الكتاب: علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع المؤلف: عبد الوهاب خلاف (المتوفى: 1375هـ) الناشر: مطبعة المدني «المؤسسة السعودية بمصر» عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع ط المدني عبد الوهاب خلاف الكتاب: علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع المؤلف: عبد الوهاب خلاف (المتوفى: 1375هـ) الناشر: مطبعة المدني «المؤسسة السعودية بمصر» عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] لمحة عن حياة المؤلف : - ولد الفقيد في شهر مارس سنة 1888 ببلده كفر الزيات. - التحق بالأزهر الشريف سنة 1900 بعد أن حفظ القرآن الكريم في أحد "كتاتيب" البلدة. - انتظم في سلك طلبة مدرسة القضاء الشرعي إثر افتتاحها وتخرج فيها عام 1915 وعين مدرسا بها في نفس السنة. - اشترك في ثورة 1919 فبرزت خلالها مواهبه الخطابية والكتابية وترك المدرسة، أو أجبر على تركها فانتقل إلى القضاء الشرعي. - عين قاضيا بالمحاكم الشرعية سنة 1920 ثم نقل مديرا للمساجد بوزارة الأوقاف سنة 1924 وبقي بها حتى عين مفتشا بالمحاكم الشرعية في منتصف سنة 1931. - انتدبته كلية الحقوق جامعة القاهرة مدرسا بها في أوائل سنة 1934 وبقي أستاذا لكرسي الشريعة الإسلامية حتى إحالته إلى المعاش سنة 1948، وقد ظلت تمد مدة خدمته حتى بداية عام 55-1956 حيث أقعده المرض عن إلقاء المحاضرات. - زار كثيرا من دول الوطن العربي للاطلاع على المخطوطات النادرة وإلقاء المحاضرات، فكان سفيرا ناجحا لمصر في كل مكان. - انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية فأشرف على وضع معجم القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 - ترك للشريعة الإسلامية ثروة من المؤلفات امتازت بوضوح العبارة وجلاء الأحكام، فله كتاب "أصول الفقه" و"كتاب أحكام الأحوال الشخصية" وشرح واف لقانوني "الوقف والمواريث" وكتاب فريد عن "السياسة الشرعية" أو السلطات الثلاث في الإسلام، وكتيب في تفسير القرآن الكريم بعنوان "نور من الإسلام" وهذا عدا ما دبجه من بحوث ومقالات كثيرة نشرها في مجلة القضاء الشرعي، ومجلة الأحكام ومجلة لواء الإسلام ومجلتي الثقافة والرسالة. - ألقى مجموعة من الأحاديث من منبر الإذاعة المصرية في مختلف الموضوعات العلمية والدينية والاجتماعية وأخصها "من قصص القرآن". - ألقى مجموعة من المحاضرات في المناسبات الدينية والاجتماعية كما ألقى سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لعدة سنوات بدار الحكمة. - وأخيرا طواه الموت وشيع جثمانه الطاهر إلى مقره الأخير بمقابر الغفير صباح الجمعة 20/ 1/ 1956 تغمده الله برحمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الكتاب الأول: علم أصول الفقه بسم الله الرحمن الرحيم الطبعة السابعة : افتتاحية الطبعة السابعة : الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعث بالشريعة السمحة رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا كتاب "علم أصول الفقه" للمرحوم الأستاذ الجليل الشيخ عبد الوهاب خلاف، نقدم أول طبعة له بعد أن انتقل إلى رحمة الله إلى الرفيق الأعلى، ولقد ورد في الأثر النبوي الصحيح أن النبي -صل الله عليه وسلم- قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له"، وإن كتاب أصول الفقه الذي نقدمه إلى تلاميذه هو بلا ريب علم ينتفع به فهو عمل مستمر له ثوابه إلى يوم القيامة. ولقد كنت قد اعتزمت أن أكتب كتابا في الأصول لطلبة الكلية ألتزم فيه المنهاج الذي رسمته لنفسي، ولكن ما إن أخذت الأهبة وبدأت أكتب حتى ساورتني فكرة وهي أن أترك القلم لنعيد طبع كتاب المرحوم أستاذنا خلاف، وألحت على هذه الفكرة فذاكرت فيها الصديقين الكريمين الأستاذ عبد الفتاح القاضي والأستاذ علي الخفيف، فاتفق ثلاثتنا على أن نعيد الطبع