على المنابر؟ أو ليس ابن النشاط أحد الشهود الذين شهدوا على المخلوع بخلع نفسه وتسليمه الأمر إلى أمير المؤمنين؟ ولو أردنا اليوم شهادة حاضرة بذلك لما وجدنا غيره فيها، فإنّ الشريف أبا أحمد الموسوي غائب بشيراز، وأبا القاسم ابن أبى تمام قد مضى لسبيله، وأبا محمد ابن المأمون من أهلك، وأبا الغنائم محمد بن عمر ممن لا تقوم به بينة. ونحن إلى الآن نزكّى هذا الشاهد ونعدّله أولى من أن نقدح فيه ونجرحه [1] وهذا أبو اسحق الطبري واحد القرّاء المتقدمين وأهل العلم المشهورين ولم يبق من يحضر الحرمين ويصلّى فيها [2] بالناس مثله وهو إلى هذه الدولة منسوب وفى شعبها محسوب والباقون منهم أقلّ من أن يعرّفهم أمير المؤمنين ويسمّيهم، فضلا عن أن يذكرهم على المنابر ويقع فيهم. وما الذي يؤمننا من أن ينفذ إلى الجامع من ينفذه، فيعترض بما يحول بينه وبين ما يحاوله ويلحقنا من ذلك ما لا خفاء به؟» فلمّا سمع القادر بالله رضى الله عنه، ما قاله تبيّن الصواب فيه. فأضرب عمّا عزم عليه وهمّ، وردّه بجواب جميل سكن إليه القضاة والشهود، وتوقيع فيه علامته بإجرائهم على رسومهم. وعاد أبو الحسن إلى الشريف والوزير فأعلمهما بما فعل [397] وبزوال ما كان الخوض واقعا فيه، وأشار بأن يعود برسالة ثانية محدودة تتضمّن الشكر والدعاء والاستئذان فى حضور القضاة. فتقدّما إليه بذلك ومضى وعاد بالإذن فى حضور القضاة ورجع ثالثا   [1] . وفى الأصل: ونخرجه. [2] . لعله: فيهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 والقضاة معه فجمع بينهم وبين القاضي أبى عبد الله الضبّى، واستطال أبو عبد الله فى القول عليهم، فمنهم من أجاب ومنهم من أمسك عنه. وانصرف القوم وتأخّر أبو الحسن فأقام فى الدار وقرّر أمر نفسه واستعطف الشريف أبا الحسن ابن عمر واستكفّ كلّ من كان يقصده واستصلح فتمّ له الأمر واستتبّ. وفيها عاد أبو جعفر الحجّاج من الموصل ذكر السبب فى ذلك وما جرى الأمر عليه لمّا توفّى أبو الدواد محمد بن المسيّب طمع المقلّد أخوه فى الإمارة فلم تساعده العشيرة، لأنّ من عادتها تقديم الكبير من أهل البيت وكان علىّ [1] أسنّ منه فأجمعوا عليه وولّوه. وأيس المقلّد من الإمارة فعدل إلى طلب الموضع وبدأ باستمالة الديلم الذين كانوا مع أبى جعفر، واستفسادهم عليه وثنى برسالته بهاء الدولة خاطبا لضمان الموصل بألفي ألف درهم [398] فى كلّ سنة، وبذل تقديم مال عنها واستصلح قلوب الحاشية. ثم عدل إلى علىّ أخيه وأظهر له أنّ بهاء الدولة قد ولّاه الموصل وأنّ أبا جعفر يدافعه عنها، وسأله النزول معه بالحلل عليها، فإنّ أبا جعفر إذا علم اجتماع الكلمة خاف واندفع عنها. فلبّى على دعوة أخيه وأجابه إلى سؤاله قاضيا حقّه فيه. فلمّا نزلت الحلل على باب الموصل استأمن عدد من الديلم الذين استفسدوا من قبل وعلم أبو جعفر أن لا طاقة له بالقوم، فاعتصم بقصر كان استحدثه ملاصقا إلى دار   [1] . وفى الأصل: أبو على. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 الإمارة مع سبعين رجلا من خاصّته وسألهم أن يفرجوا له عن الطريق ليسلم الديلم إليهم، فأجابوه إلى ذلك. ذكر مكيدة عملها أبو جعفر سلم بها فى انحداره وواعدهم فى خروجه يوما معلوما واستظهرهم عليه، وكانوا أجمعوا أمرهم على أن يأخذوه يوم مسيره. فاستذمّ أبو جعفر من علىّ بن المسيب وأنفذ إليه كراعه ليسير من عنده. ثمّ جمع سفنا حطّ فيها رحله وصناديقه وسلاحه وأصحابه، فجاءة وانحدر قبل اليوم الموعود وما عرفوا خبره إلّا بعد انحداره، فتبعوه ودافعهم عن نفسه حتى خلص ووصل إلى [399] مدينة السلام. ذكر ما جرى عليه الأمر بالموصل بعد انحدار أبى جعفر لمّا خرج أبو جعفر من البلد تقدّم المقلّد إلى أصحابه بالدخول، وعمل علىّ ابن المسيّب فى الرحيل. فحسّن له أبو الفضل طاهر بن منصور وكان كاتبه ووزيره وجماعة من أصحابه أن يلتمس من المقلّد مشاركته فى البلد، فتذمّم علىّ من ذلك حياء من أخيه فقالوا له: - «إذا كان البلد لأخيك كان هو الأمير وكنت أنت الصعلوك.» وما زالوا به حتى راسلوه واستقرّت الحال بينهما تذكرة من المقلّد على إقامة خطبة لهما جميعا وتقديم علىّ بحكم الإمارة وإقامة عامل من قبلهما لجباية الأموال وجرى الأمر على ذلك مديدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 زيادة التشاجر ثم زاد التشاجر والتجاذب بين أصحابهما وانتهى إلى الإفراط واتصلت الشكاوى من الفريقين وسيأتي ذكر ما جرت عليه الحال من بعد إن شاء الله. ذكر الحال فى ذلك كان أبو علىّ [1] خدم بهاء الدولة فى أيام إمارته. فلما ولى الملك قدّمه وكاد [400] ينوّه به فنكبه أبو الحسن الكوكبي المعلم وبقي على العطلة ثم استخدم فى الخواص بمدينة السلام. فلمّا عاد بهاء الدولة إلى واسط على الصورة التي ذكرت من اختلال الحال، كاتب أبا منصور ابن صالحان والشريف أبا الحسن ابن عمر وأبا على هذا يذكر بما هو عليه من الإضاقة واستدعى منهم ملتمسات من ثياب وغيرها. فأجاب أبو منصور وأبو الحسن جميعا بالوعد والتعليل وحصل [2] أبو على أكثر الملتمس بعد أن طلب من أبى على ابن فضلان اليهودي قرضا يردّ عوضه عليه فلم يسعفه وانحدر إلى حضرة بهاء الدولة بما صحبه. فوقع فعله موقعا جميلا ازداد به عنده قبولا، وقرّر معه فى أخذ اليهود ومصادرتهم تقريرا معلوما، وفى أمر أبى الحسن محمد بن عمر وأبى منصور ابن صالحان ما كان مستورا مكتوما، وأصعد على هذه القاعدة. فلمّا حصل ببغداد قبض على جماعة من اليهود وعسفهم فى المطالبة والمعاقبة. وأمّا الشريف أبو الحسن ابن عمر وأبو منصور ابن صالحان فإنّه بدا لهما   [1] . هو الموفق الوزير. [2] . والمثبت فى مد: حصّل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 خبر ما أبطن فى أمرهما فخرج ابن عمر إلى القصر وصار منها إلى البطيحة، واستقرّ أمر ابن صالحان وكاتب بهاء الدولة واستصلحه وانحدر إليه. ودبّر أبو على الأمور ببغداد واستمال الجند وقرّر مع الأتراك [401] عن أثمان أقامتهم ورقا يطلق لهم مسابعة، ثم نقله إلى المشاهرة ونسبه إلى القسط، وسلك أيضا بالديلم هذه الطريقة. فصار ذلك سنّة مستمرّة من بعد فى الأقساط وسقطت كلف الإقامات وكانت قد انتهت إلى الإفراط. ومشت أموره على السداد إلى أن جرى من المقلّد بن المسيب ما صار سببا للقبض عليه. ذكر ما جرى من المقلّد بن المسيّب فى هذه السنة كان المقلّد يتولّى حماية القصر وغربىّ الفرات متصرّفا على أمر العبّاس بن المرزبان فاستناب المقلّد أبا الحسن ابن المعلم أحد أصاغر المتصرّفين ببغداد وكان فيه تهوّر وإقدام، فتبسّط وانتهى عنه إلى ابن المرزبان ما غاظه وعوّل على القبض عليه. ولم يأت الحزم من أقطاره فى أخذه فاستوحش ابن المعلّم واستظهر وجرت مناوشات أدت إلى كشف القناع واستنجد ابن المعلم صاحبه. فوافى من الموصل فى عدّته وعديده وحصل مع ابن المرزبان على أرض واحدة وجرت بينهما حرب أجلت عن هزيمة ابن المرزبان وأخذه أسيرا وحبسه وأمر بقتله من بعد. وملك المقلّد القصر وأعماله [402] وكتب إلى بهاء الدولة بأعذار مختلفة وأقوال متّفقة، وسأل إنفاذ من يعقد عليه البلاد بمبلغ من المال يؤدّيه عنها. وكان بهاء الدولة مشغولا بما هو بصدده والضرورة تدعوه إلى المغالطة والمداراة فأنفذ إليه أبا الحسن على بن طاهر وجرت بينهما مناظرات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 ومواقفات كتب بها تذكرة عاد بها ابن طاهر استأمر فى أبوابها. ولمّا انفصل ابن طاهر عنه زاد فى بسط يده فى الأعمال واستضاف ما فيها من الأموال، فضجّ المقطعون بالشكوى إلى أبى علىّ ابن إسماعيل، فاستعدّ للخروج إليه واستدعى محمد بن عبّاد وخاطب أبا موسى خواجه بن ساكيل على البروز، فبرز وخيّم بظاهر البلد. ذكر الغيلة التي عملها المقلّد لمّا انتهى الخبر إليه ببروز من برز من السندية أنفذ أصحابه ليلا فكبسوا معسكر ابن ساكيل وضربوا الخيم. فبادر ابن سياهجنك [1] إلى زبزبه وعبر إلى داره واستنفر الديلم. فإلى أن اجتمعوا قطع أصحاب المقلّد الجسر لئلا يتكاثر عليه الجند. وركب أبو على ابن إسماعيل وابن عبّاد والأولياء. فإلى أن أعيد سد الجسر مضى أصحاب المقلّد وتبعهم أبو علىّ فلم يلحقهم. [403] وهمّ بالإتمام إلى السندية [2] لمواقعة المقلّد فأشاروا عليه بالعود. فعاد وقد تمّم لما ثبت له. وكان الشريف أبو الحسن ابن عمر قد حصل بالبطيحة على ما تقدّم ذكره. فلمّا ورد أبو جعفر الحجّاج توسّط حاله مع بهاء الدولة وأصلحها وجدّا جميعا فى السعى على أبى على وذلك قبل أن يحدث من أمر المقلّد ما حدث. وشدّ منهما ابن ماسرجس وكان هو الوزير يومئذ، وبذل ابن عمر لبهاء الدولة عشرة آلاف دينار عن تسليمه إليه. وكان بهاء الدولة سريع القبول   [1] . والمثبت فى ما سبق بالتكرار: سياهجيك. [2] . السّنديّة: قرية ببغداد على نهر عيسى (مراصد الاطّلاع) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 شديد الميل إلى هذه البذول وكلّ ما يعقد معه محلول وكلّ ما يبنى لديه مهدوم. ومن شرط السياسة أن يفي الملك بقوله وعهده وأن يصدق فى وعيده ووعده وأنّه متى أخلف استولت على المحسن الخيبة وزالت عن المسيء الهيبة، ومن قارب بين التولية والعزل لا يعقل. فنعود إلى تمام الحديث. فخاضوا فى تدبير أمر أبى علىّ ولم يكن ببغداد من يكاتب بالقبض عليه ويوثق به فى الخروج بالسرّ إليه. لأنّ ابن سياهجنك كان من خاصته والقهرمانة معه وفى كفّته، وكلّ من وجوه الجند مائلا إلى جنبته ويخافون أن يخرجوا إنسانا من [404] واسط فربّما شاع الخبر وظهر. ذكر المكيدة التي رتّبت فى القبض على أبى على أحضروا أبا الحسن محمد بن الحسن العروضي وكان بواسط، وواقفوه على أن يكاتب أبا على ويشكو إليه حاله ويسأله استدعاءه إليه وضمّه إلى جملته، ودبّروا الأمر أنّه إذا عاد الجواب إليه بالإصعاد أصعد، وقرّروا معه القبض عليه. وكتب أبو الحسن كتابا بهذا الذكر فإلى أن عاد الجواب إليه حدث من أمر المقلّد وهجوم أصحابه على مدينة السلام ما حدث وورد الخبر بذلك على بهاء الدولة فانزعج واستدعى أبا جعفر الحجاج فى الوقت ورسم له المبادرة إليها وتلافى الحادث بها ومصالحة المقلّد والقبض على أبى على ابن إسماعيل. ووجد أبو جعفر الفرصة فسار ووصل إلى مدينة السلام فى آخر ذى الحجّة وسيأتي ذكر ما جرى الأمر عليه بمشيئة الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 ذكر القبض على أبى نصر وفيها قبض على الفاضل أبى نصر فاستقصى عليه فى المطالبة. وهرب أبو عبد الله العارض إلى البطيحة، وأقام إلى أن أصلح حاله. ذكر السبب فى ذلك [405] أوّلا وما جرت عليه الحال ثانيا كان جرى بين أبى عبد الله العارض وبين أبى طاهر سباشى المشطّب [1] المعروف بالسعيد كلام تنابزا فيه، وجنايات اللسان عظيمة وصراعاته أليمة. فأمر بهاء الدولة بالقبض على أبى طاهر لأجل ذلك واعتقاله. فاجتمع عدد كثير من الغلمان وصاروا إلى باب الخيمة الخاص وجبهوا بهاء الدولة بما فيه بعض الغلظ وقالوا: - «إن لم تفرج عنه أخذناه.» فدعت الضرورة إلى إطلاقه فأطلق، ثمّ لم يرضوا بالإفراج عن المشطّب حتى اقترحوا إزالة أبى عبد الله عن ولاية العرض وإبعاد الفاضل أبى نصر، [2] وخاف بهاء الدولة مخالفتهم. فاعتقل العارض والفاضل اعتقالا جميلا، ثم أذن لهما فى الإصعاد إلى بغداد بعد أن قرّر أمر الفاضل على مبلغ من المال. فأمّا الفاضل، فإنّه صحح المال المقرّر بعد إصعاده وأقام فى داره إلى أن وافى أبو جعفر. ونظر أبو الحسن العروضي فى نيابة الوزارة عن ابن ماسرجس فخافه الفاضل وكاتب بهاء الدولة يسأله حسن التعطف والحراسة.   [1] . وفى الأصل «سياسى المتطبب» وسباشى يعنى صاحب الجيش، كذا فى مفاتيح العلوم (مد) . إذن هو معرّب «سپاهچى» . [2] . وفى الأصل: إلى أبى نصر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 فعاد جوابه بالجميل ورسم له الانحدار فانحدر. ولمّا وصل إلى المعسكر قبض عليه وسلّم إلى ابن ماسرجس فاستقصى [406] عليه فى المطالبة، لما أخذ عليه من نوبة البصرة ونسبها إليه، وكان بريئا منها. وأمّا أبو عبد الله العارض، فإنّه خاف بعد إصعاده، فاستشار نصحاءه فى أمره وقال: - «لست أحبّ الحرب فأجعل لنفسي حديثا ولا الاسترسال فأطرق غلبتها.» ذكر رأى سديد أشير به على العارض فكان سببا لنجاته قال له علىّ بن عيسى صاحب البريد: - «إذا كان هذا اعتقادك، فكيف تسمح بذهاب ما فى دارك من الآلات ومن الغلمان؟» قال: «نعم.» قال: «فاعبر إلى الجانب الشرقي، كأنّك زائر والدتك ودع دارك وحاشيتك على ما هي وهم عليه، وأنا أحضر فى كلّ يوم وألقى الناس فيها عنك وأكتب كتب النوبة إلى بهاء الدولة وإذا حضر من يجوز الاعتذار إليه وأنا قاعد اعتذرت إليه بنومك أو صلاتك ومن وجب أن أقوم وأدخل الحجرة كأنّى أستأذنك وأخرج إليه بمثل العذر قمت وإذا رأى الناس ذلك ظنّوك حاضرا وأنت فى الباطن مستظهر.» فاستصوب ذلك وعمل به واندرج الأمر على هذا أيّاما ثم كبست الدار لطلبه والقبض عليه فلم يوجد. ودبّر أمره فى [407] الخروج من البلد مستترا وحصل بالبطيحة وأقام بها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 مدة وأصلح حاله مع بهاء الدولة وأصعد إلى واسط ونظر فى دواوين الإنشاء والبريد والحماية. وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله ابن عبيد العلوي. وحمل بدر بن حسنويه خمسة آلاف دينار مع وجوه القوافل الخراسانية لتنصرف فى خفارة الطريق عوضا عمّا كان يجيء من الحاجّ فى كلّ سنة، وجعل ذلك رسما زاد فيه من بعد حتى بلغ تسعة آلاف دينار. وكان يحمل مع ذلك ما ينصرف فى عمارة الطريق ويقسم فى أولاد المهاجرين والأنصار بالحرمين، ويفرّق على جماعة من الأشراف والفقراء والقراء وأهل البيوتات فى مدينة السلام بما تكمّل به المبلغ عشرين ألف دينار فى كلّ سنة. فلمّا توفى انقطع ذلك حتى اثّر فى أحوال أهله ووقف أمر الحجّ. ذكر ما يستدلّ به على حزم بدر ونحن نذكر ههنا طرفا من أفعال بدر وآدابه يستدل به على حزم الرجل ودهائه، فنقول: إنّ من شرط الولاية المستقيمة أن يكون صاحبها عالما بالسياسة قامعا للجند عادلا بين الرعية خبيرا بجمع المال من حقوقه بصيرا بصرفه فى وجوهه راغبا فى فعل الخير ملتذّا بطيب الذكر ثابت الرأى فى الخطوب رابط [1] الجأش فى الحروب. على أنّ انتقاع ذوى الولاية بالرأى [408] السديد أكثر من انتفاعهم بالبأس الشديد. فانّ ذا البأس يقاوم رجالا وعشيرة، وذو الرأى يقاوم أمّة كثيرة.   [1] . فى الأصل: ثابت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 الرأى قبل شجاعة الشّجعان ... هو أول وهي المحلّ الثّانى فإذا هما اجتمعا لنفس مرّة ... بلغت من العلياء كلّ مكان [1] وقد كان بدر جامعا لهذه الخلال الحميدة والأفعال الرشيدة. فإنّه ساس قومه وهم البرزيكان [2] شرّ طائفة فى ظلمهم وعداوتهم وبغيهم وطغيانهم سعيا فى الأرض بالفساد وقطعا للسبل واستباحة للأموال وسفكا للدماء [3] ، ولى عليهم وقد استولوا على تلك الأعمال يسومون أهلها سوء العذاب ويذيقونهم مرارات البلاء والعقاب، على طريقة من قال الله تعالى فيه: «وَإِذا تَوَلَّى سَعى في الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله لا يُحِبُّ الْفَسادَ 2: 205 [4] . فداوى داءهم وكفّ بلاءهم واستدنى من الأكراد من كانوا ضدّا لقومه، فاستعان بهم عليهم فطهّر الأرض من ظلمهم غير مبق على آصرة ولا ملتفت إلى رحم متشاجرة، فبدّد شملهم وفرّق جمعهم. ذكر مكيدة عملها بدر لقومه [409] قيل: إنّه طالت أسباب الفساد وكاد الحرث يبطل فى تلك البلاد. عمل سماطا وأمر بأن يقدم عليه من جميع الألوان المطبوخة باللحمان- وكانوا أصحاب أغنام- وأن لا يترك على السماط خبز بتّة، ثم أحضرهم فجلسوا وأيديهم لا تصل إليه توقّعا للخبز. فلمّا طال الأمر بهم قال لهم:   [1] . ورد البيتان فى ديوان المتنبي طبع برلن 1861 ص 594 (مد) . وشرح البرقوفى 4: 307. [2] . وفى الأصل: البربرمكان. [3] . والمثبت فى مد: واستباحة الأموال وسفك الدماء. [4] . س 2 البقرة: 205. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 - «ما لكم لا تأكلون.» قالوا: «ننتظر الخبز.» قال: «فإذا كنتم تعلمون أنّه قوت لا بد منه، فما لكم قد أهلكتم الزرع؟ قبحا لوجوهكم وتبّا لأفعالكم! وأقسم لئن [1] تعرّض أحد منكم لصاحب زرع ليقابلنّه [2] بسفك دمه.» وأبرّ قسمه بقتل العدد الكثير منهم وأخذ الباقين بالهيبة وساسهم بالغلظة ولم يغض لهم عن الخيانة اليسيرة حتى تهذّبت الأمور. ذكر سياسة بليغة من أفعاله قيل إنّه اجتاز فى بعض مرتحلاته برجل متحطب قد حطّ حمله عن ظهره على طريق وإنّ بعض الفرسان أخذ منه رغيفين كانا معه فلمّا حصل بإزائه قال: - «أيّها الأمير إنّى رجل متحطب وقد كانت معى رغيفان أعددتهما لأتغدى بهما فيقوياننى على حمل الحطب إلى البلد [410] فأبيعه فأعود بثمنه إلى العيال وقد اجتاز بى أحد الفرسان وغصبني إياهما.» فقال له: - «هل تعرف الرجل؟» قال: «نعم بوجهه.» فجاء به إلى مضيق جبل وأقام عنده حتى اجتاز عليه العسكر جميعه وجاء صاحبه فعرفه فأمر بدر بحطّه عن فرسه وإلزامه حمل الحطب على ظهره إلى البلد والدخول به إلى السوق وبيعه وتسليم ثمنه إلى صاحبه جزاء   [1] . والمثبت فى مد: لان. [2] . كذا فى مد: ليقابلنّه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 على فعله. وكان الرجل موسرا فرام أن يفتدى نفسه بمال وزاد حتى بذل بوزن الحطب دراهم فلم يقبل منه وألزمه فعل ما عزم به عليه فقامت الهيبة فى النفوس فلم يقدم بعدها أحد من أصحابه على أذيّة. وأمّا بصره بوجوه المال فإنّه عمّ وعدل فدرّت عليه ضروع الأعمال وجمع من الذخائر والأموال من بلاد محدودة محصورة مالا يكاد يجمع مثله من ممالك واسعة. ولو لم يكن إلّا ما أخذه فخر الملك أبو غالب ابن خلف من قلعته [1] لكان عظيما. ذكر رأى سديد فى تدبير الأعمال كان من حسن تدبيره أنّه يحفظ الارتفاع من كل ثلم ثم يفرد العشر منه ويجعله موقوفا على المصالح والصدقات. وأخذ عمّاله بتوفية أمواله [411] أشد أخذ ويخلدهم الحبس على الخيانة فإن علم أنّ عجز المال كان عن آفة وأنّ العامل نقىّ الجيب من خيانة أعطاه من مال الصدقة ما تبرأ به ذمّته من الضمان ويستعين ببعضه على الزمان فلا يقدم أحد على تجاوز الطريقة المرضية فى أداء الامانة وتجنّب الخيانة. وأما بصيرته بصرف الأموال فى وجوهها فقد تقدّم ذكر ما كان يحمله فى كل سنة بطريق مكة وكانت له صدقات كثيرة فى بلده وأنفق أموالا جمّة فى اتخاذ المصانع وعمل القناطر واستخراج الطريق فى الجبال لوارد وصادر فتذللت بعد أن كانت مانعة ودنت المسافات بعد أن كانت شاسعة مع حزم كامل فى الإنفاق.   [1] . يعنى دزبز فى معجم البلدان 2: 572: دزبز اسم قلعة مدينة سابور خواست دزبز ومنها أخذ فخر الملك أبو غالب أموال بدر بن حسنويه المشهورة (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 ذكر ما دبّره فى أمر النفقات على القناطر والطرقات كان إذا بدأ بعمل من هذه الأعمال أقام من قبله عنده سوقا جامعة لسائر ما يبتاع فى البلدان وجلب إليها جميع ما يحتاج إليه من الأصناف بأرخص الأثمان فإذا قبضت الرجال سلفا من الورق صرفوه فى تلك السوق على اختلاف أجناس ما يبتاعونه بالثمن الوافي فيجمع جميعه. [412] فكان ما يخرج فى أول الأسبوع من الخزانة يعود إليها فى آخر الوقت اليسير الذي يتصل مع بعض الرجال ممن يقدر على نفسه فى النفقة. فبقيت له الآثار الحميدة والأحاديث الجميلة. قال الله تعالى: «وَما عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقى» 28: 60 [1] وقال تعالى: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ من الْأُولى» 93: 4 [2] . وأمّا حسن تدبير الخطوب فله فى ذلك أخبار مشهورة منها ما دبّره عند وصول رسول يمين الدولة أبى القاسم محمود بن سبكتكين رحمه الله إلى الرىّ. ذكر رأى سديد فى إقامة هيبة قيل: إنّ رسولا لمحمود وصل إلى الرىّ عند استيلاء السيدة على الأمر مهدّدا بالمسير إليها وكانت لا تحل ولا تعقد إلّا بمشاورة بدر فكتبت إليه بما تجدد فأشار عليها بإنفاذ الرسول إليه ليتولّى هو جوابه. ثم رتّب طوائف الأكراد وأصناف العساكر وأمرهم أن ينزلوا بحللهم بطول الطريق من باب الري إلى سابور خواست [3] ويظهروا عند اجتياز الرسول بهم   [1] . س 28 القصص: 60. [2] . س 93 الضحى: 4. [3] . فى الأصل: سابرحاست. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 عددهم وأسلحتهم ويأخذوا زينتهم ويسيروا به من حلة إلى حلة ومن عسكر إلى عسكر حتى يوصلونه إليه ففعلوا ذلك. ورأى الرسول فى طريقه من [413] العساكر ما هاله فلمّا وصل إليه رأى من حزمه ودهائه وحسن تدبيره ورأيه ما ازدادت به هيبته فى صدره. وأجاب عن الرسالة بما أشار به إلى الاستمرار على طريق المسالمة واجراء الأمر على ما كان عليه من قبل مع أصحاب خراسان فعاد الرسول إلى الرىّ وكتب الأجوبة حسب ذلك وانصرف إلى خراسان وأخبر بما شاهده فكان ذلك طريقا إلى الكفّ والموادعة. وأمّا مكايده فى الحروب وبصيرته بأمورها، فقد تقدّم من ذكر الوقعة التي جرت بينه وبين قراتكين الجهشيارى على أخذ شرف الدولة ما يدل على صرامته وله بعد ذلك مقامات مشهورة. فلمّا انقضت مدته وتناهت سعادته لم ينفعه ماله ولا رجاله ولم تدفع عنه حزامته ولا احتياله، قتله أقلّ الجند وأذلّهم ومضى رخيصا. الحوّل القلّب الأريب ولا ... يدفع ريب المنيّة الحيل وإذ قضينا من ذكر أخباره الشاذّة [1] وطرا مع التبرّأ من عهدة صحتها فقد عدنا إلى سياقة التاريخ. ودخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وفيها تغيّر أمر أبى على ابن إسماعيل ووكّل به فى دار المملكة ثم   [1] . والمثبت فى مد: الشادّه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 أفرج [414] عنه واستتر. ذكر ما جرت عليه الحال فى ذلك لمّا ورد أبو جعفر الحجاج ساء ظنّ أبى على ابن إسماعيل ثم اتصل به من واسط ما حقق ظنّه فأقام فى دار المملكة ملتجئا إلى القهرمانة وتلطّف أبو جعفر له طمعا فى أن يصير إليه فلم يفعل فأنفذ من وكّل به فى موضعه. وتردد بينه وبين القهرمانة قول كثير انتهى آخره إلى أن كتبت خطا بتسليمه وإنّها تمتثل ما يرد إليها فى معناه فصرف التوكيل حينئذ عنه. وأنفذ ابن إسماعيل إلى بارسطغان وبدرك ووضعهما على أن جمعا جمعا كثيرا من الغلمان وصاروا إلى تحت دار أبى جعفر وراسلوه وقالوا له: - «قد كانت أحوالنا مختلّة وأموالنا متأخرة إلى أن جاء هذا الرجل فتلافى أمورنا بحسن التدبير وقد حاولت الآن بورودك القبض عليه وإزالة هذا الترتيب ونحن لا نمكّن منه ونكاتب الملك بشرح الأحوال وإن دعتنا حاجة إلى الانحدار إليه انحدرنا.» وتردد فى ذلك ما طال وأفضى آخره إلى خط القهرمانة إليها والاتفاق على خروجه ونظره ومكاتبة الملك بما عليه الأولياء من إيثاره. فلمّا كان من غد خرج أبو [415] على من الدار وقصد أحد وجوه الأتراك واستتر عنده. ونظر أبو الحسن العروضي فى النيابة عن أبى العباس ابن ماسرجس وتشاغل أبو جعفر بتقرير ما بينه وبين أبى حسان المقلّد بن المسيّب. ذكر ما جرت عليه الحال فى ذلك أنفذ المقلّد إلى أبى جعفر فى أمر الصلح وبذل له البذول على حكمه فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 فاستقرّ بعد مراجعات ومنازعات على أن يصحّح المقلّد عشرة آلاف دينار وتحمل إلى الخزانة بواسط ويقود معها خيلا ويرفع يده عن الاقطاعات ويقنع بما يقرّر له من رسوم الحماية عنها ويمكن العمّال من المحلول ويشدّ منهم فى استيفاء الحقوق السلطانية ويفرج عن الديلم المأسورين ويخطب لأبى جعفر بالموصل بعد بهاء الدولة ويحمل فى كل سنة ألف ألف درهم غياثية عنها وعلى أن يخلع على المقلّد الخلع السلطانية من دار الخلافة ويكنّى ويلقّب بحسام الدولة، ويحمل له اللواء ويعقد له بهاء الدولة على الموصل والكوفة والقصر والجامعين ويقلّد زعيم العرب ويقطعه بألف ألف درهم غياثية من المحلول. فأجيب ما التمسه وجلس القادر [416] بالله رضوان الله عليه لذلك على العادة. ولم يف المقلّد بجميع ما أشرطه على نفسه إلّا بحمل المال المعجّل واطلاق الديلم المأسورين ثم استولى على البلاد فقصده الكتّاب والمتصرفون والأماثل وخدموه ونبل قدره واستفحل أمره. وفيها توفّى العلاء بن الحسن بعسكر مكرم وورد أبو الطيب الفرخان وبعده أبو على ابن أستاذ هرمز شيراز. ذكر ما جرى عليه الأمر بعد وفاة العلاء بن الحسن قد تقدم ذكر خروج العلاء إلى عسكر مكرم فى أثر الغلمان العائدين من أرجان مع أبى محمد ابن مكرم ومقامه بها مرتبا للأمور ثم جاءه أمر الله الذي لا يدفع [1] وورد المنهل الذي لا محيد للبشر عنه. فلمّا انتهى الخبر إلى صمصام الدولة أنفذ أبا الطيب الفرخان بعد أن   [1] . والمثبت فى مد: يدفعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 استوزره لسدّ مسدّه فورد ولم يكن منه ما ظنّ فيه. فبان منه العجز والقصور وتقاعد به الديلم وملك أصحاب بهاء الدولة السوس وجنديسابور. وعرف صمصام الدولة ما جرى فأنفذ الصاحب أبا على ابن أستاذ هرمز وأصحبه مالا ففرّقه على الديلم وسار بهم إلى جنديسابور ودفع الأتراك عنها وجرت مع الأتراك وقائع كثيرة كانت اليد الطويلة لأبى علىّ فيها حتى أزاحهم عن بلاد [417] خوزستان وعادوا إلى واسط. فخلت له البلاد ورتّب فيها العمّال وجمع منها الأموال [1] وتأمّل حال الاقطاعات بها. فجرى بين سيامرد بن بلجعفر وبين عامل لأبى علىّ تنازع فى حدّ وارتفع النزاع فيه إليه فأربى سيامرد فى القول بمجلسه فغاظه. ذكر تدبير يدلّ على قوّة نفس وشهامة أمر أبو علىّ أن يعمل عملا بما فى يد سيامرد وداود ولده وأبى [2] على ابن بلعباس فاشتمل العمل على مائة ألف دينار وزيادة فأحضر الثلاثة المذكورين وكتّابهم للموافقة ثم عدل بهم إلى حجرة وقبض عليهم وقيّدوا وأخرجوا بعد أيام على النفي إلى بلاد الديلم. وجعل إقطاعهم لخمسمائة رجل من الديلم الأصاغر وثلاثمائة رجل من الأكراد بعد أن أفرد منه شيئا للخاص فتمكنت هيبته فى الصدور وتضاعفت قوّته فى الأمور وتألّف قلوب الديلم وراسل وجوه الأتراك الذين مع بهاء الدولة واستمالهم، فأجابه بعضهم وصار إليه من جملتهم قراتكين الريحى فملأ عينه وقلبه بالإحسان. واستمرت أحواله على الانتظام والتمكن من أعمال خوزستان من غير   [1] . وفى الأصل الأتراك. [2] . وفى الأصل: أبا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 منازعة إلى أن عاد أبو محمد ابن مكرم والأتراك من واسط. فلمّا عرف أبو على ابن أستاذ هرمز رجوعه استعد للحرب وجرت بينهم [418] مناوشات ووقائع. ولم يكن للغلمان قدرة على إزالة الديلم من قصبات البلاد وأشرفوا على الانصراف ثانيا إلى واسط حتى خرج أبو على ابن إسماعيل من البطيحة وسيّر بهاء الدولة من القنطرة البيضاء وكان من الأمر ما يأتى ذكره فى موضعه. وفيها كوتب أبو جعفر الحجّاج بالمسير من بغداد لقصد أبى الحسن على ابن مزيد وسار ابن ماسرجس من واسط لذلك. ذكر ما جرى عليه الأمر مع أبى الحسن علىّ بن مزيد كان علىّ بن مزيد قد استوحش من بهاء الدولة بسبب مال طولب به فكاشفه بالخطاب وانتسب إلى طاعة صمصام الدولة وأقام الخطبة له وأطلق لسانه بكل ما يوجب السياسة الإمساك عنه وانبسطت بنو أسد فى الغارة على نواحي واسط. فغاظ بهاء الدولة فعله وعرض من أمر المقلّد ما استقلّ به عن غيره. فلمّا استقرّت الحال معه كتب بهاء الدولة إلى أبى جعفر بالمسير إلى ابن مزيد من بغداد وسيّر أبا العباس ابن ماسرجس من واسط فاجتمعا. واندفع أبو الحسن علىّ بن مزيد من بين أيديهما معتصما بالآجام وتتبعاه فراسلهما واستعطفهما وسأل إصلاح أمره مع بهاء الدولة وبذل على ذلك بذلا. وكان الأمر قد ضاق بهما [419] فى المقام وتعذّر عليهما وعلى العسكر نقل المير لبعدهم عن السواد فكاتبا بهاء الدولة فى أمره وسألاه الصفح عنه وإقراره على ما يتولى الخدمة فيه، فأجاب إلى ذلك وسار أبو جعفر وابن ماسرجس إلى الكوفة. فأمّا أبو جعفر فإنّه عاد إلى بغداد وأمّا ابن ماسرجس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 فإنّه أقام بالكوفة مستوحشا، ثم صار إلى المقلّد ومضى من عنده إلى البطيحة. وفيها توفّى فخر الدولة أبو الحسن علىّ بن ركن الدولة بالرىّ. ذكر ما جرى عليه الأمر بعد وفاة فخر الدولة لمّا اشتدّت العلّة به أصعد إلى قلعة طبرك فبقى أيّاما يعلل ثم مضى لسبيله. وكانت الخزائن جميعها مقفلة ومفاتيحها قد حصلت عند أبى طالب رستم ولده الملقّب من بعده بمجد الدولة، فلم يوجد ليلة وفاته ما يكفّن به لقصور الأيدى عمّا فى الخزائن وتعذّر النزول إلى البلد لشدة الشغب حتى ابتيع له من قيّم الجامع الذي تحت القلعة ثوب لفّ به. وجاء من الشغل بالجند ومطالبتهم العنيفة ما لم يمكن معه حطّه سريعا. فأراح حتى لم يمكن القرب من تابوته فشدّ بالحبال وجرّ على درجة القلعة حتى تكسّر وتقطّع. وذكر أنّه خلّف من العين والورق والجواهر سوى الثياب والسلاح والآلات ما يزيد على [420] عشرة آلاف ألف [1] درهم فكان نصيبه من أمواله الثوب الذي كفّن فيه وعاقبته من أيامه اليوم الذي حطّ فيه. فما أقلّه من نصيب مبخوس وأشأمه من يوم منحوس ف «ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» 111: 2 [2] ثم ربّه أعلم بما صار إليه من شقاوة أو حوقق [3] أو سعادة أو سومح. ورتّب أبو طالب رستم ولده فى الأمر وسنّه إذ ذاك أربع سنين. فأخذت له البيعة على الجند وأطلقت له الأموال الكثيرة حتى قيل: إنّ الأمر أعجلهم   [1] . والمثبت فى مد: ألف ألف. [2] . س 111 المسد: 2. [3] . حاقّه فى الأمر: خاصمه ورافعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 عن حطّ المال من القلعة على رؤوس الرجال فحطّوه بالزبل والبكر والحبال. والوزيران يومئذ هما أبو العبّاس الضبّى المتلقّب بالكافي الأوحد، وأبو على ابن حمولة المتلقّب بأوحد الكفاة، وبينهما أشدّ عداوة. فبسط أبو على ابن حمولة يده فى اطلاق الأموال واستمالة الرجال. فمالت قلوب الجند إليه ووقعت أهواؤهم عليه وامتنع أبو العباس الضبّى عن مثل ذلك إلّا أنّه معظم لمنزلته المتأثّلة وقدمه المتقدمة. فتجدّد من ورود قابوس بن وشمكير إلى جرجان واستيلائه عليها ما وقع الخوض فى تدبير خطبه [1] . ذكر عود قابوس إلى جرجان وما جرى الأمر معه عليه كان فخر الدولة عند استقراره فى الملك عزم على ردّ قابوس إلى أعماله قضاء [421] لحقّه ومقابلة على إحسانه، فصدّه ابن عبّاد عن رأيه وكثّر ارتفاعها فى عينه فوقر هذا القول فى سمعه لشحّ مطاع كان فى طبعه. فلمّا مات كتب أهل جرجان إلى قابوس وهو بنيسابور يستدعونه، فصار إلى بلادهم وملكها وورد الخبر إلى الرىّ بذلك فجرت فى ذلك منازعات فى الرأى وكوتب بدر بن حسنويه بسببه. ذكر جواب سديد لبدر خولف رأيه فيه قال: إنّ الأمير الذي ورث هذا الملك حدث السن ولا ينبغي أن يضيع ماله وذخائره فيما لا تتحقق عواقبه ومصايره والصواب أن تترك الأمر على حاله فإن يك نجيبا على ما عهد من خلائق آبائه قدر على ارتجاع ما أخذ   [1] . أمّا الوزيران فليراجع إرشاد الأريب 1: 73 وترجمة قابوس فيه أيضا 6: 143 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 منه، وأن ضعف عن ذلك لم تكونوا جمعتم عليه [ذهاب] ماله وذهاب أعماله.» فخالفوا رأى بدر وجرّدوا العساكر وأشار أصحاب أبى على ابن حمولة ونصحاؤه عليه بالخروج فى هذا الوجه واستصحاب الخزائن والأموال وقالوا: - «إنّك إذا حصلت بجرجان وملكتها كنت أميرا لا وزيرا وكانت الحاجة إليك داعية والآمال بك متعلقة وبعدت عن الحضرة التي أنت فيها مجاذب على المنزلة.» وغبي [422] أنّ قاعدة غيره التي يبنى عليها أمره هي بتلك الحضرة وإلى من يزاحمه فى الرتبة يترقب به الفرصة فى نقصها، لكن هيهات قيامه عليها وإذا بعد عنها لسرعت اليد الهادمة إليها. فعمل فيه قول هؤلاء النصحاء المجتمعين عليه وسار بالخزائن والأموال لأمر تسوقه المقادير اليه وحصل بين عدوّين: أحدهما أمامه لا يعلم ما يكون منه معه، وآخر وراءه يقصد مقاتله. ووافى قابوس وتصافّا فى الحرب. فما كانت إلّا حملة واحدة من أصحاب قابوس حتى انهزم أصحاب أبى علىّ ابن حمولة وغنم قابوس وأصحابه غنيمة كثيرة وعاد إلى جرجان. وثبتت قدمه بأحسن السيرة ورفع الرسوم الجارية والضرائب المأخوذة. وعاد أبو على إلى الرىّ مفلولا ووقع الشروع فى تجريد العساكر ثانيا إلى جرجان فقال أبو على: - «قد خرجت نوبة وهذه نوبة أبى العبّاس الضبّى.» وتردد فى ذلك قول كثير ثم أجمع رأى السيدة ورأى بدر بن حسنويه على صرف أبى على بن حمولة والقبض عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 ذكر ما جرى الأمر عليه فى القبض على ابن حمولة حضر أبو عيسى سافرى بن محمد كاتب بدر مظهرا تجديد العهد بالخدمة [423] واجتمعت الجماعة فى دار الإمارة وخلوا فى الحجرة الركنية لتقرير أمر من يخرج إلى جرجان. فاتفق أنّ ابن حمولة نهض لحاجة يقضيها فاتّبع بمن عدل به إلى موضع فى الدار وقيّد وانصرف أبو العباس الضبي إلى داره وأبو عيسى إلى دار على بن كامة وكانت برسمه وهي طرف البلد. وشاع خبر القبض على ابن حمولة فثار الديلم وقصدوا دار أبى عيسى ليهجموا عليه فهدم حائطا منها يلي الصحراء وخرج منه وركب وتبعه أصحابه ووقف على قرب من البلد حتى أخرج إليه ابن حمولة فسار به إلى بلاد بدر وحبسه فى بعض القلاع [1] وأنفذ إليه من الرىّ بعد أيام من تولّى قتله. وأقام الديلم على شغب ونهبوا دار أبى العباس وطالبوا بتسليمه واقتضت الحال عند تفاقم الأمر القبض عليه ففعل ذلك وحمل فى عمارية وهو مقيّد وقد أخرجت رجله منها ليشاهد القيد فيها بحضرة العسكر وأصعد إلى قلعة طبرك. وكان الجند قد همّوا بالفتك به وكفّ الله سبحانه وتعالى أيديهم عنه وألقى فى قلوبهم هيبة منه. فلمّا حصل فى القلعة راسل أكابر الديلم واستمالهم وأصلحوا له قلوب أصاغرهم واجتمعوا بعد ثلاثة أيام وتشاوروا بينهم وقالوا: قد مضى ذاك الوزير الذي قد فعلنا هذا الفعل لأجله ولا يجوز أن نتعوض   [1] . وفى إرشاد الأريب 1: 73 هي قلعة استوناوند (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 عن أبى العبّاس [424] مع رياسته المأثورة وكفايته المشهورة بغيره. فصاروا إلى دار الإمارة وخاطبوا السيدة على ذلك فاستقرّ الرأى على خروجه ونظره. فخرج فى اليوم الرابع من القلعة وتلقّاه الناس على طبقاتهم بتقبيل الأرض واظهار السرور. وسيأتي ذكر ما جرى عليه أمره من بعد فى موضعه. وفيها قبض المقلّد بن المسيّب على أخيه بالموصل. ذكر القبض على علىّ بن المسيّب والإفراج عنه وما جرى فى ذلك من الخطوب فى هذه السنة وما بعدها ليتّسق الحديث قد تقدّم ذكر ما تقرر بين علىّ والمقلّد فى أمر الموصل والمشاركة فيها وما وقع من الخلف بين أصحابهما. فلمّا عاد المقلّد من سقى الفرات إلى الموصل عزم على الفتك بأصحاب أخيه. ثم على أنّه متى فعل ذلك بهم فعل علىّ بأصحابه مثله، فقوى رأيه فى القبض على أخيه. وكان مع المقلّد من الديلم والأكراد وغيرهم نحو ثلاثة آلاف رجل تطلق لهم الأرزاق فى كل شهر. فحين عزم على ما عزم عليه جمعهم إلى داره وأظهر بأنّه يريد المسير إلى دقوقا [425] وحلفهم على الطاعة واستوثق منهم. ذكر الحيلة التي عملها المقلّد فى ذلك كانت دار المقلد متصلة بدار علىّ ولم يكن مع علىّ إلّا نحو مائة رجل من خاصته فأمر بالنقب إلى الموضع الذي هو فيه فى ليلة علم فيها أنّه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 سكران ودخل إليه ومعه عدّة من خواصه فحمله على ظهر أحد الفراشين وحصّله فى خزانته ووكّل به جماعة من غلمانه الأتراك. واستدعى فى الحال غلامين من البادية وسلّم إليهما فرسين جوادين وأرسلهما إلى صاحبته يقول لها: - «إنّى قد قبضت على علىّ فخذي حذرك وأسرعى فى الحال بولديك قرواش وبدران إلى تكريت فإنّ أحمد بن حمّاد صديقي وهو يدفع عنكم ولا تخلفى ما تخلفينه وراءك فى الحلّة قبل أن يعرف أخى الحسن الخبر فيبادر إليك ويقبض على ولديك.» فكدّ الغلامان فرسيهما ركضا وتقريبا [1] ووصلا إلى تكريت فى يومهما عند غروب الشمس وجلسا من تكريت فى ركوة وانحدرا إلى موضع الحلّة وكانت على أربعة فراسخ منها فأنذرا المرأة وأدّيا إليها الرسالة. فركبت فرسا وأركبت ولديها فرسين وهما يومئذ صغيران وساروا فى الليل إلى تكريت فدخلوها. [426] وعرف الحسن بن المسيب حال القبض على أخيه من غلام أسرع إليه من الموصل بالخبر فبادر الحسن إلى حلة المقلد ليقبض على ولديه وأهله وعنده أنّه يسبق إليهم ففاتوه وبطل عليه ما قدره من ذلك. وقام المقلد بالموصل يستدعى وجوه بنى عقيل ويخلع عليهم ويقطعهم إلى أن اجتمع عنده زهاء ألفى فارس. وقصد الحسن حلل العرب بأولاد علىّ وحرمه يستغيثون ويستنفرون ويقولون: - «إنّ المقلد قطع الرحم وعادى العشيرة وقبض على أميرها وانحاز إلى   [1] . التقريب: ضرب من العدو دون الإسراع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 السلطان» فنفر منهم نحو عشرة آلاف رجل وراسل المقلد وقال: - «إنّك قد احتجزت عنا بالموصل وأقمت فإن كان لك قدرة على الخروج فاخرج.» فأجابه بأنّه يخرج ولا يتأخر وسار على أثر الرسول وأخرج معه عليّا أخاه فى عمارية وهو محروس فى نفسه مراعى فى أحواله إلّا أنّه مستظهر عليه بالتوكيل. وقرب من القوم حتى لم يبق بين الفريقين إلّا منزل واحد بإزاء العلث وجد فى أمر الحرب فحضره وجوه العرب واختلفت آراؤهم فقوم دعوه إلى الصلح وصلة الأرحام وقوم حضّوه على المضىّ والإقدام. وكان فى القوم غريب ورافع ابنا محمد بن مقن فتنازعا القول عند المقلد وظهر من رافع حرص على الحرب وخالف غريب [1] . ذكر كلام سديد لغريب [427] قال لرافع: - «ما قولك هذا بقول ناصح أمين ولا ناصر معين. فإن كنت فى هذا الرأى عليه فقد أخفرت الأمانة وأظهرت الخيانة وإن كنت معه فقد سعيت فى تفريق الكلمة وهلاك العشيرة وإطماع السلطان.» والمقلد ممسك لا يتنفس [2] فدخل عليه داخل وقال له: - «أيّها الأمير هذه أختك رهيلة بنت المسيب- وكانت عند جعفر بن على بن مقن- قريبة منك تريد لقاءك.»   [1] . وأما غريب ففي إرشاد الأريب 2: 103 أنّه كان بعد الأربعمائة صاحب البلاد العليا تكريت ودجيل وما لاصقها (مد) . [2] . يريد لا ينبس (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 فامتدت الأعين إليها فإذا هي فى هودج على بعد. فركب المقلد وسار حتى لحق بها وتحادثا طويلا ولا يعلم أحد ما جرى بينهما إلّا أنّه حكى فيما بعد أنّها قالت له: - «يا مقلد قد ركبت مركبا وضيعا وقطعت رحمك وعققت ابن أبيك. فراجع الأولى بك وخلّ عن الرجل واكفف هذه الفتنة ولا تكن سببا لهلاك العشيرة، ومع هذا فإننى أختك ونصيحتي لا حقة بك ومتى لم تقبل قولي فضحتك وفضحت نفسي بين هذا الخلق من العرب.» فلان فى يدها ووعدها بإطلاق علىّ وعاد فى وقته. فأمر بفكّ قيده وردّ عليه جميع ما كان أخذه منه وأضاف إليه مثله ورتّب له مخيّما جميلا ونقله إليه واستكتب له أبا الحسن ابن أبى الوزير وجعله عينا عليه متصرفا على أمره بين يديه. فأصبح الناس مسرورين بما تجدد من الصلح وزال من الخلف واجتمع المقلد مع على وتحالفا ومضى على [428] عائدا إلى حلّته والمقلد سائرا إلى الأنبار لقصد أبى الحسن على بن مزيد ومقاتلته. فقد كان تظاهر بمعصية على حين قبض عليه المقلد وطرق أعمال سقى الفرات واجتذب شيئا منها. ولمّا انفصل على بن المسيب اجتمع إليه العرب وحملوه على مباينة المقلد فامتنع عليهم وقال: - «إن كان قد أساء فإنّه قد أحسن من بعد.» فما زالوا حتى غلبوه على رأيه وأصعد إلى الموصل مباينا واعتصم من كان معه من أصحاب مقلد بها بالقلعة فنازلها وفتحها واستولى على ما كان فيها. فطار الخبر إلى المقلد فكرّ راجعا واجتاز فى طريقه على حلّة الحسن وهو فيها فخرج إليه وشاهد من قوة عسكره ما خاف على أخيه منه فقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 له: - «دعني أصلح ما بينك وبين أخيك وأضمّن لك العهد فيما تريد منه.» ورفق به حتى استوقفه وسار فى الوقت إلى علىّ من غير أن يعود إلى حلته فوصل إليه آخر النهار وقد جهد نفسه وفرسه وقال لعلى: - «إنّ الأعور قد أقبل بقضّه وقضيضه وأنت غافل.» ثم شاوره فأشار عليه أن يستميل كل من بالموصل من أهالى الجند الذين هم فى جملة المقلد ويضعهم على [توسط] [1] ما كان بينهم واستمالتهم فإن قبلوا وفارقوا المقلّد قاتله وإن امتنعوا وأقاموا معه صالحه ففعل ذلك. وكان المقلد قد قرب من الموصل وبات وهو متيقظ قد رتّب الطلائع فظفر بقوم قد وردوا بالملطفات إلى أصحابه فحملوهم إليه [429] ووقف على ما معهم من الكتب فأصبح وقد عبّى [2] عسكره وزحف إلى الموصل وأيس على والحسن من فساد جند المقلد عليه فخرج إليه ولاطفه [3] ثم دخل البلد وعلى عن يمينه والحسن عن شماله. وناوش العرب بعضهم بعضا طلبا للفتنة فخرج الحسن حلا وأرهب قوما وحسم الفتنة وحصل جميع الناس بالموصل على صلح. ثم خوف علىّ من المقام فخرج هاربا فى الليل وتبعه الحسن وترددت الرسل بينهما وبين المقلد واستقرّ أن يكون دخول كل واحد منهما البلد عن غيبة الآخر وجرت الحال على ذلك إلى بقية سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. وسار المقلد إلى الأنبار ممضيا [4] لما كان عزم عليه من حرب على بن   [1] . ما بين المعقوفتين زيادة من مد. [2] . والمثبت فى مد: عبئ. والأصحّ: عبّأ. [3] . يريد: فخرجا إليه ولاطفاه. [4] . والمثبت فى مد: ممصيا، بالصاد المهملة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 مزيد فدخل بلده واندفع على بن مزيد إلى الرصافة ولجأ إلى مهذّب الدولة فقام بأمره وتوسط ما بينه وبين المقلد حتى أصلحه وانصرف المقلد إلى دقوقا ففتحها. وعدل إلى تدبير أمر الحسن أخيه فإنّ عليّا مات فى أول سنة 390 وقام الحسن فى الامارة مقامه. فجمع المقلد بنى خفاجة بحللهم وبيوتهم وأصعد بهم إلى نواحي برقعيد يظهر طلب بنى نمير ويبطن الحيلة على أخيه. وعرف الحسن خبره فخاف ومضى فى السرّ هاربا على طريق سنجار إلى العراق فأسرى خلفه طمعا فى اللحاق ففاته. وعاد المقلد إلى الموصل وأقام بها ثلاثة [430] أيام وانحدر يقص آثاره فمضى الحسن إلى زاذان واعتصم بالعرب النفاضة وتمم المقلد إلى الأنبار وعادت خفاجة معه. فاتفق فى أمره ما سيأتي ذكره فى موضعه إن شاء الله. وفيها عاد الشريف أبو الحسن محمد بن عمر إلى بغداد نائبا عن بهاء الدولة. وفيها استكتب ولد أبى الحسن ابن حاجب النعمان للأمير أبى الفضل ابن القادر بالله رضى الله عنهما وجلس الأمير أبو الفضل وسنّه يومئذ خمس سنين فدخل إليه الناس وخدموه. ودخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وفيها هرب عبد الله بن جعفر المعروف بابن الوثاب من الاعتقال فى دار الخلافة شرح حاله وما انتهى إليه أمره بعد هربه هذا الرجل كان يقرب بالنسب إلى الطائع لله وكان مقيما فى داره. فلمّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 قبض عليه وخلع من الأمر هرب هذا وتنقّل فى البلاد وصار بالبطيحة وأقام عند مهذّب الدولة فكاتبه القادر بالله رضوان الله عليه فى أمره [431] فأخرجه من بلده. ثم صار إلى المدائن منتقلا فانتهى إلى القادر بالله خبره فأنفذ من اعترضه وأخذه مقبوضا عليه وحبس فى بعض المطامير. فأمكنه فرصة فى الهرب من موضعه فهرب ومضى إلى كيلان [1] وادّعى أنّه هو الطائع لله وذكر لهم علامات عرفها بحكم أنسه بدار الخلافة فقبلوه وعظّموه وزوّجه محمد بن العبّاس أحد أمرائهم ابنته وشدّ منه وأقام له الدعوة فى بلده وأطاعه أهل نواح أخر وأدوا إليه العشر الذي جرت عادتهم بأدائه إلى من يتولى أمرهم فى دينهم. وورد من هؤلاء الجيل إلى بغداد قوم وصلوا إلى حضرة القادر بالله رضى الله عنه، فأوضحت لهم حقيقة الحال وكتب على أيديهم بإزالة الشبه فلم يقدح ذلك فيه لاستقرار قدمه واعتضاده بحميه. وكان أهل جيلان يرجعون إلى القاضي أبى القاسم بن كج [2] فى أمور دينهم وفتاويهم فى أحكامهم وله وجاهة عندهم فكوتب من دار الخلافة ورسم له مكاتبتهم بما يزيل الشبهة عن قلوبهم فى أمر عبد الله بن جعفر. فكتب إليهم وصادف قوله قبولا منهم وتقدّموا إلى عبد الله بالانصراف عنهم فانصرف. وفيها أصعد أبو على ابن إسماعيل من البطيحة إلى حضرة بهاء الدولة فانصرف الشريف أبو الحسن محمد بن عمر من بغداد مستوحشا وعاد إلى البطيحة. [432]   [1] . كيلان: جيلان (كما يأتى فى سياق الحديث) . [2] . هو أبو يوسف بن أحمد بن كج الدينوري، كان يضرب به المثل فى حفظ مذهب الشافعي، كما جاء فى تاريخ الإسلام (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 ذكر الحال فى حصول أبى على ابن إسماعيل بواسط ناظرا وما جرى عليه أمر الشريف أبى الحسن ابن عمر معه قد تقدّم ذكر ما جرى عليه أمره فى استتاره ثم تنقّل من موضع إلى موضع حتى حصل بالبطيحة وعرض له مرض حدث به منه استرخاء فى مفاصله وصار إلى قرية ابراهيم يطلب صحة الهواء بها. وراسل وروسل وكان بهاء الدولة جميل النية فيه وانضاف إلى ذلك قصور المواد عنه وخروج البلاد عن يده واحتياجه إلى من يدبّر أمره واستقرّ النظر لأبى على وأصعد إلى واسط. فلمّا حصل بها استوحش الشريف أبو الحسن ابن عمر وانصرف من بغداد إلى حلّة مقلّد ورتّب أبا الحسن ابن اسحق كاتبه فى ضياعه بسقى الفرات وتمم إلى البطيحة. وشرع أبو على ابن إسماعيل فى تتبع أسباب الشريف أبى الحسن وأخرج ثلاثة من المتصرفين لقبض أملاكه ومعاملاته وتحصيل أمواله وغلّاته. فنظروا فيما كان له ببغداد دون ما كان له بسقى الفرات. فإنّ المقلد دفعهم عنها ومكّن أبا الحسن ابن اسحق كاتب ابن عمر منها فكان يتناول ارتفاعها [433] وبحمله إليه وهو بالبطيحة فلمّا انصلح ما بين الشريف أبى الحسن وبين أبى على ضمن منه المتصرفين الثلاثة بمال بذله عنهم وأطلق يده فيهم وكان ذلك لؤما منه فما المؤتمر بالظلم بأظلم من الآمر. ذكر السبب فى صلاح ما بين الشريف أبى الحسن محمد بن عمر وأبى على ابن إسماعيل كان أبو الحسن ابن يحيى السابسى سعى فى الصلح بينهما وانحدر إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 البطيحة وخلا بالشريف أبى الحسن ابن عمر وقال له: - «أيّها الرجل مالك والتطرح والتشبث كلّما تجدد ناظر ووزير مغرّرا بنعمتك ونعمنا فى معاداة من لا تصلح لموضعه ولا يصلح لموضعنا؟ وهذا أبو على مخايل سعادته لائحة فسالمه ودعني أتوثق لكل واحد منكما من صاحبه.» ولم يزل به حتى لانت عريكته للقبول. واتفق أنّ مهذّب الدولة تنكّر على أبى على ابن إسماعيل بسبب تمور كانت لابن الحداد صاحبه فاستقصى أبو على فى استقضاء ضريبتها بواسط فأطلق مهذّب الدولة لسانه فيه، ومهذّب الدولة يومئذ بحيث يحتاج إليه الملك ومن دونه. فانحدر أبو على إليه لاستلال سخيمته واستصلاح نيّته، وتقدّمه أبو الحسن ابن يحيى السابسى وقال للشريف أبى الحسن ابن عمر: - «قد ورد أبو [434] على وأمكنت الفرصة فى إصلاح الحال.» وأشار عليه بتلقّيه وقضاء حقّه. فتلكأ قليلا ثم فعل ونزل فى زبزبه وصار إلى أبى على. فلمّا صعد إليه أكرمه وقام له وأجلسه إلى المخدتين وحضر أبو نصر سابور فجلس إلى جانب أبى على عن يمينه وسلم كل واحد منهما على صاحبه وسأله عن خبره ثم قام الشريف. وانحدر أبو على إلى مهذّب الدولة واجتمع معه واعتذر إليه وأخذ معه منه خمسة آلاف دينار على وجه القرض وخرج من عنده إلى داره التي كان نزلها قبل الإصعاد. وجاء أبو الحسن ابن يحيى إلى الشريف وألزمه العود إليه وقال له: - «تلك النوبة كانت للتلقّى وهذه للصلح وتقرير القاعدة.» فمضى إليه وتقرّر بينهما على أن التزم الشريف عشرين ألف دينار وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الصفاء والوفاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 وكان الشريف أبو الحسن قد استوثق قبل ذلك من بهاء الدولة بيمين كتبها له بهاء الدولة بخطّه واستظهر بأخذ خط مهذّب الدولة فى آخرها يقول: - «إنّ الوفاء للشريف مقرون بالوفاء لى والغدر به معقود بالغدر بى، ومتى عدل به عن العهود المأخوذة فلا عهد لبهاء الدولة فى عنقي ولا طاعة علىّ.» والتفت أبو على إلى تقرير أمر أبى نصر سابور فواقفه على الإصعاد وآمنه من بهاء الدولة ومن كل ما يتخوفه وقرر أمر أبى غالب محمد بن على ابن خلف [435] وغيره ممن كان قد بعد خوفا على خمسة آلاف دينار فحصل معه من هذه الوجوه ثلاثون ألف دينار. وعاد إلى واسط وفى صحبته الشريف أبو الحسن وأبو نصر سابور وجماعة من كان بالبطيحة من المتصرفين وسكنت الجماعة إلى صدق وعد أبى على وصحة عهده ولقّب بالموفّق. وأشار على بهاء الدولة بالمسير إلى خوزستان ومباشرة الخطب بنفسه وجدّ فى تجريد العساكر فخالفه أبو عبد الله العارض فى هذا الرأى وقال: - «إنّ الملوك لا تغرّر ولا تخاطر ولا تضمن لها العاقبة فى أمثال ذلك.» ذكر ما دبّره أبو على فى نصرة رأيه أرسل إلى الشريف أبى الحسن وقال: إنّى صائر إليك فى هذه العشية. وكانت فى شهر رمضان ثم صار إليه ومعه أبو العلاء الإسكافى خاله وأبو نصر سابور فأفطروا عنده ثم خلوا وخامسهم السابسى. فقال أبو على لأبى الحسن ابن عمر: - «قد علمت أيّها الشريف ما عليه أمر هذا الملك من الاختلال وقصور المادة به وخروج البلاد عن يده وإنّنا من هذه الحروب والمطاولة على خطر، ومتى لم يمدد أصحابنا- يعنى أبا محمد ابن مكرم والغلمان الذين معه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 -[436] بالمال لم يثبتوا، وإن عادوا فقد سلموا الدولة وإذا أمددناهم ضاق الأمر بهذا الملك ولم يكن له بدّ من مدّ اليد إلى مالك ومال ابن عمك هذا- وأشار إلى أبى الحسن السابسى- ومال كل ذى ثروة، ولم يدفع عنكم ولا عنّا دافع وإن ساعدتنى على ما أشير به من مسير بهاء الدولة بنفسه كنّا بين أن يأتى الله بنصر، فقد بلغنا المراد أو يقضى الله بغير ذلك فقد أبلينا العذر وبذلنا الاجتهاد. وفى غد تستدعى إلى الدار وتشاور فيما قلته. فإن ضربته فقد استرحت منا ببعدنا عنك وعسى الله أن يأذن بالفرج وإن ملت إلى من يشير بخلاف هذا الرأى، فالحال تفضى والله إلى ما حسبته لك.» فقال الشريف: - «كل هذا صحيح إلّا أنّ المشورة القاطعة على الملوك بمثل ذلك لا تؤمن عواقبها ولكن سأتلطف فيما تريده.» فانقضى [1] المجلس. واستدعى الشريف فى صبيحة تلك الليلة إلى حضرة بهاء الدولة وجمع وجوه الأولياء وشوورت الجماعة فى خروج بهاء الدولة بنفسه فقال الشريف: - «إنّما جعل الله الملوك أعلى منّا يدا وأفضل تأييدا بما خصّهم [2] من الرأى الصائب والنظر الثاقب وإذا كان الملك قد عزم على التوجه بنفسه، فالله تعالى يقرن ذلك بالخير [3] والسعادة ويجعله سببا لنيل الإرادة.» فقال أبو على ابن إسماعيل: - «أيّها الملك فقد وافق الشريف رأيى ولم يبق إلّا إمضاء العزيمة   [1] . لعله: فانفضّ. [2] . وما فى مد: خصهو. [3] . وما فى مد: الخيرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 وتقديمها.» وتفرّق الناس [437] على ذلك. ذكر مسير بهاء الدولة من واسط إلى القنطرة البيضاء لمّا استقرّ الأمر على المسير بدأ أبو على بإخراج أبى الحسن محمد بن عمر وأبى نصر سابور وأبى نعيم الحسن بن الحسين إلى بغداد على أن يكون إلى أبى الحسين حفظ البلد وإلى أبى نصر ملاحظة الأمور وإلى أبى نعيم جمع المال وإقامة وجوه الأقساط. ثم جدّ فى تسيير بهاء الدولة وتحصيل ما يزجى به الأمر من الآلات والظهور حتى استعان ببغال الطحانين وسار على اختلال فى أهبته وإقلال من عدّته، حتى نزل الموضع المعروف بالقنطرة البيضاء. وثبت أبو على ابن أستاذ هرمز بإزائه وجرت بين الفريقين وقائع كثيرة وضاق ببهاء الدولة وبعسكره الميرة فاستمد من بدر بن حسنويه فامدّه بدر بما قام ببعض الأود وأشرف الأمر على الخطر. ووجد أعداء أبى على بن إسماعيل مجالا فى الطعن على رأيه بتعريض الملك وأوغر صدر بهاء الدولة عليه حتى كاد يبطش به. فتجدد من خروج ابني بختيار وقتل صمصام الدولة ما يأتى ذكره وجاء من الفرج ما لم يكن فى الحساب وانقلب الرأى الذي كان خطأ إلى الصواب [438] ربّما تجزع النّفوس من الأم ... ر له فرجة كحلّ العقال فاجتمعت الكلمة على بهاء الدولة ودخل أبو على ابن أستاذ هرمز ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 معه من الديلم فى طاعته، وسيأتي شرح ذلك من بعد بمشيئة الله تعالى. وفيها جلس القادر باللَّه رضوان الله عليه للرسولين الواردين من أبى طالب رستم بن فخر الدولة وأبى النجم بدر بن حسنويه وكنّى أبا النجم بدرا، ولقّبه نصرة الدولة، وعهد لأبى طالب على الرىّ وأعمالها وعقد له لواء، وحمل إليه الخلع السلطانية الكاملة، وعهد لبدر على أعماله بالجبل وعقد له لواء، وحمل إليه الخلع الجميلة. وذلك بسؤال بهاء الدولة وكتّابه. فأمّا مجد الدولة فإنّه لبس الخلع وتلقّب، وأمّا بدر فإنّه كان سأل أن يلقّب بناصر الدولة. فلمّا عدل به عنه إلى نصرة الدولة توقف عن اللقب. ثم أجيب فيما بعد سؤاله فلقب بناصر الدين والدولة، فقبله وكتب وكوتب به. وفيها حدثت بفارس أمور كانت سببا لانتقاض ملك صمصام الدولة وقتله فى آخرها. شرح الحال فى الأمور التي أدّت إلى قتل صمصام الدولة قد تقدّم ذكر ما كان العلاء بن الحسن اعتمده بعد تلك النكبة التي صار بها [439] موترا من السعى فى هلاك الدولة بإطماع الجند وإيجاب الزيادات التي تضيق المادة عن القيام بها. ثم مضى لسبيله وقد اضطربت أمور صمصام الدولة وطال تبسط الديلم عليه وقصرت موادّه عمّا يرضيهم به. فامتدت عيونهم إلى إقطاع السيدة والرضيع والحواشي. فبدأ الديلم الذين كانوا بفسا وطالبوا عاملها بما استحقّوه وألزموه مدّ اليد إلى الإقطاعات للمذكورين وإرضائهم بها. فأبى عليهم فثاروا وشغبوا وحملوه إلى باب شيراز على غضب وشغب. فلم يقدم أحد من أصحاب صمصام الدولة على الخروج إليهم وأقاموا ثلاثة أيام ثم قتلوا العامل وذكروا الحواشي بما أزعجهم، فبعدوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 عن مواضعهم خوفا منهم. وخرج صمصام الدولة بنفسه إليهم فلقوه بالغلظة ولقيهم بالرفق واشتدوا عليه ولان لهم وأجابهم إلى ملتمساتهم وسكنوا وعادوا إلى مواضعهم بفسا [1] فاستولوا على إقطاعات الحواشي جميعها. ومضت على ذلك مدّة وزاد الأمر على صمصام الدولة فى انقطاع المواد عنه واجتماع الديلم عنده ومطالبتهم له، فضاق بهم ذرعا. ذكر رأى خطأ لم تحمد عواقبه [440] أشار على صمصام الدولة نصحاؤه بعرض الديلم فى جميع الأعمال وإمضاء كل من كان صحيح النسب أصيلا وإسقاط كل من كان متشبها بالقوم دخيلا والاتساع بما ينحلّ من الإقطاعات عنهم بهذا السبب فعمل هذا القول فيه وعزم على العمل به وتقدّم إلى مدبرى أمره بذلك فقيل له: إنّ ديلم فسا يتميزون بكثرة العدد وشدة البطش ولا يقدر على عرضهم إلّا أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن فإنّ له معرفة بالأنساب والأصول وهيبة فى العيون والقلوب. فاستقرّ الأمر على استدعائه من كرمان وإخراج أبى الفتح أحمد بن محمد بن المؤمل ليقوم مقامه بها ففعل ذلك وعاد أبو جعفر فأخرج إلى فسا. فلمّا حل بها وأظهر ما رسم له وبدأ بالعرض ومسير [2] الصفاء من الأوباش. فما استتم العرض حتى سقط بها ستمائة وخمسين رجلا وفعل أبو الفتح ابن المؤمل مثل ذلك فأسقط نحو أربعمائة رجل. وحصل هؤلاء المسقوطون [3] وهم أرباب أحوال وأولو قوة وبأس   [1] . وفى الأصل: نفسا. [2] . لعله: وميز. [3] . كذا فى مد: المسقوطون، بدل «المسقطين» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 متشردين متلددين يطلبون موضعا يقصدونه ومنشرا [1] يصعدونه. واتفق أنّ ابني بختيار وهما أبو القاسم اسبام وأبو نصر شهفيروز قد خدعا الموكلين بهما فى القلعة، فساعدوهما وأفرجوا عنهما فجمعا إلى نفوسهما من لفيف الأكراد [441] من قوى به جانبهما واتصل خبرهما بمن [2] أسقط من الديلم فصاروا إليهما فوجا بعد فوج. فلمّا استحكم أمرهما سارا لأخذ البلاد وصار أبو القاسم اسبام إلى أرّجان فملكها ودفع أصحاب صمصام الدولة عنها وتردد أبو نصر شهفيروز فى الأعمال مستمدا للأموال ومستميلا للرجال. وتحيّر صمصام الدولة فى أمره ولم يكن بحضرته من ينهض بالتدبير ليقضى الله أمرا سبق فى التقدير. وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيما بفسا على ما تقدّم ذكره. فلمّا تجدد من ابني بختيار ما تجدد اجتمع إليه نسوة من نساء أكابر الديلم المقيمين بخوزستان عند أبى على ولده وكنّ يجرين مجرى الرجال فى قوة الحزم وأصالة الرأى والمشاركة فى التدبير. ذكر رأى سديد أشرن به على أبى جعفر فلم يقبله قلن له: - «أنت وولدك [3] اليوم صاحبا هذه الدولة ومقدماها، وقد لاحت لنا أمور نحن مشفقات منها ومعك مال وسلاح، وإنّما يراد مثل ذلك للمدافعة عن النفس   [1] . لعله: ونشزا. [2] . وفى الأصل: ثم. [3] . وفى الأصل: ووالدك. والمراد به هو ابنه أبو على الحسن عميد الجيوش. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 والجاه. فالصواب أن تفرّق ما معك على هؤلاء الديلم [442] الذين هم عندك وتأخذهم وتمضى إلى شيراز وتسيّر صمصام الدولة إلى الأهواز وتخلصه من الخطر الذي قد أشرف عليه. فإنّك إذا فعلت ذلك أحييت الدولة وقضيت حق النعمة وتقربت الرجال إلى قلوب رجالنا المقيمين هناك. ومتى لم تقبل هذه المشورة وثب هؤلاء الديلم عليك ونهبوك وحملوك إلى ابني بختيار، فلا المال يبقى ولا النفس تسلم.» فشحّ أستاذ هرمز بما معه وغلب عليه حب المال فغطى على بصيرته حتى صار ما أخبر به حقا: فنهب داره واصطبله ونجا بنفسه واستتر فى البلد، فدلّ عليه وأخذ [1] وحمل إلى ابن بختيار ثم احتال لنفسه فخلص من يده. ذكر ما جرى عليه أمر صمصام الدولة بعد خروج ابني بختيار إلى أن قتل لمّا أظلّه من أبى نصر ابن بختيار ما لا قوام له به، أشار عليه خواصه ونصحاؤه بصعود القلعة التي على باب شيراز وقالوا له: - «إنّك إذا حصلت فيها تحصّنت بها، وكان لك من الميرة والمادة ما يكفيك الشهر والشهرين ولم تخل من أن ينحاز إليك من الديلم من يقوى به أمرك.» فعزم على ذلك وحاول الصعود [443] إليها فلم يفتح له المقيم فيها، فازداد تحيرا فى أمره. فقال له الجند وكانوا ثلاثمائة رجل: - «نحن عدّة وفينا قوة ومنعة وينبغي أن تقعد أنت ووالدتك فى عمارية   [1] . وفى الأصل: واحد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 لنسير بك إلى الأهواز ونلحقك بأبى على ابن أستاذ هرمز وعسكرك المقيمين معه ومن اعترضنا فى طريقنا دافعنا برؤسنا عنك وبذلنا مهجتنا دونك.» فقال الرضيع: - «هذا أمر فيه غرر. والوجه أن نستدعى الأكراد ونتوثق منهم ونسير معهم.» فمال إلى هذا الرأى وراسل الأكراد واستدعاهم وتوثق منهم وخرج معهم بخزينته وجميع ذخائره فلمّا بعدوا عن البلد عطفوا عليه ونهبوا جميع ما صحبه وكادوا يأخذونه فهرب وصار إلى الدودمان على مرحلتين من شيراز. وعرف أبو نصر ابن بختيار خبر انفصاله فبادر إلى شيراز ونزل بدولت آباذ وطمع طاهر الدودمانى رئيس القرية فى صمصام الدولة واستظهر عليه إلى أن وافى أصحاب ابن بختيار فأخذوه وقتلوه وذلك فى ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكانت مدة عمره خمسا وثلاثين سنة وسبعة أشهر. وما أقلّها من مدة وأسوأها من عاقبة أمر! فلقد كانت حلاوة دولته يسيرة ومرارة مصائبه فى ملكه ونفسه كثيرة، فما وفى شهده بصابه [444] ولا عوافيه بأوصابه، ولم يكن له فى أيامه يوم زاهر ولا من ملكه نصيب وافر: وإنّ امرأ دنياه أكبر همّه ... لمستمسك منها بحبل غرور وقبض على والدته وعلى الرضيع وقوم من الحواشي. وجاءت امرأة من الدودمان تسمى فاطمة فغسلت جثته وكفنتها ودفنتها وأحضر رأسه فى طست بين يدي أبى نصر ابن بختيار. فلمّا رآه قال مشيرا إليه: - «هذه سنّة [سنّها] [1] أبوك.»   [1] . زيادة من مد، يقتضيها السياق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 وأمر برفعها. وأما والدته، فإنّها سلمت إلى لشكرستان كور فطالبها وعذّبها فلم تعطه درهما واحدا، فقتلها وبنى عليها دكة. وأما الرضيع، فإنّه قتل بعد ذلك وبعد أن صودر واستصفى ماله. ودخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة دخول ابن أستاذ هرمز والديلم فى طاعة بهاء الدولة وفيها دخل أبو على ابن أستاذ هرمز والديلم فى طاعة بهاء الدولة واجتمعت الكلمة عليه وملك شيراز وكرمان فاستتبت أموره واستقامت أحواله واستقرت دولته واهتزت سعادته. شرح ما جرى عليه الحال فى ذلك [445] قد تقدّم ذكر نزول بهاء الدولة بالقنطرة البيضاء. وتكرر الوقائع بين الفريقين وأقام بهاء الدولة شهرين وأكثر يطلب مناجرة الديلم وهم يقصدون مدافعته ومحاجزته وطال الأمر بينهم. وكان أبو على ابن إسماعيل الملقّب بالموفق، يباشر الحرب ويتولى التدبير وكان معه مناح صاحب محمد بن عباد مع مائة فارس من السادنجان. فرتّبهم فى الطلائع وأمرهم أن يقتصوا أمر كل من يخرج من السوس أو يدخلها فيأخذوه. وضاق الأمر بالديلم من هذا الحصار وببهاء الدولة من تعذّر الميرة وتطاول الأيّام، وأشرف على العود حتى إنّه لو تأخّر ما تقدّم من أمر ابني بختيار وقتل صمصام الدولة لانهزم بهاء الدولة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 ذكر حيلة رتّبها أبو على ابن أستاذ هرمز برأيه فكشفها أبو على ابن إسماعيل بألمعيته ودهائه وكان بهاء الدولة وكلّ رجاله الفرس لأخذ من يوجد فى الجواد فظفروا برجل معه زنبيل دستنبوا [1] فحملوه إلى المعسكر وسئل عن أمره فقال: - «أنا عابر سبيل أتعيش بحمل هذا المشموم من موضع إلى موضع.» [446] فهدد وخوّف حتى أقرّ بأنّه رسول الفرخان إلى الصاحب أبى على ابن أستاذ هرمز بملطف معه: - «إنّا سائرون من طريق عند قرب وصولنا فتصمد للقاء القوم.» [2] فلمّا وقف بهاء الدولة على ذلك قلق قلقا شديدا وقال: - «كل من يطعن على رأى [أبى] على ابن إسماعيل ويعاديه .... [3] وإن قصدنا من هذا الجانب فقد حصلنا فى أيدى القوم أسارى وأعوزنا الهرب وضاق بنا المذهب.» فتابع بهاء الدولة الرسل إلى أبى على ابن إسماعيل وكان فى الحرب يستدعيه فحين حضر أعلمه الحال وأعطاه الملطف فلما قرأه قال: - «هذا محال.» وخرج من بين يديه وأحضر الرجل المأخوذ وقال له: - «اصدقنى.» وعاصه بالجميل فلم يزده على القول الأوّل. فأمر بشده وعمد إليه بدبّوس   [1] . كذا فى مد: دستنبوا (بالألف) . أصله الفارسي: دستنبو (بدون الواو) . [2] . العبارة مضطربة. [3] . بياض فى مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 فضربه بيده ضربا مفرطا فلمّا برّح به الضرب قال: - «خلونى أصدقكم: أنا رجل من أهل السوس استدعاني أبو على ابن أستاذ هرمز وسلم إلىّ هذا الملطف وقال لى: امض وتعرّض للوقوع فى أيدى أصحاب بهاء الدولة. فإذا وقعت وسئلت عن أمرك فقل: إنّى رسول الفرخان إلى الصاحب ومعى هذا الملطف. وأصرر على قولك وأصبر للمكروه إن أصابك، فإنّى أحسن إليك.» فعاد أبو على ابن إسماعيل إلى حضرة بهاء الدولة وأخبره بالصورة وأنّها منصوبة. [447] فسكن قليلا وقال للحواشي: - «إنّ القول الأوّل هو الصحيح وإنّ الضرب والمكروه أحوجا الرجل إلى هذا القول الثاني.» ذكر حزم اعتمده أبو علىّ ابن إسماعيل فى تلك الحال رأى أنّ الأخذ بالحزم أصوب على كل حال، وأنفذ ابن مكرم وألفتكين الخادمى مع عدد من الأتراك إلى دستر وأمرهما بالنزول على الوادي للمنع حتى إن حضر من يحاول العبور دفعاه فسارا إلى حيث أمرهما وخيّما به وأقاما أيّاما ووافى خرشيد بن باكليجار [1] [و] الكوريكى فى عدة كثيرة من الديلم والرجّالة فتقدّم ابن مكرم وألفتكين إلى أصحابهما بقلع الخيم والتحمل. لأنّ عدّتهم كانت قليلة وساروا حتى غابوا عن مطرح النظر. ثم كمن ألفتكين الخادمى والغلمان فى بعض المكامن إلى أن عبر الديلم والرجالة وحصلوا معهم على أرض واحدة فحمل ألفتكين وصاح الغلمان وارتفع الغبار وظنّ   [1] . فى الأصل: باكحار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 القوم [أنّهم] [1] فى عدد كثير فتواقعوا فى الوادي منهزمين وقتل خرشيد والكوريكى وجماعة من أصحابهما. وكان ذلك فى اليوم الذي انصلح ما بين الديلم والسوس وبين بهاء الدولة ووقع التحالف ووصل من غد وقد اختلط الفريقان. وأمّا [448] ما جرى عليه الأمر فى دخول الديلم فى طاعة بهاء الدولة، فإنّ أبا علىّ ابن إسماعيل كان قد اعتمد ما يعتمده من الرأى الأصيل وشرع فى استمالة قوم من العسكر إلى طاعة بهاء الدولة. وترددت بينه وبين شهرستان مراسلات بوساطة بهستون بن ذرير وقرّر الأمر فى اجتذابه وإمالته. ثم اتفق أنّ المعروف بمناح الكردي المرتّب فى الطائع ظفر بركابىّ ورد من شيراز فأخذه وأحضره عند أبى على ابن إسماعيل، فسأله عن حاله فأخبره بالخطب الحادث بشيراز وأخرج كتابا كان معه من بنى زيار إلى شهرستان يشرح ما جرت عليه الحال فى قتل صمصام الدولة. فلمّا وقف أبو علىّ ابن إسماعيل على الكتاب طالع بهاء الدولة مضمونه ثم أعاده على الركابى ليتمم إلى حيث بعث ثم قال أبو على لبهستون: - «إنّه لم يبق لشهرستان بعد اليوم عذر فإن كان على العهد فليقدم الدخول فى الطاعة.» فمضى بهستون إلى شهرستان وقرّر معه أن يتحيّز فى غد ذلك اليوم مع ثلاثمائة رجل من الجيل إلى بهاء الدولة وتفارقا على هذا الوعد. فأحسّ فناخسره بن أبى جعفر بما عزم عليه شهرستان فقصده وخلا به.   [1] . زيادة من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 ذكر كلام سديد لفناخسره بن أبى جعفر [449] قال لشهرستان: - «قد بلغني ما أنت عازم عليه وحالي عند بهاء الدولة الحال التي لا تخفى ونيّته فى النّية التي تخالف وتحتمي، ومتى عجلت فى الانحياز إليه هلكت وهلك الديلم بأسرهم ويلزمك على كل حال صلاح أمرهم فأنظرنى ثلاثة أيّام لأسبر جرح هذه القصة بمراسلة بهاء الدولة، فإن رجوت لها برأ واندمالا اتفقت معك فى إمضاء العزيمة واجتماع الكلمة وإن تكن الأخرى أخذت لنفسي وتوجهت أنا وأهلى إلى بلدي ثم أفعل ما بدا لك.» فأجابه شهرستان إلى ذلك. وبكر أبو على ابن إسماعيل على رسمه إلى الحرب متوقعا من شهرستان إنجاز الوعد. فراسله بالعذر المتجدد فضاق أبو على بذلك ذرعا واعتقد أنّه كان سخرية ودفعا. فقال له بهستون: - «إنّ مصداق هذا القول يبين عند غسق الليل فإن جاء رسول فناخسره فقد صدق شهرستان ووفا، وإن تأخّر فقد كذّب وغدر والموعد قريب.» فلمّا جنّ الليل ورد رسول فناخسره برسالة يعتذر فيها من سابق الأفعال ويطلب الأمان على استئناف الخدمة فى مستقبل الحال فأجيب بما يسكن إليه ووثق به. ووصل فى أثناء ذلك كتاب ابن بختيار إلى أبى على ابن أستاذ هرمز يذكران فيه سكونهما إليه وتعويلهما عليه ويبسطان أمله كما يفعله مبتدئ بملك يروم إحكام قواعده وأركانه [450] واستمالة اعضاده ويأمره أنّه يأخذ البيعة لهم على الديلم قبله والمقام على الحرب التي هو بصددها. فأشفق أبو على بما سلف له من الدخول إليهما ولم يثق بوفائهما بعد قتل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 أخويهما وحقيق بمن قتل للملوك شقيقا أن يكون على نفسه شفيقا. وبقي متلددا فى أمره مترددا فى فكره مجيلا للرأى فى صدره فرأى أنّ الدخول فى طاعة بهاء الدولة أصوب والتحيّز إليه أدنى من السلامة وأقرب. ذكر ما دبّره أبو على ابن أستاذ هرمز فى صلاح حاله مع بهاء الدولة جمع وجوه الديلم وشاورهم فيما ورد عليه من كتاب ابني بختيار فأجمعوا رأيهم على الاعتزاء إلى طاعتهما والثبات فى حرب بهاء الدولة على ما هم عليه فلم يوافقهم على رأيهم وقال: - «إنّ وراثة هذا الملك قد انتهت إلى بهاء الدولة ولم يبق من يجوز له منازعة بهاء الدولة فيه وإن نحن عدلنا عنه إلى من داره منّا نائية ونيّته عنّا جافية أضعنا الحزم، والصواب الدخول فى طاعة بهاء الدولة بعد التوثق منه.» فامتنعوا وقالوا: - «كيف نسلم نفوسنا للأتراك وبيننا وبينهم ما تعلم من الطوائل؟» فقال لهم: - «إذا كان هذا رأيكم فإنّى أسلّم [451] ما معى من المال والعدّة إليكم وأنصرف بنفسي عنكم وأنتم لشأنكم أبصر.» وتقوض المجلس، ثم وضع أكابرهم على ما يقولونه ويفعلونه. وكان قد أنفذ إلى أبى على ابن إسماعيل من يلتمس منه شرابا عتيقا للعلّة التي به. فقال أبو على ابن إسماعيل لبهاء الدولة: - «إنّه ما طلب منّا شرابا ولكنّه أراد أن يفتح لنا فى مراسلته بابا.» فأنفذ بهاء الدولة رسولا يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 - «إنّه قد كنت أنت والديلم معذورين قبل اليوم فى محاربتى حين كانت المنازعة فى الملك بيني وبين أخى. فأمّا الآن فقد حصل ثأرى وثأركم فى أخى عند من سفك دمه واستحلّ محرمه. فلا عذر لكم فى القعود عنى فى المطالبة بالثأر واستخلاص الملك وغسل العار.» فكان من جواب أبى على ابن أستاذ هرمز [بعد] [1] السمع والطاعة لقوله أنّ الديلم مستوحشون والاجتهاد فى رياضتهم واقع وسأل فى إنفاذ أبى أحمد الطبيب لمعرفة قديمة كانت بينهما فأنفذ إليه. ذكر كلام سديد لأبى على ابن أستاذ هرمز لمّا حضر الطبيب عنده قال له: - «قد علمت اصطناع صمصام الدولة إيّاى [452] وإحسانه إلىّ وما وسعنى إلّا الوفاء فى خدمته وبذل النفس فى مقابلة نعمته. وقد مضى لسبيله وصارت طاعة هذا الملك واجبة علىّ ونصيحته لازمة لى وهؤلاء الديلم قد استمرت بهم الوحشة والنفور واستحكمت بينهم وبين الأتراك الترات والذحول، وبلغهم أنّ الاقطاعات عنهم مأخوذة وإلى الأتراك مسلّمة، ومتى لم يظهر ما يزول به استشعارهم وتسكن إليه قلوبهم وبادرهم لم يصحب جنبهم.» فمضى الطبيب إلى بهاء الدولة بالرسالة وعاد بالجواب الجميل الذي تسكن إلى مثله وتردد من الخطاب ما انتهى آخره إلى حضور جماعة من وجوه الديلم إلى بهاء الدولة لاستماع لفظ بيمين بالغة فى التجاوز عن كل إساءة سالفة وأخذ أمان وعهد بزوال كلّ غلّ وحقد. فلمّا طابت نفوس هؤلاء   [1] . زيادة من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 بالتوثق كاتبوا أصحابهم المقيمين بالسوس بشرح الحال. وركب بهاء الدولة فى ثانى اليوم إلى باب السوس يتوقع دخول الكافّة فى السلم. فخرج الديلم فقاتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله معهم فيما تقدّم فضاق صدره وظنّ أنّ ذلك عن فساد عرض أو لأمر انتقض. فقال له الديلم: - «طب نفسا فالآن ظهر تسليمهم الأمر إليك فمن عادتهم أن يقاتلوا عند التسليم أشدّ قتال، لئلّا يقدّر أنّهم سلموا عن عجز أو ضعف.» وكان الأمر على ذلك [453] لأنّهم استوثقوا فى اليوم الثالث بنسخة يمين نفذوها إلى بهاء الدولة، فحلف بها هو ووجوه الأتراك. والتمس الديلم لأبى على ابن إسماعيل أن يحلف لهم فامتنع وقال: - «هذه يمين يدخل فيه الملوك وجندهم، فأمّا الحواشي فهم بمعزل عنها.» فلم يقنعوا بذلك فألزمه بهاء الدولة الحلف فحلف. وجلس بهاء الدولة للعزاء بأخيه ثم ركب بالسواد، فتلقّاه الناس وخدموه وصار إليه أبو على ابن أستاذ هرمز واختلط العسكران. قتل الديلم نقيب نقبائهم ومن قبل ذلك بيوم أو يومين قتل الديلم أبا الفتح ابن الفرج نقيب نقبائهم. ذكر السبب فى ذلك وما كان من مكيدة أبى على ابن أستاذ هرمز فى أمره كان هذا الرجل مقدما فى العسكر فاستدعى أبو على ابن إسماعيل أخاه سهلان من بغداد وجعله وسيطا معه ليستميله. فلمّا استقرّ معه الدخول فى طاعة بهاء الدولة قال لهم أبو على ابن أستاذ هرمز: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 - «هذا أبو الفتح رجل شرير وهو خبير بأموركم وأسبابكم وأصولكم وأنسابكم. فان اجتمع مع أبى على أظهر له من أسراركم ما لم يطلع عليه ودلّه من أموركم على ما لا يهتدى [454] إليه.» فقالوا: «سندبّر أمره.» ثم أجمعوا رأيهم على قتله فقتلوه. ولمّا اختلط العسكران سار بهاء الدولة إلى السوس ومعه أبو على ابن إسماعيل وحوله الديلم والأتراك. ذكر رأى طريف رآه أبو على ابن إسماعيل لا يعلم موجبه لمّا قرب بهاء الدولة من مضربه عدل أبو على إلى خيمته المختصة به ولم يتمم معه حتى ينزل على ما جرى به رسمه. ونزل بهاء الدولة وطلب الديلم أبا على فلم يجدوه وقالوا: - «من يكلّمنا.» وانتهى الخبر إلى بهاء الدولة فأرسل إلى أبى على يستدعيه فاحتجّ بعارض عرض له ولم يحضر فخرج بهاء الدولة بنفسه إليهم وكلّمهم حتى انصرفوا. وأظهر أبو على ابن إسماعيل الاستعفاء وأقام على أمر واحد فيه حتى وقعت الإجابة إليه وكتب له منشور بمعيشة التمسها، فأذن له فى العود إلى بغداد والمقام فى داره. وشاع هذا الخبر بين العسكر فركب وجوه الأتراك إلى مضرب بهاء الدولة فأخرج إليهم الحجّاب ليسألوهم عن حاجتهم، فطلبوا لقاء الملك فأخرج إليهم أبا عبد الله العارض ليستعلم منهم مرادهم. فما زادوه على القول الأوّل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 فأوصلهم. [455] ذكر ما جرى بين الأتراك وبين بهاء الدولة من الخطاب لمّا دخلوا إلى حضرته وقفوا وقالوا: - «يا أيّها الملك قد خدمناك حتى بلغت مناك ولم تبق لك علينا حجّة ولا بك إلى مقامنا حاجة، وما فينا إلّا من نفذت نفقته ونقصت عدّته، ونسأل الأذن لنا فى العود إلى منازلنا لنصلح حالنا ومتى احتيج إلينا من بعد رجعنا.» فأنكر هذا القول منهم وسألهم عن سببه فراجعوه وراجعهم حتى قالوا: - «هذا وزيرك الموفّق الذي عادت الدولة إليك على يده واستقامت أحوالنا بيمن نقيبته قد صرفته وما لنا من يشهد بمقاماتنا المحمودة عندك سواه، ولا نجد فى الوساطة بيننا وبينك من يجرى مجراه، وليس من السياسة صرف مثله ولا قبول قول من يشير عليك ببعده.» قال بهاء الدولة: - «ومن يريد ذلك؟» قالوا: «الذي كتب له المنشور عنك وهوّن خطبه عندك.» - اشارة الى أبى عبد الله العارض. قال: «معاذ الله أن أقبل فيه قولا ولكنّه لجّ فوافقته وسأل فأجبته، والرأى ما رأيتموه من التمسك فكونوا الوسطاء معه فى تطبيب قلبه.» فانصرفوا عن حضرة [456] بهاء الدولة إلى مخيّم أبى على ابن إسماعيل وقد عرف خبرهم فحجّهم فراجعوه حتى أوصلهم. فلمّا دخلوا عليه عاتبهم على ما كان من خطابهم فى معناه وقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 - «ليس من حقّى عليكم أن تعترضوا علىّ بما لا أهواه.» فقالوا: «دع عنك هذا القول، فإنّ حراسة دولة صاحبنا التي بها ثباتنا وفيها حياتنا أولى من قضاء حقك فى موافقتك على غرضك.» وما زالوا به حتى ركب إلى مضرب بهاء الدولة فلقى منه ما أحبّه وعاد إلى عادته فى تدبير الأمور وتنفيذها. وأذن لجماعة من الأتراك فى العود إلى مدينة السلام وتوجّه [مع] [1] بهاء الدولة إلى الأهواز. ذكر ما دبّره أبو على ابن إسماعيل بالأهواز أول ما بدا بالنظر فيه أمر الاقطاعات وتقريرها بين الديلم والأتراك وعول فى ذلك على أبى على الرخجي الملقّب من بعد بمؤيد الدولة، واستقرّت المناصفة. ثم امتنع ديلم دستر عن الدخول فى هذا الحكم وكادت القاعدة تنتقض والاستقامة تضطرب والشرّ بين الفريقين يعود جذعا. فقام الرخجي فى التوسط بينهم مقاما محمودا على أن تكون أبواب المال فى قصبات البلاد مقرّة على من هي بيده وتكون المناصفة فيما عداها من الضياع [457] والسواد. فتراضوا بذلك. وأفردت له خيمة كان يحضر فيها ومعه فناخسره بن أبى جعفر وألفتكين الخادمى ومن يتبعهما من وجوه الطائفتين، فتولى تقرير المناصفات وإخراج الاعتدادات وإشراك [2] طائفة مع أخرى وكتب الاتفاقات فلم تمض [3] أيّام قلائل حتى انتجز الأمر على المراد.   [1] . زيادة من مد. [2] . والمثبت فى مد: اشتراك. [3] . والمثبت فى مد: فلم تمضى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 وكان الفرخان قد فارق الأهواز ومضى إلى إيذج مستوحشا وأنفذ أبو محمد ابن مكرم إليه بما وثق به من الأمان فأمنه وعاد به. فلمّا ورد الفرّخان خلع عليه أبو على ابن إسماعيل واستخلفه مدة بين يديه ثم سيّره أمامه إلى بلاد سابور والسواحل. وأخرج شهرستان بن اللشكرى فى عدة كثيرة من العسكر مقدمة إلى أرّجان فصار إليها ودفع ابن بختيار عنها، فلحق بأخيه المقيم بشيراز. ذكر رأى أشار به أبو علىّ ابن إسماعيل على بهاء الدولة أشار عليه بأن يستدعى الأمير أبا منصور ولده ويرتّبه بالأهواز ويضمّ إليه أبا جعفر الحجاج وأن يسير بنفسه إلى فارس وإذا فتحها استدعى الأمير أبا منصور وأقامه فيها وانكفأ إلى الأهواز فجعلها للأمير أبى شجاع [458] وقصد البصرة، فإذا ارتجعها جعلها للأمير أبى طاهر وعاد إلى بغداد فاستوطنها ودبّر أمر الموصل منها. فلم يعجب بهاء الدولة هذا الرأى وكان أبو على قبل أن يفاوض بهاء الدولة فى ذلك فاوض أبا الخطّاب حمزة بن ابراهيم فيه- وأبو الخطّاب يومئذ ينوب عنه بحضرة بهاء الدولة- فقال له أبو الخطّاب: - «أنا أعرف بأخلاق الملك وأغراضه. والصواب لك أن تدعه بالأهواز وتسير أنت والعسكر إلى فارس، فإذا فتحتها أقمت بها ورتّبت للنظر فى الأمور بحضرة بهاء الدولة من تأمنه وترتضيه. فإنّك إذا بعدت عنه حصلت من تلك البلاد فى مملكة واسعة وتصرّفت على اختيارك من غير معارضة مانعة. فإنّه متى سار معك كنت بين أن تستبدّ برأيك أو تخالفه فتوغر صدره عليك ولا تأمن ما يكون من بوادره إليك، وبين أن تصبر على معارضته لك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 فتجرع الغيظ منه بالاحتمال، أو تظهر من الاستعفاء ما يؤدى إلى فساد الحال.» فلم يقبل أبو على منه واستبد برأيه وعمل أبو الخطّاب بالأحوط لنفسه وانحرف عن أبى على ومال إلى مطابقة بهاء الدولة فيما ينفق عليه. قد استمررنا على النهج فى ذكر ما وجدناه فى التاريخ ونحن نرى أنّ أبا على أصاب فى رأيه ولا نرى حزما فيما أشار به أبو الخطّاب عليه من البعد عن حضرة ملك سريع [459] التقلّب فى الأحوال، كثير القبول للأقوال إذا بنى معه أمر نقض، وإذا عقد معه عهد نكث. فإذا كان الباني مع حضوره يخاف انتقاض بنائه فكيف يثق ببنائه إذا غاب عن فنائه؟ وهل مجال الأعداء فى الطعن على الوزراء وهم مقيمون فى منصب عزّهم كمجالهم إذا خلت الحضرة منهم ببعدهم؟ كلّا إنّ لسان الغيبة يطول عند الغيبة مع البعد عن بساط المراقبة والهيبة، وكلّ مجر فى الخلاء يسر [1] . فما أخطأ أبو على فيما رآه، وما عليه ان خانه مقدور، فالقدر حتم والمرء معذور: غلام وغى تقحّمها فأبلى ... فخان بلاءه الزّمن الخؤون وكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت الظّنون وأطرف من ذلك مشورة أبى الخطّاب عليه باستخلاف من يأمنه بالحضرة ليحفظ عنه وأين الأمين الذي يرعى العهد إذا لابس الحلّ والعقد؟ أليس أبو الخطّاب وكان نائبه وصنيعته جحد إحسانه وطلب مصلحة نفسه فتبرّأ منه وخانه؟   [1] . تفسير المثل عند الميداني (طبع بيروت 1312) 6: 106. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 وكذلك كل ذى ثقة إذا استحلى الدنيا [صار] [1] ظنينا وكل ذى مقة إذا حسد [2] صار عدوا مبينا. وربّ أخ قد شاقّ فى الحسد أخاه، بل ربّما ولد عقّ فى طلب الرتبة أباه، ومثل ذلك موجود [460] نشهده ونراه. وإنّما كان خطأ أبى على فى إفراط إعجابه وكثرة إدلاله وشكاسة أخلاقه ومنافسته لولى نعمته. فالملوك لا يشاكسون وأولياء النعمة لا [3] ينافسون. ومع ذلك فلكل أجل كتاب، والصواب مع الشقاوة خطأ، والخطأ مع السعادة صواب: والنّاس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأمّ المخطىء الهبل ونعود إلى سياقة الحديث. ولمّا استقرّ ما بين الديلم من المناصفات عوّل على أبى جعفر الحجّاج فى المقام بالأهواز، وسار بهاء الدولة وأبو على إلى الموفّق إلى رامهرمز، وتقدّم أبو على مع العسكر وصار إليه أبو جعفر أستاذ هرمز فى بعض الطريق هاربا من ابن بختيار. ذكر خلاص أبى جعفر أستاذ هرمز قد تقدّم ذكر حصوله فى قبضة ابن بختيار فقرّر أمره على ألف ألف درهم وأدّى أكثرها ثم حصل عند لشكرستان كور موكلا به مطالبا بالبقية فاحتال صاحب له طبرى فى الهرب به إلى دار أحد الجند ثم أحضر قوما من الأكراد   [1] . زاده فى مد. [2] . وفى الأصل: حسد الدنيا. [3] . وفى الأصل: لأولياء النعمة ولا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 وأخرجه إليهم فساروا به وألحقوه بأبى على ابن إسماعيل. [461] وطوى أبو على المنازل حتى نزل بباب شيراز. ذكر فتح شيراز لمّا نزل أبو على بظاهر البلد برز ابن بختيار فى جنده ورجالته وعسكر بإزائه ووقعت الحرب بينهما فتضعضع ابن بختيار فى اليوم الأول وصادف عساكر بهاء الدولة وغدر به كثير من الغلمان ودخلوا الباب ونهبوا بعضه ونادوا بشعار بهاء الدولة. وكان أبو أحمد الموسوي بشيراز على ما تقدّم ذكره فى مسيره من واسط إليها وظنّ أبو احمد أنّ أمرا قد تمّ فاستعجل وركب إلى المسجد الجامع وكان يوم الجمعة فأقام الخطبة لبهاء الدولة. ثم ثاب ابن بختيار وعسكره فخاف أبو أحمد واحتال لنفسه وقعد فى سلّة وحمل مغطّى حتى أخرج إلى معسكر أبى على ابن إسماعيل. وعادت الحرب فى اليوم الثالث بين الفريقين فلم يمض من النهار بعضه حتى استأمن الديلم إلى أبى على وهرب ابن بختيار ناجيا بنفسه وتبعه أخوه فى الهرب. فأمّا أحدهما وهو أبو نصر فإنّه لحق ببلاد الديلم، وأمّا الآخر فإنّه مضى إلى بدر بن حسنويه، ثم تنقّل من عنده إلى البطيحة، وملك أبو على البلد وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح وإتمام المسير فسار إلى شيراز واستقرّ فى الدار بها. [462] ذكر ما جرى عليه الأمر بعد هذا الفتح لمّا حصل بهاء الدولة بفارس أمر بنهب قرية الدودمان وحرقها وقتل كل من وجد بها من أهلها حتى استأصل شأفتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 وكشف عن رمّة صمصام الدولة وجددت أكفانها وحملت [1] إلى التربة بشيراز فدفنت بها وأحسن إلى فاطمة الدودمانية خاصة وبرّها ووصلها. وذلك ثمرة فعلها الجميل. فإنّ المعروف شجرة مباركة أصلها زكىّ وعودها رطيب وورقها نضير، وما خاب من غرسها وسقاها ولا ندم من حفظها ورعاها. فاجتمع ديلم فارس جميعهم بشيراز وجرى الخوض فى أمر الإقطاعات وارتجاع ما يرتجع منها وإقرار ما يقرر، وترددت فى ذلك مناظرات. ذكر تقرير للإقطاعات [2] وتوفير فى المصارفات تقرر أن تجعل أصول التقريرات مصارفة ثلاثمائة درهم بدينار وأن ينظر [463] ما لكل رجل من الإيجاب الأصلي فيعطى به من الاقطاع الذي فى يده ما يكون ارتفاعه بقدره على هذا الصرف ويرتجع الباقي وان يبطل كل ما كان وقع به فى آخر أيّام صمصام الدولة. وجرى الأمر على ذلك فى معاملة الأواسط [3] والأصاغر. فأمّا أكابر الديلم فإنّ أبا على ابن إسماعيل أعطاهم حتى ملأ عيونهم. وعرفوا مذهبه فى العجب والكبر فوضعوا له خدودهم وخدموه خدمة لا يستحقها الملوك فضلا عن الوزراء. فكانوا يقبّلون الأرض إذا بصروا به وإلى أن يصلوا إليه عدّة مرّات ويمشون بين يديه إذا ركب كما تمشى أصاغر الديلم. وزاد الأمر به فيما أعطاهم من الأموال وأعطوه من الطاعة والانقياد وكل زيادة تجاوزت حدّ الاستحقاق فهي نقصان، وكل عطية سلبت نفع الارتفاق   [1] . والمثبت فى مد: وجملت. [2] . والمثبت فى مد: الإقطاعات. [3] . فى مد: معاملته. وفى الأصل: إلّا بواسط (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 فهي حرمان. وعوّل على أبى غالب محمد بن علىّ بن خلف فى الغيابة عنه وقدّمه واصطنعه، وفرّق العساكر فى النواحي، وأخرج أبا جعفر أستاذ هرمز إلى كرمان واليا عليها، وقبض على ألفتكين الخادمى. ذكر السبب فى القبض على ألفتكين [464] كان أبو على ابن إسماعيل يرعى لفلح ما أسداه إليه من جميل فى استتاره ببغداد. فقدّمه ونوّه بذكره وثقل ذلك على ألفتكين وأضمر به استيحاشا منه. واتفق أنّ أبا علىّ فى بعض مواقفه بباب السوس قال لألفتكين: - «يا حاجب الحجّاب قد عزمت على [1] أن أمضى فى قطعة من الجيش إلى وراء السوس وأدخل أطراف البلد. فإنّ الديلم إذا عرفوا خبرنا اضطربوا وانصرف قوم منهم إلينا فتشوّشت تعبيتهم. فإذا بدت ذلك الفرصة وأمكنتك الحملة فاصنع ما أنت صانع.» وقرّر ذلك معه وترك أبو علىّ علامته بحالها ودار من وراء الديلم ومعه نجب من الغلمان غيرهم ودخل شوارع السوس فانفصل من العسكر الصمصامى شهرستان فى خمسمائة رجل وتلقّاهم واقتتلوا قتالا شديدا واضطرب مصافّ الديلم ولاحت الفرصة لألفتكين فى الحملة، فتوقف عنها غيظا من أبى على الموفّق لأنّه كره أن يتمّ أمر على يده. فنقم أبو على هذا الفعل عليه وأسرّه فى نفسه. وحصل على باب شيراز بإزاء ابن بختيار فظهر من ألفتكين من التقاعد قريب ممّا تقدّم. فلمّا تمّ أمر الفتح وورد بهاء الدولة واستقرت الأمور، عمل   [1] . وفى الأصل: إلى (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 فى إبعاده. فندبه للخروج إلى بعض الكور وأمره بالتأهب وحمل إليه عشرين ألف درهم نفقة. فأحضرها [465] النقيب وألفتكين شارب ثمل، فتكلّم بقبيح أعيد على الموفّق، فاغتاظ منه، وقال لبهاء الدولة: - «هذا الغلام كالعاصى علينا والصواب القبض عليه وإقامة الهيبة فى نفوس الغلمان به.» فأذن له فى ذلك فقبض عليه وحمله إلى القلعة. ذكر حيلة لطيفة كانت سببا لسلامة ألفتكين اجتمع الغلمان ليخاطبوا فى أمره. فانتدب أحد وجوههم لأبى علىّ وقال له: - «نحن عبيدك وأمرك نافذ فى صغيرنا وكبيرنا وما نطالبك بالإفراج عنه وقد أنكرت ما أنكرت منه. ولكنّا نسألك أن تهب لنا دمه وتعطينا يدك على حراسة نفسه.» فقال: «أمّا هذا فنعم.» وأخذوا يده على ذلك وتوثقوا منه. فلمّا عرض لأبى علىّ المسير فى طلب ابن بختيار حين عاد من بلاد الديلم إلى كرمان اجتمع إليه خواصه ونصحاؤه وقالوا: - «ليس من الرأى أن تخرج فى مثل هذا الوجه وتترك وراءك مثل هذا العدوّ.» وأشاروا إلى ألفتكين فقال: - «ما كنت لأبذل قولي فى أمر ثم أرجع عنه.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 ذكر أغلاط لأبى علىّ ابن إسماعيل [466] كانت سببا لفساد حاله أدلّ أبو على بعد فتح شيراز على بهاء الدولة إدلالا أفرط فيه وتجبّر تجبّرا لا توجبه السياسة ولا تقتضيه. واطرح ما يلزم فى خدمة الملوك من التقرب إليهم والتوفّر عليهم وسلك خلاف هذه الطريقة وخرج من حدّ المتابعة والموافقة إلى المنافقة والمضايقة. من غلطاته أنّ أحد النبهاء قال لبهاء الدولة فى مجلس أنسه على سبيل الدعابة: - «زينك الله يا مولانا فى عين الموفّق.» وبلغه ذاك، فطالبه بتسليمه إليه ودوفع عنه فلم يندفع، وأقام على الاستعفاء حتى سلم إليه فبالغ فى عقوبته. ومنها أنّه وقع بين غلمان داره وبين غلمان الخيول الخاصة ما يقع من أمثالهم بين أمثالهم عند اللعب بالصوالجة. فغلق بابه ومنع العسكر من لقائه ولم يقبل مشورة أحد من خواصه وراسل بهاء الدولة فقال للرسول: - «يا هذا، إنّ المخاطبة لى على غلمان دارى قبيح وإنّ التعصّب علىّ لأجل منابذة جرت بينه وبين غلمانه، أقبح وتسليمهم إليه ليشفى صدره منهم أقبح وأقبح، فارجع إليه بالمعاتبة اللطيفة، وعرّفه ما عليه فى هذه المراسلة الطريفة.» فمضت معه خطوب حتى أمسك. ومنها أنّ بهاء الدولة كان يجلس فى الجوسق [1] الذي فى دار الامارة بشيراز وهو مشرف على الميدان ويجتاز أبو على فيه [467] راكبا وبين يديه   [1] . الجوسق: أصله الفارسىّ: كوشك، أى القصر، أو كلّ بناء عال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 أكابر الديلم مشاة فلا يرى أن يترجّل وبهاء الدولة يراه وينفطر غيظا منه. ومنها أنّه أنفذ إليه بعض خواصه فى ليلة نيروز يلتمس منه ثلاثة آلاف درهم فقال للرسول: - «لأىّ حاجة يريدها، للخبز أو للحم أم للشعير؟» فقال له الرسول: - «أيّها الوزير لا يحسن أن يكون جواب الرسالة غير حمل الدراهم.» فقال له: - «ما ههنا مال.» وخاف الرسول أن تجرى منافرة يكون هو سببها فحمل الدراهم من ماله وعرف بهاء الدولة ذلك من بعد. فانظر إلى عجب الزمان وتقلّب الأعيان: هذا أبو على هو الرجل الذي تكلّف واستدان وحمل إلى بهاء الدولة من بغداد ما امتنع من حمله ابن عمر وابن صالحان، فقربت من قلبه منزلته وعلت لديه درجته ورتبته، ثم ينتهى الأمر به إلى أن يطلب منه بهاء الدولة فى ليلة نيروز هذا القدر النزر مع اتساع حاله وتبذّخه على الديلم بعطائه ونواله فيمنعه. هل ذلك إلّا لحادث قد يغطّى على كل بصر وبصيرة؟ [1] فشتان بين ابتداء السعادة وانتهائها لقد أحسنت أيامه فى إقبالها وأساءت فى انفصالها والخبر المأثور مشهور: إذا أقبلت الدنيا على قوم كستهم محاسن غيرهم، وإذا ولّت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم. وكان أبو غالب ابن خلف فى خلال هذه المضايقات يحول إلى بهاء الدولة الدنانير الكثيرة فى الأوقات [468] المتفرقة سرّا فتمهدت له بذلك حال   [1] . والمثبت فى مد: على كلّ بصيرة وبصير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 راعاها، وكانت أكبر وسائله عنده. وتأكدت الوحشة بين بهاء الدولة وأبى علىّ وجرى أمره على ما يأتى من بعد ذكره بمشيئة الله تعالى. ذكر القبض على نقيب نقباء الديلم وفى هذه السنة قبض بكران بن بلفوارس على الحسين بن محمد بن مما نقيب نقباء الديلم ببغداد ثم أفرج عنه. ذكر الحال فى القبض عليه كان بكران مستنابا من قبل بهاء الدولة ببغداد على أمور الديلم. فاستوحش من ابن مما وسعى بينهما سعاة بالفساد. فقبض عليه بغير أمر من بهاء الدولة واعتقله فى داره ووكّل به كوشيار بن المرزبان مع جماعة من الديلم وضيّق عليه وقلّد أبا الحسين ابن راشد نقابة النقباء وأنزله فى دار ابن مما وقيل: إنّه همّ بالفتك به. فتوسط أبو الفتح منصور بن جعفر أمره وضمن عنه عشرين ألف دينار وأخذه إلى داره وأقام خطوطا وكفالات بالمبلغ. وعرف الشريف أبو الحسن ابن عمر ما أقدم عليه بكران فأنكره وأطلق لسانه فى بكران وفى ابن راشد بكل عظيمة، وكتب إلى بهاء الدولة وإلى أبى علىّ ابن إسماعيل بذلك. [469] ذكر سياسة قامت بها الهيبة فى الإفراج عنه لمّا وصلت الكتب إلى أبى علىّ ابن إسماعيل امتعض الامتعاض الشديد وكتب إلى بكران بما أغلظ القول فيه، وإلى الشريف أبى الحسن بانتزاع ابن مما من يده وارتجاع الكفالات المأخوذة بالمال منه. وكتب إلى أحمد الفرّاش بملازمة بكران إلى أن يفرج عن الرجل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 فامتثلت الجماعة مرسومه وأفرج عن ابن مما وردّت عليه الكفالات وانحدر إلى الأهواز وجدّد عهدا بالخدمة وعاد موفورا. واستدعى بكران وأنفذ شيرزيل أخوه إلى بغداد ليقوم مقامه وقبض على كوشيار وحلّ إقطاعه ووفيت السياسة حقّها فى ذلك. وفيها توجه الأمير أبو منصور ابن بهاء الدولة إلى الأهواز. وفيها استولى الأمير أبو القاسم محمود بن سبكتكين على أعمال خراسان بعد أن واقع عبد الملك بن نوح بن منصور ومن فى جملته من توزون وفائق وابن سمجور بظاهر مرو، وهزمهم وأقام الدعوة لأمير المؤمنين القادر بالله رضى الله عنه، على منابر تلك البلاد وكان آل [سامان] مستمرين على إقامتها للطائع لله. وورد كتاب أبى القاسم [470] محمود إلى القادر بالله رضى الله عنه، يذكر الفتح على ما جرت به العادة فى أمثاله. انقضت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وبانقضاء أخبارها ختمنا هذا الكتاب، ومن الله تعالى نرجو أحسن التوفيق والهداية للصواب، وبه سبحانه نعود من شر القصد وخيبة المنقلب وآفة الإعجاب وهو حسبنا ونعم الوكيل آخر ما صنفه الوزير أبو شجاع رضى الله عنه وأرضاه، والحمد لله كثيرا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 الملحق بذيل الروذراورى وهو الجزء الثامن من تاريخ أبى الحسين هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابي الكاتب (حوادث سنة 389- 393 هجرية) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 بسم الله الرحمن الرحيم شرح الحال فى قبض أبى شجاع بكران بن بلفوارس على أبى القاسم الحسين بن مما نقيب النقباء استوحش أبو شجاع بكران من أبى القاسم ابن مما وسعى بينهما سعاة بالفساد. فقبض عليه بغير أمر بهاء الدولة والموفق واعتقله وقيّده ووكّل به أبا العباس كوشيار بن المرزبان وجماعة من الديلم وضيّق عليه ومنع كل أحد من الوصول اليه. وقلّد أبا الحسين محمد بن راشد نقابة النقباء وأنزله فى دار أبى القاسم بسوق السلاح وتتبّع أسبابه وأصحابه وهمّ على ما قيل بالفتك به وطالبه بما يصححه ويقرره على نفسه. وتوسط أمره أبو الفتح منصور بن جعفر [1] وضمن عنه عشرين ألف دينار وأخذه الى داره. وعرف أبو الحسن محمد بن عمر ما جرى فأمسك إمساك لا راض ولا منكر. فلما قيل له: إن أبا الحسين بن راشد يتقلد موضعه قامت القيامة عليه غيظا منه وتذكرا لما كان عامله به، وأطلق لسانه فى أبى شجاع بكران وابن راشد بكلّ قول وكتب إلى الموفق بمثله، وجاءه ابن راشد فحجبه واجتهد فى استعطاف رأيه فلم يجد إلى ذلك سبيلا. ونفذت الكتب الى الموفق بالصورة فامتعض الامتعاض الشديد منها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 وكاتب أبا شجاع بكران بما أغلظ له فيه، والشريف أبا الحسن بانتزاع أبى القاسم بن مما من يده وارتجاع الكفالات التي أخذهما منه بالمال الذي قرّره عليه. وكتب الى أبى العباس أحمد الفراش باعتناق هذا الأمر والمضىّ إلى أبى شجاع بكران وملازمته إلى أن يفرج عنه ويردّ عليه خطوط الكافلين به. وفعلت الجماعة ما رسم لها وأفرج عن أبى القاسم فى يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول، وردت عليه الكفالات بالمال المذكور. ثم انحدر من بعد إلى الأهواز وجدد عهدا بخدمة بهاء الدولة والموفق. وأنفذ الموفق أبا الحرب شيرزيل بن أبى الفوارس إلى بغداد للقيام مقام أبى شجاع وبكران أخيه. فكان وروده يوم الخميس لسبع بقين من شهر ربيع الآخر، وردّ أبا القاسم ابن مما فكان وروده يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى وقبض على أبى العباس كوشيار وأقطع إقطاعه وكان من أكبر الأسباب فيما جرى على أبى القاسم. وفى يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول برز الأمير أبو منصور بويه بن بهاء الدولة إلى المعسكر بالاتانين متوجها إلى الأهواز وسار فى يوم الجمعة بعده. ووجدت [3] فى بعض التقاويم أنّه انقضّ فى يوم الأحد المذكور كوكب كبير ضحوة النهار. ذكر إحراق دار الحمولى وفى يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر ربيع الآخر أحرق العامة دار الحمولى، فمضت بأسرها ولم يبق فيها جدار قائم، واحترق ما كان فيها من حسبانات الدواوين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 ذكر السبب فى ذلك كان أبو نصر سابور قد حاول وضع العشر على ما يعمل من الثياب الأبريسميات والقطنيات بمدينة السلام. فثار أهل العتابيين وباب الشأم من ذلك وقصدوا المسجد الجامع بالمدينة يوم الجمعة العاشر من الشهر ومنعوا الخطبة والصلاة وضجّوا واستغاثوا وباكروا الأسواق على مثل هذه الصورة. فلما كان فى يوم الثلاثاء صاروا إلى دار أبى نصر سابور بدرب الديزج، فمنعهم أحداث العلويين منها وخرجوا من درب الديزج الى دجلة وطلبوا من جرى رسمه بالكون فى دار الحمولى من الكتاب والمتصرفين. فهربوا من بين أيديهم وطوحوا النار فى الدار وأهمل إطفاؤها فاتت على جميعها. وورد أبو حرب شيرزيل ناظرا فى البلد على ما قدمنا ذكره فقبض على جماعة من القامة اتهموا بما جرى من الحريق وصلب أربعة أنفار على باب دار الحمولى، وذلك فى يوم الخميس الذي دخل فيه. واستقر الأمر على أخذ العشر من قيم الثياب الابريسميات خاصة، ونودى بذلك بالجانب الغربي فى يوم الأحد الرابع من جمادى الأولى وبالجانب الشرقي فى يوم الإثنين. وثبت هذا الرسم ورتّب فى جبابته ناظرون ومتولّون وأفرد له ديوان فى دار بالبركة، ووضعت الختوم على جميع ما يقطع من المناسج ويباع ويختم. واستمرت الحال على ذلك إلى آخر أيام عميد الجيوش أبى على ثم أسقطه وأزال رسمه على ما سنذكره [4] فى موضعه. وفى يوم الجمعة لستّ بقين منه توفّى أبو القاسم ابن حبابة المحدث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 وصلّى عليه أبو حامد الإسفراينى بمسجد الشرقية [1] . وفى يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى خلع على الشريف أبى الحسين محمد بن على بن الحسن المربنى من دار الخلافة ولقّب: نقيب النقباء. وفى يوم الإثنين الثاني من جمادى الآخرة توفّى أبو الحسين المتطبب تلميذ سنان [2] . وفى رجب قلد أبو العلاء الحسين بن محمد الإسكافي الخزائن والاستعمال فيه. وفيه انحدر أبو شجاع بكران الى واسط. وفى يوم الخميس لاثنتي [3] عشرة ليلة بقيت من شعبان توفّى أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله العلوي بالكوفة. وفى يوم السبت الرابع من شهر رمضان توفّى أبو محمد حسان بن عمر الحريري الشاهد.   [1] . وفى تاريخ الإسلام: ابن حبابة هو عبيد الله بن محمد بن اسحق بن سليمان المتوثى البزاز روى عنه أبو محمد عبد الله بن محمد بن هزامرد الصريفيني كتاب الجعديات وابو حامد هو الامام أحمد بن أبى طاهر محمد المتوفى سنة 406 وفى ترجمته فى تاريخ الإسلام: قال أبو حيان التوحيدي فى رسالة ما يتمثل به العلماء: سمعت الشيخ أبا حامد يقول: لا تعلق كثيرا مما تسمع منى فى مجالس الجدل فان الكلام يجرى فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته فلسنا نتكلم فيها لوجه الله خالصا ولو أردنا ذلك لكان خطونا الى الصمت اسرع من تطاولنا فى الكلام وان كنا فى كثير من هذا نبوء بغضب الله تعالى فانا مع ذلك نطمع فى سعة رحمة الله (مد) . [2] . هو ابن كشكرايا وقال فيه بن ابى اصيبعة 1: 238 انه كان فى خدمة سيف الدولة ولما بنى عضد الدولة البيمارستان ببغداد استخدمه وزاد حاله. وله قصة مع جبرئيل بن بختيشوع وردت فى تاريخ الحكماء لجمال الدين القفطي ص 149 (مد) . [3] . فى مد: لاثنى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 مقتل محمد بن علىّ الحاجب وفى ليلة الجمعة مستهلّ شوال قتل أبو عبد الله محمد بن علىّ بن هدهد الحاجب الناظر فى المعونة. شرح الحال فى ذلك جرت بين ابن هدهد وبين أبى الحسن ابن رهزاذ الأحول نبوة لأمر سأله فيه وردّه عنه، وتزايد ما بينهما إلى أن بذل أبو الحسن فيه بذلا كثيرا. فقبض أبو نصر سابور عليه وسلّمه إليه واعتقل ابو الحسن فى داره. فلما كان فى ليلة يوم الجمعة كبسه العيارون وقتلوه واتهم ابن رهزاذ بأنه وضعهم على ذلك. فقبض عليهم وهم الشريف ابو الحسن محمد بن عمر بأن يقيده به. فسأله أبو القاسم ابن مما فى بابه وأخذه إلى داره وكتب إلى الموفق بما جرى ووقف الأمر على ما يعود من جوابه ثم أفرج عنه. وفى يوم الثلاثاء لخمس خلون منه قلّد أبو الحسن على ابن أبى علىّ المعونة بجانبي مدينة السلام وخلع عليه. وفى هذا الشهر [5] قصد ابو الحسن على بن مزيد أبا الفواس قلج بدير العاقول، فانهزم من بين يديه ونهب البلد. وفى يوم الأحد لليلتين خلتا من ذى القعدة ضربت الدراهم التي سمّيت «الفتحية» . وفى يوم الإثنين العاشر منه ورد قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار ابن أحمد وأبو الحسين على بن ميكال حاجين وتلقّاهما القضاة والفقهاء والشهود ووجوه الناس وأبو القاسم ابن مما وأصحاب الشريف أبى الحسن محمد بن عمر وابى نصر سابور وروعيا بالأنزال والملاطفات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 مقتل أصحاب محمد بن عناز وفى ذى الحجّة قتل أصحاب أبى الفتح محمد بن عناز: زهمان بن هندي وأولاده دلف ومقداد وهندي. شرح الحال فى ذلك حدثني أبو المعمر ابراهيم بن الحسين البسامي قال: كان زهمان مستوليا على خانقين وما يجاورهما. فلما قتل المعلم عليا ابنه ضعف أمره ولان غمزه. وعاد أبو الفتح محمد بن عناز من حرب بنى عقيل بالموصل مع أبى جعفر الحجاج فقلّد حماية الدسكرة وجرت بينه وبينه مجاذبات ومنازعات والأيام تقوّى أبا الفتح وتضعف زهمان، وكان منه فى قصده ونهبه مع أبى على ابن إسماعيل على ما قدمنا ذكره. وانتهت الحال بينهما الى الصلح والموادعة والاختلاط والألفة وأرخى أبو الفتح من عنانه وأعطاه من نفسه كل ما تأكد به أنسه. فصار إليه هو وأولاده وتمكن منهم فقبض عليهم ونقلهم إلى قلعة البردان فاعتقلهم فيها وتفرق أصحابه وملك عليهم نواحيهم. ومضت على ذلك مدة فثار أولاد زهمان وكسروا قيودهم وحاولوا الفتك بالموكلين بهم والاستيلاء على القلعة. فصاح [6] الموكلون واجتمع إليهم من عاونهم فقتلوا الثلاثة المذكورين من أولاد زهمان بحضرته وأخذوه فجعلوه فى بيت وسدّوا بابه وكانوا [يدخلون] [1] من كوّة فيه قرصة من شعير وقليل ماء، فبقى أيّاما ومات.   [1] . ما بين المعقوفتين من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 وقد جرت عادة الشيعة فى الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وتعليق الثياب وإظهار الزينة فى يوم الغدير وإشعال النار فى ليلته ونحر جمل فى صبيحته. فأرادت الطائفة الأخرى من السنّة أن تعمل لأنفسها وفى محالّها وأسواقها ما يكون بإزاء ذلك. فادّعت أنّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضى الله عنه، فى الغار وعملت مثل ما تعمله الشيعة فى يوم الغدير. [1] وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوما بعده بثمانية أيام نسبته إلى مقتل مصعب بن الزبير وزارت قبره بمسكن كما يزار قبر الحسين بن على رضى الله عنهما، بالحائر. وكان ابتداء ما عمل من يوم الغدير [2] فى يوم الجمعة لأربع بقين من ذى الحجة. وحج بالناس فى هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر. وحج فيها الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان والشريف المرتضى أبو القاسم على بن الحسين الموسوي [3] والرضى ابو الحسن أخوه، والوزير أبو على الحسن بن أبى الريّان حمد بن محمد. وفى هذه السنة حصل عمدة الدولة ابو اسحق ابراهيم ابن معز الدولة بالموصل واردا من مصر وكثر الارجاف له وبه وأقام مديدة ثم سار إلى الرّى وقصد أبرقويه وتلك الأعمال، وعاد بعد ذاك إلى مصر فكانت وفاته بها. وفيها وافى برد شديد مع غيم مطبق وريح مغرب متصلة، فهلك من [7] النخل فى سواد مدينة السلام ألوف كثيرة وسلم ما سلم ضعيفا. فلم يرجع إلى جلاله وجملته إلّا بعد سنين.   [1] . قال صاحب تاريخ الإسلام فى ترجمة سنة 422: وفى ثامن عشر ذى الحجة عملت الشيعة يوم الغدير وعملت بعدهم اهل السنة الذي يسمونه يوم الغار (مد) . [2] . الصواب هو: الغار (مد) . [3] . وردت ترجمته فى إرشاد الأريب 5: 173 وأخوه الرضى هو محمد (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 وفيها استولى الأمير أبو القاسم محمود بن سبكتكين على أعمال خراسان بعد أن واقع عبد الملك بن نوح بن منصور وتوزون وفائق [1] وابن سيمجور [2] بظاهر مرو وهزمهم وأقام الدعوة لأمير المؤمنين القادر بالله أطال الله بقاءه وقد كان القائمون بالأمر من بنى سامان مستمرين على إقامتها للطائع لله، وورد من الأمير أبى القاسم محمود بهذا الذكر كتاب نسخته بعد التصدير الذي جرت العادة به فى مكاتبة الخلفاء: «بسم الله الرحمن الرحيم» - «أما بعد، فالحمد لله العلى مكانه الرفيع سلطانه الواحد الأحد الفرد الصمد العزيز القهار القوىّ الجبار الذي يكفل بإعلاء الحق ورفعه وإخزاء الباطل وقمعه، الحائق بشيع البغي والعدوان مكره اللاحق بفرق الطغيان، قهره وقسره الحاكم لأوليائه بالعلو والاقتدار، الحاتم على أعدائه بالثبور والتبار، المتفرد بجلاله أن يمانع المتعالي بكبريائه أن يدافع يمهل المغتر بأناته استدراجا ولا يمهل، ويملى المخدوع بحلمه احتجاجا ولا يغفل، بيده الخلق والأمر ومن عنده الفتح والنصر، فتبارك الله رب العالمين رب السموات والأرضين. والحمد لله الذي اصطفى محمدا عليه السلام واختار له دين الإسلام، وفضّله على من تقدمه من   [1] . هو عميد الدولة أبو الحسن الأمير فتى السلطان نوح بن نصر الساماني، توفّى ببخارا فى هذه السنة، وقد ولى امرة هراة مدة عقد بها مجلس الإملاء، وولى بمدن خراسان نيفا وأربعين سنة. كذا فى تاريخ الإسلام (مد) . [2] . وهو أبو القاسم على بن محمد بن ابراهيم وله أخ يسمى أبا على محمد المظفر توفى سنة 387 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 الرسل، وأنار به مناهج الآيات والسبل، وأرسله إلى الخلق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، فهدى إلى القرآن والتوحيد ودلّ على الأمر الرشيد، وأهاب بالبرية إلى مستقيم الدين وأناف بهم [8] على العلم اليقين. فصلوات الله عليهم أتمّ صلاة نماء، وأكملها بهاء صلاة، ترتقى إليه جل جلاله فى أعلى الدرجات، وتحيى روحه فى السموات، وعلى آله أجمعين. - «والحمد لله الذي أنشأ سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الإمام القادر بالله أطال الله بقاءه من ذلك السنخ الزكي والعرق النقي أحسن منشأ، وبوّأه من خلافته فى أرضه أكرم مبوأ، وجعل دولته عالية والأقدار لإرادته مؤاتية، فلا يخالف رايته عدوّ إلّا حان حينه وسخنت عينه، ولا يجيب [1] دعوته ولىّ إلّا كان قدحه فى القداح فائزا، وسعيه للنجاح حائزا، بذلك جرت عادة الله وسننه، ولن تجد لسنة الله تحويلا. - «وقد علم مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، حال الماضين من السامانية فما كانوا فيه من نفاذ الأمر وجمال الذكر وانتظام الأحوال واتساق الأعمال، بما كانوا يظهرونه من طاعة أمير المؤمنين ومبايعتهم، وينحلونه من موالاتهم ومشايعتهم. ولمّا مضى صالح سلفهم وبقي خلف خلفهم خلعوا ربقة الطاعة، وشقّوا مخالفة لمولانا [2] أمير المؤمنين أطال بقاءه عصا [3]   [1] . وفى الأصل يخالف. [2] . وفى الأصل: مولانا. [3] . والمثبت فى مد: عصاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 الجماعة [1] ، وأخلوا منابر خراسان عن ذكره واسمه، وخالفوا فى إفاضة القول [2] وحسم عادية الجور والخبل عالى أمره ورسمه، وعمّ البلاد والعباد فسادهم وبلاؤهم، ونهك الرعايا ظلمهم واعتداؤهم. - «ولم استجز مع ما جمع الله لى فى طاعة مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، من عدّة وعدّة، وشكّة وشوكة، وقوّة أقران وإمكان، وكثرة أنصار وأعوان، إلّا أدعوهم إلى حسن الطاعة، ولا أبذل فى إقامة الدعوة لمولانا أمير المؤمنين [9] أطال الله بقاءه تمام الوسع والاستطاعة. فدعوت منصور بن نوح إليها وبعثته بجدّى واجتهادي عليها ولم يصغ إلى إعذار وتذكير ولم يلتفت إلى إنذار وتبصير، ونهض من بخارا بخيله ورجله وحشده. حفله يجمع على أهل الضلالة من أشياعه، ويحشر من فى البلاد من أتباعه. فكان من شؤم رأيه وسوء انحائه أن اصطلمه جنده فكحلوه، وبايعوا أخاه عبد الملك وملكوه. وجريت على عادتي مع هذا الأخير أوفد إليه مرّة بعد أخرى وثانية عقب أولى، من يدعوه إلى الرشاد ويبصره من التمسك بطاعة مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه سبل الرشاد. فلم يزده ذلك إلّا ما زاد أخاه استعصاء واستغواء، وتهوّرا فى الضلال واستشراء. - «فلما أيست من فيئه إلى واضح الجدد، ورجوعه الى   [1] . جاء فى حاشيته: عسا عظفة منك (كذا) . [2] . لعله: العدل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 الأحسن والأعود، ورأيته متتابعا فى عمايته ومتكسّعا [1] فى مهاوي غوايته، نهضت إليه بمن معى من أولياء مولانا أمير المؤمنين أدام الله علوّه وأنصار الدين فى جيوش يشرق بها الفضاء ويشفق من وقعها القضاء، تزحف فى الحديد زحفا وتخد الأرض جرفا ونسفا، إلى أن وردت مرو يوم الثلاثاء لثلاث بقين من جمادى الأولى وهو البلد الميمون الذي به ابتدأ إشاعة الدولة العباسية، وزالت البدعة الأموية على أحسن تعبية وأكمل عتاد، وأجمل هيئة، ووليت أمر الميمنة عبد مولانا أمير المؤمنين أخى نصر بن ناصر الدولة والدين فى عشرة آلاف رجل وثلاثين فيلا، وجعلت فى الميسرة من الموالي الناصرية اثنى عشر ألف فارس وأربعين فيلا، ووقفت فى القلب بقلب لا يتقلّب، وطاعة مولانا أمير المؤمنين [10] شعاره عن أضداده، وعزم لا ينتقض ودعوة أمير المؤمنين عتاده فى إصداره وإيراده، ومعى عشرون ألف فارس من سائف ورامح ودارع وتارس، وسبعون فيلا، وبرز عبد الملك بن نوح وعن يمينه ويساره بكتوزون أحد غواته وفائق رأس طغاته وعتاته، وابن سيمجور وغيرهم من مساعديه على ضلالته، مستعدين للكفاح مستلئمين فى شك السلاح، وتلاقت الصفوف [2] بالصفوف، واصطلت السيوف بالسيوف، وتوقّدت الحرب واحتدّت واضطرمت نيرانها واشتدت، واختلط الضرب بالطعن، وكبا القرن بالقرن، ولم ير [3]   [1] . تكسّع فى ضلاله: ذهب. تكسّع: تسكّع. [2] . والمثبت فى مد: الصعوف. [3] . والمثبت فى مد: لم يرى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 إلّا تهاوى الصوارم على حجب الجماجم وأوداق النبال، فى أحداق الكماة والابطال. وأهبّ الله ريح الظفر لأوليائه وكشفوا مقانب الأعداء وحملوا [1] فيهم الحتوف وأرووا من دمائهم السيوف، وانجلت المعركة عن ألفى قتيل من شجعانهم وأبطالهم، وألفى وخمسمائة أسير من مشهوري ذادة رجالهم وصناديدهم، واقتفى الأولياء أثار الفلّ من عباديدهم [2] يقتلون ويأسرون ويسلبون ويغنمون، إلى أن ألقت الشمس يمينها وأبرزت ظلمة الليل جنينها، وعاد الأولياء إلى معسكرهم فى وفور من السلامة وتمام من النعمة، وقد ملئوا أيديهم من الغنيمة والنفائس الجمّة، ثم ما نضب منهم أحد ولم ينتقص لهم عدد. و [أكتب] كتابي هذا وقد فتح الله تعالى لمولانا أمير المؤمنين بلاد خراسان قاطبة، وجعل منابرها تذكر اسمه متباهية، وكلمة الحق به عالية والأهواء فى موالاته متهادية. - «وبعد فلم أجدّد رسما فى حلّ وعقد وإبرام ونقض، إلى أن يرد من عالى أمره ورسمه ما أبنى الأمر ببنائه، وأحتدى إلى حدائه بإرادة الله سبحانه وتعالى. فالحمد لله [11] العزيز المنّان العظيم السلطان، الذي لا يضيع لمحسن عملا ولا يغفل عن مسيء وان أرخى له أجلا. ولا يعجزه متغلب بقوّته وحوله ولا يمتنع ممتنع عن سطوته وصوله. ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين رادّ، ولا يصدّ نقمته عن الظالمين صادّ، حمدا يمترى المزيد من إحسانه، ويقتضى الصنع الجديد من امتنانه. وإيّاه   [1] . وفى الأصل: حلموا. [2] . العباديد والعبابيد (بلا واحد) : الفرق من الناس والخيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 أسأل أن يهنئ مولانا أمير المؤمنين الإمام القادر بالله خير هذا الفتح الجليل خطره الواضح على وجه الزمان غرره. وان يواصل له الفتوح قربا وبعدا وغورا ونجدا وبرّا وبحرا وسهلا ووعرا، وأن يوفّقنى للقيام بشرائط خدمته والمناضلة عن بيضته، إنّه على ما يشاء قدير وبه جدير. فإن رأى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ان ينعم بالوقوف عليه وتصريف عبده بين أمره ونهيه فعل، إن شاء الله تعالى.» سنة تسعين وثلاثمائة أولها يوم الأربعاء والثالث عشر من كانون الأول سنة احدى عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر، وروز آسمان [1] من ماه آذر [2] سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ليزدجرد. فى يوم الإثنين السادس من المحرم توفى أبو الحسين على بن المؤمّل بن ميمان كاتب ديوان السواد. وفى يوم الجمعة لعشر خلون منه توفّى أبو بكر أحمد بن على السمسار المعروف بأبى شيخ البزاز. وفى يوم الخميس لسبع بقين منه توفّى القاضي أبو بكر أحمد بن محمد بن أبى موسى الهاشمي. احتراق أرسلان البستى وفى هذا الشهر احترق ارسلان البستى وذاك أنّه كان نائما فى خركاه له   [1] . روز آسمان: يوم السماء. [2] . ماه آذر: شهر آذر، وهو الشهر التاسع من الشهور الإيرانية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 وبه نقرس مزمن قد منعه الحركة والقدرة على النهضة وفرّاشوه وغلمانه بعيدون منه فسقطت شرارة من شمعة كانت فى الخركاه على فراشه فأحرقته وانتبه ولا فضل [12] فيه للقيام من موضعه والنجاة بنفسه فصاح صياحا حجز الليل ونوم الغلمان [1] عن سماعه، وعملت النار فى الفراش والخركاه. فما عرف الخبر إلّا بعد احتراقه وهلاكه. وفيه خرج الموفّق أبو علىّ إلى جبل جيلويه فى طلب أبى نصر ابن بختيار وانتهى إلى أبرقويه وعاد فى صفر. وفى هذه الخرجة لقّب بعمدة الملك، مضافا إلى الموفّق، وأذن له فى ضرب الطبل اوقات الصلوات الخمس، ولقّب أبو المغمر ولده بربيب النعمة. وفى صفر ورد الكتاب من شيراز بتقليب المشطب ابى طاهر سباشى بالسعيد، والإشراك بينه وبين المناصح أبى الهيجاء تختكين الجرجاني فى مراعاة أمور الأتراك فى مدينة السلام. وفى يوم [الخميس] السابع منه توفّى أبو منصور محمد بن أحمد بن الحوارى بالأهواز. وفى يوم الإثنين العاشر من شهر ربيع الأول توفّى أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي [2] ودفن فى حجرة من داره بدرب منصور مدة، ثمّ نقل إلى المشهد بالكوفة، وحضر جنازته أبو نصر سابور بن أردشير وأبو حرب شيرزيل بن أبى الفوارس، والمناصح أبو الهيجاء تختكين الجرجاني وسائر طبقات الناس.   [1] . فى مد: الغمان. [2] . هو الشريف الجليل بن أبى على عمر بن أبى الحسين يحيى بن الحسين النقيب بن أحمد المحدث ابن عمر بن يحيى بن الحسين ذى الدمعة وذى العبرة ابن زيد الشهيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، وله قصة مع الوزير المطهر بن عبد الله وردت فى عمدة الطالب، بمبئي 1318 ص 248 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 ذكر ما جرى عليه الأمر فى تركته وضيعته لما توفّى انفذ أبو نصر سابور فحظر على ما فى داره وخزانته ووكل باصطبلاته وطلب كتّابه وجهابذته، فلم يجد أحدا منهم. لأنّ أبا الحسن على بن الحسن بن إسحق هرب وهرب الجهبذ معه واستتر الباقون من أصحابه. وأحضر أبا عبد الله البطحانى العلوي وطالبه بما عنده من وصيته وماله فامتنع من تسليم ذاك وأخلد فيه إلى الاعتلال والإنكار واعتقله اعتقالا جميلا. ونفذت الكتب إلى بهاء الدولة والموفق بما تجدّد وكتب أبو الحسن محمد بن الحسن ابن يحيى العلوي [1] وقد كان عاد من الأهواز الى واسط بعد الفتح فى أمر الورثة والتركة فعاد الجواب اليه بالإصعاد إلى بغداد والقيام بها مقام أبى الحسن محمد بن عمر. وتقرّر أمر التركة على خمسين ألف دينار تحمل إلى الخزانة. فحدّثنى أبو القاسم ابن المطلب قال: تقرر الأمر بفارس على خمسين ألف دينار صلحا عن التركة وأن يكون النصف من الأملاك للخاص والنصف للورثة. ثمّ أفرد قسط السلطان فحصل له به الثلثان لأنّه أخذ عيون الضياع وجمع موجود التركة فلم يف بالتقرير حتى تمم بأثمان أملاك بيعت من جملة ما حصل للورثة من الضياع على أبى على عمر بن محمد بن عمر وأبى عبد الله الحسين بن الحسن بن يحيى وأبى محمد علىّ وابن محمد بن الحسن بن يحيى وأبى على عمر بن محمد بن الحسن بن يحيى.   [1] . أظنّه محمدا كمال الشرف ابن أبى القاسم الحسن الأديب ابن أبى جعفر محمد بن على الزاهد ابن محمد الأصغر الأقساسى ابن أبى الحسن يحيى بن الحسين ذى الدمعة ابن زيد الشهيد، ولّاه الشريف المرتضى نقابة الكوفة وأمارة الحج، فحجّ بالناس مرارا. كذا فى عمدة الطالب ص 235 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 وأصعد أبو الحسن بن يحيى إلى بغداد فكان دخوله إياها فى يوم الأربعاء الثاني من جمادى الأولى ومعه أبو على عمر بن محمد بن عمر وأبو الحسن ابن اسحق الكاتب وكان انحدر إلى واسط فلقيه فى الطريق وعاد فى صحبته وأطلق أبو عبد الله البطحانى وسلّم إليه وراعى أبو الحسن القسط السلطاني من المعمريات وتولّى (أبو) الحسن ابن إسحق النظر فيه. وارتفع فى هذه السنة وهي سنة تسع وثمانين وثلاثمائة الخراجية على ما ذكره أبو القاسم بن المطلب مع حق الورثة وسوى حقوق بيت المال بألفي كرّ ونيّف حنطة وشعيرا وأصنافا وتسعة عشر ألف دينار وكسر. وفى يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر ربيع الأول قبل القاضي أبو محمد ابن الأكفانى شهادة أبى القاسم [14] ابن المنذر وأبى الحسين بن الحرّانى وفى يوم الجمعة لليلتين بقيتا منه قبل شهادة أبى العلاء الواسطي. وفى ليلة يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر ولد الأمير أبو الفوارس ابن بهاء الدولة بشيراز والطالع كوكب من العقرب. وفى يوم الخميس لخمس بقين منه توفّى أبو عمر أحمد بن موسى العلاف الشاهد بالجانب الشرقي. وفى يوم الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى خلع على الموفّق أبى على بفارس بالقباء والفرجية والسيف والمنطقة والدستى المذهّب، وحمل على دابّة بمركب ذهب وقيّد بين يديه دابّة بمركب مذهّب وبغلة بجناغ نمور ومركب بقبل مذهب وثلاثة أفراس بجلال ديباج، وأعطى دواة محلّاة بالذهب، وحمل معه ترس من ذهب وسائر السلاح وخلع على أبى نصر كاتبه وثلاثة من حجّابه ودوّاتيه وأستاذ داره، وخرج لقتال أبى نصر ابن بختيار ومعه العساكر بعد أن استناب أبا غالب محمد بن خلف بشيراز على مراعاة الأمور وأبا الفضل الإسكافى بحضرة بهاء الدولة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 شرح الحال فى عود ابن بختيار وما جرى عليه أمر الموفق فى قصده إيّاه وظفره به وأمر عسكر ابن بختيار بعد قتله لما انهزم أبو نصر بن بختيار من باب شيراز صار إلى الأكراد وانتقل إلى أطراف بلاد الديلم. وكاتب الديلم بفارس وكرمان لما استقرت به الدار هناك وكاتبوه واستدعوه واستجرّوه. فصار إلى أبرقويه واجتمعت معه طائفة كبيرة من ديلم وأتراك وزطّ وأكراد وتردّد [15] فى نواحي فارس وتنقل فى أطرافها وظهر أمره وشاع خبره وواصل مكاتبة الديلم ومراسلتهم واجتذابهم واستمالتهم. وخرج الموفق أبو علىّ فى طلبه إلى جبل جيلويه وانتهى فى اتّباعه إلى أبرقويه. وكان يهرب ويراوغ ويدافع ولا يواقف ومضى إلى السيرجان. فحدّثنى أبو عبد الله الفسوي قال: لمّا قصد ابن بختيار السيرجان لم يقبله الديلم الذين بها وكرهوا حصوله عندهم ومقامه بينهم. وكان أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن بجيرفت فنبا بابن بختيار المقام بهذا المكان وسار إلى خانين والفرخان، وهما ناحيتان بين فارس وكرمان وفيهما خلق كثير من حملة السلاح وفى أكنافهما حلل الزطّ الذين هم أشد الرجالة الفارسيين شوكة وأكثرهم عدة، واستمال منهم طائفة كثيرة وأقبل الديلم وغيرهم إليه أرسالا من نواحي كورة درابجرد ومن سائر الأصقاع. وعمل أستاذ هرمز على قصده قبل استفحال أمره، فجمع عساكر كرمان وتوجه لطلبه، وسبقه ابن بختيار الى دشتير، والتقيا فى موضع يعرف بزيرل، من ظاهرها واستأمن إلى ابن بختيار كثير من الديلم الذين كانوا مع أستاذ هرمز، فانهزم أستاذ هرمز فى خواصه وأقاربه من القوهية وصار الى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 السيرجان. ومضى ابن بختيار إلى جيرفت ورتب العمال وجبى الأموال وأنفذ الى شقّ بمّ من استغوى له الجند الذين فيها ودعاهم إلى طاعته وملك أكثر كرمان واستولى عليها وانتشر أصحابه فيها يطرقون أعمالها ويستخرجون ارتفاعها وأستاذ هرمز بالسيرجان ينفذ السرايا إلى النواحي ويكبس أصحاب ابن بختيار [16] ويسلك سبيل الغيلة والمكيدة فى طلبهم والإيقاع بهم. ثم ورد عليه كتاب الموفق بأنّه سائر، ورسم له قصد بردشير وسبق ابن بختيار إليها. ففعل ذاك وحصل بباب بردشير وصعد من كان بها من ديلم ابن بختيار إلى قلعتها ومنعوا نفوسهم فيها وتوجه الموفّق إلى كرمان على طريق درابجرد. فلما وصل إلى فسا عسكر بظاهرها، وعرف ابو عبد الله الحسين بن محمد بن يوسف وهو عامل كورة درابجرد خروجه من شيراز فبادر لاستقباله وخدمته، فوافق وصوله إلى معسكره أن كان نائما، فما انتبه إلّا بصهيل الخيل وضجيج الأتباع والحشم فشاهد من كثرة حواشيه وضففه وسعة كراعه ورجله ما عظم فى نفسه وحمله حسده عليه على أن قبض عليه وعلى أصحابه وأخذه معه محمولا على جمل، بعد أن احتوى على جميع ماله. فكان إذا نزل فى المنزل أحضره وطالبه وضربه وعذّبه حتى تقدم فى بعض الأيام بأن يعلق بإحدى يديه فى بعض أعمدة الخيم وأن يحمل على الجمل معلّقا، وهو مع هذه المعاملة لا يستجيب إلى التزام درهم ولا يذعن بقليل ولا كثير، وكان أكثر ما انتهى به الموفق إليه لغيظه من تقاعده وتماتنه. فذكر أبو عبد الله أنّه عرف من بعض أصحابه- يعنى الموفق- انه قال: - «ما رأيت أشد نفسا من هذا الرجل فقد عذّب اليوم بكل نوع من العذاب وحلّ الساعة عن الشدّ والتعليق وهو جالس يسرح لحيته بيده وما عنده فكر فى كل ما لحقه.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 وعرف ابن بختيار مسير الموفّق، فاستخلف الحسين بن مستر قرابة ملك ديلمان بجيرفت فى جماعة من رجاله وسار طالبا لبردشير وعاملا [17] على التحصن بها، إلى أن تلحق به أصحابه ببمّ ونرماسير، وقد كان كاتبهم واستدعاهم وهم جمرة قوية. فلما توسط الطريق إليها بلغه حصول أستاذ هرمز بها وصعود أصحابه إلى القلعة فعدل الى طريق بمّ ونرماسير وكاتب من بهما من عسكره بالمصير الى دار زين، وتمم هو إليها. فنزلها منتظرا لوصولهم اليه ورحل الموفق من فسا وطوى المنازل حتى أطلّ على جيرفت واستأمن إليه من بها من الديلم لأنّهم لم يجدوا مهربا ولا منصرفا وكانوا نحو أربع مائة رجل. فاستوقف عندهم أبا الفتح ابن المؤمّل وأبا الفضل محمد ابن القاسم بن سودمند العارض وقال لهم: - «قد أقمتهما عندكم ليعرضاكم ويقررا أموركم» . ووصاهما بأن يقتلاهم. فجمعاهم إلى بستان فى دار الإمارة على أن يعرضوا فيه من غد ذلك اليوم ثم جمعا الرجالة الكوج واستدعيا واحدا واحدا على سبيل العرض وقتلاه وكان هذا الفعل منهما ليلا. ثم خافا أن ينقضي الليل ويدرك الصباح قبل الفراغ فرموا بقيتهم فى بئر كرد كانت فى البستان وطرح التراب فوقهم. وعرف الموفق من جيرفت خبر ابن بختيار وأخذه طريق بمّ ونرماسير، فخلف أثقاله وسواده واتبعه فيمن خفّ ركابه وثبتت دوابّه وخاطر بنفسه وبالمملكة فى هذا الفعل منه. فحدثني أبو منصور مردوست بن بكران، وكان معه وإليه خزانة السلاح السلطانية التي فى صحبته وهو داخل فى ثقاته وخاصته قال: كلّت أجسامنا ودوابّنا من مواصلة السير وإغذاذه وترك الإراحة فى ليل أو نهار، ووصلنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 إلى جيرفت وما نعرف لابن بختيار خبرا. وقعد الموفق وجمع [18] الوجوه من الديلم والأتراك واستشارهم. فكلّ أشار بالتوقف والتثبت وتجنب المخاطرة بالاقدام والتهجم فامتنع من قبول ذاك فأقام على أمره فى الإسراء وراء ابن بختيار واستدعى منجما كان صحبه من شيراز فقال له: - «أليس حكمت بأننى آخذ ابن بختيار وأظفر به فى يوم الاثنين الآتي» . قال: «نعم» . قال: «أين ذاك ونحن على هذه الصورة والرجل مستعجم الخبر وانما بقي من الأيّام خمسة أيام؟» فقال: «أنا مقيم على قولي فى حكمى، ومتى لم تظفر فى اليوم الذي ذكرته فدمى لك حلال، وإن ظفرت فأىّ شيء تعطيني؟» قال [أبو منصور] [1] : فتضاحكنا به وهزئنا منه وسار فكان الظفر فى اليوم الذي نصّ عليه. وحدثني أبو نصر السنّى كاتب الموفّق قال: لمّا عظم أمر ابن بختيار وملك كرمان واجتمع عليه الديلم قلق بهاء الدولة بذلك وطالب الموفق بالخروج لقصده وحربه وكان مخاطبا له على الاستعفاء وقال له: - «لو أجبتك [2] إلى الاستعفاء لما حسن بك ان تتقبّله فى مثل هذا الوقت وقد علمت أنّنى لم أخرج من واسط إلّا برأيك ولا وصلت الى ما وصلت إليه من هذه الممالك إلّا برأيك واجتهادك. وإذا قعدت بى فى هذه الضغطة فقد أسلمتنى وضيّعت ما قدّمته فى خدمتي. ولكن تمضى فى هذا الوجه وتدفع عنّى هذا العدوّ وتجعل للاستعفاء والخطاب عليه وقتا آخر فيما بعد.»   [1] . ما بين المعقوفتين من مد. [2] . والمثبت فى مد: أجتك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 فلم يمكنه فى جواب هذا القول إلّا الطاعة والقبول، وخلع عليه وسار والديلم والأتراك يخرجون معه أرسالا بغير مطالبة ولا تجريد، حتى إنّه كان يردّ قوما منهم فيسألونه ويضرعون إليه فى استصحابهم. ولمّا حصل بفسا وجد بها جوامرد أبا ذرعانى معتقلا عند [19] أبى موسى خواجه بن سياهجنك، وهو إذ ذاك والى فسا. وقد كان جوامرد عند إفراج الموفق عنه بشيراز حصل فى جملة خمارتكين البهائي وفارقه وهرب إلى ابن بختيار عند وروده وحصل معه واختص به. ثم أنفذه إلى الغلمان بفسا ليتخبرهم له وأنفذ وندرين بن بلفضل هركامج إلى الديلم ووندرين ممن كان بفسا وهو وجه متقدم وأصحبهما رقاعا وخواتيم. فحدثني الحسين أبو عبد الله ابن الحسن قال: أنفذ ابن بختيار وندرين ابن بلفضل إلى الديلم بفسا لاستمالتهم وإفسادهم وموافقتهم على الانحياز إليه والنداء بشعاره. فوصل واستتر فى دار حبنة بن الاسبهسلار ولامج. وكان يحضر عنده طوائف الديلم سرا ويستجيبون له إلى ما يدعوهم إليه ويتسلمون الرقاع والخواتيم منه. وكان أبو الفضل أحمد بن محمد الفسوي فى الوقت متصرفا على باب دخول دار (كذا) خواجه بن سياهجنك (سباهجنك؟) لأنه كان والى الكورة. فحدثني غير واحد أنّ أبا الفضل كان يعشق خادمة فى دار حبنة الذي قدمنا ذكره وتواصله وتزوره فى أكثر الأوقات، فتأخرت عنه. لأنّ حبنة وكّلها بخدمة المستتر عنده. فراسلها أبو الفضل يعاتبها ويستبطئ عادتها فى زيارته. فحضرته فأخبرته بعذرها وكان عارفا بالديلم فاستوصفها الرجل فوصفته وعرفه وسألها أن تتلطف فى إدخاله الدار ليلا وخبئه ليشاهد من يجتمع به. ففعلت ذلك وحضر الدار سرا وشاهد وندرين وخرج من فوره إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 وندرش بن خواجه بن سياهجنك فقال له: - «عندي نصيحة تتعلق بالدولة وفيها لوالدك زيادة جاه ومنزلة. فان أحسن إلىّ وقرّبنى وجعلني من خواجائية الديلم وخلع علىّ وقدّمنى، أخبرته بها.» فحمله وندرش إلى خواجه [20] أبيه حتى توثق منه فيما اشترطه لنفسه ثم حدّثه حديث وندرين. وكان الوقت ليلا فأشفق أبو موسى خواجه بن سياهجنك من تزايد الأمر وظهور الفساد وأنفذ وندرش وسياهجنك ابنيه وجماعة من خواصه إلى دار حبنة حتى كبسوها وقبضوا على وندرين وحملوه إليه فقتله. ووفى لأبي الفضل بما كان وعده وكان هذا ابتداء أمر أبى الفضل وتقدمه حتى انتهت به الحال الى ما سنورده فى موضعه. وعرف أبو موسى خبر جوامرد أبى ذرعانى، فقبض عليه واستأذن الموفق فى أمره، فرسم له اعتقاله. قال أبو نصر: فلمّا حصل الموفق بفسا أحضر جوامرد ليلا وقال له: - «قد سلمت اننى مننت عليك بنفسك أولا بشيراز وثانيا عند ما ظهر من إفسادك فى هذه الدفعة، والآن فإن كان فيك خير وعندك مقابلة لهذه الصنيعة [1] فعلت بك المنزلة العالية الرفيعة. قال له: - «فيما أمرتنى به وجدتني عند إيثارك ورضاك فيه.» قال: أفرج عنك سرّا وتمضى إلى ابن بختيار وتظهر له أنّك جئته هاربا   [1] . الجملة تبدو ناقصة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 وتتوصّل إلى أخذه أسيرا. فإذا أطلت عليك أو ألفتك به ان لم تتمكن من أخذه، تصير [1] إلىّ لألحقك منازل الأكابر من نظرائك.» قال: «أفعل» . وواقفه وعاهده وشرط عليه أن يقلّده حجبة حجاب الأمير أبى منصور وخلّاه ليلا، واشيع من غد بأنه هرب من الاعتقال، وصار جوامرد إلى ابن بختيار وعاود خدمته. وسار الموفق مجدّا مغذّا حتى أطلّ على جيرفت واستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها ونزل بظاهرها واجتمع إليه أبو سعد فناخسره ابن باجعفر وأبو الخير شهرستان بن ذكى وأبو موسى خواجه بن سياهجنك وغيرهم من الوجوه وقالوا له: - «قد أسرفت أيّها الموفق فى هذا السير الذي سرته وحملت نفسك [21] فيه على ما لا تؤمن عاقبته وأنت فى فعلك بين حالين: إمّا أن تهجم هجوما ينعكس علينا فقد أهلكت نفسك ونعوذ بالله بيدك وأهلكتنا، وإمّا أن تظفر بهذا الرجل فقد زال به ما كانت الحاجة داعية إليك وإلينا فيه. ومتى أمن هذا الملك كان أمنه سببا للتدبير علينا وامتداد عينه إلى نعمنا وأحوالنا، وتركك الأمر على جملته ووقوفك فيه عند ما بلغته أولى وأصلح.» فقال لهم: - «قد صدقتم فى قولكم ونصحتم فى رأيكم، ولكنّى قد حملت هذا من قصد هذه البلاد على ما خالفت فيه كل أحد من نصحائه وأصحاب رأيه ولزمني بذلك وبحكم ما لبسته من نعمته أن أوفيه الحق فى مناصحته وأبذل له الوسع فى طلب عدوه. ولا بد أن تساعدونى وتحملوا على نفوسكم فى   [1] . فى مد: وتصير، بزيادة الواو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 انجاز هذا النجاز معى» . فقالوا له: - «لم نقل ما قلناه لنخالف عليك أو نقعد عنك، وإنما أوردنا ما وقع لنا أنه خدمة لك وإذا لم ترد ذلك فنحن طوعك» . وقال أبو نصر: وبينما هو فى ذلك حضر من عرّفه أنّ ابن بختيار بدرفاذ وهي على ثمانية فراسخ من جيرفت. فاختار ثلاثمائة رجل من الوجوه وذوى القوة والعدة من الديلم والأتراك وأخذ معه الجمازات والبغال والدواب عليها الرجل الخفيف والسلاح الكثير ومن لا بد منه من الركابية والأتباع وترك السواد والأثقال والحواشي والحشم بجيرفت وسار. فلما وصل إلى درفاذ لم يجد بها ابن بختيار. وقيل: إنّه كان بها ومضى إلى سروستان كرمان. فمضى على طيته ووافى سروستان وقد سار ابن بختيار إلى دارزين فاضطر إلى اتباعه وخبره على صحته كالمستعجم عليه. وكان فى ذلك وقد تقدم بضبط الطرق وأخذ كل وارد وصادر إذ أحضر رجل رستاقى [1] معه كتابان [22] لابن بختيار بخط ابن جمهور وزيره: أحدهما إلى أهل سروستان بأن يعدّوا الأنزال والميرة، فإنه على الانكفاء إليهم عند وصول عسكره من بمّ للتوجه إلى بردشير، والآخر إلى جانويه بن حكمويه أحد الدعاة بجبال جيرفت يقول فيه: - «بلغنا حصول ابن إسماعيل بالسيرجان وأنّه على المسير إلى جيرفت وينبغي أن تأخذ عليه المضيق الفلاني (لطريق بين جبلين لا بد من سلوكه إلى جيرفت ويمكن فيه الاعتراض على العساكر بالعدة القليلة ومنعها الاجتياز) .» قال أبو نصر:   [1] . وفى الأصل: إذا حضر رجلا رستاقيا (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 وسأل الموفق الرسول عن ابن بختيار وأين هو [1] ؟ قال: - «تركته بدارزين ينتظر وصول عسكره من بمّ ونرماسير.» فسرّ بما تحقق من خبره وسار من ليلته فيما بين العشاء والعتمة. فلما قطعنا فرسخين رأينا نارا تلوح فظننّا أن ابن بختيار قد عرف خبرنا وسار لتلقّينا وحربنا، وانزعجنا واضطربنا وبادر أبو دلف لشكرستان بن ذكىّ ونفر معه لتعرف الحال. فعادوا بعد ابعاد وذكروا أنهار نار صيادين وتثاقل الموفق فى سيره إلى أن قدّر أن يكون وصوله إلى دارزين عند الصبح. فلمّا قربنا تسرّع عسكرنا وبادر ابن بختيار فركب وجمع أصحابه وحمل على أحد الديلم رماه بزوبين أثبته فى جبهته ورمى مرداويج بن باكاليجار فجرح فرسه وصاح واشتلم وتراجع أصحابنا عنه، وتلاحقوا وصفّوا مصافّهم واجتمع أصحاب ابن بختيار ووقفوا يقاتلون ووصل الموفق- قال أبو نصر- فوقف على ظهر دابّته ومعه الصاحب أبو محمد ابن مكرم وأبو منصور مردوست وأنا وغلمان داره. فقال أبو محمد: - «انزل أيها الموفق واركب الفرس الفلاني» - لفرس كان من عدده. فقال: «إن نزلت لم آمن أن تضعف قلوب [23] أصحابنا ويظنوا أنّ فعلى ذاك عن استظهار للهرب.» [قال] [2] وتركنا وسار فى غلمان داره حتى خرج على ابن بختيار من ورائه وحمل وصاح غلمانه صياح الأتراك. فقدّر ابن بختيار أنّ الغلمان كثيرون، وارتفع الغبار وحمل أصحابنا من إزاء القوم فكانت الهزيمة. وركب ابن بختيار فرسا كان من عدده وسار طالبا للنجاة بنفسه ومعه جوامرد أبو   [1] . وفى الأصل: وان هوة. [2] . زيادة إيضاحية من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 ذرعانى. فأراد أن يعبر نهرا بين يديه واعتقله جوامرد وضربه بلتّ كان فى يده فسقط عن فرسه ونزل ليرفعه على الفرس ويحمله إلى الموفق فتكاثر عليه طلاب النهب وأخذوا فرسه وفرس جوامرد وسلاحه. فترك جوامرد ابن بختيار ومضى طالبا للموفق فلما لحقه قال: - «أنا فلان وقد قتلت ابن بختيار.» فاستهان بقوله ولم يصدقه وصار يقتص أثر ابن بختيار وعنده أنّه قدّامه وأنفذ مع جوامرد محمد بن أميرويه المجرى ليعرف حقيقة ما ذكره. وقد كان بعض الديلم عرف ابن بختيار فنزل إليه وشاله وأركبه دابة كانت تحته ليحمله إلى الموفق لأنه قال له: احملنى اليه. وبينما الديلمي فى ذلك اعترضه غلام تركي من غلمان قلج، فقال له: - «تريد ان تبقى على من حاربنا ولو ملكونا لما أبقوا علينا.» - وعنده أنّ ابن بختيار أحد الديلم. فقال له: - «يا بنىّ، هذا ابن بختيار وأريد أن أحمله إلى الموفّق» . فقال له: «تحمله أنت ويكون الأثر والجعالة التي جعلت لمن يحضره لك» . قال: «لا، ولكن نتشارك فى ذلك» . وتراضيا. وعرف قوم من الساسة والأتباع ما هما فيه، فقالوا: - «بل نحن أحق بحمله.» ووقعت المنازعة فيه وقوعا انتهى إلى قتله وحزّ رأسه وأن أخذه التركي وركب فرسه وحرك ولقيه محمد بن أميرويه وجوامرد أبو ذرعانى فعادا معه. فذكر أبو نصر أنّ ابن أميرويه بادر [24] الى الموفق وقد حصل على فرسخ من دارزين وأعلمه الصورة. فانكفأ حينئذ عائدا وجلس على سطح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 دار وأحضر رأس ابن بختيار فطرح بين يديه. وصعد وجوه الديلم وهنّأوه [1] بالظفر ودعوا له وفى وجوههم الوجوم وفى قلوبهم الغم إلّا رزمان بن زريزاذ، فانه لمّا رأى الرأس رفسه برجله وقال للموفق: - «الحمد لله الذي بلّغك غرضك وأجرى قتله وأخذ الثأر منه على يدك وحقق رؤياى التي كنت ذكرتها لك.» قال أبو نصر: وقد كان رزمان قال للموفق فى بعض الأيّام بشيراز: - «رأيت البارحة فى المنام صمصام الدولة وهو يقول لى: امض الى الموفق فقل له حتى يأخذ بثأرى من ابن بختيار.» ثم نزل الموفق من السطح إلى خيمة لطيفة ضربت له وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح كتابا بخط يده نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم» - «علقت هذه الأحرف غدوة يوم الإثنين لثلاث ليال بقين من جمادى الآخرة من الموضع المعروف بدارزين على خمسة فراسخ من بمّ وبين يدي رأس ابن بختيار وقد استولى القتل على أكثر من خمسمائة رجل من الديلم. وأما الرجّالة والزطّ فلم يقع عليهم إحصاء. بلّغ الله تعالى مولانا شاهانشاه فى جميع أموره وسائر أعداء دولته نهاية آماله وآمال خدمه وكتابي ينفذ بالشرح ليوقف عليه ويعظم الشكر للَّه عز اسمه على ما وفق له من هذا الفتح المبارك بمنّه. وقد استوهب البشارة جماعة من   [1] . والمثبت فى مد: وهنوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 الأولياء المقيمين معى وذكرت ذلك لئلا يوهب شيء منها لغيرها إن شاء الله تعالى.» قال أبو نصر: وأمرنى بإحضار هميان من جملة همايين كانت على أوساط غلمانه الأتراك [25] وفتحه وصبّ دنانير كانت فيه وقال: - «نادوا من جاء بديلمى فله كذا وبراجل كوجىّ أو زطّىّ فله نصف ذلك.» فكان يؤتى بالديلمى والراجل فيقتلان على بعد من موضعه ومرأى من عينه حتى قتل عدد كثير [1] . وحضره نيكور بن الداعي وولد للفاراضى وسألاه فى قريب لهما قد كان أخذ وحمل ليقتل. ولم يزالا يخضعان ويقبلان الأرض وهو يقول لهما: - «قد عرفتم إحسانى إليكم وما جعل لكم من الذنوب عند الملك بالتوفر عليكم وهؤلاء القوم طلبوا الملك وساعدوا الأعداء ولا يجوز الإبقاء عليهم والصفح عنهم.» فبينما الخطاب يجرى بينهما وبينه، إذ دخل نقيب لهما فقال: - «قد قتل الرجل،» فنهضا من مجلسه وقعدا للعزاء به وصار إليهما معزّيا. ما دار بين الموفّق وبرنجشير المنجّم وسألت أبا نصر عن المنجم الذي ذكر أبو منصور مردوست من حكمه ما ذكره فقال: «نعم. هذا رجل يكنى بأبى عبد الله ويعرف ببرنجشير، وكان يخدم   [1] . والمثبت فى مد: عدد كثيرا، وهو سهو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 صمصام الدولة. فلما قتل صار فى جملة رزمان بن زريزاذ بالصمصامية. وكان رزمان يحضر كثيرا بين يدي الموفق ويؤاكله ويشاربه وينادمه ويؤانسه. فجرى فى بعض الليالي عند حصولنا بفسا ذكر للنجوم والأحكام، فقال: - «معى منجم يدّعى من علم ذلك طرفا. فان رسم إحضاره أحضرته.» فقال له الموفق: - «هاته.» فاستدعاه. فلما رآه قبلته عينه وقلبه وسقاه، وقال له: - «ما عندك فيما قصدناه.» قال: «الظفر [1] لك يا مولانا، وأنت تملك وتقتل ابن بختيار فى اليوم الفلاني.» قال له الموفق: - «ان كنت تقول هذا زرقا لتجعله فألا محمودا قبلناه، وإن كان عن علم وعلى حكم من أين استدللت عليه؟» قال: «ما هو زرق، ولكنّه [26] قول على أصل ومعى مولد ابن بختيار وعليه قطع فى اليوم الذي ذكرته لبلوغ درجة قسمة طالعه فى تربيع المريخ.» فقال له الموفق: - «إنّ صحّ حكمك خلعت عليك وأحسنت إليك واستخدمتك واختصصتك وإن بطل فبأى شيء تحكم على نفسك؟» قال: «بما حكمت.»   [1] . وفى الأصل: المظفر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 [قال] [1] : «ولما حصلنا بجيرفت عاودت هذا المنجم الخطاب وقلت له: - «أنت مقيم على ذلك الحكم؟» قال: «نعم.» وكان قد جاءنا خبر ابن بختيار بأنّه بدرفاذ فقلت له: - «الرجل على منزل منّا ونحن سائرون إليه الليلة وقد بقي إلى اليوم الذي نصصت عليه خمسة أيام.» فقال: «أمّا ما حكمت به فأنا مقيم عليه، ولست أعلم ما بقي بينكم وبين ابن بختيار.» وكانت الوقعة وقتل ابن بختيار فى اليوم الذي ذكره. قال أبو عبد الله الفسوي: ودفن جسد ابن بختيار فى قبة بدارزين دفن فيها أبو طاهر سليمان بن محمد بن إلياس لما قتله زريزاذ عند عوده من خراسان لقتال كوركير بن جستان [2] ومضى من كان مع ابن بختيار من الأتراك إلى خبيص وراسلوا الأتراك الذين مع الموفق حتى خاطبوه فى ايمانهم وقبولهم وأجابهم فوردوا واختلطوا بالعسكر. قال أبو نصر: وسار الموفق طالبا لبردشير وأبو جعفر أستاذ هرمز مقيم فيها على حصار من فى القلعة من أصحاب ابن بختيار. فلما وردها وعرف القوم هلاك ابن بختيار راسلوا الديلم الذين مع الموفق وسألوهم أخذ الأمان لهم ليفتحوا القلعة ويدخلوا فى الطاعة فخاطبوه على ذلك فقال: - «لا أمان لهم عندي إلّا على أن ينصرفوا بمرقعات ويخلوا عن أموالهم   [1] . إيضاح من مد. [2] . وهذا فى سنة 360 كما تقدم ذكره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 وأحوالهم.» فاستجابوا له إلى هذا الشرط. فكان الرجل ينزل هو وولده بمرقعات وكراريز [27] ويركبون الطريق ووقع الاحتواء على ما فى القلعة من المال والثياب والرحل والدواب. قال أبو نصر: وأحضر إلى المعسكر ببردشير من لحقه الطلب وأسر من أصحاب ابن بختيار وفيهم بلفضل بن بويه فتقدم الموفق بأن ضربت له خيمة مفردة، ثم استدعى أبا دلف لشكرستان بن ذكى وأبا الفضل ابن سودمند [1] العارض والوقت عتمة فقال لهما: - «أمضيا إلى بلفضل ووبّخاه على مفارقته هذه الدولة وخدمته ابن بختيار وبالغا له فى القول والتعنيف.» وخرجا من بين يديه وبين أيديهما الفراشون بالشموع. وكانت الخيمة التي فيها أبو الفضل (كذا) ابن بويه قريبة من خيمته فنهض وقال لوندرش ابن خواجه بن سياهجنك وكان عنده: - «قم بنا لنسمع ما تقوله رسلنا لأبي الفضل وما يجيبهم به.» وقال لى: - «تعرف الطريق الذي يؤدى بنا إلى خيمته على الإصطبل؟» قلت: «نعم.» قال: «كن دليلنا.» ومنع الفراشين من اتباعه ومضى فى الظلمة وهو متكئ على يد وندرش وأنا بين يديه، حتى حصلنا من وراء الخيمة ووقفنا وهو قاعد بيني وبين وندرش فسمع أبادلف لشكرستان يعاتبه ويوبخه فقال له:   [1] . والمثبت فى الأصل ومد: سودمنذ (بالذال المعجمة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 - «يا أبادلف، دع هذا القول عنك فواللَّه ما بقي أحد من أكابر عسكركم وأصاغرهم إلّا وقد كاتب ابن بختيار واستدعاه وأطاعه ووالاه، حتى لو قلت إنّه ما تأخر عنه إلّا كتاب الملك والموفّق خاصّة لكنت صادقا.» وعاد الموفق إلى خيمته وعاد أبو دلف لشكرستان وأبو الفضل ابن سودمند [1] بعده ودخلا اليه فقال لشكرستان: - «يا مولانا قد اعتذر فيما كان منه وسأل اقالته العثرة فيه.» فقال له الموفق: - «وما الذي قاله [28] لكما وحدّثكما به؟» فورّى لشكرستان ثم صدقه وقال: - «ما فى عسكرك إلّا من هو متهم وما يمكنك أن تأخذ الجماعة بما فعلوه ولا أن تظاهرهم بما استعملوه وطىّ هذا الحديث أولى فى السياسة.» وحمل بلفضل بن بويه والديلم المأسورون إلى شيراز عند عود الموفق. فأمّا بلفضل ونفر معه فإنّهم اعتقلوا إلى أن قبض على الموفق ثم أفرج عنهم. وأمّا الباقون فإنّ وجوه الديلم سألوا الموفق فيهم فخلّى سبيلهم. ونرجع إلى ذكر ما فعله الموفق بعد ذلك ببردشير. قال أبو نصر: ثم جمع الديلم الكرمانية من سائر النواحي وقال لهم: - «من أراد المقام فى هذه الدولة على أن يستأنف تقرير ديوانه ويوجب له ما يجوز إيجابه لمثله، فليقم على هذا الشرط وعلى أنّه لا ضيعة ولا إقطاع وإنّما هو عطاء وتسبيب ومن أراد الانصراف فالطريق بين يديه.» فاستقرّ الأمر معهم على أن يعرضوا وتحلّ الإقطاعات التي فى أيديهم   [1] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) كما فى المواطن السابقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 وتستقبل التقريرات [1] معهم كما تستقبل بالعجم الذين يردّون من بلاد الديلم. وجلس لذلك ووجوه الديلم عن يمينه ووجوه الأتراك عن يساره والعرّاض والكتّاب والجرائد بين يديه. فكان يحضر الديلمي الذي له بكرمان السنون الكثيرة وفى يده الإقطاعات الكثيرة وأقلّ المقرّر له: خمسمائة ألف درهم، فيقبّل الأرض ويقف ويسأل عن اسمه واسم أبيه وعن بلده ثم يقرّر له التقرير القريب إلى أن حلّ الإقطاعات كلّها وردّ أصول التقريرات إلى بعضها وصرف الحشو وارتبط الصفو. ولما فرغ من ذلك صرف أبا جعفر أستاذ هرمز عن كرمان وأخذ حاله الظاهرة لأنه ينقم عليه [29] قبضه على أبى محمد القاسم بن مهدر فروخ، لما كان مقيما معه بغير إذنه ولا أمره وقلّد أبا موسى خواجه بن سياهجنك الحرب وخلع عليه وحمله على فرس بمركب ذهب وعوّل على أبى محمد القاسم [2] فى أمر الخراج وخلع عليه وأخذ خطه بتصحيح ثلاثة آلاف ألف درهم من النواحي فى مدة قريبة قررها معه. واتفق أن ورد عليه كتاب من أبى الفضل الإسكافى يخبره فيه ما غاظه من ذكر الحواشي له عند ورود كتابه بالفتح بالطعن عليه والقدح فيه. فما ملك نفسه عند وقوفه على ذلك، وتداخله من الامتعاض ما أقلقه وأزعجه. واستدعى أبا منصور مردوست وأنفذه إلى شيراز وقاد معه خيلا وبغالا وحمله رسالة الى بهاء الدولة يقول فيها: «قد خدمت الملك أولا وأخيرا ووفيته حقّ الصنيعة وحكم النصيحة ووجب أن ينجز لى ما وعدنيه من الإعفاء بعد الفتح، فإنّى لا أصلح لخدمة ولا عمل بعد اليوم.»   [1] . فى الأصل: تفررات. [2] . والمثبت فى مد: القسم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 وأظهر الانكفاء بعد إنفاذه أبا منصور مردوست، فاجتمع اليه وجوه الديلم الذين يسكن إليهم ويعول عليهم وعرّفوه غلط الرأى فى عوده قبل أن يرتب الأمور ويمهدها ويسددها ويهذبها وأشاروا عليه بالتوقف والتوفر على إصلاح الأعمال من جمع الأموال وإذا تكامل له ما يريده بعد مدة حمل إلى بهاء الدولة ما يرضيه به. وكان بين أن يقيم بموضعه ان طاب له المقام، فيه أو يسير إلى أصبهان ويأخذها وينتقل منها الى الجبل أو الى العراق. وحذّروه من الاجتماع مع بهاء الدولة والكون عنده وأعلموه أنه غير مأمون عليه مع خلو ذرعه وأمنه الأعداء. فلم يقبل [30] منهم ما صدقوه فيه ونصحوه به وحمله فرط الإدلال على أن عاد إلى شيراز. وكان دخوله إياها فى يوم الأربعاء الثاني عشر من شعبان. فحدّثنى غير واحد أنّ بهاء الدولة خرج لاستقباله. فلمّا لقيه وخدمه ورجعا داخلين إلى البار، فارقه الموفق فى وسط الطريق وعدل إلى داره والعسكر بأسره معه فى موكبه وبقي الملك فى غلمان خيله وخدمه وخاصته وانّ ذلك شق على بهاء الدولة وبلغ كل مبلغ منه وتحدّث به الناس وأكثروا الخوض فيه، وامتنع بهاء الدولة بعد هذا الاستقبال من استقبال أحد من وزرائه. ونعود إلى ذكر الحوادث على سياقة الشهور وفى يوم الاثنين الرابع من رجب توفى أبو الحسن أحمد بن على بن شجاع الشاهد. وفى يوم الاثنين الحادي عشر منه توفّى أبو حفص عمر بن إبراهيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 الكناني المقرئ [1] . خروج لدفع القرّاد وفى يوم الجمعة لثمان بقين منه توفى الأمير أبو سعد ابن بهاء الدولة ببغداد. وفى يوم السبت لسبع بقين منه خرج أبو الحسن على بن الحسن البغدادي وأبو طاهر يغما الكبير إلى بادوريا دافعين لأصحاب قرّاد بن اللديد عنها. ذكر السبب فى ذلك وما جرت عليه الحال فيه كان لأبى طاهر يغما إقطاع جليل ببادوريا وانضاف إليه أن يقلّد ولايتها ونازع قراد بن اللديد فيها وأبو الحسن رشا الخلدى إذ ذاك كاتبه والمدبر لاموره وفيه استقصاء فى المعاملة وغلظة ولجاج ومنافرة. فاستعمل الاستقصاء مع أبى طاهر يغما والمنافرة والغلظة مع أبى نصر سابور بن أردشير [31] فى أمور اعترض فيها وأوامر امتنع فيها وثقل على المقطعين والأكرة، وردما كان يؤخذ من مال الخفارة والحماية ورقا قيمة الدينار به مائة وخمسون درهما الى العين مصارفة عشرين درهما بدينار عتيق. فتضاعف التقرير وزاد التثقيل. وعملت لأبى نصر سابور الأعمال فى بادوريا وأطمع فى مال يحصل له منها: إمّا على الحرب أو على الصلح وأدت الحال إلى خروج يغما واليا للحرب وأبى الحسن البغدادي ناظرا فى استخراج الرسوم العربية، وأقاما مدة على ذلك. ووافى قراد ورشا فى   [1] . هو عمر بن ابراهيم بن أحمد بن كثير. وفى تاريخ الإسلام أنه قرأ على ابن مجاهد وحمل عنه كتاب السبعة. وليراجع فيه الأنساب للسمعاني ص 475 س 4 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 جمع جمعاه ونزلا بالسندية ويغما وأبو الحسن البغدادي بالفارسية وبينهما أربعة فراسخ. وتطرق أصحاب قراد فقتلوا ثلاثة غلمان من الأتراك يقال لأحدهما: بايتكين الياروخى، وللآخر: الهاروني، وللثالث: المجدر، وصلبوا الهاروني ببيذ على شاطئ نهر عيسى. فخرج أبو نصر سابور وأيوب حرب شيرزيل بن بلفوارس بالعسكر الى الفارسية وقرب قراد وأصحابه منها وتسرع سياهجنك ابن خواجة بن سياهجنك فى نفر من الديلم لمناوشة قوم من العرب. فاستجروه حتى فارق العسكر وحصل عند القرية المعروفة بالكلوذانية على رمية سهم من الفارسية. ثم خرج من ورائه جماعة منهم قد كانوا تكمنوا فى ذرة قائمة هناك فأخذوه أسيرا. واضطرب الناس بذاك وكاتب أبو نصر سابور قلج- وكان ببغداد- بالخروج، فخرج فى عدّة من الغلمان والأكراد الذين برسمه، وسارت الجماعة إلى السندية وخيموا فى الجانب الشرقي بازائها ومضى قراد إلى حديثة الأنبار وهي على أربعة فراسخ منها. فما مضت أيام يسيرة حتى غضب قلج من شيء سأله فتوقف أبو نصر سابور [32] عنه وخلع خيمه وخلع الغلمان خيمهم معه وعادوا واضطرّ أبو نصر سابور وأبو حرب شيرزيل والديلم إلى العود بعودهم وذلك فى شهر رمضان. فأذكر وقد ورد علىّ كتاب أبى الحسن رشا يسألنى توسط أمره واستئذان أبى نصر سابور فى ورود صاحب له. فصرت اليه وأقرأته الكتاب فتباعد فى الجواب وقال: - «اكتب اليه وقل له: والله لا قرّرت معك أمرا إلّا بعد أن أشفى منك صدرا» .» وخرجت من حضرته وتوقفت فى كتب الجواب ورد الرسول. فلم تمض ساعة حتى قلع قلج والغلمان ورحلوا فاستدعاني أبو نصر وقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 - «ما الذي أجبت به رشا؟» قلت: «ما قلته.» فقال: «وقد مضى رسوله.» قلت: «لا.» قال: «ارتجع الكتاب واكتب اليه: بأنّ وطأة الأولياء ثقلت على النواحي ولم أحب إخرابها بتطاول مقامي فيها وإذا كنت قد ندمت على ما مضى واستأنفت الطاعة والخدمة فأنفذ صاحبك» .» وركب عائدا إلى بغداد وكتبت الجواب قائما على رجلي لأنّ الأمر أعجل عن التلبث والتثبت، وخفنا أن يعرف العرب خبرنا فيكسبوا معسكرنا ويأخذوا من تأخر منّا أو يعارضونا فى طريقنا فيبلغوا أغراضهم منّا مع تفرقنا ودخولنا كما يدخل المنهزمون. ووصل كتابي إلى أبى الحسن رشا فأنفذ أبا الفضل ابن الصابوني الموصلي واستقرّ الأمر مع المنصرف القبيح والطمع المتجدد على إطلاق سياهجنك فى الوقت وحده واندرجت القصّة على تزايد الفضيحة وتضاعف الأخلوقه. وقد كانت الكتب نفذت إلى الموفق بذكر ما فعل وعاد جوابه ينكره ويمنع من التعرض لبنى عقيل أو هياجهم [1] . وفى يوم الأحد لستّ [33] بقين منه توفّى [2] أبو الحسن على بن محمد ابن عبيد الزجاج الشاهد، وكان مولده فى شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائتين. وفى يوم الخميس لليلتين بقيتا منه توفى أبو القاسم عبيد الله بن عثمان   [1] . فى الأصل: هاجتهم. [2] . والمثبت فى مد: توق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 ابن حنيقا المحدّث [1] . وفى يوم الثلاثاء الرابع من شعبان توفّى القاضي ابو الحسن محمد بن عبيد الله بن احمد بن معروف. وفى يوم الخميس السادس منه توفى ابو عبد الله الحسين بن محمد بن الفراء الفقيه الشاهد بالجانب الشرقي [2] . ذكر القبض على الموفّق بشيراز وفى يوم الخميس لعشر بقين منه قبض على الموفّق أبى على ابن إسماعيل بشيراز. شرح الحال فى ذلك وفيما تقرّر عليه أمر النظر بعده لما عاد إلى شيراز على ما قدمنا ذكره أقام على الاستعفاء وأعاد القول فيه وكرّره. وكانت فى قلب بهاء الدولة منه أمور قد ملأته وأوغرته وأحالت رأيه فيه وغيرته، وزال عنه ما كان يراعيه ويراقبه ويحتمله لأجله وبسببه. وخافه الحواشي ومن كان بحضرة الملك لأنه ذكرهم وأطلق لسانه فيهم فأغروه به. فحدّثنى أبو نصر بشر بن ابراهيم السنى قال:   [1] . قال أبو الفرج ابن الجوزي فى المنتظم: كذا ذكره الخطيب بالنون وهو يعنى (ابن حنيقا) جد القاضي أبى يعلى ابن الفراء لامه. وقال أبو على البردانى: قال لنا القاضي أبو يعلى: الناس يقولون «حنيقا» بالنون وهو غلط. إنما هو «حليقا» باللام (مد) . [2] . وفى تاريخ الإسلام انه كان على مذهب أبى حنيفة وانه والد القاضي أبى يعلى شيخ الحنابلة: وأبو يعلى هو محمد بن الحسين ولد سنة 380 وفيه قال الخطيب. له تصانيف على مذهب أحمد ودرس وأفتى سنين كثيرة وولى القضاء بحريم دار الخلافة (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 لما ورد الموفق قادما من كرمان أقام على الاستعفاء وواصل مراسلة بهاء الدولة فيه والإلحاح فى مسألته إياه. فحضر عنده أبو سعد فناخسره بن باجعفر وأبو دلف لشكرستان ابن ذكى وكانا يختصان به فى الليلة التي قبض عليه من غدها وقالا له وأبو العلاء الإسكافى حاضر: - «أيها الموفق أىّ شيء آخر ما أنت عليه من ركوب الهوى ومخالفة الرأى فى هذا الاستعفاء، وما الذي تريده لنبلغه لك: إمّا بالملك أو بنفوسنا؟ فإن كان قد غاظك من أبى على ابن أستاذ هرمز [34] أو أبى عبد الله الحسين بن أحمد فعل أو تريد بهما أمرا فنحن نضع عليهما من يفتك بهما ونقود الملك إلى أخذهما وتسليمهما إليك، أو كان فى نفسك غير ذلك فاصدقنا عنه وأطلعنا عليه لنتبع هواك فيه.» فقال لهما: - «أمّا أبو على ابن أستاذ هرمز، فبيني وبينه عهد منذ كوننا بالأهواز وما أرجع عنه، وأمّا أن يكون فى نفسي ما أطويه عنكما فمعاذ الله. ولكنني قد خدمت هذا الملك وبلغت له أغراضه وما أريد الجندية بعد ما مضى.» فقالا- وقال أبو العلاء الإسكافي- له: - «لا تفعل ودع ما قد ركبته من هذه الطريق وأقمت عليه من هذا اللجاج. فانه يؤدى إلى ما تندم عليه حين يتعذر الاستدراك ومتى قدّرت أنك تعفى وتقيم فى منزلك وينظر بعدك ناظر، وقد بلغت من الدولة ما بلغته وتقدمت بك المنزلة إلى ما تقدمت اليه، فقد قدّرت محالا. والصواب أن تدعنا لنمضى إلى الملك ونعرّفه عدولك عن رأيك ومقامك على خدمته والنظر فى أموره.» فأبى ثم قالوا له: - «فإذا كنت على ما أنت عليه فأخّر ركوبك فى غد وارجع فكرك ونحضر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 عندك ويستقرّ بيننا فى غير هذا المجلس ما يكون العمل به.» فلم يقبل وركب من غد إلى دار المملكة ومعه العسكر. فلما دخل وجلس فى البيت الصلى [1] نظر فيما جرت عادته بالنظر فيه وأوصل جماعة القواد اليه وخاطبهم وقضى حوائجهم. ثم قال لأبى الفضل ابن سودمند [2] العارض والنقباء: - «اخرجوا إلى الناس وانظروا فى أمورهم وتسلّموا رقاعهم بمطالبهم.» وترددت المراسلات بينه وبين بهاء الدولة فى حديث الإعفاء وبهاء الدولة يدفعه عن ذلك وهو مقيم عليه ومقيم على المطالبة به. ثم رأينا فى الدار أمورا متغيرة ووجوها متنكرة. فقال [35] له الصاحب أبو محمد ابن مكرم: - «قد أحسست بما أنا مشفق منه، والرأى أن تقوم وتخرج، فانّ أحدا لا يقدم على منعك، وإذا حصلت فى دارك دبّرت أمرك بما تراه صوابا لنفسك.» فقال له: قد خفت أيها الصاحب وخرت فقم وانصرف. فراجعه القول قليلا ثم انصرف وركب وتبين الموفق من بعد أمره. [قال أبو نصر] [3] فقال لى: - «امض وخذ لنفسك.» فقلت: «بل أقيم وأكون معك.» فزبرني وقال: - «اخرج كما يقال لك.» فخرجت ولم يبق عنده إلّا أبو غالب بن خلف وأبو الفضل الإسكافى:   [1] . كذا فى مد. ولعلّه: المصلّى. [2] . والمثبت فى الأصل: سودمنذ، بالذال المعجمة. [3] . إيضاح من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 فحدثت أنّ الحسين الساباطي الفراش خرج وقال لأبي غالب: - «يا أستاذ اخرج.» وقال لأبي الفضل مثل ذلك وأغلق باب البيت وزرفنه ووكّل الفراشين به وأخذ أبو غالب وأبو الفضل واعتقلا ووكل بهما. وشاع الخبر بين الديلم الحاضرين فى الدار فتسللوا واحدا واحدا وتفرقوا فريقا فريقا ولم يجر من أحدهم قول فى ذلك. وأنفذ إلى دار الموفق من نقل جميع ما كان فيها من المال والثياب والرحل والسلاح والخدم والغلمان، وإلى اصطبلاته فحوّل ما فيها من الكراع والحمال. [قال أبو نصر] : وترشح الأمين أبو عبد الله للنظر وأمر ونهى فى ذلك اليوم. فلما كان آخره استدعى الصاحب أبو على الحسن بن أستاذ هرمز- وقد كان بعد فتح الأهواز اعتزل الأمور وأقام فى منزله واقتصر على حضور الدار فى الأوقات التي يجلس فيها بهاء الدولة الجلوس العام- واستخلف له أبو الفضل بن ماوزند فوقفت الأمور ولم تكن له ولا لأبي الفضل دربة بالتمشية والتنفيذ وخلّى أبو العباس الوكيل وقد كان قبض عليه وقرر أمره وأعيد إلى ما كان ناظرا فيه. [قال أبو نصر] [1] : وكان أبو الخطاب يكره أبا غالب ابن خلف ولا يريده [36] فقال له أبو منصور مردوست: - «أراك تكاتب الوزير أبا العباس ابن ماسرجس وغيره فى الورود ليردّ إليهم النظر فى الأمور وقد عوّلت من الصاحب أبى علىّ على من ليس يحلى ولا يمرّ فيما يراد منه. وهذه أسباب تدعو إلى الوقوف والحاجة الى ردّ الموفق وما كان يمشى الأمر ويخفف فيه إلّا أبو غالب. فلو أطلقته   [1] . إيضاح من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 واستخدمته لترخّى على يده ما لا يترخى على يد غيره وكفينا دخول من لا يؤمن بيننا.» فقبل منه وأطلقه وجعله خليفة للصاحب أبى علىّ ونظر وكفى. وكان بهاء الدولة يرعى له ما كان يخدمه به فى أيام الموفق والحواشي يحتمونه لانبساطه فى عطائهم وقضاء حوائجهم. ومضت مديدة فأعجب أبا الخطاب تخفيفه عنه، واستمال الجند وتوفر عليهم وأعطته الكفاية والسعادة ما كان له فى ضمنهما وتمسك بأبى الخطّاب وتمسك أبو الخطاب به وتفرد بالأمور وتقلدها وزارة ورئاسة. وخرج الصاحب أبو على من الوسط. حوادث عدّة وفى ليلة الجمعة لليلتين بقيتا منه توفّى أبو الحسن محمد بن عبد الله بن أخى ميمى المحدث. وفى يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان ورد الكتاب إلى أبى نصر سابور بذكر القبض على الموفق وأن يقبض على ولده وأهله وأصحابه وأسبابه فاستعمل الجميل وأنذر ولده وأقاربه حتى انصرفوا عن دورهم وأخذوا لنفوسهم. ثمّ أنفذ إلى منازلهم فكانت خالية منهم وأجاب عن الكتاب بأنّ الخبر سبق الى القوم قبل ورود ما ورد عليه به واقتصر على ان أدخل يده فى ضياعه بطريق خراسان مديدة. ثم كتب من فارس بالإفراج لولده أبى المعمر وأقرّ أبو نصر [37] سابور وأبو القاسم الحسين بن محمد بن مما وأبو نعيم المحسن بن الحسن على ما كانوا يتولّونه. وفى يوم السبت لليلتين بقيتا منه توفّى أبو الحسين ابن أبى الزيال الشاهد. وفى روز أبان من ماه شهريور الواقع فى هذا الشهر أخرج الصاحب أبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 محمد بن مكرّم إلى عمان متقلدا لها. وفى روز مهر من ماه شهرير [1] الواقع فيه أخرج أبو جعفر أستاذ هرمز ابن الحسن الى كرمان. وفى ليلة يوم الإثنين الثالث عشر من شوال احترق سوق الزرّادين بباب الشعير. وفى يوم الخميس لسبع بقين منه قلد القاضي أبو عبد الله الحسين بن هرون الضبّى مدينة المنصور رحمة الله عليه مضافة إلى الكرخ والكوفة وسقى الفرات وقلد القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأكفانى الرصافة وأعمالها عوضا عن المدينة التي كان يليها وقلد القاضي أبو الحسن الخرزي طريقي دجلة وخراسان مضافا إلى عمله بالحضرة وقرئت عهودهم على ذلك. وفى هذا الشهر ورد الخبر بأنّ المقلد بن المسيب ملك دقوقا وخانيجار. وأقرّ بها أبا محمد جبرائيل الملقب بدبوس الدولة نائبا عنه. وفى يوم الخميس مستهل ذى القعدة ورد الكتاب من فارس بتقليد أبى على ابن سهل الدورقي ديوان السواد واستخلافه عليه أبا منصور عبد الله ابن الإصطخرى الكاتب فيه. وفى يوم الأحد الرابع منه توفّى أبو محمد القاسم بن الحسين الموسوي العلوي. وفى يوم الإثنين الخامس منه تكلّم الديلم فى أمر النقد وفساده وكانت المعاملات يومئذ بالورق وقصدوا دار ابى نصر سابور [38] بدرب الديزج على سبيل الشغب.   [1] . شهرير (شهريور) الشهر السادس من السنة الشمسية الإيرانية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 أقوى الأسباب في تملّك الخانيّة وانقراض السامانيّة وفى هذا الشهر ورد الخبر بأنّ بغرا خاقان [1] قصد بخارا واستولى عليها ودفع ولد أبى القاسم نوح بن منصور عنها. وحدثني أبو الحسين ابن زيرك قال: حدثني أبو الحسين ابن اليسع التميمي الفارسي وكان من أعيان التجار قال: كنت ببخارا حين وردت عساكر الخانية فصعد خطباء السامانية إلى منابر الجوامع واستنفروا الناس وقالوا عن السامانية قد عرفتم حسن سيرتنا فيكم وجميل صحبتنا لكم وقد أطلنا هذا العدوّ وتعيّن عليكم نصرنا والمجاهدة دوننا، فاستخيروا الله تعالى فى مساعدتنا ومضافرتنا. وأكثر أهل بخارا حملة سلاح وأهل ما وراء النهر كذلك. فلما سمع العوام ذلك قصدوا الفقهاء عندهم واستفتوهم فى القتال فمنعوهم منه وقالوا: - «لو كان الخانية ينازعون فى الدين لوجب قتالهم فأمّا المنازعة [2] فى الدنيا فلا فسحة لمسلم فى التغرير بنفسه والتعرض لإراقة دمه. وسيرة القوم جميلة وأديانهم صحيحة واعتزال الفتنة أولى. فكان ذاك من أقوى الأسباب فى تملك الخانية وهرب السامانية وانقراض ملكهم ودخل الخانية بخارا فأحسنوا السيرة ورفقوا بالرعية. وفيه ورد أبو الحسن محمد بن أحمد بن علان العارض من فارس لتجريد الغلمان إلى هناك واجتمع الشريف أبو الحسن ابن يحيى والمناصح أبو الهيجاء والسعيد أبو طاهر وأبو الحسن ابن علان فى دار أبى نصر سابور. فأحضروا   [1] . كذا فى الأصل والراجح انه أخوه ايلك الخان. انظر تاريخ الإسلام سنة 383 (مد) . [2] . والمثبت فى مد: والمنازعة (بزيادة الواو) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 الغلمان وخاطبوهم على الخروج فطالبوا بما تأخر لهم من الأقساط والإقامات وبذل لهم سابور إطلاق القسط لمن يخرج دون من يقيم حتى إذا أعطى المجردين ننظر فى أمر المقيمين وترجح القول ووقف الاستقرار. وفى يوم الاثنين الثامن عشر من ذى الحجة توفى أبو الفرج المعافى بن زكريا المعروف بابن طرارا بالنهروان وكان رجلا يعرف علوما كثيرة [1] وفى هذا يوم الجمعة لليلة بقيت منه توفى أبو عبد الله الحسين بن يحيى بن الحندقوقا الهاشمي عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر. وفى اليوم الثالث من الخمسة المسترقة خرج بهاء الدولة إلى كوار وسار منها إلى فسا. وحج بالناس فى هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر. ورود طاهر بن خلف كرمان وفى هذه السنة ورد طاهر بن خلف المعروف بشير يار بك كرمان منافرا لخلف أبيه. ثم تغلب عليها وملكها وانضوى إليه كثير من عساكرها وانتهى أمره إلى الهزيمة والعود إلى سجستان. شرح ذلك على ما حدثني به أبو عبد الله الفسوي وقد سقناه سياقة لم نذكر فيها أيام ما جرى وشهوره لاشكال ذلك علينا. إلّا أنّ المدة على غالب ظني فيما بين سنة تسعين وثلاثمائة. وصدر من سنة احدى وتسعين وثلاثمائة.   [1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: قال فيه أبو حيان التوحيدي: رأيت المعافا بن زكريا قد نام مستدبر الشمس فى جامع الرصافة فى يوم شات وبه من أثر الضر والفقر والبؤس أمر عظيم مع غزارة علمه (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 لما قلد الموفق أبو على أبا موسى خواجة بن سياهجنك أعمال كرمان وصرف من صرف من الديلم على السبيل التي قدمنا ذكرها، صار أبو موسى الى جيرفت فتتبع أموال الديلم المبعدين واستثار ودائعهم وطالب حرمهم وأسبابهم وصادرهم وقبض على جماعة الباقين وقتلهم وطردهم وصلب [40] نفسين من وجوه الكتّاب لإنكاره عليهما تصرفهما مع ابن بختيار وأظهر الاستقصاء والغلظة. واتفق أن نافر طاهر بن خلف خلفا أباه ونازعه الأمر وجرت بينهما حروب أدّت طاهرا إلى الهرب وقصد كرمان ملتجئا إلى بهاء الدولة. فلما دخل المفازة التي بين سجستان وبينها ضلّ الطريق فيها ولحقه ولحق من معه جهد شديد. ثمّ خلص على أسوا حال. ولقيه الديلم الفلّ والمنفيون من أصحاب ابن بختيار فأطمعوه [1] فى أخذ كرمان والتغلب عليها وأعلموه أنّ من وراءهم من الديلم على نفور من بهاء الدولة وكراهية له لما عاملهم الموفّق به وأنّهم وإياهم يجتمعون على طاعته ويخلصون فى مظاهرته. فصبا إلى ذلك وحدّث نفسه به وعقد عزمه عليه ولم يكن له قدرة على إظهاره مع الشدة التي لاقاها فى طريقه ونزل نرماسير وكتب إلى أبى الفتح عبد العزيز بن أحمد العامل بها وببمّ بأنه ورد منحازا إلى بهاء الدولة وداخلا فى جملته. فتلقاه أبو الفتح بالجميل وحمل إليه ما يحمل إلى مثله من الأنزال وواصله بذلك مدة من الأيام وكان يزيد له ولمن معه فى كلّ يوم اثنى عشر ألف درهم وكتب بخبره إلى أبى موسى خواجة بن سياهجنك وأبى محمد القاسم بن مهدر فروخ. ثم بدت من طاهر بوادي الفساد ولاحت شواهد سوء الاعتقاد وبلغ ذلك   [1] . وفى الأصل: فأطعموه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 أبا محمد القاسم وهو ببردشير فانزعج منه وكان يقاربه أكراد قتال يعرفون بالمالكية فاستدعاهم وتوجه معهم الى دارزين وخرج إليهم بما يريده من قصد طاهر والإيقاع به فقالوا له: - «هذا رجل قد اجتمع إليه الديلم [41] وكثرت عدته وقويت شوكته وما نستطيع لقاءه ومقاومته ولكننا نسلك سبيل الحيلة عليه ويمضى منا جماعة على وجه الاستئمان اليه فإذا حصلوا عنده طلبوا غرّته فى بعض متصيداته فإنّه كثير الصيد مشغوف بالركوب إليه فى كل وقت فتكون قد بلغت الغرض ولم تركب الخطر.» فكتب أبو محمد الى أبى موسى خواجة بن سياهجنك بما جرى بينه وبين هؤلاء الأكراد واستشاره فيه فأجابه ب: - «انّى أعرف بهذه الأمور وأملك لها وأولى بها منك، وينبغي أن تخلى بيني وبينها وتدعني وما أدبره منها وتتشاغل بشأنك وتتوفر على ما يتعلق بك.» فاغتاظ من هذا الجواب وصرف الأكراد وأقام بموضعه من دارزين وصار أبو موسى خواجة من جيرفت اليه على أن يجتمعا ويقصدا طاهرا بنرماسير. فلما حصل على مرحلة من دارزين جمع ابن خلف عساكره فاستشارهم فيما يفعله فقالوا له: أحوالنا ضعيفة وعددنا قليلة ولا فضل فينا للحرب إلّا بعد الاستظهار بالدواب والاسلحة. واستقر الرأى بينه وبينهم على أن يتوجهوا إلى الجروم ويعتصموا بأهلها وهم قوم عصاة متغلبون وفيهم بأس وقوة فصاروا إليها ورجع أبو موسى وأبو محمد إلى جيرفت واستعاد الأكراد المالكية فلم يعودوا. وجمعا من معهم من الجيل وأطلقا لهم المال ووافقاهم على النهوض لقصد الجروم وقصد ابن خلف وفى مضىّ ما مضى من الأيام ثبت ابن خلف وحصّل لنفسه وللديلم الذين معه عدة وسلاحا وكراعا. وتوجه أبو موسى وأبو محمد للقائه فلقياه فى القرية المعروفة بنهر خره هرمز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 على مرحلة من جيرفت لأنه قد كان سار إليها، وصفّا مصافّهما. [42] وكان من عادة ابن خلف فى حروبه أن يتفرد فى سرية من غلمانه بعد أن يطعمهم ويسقيهم ويتردّد على مصافّه فيسوى أصحابه ويرتبهم ويتأمّل مصافّ من بإزائه فإن وجد فيه خللا حمل على موضعه. فرأى فى بعض تردده ضعفا فى جانب من مصاف أبى موسى فحمل عليه وكسر المصاف منه وقتل جماعة وأسر أبا موسى وقد أصابته ضربة فى رأسه وأبا محمد القاسم وثلاثين رجلا من القواد منهم وندرين بن الحسين بن مستر وشوزيل بن كوس (كذا) وشيرزيل بن على ومن يجرى مجراهم وكفّ عن القتل واستباح السواد وغنم هو وأصحابه منه ما تأثلت أحوالهم به وتمم الى جيرفت ودخلها واستولى على معظم أعمال كرمان وملكها وطالبه الديلم وقصدوه وتكاثروا عنده وأرادوه. وصار الفلّ من جيش بهاء الدولة الى السيرجان واجتمعوا فيها وكانوا عددا كثيرا وكاتبوا بهاء الدولة بالصورة فانزعج منها وقد كان قبض الموفق قبل هذا الحادث بمديدة. وعمل ابن خلف على قصد السيرجان فخرج عنها من فيها طالبين شيراز. فلما حصلوا بقطرة ورد عليهم كتاب بهاء الدولة بالتوقف فى موضعهم وأعلمهم تجريده أبا جعفر أستاذ هرمز بن الحسن إليهم لتدبير أمرهم وقصد عدوهم. فتوقفوا ولحق بهم أبو جعفر فأخذهم وعدل إلى هراة إصطخر. فادخل يده فى إقطاعات الديلم بفارس وتناول ارتفاعها واستخرج أموالها وأطلق لمن معه ما أرضاهم به واستدعى من بهاء الدولة المدد فأنفذ اليه مردجاوك التركي مع طائفة كبيرة من الأتراك وثلاثمائة رجل من الديلم الخوزستانية ووعده [43] بأن يتبعه بعسكر آخر ورسم له قصد ابن خلف ومناجزته. فسار فى نواحي كورة إصطخر ومدّ يده إلى كل موجود فى الاقطاعات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 المحلولة وصار الى السيرجان وأقام بها خمسة أيام على انتظار حانويه بن حلمويه (كذا) للزطّى وكان قد استدعاه. فوافاه فى عدة وافرة من أصحابه ورحل الى ناختة وهي على عشرين فرسخا من السيرجان ونزل بها. ورتب فى السيرجان ركابية وقوما من المجمزين ليبادروا إليه بخبر للعسكر الذي يتوقع خروجه من شيراز فورد إليهم أحدهم وأعلمه بانفصال القوم من شيراز وقربهم من السيرجان وأنهم على إغذاذ السير وطي المنازل. وكان بنو خواجه بن سياهجنك وأقارب القواد المأسورين يهنجمون فى كل يوم على بهاء الدولة ويطالبونه بتجريد العساكر مع صاحب جيش كبير لاستنقاذهم واستخلاصهم ويقولون: إنّ أبا جعفر أستاذ هرمز شيخ كبير لم تبق فيه حركة ولا نهضة. فجرد المظفر أبا العلاء عبيد الله بن الفضل وضم اليه وجوه الديلم والأتراك من شهرستان بن اللشكرى وأمثاله وأرسلانتكين الكوركيرى وخيركين (كذا) الطيبي ومن جرى مجراهما. قال ابو عبد الله: فحدثني من كان حاضرا مجلس أستاذ هرمز يوم جاءه الخبر بانفصال أبى بالعسكر من شيراز وعنده جماعة من الديلم يأكلون على مائدته أنه لما عرف ذلك اضطرب وخفف الاكل ونهض وقد تقدم بضرب البوق للرحيل فاجتمع اليه مردجاوك ووجوه الأولياء وقالوا له: - «تغرر بنا وبدولة سلطاننا وتحمل نفسك وتحملنا على هذا الخطر الذي يوجب الحزم وتجنّبه والتوقف على الاستظهار [44] الذي هو أولى ما أخذنا به.» [قال المحدث لأبي عبد الله] [1] وأبو جعفر يسمع أقوالهم ويقول: اضربوا   [1] . إيضاح من مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 البوقات، وحملوا. فلما تردد الخطاب منهم وقلّ إصغاء ابى جعفر إلى ذلك قال له مردجاوك: - «إذا كنت قد أقمت على أمرك فامض لشأنك فإنّنى لا أتبعك.» فقال له أبو جعفر حينئذ: - «إذا وصلنا اسبهسلار أبو العلاء غدا وفتح كان الاسبهسلار وكنت أنت مردجاوك وصرت انا أستاذ هرمز ورجعنا على أعقابنا إلى باب السلطان بالذلّ والخيبة وتصورنا بصورة من لم يكن عنده خير حتى جاء مجوسي فعمل وأغنى.» هذا لفظ أستاذ هرمز فكان هذا القول حرّك مردجاوك وهزّه وبعثه على متابعته فقال له: - «الأمر لك.» وسارا حتى نزلا بخشار وقد كان طاهر بن خلف أحسن معاملة أبى موسى خواجة بن سياهجنك ودعا أبا محمد القاسم إلى وزارته والنظر فى أموره، فعلله ودافعه وواصل أبا جعفر أستاذ هرمز بالرسل والملطفات وعرّفه أخبار طاهر ومجاري أموره ومتصرفات تدبيره ومتقررات عزائمه. فلما حصل أبو جعفر بخشار وبينها وبين جيرفت عشرون فرسخا وبين بمّ [1] مثل ذلك وابن خلف بجيرفت وافاده كتاب أبى محمد يذكر فيه ما عمل عليه ابن خلف بجيرفت من قصده بمّ ويشير عليه بسبقه الى دارزين واعتراضه فى طريقه- ودارزين هذه فى سهل يحيط به شعاب وجبال- فانفذ أبو جعفر قطعة من جيشه أمرهم بأن يكمنوا لابن خلف وأصحابه فى المواضع التي لا يحسون بهم فيها ثم يخرجوا عليهم منها عند تفرقهم فى   [1] . وفى الأصل: ثم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 السير فيوقعوا بهم فمضوا وفعلوا ذلك وبلغوا فيه المبلغ الذي أدركوا [45] بعض غرضهم به وأسروا جماعة من رجاله وقواده ثم عادوا إلى ابى جعفر وقد رحل من خشار إلى سروستان كرمان وهي على اثنى عشر فرسخا من بم. وسار ابن خلف إلى بم وتوجه أبو جعفر للقائه وقد رتب المصاف وجعل سيره زحفا على تأهب واستعداد حتى إذا حصل بدارزين وافاه من عرّفه خروج ابن خلف لتلقيه وقتاله. فماج الناس وخافوا واضطرب الجند وحاروا واجتمعوا على أبى جعفر وقالوا له: - «غررتنا وغررت بنا وأشرنا عليك بالصواب فخالفتنا ولم تقبل منا وحملك العجب بنفسك والخوف على اسبهسلاريتك على التوجه فى هذا الوجه قبل وصول المدد إلينا وتحصيلنا فى هذا الموضع على مثل هذه الصورة.» وبادر الفرسان من الأتراك والأكراد ليعرفوا الخبر فصادفوا ابن خلف قد خرج من بم كالطليعة فى عدة يسيرة ليشاهد عسكر أستاذ هرمز ويحزر عدته، فواقعوه وعاد الى بم وعادوا الى دارزين. وأصبح ابو جعفر والعسكر مشغّب عليه وهو متحير فى أيديهم. فبينما هو يلاطفهم ويداريهم أحضره الأكراد رجلا ذكروا أنّه جاسوس لابن خلف فقال له: - «أنت جاسوس ابن خلف» . قال: «لا ولكنى رسول ديررشت بن ماهويه لصاحب لأبي جعفر ببم وهذا كتابه إليك يخبرك فيه بانصراف ابن خلف الى سجستان.» فلما سمع قوله ووقف على الكتاب أظهره عند العسكر فسكنوا وزالوا عما كانوا عليه من الهنجمة وسار بعد ان قدم جماعة من المعروفية الى باب بم ليمنعوا الناس من دخولها ويعدلوا بهم إلى قرية تعرف بقرية [46] القاضي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 على فرسخين منها فى سمت نرماسير ونزل بقرية القاضي واستأمن اليه كثير من الديلم الكرمانية الذين انضووا إلى ابن خلف وكان الموفق قد طردهم فقبلهم ورد عليهم إقطاعهم. ولما حصل بهذه الناحية اجتمع اليه وجوه العسكر وألحّوا عليه فى اقتفاء أثر ابن خلف وانتزاع الماسورين من يده. فعللهم ودفعهم من يوم الى يوم الى ان عقدوا هنجمة اقترحوا فيها النهوض بهم فى طلبه. فاستدعى الوجوه وقال لهم: - «قد أيّدنا الله تعالى ونصرنا وبلغنا فى الظفر غاية ما أمّلنا وقدرنا، وليس يجب ان نقابل ذلك بالبغي وطلب الغاية التي ربما ادّت الى الندامة وقد مضى العدو هاربا من بين أيدينا وان اتبعناه الى رأس المفازة ولززناه فى القتال والمكافحة ورأى المفازة أمامه والعسكر وراءه لم نأمن أن يحمل نفسه على الأشد ويقاتل قتال المستقتل وربما نصر ورجعنا على أعقابنا مفلولين فنكون قد أضعنا الحزم وحصلنا على الندم بعد الفوت.» فكان هذا القول طريقا الى سكون القوم ورجوعهم عما كانوا عليه من المطالبة بالمسير. وعاد ابن خلف الى سجستان ومعه أبو موسى خواجه بن سياهجنك وأبو محمد القسم بن مهدر فروخ والقواد المأسورون وانتقل أستاذ هرمز إلى بمّ وأقام بها أياما والكتب واردة عليه بأنّ المظفر أبا العلاء مجدّ فى المسير الى مستقره. وحصل أبو العلاء بقرية الجوز وأنفذ حاجبين من حجابه برسالة الى أبى جعفر والعسكر يعلمهم فيها قربه منهم وهم إذ ذاك بقرية القضى ويشير عليهم بالإتمام الى بمّ ليقع [47] الاجتماع بها. وكان غرضه فى هذه الرسالة يعرف ما عند القوم وأن يزور الأمر فيما كان وقف عليه من صرف أبى جعفر وردّه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 الى شيراز مع الأولياء الشيرازيين والمقام [1] بكرمان ناظرا فيها. وكان قد صحب أبا العلاء عبد الله بن عبد العزيز برسم خلافة الوزارة. فلما وردت هذه الرسالة على أبى جعفر تبين المراد [2] فيها واستدعى وجوه الديلم سرا وقرر معهم ما يجيبون به عنها. وحضر الرسولان [3] فى الحفل وأعادا القول فقام الوجوه وقالوا: - «هذه البلاد لنا ونحن فتحناها بعد تغلب السجزية عليها وهذا الرجل- وأومأوا الى أبى جعفر أستاذ هرمز- اسبهسلارنا ومن جاءنا فتكناه وفعلنا به وصنعنا ويجب أن تعيدا هذا الجواب وتنصحا لهذا المجوسي حتى ينصرف ولا يفسد أمرا قد صلح ويحلّ نظاما قد ترتّب.» وكادوا يثبون بالرسولين حتى خلّصهما أبو جعفر وصرفهما وعادا الى أبى العلاء وعرّفاه ما جرى فكتب الى بهاء الدولة به وعلم أنه لا فائدة فى مقامه فعاد مع العسكر الى شيراز. وصار أبو محمد عبد الله بن عبد العزيز الى ابى جعفر وأقام أبو جعفر واليا وأبو محمد موقعا عن مجلس الوزارة، ثم أنفذ أبو اسحق ابراهيم ابن أحمد بدلا من أبى محمد. وكان الوزير أبو غالب محمد بن على لانحرافه عن أبى على ابن أستاذ هرمز وأبى جعفر والده قال لبهاء الدولة: - «إنّ بكرمان إقطاعات محلولة وأموالا موجودة وقد استولى عليها أبو جعفر وأقاربه وتوزعوها وتقسموها.» وأشار بالاختيار من ينفذ للنظر فى ذلك ويقرر الأمر فى الاقطاعات وافراد ما يفرد للخاص واجتذاب ما يلوح من الأموال. فعوّل على أبى [48]   [1] . والمثبت فى مد: والمقم. وهو خطأ. [2] . والمثبت فى مد: المرد. [3] . والمثبت فى مد: لرسولان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 الفضل محمد بن القاسم [1] بن سودمند [2] العارض فى الخروج وتولّى هذه الحال وخرج على طريق الكورة. فلما حصل فى جيرفت حمل أبو جعفر الديلم على الهنجمة فعقدوا هنجمة قتلوا فيها علىّ بن احمد بن يحيى وكان أحد الكتاب الكفاة الدهاة وإليه الإشراف على أبى إسحق إبراهيم بن أحمد ونهبوا دور الحواشي وبلغ أبا الفضل ذلك، فقبض على أبى القاسم الطويل الحاجب صاحب أستاذ هرمز وضربه ألف عصا وراسل أستاذ هرمز بالانكفاء الى شيراز وأنّه متى لم يفعل قبض عليه. فخرج وصار الى حضرة بهاء الدولة. وتوسط أبو الفضل الأعمال وأقام بها ستة أشهر وأقام الهيبة ورتّب الأمور وأسقط جماعة من الديلم وطردهم وقرر للباقين أقساطا وسلم بها الى أكثرهم ضياعا وأفرد للخاص ما كان له ارتفاع وافر وقبض على الإصفهبذ بن ذكى وكنجر بن العلوي وكانا خرجا فى صحبته من شيراز. قال أبو عبد الله: فحدثني بعض الحواشي المختصين، أنّ أقوى الدواعي كان فى إخراج أبى الفضل ابن سودمند الى كرمان ما كان فى نفس بهاء الدولة على الاصفهبذ بن ذكى لأنه كان واجهه فى سنة الصلح مع الديلم بالأهواز بالقول القبيح وامتنع من البيعة له إلّا بعد المراوضة الطويلة والتعب الكثير وانه دبّر ما أراده من القبض عليه وشفاء صدره منه بإخراج أبى الفضل وإخراجه معه حتى تمّ له ببعده ما حاوله فيه. وعاد أبو الفضل الى شيراز على طريق الروذان ومعه خمسمائة ألف درهم وشيء كثير من السلاح والثياب.   [1] . فى مد: القسم. [2] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 [49] ذكر ما جرى عليه أمر طاهر بن خلف بعد عوده لمّا انصرف من بم دخل المفازة وصار إلى سجستان ومعه أبو موسى خواجة بن سياهجنك وأبو محمد القاسم بن مهدر فروخ والديلم المأسورون وحصل على باب البلد. فخرج اليه خلف أبوه وقاتله وجرت بينهما وقائع كثيرة فى أيام متتابعة ووقف الأمر فى المناجزة. وراسل الديلم المأسورون طاهر ابن خلف وكانوا من الأعيان المذكورين والشجعان المشهورين وبذلوا له فتح البلد وأخذه إذا اطلقهم وأعطاهم من السلاح ما يرضيهم وشرطوا عليه تخليتهم إذا بلغ مراده بهم ليرجعوا الى منازلهم. فتقبل البذل منهم والتزم الشرط لهم وأفرج عنهم وسلّم إليهم سلاحا اختاروه وقاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء كثيرا ونصرهم الله تعالى وأجرى الفتح على أيديهم وملك طاهر وصعد أبوه إلى قلعة له تعرف بقلعة الحبل، على خمسة فراسخ من البلد، وتحصن بها ووفى طاهر للديلم بما وافقهم عليه وأعطاهم وخلع عليهم وحملهم وزودهم وخلّى لهم عن سبيلهم. وبقي أبو موسى وأبو محمد فى يده. فأمّا أبو موسى، فإنّه قرّر عليه صلحا صح له بعضه وكان أولاده على حمل باقيه وتوفيته، فعاجلته المنية وترامى به جرح الضربة التي أصابته فى رأسه الى الوفاة، لأنّها وقعت فى موضع ضربة قديمة، واستقام أمر طاهر وأقام أبو محمد القاسم عنده. وشرع خلف فى أن يفسد على ابنه ويصرف الديلم عنه. فلم يتمّ له ذاك لأنّهم [50] كانوا مائلين اليه وحاول الفساد للرعية أيضا. فكانت رغبتهم فى ابنه أفضل منها فيه لسوء معاملة الشيخ لهم وقبح سيرته بهم وإن أظهر من التمليس ما كان يظهره حتى إذا اعتاد الفساد على هذه الوجه عدل الى اعمال الحيلة وراسل ابنه وقال له: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 - «قد أخذنا من المقاطعة بأكثر حظّ وانتهينا فيها الى أبعد حدّ، وتأملت امرى فلم أجد لى ولدا باقيا غيرك ولا خلفا مأمولا سواك، ووجدتني قد كبرت وتقضّى عمرى إلّا القليل وقد رأيت أن أسلم الأمر والبلد والقلعة وما لى فيها إليك وأزيل الوحشة العارضة بيني وبينك وأتوفّر على أمر الله تعالى فى المدة الباقية لى معك وأقتصر على البلغة من العيش فى كنفك ومن يدك. فإنّى لست آمن أن يقضى الله تعالى علىّ قضاءه، فيستولى على هذه القلعة من فيها ويخرج مالي ونعمتي وما جمعته طول تدبرى إلى غير ولدي ومن بقاؤه بقاء ذكرى.» ولم يزل يراسله ويطمعه حتى استغرّه وخدعه وتقرر بينهما أن يركب ابنه إلى أسفل القلعة وينزل خلف ويجتمعا على قنطرة كانت لخندق من دونها ويشاهد كل واحد منهما صاحبه ويوصى خلف إليه ويعرّفه ماله ومواضعه. وركب طاهر وحده وجاء إلى تحت القلعة ونزل خلف على مثل هذه الصورة والتقيا على القنطرة وقبّل طاهر يد أبيه وعانقه أبوه وضمّ رأسه إلى صدره وكان تحت القنطرة فى حافات الخندق دغل كثير من بردى وحشيش يستتر فيه المستتر به، وقد كمّن له خلف مائة رجل فى أيديهم سيوف. فلما ضمّه خلف إلى صدره بكى بكاء أجهش فيه حتى علا صوته، وخرج القوم [51] فأمسكوا طاهر وأصعدوا به الى القلعة وقتله خلف وغسله بيده ودفنه. وتأدى الخبر الى أصحاب طاهر فاستسلموا لخلف وسلّموا البلد إليه وعاد إلى موضعه منه. وتوصّل أبو محمد القسم الى أن أحضر جمازات وأكرادا وجعلها على قرب منه ثم خرج وركبها وهرب وصار الى شيراز فقلد العرض ووزر بعد ذلك على ما نذكره فى موضعه. وكان أعداء خلف يراقبونه لأجل طاهر ابنه وما ظهر من نجابته ورجلته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 وشجاعته ونجدته. فلما هلك طمع فيه وجرّد إليه يمين الدولة أبو القاسم محمود عسكرا واستولى على بلده وقلعته وأخذه الى خراسان فجعله بالجوزجان مخلى فيها كمعتقل ومطلقا كمحبوس، وأجرى عليه ما احتاج اليه لاقامته ونفقاته، ثمّ توفى بعد مدة وحصلت سجستان مع خراسان إلى هذه الغاية [1] . سنة احدى وتسعين وثلاثمائة أولها يوم الأحد وأول يوم من كانون الأول سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف للإسكندر وروز رام من ماه آذر سنة تسع وستين وثلاثمائة ليزدجرد. فى يوم الأربعاء الحادي عشر من المحرم حضر الأتراك دار أبى نصر سابور بن أردشير بدرب الديزج وتردد بينه وبينهم خطاب فى أمر التجريد أدّى الى توثيبهم به على ابى الحسن ابن علان العارض وهرب أبو نصر ووقع الفتنة بين الغلمان والعامة. شرح الحالة فى ذلك قد ذكرنا ورود أبى الحسن ابن علان لإخراج الغلمان إلى فارس وكان أبو نصر سابور قد حصل من المال ما سلّمه الى أبى الحسن وأعدّه عنده لينصرف [52] فى نفقاتهم وما يتقرر عليه أمورهم.   [1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: وتوفّى خلف شهيدا فى الحبس ببلاد الهند رحمه الله فى قبضة محمود بن سبكتكين وكان محمود فى سنة 93 قد حاصره ونازله واستنزله بالأمان من قلعته ووجهه الى الجوزجان فى هيئة ووفور هيبة. ثم بلغ السلطان عنه بعد أربع سنين من ذلك انه يكاتب ايلك خان الذي استولى على بخارا، فضيق عليه السلطان بعض الشيء إلى أن مات فى رجب سنة 399 وورثه ولده أبو حفص (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 فلما كان فى يوم الأربعاء المذكور حضر أبو الحسن دار ابى نصر وحضر الغلمان. فجدد الخطاب معهم فى الخروج وجد بهم فيه. فامتنعوا منه إلّا بعد أن توفّوا استحقاقاتهم وتردد فى ذلك ما انتهى الى بذل ابى نصر للخارجين اطلاق الثلث مما وجب لهم بالحضرة والثلث بالأهواز والثلث الباقي بشيراز، وأن يكون الإطلاق العاجل لمن يخرج خاصة. فأغضبهم ذلك ووثبوا بأبى الحسن وهجموا على أبى نصر وهرب من بين أيديهم. وبادر العلويون والعامة فدفعوهم عن الدار ورموهم بالآجرّ من السطوح وخرج الأتراك مغيظين محفظين وثارت الفتنة بينهم وبين أهل الكرخ واجتمعوا من غد وصاروا الى قتال العامة من القلايين وباب الشعير وعظم الأمر وانضوى الى الأتراك اهل السنة من سائر المواضع وصار أهل الكرخ إلى ابى الحسن ابن يحيى العلوي وشكوا اليه حالهم وما قد أطلّهم. فقال لهم: - «لا قدرة لى على هؤلاء القوم ولا طاقة لى بهم.» وأنفذ ابو القاسم ابن مما جماعة من الديلم فأجلسهم على القنطرة لمنع القتال من تلك الجهة وعبر أبو الحسن ابن يحيى فى اليوم الثالث الى دار المملكة ومعه وجوه العلويين والفقهاء الذين بالقطيعة واجتمعوا مع وجوه الأتراك وأعلموهم أنّهم لا يعلمون لأبي نصر سابور خبرا ولا عندهم محاماة عنه وسألوهم كفّ الأصاغر عن الفتنة والإبقاء على المستورين من الرعية وأنفذوا بالمعروفية وصرفوهم. وطالب الأتراك أبا الحسن ابن علان بإطلاق ما حصل من المال فى يده فى الأقساط والتمس الديلم ما يجب لهم فيه فسلم وذاك فرق وبطل [53] التجريد. وتصور أبو نصر سابور وهو فى الاستتار وقوع التوازر عليه واتفاق الجماعة من أبى الحسن ابن يحيى وأبى يعقوب أخيه وأبى القاسم ابن مما على التجعد منه والعداوة له. فخرج عن بغداد الى القصر ومنها الى سورا ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 الى البطيحة. وكتب الى بهاء الدولة بما أو غربه صدره عليهم ونسب فيه جميع ما جرى من الفساد وأخذ المال ووقف أمر التجريد واثارة الفتنة إليهم. وفى يوم السبت لليلتين بقيتا منه توفى مرمارى بن طوبى الجاثليق [1] . وفى روز خرداذ من ماه ذى [2] الواقع فى هذا الشهر عاد بهاء الدولة من فسا إلى شيراز. ولما فارق أبو نصر سابور موضعه ونظره خاف أبو الحسن على ابن أبى على، لأنه كان صاحبه ومختصا به، فأخفى شخصه وبعد عن البلد. وزادت الفتنة وتسلط أهل الذعارة فقلّد أبو الفوارس بهستون ابن ذرير الشرطة ونزل دار أبى الحسن محمد بن عمر التي على دجلة وقبض على جماعة من العيارين وقتلهم وكبس دورهم ومنازلهم واستعمل السطوة وأقام الهيبة فاستقام الأمر به. وحدث من الأتراك معارضة له فى بعض ما فعله، فاستعفى وعاد إلى داره بالجانب الشرقي وأقام ابو القاسم ابن العاجز على النظر. ذبح المقلّد على فراشه وفى ليلة الأربعاء لسبع بقين من صفر قتل حسام الدولة أبو حسان المقلّد بن المسيب العقيلي بالأنبار غيلة.   [1] . هو من أهل الموصل من أولاد الرؤساء والكتّاب وتربى فى الدواوين وكتب لبنت أحمد امرأة ناصر الدولة ولما اضطربت أمور بنى حمدان لقبض أولادها على أبيهم بغير إذنها وسائر الأخوة ووقع بينهم القتال اثر الترهب. كذا فى ترجمته فى كتاب المجدل لمارى بن سليمان طبع فى رومية الكبرى سنة 1899 المسيحية 1: 104 وفيه أنه مات سنة 390 وأن مدة جثلقته أربع عشرة سنة قمرية (مد) . [2] . ذى (دى) : الشهر العاشر من السنة الشمسية الإيرانية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 ذكر الحال فى ذلك قد ذكرنا ما كان من غلمانه الأتراك فى خروجهم من داره وأخذهم دوابّه وهربهم منه وأنه تبعهم وظفر بهم وقتل وقطع أحد عشر غلاما منهم وأعاد الباقين إلى خدمته وهم على خوف منه وإشفاق من عظم هيبته وسوء [54] معاملته. فقيل: إنّ أحدهم راعى الفرصة منه وذبحه فى الليلة المذكورة وهو سكران وهرب. وقد قيل: إنّ أحد فراشيه فعل ذلك به، إلّا أنّ الغلام أثبت. وقد كان المقلد راسل جماعة كثيرة من وجوه الأولياء ببغداد واستمالهم ووعدهم وأطمعهم وحدث نفسه بدخول الحضرة والاستيلاء على المملكة وأصّل فى ذلك أصولا كاد غرضه بها يتم. فاتفق من أمر الله تعالى جل وعزّ مالا يغالب فيه. ذكر ما جرى عليه الأمر بعد قتله على ما حدثني به ابو الفتح عيسى بن إبراهيم قال لما قتل المقلد لم يكن قرواش حاضرا بالأنبار وهو الأكبر من أولاده وكانت خزائنه بها وعساكره بسقى الفرات. وخاف أبو الحسين عبد الله بن ابراهيم بن شهرويه بادرة الجند ونهبهم. فراسل أبا منصور قراد بن اللديد وكان قريبا منه بالسندية واستدعاه اليه وقال له: - «أنا اجعل قرواش ولدا لك وأزوّجه ببعض بناتك وأقرر معه مقاسمتك على ما خلفه أبوه فى خزائنه وتكون عونا له على الحسن عمّه. فانه ربما طمع فى الاستيلاء على الأمر بعد المقلد. فأنفذ الرسل إلى قرواش يحثّه على المبادرة واللحاق. وصار قراد إلى الأنبار ونزل فى دار الإمارة بها وحرس الخزائن وحسم الأطماع وحضر قرواش بعد أيام واجتمعا وتقاسما على المال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 وتحالفا وتعاقدا على التعاضد. وقد كان قراد قبل ورود [1] قراوش أطلق للجند شيئا من ماله وارتجع عوضه بعد ذلك. فلمّا عرف الحسن بن المسيب ما جرى واستبداد قراوش بقراد، علم أن الأمر والغرض قد فاته وامتنع عليه من الأمر [55] ما كان يقدّره. فشكا الى عسكر ابن أبى طاهر وأبى المعضاد كلاب بن الكلب وجماعة من المسيّبيين [2] الحال وقال: - «يا قوم يرث قراد بن اللديد مال بنى المسيب وهم أحياء؟» فقال له عسكر: - «هذا من عملك ولخوف ابن أخيك منك.» فقال: «ومن أى شيء خاف وما الذي يريده؟» قال: «لو سكن منك إلى خلوص النية وصلة الرحم وحفظه فيما خلفه أبوه له لما أدخل بينك وبينه غريبا ولكنت أولى به وكان أولى بالمحاماة عنك.» فقال له الحسن: - «أنا على ذاك ومهما سمتمونيه من توثقه عليه بذلته لكم.» وكتب عسكر ابن أبى طاهر الى قراوش بما جرى وترددت الرسل بينه وبينه فيه حتى استقر الأمر على أن يسير الحسن الى الأنبار مظهرا فإذا وقعت العين على العين قبضا على قراد وارتجعا منه ما أخذه ولم يدخل أبو الحسين ابن شهرويه فى القصة ولا عرفها. وانحدر الحسن وقرب من الأنبار وبرز قراوش وقراد للقائه. وبينما الفريقان متصافّان متواقفان إذ جاء بعض العرب فأسرّ الى قراد شيئا. فولّى هاربا يطلب طريق البرية وتبعه قرواش والحسن وأصحابهما وجدّوا فى   [1] . وفى الأصل: قيل وزود. [2] . والمثبت فى الأصل: المسيبين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 طلبه. ففاتهم واجتاز بحلته فلم يدخلها ومضى على وجهه. وتلاقى الحسن وقراوش وتعانقا وبكى كل واحد منهما وقال الحسن لقرواش قولا جميلا استماله به وبذل له أن يكون بحيث يؤثره ويحبه، واتفقا على ارتجاع ما أخذه قراد من الخزائن. وأنفذا الى زوجته بنت محمد ابن مقن وأخت غريب ورافع وطالبها بما فى بيوتها من ذلك فامتنعت عليهما وخاطبتهما خطابا فيه بعض الغلظة وأجاباها بمثله وأدخلا الى البيوت من أخرج المال والأعدال اللذين حصلا بقسم قراد [56] من مال المقلد وأخذاها وانكفأ الى الأنبار وأقاما أياما. وحمل قراوش الى الحسن عمه ثيابا وفرشا وسلاحا وغير ذلك وسار الى الكوفة وواقع بنى خفاجة بناحية زبارا [1] وظفر بهم ومضوا بعد هذه الوقعة الى الشام وكانوا هناك إلى أن استدعى أبو جعفر الحجاج أبا على الحسن بن ثمال فورد ووردوا على ما نذكره من بعد فى موضعه. وفى ليلة يوم الأربعاء مستهل ربيع الاول توفّى أبو الحسن على بن محمد الإسكافى. وفى يوم الخميس لليلتين خلتا منه توفّى أبو بكر ابن حمدان البزاز. القادر بالله يجعل ابنه أبا الفضل ولىّ عهده ويلقّبه الغالب بالله وفى يوم الأحد الخامس منه جلس الخليفة القادر بالله أطال الله بقاءه للحاج الخراسانية وأعلمهم أنّه قد جعل الأمير أبا الفضل ابنه ولىّ عهده ولقّبه: الغالب بالله، وقرئت عليهم الكتب المنشأة بذلك.   [1] . وفى الأصل: ربارا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 شرح الحال فى ذلك جلس على السدّة العالية بثياب سود متقلدا سيفا بحمائل فى البيت المعروف ببيت الرصاص، وبين يديه نهر يجرى الماء فيه الى دجلة، ودخل اليه الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء وأهل خراسان العائدون من الحج وقرئ فى المجلس على رؤوس الملأ كتاب بتقليده أبا الفضل ولده العهد بعده وتلقيبه الغالب بالله تعالى ولا غالب إلّا الله وحده لا شريك له، وكان له من السن فى هذا الوقت ثماني سنين وأربعة أشهر وأيام. وكتب الى البلاد بأن يخطب له بعده على نسخة قررت بحضرته وكانت بعد إتمام الدعاء له: «اللهم وبلّغه الأمل فى ولده أبى الفضل الغالب بالله تعالى ولى عهده فى المسلمين. [57] اللهمّ وال من والاه من العباد وعاد من عاداه فى الأقطار والبلاد، وانصر من نصره بالحق والسداد، واخذل من خذله بالغي والعتاد. اللهمّ ثبّت دولته وشعاره وانبذ الى من نابذ الحق وأنصاره» . ذكر السبب فى تقليده العهد على هذه السن قد ذكرنا فيما قدمناه من أخبار خراسان حال الواثقى [1] ووقوعه الى هرون بن ايلك بغراخاقان واستيلاءه عليه وتقدم منزلته عنده. وكان أبو الفضل التميمي الفقيه قصد بلاد الخانية واجتمع مع هذا الواثقى فاتفقا على ان افتعلا كتابا عن الخليفة أطال الله بقاءه بتقليد الواثقى العهد بعده واظهرا ذلك عند بغراخاقان وأنّ أبا الفضل ورد فيه. وصادف هذا الأمر رأيا جميلا من بغراخاقان فى الواثقى ومنزلة لطيفة له عنده فقوّاه واكّده، وتقدم بأن يخطب   [1] . قال الصفدي فى الوافي بالوفيات: هو عبد الله بن عثمان بن عبد الرحيم بن ابراهيم بن الواثق وكان يلقب بالصادع بالحق (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 له فى بلاده بعد الخليفة أطال الله بقاءه. وشاع الحديث فى أعمال خراسان ووردت به الكتب الى الخليفة أطال الله بقاءه فأنكره وأكبره وغاظه ما تمّ منه وأزعجه. وأوجب الرأى عنده أن رتّب الأمير أبا الفضل ولده فى ولاية عهده وكتب الى سائر الأعمال والأطراف بذلك والى أمراء خراسان والخانية بتكذيب الواثقى وتفسيقه وبعده عن استحقاق ما ادعاه لنفسه. فحدثني القاضي ابو القاسم على بن المحسن التنوخي [1] قال: كان هذا الرجل وهو عبد الله بن عثمان من ولد الواثق بالله يشهد بنصيبين عند الحكام فيها وعند صدقة بن على بن المؤمّل خليفة القاضي أبى على التنوخي والدي على القضاء [58] بها، وإليه مع الشهادة الخطابة فى المسجد الجامع. وكان يفسد على صدقة ويحاول أن يقوم مقامه فى خلافة والدي. واجتمع صدقة وأهل نصيبين على أن كتبوا محضرا بتفسيقه وشهدوا بذلك عند صدقة شهادة سمعها وقبلها وأنفذ الحكم بها وكتب إلى والدي بالصورة وانفذ اليه المحضر والسجلّ عليه. فقبل ذلك والدي وأمضى الحكم به وأنفذه وأشخص الواثقى إلى بغداد. فلما ورد خاطبه خطابا قبيحا وأوقع به مكروها واعتقله فى حبس الشرطة حتى خاطبه فى أمره أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الببغاء [2] الشاعر للبلدية التي كانت بينه وبين الواثقى فأطلقه. ونزل غرفة فى الفرضة بإزاء دار المملكة وذلك فى أيام عضد الدولة. قال القاضي ابو القاسم: وكان يواصله ابو العباس احمد بن عيسى المالكي لصداقة بينهما وبلدية.   [1] . وردت ترجمته فى إرشاد الأريب 5: 301 وترجمة والده ابى على الذي صنف كتاب الفرج بعد الشدة وكتاب نشوار المحاضرة، ووردت فيه ايضا 6: 351 (مد) . [2] . توفى سنة 398 وهو المخزومي الحنطبى. كذا فى الأنساب للسمعاني ص 179 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 فحدّث ابو العباس قال: حضرت عنده ليلة فى غرفته وقلت له: - «الصواب أن تستعطف القاضي أبا على التنوخي وتوسط بينك وبينه أبا الفرج الببغاء وتصلح أمرك معه.» -[1] وأنا أخاطبه وأكرر هذا الرأى عليه وهو معرض عنى فقلت له: - «أسمعت ما أشرت عليك به؟» فقال لى: - «يا أبا العباس، أنت جاهل. أنا مفكر كيف أطفئ شمع هذا الملك الذي نحن بإزاء داره وأخذ ملكه وأنت تقول لى: استصلح التنوخي.» قال أبو العباس: فلما سمعت قوله قلت: «سلاما» وقمت من فورى منصرفا عنه وخائفا من أذية تتطرق علىّ به وقطعته. قال القاضي أبو القاسم: فلما ظهر من حديثه فيما وراء النهر بخراسان ما ظهر، وقلد الخليفة أطال الله بقاءه أبا الفضل ولده ولاية عهده وطعن على الواثقى فأنكر أمره، بلغه [59] حال المحضر الذي كان أنفذ الى والدي من نصيبين بتفسيقه من جهة بعض ما أخبر به بحديثه [2] فاستدعيت الى الدار العزيزة استدعاء حثيثا لم تجر عادة به فمضيت ودخلت على أبى الحسن ابن حاجب النعمان فقال لى: - «ما الذي جرى منك، فإنّ الطلب لك ما ينقطع» . قلت: «ما أعلم انّه حدث ما يقتضى ذلك.» وكتب بخبري فخرج الجواب بأنّه: بلغنا حال محضر أنفذ إلى والده من نصيبين بتفسيق الواثقى وأنّه أسجل به. فتطالبه بإحضاره وإحضار السجلّ   [1] . وزاد فى مد: «قال» للإيضاح ولا لزوم له. [2] . لعله: من حديثه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 عليه. فأقرأنى ذلك وقلت: - «السمع والطاعة.» وانصرفت وأنا خائف من أن يكون هذا المطلوب قد ضاع فيما ضاع لنا وتشاغلت بالتفتيش عنه فوجدته وحملته من غد وسلّمته. فلما حمل إلى حضرة الخليفة أطال الله بقاءه، رده وقال للرئيس: - «سله هل حفظ على والده إقراره بما أسجل به.» فسألنى عن ذلك فقلت: - «نعم قد كان أقرّ عندي به.» ورسم إحضار القضاة والشهود والفقهاء، ففعل ذاك. وحضر القوم ومنهم القاضي أبو محمد ابن الأكفانى والقاضي أبو الحسن الخرزي وأبو حامد الإسفراينى والشهود بأسرهم وعمل كتاب على سجلّ والدي بإنفاذى ما سمعته من حكمه به وأشهدت الجماعة المذكورة على نفسي فيه. وكان ذلك فى جملة ما أنفذ الى خراسان وجرح الواثقى به. وحكى القاضي أبو القاسم: انّ هذا الواثقى دخل بغداد بعد ما جرى له بخراسان ونزل دارا وراء داره بباب البصرة. ثم انتقل عنها لما عرف خبره وشاع أمره وانه رآه فى بعض الأيام بالكرخ وهو لا يعرفه [قال] فرأيت رجلا عليه قباء [60] واذارى [1] وعمامة شاهجانية وهو يمشى منحنيا ويداه معقودتان من ورائه كفعل الخراسانية. وكان معى أبو العباس المالكي. فلما رآه سلم عليه وقبّل كتفه فنهره وزبره بلفظ الفارسية الخراسانية فقال له المالكي: - «إنّما سلّمت عليك وعندي أنّك صديقنا الذي يعرفنا ونعرفه. فإذا   [1] . قال المقدسي ص 324 س 18: ومن وذارا ثياب الوذارية وهي ثياب على لون المصمت وسمعت بعض السلاطين ببغداد يسميها ديباج خراسان (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 أنكرت ذلك فالله معك.» والتفت إلىّ وقال: - «تعرف هذا الرجل؟» قلت: «لا.» قال: «هذا الواثقى الذي ادّعى ولاية العهد بخراسان.» ذكر ما جرى عليه أمر الواثقى بعد ذلك على ما عرفته من القاضي أبى جعفر السمناني [1] لم يسمع بغراخاقان فيه قول قائل ولا أحاله عن العناية به والعصبية له محيل. فلمّا توفّى وملك أحمد بن على قراخان كاتبه الخليفة أطال الله بقاءه، بإبعاده. فلم يكن عنده الموضع الذي كان له عند بغراخاقان. فأنفذه إلى موضع يعرف بأسفاكند وجعله كالمحبوس فيه بعد أن أقام له ما يحتاج اليه وأقام هناك مدة ثم صار الى بغداد كاتما نفسه ونزل بباب البصرة وانتهى الى الخليفة أطال الله بقاءه خبره فتقدم بطلبه، وانتقل الى التوثة ولقيه جماعة من الفقهاء فأعطاهم وبرّهم ووصلهم. ثم انحدر الى البصرة ومضى منها الى فارس وكرمان وعاود بلاد الترك فلم يتم له ما حاوله من قبل ونفذت كتب الخليفة أطال الله بقاءه بتتبعه وأخذه فهرب من هناك وصار إلى خوارزم وأقام بها. ثم فارقها وقصد الأمير يمين الدولة أبا القاسم محمودا وأخذه وأصعد به الى بعض القلاع فكان فيها محبوسا محروسا موسعا عليه الى أن مات. وفى شهر ربيع الأول توفى أبو شجاع بكران بن بلفوارس [61] بواسط.   [1] . فى تاريخ الإسلام هو محمد بن احمد بن محمد بن احمد قاضى الموصل شيخ الحنفية سكن بغداد. قال فيه الخطيب: يعتقد مذهب الأشعري وقد ذكره ابن حزم فقال: هو أكبر أصحاب الباقلاني ومقدم الأشعرية فى وقتنا. توفى سنة 444 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 وفى يوم الأربعاء لليلة بقيت منه قبل القاضي أبو عبد الله الضبّى شهادة أبى الحسن على بن الحسن بن العلاف الواسطي. وفى سحرة يوم الجمعة لليلة خلت من شهر ربيع الاول توفّى أبو القاسم عيسى بن على بن عيسى بن داود بن الجراح [1] وصلّى عليه القاضي أبو عبد الله الضبّى وقد كان أبو القاسم جلس وحدث وصار اليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي [2] وخلق كثير. فسمعوا منه وكتبوا عنه وكان رجلا فاضلا يعرف علوما كثيرة من علوم الدين والمنطق والفلسفة. وفى هذا اليوم توفى أبو النضر كعب بن عمرو البلخي المحدث. وفى يوم الخميس السابع منه قلد القاضي أبو حازم محمد بن الحسن الواسطي القضاء بواسط وأعمالها وقرئ عهده فى الموكب بدار الخلافة. وفى يوم الخميس لسبع بقين منه توفى أبو حفص عمر بن وهب المقرئ وكان شيخا صالحا. ذكر قتل علىّ بن طاهر الكاتب وفى ليلة السبت لسبع بقين منه قتل أبو الحسن على بن طاهر الكاتب. شرح الحال فى ذلك قد كان مضى إلى مصر هاربا من أبى الحسن محمد بن عمر، فأقام بها   [1] . قال صاحب تاريخ الإسلام انه كان يرمى بشيء من مذهب الفلاسفة وترجمته موجودة فى تاريخ الحكماء لجمال الدين القفطي ص 244 (مد) . [2] . وقال فيه: هو شيخ أهل الرأى ومفتيهم انتهت اليه الرياسة فى مذهب أبى حنيفة بالعراق وانه كان يقول: ديننا دين العجائز ولسنا من الكلام فى شيء. وكان له امام حنبلي يصلى به وقد دعى الى ولاية الحكم مرارا فامتنع توفى سنة 403 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 مدة وعاد فى هذا الوقت مع الحاج، وتحدث الناس بأنه ورد بموافقة من صاحب مصر وللشروع له فى الفساد على الدولة العباسية. فلما كان فى الليلة المذكورة كبسه العيارون فى داره بدرب المقير من سوبقة [1] غالب وعلوه بالسيوف ليقتلوه فقامت جاريته من دونه للمدافعة عنه فضربوا يدها ضربة أبانتها، وضربوه عدة ضربات فاضت منها نفسه وأخذوا جميع ما وجدوه من ماله ورحله وانصرفوا. وحضر أبو الحسن محمد بن احمد بن علان من غد فتولّى تجهيزه ودفنه فى داره. وفى يوم الأحد لست بقين منه خرج أبو القاسم الحسين بن محمد بن مما إلى شيراز بمرقعة. [62] ذكر السبب فى ذلك وما جرى عليه أمره فى خروجه إلى حين رجوعه لما انحدر أبو نصر سابور من بغداد مستترا على ما قدمنا ذكره، وأخذ المال المجموع للتجريد وأطلق فى الاقساط كتب أبو نصر إلى بهاء الدولة وأحال فى جميع ما جرى على أبى الحسن ابن يحيى وأبى يعقوب أخيه وأبى القاسم ابن مما. وكان ينوب عن أبى القسم بفارس أبو الحسين ابن عبد الملك ابن على النقيب وبين أبى القاسم وبين أبى الخطاب والأمين أبى عبد الله مودة قديمة، وهما إذ ذاك المتقدمان والمدبران وعلى عناية بأبى القاسم ومحاماة عنه. فخرجا الى أبى الحسين [ابن] [2] عبد الملك بما يكتب به أبو نصر سابور   [1] . كذا فى مد. ولعله «سويقة» . [2] . زيادة زادها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 فيه وبما قد كوتب به أبو نصر من الاستدعاء إلى فارس ورسما له مكاتبة أبى القاسم بذلك وبأن يسبقه الى الورود والحضور. فخرج متعجلا بمرقعة ووصل فى يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الاولى قبل أبى نصر سابور ونزل على الأمين أبى عبد الله، فتكفل بامره وخاطب بهاء الدولة فيه ونضح هو عن نفسه فيما كان قرف به، وعاونته الجماعة عداوة لأبى نصر سابور وعناية به، واستقامت حاله ورسم له المقام الى أن يحضر أبو نصر ويصلح ما بينه وبينه ويعود الى بغداد فى جملته. فأقام ووصل أبو نصر وأبو جعفر الحجاج، فقرر لهما النظر فى أعمال العراق وأصلح أمر ابى القاسم معهما على دخل من رأى أبى نصر وباطنه فيه وأخرج امامهما لتوطئة ما يجب توطئته قبل موردهما. تقليد الحسن بن أستاذ هرمز أعمال الأهواز وفى هذا الوقت ورد الخبر بتقليد الصاحب أبى على الحسن بن أستاذ هرمز أعمال الأهواز وأنه أخرج إليها ولقّب بعميد الجيوش. ذكر ما جرى فى ذلك حدثني أبو الحسين فهد بن عبيد الله كاتب عميد الجيوش [63] قال: لما دخل الصاحب أبو على فى طاعة بهاء الدولة بالسوس وسلّم الأمر إليه اعتزل الأمور وسار فى صحبته إلى فارس وأقام على بابه. فلما مضت له سنة وكسر استأذن فى المضىّ إلى خراسان، فمنع من ذلك وروسل بما سكن منه به ووعد الوعد الجميل فيه. وقبض على الموفق أبى على ابن إسماعيل وكان نافرا منه فردّت إليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 الأمور بعده ومشّاها بحسب طاقته ووسعه وأفرج عن أبى غالب ابن خلف وجعل خليفته فتولى العمل وكان متدربا به واستعفى الصاحب أبو على وأقام فى داره. ثم راسل بهاء الدولة بعد مدة يخطب إليه تقليده أعمال خوزستان ويعلمه أنه خبير بها وبما فيه استقامة أمرها وقد كانت اختلّت بمقام ابى جعفر الحجاج فيها ونظر ابى القاسم ابن عروة فى عمالتها واستعماله المجازفة التي كانت عادته جارية بها. فأجيب إلى ذلك وقلد وخوطب على قبول الخلع واللقب واستعفى من الخلع وقبل اللقب بعميد الجيش وسار إلى الأهواز فى روز ديبمهر من ماه اسفندارمذ الواقع فى شهر ربيع الأول، وقد كان أبو جعفر فارقها وتوجّه الى واسط. وأقام عميد الجيوش على أحسن سيرة وأقوم طريقة فأصلح الفاسد وضم المنتشر وتألف الرعية ورفع المصادرة وساس الجنود أفضل سياسة وجمع فى أقرب مدة مالا حمله إلى بهاء الدولة وأكّد موضعه عنده به. حوادث عدّة وفى يوم الثلاثاء الرابع من جمادى الأولى قبل القاضي أبو عبد الله الضبّى شهادة أبى القاسم عمر بن ابراهيم بن الحسن بن اسحق البزاز. وفى يوم الأربعاء الخامس منه توفى أبو عبد الله محمد بن اسحق ابن المنجم المغني العواد بشيراز ولم يخلف [64] بعده من يقاربه فضلا عمن يشاكله. وفى يوم السبت الثامن منه خرج أبو الحسن ابن علان العارض عائدا الى فارس وبطل ما ورد فيه من أمر التجريد. وفى يوم الأحد التاسع منه استحجب ابو القاسم على بن أحمد الأمين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 أبا [1] عبد الله للخليفة أطال الله بقاءه. ورود الحجاج بن هرمز واسطا ثمّ خروجه منها سائرا إلى شيراز وفى يوم الخميس الثالث عشر منه ورد أبو جعفر الحجّاج بن هرمز فيه واسطا منصرفا عن الأهواز، ثمّ خرج منها سائرا إلى شيراز. ذكر ما جرى عليه أمره فى ذلك لما عرف ابو جعفر حال عميد الجيوش فى تقلده الأهواز سار إلى بصنّى [2] يوم الأحد الثاني من الشهر وأنفذ أبا الحسن رستم بن أحمد كاتبه برسالة إلى بهاء الدولة يتألم فيها من صرفه عن بلد بعد بلد وكسر جاهه فى أمر بعد أمر ويعدد ما عومل به بالموصل وبغداد ويسأل الإذن له فى اللحاق ببلد الديلم. فلما أعاد أبو الحسن على بهاء الدولة من ذلك ما أعاده ثقل عليه نفوره واستيحاشه ورده وأنفذ معه أبو سعيد زاد انفروخ بن آزاد مرد بجواب يسكنه فيه ويعرّفه تأكد خاله عنده ولطف منزلته فى ... [3] ويرسم له التوجه إلى شيراز ليقرر معه أمر بغداد ويردّه إليها مع أبى نصر سابور فسار ليلة يوم الاثنين لأربع بقين من شعبان ووصل وقد حصل أبو نصر سابور هناك وورد أبو نصر إلى حضرة بهاء الدولة فخلا به وأورد عليه فى جماعة من بمدينة السلام من أبى الحسن ابن يحيى العلوي وأبى يعقوب أخيه وأبى القاسم ابن   [1] . وفى الأصل: ابى. [2] . بصنّا: مدينة من نواحي الأهواز صغيرة، رجالهم ونساؤهم يغزلون الصوف (مراصد الإطلاع) . [3] . بياض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 مما كل ما أوغر به صدره وضمنهم بمائتي ألف دينار. فأذن له فى القبض عليهم واستخراج المال منهم وقرر عليه ما يحمله إلى خزانته منه [65] وخلع عليه وعلى أبى جعفر الحجاج ولقبه القسيم ذا الرئاستين، وذلك فى روز آبان من ماه مهر الواقع فى آخر شوال وسارا. فكان وصولهما إلى واسط يوم الأربعاء سلخ ذى الحجة ونحن نذكر ما جرى عليه أمرهما بعد ذلك فى أخبار سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. حوادث عدّة وفى يوم الجمعة الخامس من جمادى الآخرة توفى القاضي أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخرزي [1] وأقر ابنه أبو القاسم على عمله وقرئ عهده بذلك فى يوم الاثنين لليلة بقيت منه. ثم تعقب الرأى فى بابه وصرف بعد مديدة قريبة. وفى يوم السبت السادس منه قتل المعروف بأرسلان الذي كان يتصرف فى الوقوف. قتله العامة بالآجر وفدغوا رأسه. مقتل بهستون بن ذرير وفى يوم الخميس الثامن عشر منه قتل بنو سيّار أحد بطون بنى شيبان أبا الفوارس بهستون بن ذرير. شرح الحال فى ذلك كان بهستون صديقا لأبى الفتح محمد بن عناز وممائلا له ومسارعا إلى   [1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: هو شيخ أهل الظاهر قدم من شيراز فى صحبة السلطان عضد الدولة وأخذ عنه فقهاء بغداد (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 معونته فى كل أمر ينوبه: فاتفق أن سار اليه من الجبل من يقصده ويطلبه فاستصرخ بجند الحضرة وسألهم الإنجاد والمعاضدة وخرج بهستون فى جملة من خرج ومعه جماعة من أهله وأصحابه. فلما عاد نزل بالخالدية وهي إقطاعه وأغارت الخيل من بنى سيّار على بقر بهذه الناحية وطردت بعضها وعبرت بها الى شرقى ديالى وسلكت طريق براز الروز. فركب بهستون فى الوقت ومعه أخواه الفاراضى والأعرابى وثلاثة نفر من الديلم وطلبوا الخيل الغائرة فأدركها بهستون سابقا ولحق به أخواه وأصحابه وعرفه القوم فأخرجوا له الطرد ومضوا [66] فحمله من كان معه على اتباعهم والإيقاع بهم. فسار ولحقهم وجرت بينه وبينهم مطاردة فطعنه أحدهم طعنة فاضت منها نفسه فى موضعه وطعن الفاراضى أخوه طعنة أخرى فى إحدى عينيه فذهبتا جميعا عند علاجها. وحمل أبو الفوارس إلى الخالدية على ترس وجعل على بغل وأدخل الى داره ببغداد فأقيمت عليه المناحات وعملت له المواتيم العظام وحضر جنازته والصلاة عليها سائر الوجوه والأكابر. وفاة الحجّاج شاعر السخف وفى يوم الثلاثاء لسبع بقين منه توفى أبو عبد الله الحسين بن أحمد الحجاج الشاعر فى طريق النيل وهو عائد منها. وورد تابوته الى بغداد فى يوم الخميس بعده. ذكر حاله وطرف من أمره هذا الرجل من أولاد العمال وكان أول أمره مرتسما بالكتابة وكتب بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 يدي أبى اسحق ابراهيم بن هلال الصابىّ جدّى مدة فى أيام حداثته ثم تأتّى له من المعيشة بالشعر ما عدل إليه وعوّل عليه وكان أكسب له مما كان متشاغلا به. وتفرّد بفن من السخف لم يسبقه إليه سابق وكان مع تعاطيه هذه الطريقة مطبوعا فى غيرها. وقد اختار الرضى أبو الحسن الموسوي من شعره السليم قطعة كبيرة فى غاية الحسن والجودة والصنعة والرقة. ولم يزل أمره يتزايد وحاله تتضاعف حتى حصل الأموال وعقد الأملاك وصار محذور الجانب متقى اللسان مخشى التسكر مقضي الحاجة مقبول الشفاعة. وحمل اليه صاحب مصر عن مديح مدحه به ألف دينار مغربية على سبيل الصلة وشعره مدون مطلوب فى البلاد. ووجدت له رقعة الى أبى اسحق جدّى قد صدّرها بأبيات فاستحسنت مذهبه فيها [67] ونسختها لذاك وهي: «فداك الله بى وبكلّ حىّ ... من الدّنيا دنىّ أو شريف يحلّ لك التغافل عن أناس ... تولّوا ظلم خادمك الضعيف ولست بكافر فيحلّ مالي ... ولا الحجاج جدّى من ثقيف فمر بدراهمي ضربا وإلّا ... جعلت سبال قوفا فى الكنيف قوفا هو أبو الحسن محمد بن الهمانى. «هوذا يبلغ هؤلاء السّفّل منى مرادهم إضرارا بى أطال الله بقاء سيدنا ويدفعون عن إزاحة علّتى عنادا وقصدا. وو الله لو كان مكان هذه الدريهمات ارتفاع بادوريا [1] ما داهنتهم ولا داجيتهم ولا احتملتهم.   [1] . وبادوريا من جلة العمالات ليراجع ما قال فيها أحمد بن محمد بن الفرات: وزراء ص 76 وفى معجم البلدان لياقوت الحموي 1: 460 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 «وقد سار ما مضى من القول واتصل بهم وقوفا متعلق الحشاشة بالقدرة بين أوداجه وحلقومه وهو يوصى بأذاى ويعهد إلى ابن العلاف فى مكروهي. فإن أخذ سيدنا بيدي وتولى مطالبتهم ببعض الغلمان وأرهقهم حتى لا يجدوا منه محيصا طمعت فيها وإلّا استشعرت الإياس وبعت الأشهب واشتريت بثمنه ورقا وحبرا وزيتا للسراج وأحييت ليلتي بهجاء القرود. فإنّ القائل يقول: ما لي مرضت ولم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود «سمّى شاعر الكلب، وسأسمّى أنا بسبب قوفا شاعر القرد. واليوم الثالث من ضمان ابن العلاف الدراهم لسيدنا وعرفني من رآه عند قوفا يستأمره فأظنه منعه من الإطلاق وأعوذ بالله من أن أكون أنا فى طمع هذين النذلين وأبو جوّال [1] بالسواء. حسبي بهذا تحريصا على صفع القوم وتحريكا فى مناجزتهم. «وأنا منذ الغداة قرين الزبزب فى مشرعة دار صاعد حتى نزل محمد الدواتى وعرفت خبر انحداره راكبا فانصرفت والله تعالى يودعنى فيه السلامة. وقد أنفذت الأشهب [68] بهذه الرقعة وتقدمت اليه ان لم ير وجها لتحريك أمره فى تسببه ان يشد نفسه مع البغال ويعتلف الى ان يفرج الله تعالى ثم يعود الى اصطبله ثم لم يكن فيه نهوض للحضور فان تأخر هذا الباب طرحته على الماء حتى ينحدر الى المشرعة وربطته مع الزبزب ان شاء الله تعالى.» وله إلى أبى اسحق من جملة مدائح له فيه كثيرة أبيات وجدتها فى نهاية   [1] . جاء فى الحاشية: أبو جوال ملاح كان لأبى اسحق فى زبزبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 الرقة والطبع فذكرتها وهي: يا من وقفت عليه ... هواى سرّا وجهرا الله يعلم أنّى ... مذ غبت لم أعط صبرا ولا عصيت لداعي ال ... أسى ولا الوجد أمرا ولا لله اطّرحت بثأيى ... عليك نظما ونثرا ولا رأيت بعيني ... فى الأرض بعدك بدرا قدمت قبلك حتّى ... تكون أطول عمرا هذا لغيبة عشر ... وكيف لو غبت شهرا ومما يغنّى فيه وان كان كثيرا: يا من مواعيد رضاه ظنون ... ما آن أن تخرج ممّا تخون سألت عن حالي يا سيّدى ... كلّ عدوّ لك مثلي يكون ومنه: ومدلّل أمّا القضيب فقدّه ... شكلا وأمّا ردفه فكثيب يمشى وقد فعل الصّبى بقوامه ... فعل الصّبا بالغصن وهو رطيب متلوّن يبدى ويخفى شخصه ... كالبدر يطلع مرّة ويغيب أرمى مقاتله فتخطى أسهمى ... غرضي ويرمى مقتلى فيصيب نفسي فداؤك إنّ نفسي لم تزل ... يحلو فداؤك عندها ويطيب ما لي وما لك لا أراك تزورنى ... إلّا ودونك حاسد ورقيب ومنه: أيا مولاي طاب لك اجتنابى ... وقلبي باجتنابك لا يطيب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 وصرت إذا دعوتك من قريب ... تصيخ إلى الدعاء ولا تجيب وأصدق ما أبثّك أنّ قلبي ... بعهدك لا عدمتك مستريب [69] ومنه: قل لمن رفقته مس ... ك وندّ ومدام والذي حلّل قتلى ... وهو محظور حرام أيّها النائم غمزا ... [1] عينه ليس تنام كلّ نار عند ناري ... فيك برد وسلام ومنه: باحت بسرّى فى الهوى أدمعى ... ودلّت الواشي على موضعي يا معشر العشّاق إن كنتم ... مثلي وفى حالي فموتوا معى ومنه سخفه قوله فى بعض قصائده: رأيت أيرا مغلّسا سجدا ... يرفل فى حلّتى دم وخرا فقلت من أين؟ قال: من شرح ... أفلتّ منه كما ترى وأرا ومنه فى قصيدة: جلس الأير سرمها فى خراها ... ذات يوم على سبيل اللّجاج فقصدت النواة فى ذاك حتّى ... أخذت لى التوقيع غير [2] فراج وهو كثير وفيما أوردناه من أنموذج كل فن كفاية. حوادث عدّة وفى يوم الخميس العشر من رجب توفى أبو الحسين أحمد بن الحسين ابن احمد بن الناصر العلوي.   [1] . وفى الأصل: غمز. [2] . والمثبت فى الأصل: بغير. وهو مخالف للوزن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 وفى يوم الخميس لثمان بقين من شعبان قلد القاضي أبو محمد ابن الأكفانى ما كان الى أبى الحسن الخرزي من الجانب الشرقي فتكامل له جميعه. وفى يوم السبت الثاني من شهر رمضان توفى أبو الحسن على بن نصر الشاهد بالجانب الشرقي. وفى يوم الإثنين الحادي عشر منه قبل القاضي أبو عبد الله الضبّى شهادة أبى الحسن على بن أحمد بن صبح. وفى يوم السبت السادس عشر منه توفى القاضي أبو الحسن محمد بن محمد بن جعفر الأنبارى صهر ابن سيار القاضي وكاتبه. وفى يوم الاثنين العاشر من شوال قبل القاضي ابو عبد الله الضبّى شهادة [70] أبى القاسم ابن علان وأبى على ابن العلاف وأبى عبد الله ابن طالب. وفى يوم الخميس الثالث عشر منه قبض أصحاب قراد بن اللديد على أبى الحسن ابن الحسن محمد بن يحيى النهرسابسى بباقطينا وحملوه الى حلّة قراد ثم أفرج عنه وعاد الى بغداد. شرح الحال فى ذلك كان الديلم قد طالبوا أبا الحسن ابن يحيى بإطلاق أقساطهم لأنّ المعاملات التي كانت المادة منها انتقلت الى نظره بعد هرب أبى نصر سابور فمنعهم واعتصم بالكرخ والعلويين والعيارين .... [1] وجرت بين الفريقين حروب لأجل ذلك. واتفق أن دخل الديلم طاق الحراني فأحرق العامة ما وراءهم وأمامهم   [1] . بياض فى الأصل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 واحترق منهم جماعة وعظمت الفتنة واستحكمت الوحشة. فخرج أبو الحسن إلى باقطينا وهي من العمريات التي يدبر أمرها وعرف أصحاب قراد خبره فطمعوا فيه وصاروا اليه وأخذوه وحملوه الى صاحبهم وعمل قراد على مطالبته بالمال والسوم عليه فيه. فركب قراوش وغريب اليه ولم يفارقاه إلّا بعد استخلاصه وانتزاعه من يده وسيّراه إلى المحول فوصل إليها يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شوال. وقد كان أبو القاسم ابن مما عاد من شيراز فتوطأ [1] ما بينه وبين الديلم حتى صلح واستقام، وأعطاهم ما رضوا به ودخل داره يوم الاثنين لثامن من ذى القعدة. وفى الساعة الثالثة من يوم الخميس الثامن عشر من ذى الحجة ولد الأمير أبو جعفر عبد الله ابن القادر بالله أطال الله بقاءه، والطالع العقرب على كدح والشمس فى الميزان على كالو. وفى يوم الإثنين الرابع عشر منه قبض [71] معتمد الدولة أبو المنيع على أبى الحسن ابن العروضي. وفى يوم الأحد لعشر بقين منه توفيت زبيدة بنت معز الدولة بأصبهان. وفى يوم الأحد السادس منه تقلد يوانيس الجاثليق [2] . وحج بالناس فى هذه السنة أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوي. سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة أولها يوم الخميس والعشرون من تشرين الثاني سنة ثلاث عشرة   [1] . وفى الأصل: فتوّط. [2] . هو من كرخ جدان مات سنة 402 للهجرة وكانت مدته مدة عشر سنين قمرية كذا فى ترجمته فى كتاب المجمل لمارى بن سليمان 1: 110 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 وثلاثمائة وألف للإسكندر وروز إسفندار من ماه آذر سنة سبعين وثلاثمائة ليزدجرد. قد ذكرنا ورود أبى جعفر الحجاج وأبى نصر سابور الى واسط عائدين من شيراز ووعدنا بذكر ما جرى عليه أمرهما بعد ذلك. ولما ورد الخبر بنزولهما واسطا انحدر أبو القاسم الحسين بن محمد بن مما إليهما متلقيا لهما ومعتدا بما فعله فى إصلاح الجند وتوطئة الأمر. واستمال أبا جعفر بما حمله اليه ولاطفه به وعقد بين أخيه أبى على وبين أبى شاكر أحمد بن عيسى كاتب أبى جعفر عقدا على بنت أبى شاكر استظهر لنفسه فيه وأعطى أبا عبد الله أستاذ هرمز داره وملك أمره بما حصله فى كفته به وعلم أنّ رأى أبى نصر سابور لا يخلص له فاعتضد بهذه الجهة وأظهر مداخلتها ومخالطتها. وكان أبو الحسن ابن اسحق قد فارق أبا الحسن ابن يحيى على وحشة ومضى ليقصد شيراز فردّه أبو نصر سابور من طريقه وعوّل عليه عند حصوله بواسط فى خلافته وأنفذه الى بغداد أمامه وردّ معه أبا القاسم ابن مما وقرر معهما القبض على أبى يعقوب العلوي النقيب [72] وأصحاب أبى الحسن ابن يحيى عند نفوذ كتابه إليهما بذلك وأصعدا. وانحدر أبو الحسن ابن يحيى لخدمة أبى جعفر وأبى نصر والاجتماع معهما وقد كانت نفسه نافرة منهما لتقريره سوء الاعتقاد فيه منهما ولمّا وصل نزل داره بالزيدية وكان أبو نصر سابور نازلا فى دار أبى عبد الله ابن يحيى أخيه المجاورة لها. وكتب على الطائر بالقبض على أبى يعقوب فى يوم عين لأبى القاسم ابن مما وأبى الحسن ابن اسحق عليه وأمرهما بالمبادرة اليه بذكر ذلك ليقبض هو على أبى الحسن وأصحابه بواسط. فخرج أبو القاسم الى أبى يعقوب بالسرّ وراسله بالإنذار لمعاهدة كانت بينهما ولأنه لم يأمن أبا نصر متى استقامت حاله ومشى أمره واطرد له ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 يريده. واستظهر أبو يعقوب وكبست [داره] [1] فلم يوجد فيها وشاع الخبر وكتب أصحاب الشريف أبى الحسن اليه بالصورة على الطيور. وأخر أبو نصر إمضاء ما يريد أن يمضيه فى أبى الحسن إلى أن يعرف حصول أبى يعقوب لأن أكثر غيظه كان عليه وأحسّ أبو الحسن فهرب ليلا ومضى على بغلة متعسفا إلى الزبيدية وأصبح أبو نصر وقد أفلت أبو الحسن. وورد عليه الكتاب بإفلات أبى يعقوب. فقامت قيامته وتحير فى أمره وندم على تفريطه وراسل أبا جعفر واستشاره فيما يفعله فقال له: - «لو عملت بالحزم لبدأت بمن عندك وكان بين يديك من غاب عنك ولكنك استبددت برأيك» . وشرع أبو نصر فى تتبع أموال أبى الحسن وتحصيل غلاته والاحتياط على معامليه ومعاملاته وختم على الدور والحانات واعتقد تفتيشها وأخذ ما يجده لأبي الحسن واخوته ووكلائه وأسبابه فيها ثم عدل عن ذلك الى [73] تأنيسه ووافق أبا جعفر على مراسلته وتردد فى ذلك ما انتهى الى إجابة أبى الحسن الى العود على أن يوثق له أبو جعفر من نفسه ويحلف له على التكفل بحراسته ومنع كل أحد عنه. فأذكر وقد ورد أبو احمد الحسين بن على ابن أخت أبى القاسم ابن حكار رسولا عن ابى الحسن من الزبيدية الى أبى جعفر ليحلفه له فقال لى أبو جعفر: - «اجتمع معه على عمل نسخة لليمين.» فقال أبو أحمد:   [1] . زيادة زادها فى مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 - «قد عملها الشريف وأصحبنيها وها هي ذه.» وأخرجها من كمّه وأخذها أبو جعفر من يده وأعطانيها ورسم لى قراءتها عليه فقرأتها وكان يفهم العربية ولكنّه يجحدها. وخرج أبو أحمد من حضرته على أن يجتمع أبو جعفر مع أبى نصر ويقفه عليها ثم استدعاني أبو جعفر وأعطانى النسخة وقال لى: - «امض إلى أبى نصر سابور فأعرضها عليه وقل له: ما الذي تراه فى هذا الأمر فإنّنى إن حلفت [1] لهذا الرجل وأعطيته عهدي لم أمكنك منه وحلت بينك وبينه.» فمضيت الى أبى نصر سابور ووقفته على النسخة وأوردت عليه الرسالة فقال: - «أنا أروح العشية اليه ونتفاوض ما يجب أن يعمل عليه.» فعدت الى أبى جعفر بهذا الجواب وركب اليه أبو نصر آخر النهار واجتمعا وخلوا ثم استدعيا أبا احمد وحلف له أبو جعفر وعاد. وأصعد ابو الحسن ابن يحيى وبات فى داره ليلة ثم خرج ورجع الى الزبيدية فيقال: إنه أخذ دفينا كان له فى الدار وانحدر به حتى استظهر فى أمره وعاد بعد يومين وانحل أمر أبى نصر سابور واستطال عليه أبو الحسن ابن يحيى. ثم أصعد [74] أبو جعفر وأبو نصر الى بغداد فكان وصولهما إليها آخر نهار يوم الخميس الثاني من جمادى الأولى. وصدرت الكتب الى بهاء الدولة بما جرى عليه الأمر. فغاظه سوء تدبير أبى نصر وفساده وطعن عليه من كان بحضرته من خواصه وقد كان أبو الحسن بن يحيى كاتب بهاء الدولة من الزبيدية واستعطفه وأذكره بما قدّمه   [1] . وفى الأصل: عفت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 فى خدمته وأسلفه وبذل له فى أبى نصر سابور بذلا يقوم بتصحيحه من جهته وذكر ما عليه الجند والرعية من بغضه والنفور من معاملته. وكتب الى أبى جعفر بالقبض عليه وإلى أبى الحسن بن يحيى بتسلمه. واستقرّ الأمر بين أبى جعفر وأبى الحسن ابن يحيى وأبى القاسم ابن مما على ذاك. فتراخى أبو الحسن وأبو القاسم فى القبض عليه لغرض اعتمداه فى بعده والخلاص منه وعرف أبو نصر الصورة فاستظهر لنفسه وعلما قوته [1] فكبسا عليه دار بنى المأمون بقصر عيسى ولم يوجد فيها وأراد ابو الحسن بما أغفله وأهمله من أخذه الاحتجاج على بهاء الدولة بهر به فيما كان بذله فيه وأبو القاسم ابن مما الاستراحة من حصوله [2] وما عسى أن يحمل عليه من ركوب الفشخ معه. ومضى أبو نصر الى البطيحة ونظر فى الأمر ببغداد بعده ابو الحسن على بن الحسن البغدادي ثم أبو الفتح القنّائى ثم أبو الحسين عبيد الله بن محمد بن قطرميز وخوطب بالوزير فتقبل ذلك وصار أضحوكة عند أبى جعفر والناس به وكان العمل كله أخذ الأموال من المصادرات والتسلق على التجار بالتأويلات. لا جرم أنّ البلد خرب وانتقل أكثر اهله [75] عنه فمنهم من مضى إلى البطيحة ومنهم من اعتصب بباب الأزج ومنهم من بعد إلى عكبرا والأنبار. ولقد حدثني جماعة من الناس أنهم شاهدوا صينية الكرخ فيما بين طرف الحذائين والبزازين والفواخت والعصافر تمشى فى أرضها انتصاف النهار وفى الوقت الذي جرت العادة بازدحام الناس فيه بهذا المكان. فلما ورد أبو نصر وأبو جعفر الى واسط كتبا وأعادا أبا الحسن على بن   [1] . لعله: فوته. [2] . لعله: حضوره (مد) . هذا وتبدو العبارة مضطربة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 أبى على إلى النظر فى المعونة. وفى يوم السبت العاشر من المحرّم توفّى ابو القاسم إسماعيل بن سعيد ابن سويد الشاهد. وفى يوم الأربعاء الثامن عشر [1] منه انحدر أبو الحسن ابن يحيى إلى واسط لانحدار المقدم ذكره. وفى هذا الوقت توفى أبو الطيب الفرّخان بن شيراز بجويم السيف وخرج الوزير أبو غالب محمد بن على بن خلف من شيراز لطلب أمواله وتحصيلها. شرح حال أبى الطيب منذ ابتداء أمره وإلى حين وفاته وما جرى فى طلب أمواله وذخائره على ما عرّفنيه أبو عبد الله الحسين بن الحسن الفسوي كان الفرّخان بن شيراز من أهل بعض القرى بكرّان وتصرف أوّل أمره فى الداريجية وما شاكلها من الأعمال القريبة وتدرج إلى أن ولى كتابة الديوان بسيراف وانتقل عنها إلى عمالتها وبقي على ذلك زمانا طويلا ثم قلد عمان فعبر إليها وحسنت حاله فيها وجمع الأموال التي لم يسمع لمثله بمثلها [76] وبنى بنائبنذ الدار المعروفة به وكانت من الدور التي تضرب الأمثال بها وحصل فيها من أصناف الفرش والأثاث والرحل الشيء الكثير الجليل ورتّب بها من الحفظة والحراس وحملة السلاح خلقا كثيرا لأن نائبنذ على ساحل البحر وليس بها من الناس كثير أحد. وتحدث فى البلاد بما جمعه فى هذه الدار من الأموال فرمقتها العيون وتعلقت بها الأطماع وهمّ بقصدها وطلبها الخوارج وأصحاب الأطراف وكان   [1] . لعله: الثامن والعشرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 فى يد أبى العباس ابن واصل [1] عبادان والبحر وفى يد لشكرستان بن ذكى البصرة وفى يد السيفية والزطّ السواحل وقصب البلاد التي تجاورها. وكانت أكثر مادة صمصام الدولة بفارس من الفرّخان لأنه كان يمده بالأموال والحمل فى كل وقت فسعى قوم فى إفساد أمره عنده وقالوا له: إنه على العصيان. ومنع جانبه وقطع ما جرت عادته بحمله والإمداد به. فكاتبه صمصام الدولة بالورود إلى بابه مختبرا بذاك ما عنده وقد كان الخبر انتهى الى الفرّخان بما تكلم به فيه. فصار اليه بهدايا واموال حسن موقعها منه فخلع عليه واستحجبه ورده الى موضعه وجرى على رسمه فى الخدمة والتزام شرائط الطاعة. وتوفى العلاء بن الحسن بعسكر مكرم، فلم يكن فى مملكة صمصام الدولة أوجه من الفرّخان ولا أوسع حالا وأعظم هيبة فى نفوس الجند منه. فاستقرت الوزارة له على أن يتوجه إلى الأهواز ويدبر أمورها وأمور الأولياء الذين بها ويستخلف له بشيراز أبو اسحق ابراهيم بن أحمد ومنصور بن بكر. فأقام أبو اسحق بحضرة صمصام الدولة وصار منصور إلى فسا لتقرير أعمالها ولم [77] يطل مقامه بها حتى استعيد وأنفذ إلى شقّ الروذان ثم لم يثبت هناك وانصرف من غير إذن الى الباب فأنكر صمصام الدولة فعله وأمر بإحضاره وضربه. فضرب وانصرف عن شركة أبى اسحق وتفرد أبو اسحق   [1] . قال فيه صاحب تاريخ الإسلام: أبو الغنائم ابن واصل كان يخدم فى الكرخ وكانوا يقولون انه يملك ويهزؤون به ويقول بعضهم: ان صرت ملكا فاستخدمنى ويقول الآخر اخلع علىّ. فآل أمره الى أن ملك سيراف ثم البصرة ثم قصد الأهواز وحارب السلطان بهاء الدولة وهزمه ثم تملك البطيحة وأخرج عنها مهذب الدولة على ابن نصر الى بغداد فنزح مهذب الدولة بخزائنه فأخذت فى الطريق واضطر الى ان ركب بقرة واستولى ابن واصل على داره وأمواله. ثم ان فخر الملك أبا غالب قصد ابن واصل فعجز عن حربه واستجار بحسان الخفاجي ثم قصد بدر بن حسنويه فقتل بواسط فى صفر سنة 397 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 بالنظر. وورد الفرّخان الأهواز فلم يمش الأمور بين يديه على ما كان يتقرر من ذاك وأنفذ أبو على الحسن بن أستاذ هرمز وجرى أمره على ما تقدم ذكره فى موضعه. ووصل بهاء الدولة الى فارس والفرخان فى جملة من صحبه من الناس. فتكلم عنده على حاله وعظمها وأمواله وكثرتها فقبض عليه وألزم صلحا وسلّم إلى أبى العلاء عبيد الله بن الفضل ثم إلى الصاحب أبى محمد ابن مكرم وأفرج عنه بعد أدائه إيّاه وخروجه منه. وأنفذ إلى جويم السيف لقتال الزط والسيفية وصار الى فسا واستصحب أكثر الديلم الذين بها وجرد إليه مردجاوك فى طائفة كثيرة من الغلمان العراقية وأقام بجويم مدة واستخرج أموالا من النواحي الغربية وامتنع عليه من اعتصم بقلعة او أوى إلى الجبال الحصينة. وقضى نحبه فى أثناء ذلك ووقع الاحتياط على ما صحبه من مال وتجمل وحمل بأسره إلى شيراز وكان بهاء الدولة يعتقد فى ثروته ويساره أمرا عظيما. فلمّا توفّى كثر القول عليه فيما تركه من الحال وخلفه من الودائع وأودعه داره من الذخائر، فندب الوزير أبا غالب للتوجه إلى نائبنذ وسيراف واستقضاء ذلك أجمع وإثارته وتحصيله ورسم له قصد الدار بنفسه وهي من سيراف على خمسة عشر فرسخا وأن يبالغ فى الكشف والفحص عنه ولا تقنع إلّا بأن يتولى كل [78] أمر تولى المشاهدة والمباشرة. وكان للفرّخان ثقة [1] يعرف ببابان مجوسي ويحيط علمه بكل ما يملكه الفرّخان فوق الأرض   [1] . فى مد: يقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 وتحتها. فقبض عليه الوزير أبو غالب واستدلّه على الأموال التي للفرخان فدلّه على أموال عظم الناس قدرها وجواهر تلك حالها وحصلها الوزير ثم عاقبه بعد ذلك عقوبة شديدة حتى ذبح نفسه فى الحمام. وعاد الوزير أبو غالب الى شيراز فتحدث اعداؤه بما أخذه من مال الفرخان ودفائنه وودائعه وواصلوا الخوض فيه وادّعوا عليه أنه قتل بابان ليتستر بموته ما اخذه منه وعلى يده وأدّت هذه الأقاويل وما اتصل ببهاء الدولة منها إلى القبض على الوزير أبى غالب وسنذكر ذلك فى وقته وموضعه. عدة حوادث منها وفاة ابن جنّى وفى يوم الإثنين العاشر من صفر قبل القاضي ابو عبد الله الضبّى شهادة أبى القاسم على بن محمد بن الحسين الوراق. وفى يوم الجمعة لليلتين بقيتا منه توفى أبو الفتح عثمان بن جنّى النحوي [1] وكان أحد النحويين المتقدمين وله تصنيفات وقد فسر شعر ابى الطيب المتنبي تفسيرا استقصاه واستوفاه وأورد فيه من النحو واللغة طرفا كبيرا ولقّب ذلك بالفسر وهو من أهل الموصل وخدم عضد الدولة وصمصام الدولة وشرفها وبهاءها [2] طرفا كبيرا فى دورهم برسم الأدباء النحويين. وفى شهر ربيع الأول قتل أبو الحسين محمد بن الحسن العروضي بالأنبار.   [1] . وردت ترجمته فى إرشاد الأريب 5: 15 وقال صاحب تاريخ الإسلام أن عدد أوراق ترجمته هذه هي ثلاث عشر ورقة. وقال أيضا ان لأبى الفتح كتابا سماه البشرى والظفر وشرح فيه بيتا واحدا من شعر الأمير عضد الدولة وقدمه له وهو: أهلا وسهلا بذي البشرى ونوبتها ... وباشتمال سرايانا على الظّفر وأوسع الكلام فى شرحه واشتقاق ألفاظه (مد) . [2] . لعله سقط: فحصل (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 وفى يوم الإثنين السابع من شهر ربيع الآخر ثار العامة بالنصارى ونهبوا البيعة بقطيعة الرقيق وأحرقوها فسقطت على جماعة من المسلمين رجالا وصبيانا ونساء وكان الأمر عظيما. [79] وفى ليلة يوم الخميس لست بقين منه كبس ابن مطاع وأصحابه حسون بن الخرما وأخاه العلويين بفم الأسناية وقتلوهما وكانت هذه الطائفة قد أسرفت فى التبسط والتسلط وركوب المنكرات وإتيان المحظورات. وفى يوم الاثنين الخامس من جمادى الأولى وهو اليوم الثاني والعشرون من آذار وافى برد شديد جمد الماء منه. وفى يوم الجمعة التاسع منه خطب لبهاء الدولة ببغداد بزيادة قوام الدث صفى أمير المؤمنين وقد كان الخليفة أطال الله بقاءه لقبه بذلك وكاتبه به الى شيراز. وفى يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه استتر أبو نصر سابور الاستتار الذي ذكرناه فى سياقة خبره. وفى هذا الشهر بلغت كارة الدقيق الخشكار ثلثة دنانير مطيعية، ثم زادت فى جمادى الآخرة فبلغت خمسة دنانير ولحق الناس من ذلك شدة ومجاعة. وفى جمادى الآخرة خرج أبو طاهر يغما الكبير الى جسر النهروان هاربا من أبى جعفر الحجاج بن هرمز فيه. ذكر السبب فى ذلك وما جرى عليه الأمر فيه تأدى إلى أبى جعفر شروع يغما فى قلب الدولة وإفساد الغلمان، وتردّد مكاتبات ومراسلات بينه وبين مهذب الدولة فى ذاك ووعده إياه بحمل مال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 فاستمال أبا الهيجاء الجماقى واجتذبه الى نفسه وهمّ مكاشفة يغما وأخذه وقد كان يغما وثب الغلمان عليه ووضعهم على مطالبته والخرق به. وأحس يغما باعتقاد أبى جعفر فيه وتدبيره عليه فتجعد عن لقائه والاجتماع معه ثم خاف بادرته. وكان [80] أبو جعفر مهيبا متّقى فخرج إلى جسر النهروان ليفعل ما يفعله على الطمأنينة والامان وعبر ديالى لاشفاقه من أسراء أبى جعفر خلفه، وتبعه جماعة من وجوه الغلمان ثم فارقوه ورجعوا عنه. وتأخر المال الذي وعده مهذب الدولة بإنفاذه اليه ووعد هو الغلمان به فبطل أمره بذاك ومضى وعبر من الصافية إلى الجانب الغربي ولحق بأبى الحسن على بن مزيد وأقام عنده وأقطع أبو جعفر إقطاعه وما كان فى يده ببادوريا لأبى الهيجاء الجماقى. وفيه فاض ماء الفرات على سكر قبين وغرق سواد الأنبار وبادوريا وبلغ الى المحول وقلع حيطان البساتين واسود فى الصراة. وفى يوم الأحد لست بقين منه صلب أبو حرب كاتب بكران على باب حمام بسوق يحيى وجد فيه مع مزيّة جارية بكران على حال ريبة. وفى يوم السبت مستهل رجب أخرج أبو جعفر الحجاج أبا الحسن على ابن كوجرى فى جماعة من الديلم والأكراد إلى المدائن لدفع أصحاب بنى عقيل عنها. شرح ما جرى عليه الأمر فى ذلك وما اتصل به من خروج أبى اسحق إبراهيم أخى أبى جعفر وهزيمته سار أبو الحسن على بن كوجرى إلى المدائن فنزلها وانصرف دعيج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 صاحب قرواش وأصحابه عنها وقبض ببغداد على أصحاب بنى عقيل ومعامليهم وأخرج العمال إلى بادوريا ونهر الملك. ونفذت الكتب الى مرح بن المسيب وقرواش بن المقلد وقراد بن اللديد وهم بنواحي الموصل بما جرى، فإلى أن يجمعوا العرب وينفذوهم [1] جمع دعيج الى نفسه جمعا كثيرا وقصد [81] أبا الحسن بن كوجرى وحصره بالمدائن وكتب أبو الحسن إلى أبى جعفر يستمده ويستنجده فجرد المنجب أبا المظفر بارسطغان لأنه كان والى البلد وخرج فى عدة من الغلمان فاندفع دعيج من بين يديه وكتب الى أبى الحسن على بن مزيد يلتمس منه المعونة على أمره. وقد كان أبو الحسن استوحش من أبى جعفر وخافه فأنجده بأبى الغنائم محمد أخيه واجتمع دعيج وجمعه وأبو الغنائم بن مزيد ومن معه ونزلوا ساباط. وكتب المنجب أبو المظفر بارسطغان وأبو الحسن على بن كوجرى الى أبى جعفر بتكاثر القوم وقوة شوكتهم واستنهض الغلمان للخروج فتقاعدوا وتثاقلوا وتأخر المدد عن المنجب أبى المظفر وعلى بن كوجرى فانكفئا إلى باقطينا [2] وندب أبو جعفر أبا اسحق أخاه للخروج وأنهض معه الديلم وساروا جميعا مع المنجب أبى المظفر وعلى بن كوجرى وتوجهوا طالبين للعرب. وكتب أبو الغنائم ابن مزيد ودعيج الى أبى الحسن على بن مزيد بذلك فصار إليهما واجتمع معهما ووقعت الوقعة بباكرمى يوم الأربعاء الثامن من شهر رمضان فانهزم أبو اسحق واستبيح العسكر وأسر كثير من الديلم والأتراك وقتل أبو منصور ابن حليس وشابا بن اوندا وجماعة، وعاد الفلّ إلى بغداد   [1] . فى مد: ما جمع (بزيادة ما) . [2] . لعله: باقطايا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 على أسوإ حال وغاظ ذاك أبا جعفر وأزعجه. ذكر ورود ابن ثمال وورد أبو على الحسن بن ثمال الخفاجي بعقبه فى يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر رمضان فى عدة قريبة من أصحابه فلم يشعر به حتى نزل صرصر. ذكر الحال فى وروده كان أبو جعفر لاعتقاده ما يعتقده فى بنى عقيل وما عاملوه به قديما لا يحلم إلّا بهم ولا يفكر [82] إلّا فى قصدهم وحربهم وأخذ الاهبة لشفاء صدره منهم واجتذاب من يجعله خصما لهم. وكاتب أبا على بن ثمال وحرص على أن يستدنيه وكان يبعد فى الظنّ أن ينزل الشام ويرد إلى العراق. فأذكر وقد حضر عندي أبو القاسم ابن كبشة وهو رجل كثير الدهمسة حامل نفسه على الأخطار العظيمة وممن خدم عضد الدولة فى الترسل والتجسس المدة الطويلة وقال لى: - «أراكم تكاتبون الحسن بن ثمال وتستدعونه وهو يعدكم ويعللكم، ولو أنفذنى صاحب الجيش ببعض كتبه إليه لما فارقته حتى آخذه وأجيئكم به.» فذكرت ذلك أيضا لصاحب الجيش فقال: - «ابن كبشة كثير الكذب والفضول، ولكن اكتب على يده وأنفذه وأرحنا منه.» فكتبت له كتابا واستطلقت له نفقة من الناظر فى الأمور ومضى وليس عند صاحب الجيش أبى جعفر أنّه يفلح ولا يرجع. فلم تمض مديدة قريبة حتى ورد وقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 - «هذا أبو على بن ثمال قد نزل صرصر.» فسرّ أبا جعفر ذاك وكان عقيب ما لحق أبا اسحق أخاه من ابن مزيد وبنى عقيل وأنفذ إليه من تلقّاه وأنزله فى الدار التي كانت للمعروفى وحمل إليه الإقامات وأطلق لأصحابه النفقات. وورد على أبى جعفر خبر عميد الجيوش أبى على فى تقلده العراق وما هو عليه من المسير إليه فزادت هذه الحال فى غيظه وشاعت بين الناس. فتبسط عليه الأتراك وأساءوا معاملته واجتمعوا فى بعض الأيام على بابه ورموا روشنه بالآجر والنشاب فضجر وضاق صدرا بأمره وخرج إلى جسر النهروان فى يوم الأحد لأربع بقين من شهر رمضان ومعه أبو إسحق أخوه والظهير بن جستان وخسروشاه [83] وخسر فيروز [1] أخواه وأبو الحسن على ابن كوجرى وأبو على ابن ثمال وأبو الحسين ابن قطرميز ومن تبعه من الديلم الباراوحية وغيرهم. وراسل النجيب أبا الفتح محمد بن عناز وسأله المسير معه إلى أبى الحسن على بن مزيد وبنى عقيل فدافعه وعلله ثم أجابه وساعده وسار إليه واجتمع معه وعبرت الجملة دجلة وكان انفصال أبى جعفر عن جسر النهروان يوم الأحد لعشر خلون من شوال، وعبوره فى يوم السبت مستهلّ ذى القعدة، وتوقّفه إلى أن لحق به أبو الفتح. وورد إلى دعيج أبو بشر بن شهرويه مددا من الموصل فى عدة كثيرة من بنى عقيل واجتمع أبو الحسن بن مزيد معهم فى خيله ورجله ووقعت الوقعة بينهم فى يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة فقتل أبو بشر بن شهرويه وأسر دعيج وانهزم أبو الحسن بن مزيد وتفرقت جموعهم ونهب   [1] . أصلهما الفارسي: خسرو شاه، وخسرو فيروز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 سوادهم وكراعهم وذلك فى الموضع المعروف ببزيقيا. فحدثني الحاجب أبو طاهر الحسين بن على الظهيرى قال: لما انهزم ابن مزيد وبنو عقيل من الوقعة ببزيقيا تمم صاحب الجيش أبو جعفر إلى القصر ونزل بباشمسا ورتّب فى البلد من منع من نهبه والتعرض لأهله وسار من غد طالبا للنيل ومقتصا أثر ابن مزيد. فكان قد مضى الى موضع يعرف بشق المعزى بحلله وأهله. فنزل أبا الحسن على بن كوجرى بالنيل ومعه أثقاله ودعيج والرجالة الديلم وسار ومعه أبو الفتح بن عناز وأبو على ابن ثمال. فلما قاربوا ابن مزيد وشاهدوا حلله وقفوا لأخذ أهبة الحرب وضرب المضارب، وبرز ابن مزيد للقتال. وقد كان راسل أبا الهوا اسود بن سوادة الشيبانى وهو فى عدة كثيرة من بنى شيبان مع أبى [84] الفتح ابن عنّاز ووعده وخدعه ووافقه على أن ينهزم إذا وقعت العين على العين ويفلّ أبا جعفر ففعل وانصرف وتبعه قوم من الأكراد وبقي أبو جعفر فى ثلاثين رجلا من أهله وأقاربه لأنّه كان تقدم بالنيل أن يحمل بعض الديلم الرجالة على البغال والجمال فأغفل ذاك وأبو الفتح ابن عنّاز فى مائتي فارس من الشاذنجانية ومائتي فارس من الجاوانية كانوا صحبوا أبا جعفر. واتفق أن مضى حسان بن ثمال أخو أبى على مع أكثر بنى خفاجة فى طريق غير الطريق التي سلكها أصحابنا فبقى أبو على فى عدة قليلة. ولما تبين أبو جعفر ما هو فيه وشاهد قلة ما بقي معه وحمل أبو الحسن ابن مزيد عليه وكثره بخيله ورجله وعبيد الحلة وإمائها وملك عليه خيمه تحير فى أمره. وأحس من أبى الفتح ابن عنّاز بعمل على الهرب والانصراف. فقال للظهير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 ابى القاسم وأهله: - «احفظوا لى أبا الفتح ولازموه ولا تفارقوه لئلّا يخاتلنا ويتركنا لأنّنى [1] أعول على النصرة به، ولكنه متى رجع فلّنا وكسرنا وأطمع عدونا.» فلازمه الظهير وهجم أبو جعفر لما ضاق به الأمر على البيوت وعلا على تلّ كان فى وسطها وعرف أبو الحسن ابن مزيد ذلك وقد كان ملك مضارب أبى جعفر ونزل وصلّى فى أحدها شكرا للَّه تعالى على الظفر. فركب وقصده وحمل حملة نكس فيها نفرا من غلمان دار أبى جعفر وداسهم بحوافر خيله حتى سطح رؤوسهم ووجوههم وخلطها بأجسادهم واستظهر كل الاستظهار. وثبت أبو جعفر وحمل حملات متتابعة وطرح النار فى بعض البيوت وحمل فى أثر ذاك فانهزم ابن مزيد وملكت حلله وبيوته وأمواله وذلك فى يوم السبت لثمان بقين من [85] ذى القعدة. قال الحاجب أبو طاهر: ونهب أصحابنا ذلك فأخذوا من العين والورق والحلي والصياغات والثياب الشيء الذي تجاوز الحصر وأرسل أبو جعفر إلى أبى على ابن ثمال: بأنك أحق بالنساء [2] والحرم فاحرسهن وامنع العجم منهن. فتشاغل أبو على بجمعهن إلى بيوت أفردها لهن ولم يتعرض لشيء من النهب على وجه ولا سبب. واستغنى الشاذنجان والجاوان ومن حضر من بنى خفاجة بما حصل من الغنائم وامتلأت أيدى الجميع وحقائبهم بالمال والجلال من الأثاث وانكفأ أبو جعفر إلى النيل. وقد كان أبو الحسن على ابن كوجرى لما رأى بنى شيبان عائدين   [1] . والمثبت فى مد: لا أنّنى. [2] . وفى مد: النساء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 ومظهرين للهزيمة وسمع عنهم أنهم قالوا: قد كسر صاحب الجيش، خاف وجمع الديلم الرجالة وحمل الأثقال وصار إلى الجبل وضرب رقبة دعيج وصلبه بالمدائن وعرف من بعد حقيقة الأمر واستحيا ودخل إلى بغداد كالمستوحش من أبى جعفر ثم كاتبه وعذره فرجع اليه. وصار أبو جعفر بعد ذاك إلى الكوفة ومعه أبو على ابن ثمال ورجع أبو الفتح ابن عنّاز إلى طريق خراسان. قال الحاجب أبو طاهر: - «ولما حصل صاحب الجيش أبو جعفر بالكوفة نزل فى دار ابى الحسن محمد بن عمر ثم لم يبعد أن وردت الأخبار بانحدار قرواش ورافع بن الحسين وقراد بن اللديد وغريب ورافع ابني محمد بن مقن فى جمرة بنى عقيل ومن استجاشوا به من طوائف الأكراد ونزولهم الأنبار عاملين على قصد الكوفة ولقاء أبى جعفر وأبى على بن ثمال. وعرف بنو خفاجة ذاك ففارقوا أبا على وتوجهوا منصرفين. فقال أبو على لأبي جعفر: - «يا صاحب الجيش، أنفذ معى من يردّهم [86] .» فأنفذ معه الظهير أبا القاسم وخرجا حتى انتهيا إلى قريب من القادسية والقوم متفرقون قد أخذ كل قوم منهم طريقا ومنهم من يريد البصرة ومنهم من يريد البرية. فقال أبو على للظهير لمّا شاهدهم: - «تقدم بضرب البوقات.» ففعل ذاك. فلما سمعوا الصوت وكل إنسان منهم قد أخذ وجهته لووا رؤوس خيلهم واجتمعوا إلى أبى علىّ وقالوا له: - «ما الذي تريده منا.» فقال لهم: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 - «يا قوم تخلونى وتخلون هذه البلاد وقد نزلناها وأخذناها بالسيف وصارت لنا طعما ومعايش.» فقالوا: «نريد المال والعوض عن إسلام النفوس للرماح والسيوف.» ولم يزل هو والظهير بهم حتى رجعوا على أن يفسح لهم فى نهب النواحي عوضا عن العطاء والإحسان واستعملوا من ذاك ما جرت عادتهم به وعظمت المعرّة منهم. وبرز صاحب الجيش الى الموضع المعروف بالسبيع من ظاهر الكوفة وأراد أن يجعل انتظاره لبنى عقيل ولقاءه لهم فيه. فقال له ابو على بن ثمال: - «يا صاحب الجيش قد أسأنا معاملة أهل البلد وثقّلنا الوطأة عليهم وهم كارهون لنا وشاكون منّا، ومتى كانوا فى ظهورنا عند وقوع الحرب لم نأمن ثورتهم من ورائنا ومعاونتهم لأعدائنا علينا. والصواب أن نجعل بيننا وبينهم بعدا.» فساروا ونزلوا فى القرية المعروفة بالصابونية على فرسخين من الكوفة ومع أبى على بن ثمال نحو سبعمائة فرس ومع صاحب الجيش أبى جعفر نحو العدة من الديلم. ولما خرج صاحب الجيش الى هذا الموضع لم يتبعه من الديلم إلّا دون ثلاثمائة رجل وتأخر الباقون عنه وطالبوه بالمال وإطلاقه لهم، وقد كان عميد الجيوش وأبو القاسم ابن مما راسلاهم وأفسداهم [87] فردّ أبو جعفر الظهير أبا القاسم إليهم حتى أخرج اكثر المتأخرين لأنهم استحيوا منه وتذمّموا من الامتناع عليه. وورد بنو عقيل فى سبعة آلاف رجل بالعدد والمنجانيقات والأسلحة والقزاغندات، وطلعت راياتهم وضربت بوقاتهم ودبادب مواكبهم وزحفوا كما تزحف السلطانية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 وقد كان أبو على بن ثمال قصد المشهد بالغرىّ على ساكنه السلام، وزار وصلّى وتمرّغ على القبر وسأل الله تعالى العون والنصر وقال لأصحابه: - «هذا مقام الموت والذل بالفشل والخور ومقام الحياة والعز بالثبات والظفر.» فوعدوه المساعدة وبذل نفوسهم فى المدافعة. ورتب صاحب الجيش مصافّه بين يدي بيوت الحلّة وجعل الظهير أبا القاسم فى ميمنته وخسروشاه فى ميسرته ووقف هو فى القلب وبرز النسوان فى الهوادج على الجمال وبين أيديهن الرجالة بالدرق والسيوف. وتقدم أبو على فى الفرسان وصار بيننا وبينه مدا بعيدا ووقع التطارد فلم يكن إلّا كلا ولا، حتى وافتنا الخيل المغنومة مجنونة والرجال المأسورون يقادون والعرب من بنى خفاجة وفى أيديهم الرماح المتدفقة [1] . وأرسل أبو على ابن ثمال الى صاحب الجيش بأن: سر وتقدم إلينا. فقال له: - «ما هذا مكان التقدم لمثلي ولا يجوز أن أفارق مصافى وأصحر للخيل فى هذا البرّ.» فراجعة دفعات وهو يجيبه بهذا الجواب حتى قال له أبو على فى آخر قوله: - «فأنفذ الى جماعة من العجم ليشاهدهم القوم فتضعف نفوسهم ويعلموا أنك وراءنا.» فأنفذ إليه الظهير أبا القاسم فى عدة من فرسان الديلم وأتراك كانوا بالكوفة وخرجوا مع صاحب الجيش فما وصلوا إلى موضع المعركة حتى انهزم بنو   [1] . لعله: المثقفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 عقيل وأسر منهم نحو ألف رجل وحملوا إلى البيوت بعد أن أخذت ثيابهم ودوابهم [88] وأسلحتهم. وكف أبو على عن القتل ومنع منه. فلم يقتل إلّا أبو على ابن القلعي كاتب رافع بن محمد. وقد كان نساء بنى خفاجة وعبيدهم وإماؤهم عند تلاقى الجمعين ركبوا الخيل والجمال وصاروا إلى معسكر بنى عقيل وبينه وبين موضع الحرب بعد، وكبسوه ونهبوه وولّى بنو عقيل لا يلوى أول منهم على آخر، وغنم بنو خفاجة أموالهم وسلاحهم وكراعهم وسوادهم. فحدثني أبو على الحسن بن ثمال: انه اتبع بنى عقيل فى عرض البرية مع فوارس من أصحابه إلى المشهد بالحائر على ساكنه السلام، وهم منقطعون. فلمّا تجاوزوه بات وزار وعاد إلى حلّته من غد. فذكرت ذاك للحاجب أبى طاهر فقال: قد كان. ولما فقده أبو جعفر قلق قلقا شديدا به وظنّ أنّ حادثا حدث فى بابه. فقال له أصحابه: - «لو لحقه لاحق لعادت بنو عقيل.» حتى إذا كانت صبيحة تلك الليلة وافى ومعه اثنا عشر فارسا. وحكى انه اتبع المنهزمين حتى تجاوزوا المشهد بالحائر وباتوا هناك وانه لو كان فى عدة قوية لكشف نفسه وأخذ أموالهم ورؤساءهم. وعاد أبو جعفر وابو على إلى الكوفة فأقاما بها وسنذكر ما جرى عليه أمرهما من بعد فى موضعه بإذن الله تعالى [1] . وفى شعبان قبض على الموفق ابى على ابن إسماعيل وأعيد إلى القلعة.   [1] . قال صاحب تاريخ الإسلام: توفى الحجاج بالأهواز فى ربيع الاول سنة 400 فذكر أبو الفرج ابن الجوزي انه توفى عن مائة سنة وخمس سنين وحاصل الأمر انه أسنّ معمر (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 شرح الحال فى هربه من القلعة عند اعتقاله أولا فيها وحصوله عند الديواني [1] وعوده الى شيراز بعد التوثقة التي أعطيها وما جرى عليه أمره الى أن قبض عليه ثانيا وردّ الى القلعة وكلّ ذلك على ما [89] حدّثنى به أبو نصر بشر بن إبراهيم السنى كاتب الموفق قال أبو نصر: لما حصل الموفق فى القلعة أولا ردّ الأمر فى التوكل به وحفظه، إلى أبى العباس أحمد بن الحسين الفراش وكانت فيه غلظة وفظاظة وقد عرف من رأى بهاء الدولة ووسطائه فيه ما يدعو إلى التضييق عليه وإساءة المعاملة له. فاعتقله فى حجرة لطيفة وتركه فى وسط الشتاء وشدة البرد بقميص واحد وكساء طبرى حتى أشفى على التلف. ولما فعل هذا الفعل به اختار الموت على ما يقاسيه وحمل نفسه على الأشدّ فى طلب الخلاص منه واستمال الموكلين المقيمين معه من قبل أبى العباس الفراش وخدعهم ووعدهم وأرغبهم وراسلني على أيديهم واستدعى منّى طعاما أمدّه به وثيابا ونفقة وكان يأتيه من جهتي ما يريده شيئا شيئا. وكان يتقدم الموكلين فراش يختصّ بأحمد الفراش ويتميز بفضل الثقة عنده ونفسه ساكنة إلى موضعه فطاوع الموفق وساعده وتردّد فى رقاعه وأجوبتها بيني وبينه واستقرت الموافقة معى على أن أحضر جماعة من أصحاب الديواني وأقيمهم ليلا تحت القلعة ويتدلى الموفق والفراش فى نقب ينقبانه فى بيت ما يتصل بالحجرة التي هو فيها ففعلت ذلك وأحضرت الفرسان بعد ان حصلت عند الموفق على يدي الفراش مبردا يبرد به قيده   [1] . وفى الأصل: ابن الديواني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 وزبيلا وحبلا ينزل فيها وبرد القيد ونقب النقب ونزل الموفق والفراش بعده ليلة النوروز الواقع فى شهر ربيع الآخر يوم الإثنين لليلتين بقيتا منه وقد أعددت له ما يركبه. فركبه وسرنا فلم يصبح إلا ببلاد سابور وخرج الديواني [1] فاستقبله [90] وخدمه. قال أبو نصر: فلما نزل وسكن جأشه قلت له: - «قد خلصت وملكت أمرك، إلّا أنّ بهاء الدولة خصمك والبلاد له والناس فى طاعته، واعتقاده فيك الاعتقاد الذي تعرفه. والصواب أن تأخذ لنفسك وتسبق خبرك إلى حيث تأمن فيه من طلب يلحقك.» وقال له الديواني قريبا من هذه المقالة، ووعده أن يسير به حتى يوصله الى أعمال بدر بن حسنويه وأعمال البطيحة، فلم يقبل وقال: - «بل أراسل الملك واستصلح رأيه.» وراجعناه وبيّنّا له وجه الرأى فيما أشرنا به. فأقام على المخالفة وألزمنى أن أعود الى شيراز واجتمع مع أبى الخطاب واستعلم رأيه له فيما يدبّر به أمره. وكتب كتابا الى بهاء الدولة ب: - «انّنى لم أفارق اعتقالك خروجا عن طاعتك ولا عدولا عن استعطافك من تحت قبضتك ولكنّنى عوملت معاملة طلبت بها نفسي فحملني الإشفاق من تلفها [2] على ما طلبت به خلاصها وها أنا مقيم على ما يرد به أمرك وما أريد إلّا رعاية خدمتي فى استبقاء مهجتي» .   [1] . قال الاصطخرى فى كتابه مسالك الممالك: إن من زموم بلاد فارس زمّ الحسين بن صالح ويعرف بزمّ الديوان: وان لكل زمّ مدنا وقرى مجتمعة قد ضمن خراج كل ناحية منها رئيس من الأكراد: وأما زم الديوان فنقله عمرو بن الليث إلى ساسان بن غزوان من الأكراد فهو فى أهل بيته إلى يومنا هذا. وصنف الاصطخرى كتابه فى حدود 340 (مد) . [2] . وفى الأصل: تلقها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 إلى غير ذلك من القول الجاري فى هذه الطريقة. قال أبو نصر: وكلّفنى من هذا العود والرسالة ما حملني فيه على الغرر والمخاطرة ثم لم أجد بدا من القبول والطاعة ورجعت إلى شيراز وقصدت دار أبى الخطاب ليلا فقال لى: - «ما الخبر؟ فإنّ القيامة قد قامت على الملك بهرب الموفق وتصور له أنه سيتمّ عليه به فساد عظيم.» فأعلمته ما جئت فيه فقال: - «ليس يجوز أن أتولّى إيصال الكتاب وإيراد ما تحملته فى معناه على الملك وهو يعلم ما بيني وبينكم. ولكن امض إلى المظفر أبى العلاء عبيد الله بن الفضل واسأله أن يكتم خبرك فى ورودك وأن يوصل الكتاب كأنه وصل مع بعض الركابية ويستر الأمر [91] ويعرف ما عند الملك فيه.» فصرت إليه ووافقته على ما وافقنى عليه أبو الخطاب فلشدة حرص المظفر على اعلام بهاء الدولة الخبر وازالة قلقه به ما باكر الدار وعرض الكتاب ولم يكتم ورودي بل ذكره فسكنت نفس الملك إلى هذه الجملة فقال: - «فما الذي يريد.» قال: «التوثقة على يدي الشريف الطاهر أبى أحمد الموسوي.» فأجاب إليها ووعد بها. وراسلني أبو الخطاب بأن أقتصر فيها ولا أستوفيها ووعدت بذاك ثم لم أفعله وعملت لليمين نسخة استقصيت القول فيها وحضرت الدار بها وحضر الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء فخرج إلىّ الأمين أبو عبد الله وقال لى: - «الملك يقول: ما الذي تقترحه من التوثقة؟» فأخرجت النسخة من كمّى وسلّمتها إليه وقلت: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 - «هذه نسخة أصحبنيها الموفق ورسم لى الرغبة إلى الكرم الفائض فى أن تحرر بخط مولانا الأمين وأن تشرف بتلفظ الحضرة العالية بها بمحضر من الشريف الطاهر.» فقال: «أقوم وأعرضها.» ودخل وعرضها. فلمّا رأى الملك طولها وتأكّد الإستيفاء فيها، قال لأبى الخطاب: - «أليس رسمنا لك مراسلة أبى نصر بالاقتصار والتخفيف؟» قال: «قد فعلت.» ووعد ثم لم يفعل. فتقدم إلى الأمين بتحريرها فحررها حرفا حرفا وأحضرت المجلس وحضر الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء وأبو الخطاب والأثير أبو المسك عنبر والأمين أبو عبد الله، وبدأ الملك بقراءتها. فلما مضى شطرها قطعها بأن قال قولا استفهم به شيئا منها ثم عاد لاستتمامها [1] فقبّلت الأرض ورفع رأسه وقال: - «مالك؟» قلت: «الخادم الغائب يسأل الإنعام بأن يكون قراءة هذا التشريف بغير عارض يقطعه.» فاغتاظ غيظا بان فى وجهه، ثم [92] أعاد قراءتها من أولها إلى آخرها. فلمّا فرغ منها قبّلت الأرض. فقال: - «أىّ شيء تريد أيضا؟» قلت: «التشريف بالتوقيع العالي فيها.» فاستدعى دواة وكتب: «حلفت بهذه اليمين والتزمت الوفاء بها على ما   [1] . وفى الأصل: لاستنماها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 اقترحه من ذلك» . وأخذتها وخرج الشريف الطاهر أبو أحمد والمظفر أبو العلاء وخرجت الى الموفق ليرد معنا. وقد كان بهاء الدولة جرّد مع أبى الفضل ابن سودمند [1] عسكرا إلى سابور لطلب الديواني ودخل الديواني الماهور وأقام ابو الفضل على حصاره. فلما وصلنا أقام المظفر أبو العلاء عند العسكر ودخلت أنا والشريف أبو أحمد وصرنا إلى الموفق ومعى خيل وبغال وثياب ورحل أنفذ ذلك المؤيد أبو الفتح اذكوتكين والمظفر أبو العلاء اليه على سبيل الخدمة له به واجتمعنا معه وعرف من الشريف الطاهر جملة الأمر ومنّى شرحه. وسار وسرنا وسار المظفر أبو العلاء الى شيراز وكان وصولنا فى روز آبان من ماه أرديبهشت [2] الواقع فى جمادى الآخرة. وأظهر الموفق لبس الصوف وخرج إلينا أبو الخطاب والأمين أبو عبد الله متلقّين. فلما أراد الانصراف قال لأبى الخطاب: - «أريد الخلوة معك.» فقال له: - «لا يمكنني ذلك مع كون الأمين معى، ولكن أنفذ إلىّ أبا نصر الكاتب الليلة.» ودخل الموفق البلد ونزل دارا أعدّت له فيه.   [1] . والمثبت فى مد (وفقا للأصل) : سودمنذ (بالذال المعجمة) والذال إنما تأتى فى الفارسية بعد الحركة، أو حرف مدّ. [2] . أرديبهشت: الشهر الثاني من السنة الشمسيّة الإيرانية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 ذكر ما جرى عليه أمره بعد دخوله قال ابو نصر: وصرت الى أبى الخطاب وقلت له: - «يقول لك الموفق بأى شيء ترى إن أدبر أمرى؟» قال: قل له: - «قد كنت أشرت عليك بآراء خالفتها فلم تحمد عقبى خلافها، وأنا أعرف بأخلاق بهاء الدولة منك. [93] والصواب الآن أن تنفذ جميع ما حصل عندك من الدواب والبغال التي قادهما الأولياء إليك وتراسل الملك وتقول له: من كان مثلي على الحال التي أنا معتقدها من اعتزال الأموال والرغبة عن العمل، فلا حاجة به إلى دوابّ وبغال. وقد قدت ما قاده الأولياء إلىّ إلى الاصطبل. لأنه أولى به ومتى أردت مركبا أركبه استدعيت منه ما أريده فى وقت الحاجة إليه وإنّ من شروط ما اعتزمته أيضا ان أقلّ الاجتماع مع الناس وانفرد بنفسي والدعاء للملك وأسال أن يختار أحد ثقات الستريين ويرتّب على بابى لردّ من يقصدني ومنع من يحاول الدخول إلىّ. فإنّه إذا رأى مثل هذا الفعل وسمع عنك مثل هذا القول سكن وأنس وأمكنك وأمكننا ان نتلطف لك من بعد فى اخراجك الى منزلك ببغداد او الاستئذان لك فى قصد بعض المشاهد وتملك حينئذ نفسك فتصرفها على اختيارك.» قال أبو نصر: فلما سمعت من أبى الخطاب هذه المشورة علمت أنها صادرة عن النية الصحيحة وعدت إلى الموفق فأخبرته بما كان. فكان من جوابه: أبو الخطاب يريد أن يردني إلى الحبس ردا جميلا. ولم يقبل هذا الرأى ولا دخل له قلبا ولا خالط فكرا. وأقام الدواب بين يديه الى المراود والكرداخورات يسمنها ويضمرها وفتح بابه وقعد فى ثلثة مخادّ بين اثنتين منها سيف والى جانبه ترس وزوبينات وعليه قميص صوف وكان يدخل إليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 أبو طالب زيد بن علىّ صاحب الصاحب أبى محمد ابن مكرم وأبو العباس أحمد بن على الوكيل فيحدثهما ويحدثانه ويباسطهما ويباسطانه ويعيدان عليه ما يتسوقان عنده به ويعيدان عنه ما يتسوقان به عليه. وورد الوزير أبو غالب قادما [94] من سيراف وقد كان خرج إليها بعد وفاة الفرّخان بن شيراز لتحصيل أمواله وإثارة ودائعه وترددت المراسلات بينه وبين الموفق بالجميل الذي كنت أسدى وألحم فيه وأخذت لكل واحد منهما عهدا على صاحبه ومضى على ذلك زمان. فأعاد أبو العباس الوكيل وأبو طالب زيد على الوزير أبى غالب على الموفق ما أوحشاه به وكان مخالفا لما أورده عليه عنه وشكّ فى قولهما وقولي وأراد امتحان صدقهما أو صدقى. فاستدعى أستاذ الأستاذين أبا الحسن علمكار، وكان الموفق شديد الثقة به والوزير أبو غالب على مثل هذا الرأى فيه. فقال: - «أريد ان أخرج إليك بسرّ أشرط عليك أولا كتمانه ثم استعمال الفتوة والنصيحة فيه.» فقال: «ما هو؟» قال: انّ أبا نصر الكاتب يجيئني ويورد علىّ عن الموفق الجميل الذي يسكن إلى مثله يجيئني بعده أبو طالب وأبو العباس فيحدّثانى عنه ما يناقض ذلك ويقتضينى والنفور منه [1] وأريد أن تمتحن ما فى نفسه وتطاوله مطاولة يستخرج بها ما عنده وتصدقني عما تقف عليه لأعمل بحسبه. فوعده أبو الحسن وصار الى الموفق وأقام عنده طويلا وجاراه من الحديث ضروبا. ثم أورد فى عرض ذلك ذكر الوزير أبى غالب فخرج اليه بالشكر له وسوء الرأى فيه وعاد أبو الحسن الى الوزير أبى غالب فقال له:   [1] . كذا ما فى مد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 - «قد صدقك أبو طالب وأبو العباس ونصحا لك.» فانقبض الوزير أبو غالب حينئذ منه وعلم أنه على خطر متى ثاب أمره. قال أبو نصر: ومضت مديدة أخرى وأبو الفضل بن سودمند [1] مقيم مع العسكر على حرب الديواني ومضايقته لأنّه طولب بعد خروج الموفق من عنده بقصد الباب ووطء البساط فلم يفعل وعول على أنّ أمر الموفق يستقيم فيمنع منه ويردّ العسكر عنه. فوضعت [95] موضوعات وكتبت ملطفات على أنها من الموفق إلى الأولياء الذين بإزاء الديواني وروسلوا بالشغب وإظهار العود الى شيراز وحملت الملطفات الى بهاء الدولة وقيل له: إن العسكر المقابل للديوانى قد هنجم وعمل على الانكفاء الى الباب وهذا أمر قد قرره الموفق ورتبه وفيه من الخطر عليك وعلى دولتك ما لا خفاء به، وإن ورد هؤلاء القوم أخرجوا الموفق وكاشفوا بالخلاف. فاغتاظ بهاء الدولة وشكّ شكا شديدا فظن ما قيل وعمل حقا فتقدم عند ذاك بالقبض على الموفق وردّه الى القلعة. فانفذ اليه أبو طالب الصغير فى وقت العشاء من روز أمرداذ من ماه تير [2] الواقع فى يوم الأحد السابع من شعبان حتى أخذه وحمله إلى القلعة. ذكر ما جرى عليه أمره عند ردّه إلى القلعة وكّل به أبو نصر منصور بن طاس الركابسلار، فأحسن معاملته ووسع عليه مقعده وملبسه ومأكله ومشربه وتحمل عنه جميع مؤنه وكلفه. وكان يدخل اليه ويقول له:   [1] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) . [2] . ماه تير: شهر تير، وهو الشهر الرابع من السنة الشمسية الإيرانية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 - «أنا خادمك ونفسي ومالي مبذولان لك.» ومضت على ذلك أيّام ثم جاءه وخلا به وقال: - «أيها الموفق قد عرفت مخالفتي للسلطان فى كل ما أعاملك به وأخدمك به ونفسي معرضة بك معه وإن وثقت إلى من نفسك بانه لا تسلّمنى وأن تكون الحافظ لها دوني كنت على جملتي فى خدمتك وتولّى أمرك. وان كنت تحاول أمرا آخر فاخرج إلى بسرك لأكون بين أن أساعدك عليه أو ان استعفى استعفاء لطيفا أتخلص به.» فقال الموفق له: - «لك علىّ عهد الله أننى لا أفارق موضعي [96] ولا أخرج منه إلا بأمر سلطاني وما فارقته فى الدفعة الأولى إلا لسوء معاملة أحمد الفراش لى وطلبه نفسي.» فشكره أبو نصر ووثق بهذا الوعد منه وكان يتردّد بينه وبين أبى الخطاب فى رسائل يتحملها من كل واحد منهما إلى صاحبه ومضت مدة على هذه الحال. ورتّب فى القلعة اللشكرى بن حسان لمانكيمح (كذا) فراسل الموفق يقول له أنت على هذه الصورة ورأى السلطان فيك فاسد وأعداؤك بين يديه كثيرون والأمر الآن فى يدي وأنا آخذك وأخرجك معى إلى الرىّ فإذا حصلت بها ملكت أمرك وبلغت هناك معما شاع من ذكرك وتحصل فى نفوس الديلم لك أكثر مما بلغته هاهنا. فقال له: - «قد عاهدت أبا نصر الركابسلار على ألّا أغدر به ولا أفارق موضعي وأسلمه.» فعاود مراسلته وقال له: - «دع هذا القول عنك واقبل رأيى. فإنّ النفس لا عوض عنها وترك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 الفرصة إذا عرضت عجز.» فلم يقبل. قال أبو نصر: ثم إنّ أبا الخطاب أراد امتحان ما عند الموفق. فقال لأبى نصر المجرى: - «أريد أن تذمّنى إذا خلوت أنت والموفق وتستكتمه ما خرجت به إليك فى أمرى وتنظر ما يقوله لك فتعرّفنيه.» فجاءه أبو نصر وقال له فى بعض ما يجاريه إياه: - «لك أيها الموفق علىّ حقوق إحسان أوليتنيه ومن حكم ذلك أن أصدقك. أراك تعوّل من أبى الخطاب على من هو سبب فساد أمرك وتغير الملك عليك وسوء رأيه فيك. فلو عدلت عنه لكان أولى وأصلح لك ومتى أردت أن أوصل لك رقعة الى الملك سرّا فعلت.» فصادف هذا القول منه شكّا فى أبى الخطاب وتهمة له وحمله الاسترسال واطراح التحفظ على أن اطلق لسانه [97] فيه بكل ما كان مكنونا فى صدره وسأله أن يوصل له رقعة إلى الملك فبذل له ذاك. وكتب بخطه إليه كل ما استوفى اليمين على نفسه به فى أنه الخادم المخلص الذي لم يتغير عن مناصحته ولا هم بخيانة وأنه وأنه ... وذكر ابن الخطاب بما طعن عليه فيه وقال: - «اننى لم أهرب لمّا هربت إلّا برأيه وموافقته وعلمه ومعرفته.» قال أبو نصر السنى: وكان الأمر كذلك وأخذ أبو نصر الركابسلار الرقعة وجاء بها إلى أبى الخطاب. فلمّا وقف عليها كتمها ولم يعد قولا فى معناها أدت الحال الى ما سيرد ذكره فى موضعه من قتله [1] .   [1] . قتله بهاء الدولة فى سنة 394 كذا فى تاريخ الإسلام عن أبى الفرج ابن الجوزي (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 وفى شعبان توفّى أبو عبد الله ابن أيوب الشيرازي الكاتب. وفى شهر رمضان عظمت الفتنة ببغداد بعد خروج أبى جعفر الحجاج عنها وزاد أمر العلويين العيّارين وقتلوا النفوس وواصلوا العملات [1] وأخذوا الأموال واشراف الناس منهم على خطة صعبة. وفيه ورد الأمين أبو عبد الله الحسين بن أحمد إلى واسط برسائل إلى أبى جعفر الحجاج فى معنى أمر عميد الجيوش أبى على وخروجه إلى العراق. فلمّا عرف حصول أبى جعفر بسقى الفرات وتشاغله بحرب أبى الحسن ابن مزيد وبنى عقيل توقف. وفى ليلة الأربعاء لثمان بقين منه طلع كوكب الذؤابة. مسير بهاء الدولة من الأهواز وفى هذا الشهر تواترت الأخبار بتعويل بهاء الدولة على عميد الجيوش فى أمور العراق. ثم سار من الأهواز فى يوم الجمعة الثاني من شوال. شرح الحال فى ذلك لما استقام بعميد الجيوش ما استقام من أمور الأهواز وأعادها إلى حال السكون [98] والعمارة وساس الجند والرعية فيها السياسة الشديدة واضطربت أمور بغداد وانحلّ نظامها وعظمت أسباب الفساد والفتن فيها كوتب بقصد العراق وإصلاح أحوالها وإزالة ما عرض من انتشارها واختلالها وأنفذ الأمين أبو عبد الله إلى أبى جعفر الحجاج لتطييب قلبه واستدعائه إلى فارس.   [1] . وفى الأصل: العملات. ولعله: الحملات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 وورد عميد الجيوش واسطا بعد أن أقام أبا جعفر أستاذ هرمز بالأهواز والده ناظرا فى الحرب ورتّب أبا عبد الله الحسين بن على بن عبدان فى مراعاة الأمور والأعمال. فاستبشر الناس به لما بلغهم من حسن سياسته وزوال المجازفة والظلم عن معاملته، وكتب إلى الفقهاء وأماثل التجار بمدينة السلام كتبا يعدهم فيها بالجميل ومحو أثار ما تقدم من المصادرات وتضاعفت المحبة له وتزايدت المسرة به. وكاتب أبا القاسم الحسين بن محمد ابن مما مما تألفه وأمره بحفظ البلد وضبطه إلى حين وصوله وأنفذ اليه تذكرة بأسماء جماعة ورسم له قتلهم وأخذهم وكان منهم مرتوما ابن ققى (كذا) النصراني التاجر لأنه ذكر عنده بالسعاية والغمز فاقتصر أبا القاسم على أخذ المعروف بابن دجيم وقتله فى وسط الكرخ. وكان أحد الملاعين السعاة وأنذر الباقين لأنهم خدموه من قبل. وسار عميد الجيوش من واسط فتلقاه أبو الفوارس قلج سابقا الى خدمته ثم تلاه الأولياء على طبقاتهم والناس على ضروبهم فبسط لهم وجهه ووفى كلامهم حقه. ورأوا من لين جانبه وقرب حجابه وسهولة أخلاقه وعذوبة ألفاظه مع عظم هيبته ما لم يعهدوا مثله. وعرف الأشرار والدعار [1] قوته وما يأخذ به نفسه فذهبوا كل مذهب وهربوا [99] كل مهرب. ونزل النجمى فزينت له الأسواق ونصبت القباب وأظهر من الثياب والفروش الفاخرة والأواني والصياغات الكثيرة ما كان مخبوءا للخوف، ودخل يوم الثلاثاء السابع عشر من ذى الحجة وقد أقيم له فى الأسواق الجواري   [1] . الدعّار: الفسقة، الفسدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 والغلمان فى أيديهم المداخن بالبخور وخلقت وجوه الخيل ونثرت عليه الدراهم فى عدة مواضع ودعى له من ذات الصدور وعدل من طاق الحراني الى دجلة ونزل فى زبزبه وعبر إلى دار المملكة وخدم الأميرين أبا الشجاع وأبا طاهر وعاد فصعد الى الدار بباب الشعير وهي التي كانت لأبى الحسن محمد بن عمر. وطلب العيارين من العلويين والعباسيين وكان إذا وقعوا تقدم بأن يقرن العلوي بالعباسى ويغرقان نهارا بمشهد من الناس. وأخذ جماعة من الحواشي الأتراك والمتعلقين بهم والمشتهرين بالتصرف والتشصص معهم فغرقهم أيضا. وهدأت بذلك الفتن المستمرة وتجددت الاستقامة المنسية وأمن البلد والسبل وخاف الغائب والحاضر. وكان ممن قتل المعروف بأبى على الكرامى العلوي وقد هتك الحريم وارتكب العظائم ونجا إلى أبى الحسن محمد بن الحسن بن يحيى وظنّ أنه يعصمه ويمنع منه فركب أبو الحسن علىّ بن أبى علىّ الحاجب الى داره حتى قبض عليه من بين يديه وهو يستغيث به فلا يجيبه وحمله إلى دار عميد الجيوش وقتله. وقد كان المعروف بابن مسافر العيار حصل فى دار الأمين أبى عبد الله فآواه وستره ولم يزل ابو الحسن على بن أبى على يراصده حتى عرف أنه يجلس فى دهليزه ثم كبس الدهليز والأمين أبو عبد الله غائب. فأخذه [100] وضرب عنقه. وامتعض الأمين أبو عبد الله من ذلك فلم ينفعه امتعاضه وشكا الى عميد الجيوش فلم يكن منه إلّا الاعتذار القريب منه. وتتبعت هذه الطوائف فى النواحي والبلاد فلم يبق لهم ملجأ ولا معقل ومضت إلى الأطراف البعيدة وكفى الله شرها وأزال عن الناس ضرّها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 وحدثني أبو الحسن على بن عيسى صاحب البريد قال: كان ابن ابى العباس العلوي ممن سلك الطريق الذميمة وارتكب المراكب القبيحة. فلمّا ورد عميد الجيوش هرب إلى ميافارقين وبلغه خبر حصوله فيها ومقامه فيها فبذل مائة دينار لمن يفتك به ويقتله ووسط ذاك بعض من أسر إليه وعوّل فيه عليه وأنهى الأمر الى تعديل الدنانير عند بعض التجار فى ذلك البلد، وتقدّم عميد الجيوش بأخذ سفتجة بها وإنفاذها. وبينما هو في ذلك عرض عليه كتاب بوفاة ابن أبى العباس هذا. فضحك وقال لى: - «قد بلغنا أيّها الأستاذ المراد وربحنا الغرم ونحن نصرف الآن هذه الدنانير فى الإراحة من مفسد آخر.» وسلك مثل هذه الطريقة مع أهل الشر من الكتّاب والمتصرفين وغرق منهم جماعة فى أوقات متفرقة ومن جملتهم طاهر الناظر كان فى دار البطيخ وله صهر من الأتراك يعرف بالأعسر من وجوههم ومفسديهم، وأبو على ابن الموصلية عامل الكار. فأذكر وقد جاءني ابن الموصلية هذا ليلا وكان هاربا مستترا وقال لى: - «قد خدمتك الخدمة الطويلة وأوجبت عليك الحقوق الكثيرة وفى مثل هذه الحال أريد ثمرة ذلك ورعايته.» فقلت: «ما الذي تريده لأبذل جهدي فيه.» قال: «عرفت حالي فى وقوع الطلب لى ومتى ظفر بى قتلت أو بقيت على جملتي فى التوقّى والتخفّى لم يكن لى مادة أمشّى بها أمرى وأستر من ورائي وأريد أن تخاطب الصاحب أبا القاسم بن مما فى بابى وتذكره بخدمتى وحرمتي [101] وتسأله خطاب عميد الجيوش فى إظهارى وإيمانى. قلت: «أفعل ولا اترك ممكنا فى ذلك.» فشكرنى وانصرف وباكرت أبا القسم فقلت: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 - «جاءني البارحة أبو على ابن الموصلية ورأيته على صورة يرحم فى مثلها الأعداء فضلا عن الخدم والأولياء وله عليك حقوق وإنما أعدّها لمثل هذا الوقت ومتى لم [1] تخلصه وتلطف فى أمره هلك فى وقوعه واستتاره. فقال لى: - «لو كنت غائبا عن هذه الأمور لعذرتك. فاما وأنت حاضرها فلا عذر لك.» فراجعته وقال لى: - «أنت تلقى عميد الجيش دائما وهو يميل إليك ويتوفّر عليك فخاطبه وتحمل رسالة عنّى بما تورده عليه.» فسررت بذلك وظننت أننى سأبلغ الغرض به ودخلت إلى عميد الجيوش فى آخر نهار وهو خال. فخاطبته فى أمر ابن الموصلية ورققته وسألته كتب الأمان له. فقال: أفعل. وتبسّم. ثم قال لى: - «لست عندي فى منزلة من أعده ثم أخلفه وأقرر معه ما يقتضيه وأنا أصدقك عما فى نفسي. ليس لهؤلاء الأشرار عندي أمان ولا أرى استبقاءهم على كلّ حال. فإن أردت أن تتنجز الأمان على هذا الشرط فما أمنعك بعد أن يكون [2] على بينة من رأيى واعتقادي.» فقبلت الأرض بين يديه وشكرته على صدقه فيما صدقنى عنه ورجعت الى أبى القاسم فعرّفته بما جرى فقال: - «قد كنت أعلمه وإنما أحببت أن تشركني فيه وتسمعه بغير إسناد منّى وربما اتهمته.» وعاد إلى ابن الموصلية من بعد فى مثل الوقت الذي قصدني أوّلا فيه.   [1] . وفى الأصل تحصله. [2] . ولعلّه: تكون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 فشرحت له الحال على حقيقتها وقلت له: - «ما توجب الديانة ولا المروءة أن أغرّك.» وفارقنى وهو عاتب مستزيد على ما حدثت به من بعد ومضى الى أبى عمرو بن المسيحي وأبى اسحق صاحب أبى القاسم بن مما، فسألهما مثل ما كان سألنيه [102] وعاودا خطاب أبى القاسم وتنجّزا له الأمان. فما مضت مديدة حتى أخذه أبو الحسين بن راشد. وكان لعمري من أهل الشر إلّا أنّ التأول عليه كان بمكاتبته أبا جعفر الحجاج عند حصوله بالنعمانية، ولأن أبا القاسم بن مما أغرى به للعداوة السابقة بينه وبينه. وأخذ أيضا أبو الحسن محمد بن جابر وأبو القاسم علىّ بن عبد الرحمن ابن عروة ليفعل بهما مثل ما فعل بمن قدمنا ذكره. فتلطف مؤيد الملك أبو على الحسين بن الحسن فى خلاصهما واستنقاذهما وكان ذلك فيما بعد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، إلّا أننا أوردناه فى هذا الموضع لاتصال بعض الحديث ببعض. وتقدم عميد الجيوش عند مورده بسمل أبى القاسم بن العاجز وقد كان قبض عليه وأنفذ اليه الى واسط فسمل وضربت رقبته بعد السمل وطيف برأسه فى جانبي مدينة السلام وطرحت جثّته فى دجلة وذلك فى يوم الأحد لثمان بقين من ذى الحجة. ذكر ما عمله عميد الجيوش وأجرى أمور الأعمال والدواوين عليه فوّض إلى مؤيد الملك أبى على أمور الأعمال وتقليد العمال وتحصيل الأموال وكان ورد معه نائبا عنه وله فى الكتابة والكفاية القدم المتقدمة وفى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 العفة والامانة الطريقة المعروفة. فاستقام بنظره ما كان مضطربا وانحرس بحفظه ما كان متشذبا واستمرّ على الخلافة له فى مقامه وسفره. وجعل أمر الديلم الى أبى القاسم الحسين بن محمد بن مما وأبو نصر سعيد بن عيسى على الديوان وأمر الأتراك إلى أبى محمد عبد الله بن عبد العزيز، وأبو غالب سنان ابن عبد الملك يتولى الديوان. وأقرّ أبا على الحسن بن سهل الدورقي على ديوان السواد، وأبو منصور [103] الاصطخرى خليفته عليه، وأبا الحسن محمد ابن الحسين بن سابلويه على ديوان الزمام وأبا الحسن سعيد بن نصر على ديوان الخاصة وأبا منصور يزدانفادار [1] بن المرزبان على الأشراف فى ديوان الجيشين. وقلّد أبا نعيم المحسن بن الحسن واسطا وضرب ضربا قرّر قيمة الدينار الصاحبى به على خمسة وعشرين درهما وباقى النقود على حسب ذلك واستعرض الجرائد وميز الناس وأسقط كثيرا من الحشوة وردّ جميع الاقساط لسائر الطوائف الى سبعة آلاف دينار فى كل خمسة وثلاثين يوما وامتنع من تسليم ما ينحل من الإقطاعات إلّا بالأقساط وأقطع جماعة على هذه القاعدة فلو تمادت به المدة على خلو الذرع والطمأنينة لسقطت الأقساط بالواحدة لكنّه منى من أبى جعفر الحجاج بمن أفسد نظام أمره وأبطل عليه جميع ترتيبه وتدبيره. وسيأتي ذكر ذلك فى أوقاته ومواضعه. وما رأيت رجلا أعف ولا أظلف نفسا من عميد الجيوش ولقد رفع المصادرات وأزال المجازفات رفعا وإزالة اقتدى به جميع ولاة بهاء الدولة على بلاده فيها، وصار له الإسم الكبير والذكر الجميل بها [2] .   [1] . كذا فى مد ولكن بالإهمال الكامل. [2] . وفى تاريخ الإسلام انه توفى سنة 401 عن احدى وخمسين سنة وكان أبوه من حجاب الملك عضد الدولة فجعل أبا على برسم خدمة ابنه صمصام الدولة. وفى تدبيره أمور العراق قيل انه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 ونعود الى ذكر الحوادث فى الشهور الداخلة فى هذه السياقة وفى يوم الأربعاء السابع من شوال توفّى أبو محمد عبد الله بن أبى أحمد يحيى الجهرمى القاضي. وفى هذا الشهر توفى أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الدقاق الشافعي العارض المعروف بخياط. وفيه توفّى أبو الفتح القنّائى الكاتب. مقتل ابن شهرويه وأبى عبد الله المستخرج وابنه وفى يوم الإثنين لأربع بقين منه قتل أبو عبد الله بن الحيرى أبا الحسين ابن شهرويه وأبا عبد الله المستخرج وابنه فى داره بالموصل. [104] ذكر الحال فى ذلك حدثني أبو الحسين بن الخشاب البيع الموصلي قال: كان ابن الحيرى يبيع الخزف بالموصل ثم ضمن كوازكه وتنقل من حال الى حال حتى نظر فى جميع أبواب المال وتجاوز ذاك الى ان كتب لأبى عامر الحسن بن المسيب.   [ () ] أعطى غلاما له دنانير وقال: خذها على يدك وسر من النجمى الى الحاصر الأعلى فان اعترض بك معترض فدعه يأخذها واعرف الموضع. فجاء نصف الليل فقال: قد مشيت البلد كله فلم يلقني أحد. ودخل مرة الرخجي وقال: مات نصراني مصرى ولا وارث له. فقال: يترك هذا المال فان حضر وارث والا أخذ. فقال الرخجي: فيحمل الى خزانة مولانا الى ان تتيقن الحال. فقال: لا يجوز ذلك. ثم جاء أخو الميت فأخذ التركة (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 وكان ارتفاع البلد مشتركا بين الحسن وبين معتمد الدولة ابى المنيع قراوش وكاتبه أبو الحسين بن شهرويه. وكان ابن الحيرى يستطيل على أبى الحسين بالإسلام وبأنّ صاحبه الأمير ويتبسط عليه فى المعاملة والمناظرة. فأقام أبو الحسين أبا عبد الله المستخرج فيما يتعلق بمعتمد الدولة من البلد والارتفاع ورمى ابن الحيرى منه بمن هو أشد قحة وثقل عليه أمره فعمل على الفتك به وبابن شهرويه وشرع فى ترتيب أسباب ذلك. وكان معه جماعة من الرجالة الذين يحملون السلاح ويسلكون سبيل العيارة فواقف قوما منهم على أن يلازموا داره- وكانت فى بنى هائدة- ليلا ونهارا ويترقبوا حضور ابن شهرويه وابى عبد الله المستخرج، فإذا حضرا أوقعوا بهما ووضعوا عليهما. وتقدم إليهم بأن يظهروا فى منازلهم وعند رفقائهم أنهم مقيمون فى الحلّة، وكان الحسن بن المسيب فى حلّته بظاهر الموصل ومعتمد الدولة مخيم بالحصباء يريد الانحدار إلى سقى الفرات وهو عليل قد بلغت العلّة منه، وأظهر ابن الحيرى العلة وشكر له [1] وتأخر فى منزله. فركب اليه أبو الحسين بن شهرويه وأبو عبد الله لعيادته على عادة كانت لأبى الحسين فى مغالطته ومنافقته. فلما صاروا قريبا من داره فارقهما أبو ياسر النصراني وكان معهما فقال [105] له أبو الحسين: - «لم لا تساعد على عيادة هذا الصديق؟» فقال له مازحا: - «يجوز أن يسلم منا من يعرف خبرنا.» وتمم أبو الحسين وأبو عبد الله ونزلا ودخلا الى الدار ومنها إلى حجرة   [1] . لعله: وشد رجله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 عليها باب حديد وثيق وتأخر عنهما ابن أبى عبد الله المستخرج فى الدار الاولى ونزل الرجالة من الغرفة التي كانوا فيها ووضعوا عليهما وقتلوا أبا الحسين وأبا عبد الله وأفلت ابن أبى عبد الله وصعد إلى السطح ورمى نفسه الى دار قوم حاكة فاتبعه أصحاب ابن الحيرى وأخذوه وقتلوه وأخرج الثلاثة من الدار وطرحوا على الطريق. وحلّ ابن الحيرى رجله وخرج من سرداب قد عمله تحت الأرض فى داره إلى درب يعرف بفندق عروة على بعد من بنى هائدة واستتر وأخفى شخصه وقد كان استظهر بإخلاء داره وتحويل ما كان فيها من ماله وثيابه. وبلغ الخبر معتمد الدولة فركب فى الحال على ما به وهاج الناس بين يديه وطلب ابن الحيرى فلم يجده. وأظهر الحسن بن المسيب الإنكار لما فعله صاحبه وراسل معتمد الدولة يعده بالتماسه والأخذ بالحقّ منه. وكان كمال الدولة أبو سنان غريب قد نزل فى ليلة ذلك اليوم على ابن الحيرى كالضيف له. فلما جرى ما جرى بادر هاربا على وجهه إلى البرية وانحدر معتمد الدولة إلى العراق. وظهر ابن الحيرى وخرج إلى حلّة الحسن وأقام عذره عنده فيما فعله وقبض على شيوخ أهل الموصل وصادرهم. واعتلّ الحسن علة قضى فيها وقام مرح أخوه فى إمارة بنى عقيل بعده وانتقل إليه النصف من معاملة الموصل وتوسط بينه وبين ابن الحيرى حتى أذم له [106] وعاهده واستكتبه وكانت بينه وبين أبى الحسن ابن ابى الوزير عداوة لأنه سعى به إلى مرح حتى قبض عليه ونكبه. فاجتمع أبو الحسن وأبو القاسم سليمان بن فهد وأبو القاسم ابن مسرّة الشاعر على ابن الحيرى وأغروا مرحا به أوغروا صدره عليه وأفسدوا رأيه فيه فقبض عليه ووجدوا له تذكرة تشتمل على نيف وخمسين ألف دينار، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 فأثاروا ذلك وحصّلوه، ثم سملوه فمات ودفن، ونبشه أهل البلد من بعد وأحرقوه لسوء معاملته لهم وما قدّمه من القبيح إليهم. حديث طريف وحدّثنى أبو الحسن ابن الخشاب عن ابى الحيرى بحديث استطرفته فأوردته قال: أراد أن يقتل الحسن بن المسيب بسمّ يطعمه إياه ويهرب الى الشام. فسأله أن يحضر فى دعوته فحضر فقدّم إليه بطّيخا مسموما. فقال له الحسن: - «تقدم يا با عبد الله وكل.» فأظهر له الصوم وقال لأبى الفتح ابنه: - «اجلس وكل مع الأمير.» فجلس وأكل ومات وتراخت مدّة الحسن فعاش قليلا ومات. وتجدّدت بين أبى الحسن ابن أبى الوزير وأبى القسم بن مسرة وحشة فوقع فيه أبو الحسن عند مرح بن المسيب وكثر عنه حاله وماله وأغراه بنكبته ومصادرته فقبض عليه وقرر أمره على جملة أخذها منه وخاف عاقبة ما عامله به فقال لمرح: - «هذا شاعر وقد أسأت إليه وإن أفلت من يدك هجاك ومزّق عرضك.» فقتله وشقّ بطنه وملاه حصى ورمى به فى دجلة. فاتفق أن وجدته امرأة كانت تغسل على الشاطئ فأخرج ودفن بالموصل. انقضاض كوكب وتشقّقه وفى ليلة يوم الاثنين الثالث من ذى القعدة انقضّ [107] كوكب فى برج الحمل والطالع آخر الثور أضاء كضوء القمر ليلة التمام ومضى الضياء وبقي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 جرمه يتموّج نحو ذراعين فى ذراع برأى العين وتشقق بعد ساعة. وفى آخر يوم الأحد التاسع من ذى القعدة كبس العيارون دار ابى عبد الله المالكي للفتك به وكان ينظر فى المواريث وبعض معاملات أبواب المال وفيه جزف فى المعاملة. فلم يجدوه ووجدوا أبا طالب بن عبد الملك أخا أبى غالب سنان وكان صهر أبى عبد الله على ابنته فقتلوه. وقتل العيارون فى هذا اليوم أيضا حماد بن السكر الشهرونى وكان وجها من وجوه الرستاقية وأهل الرفق والعصبية. دخول الحاجّ الخراسانية بغداد وعودهم إلى بلادهم وفى يوم الثلاثاء الحادي عشر منه تكامل دخول الحاج الخراسانية بغداد وعبروا بأسرهم إلى الجانب الغربي، ثم وقفوا عن التوجه لخلّو البلد من ناظر وفساد الطرق ومقام أبى جعفر الحجاج بالكوفة وانتشار العرب من بنى خفاجة وبنى عقيل فى البلاد، وعادوا إلى بلادهم فى يوم الخميس لعشر بقين منه، وبطل الحج من المشرق فى هذه السنة. ذكر ورود علىّ بن عبد الرحمن مطلقا من أسر بنى عقيل وفى يوم الإثنين الثاني من ذى الحجة ورد أبو القاسم على بن عبد الرحمن بن عروة مطلقا من أسر بنى عقيل. ذكر الحال فى أسره وإطلاقه كان قد خرج مع أبى اسحق إبراهيم أخى أبى جعفر الحجاج ناظرا فى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 الأعمال وتمشية أمور العسكر. فلمّا وقعت الوقعة بينه وبين أبى الحسن بن مزيد ودعيج وبنى عقيل بباكرما وانهزم، أسره أحد العرب وبقي فى يده مدة. وابتاعه [108] أبو الحسن رشا بن عبد الله الخالدي منه بمال قرّره عليه وضمن أبو بكر الخوارزمي المال لرشا وأطلق. حوادث عدّة وفى يوم الأحد الثامن منه قتل ابن بندار المستخرج والحسين بن بركسه غلام ابن كامل وقبض على أبى طالب الصياد الهاشمي وابن زيد العلوي وغرقا. وفى يوم الاثنين التاسع منه ولد الأميران أبو على الحسن وأبو الحسين ابنا بهاء الدولة توأمين وعاش أبو الحسين ثلث سنين وشهورا ومضى لسبيله وبقي الأمير أبو على وملك الأمر بالحضرة ولقّب بشرف الدولة. وأخباره تأتى فى موضعها بإذن الله تعالى. وفى يوم الأحد لثماني بقين منه ورد الأمين أبو عبد الله بغداد عائدا عن أبى جعفر الحجاج بن هرمز فيه ومعه أبو شاكر أحمد بن عيسى كاتبه وقد كان الأمين توقّف بواسط لما وردها على ما قدمنا ذكره. فلما وصل عميد الجيوش أبو على وأصعد، أصعد معه وعدل من النعمانية الى أبى جعفر فلقيه بالكوفة. وفى يوم الإثنين لسبع بقين منه خرج الصاحب أبو القاسم بن مما إلى أبى الفتح محمد بن عنّاز، فدعاه إلى طاعة عميد الجيوش وخدمته وقاده إلى الدخول فى جملته، ووعده عنه بما طابت نفسه به، وعاد من عنده وقد أصلحه ونسج ما بين عميد الجيوش وبينه. وفى يوم الثلاثاء لست بقين منه توفّى أبو يعقوب محمد بن الحسن ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 يحيى العلوي الحسيني النقيب. وفى هذه السنة هرب أبو العباس الضبّى من الرىّ وصار إلى بروجرد لاجيا إلى بدر بن حسنويه. شرح الحال فى ذلك وفيما جرى عليه أمر الوزارة بالرىّ بعده على ما أخبرني به القاضي [109] أبو العباس أحمد بن محمد البارودى قد ذكرنا من قبل صلاح أمر أبى العباس مع الجند بالري ونزوله من القلعة فى اليوم الرابع من القبض عليه وحمله إليها وعوده إلى النظر والتدبير ولمّا كان ذلك أقام مدّة سنة والاستقامة جارية والأمور مترخية والحال بينه وبين بدر بن حسنويه عامرة والعصبية له منه واقفة. وكانت فى أبى العباس شدّة تغلب على طبعه وشحّ يفسد عليه كثيرا من أمره. فاتفق أن توفّى الإصفهبذ الأكبر ابن أخى السيدة والدة مجد الدولة وفاة أتهم أبو العباس بأنه دبّر عليه وسمّه. وطلبت السيدة منه ما قدره مائتا دينار لإقامة رسم العزاية. فقال فى جوابها: - «لو اشتغلت بما يعطاه الجند المطالبون لكان أولى من تشاغلها بعمل المواتيم للموتى الماضين.» فاغتاظت وقالت: - «صدق، وكيف يقيم مأتمه من قتله. وبلغه قولها فأسرّ الاستيحاش منها وعلم ما وراءه من تغير رأيها. فراسل أبا القاسم بن الكج القاضي بالدينور واستدعى منه مطالعة بدر بن حسنويه بأمره واستئذانه فى خروجه إلى بلاده وتجديد التوثقة عليه له. فخاطب ابن كج بدرا على ذلك فقال: - «الرأى له أن يقيم بموضعه ولا يفسد حاله بيده ويتلطّف فى إصلاح السيدة.» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 فلم يقبل أبو العباس هذا الرأى، لأنه خاف السيدة، وعاود بدر بن حسنويه فقال: - «أمّا ما عندي من المشورة والنصيحة فقد قلتها، وأمّا ما يراه لنفسه من غير ذلك فله عندي فيه كل ما يحبّه ويؤثره.» وأقام أبو [110] العباس بعد السنة الاولى سنة أخرى حتى حرز أموره وأنجز علائقه وأحرز أمواله. وكان يعتقد الثقة بأبى على الحسين بن القاسم العارض الملقب بالخطير، ففاوضه أمره وما قرّر عليه عزمه. وكان أبو على ذا حيلة ومكيدة وكراهية له وعداوة. فقال له: - «الصواب فيما رأيته. فإنّ أحدا لا يقوم مقامك فيما تقوم فيه وإذا فارقت مقامك تلقّاك بدر بن حسنويه بساوة وقام بمعونتك ونصرتك وتشييد أمرك، وخاف السيدة والجند منه، فنزلوا على حكمك وعدت جديد الجاه قوىّ الأمر.» قال القاضي أبو العباس: فحدثني أبو الحسن البندارى وكان كاتب أبى العباس الضبّى على مكاتباته وسرّه. قال: - «جارانى الكافي أبو العباس ما أشار به عليه الخطير أبو على.» فقلت: «قد غشّك وما نصح لك، ومتى زالت قدمك عن موضعك تغيرت الأمور وحالت عن تقديرك.» فقال: «ما كان أبو على ليشير بغير الصواب مع إحسانى إليه وتوفّرى عليه.» فلما كانت ليلة خروجه ترك داره بما فيها من فرشه وآلاته ورحله وأثقاله وغلمانه وكانوا سبعين غلاما وخرج ومعه أبو القاسم ابنه وأبو الحسن البندارى كاتبه وغلام تركي من غلمانه ونفر من حواشيه ممن احتاج إليهم لخدمته ونزل على فرسخ من البلد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 وأصبح الناس وقد شاع الخبر. فماجوا واجتمع الجند وانتدب الجند الخطير أبا على لخطابهم وقال: - «قد هرب هذا الرجل بعد أن فرغ الخزائن وأخذ الأموال ومزّق الأعمال وحلّ النظام. والمواد اليوم قاصرة والإضاقة ظاهرة والاستحقاقات كثيرة. فإن قنعتم بما كان فخر الدولة يطلقه لكم [111] قمت به وبذلت الاجتهاد فيه وفى تحصيله وتفرقته عليكم، وإن أردتم غير ذلك فانظروا لنفوسكم واختاروا من يتولّى أموركم.» فلمّا سمعوا من هذا القول ما سمعوا وعرفوا من صحته ما عرفوه قالوا له: - «قد رضينا بتدبيرك وقنعنا بما بذلته لنا من نفسك ولك علينا السمع والطاعة والانقياد والمساعدة.» فتولّى الأمر وأخذ ما كان فى دار الكافي أبى العباس وكان كثيرا وتتبع أمواله وأموال أصحابه وأقطع أملاكه وإقطاعه وذكره فى الكتب بأحمد بن إبراهيم المخلّ، وعلى المنابر بالطعن والقدح والوقيعة والجرح، بالغ فى كلّ ما اعتمد مساءته به والغضّ منه فيه ومشت الأمور بين يديه. ووصل أبو العباس الضبّى إلى بروجرد فلم يستقبله بدر بن حسنويه ولا احد من أصحابه لكنه أنفذ اليه بمن يقيم له اقامة فكان يأخذ من ذلك يسيرا وينفق من عنده كثيرا حتى أخذ نحوا من خمسة آلاف درهم سودا. ثم سأل إعفاءه مما يقام له من جهة بدر بن حسنويه فأعفى. ووافاه أصحابه من البلاد لاحقين وانكسر جاهه وانتشر أمره وندم [1] الندم الشديد على فعله. قال القاضي أبو العباس: وكنت إذ ذاك ببروجرد. فاستشارني أبو الحسن البندارى عنه فى أمره فقلت:   [1] . والمثبت فى مد: ندوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 - «يريد أن يطيب نفسا عمّا أقطع من أملاكه وإقطاعاته وينزل عنه لمن جعل له فيلاطف السيدة ومجد الدولة ووجوه القواد بما يستميلهم فيه ويقلّهم عن ابى على الخطير به. فإنّه إذا فعل ذلك أطاعه القوم وبلغوا له مراده.» فقال أبو الحسن: - «يحتاج لهذا إلى نحو مائتي ألف دينار ونحن فارقنا [112] مكاننا وأفسدنا أمرنا من أجل مائتي دينار وامتناعنا من إطلاقها.» ومضت للخطير مدة سبعة عشر شهرا ثم قبض عليه فبادر أبو سعد محمد بن إسمعيل بن الفضل من همذان إلى الرىّ مدلّا بوصلة بينه وبين السيدة وبماله من الحال الكبيرة والضياع الكثيرة والمادة الواسعة والمكنة التامة. وكره بدر بن حسنويه أن يتم له أمر لسوء رأيه فيه، وأنه كان ينقم عليه قبيحا عامله به. فأنفذ أبا عيسى شأذى بن محمد ومعه أبو العباس الضبي الى الرىّ فى ثلاثة آلاف رجل ليعيده الى نظره ويردّه فى الوزارة إلى أمره، وكتب فى ذلك بما أكّده وأشار بالعمل عليه وترك خلافه فيه. فلما نزلوا بظاهر البلد ووصلت الكتب من بدر بن حسنويه- وقد تردّد فى معناها ما تقدم من قبل- راسلت السيدة ومجد الدولة ووجوه القواد أبا العباس بأن: - «أدخل فان الأمر ممهد لك والرضا واقع بك» . وأنفذت إليه ثقات كانوا له فى القوم بأن: - «الباطن فيك غير الظاهر لك وقد رتّب الأمر على الغدر بك والقبض عليك» . فخاف ورجع. ذكر تقلّد أبى الفضل الوزارة ثمّ عود الخطير إليها وتقلّد أبو سعد بن الفضل الوزارة وتوسع فى نظره بماله واستغلال أملاكه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 وهادي مجد الدولة والسيدة بما ملأ عيونهما به وأعطاهما وأعطى الأكابر ما استخلص نيّاتهم فيه. وكان شديد العجرفة عسوفا فى المعاملة متهجّما على الجند بالمخاطبة الوحشة فكرهوه واجتمعوا وقصدوه. فهرب الى بروجرد بعد أن استصلح بدر بن حسنويه، وعاد الخطير أبو على إلى الوزارة، وسام بدرا ان يخاطبه بالوزير، فامتنع من ذلك وامتنع أبو على من خطابه [113] بسيدنا، وانتهى ما بينهما إلى الشرّ والمباينة والمكاشفة بالقبيح والعداوة وكتب الخطير إلى أصحاب الأطراف يبعثهم على بدر بن حسنويه ويغريهم به ويهون عليهم أمره وواصل هلالا ابنه وأفسده عليه وحمله على مباينته ومقاطعته فكان ذلك من أقوى الأسباب فيما خرج اليه معه. وسنذكر شرح هذه الجملة وما انتهت إليه الحال بين الخطير وبين بدر فيما نورده آنفا بمشيئة الله تعالى. ذكر السبب فى فساد رأى بدر بن حسنويه على أبى سعد ابن الفضل وما عامله به عند هزيمته من الرىّ وقصده إياه حدثني القاضي أبو العباس البارودى قال: كان أبو سعد ابن الفضل ينظر فى أعمال همذان والماهين وسهرورد وأبهر من قبل مجد الدولة ويعطى شمس الدولة من ارتفاع ذلك مالا معينا ومبلغا مقننا. فشرع بدر بن حسنويه فى أن يبتاع خانا بهمذان ويفرده باسمه ويقيم فيه بيعا يبيع ما يرد من الأمتعة المختارة فى أعماله وكانت الحمولات كلها واصلة منها ومحمولة فيها وبذل له فى ارتفاع هذا الخان إذا تقرّر أمره ألف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 ألف ومائتا ألف درهم. وأنفذ أبا غالب بن مأمون الصيمري إلى همذان لترتيبه وعقده على الراغب فى ضمانه. وشقّ على أبى سعد ابن الفضل تمام ذلك وتصور أنه طريق إلى خروج ارتفاع البلد عن يده. فوضع قوما من الديلم على أن يقصدوا أبا غالب ويوقعوا به وكان نازلا فى دار أبى عبد الله محمد بن على بن خلف النيرمانى لأنه برسم النيابة عن بدر بهمذان. [114] فقصدوه وكبسوا الدار وهرب من بين أيديهم وعاد إلى بروجرد. وادّعى أنّه قد نهب منه جملة كثيرة من المال الذي كان معه، وكتب إلى بدر بالصورة واستأذنه فى الاعتراض على ضياع أبى سعد ابن الفضل وأن يأخذ منها عوض ما أخذ منه. فأذن له فى ذلك واستخرج ما قدره خمسون ألف دينار. فقال أبو سعد لما بلغه الخبر: - «احسب ان يحيى بن عنبر [لرجل قاطع طريق] [1] أخذ مالي واعترض على ضياعي.» وبلغ بدرا ذلك فأحفظه. وقبض على الخطير أبى على بالرىّ فبادر أبو سعد ابن الفضل طامعا فى الوزارة وكره بدر أن يتمّ له أمره فأنفذ أبا العباس الضبّى مع أبى عيسى شاذى فى ثلاثة آلاف رجل لتقرير الوزارة له وجرى فى ذلك ما قدّمنا ذكره. وتولّى النظر أبو سعد ابن الفضل فأقام عليه سنتين ثم وقف أمره وشغب الجند عليه. فهرب وقيل إنّه دلّى فى هربه فى زبيل من سطح دار وقصد بدر بن حسنويه فما شعر به حتى حصل بالكرج [2] وتمّم إليه الى سابور خواست   [1] . من مد. [2] . وفى الأصل: بالكرخ (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 فأحسن تقبّله وأكرم منزله وحمل اليه ثلاثمائة رأس غنما وأصنافا كثيرة فيها حمل سكر أبيض ولم يكن حمل مثل ذلك إلى أبى العباس الضبّى، لأنّه علم أنّ أبا سعد واسع المروءة كثير التجمل، ووصل إليه من هذا المحمول ما وصل، فما انقضى يومه حتى فرّقه واستعمله. وأقام عنده أياما ثم صار إلى بروجرد. قال القاضي أبو العباس: فتأخر أبو العباس الضبّى عن استقباله واحتج بنقرس كان عرض له وأنفذ أبا القاسم سعيدا ابنه للنيابة عنه فى قضاء حقه وخرجت معه فسلم كل واحد من ابن أبى العباس وأبى سعد على صاحبه وسارا [115] داخلين إلى البلد فتقدم عليه ابن أبى العباس. فلما كان فى آخر ذلك اليوم ركب إليه أبو العباس الضبّى فى محفّة، ودخل داره وهو يخرج من بيت الماء ويشدّ سراويله، وتلقاه وقبّل صدره فى المحفّة وخاطبه أبو العباس بالوزير وقد كان أبو سعد كاتب أبا العباس من الرىّ عند وزارته وخاطبه بالأستاذ الرئيس. فلما التقيا هذا الالتقاء اعتمد أبو العباس فى خطابه بالوزارة أن يعلمه ان الصرف لا يزيل اسمه من الوزارة. ولم يجتمعا بعد هذه الدفعة. وفى هذه السنة أنشأ مهذب الدولة داره بالصليق فوسّع صحنها وعظّم أبنيتا وكبّر مجالسها وسلك مسالك الملوك فيها ونقل إليها من الآلات والساج الشيء الكثير. فجاءت أحسن دار وأفخمها وأجلها وأعظمها. وقد رأيتها فى أيامه وكانت من أبنية الملوك وذوى الهمم الكبيرة منهم، وما شاهدت صحنا كصحنها فى انفساحه واتساعه، وكانت راكبة لدجلة ولها روشن وشبابيك عليها. ونقضت هذه الدار فى سنة سبع عشرة وأربع مائة حتى قلعت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 أساساتها وجعلت دكة فى تعفّى آثارها. وكان سبب ذاك أن باع العمال فى أيام الفترة بعضها على أرباب الاقساط وطمع الجند بهذا الابتداء فأتوا على جميعها. استتار وفيها خرج أبو الحسن ابن اسحق كاتب أبى الحسن محمد بن عمر كان الى فارس على استتار. شرح الحال فى ذلك وفيما جرى عليه أمره الى أن قتل لما أصعد أبو الحسن الى بغداد مع الصاحب أبى القاسم بن مما على القاعدة التي قدمنا ذكرها بدا [116] من أمره ما كان مستورا خافيا وقبض على جماعة من التجار وصادرهم وتأول عليهم وجازفهم واعتقل الجاثليق ووكل به وبالغ فى الغضّ منه واستعمال القبيح معه. وحاول فى القبض على أبى يعقوب العلوي ما حاوله. فلما لم يتم له وعرف خبر أبى الحسن بن يحيى فى عوده الى واسط وانحلال أمر أبى نصر سابور وانتقاض قواعده استتر وخرج الى أوانا وأقام بها مديدة. ثم توصّل الى الحصول بالبطيحة وتوجّه منها الى فارس بمرقعة تعويلا على حال كانت بينه وبين أبى الخطاب. ونزل على أبى العلاء عبيد الله بن الفضل فأكرمه وشرع فى مراسلة بهاء الدولة من داره فى أمور كثر الكلام فيها عليه. فتجعد أبو العلاء منه وخاف أن يتطرق عليه سوء به وانتقل أبو الحسن عنه متغضبا عليه. وقبله بهاء الدولة واعتقد فيه تأدية الأمانة فيما يقوم له به. فأنفذه الى ناحية شق الروذان وكانت يومئذ مفردة للخاص فدبّرها وقرّر ارتفاعها وحمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 إلى بهاء الدولة منه ما قامت سوقه عنده به وثقل ذلك على أبى غالب محمد بن على وهو إذ ذاك ناظر فى الوزارة وعلى أبى الفضل ابن سودمند [1] بعده. وتوجه بهاء الدولة الى الأهواز لقتال أبى العباس بن واصل فقبض الوزير أبو غالب على أبى الحسن وحبسه فى دار المملكة مدة حتى بلغت منه الضغطة والشدة. ثم بلغ الوزير ان بهاء الدولة سأل عنه وقال ما فعل ذلك البائس ابن اسحق. فاشفق ان يكاتبه بإنفاذه الى حضرته فاحتال عليه بان استدعاه من محبسه [117] وخلا به وقال له: - «قد استولى أبو غالب الحسن بن منصور [2] على كرمان واستأكل أموالها ومنعني مما كنت أرجو حصوله منها وعملت على أن أخرجك إليها كالمقرّر لارتفاعها. فإذا ثبتت قدمك واستقرت الدار بك قلّدتك وسلّمت أبا غالب إليك لتستقصى أمره وترتجع منه ما أخذه واحتجنه. وأعلم أن المحنة قد بلغت منك وأنك محتاج إلى ما تعيد به تجملك وقد وقّعت لك الى أبى عبد الله بن يوسف الفسوي بعشرين ألف درهم تصرفها فى ذلك وينبغي أن تسبقني الى فسا وتستوفى هذا المال وتبتاع به رحلا وبهائم. فإننى سأتبعك إلى هناك وأقرر ما بيني وبينك وأنفذك.» وحمل اليه ثيابا من خزانته ونفقة. فاغترّ أبو الحسن وقدر هذا القول حقا وما وراءه من الاعتقاد سليما.   [1] . والمثبت فى مد: سودمنذ (بالذال المعجمة) . [2] . هو السيرافي ذو السعادتين الوزير. وفى تاريخ الإسلام انه تصرف بالأهواز وخرج الى شيراز وصحب فخر الملك فاستخلفه ببغداد ثم توجه الى فارس للنظر فى الممالك بحضرة سلطان الدولة فناخسرو وخلف الوزير جعفر بن محمد (بن فسانجس) فلما قبض السلطان على جعفر ولاه الوزارة. وفى آخر أمره وقع خلف بين الجيش فقتلوا أبا غالب فى صفر سنة 413 (مد) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 وواقف قوما من الزطّ على اتباعه والفتك به. فمضوا واعترضوا القافلة التي كان فيها ومعهم من يعرف أبا الحسن. فلما بصر به دلّهم عليه فأرجلوه من دابته وقالوا له: - «أنت قريب الوزير ولنا عنده رهائن ونحن نأخذك ونعتقلك الى أن يفرج عنهم.» وعدلوا به عن الطريق الى بعض الشعاب وذبحوه وخلوا عن القافلة ولم يعرضوا لها. وكان أحمد حاجب ابن اسحق معه فأطلع على باطن القصة وتحدّث به وبلغ الوزير أبا غالب فحاول [1] فخاف أن يتصل ببهاء الدولة من جهته فأحضره ووعده الجميل ومعاملته به وأطلق له نفقة سابغة وكان يراعيه مدة كونه بفارس. وهذا الخبر أرويه عن أبى عبد الله الفسوي وحدّثنى معه أنه بلغ من [118] مراعاة بهاء الدولة لأمر ابن اسحق وعنايته به أن أنفذ إليه بأحد خواصه من الفراشين وقد هنجم غلمان الخيول بشيراز وكانوا ألفا ومائتي غلام، وانضاف إليهم الخارجون عن الدار وقال له: - «احرس نفسك من أبى غالب ابن خلف واحذر ان يتم له عليك حيلة. وَكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً» 33: 38. [2] سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة أولها يوم الإثنين والتاسع من تشرين الثاني سنة أربع عشرة وثلاثمائة   [1] . لعله زائد. [2] . س 33 الأحزاب: 38. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 وألف للإسكندر وروز مار إسفند من ماه آبان [1] سنة احدى وسبعين وثلاثمائة ليزدجرد. منع عميد الجيوش أهل الكرخ وباب الطاق فى عاشوراء من النوح فى المشاهد وتعليق المسوح فى الأسواق. فامتنعوا. ومنع أهل باب البصرة وباب الشعير من مثل ذلك فيما نسبوه إلى مقتل مصعب بن الزبير. وفى رشن من ماه آذر الواقع يوم الخميس لخمس بقين من المحرم قبض على أبى غالب محمد بن على بن خلف وتقلد الوزارة أبو الفضل محمد بن القاسم بن سودمند فى روز خرداد من ماه ... [2] الواقع فى يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الاول. ذكر حال أبى الفضل وما جرى عليه الأمر فى تقليده أبو الفضل هذا أحد الكتاب الذين وردوا العراق من فارس مع أبى منصور بن صالحان فى أيام شرف الدولة وكان يكتب بين يديه فى جملة كتّاب الإنشاء. ثم قلّده عمالة عكبرا وانتقل منها إلى النظر فى بعض الأعمال بالأهواز [119] وتدرجت به الأحوال بعد ذلك الى أن تقلد عرض الديلم وتقدم فى أيام الموفق وخرج بعد وفاته الى كرمان على ما قدمنا ذكره. ولما عاد الوزير أبو غالب بن خلف من سيراف وعرف عوده من كرمان بعد أن فعل فى تقرير أمورها ما فعله وحمل إلى الخزانة من مالها ما حمله ووقوع ذلك من بهاء الدولة موقعه وتأكد حاله عنده به وموضعه، شقّ عليه   [1] . آبان: الشهر الثامن من شهور السنة الشمسية الإيرانية. [2] . بياض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 أمره وأغراه المفسدون به. فقبض عليه ونكبه واضطره إلى التبذل والتسلّم فى تصحيح ما قرره عليه وطالبه به. وخرج من النكبة، فكتب الى بهاء الدولة رقعة جعل سفيره ووسيطه فيها الحسين المزين وامرأته وسعى بالوزير أبى غالب وبذل فيه بذلا كثيرا. وقد كان تحصل فى نفس بهاء الدولة منه ما تكلم عليه به فى أمر تركة الفرّخان وما أخذه منها فأجابه إلى ما أراده ووافقه على القبض عليه، فسلّمه النظر فى الأمور بعده. فلمّا كان فى يوم القبض دخل أبو الفضل دار الوزير أبى غالب بقميصين ورداء على زىّ المتعطلين والمنكوبين وحضر مجلسه وخدمه ثم خرج من بين يديه وقعد فى الدهليز. وكان قد رتّب أمر القبض من الليل وواقف كل رجل من أصحابه على أخذ كل واحد من أصحاب الوزير أبى غالب فقبض عليه وعلى حواشيه وأصحابه وألزم الجماعة من المصادرة على قدر حاله وموجب تصرفه، وقرر على أبى غالب مائة ألف دينار قاسانية قيمتها أربعة آلاف ألف درهم من نقد الوقت وجدّ به فى الأداء والتصحيح جدّا. فخرج فيه إلى بعض العسف والإرهاق من غير أن يمكنه .... [1]   الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528