إحياء لذكرى الراحل الكريم. وها هي ذي طبعة الذكرى نقدمها لتلاميذ الفقيد الكريم ولمحبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 علمه، ولقد رأينا نحن الثلاثة أيضا أن تكون هذه الطبعة صورة صادقة لتفكير كاتب الكتاب فتكون الذكرى كاملة، ولذلك لم نتزيد على الكتاب بزيادة ولم ننقص منه عبارة ولم نعد فيه رأيا ليقرأ القارئ في هذه الطبعة الأستاذ كما قرأه في الطبعات السابقة، فلا تتغير إلا فيما عساه يكون من تصحيف جرى في الطبع في النسخ السابقة. وإننا نحن الذين زاملنا الأستاذ وعاشرناه أكثر من عشرين سنة نحس أن فراغا هائلا قد تركه، وهكذا كل رجالات العلم الذين لهم كيان فكري مستقل قد اختصوا به ومنهاج علمي لم يكونوا فيه مقلدين قد التزموه. فرحمه الله وأثابه وجزاه عن العلم والأخلاق خيرا. 8 صفر 1376 13 سبتمبر 1956 محمد أبو زهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فاتحة طبعة سنة 1947 : الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى رسل الله أجمعين ومن اعتصموا بحبلهم المتين. أما بعد، فإن علم أصول الفقه لا يستغني عنه مجتهد في تبيينه النصوص وتقنينه فيما لا نص فيه، ولا قاض في فهمه مواد القانون حق فهمها، وتطبيقها التطبيق الذي يحقق العدل وما قصده الشارع بها، ولا فقيه في بحثه ودرسه وتحليله ومقارنته بين المذاهب والآراء. وأحمد اله الذي أمدني بمعونته وهدايته، فأخرجت كتابا في هذا العلم ذلل صعبة وقرب تناوله. ووفقني إلى أن أصوغ مسائله في قواعد كلية، وأن أورد أمثلتها التطبيقية من النصوص الشرعية ومن موارد القوانين الوضعية، وأن أقارن بين كثير من بحوثه وما يقابلها من بحثو علم أصول القوانين. ولقد لقي كتابي والحمد لله من حسن القبول والتقدير ما شجعني على أن أعيد طبعه بعد أن أضفت إليه بحوثا جديدة، وزدته تهذيبا وتنقيحا وإيضاحا. وأسأل الله أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه. القاهرة في: رجب سنة 1366. يوليو سنة 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فاتحة طبعة سنة 1942 : الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله الذي بعثه الله بشريعة محكمة حنيفية سمحة، أساسها اليسر بالناس ورفع الحرج عنهم، وغايتها تحقيق مصالحهم والعدل بينهم، وعلى آله وصحبه الذي خلفوه في حراسة شريعته، وهداية أمته، وكانوا تماما لنوره، ودعاة إلى هداه. أما بعد: فإن المجتهدين من أئمة المسلمين بذلوا أقصى جهودهم العقلية في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها، واستخرجوا من نصوص الشريعة وروحها ومعقولها كنوزا تشريعية ثمينة، كفلت مصالح المسلمين على اختلاف أجناسهم ونظمهم ومعاملاتهم، ولم تضق بحاجة من حاجتهم، بل كان فيها تشريع لأقضية لم تحدث، ووقائع فرضية، وهذه موسوعات الفقه آيات تنطق بما بذلوه من جهد، وما كان حليفهم من توفيق. ولم يكتفوا بما استمدوه من أحكام وما سنوه من قوانين، بل عنوا بوضع قواعد للاستمداد، وقوانين لاستنباط، وكونوا من مجموعة هذه القواعد علم أصول الفقه، وكأنهم رحمهم الله بصنيعهم هذا أشاروا إلى خلفهم ألا يركنوا إلى اجتهادهم، وأن يجتهدوا كما اجتهدوا، وبينوا كما بنوا، فإن الأقضية تحدث والمصالح تتغير ومصادر الشريعة معين لا ينضب ومنهل عذب لكل وارد، وفضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا كتابي في علم أصول الفقه قصدت به إحياء هذا العلم، وإلقاء الضوء على بحوثه، وراعيت في عباراته الإيجاز والإيضاح، وفي بحوثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وموضوعاته الاقتصار على ما تمس إليه الحاجة في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها وفهم الأحكام القانونية من مواردها، وعنيت بأن تكون الأمثلة التطبيقية للقواعد الأصولية من نصوص الشريعة ومن موارد القوانين الوضعية، وأشرت في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول التقنين الشرعي وأصول التقنين الوضعي، وقسمته إلى مقدمة وأربعة أقسام. فالمقدمة: في مقارنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه يتبين منها التعريف بهما، وموضوعهما والغاية من دراستهما، ونشأة كل منهما وتطوره ليكون الشروع في علم أصول الفقه على بصيرة به. والقسم الأول: في الأدلة التي تستمد منها الأحكام الشرعية، وفي هذا القسم تتجلى سعة المصادر التشريعية في الشريعة الإسلامية ومرونتها وخصوبتها وصلاحيتها للتقنين في كل عصر ولكل أمة. والقسم الثاني: في مباحث الأحكام الشرعية الأربعة، وفي هذا القسم تظهر أنواع ما شرع في الإسلام من الأحكام، ويتجلى عدل الله ورحمته في رفع الحرج عن المكلفين وإرادة اليسر بهم. والقسم الثالث: في قواعد الأصولية اللغوية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها، وفي هذا القسم تظهر دقة اللغة العربية في دلالتها على المعاني ومهارة علماء التشريع الإسلامي في استثمارهم الأحاكم من النصوص، وسبلهم القويمة في إزالة خفائها وفي تفسيرها وتأوليها. والقسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها. وفي الاستنباط فيما لا نص فيه. وهذا هو لب العلم وروحه. وفيه يتجلى مقصد الشارع العام من تشريع الأحكام، وما أنعم الله به على عباده من رعاية مصالحهم. وأسأل أن يتقبل كتابي هذا بقبول حسن، وأن يجعله خالصا لوجهه. القاهرة في: 10 رمضان 1366 21 سبتمبر 1947 عبد الوهاب خلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 مقدمة : في موازنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه من حيث التعريف بكل منهما. وبيان موضوعه، وغايته، ونشأته، وتطوره. التعريف: من المتفق عليه بين العلماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم أن كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال سواء أكان من العبادات، أم المعاملات أم الجرائم أم الأحوال الشخصية، أم من أي نوع من أنواع العقود أو التصرفات له في الشريعة الإسلامية حكم، وهذه الأحكام بعضها بينتها نصوص وردت في القرآن أو السنة، وبعضها لم ينتبها نصوص في القرآن والسنة، ولكن أقامت الشريعة دلائل عليها ونصبت أمارات لها بحيث يستطيع المجتهد بواسطة تلك الدلائل والأمارات أن يصل إليها ويتبينها. ومن مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، المستفادة من النصوص فيما وردت فيه نصوص والمستنبطة من الدلائل الشرعية الأخرى فيما لم ترد فيه نصوص تكون الفقه. فعلم الفقه في الاصطلاح الشرعي: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة من الأحكام الشرعية العلمية المستفادة من أدلتها التفصيلية. وقد ثبت للعلماء بالاستقراء أن الأدلة التي تستفاد منها الأحكام الشرعية العملية ترجع إلى أربعة، القرآن والسنة والإجماع والقياس. وأن أساس هذه الأدلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والمصدر التشريعي الأول منها هو القرآن ثم السنة التي فسرت مجمله وخصصت عامة، وقيدت مطلقه وكانت تبيانا له وتماما. ولهذا بحثوا في كل دليل من هذه الأدلة وفي البرهان على أنه حجة على الناس، ومصدر تشريعي يلزمهم اتباع أحكامه، وفي شروط الاستدلال به، وفي أنواعه الكلية وفيما يدل عليه كل نوع منها من الأحكام الشرعية الكلية. وبحثوا أيضا في الأحكام الشرعية الكلية التي تستفاد من تلك الأدلة وفيما يتوصل به إلى فهمها من النصوص، وإلى استنباطها من غير النصوص من قواعد لغوية وتشريعية. وبحثوا أيضا فيمن يتوصل إلى استمداد الأحكام من أدلتها وهو المجتهد فبينوا الاجتهاد وشروطه والتقليد وحكمه. ومن مجموعة هذه القواعد والبحوث المتعلقة بالأدلة الشرعية من حيث دلالتها على الأحكام. وبالأحكام من حيث استفادتها من أدلتها ومما يتعلق بهذين من اللواحات، والمتممات تكونت أصول الفقه. فعلم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي، هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى الاستفادة من الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. أو هي مجموعة القواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. الموضوع: موضوع البحث في علم الفقه هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية: فالفقيه يبحث في بيع الملكف وإجارته، ورهنه وتوكيله وصلاته وصومه وحجه وقتله وقذفه، وسرقته وإقراره ووقفه لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال. وأما موضوع البحث في علم أصول الفقه، فهو الدليل الشرعي الكلي من حيث ما يثبت به من الأحكام الكلية، فالأصولي يبحث في القياس وحجيته. والعام وما يقيده، والأمر ما يدل عليه، وهكذا. وإيضاحا لهذا أضرب المثل الآتي: القرآن هو الدليل الشرعي الأول على الأحكام. ونصوصه التشريعية لم ترد على حال واحدة بل منها ما ورد بصيغة الأمر، ومنها ما ورد بصيغة النهي، ومنها ما ورد بصيغة العموم أو بصيغة الإطلاق. فصيغة الأمر، وصيغة النهي، وصيغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 العموم وصيغة الإطلاق، أنواع كلية من أنواع الدليل الشرعي العام. وهو القرآن. فالأصولي يبحث في كل نوع من هذه الأنواع ليتوصل إلى نوع الحكم الكيل الذي يدل عليه مستعينا في بحثه باستقراء الأساليب العربية والاستعمالات الشرعية. فإذا وصل ببحثه إلى أن صيغة الأمر تدل على الإيجاب وصيغة النهي تدل على التحريم، وصيغة العموم تدل على شمول جميع أفراد العام قطعا. وصيغة الإطلاق تدل على ثبوت الحكم مطلقا وضع القواعد الآتية: الأمر للإيجاب، النهي للتحريم، العام ينتظم جميع أفراده قطعا، المطلق يدل على الفرد الشائع بغير قيد. وهذه القواعد الكلية وغيرها مما يتوصل الأصولي ببحثه إلى وضعها يأخذها الفقيه قواعد مسلمة ويطبقها على جزئيات الدليل الكلي ليتوصل بها إلى الحكم الشرعي العملي التفصيلي، فيطبق قاعدة: الأمر للإيجاب على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ويحكم على الإيفاء بالعقود بأنه واجب. ويطبق قاعدة: النهي للتحريم على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} ويحكم بأن سخرية قوم من قوم محرمة. ويطبق قاعدة: العام ينتظم جميع أفراده قطعا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ويحكم بأن كل أم محرمة. ويطبق قاعدة المطلق يدل على أي فرد على قوله تعالى في كفارة الظهار {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ويحكم بأنه يجزئ في التكفير أية رقبة مسلمة أو غير مسلمة. ومن هذا يتبين الفرق بين الدليل الكلي والدليل الجزئي. وبين الحكم الكلي والحكم الجزئي. فالدليل الكلي هو النوع العام من الأدلة الذي تندرج فيه عدة جزئيات مثل الأمر والنهي، والعام والمطلق، والإجماع الصريح والإجماع السكوتي، والقياس المنصوص على علته والقياس المستنبطة علته. فالأمر يندرج تحته جميع الصيغ التي وردت بصيغة الأمر، والنهي. فالأمر دليل كلي والنص الذي ورد على صيغة الأمر دليل جزئي. والنهي دليل كلي، والنص الذي ورد على صيغة النهي دليل جزئي. وأما الحكم الكلي فهو النوع العام من الأحكام التي تندرج فيه عدة جزئيات مثل الإيجاب والتحريم والصحة والبطلان، فالإيجاب حكم كلي يندرج فيه إيجاب الوفاء بالعقود وإيجاب الشهود في الزواج وإيجاب أي واجب، والتحريم حكم كلي يندرج فيه تحريم الزنا والسرقة وتحريم أي محرم، وهكذا الصحة والبطلان فالإيجاب حكم كلي، وإيجاب فعل معين حكم جزئي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 والأصولي لا يبحث في الأدلة الجزئية، ولا فيما تدل عليه من الأحكام الجزئية. وإنما يبحث في الدليل الكلي، وما يدل عليه من حكم كلي ليضع قواعد كلية لدلالة الأدلة كي يطبقها الفقيه على جزئيات الأدلة لاستثمار الحكم التفصيلي منها. والفقيه لا يبحث في الأدلة الكلية ولا فيما يدل عليه من أحكام كلية، وإنما يبحث في الدليل الجزئي وما يدل عليه من حكم جزئي. الغاية المقصودة بهما: الغاية المقصودة من علم الفقه هي تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم. فالفقه هو مرجع القاضي في قضائه والمفتي في فتواه ومرجع كل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال. وهذه هي الغاية المقصودة من كل القوانين في أية أمة، فإنها لا يقصد منها إلا تطبيق موادها وأحكامها على أفعال الناس، وأقوالهم وتعريف كل مكلف بما يجب عليه وما يحرم عليه. وأما الغية المقصودة من علم أصول الفقه فهي تطبيق قواعده ونظرياته على الأدلة التفصيلية للتوصل إلى الأحكام الشرعية التي تدل عليها. فبقواعده وبحوثه تفهم النصوص الشرعية ويعرف ما تدل عليه من الأحكام ويعرف ما يزال به خفاء الخفي منها. وما يرجع منها عند تعارض بعضها ببعض، وبقواعده وبحوثه يستنبط الحكم بالقياس أو الاستحسان أو الاستصحاب، أو غيرها في الواقعة التي لم يرد نص بحكمها، وبقواعده وبحوثه يفهم ما استنبطه الأئمة المجتهدون حق فهمه. ويوازن بين مذاهبهم المختلفة في حكم الواقعة الواحدة؛ لأن فهم الحكم على وجهه والموازنة بين حكمين مختلفين لا يكون إلا بالوقوف على دليل الحكم ووجه استمداد الحكم من دليل، ولا يكون هذا إلا بعلم أصول الفقه فهو عماد الفقه المقارن. نشأة كل منهما وتطوره: نشأت أحكام الفقه مع نشأة الإسلام؛ لأن الإسلام هو مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام العملية، وقد كانت هذه الأحكام العملية في عهد الرسول مكونة من الأحكام التي وردت في القرآن. ومن الأحكام التي صدرت من الرسول فتوى في واقعة أو قضاء في خصومة أو جوابا عن سؤال، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الأول مكونة من أحكام الله ورسوله، ومصدرها القرآن والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع وطرأت لهم طوائ لم تواجه المسلمين، ولم تطرأ في عهد الرسول، فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقضوا وأفتوا وشرعوا، وأضافوا إلى المجموعة الأولى عدة أحكام استنبطوها باجتهادهم، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثاني مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم. ومصادرها القرآن والسنة. واجتهاد الصحابة -وفي هذين الطورين لم تدون هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلا من الواقع وما وقع من حوادث. ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية، ولم تسم هذه المجموعة علم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة الفقهاء. وفي عهد التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين، وهو بالتقريب القرنان الهجريان الثاني، والثالث اتسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام كثيرون من غير العرب. وواجهت المسلمين طارئ ومشاكل وبحوث ونظريات، وحركة عمرانية وعقلية حملت المجتهدين على السعة في الاجتهاد والتشريع لكثير من الوقائع، وفتحت لهم أبوابا من البحث والنظر، فاتسع ميدان التشريع للأحكام الفقهية وشرعت أحكام كثيرة لوقائع فرضية، وأضيفت إلى المجموعتين السابقتين أحكام كثيرة فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثالث مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى المجتهدين واستنباطهم ومصادرها القرآن والسنة، واجتهاد الصحابة والأئمة المجتهدين. وفي هذا العهد بدئ بتدوين هذه الأحكام مع البدء بتدوين السنة، واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية؛ لأنها ذكرت معها أدلتها وعللها والأصول العامة التي تتفرع عنها. وسمى جالها الفقهاء وسمى العلم بها علم الفقه. ومن أول ما دون فيها فيما وصل إلينا "الموطأ" للإمام مالك بن أنس، فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم، فكان حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين، ثم دون الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عدة كتب في الفقه هي أساس فقه العراقيين، ودون الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي جمعها الحاكم الشهيد في كتابه "الكافي"، وشرحه السرخسي في كتابه "المبسوط" وهي مرجع فقه المذهب الحنفي، وأملى الإمام محمد بن إدريس الشافعي بمصر كتابه "الأم" وهو عماد فقه المذهب الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أما علم أصول الفقه فلم ينشأ إلا في القرن الثاني الهجري؛ لأنه في القرن الهجري الأول لم تدع حاجة إليه، فالرسول كان يفتي ويقضي بما يوحي به إليه ربه من القرآن، وبما يلهم به من السنن. وبما يؤديه إليه اجتهاده الفطري من غير حاجة إلى أصول وقواعد يتوصل بها إلى الاستنباط والاجتهاد، وأصحابه كانوا يفتون ويقضون بالنصوص التي يفهمونها بملكتهم العربية السليمة من غير حاجة إلى قواعد لغوية يهتدون بها إلى فهم النصوص. ويستنبطون فيما لا نص فيه بملكتهم التشريعية التي ركزت في نفوسهم من صحبتهم الرسول. ووقوفهم على أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وفهمهم مقاصد الشارع ومبادئ التشريع، ولكن لما اتسعت الفتوح الإسلامية واختلط العرب العرب بغيرهم، وتشافهوا وتكاتبوا ودخل في العربية كثير من المفردات والأساليب غير العربية ولم تبق الملكة اللسانية على سلامتها وكثرت الاشتباهات والاحتمالات في فهم النصوص -دعت الحاجة إلى وضع ضوابط وقواعد لغوية يقتدر بها على فهم النصوص كما يفهمها العربي الذي وردت النصوص بلغته. كما دعت إلى وضع قواعد نحوية يقتدر بها على صحة النطق. وكذلك لما بعد العهد بفجر التشريع، واحتدام الجدال بين أهل الحديث وأهل الرأي، واجترأ بعض ذوي الأهواء على الاحتجاج بما لا يحتج به وإنكار بعض ما يحتج به، دعا كل هذا إلى وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية وشروط الاستدلال بها وكيفية الاستدلال بها، ومن مجموعة هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللغوية تكون علم أصول الفقه. ولكنه بدأ صغيرًا كما يوجد كل مولود أول نشأته ثم تدرج في النمو حتى بلغت أسفاره المائتين، بدأ منثورًا مفرقا من خلال أحكام الفقه؛ لأن كل مجتهد من الأئمة الأربعة وغيرهم كان يشير إلى دليل حكمه ووجه استدلاله به، وكل مخالف كان يحتج على مخالفة بوجوه من الحجج. وكل هذه الاستدلالات والاحتجاجات تنطوي على ضوابط أصولية. وأول من جمع هذه هذه المتفرقات مجموعة مستقلة في سفر على حدة، الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكر ابن النديم في الفهرست ولكن لم يصل إلينا ما كتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وأول من دون من قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان، ووجهه النظر فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 للهجرة. فقد كتب فيه رسالته1 الأصولية التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدون في هذا العلم وصل إلينا فيما نعلم، ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء أن واضع أصول علم أصول الفقه هو الإمام الشافعي. وتتابع العلماء على التأليف في هذا العلم بين إسهاب وإيجاز. وقد سلك علماء الكلام طريقا في التأليف في هذا العلم، وسلك علماء الحنفية طريقًا آخر في التأليف فيه. فأما علماء الكلام فتمتاز طريقتهم بأنهم حققوا قواعد هذا العلم وبحوثه تحقيقا منطقيا نظريا وأثبتوا ما أيده البرهان، ولم يجعلوا وجهتهم انطباق هذه القواعد على ما استنبطه الأئمة المجتهدون من الأحكام ولا ربطها بتلك الفروع، فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أم خالفها. ومن هؤلاء أكثر الأصوليين من الشافعية والمالكية. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة كتاب المستصفى لأبي حامد الغزالي الشافعي المتوفى سنة 505، وكتاب الأحكام لأبي حسن الآمدي الشافعي المتوفى سنة 685هـ، وأحسن شروحه شرح الأسنوي. وأما علماء الحنفية فتمتاز طريقته بأنهم وضعوا القواعد، والبحوث الأصولية التي رأوا أن أئمتهم بنوا عليها اجتهادهم، فهم لا يثبتون قواعد عملية تفرعت عنها أحكام أئمتهم. ورائدهم في تحقيق هذه القواعد الأحكام التي استنبطها أئمتهم بناء عليها لا مجرد البرهان النظري. ولهذا أكثروا في كتبهم من ذكر الفروع. صاغوا في بعض الأحيان القواعد الأصولية على ما يتفق وهذه الفروع، فكانت وجهتهم استمداد أصول فقه أئمتهم من فروعهم. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة أصول أبي زيد الدبوسي المتوفى سنة 430هـ. وأصول فجر الإسلام البزدوي المتوفى سنة 430هـ. وكتاب المنار للحفظ النسفي المتوفى سنة 790هـ، وأحسن شروحه مشكاة الأنوار.   1 هذه الرسالة مطبوعة بالمطبعة الأميرية ومطبوعة بالمطبعة الحلبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقد سلك بعض العلماء في التأليف في هذا العلم طريقا جامعًا بين الطريقتين السابقتين فعنى بتحقيق القواعد الأصولية وإقامة البراهين عليها. وعنى كذلك بتطبيقها على الفروع الفقهية وربطها بها. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة المزدوجة كتاب بديع النظام الجامع بين البزدوي والأحكام لمظفر الدين البغدادي الحنفي المتوفى سنة 694هـ، وكتاب التوضيح لصدر الشريعة، والتحرير للكامل بن الهمام. وجمع الجوامع لابن السبكي. ومن المؤلفات الحديثة الموجزة المفيدة في هذا العلم: - كتاب "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" للإمام الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ. - وكتاب "أصول الفقه" للمرحوم الشيخ محمد الخضري بك المتوفى سنة 1927م. - وكتاب "تسهيل الوصول إلى علم الأصول" للمرحوم الشيخ محمد عبد الرحمن عيد المحلاوي المتوفى سنة 1920م. ونحمد الله الذي وفقنا إلى الاطلاع على الكثير من هذه الكتب، وهدانا إلى هذه الخلاصة الوافية التي بينا فيها مصادر التشريع الإسلامي أجلى بيان وكشفنا عن مرونتها وخصوبتها وسعتها. وبينا فيها مباحث الأحكام بيانا قرب فهمها وجلى حكمة الشارع فيما شرعه. وصغنا فيها البحوث اللغوية والتشريعية بصيغة القواعد ليسهل فهمها وتطبيقها، وراعينا في الأمثلة التطبيقية أن تكون من النصوص الشرعية، ومن قوانيننا الوضعية ليعرف كيف ينتفع عملا بهذا العلم، وأشرنا في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول الأحكام الشرعية وأصول القوانين الوضعية ليتبين أن مقصد الاثنين واحد وهو الوصول إلى فهم الأحكام من نصوصها فهما صحيحا، وتحقيق مقاصد الشارع مما شرعه، وتأمين نصوص القوانين من العبث بها، وأهم ما ألفت النظر إليه أن بحوث علم أصول الفقه، وقواعده ليست بحوثا وقواعد تعبدية، وإنما هي أدوات ووسائل يستعين بها المشرع على مراعاة المصلحة العامة، والوقوف عند الحد الإلهي في تشريعه. ويستعين بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 القاضي في تحري العدل في قضائه وتطبيق القانون على وجهه. فهي ليست خاصة بالنصوص الشرعية والأحكم الشرعية. تنبيه: تعريف العلم، وموضوعه، وغايته، ومنشؤه، ونسبته إلى سائر العلوم. ووضعه وحكم الشرع فيه، ومسائله، هذه كلها تسمى مبادئ العلم. وهي تكون للعلم صورة إجمالية تجعل من يشرع في دراسته ملمًّا به. ولهذا اعتاد المؤلفون أن يقدموا مؤلفهم في العلم بمقدمة في بيان مبادئه. وقد ألف كثير من العلماء رسائل خاصة في مبادئ العلوم، ومنها رسالة مطبوعة صغيرة الحجم كبيرة الفائدة للمرحوم الشيخ علي رجب الصالحي اسمها تحقيق مبادئ العلوم الأحد عشر. وابن خلدون في المقدمة كتب في القسم الأخير منها فصولا ممتعة في العلوم الشرعية واللغوية والعقلية، يبين فيها تعريف كل علم ونشأته وتطوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 القسم الأول: في الأدلة الشرعية مدخل ... القسم الأول: في الأدلة الشرعية تعريف الدليل: الدليل معناه في اللغة العربية: الهادي إلى أي شيء حسي أو معنوية، خير أو شر -وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فهو: ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو الظن. وأدلة الأحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة معناها واحد. وبعض الأصوليين عرف الدليل بأنه: ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع. وأما ما يستفاد منه حكم شرعي على سبيل الظن، فهو أمارة لا دليل. ولكن المشهور في اصطلاح الأصوليين أن الدليل هو ما يستفاد منه حكم شرعي عملي مطلقا، أي سواء أكان على سبيل القطع أم على سبيل الظن. ولهذا قسموا الدليل إلى قطعي الدلالة، وإلى ظني الدلالة. الأدلة الشرعية بالإجمال: ثبت بالاستقراء1 أن الأدلة الشرعية التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس، وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، واتفقوا أيضا على أنها مرتبة في الاستدلال بهذا الترتيب: القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس. أي إنه إذا عرضت واقعة، نظر أولا في القرآن، فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيه حكمها، نظر في السنة، فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها نظر هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور على حكم فيها، فإن وجد أمضى، وإن لم يوجد فيها اجتهد في الوصول إلى حكمها بقياسها على ما ورد النص بحكمه. أما البرهان على الاستدلال بها فهو قوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .   1 الاستقراء: حصر الأدلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فالأمر بإطاعة الله ورسوله، أمر باتباع القرآن والسنة، والأمر بإطاعة أولي الأمر من المسلمين أمر باتباع ما اتفقت عليه كلمة المجتهدين من الأحكام؛ لأنهم أولو الأمر التشريعي من المسلمين، والأمر برد الوقائع المتنازع فيها إلى الله والرسول أمر باتباع القياس حيث لا نص ولا إجماع؛ لأن القياس فيه رد المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول؛ لأنه إلحاق واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد النص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة الحكم، فالآية تدل على اتباع هذه الأربعة. وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها هذا الترتيب، فهو ما رواه البغوي "عن معاذ بن جبل أن رسول الله، لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء"؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله"؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله"؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، "أي لا أقصر في اجتهادي". قال: فضرب رسول الله على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله". وما رواه البغوي عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينه قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه أن يجد سنة رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به، وكذلك كان يفعل عمر"، وأقرهما على هذا كبار الصحابة ورءوس المسلمين، ولم يعرف بينهم مخالف في هذا الترتيب. وتوجد أدلة أخرى عدا هذه الأدلة الأربعة لم يتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، بل منهم من استدل بها على الحكم الشرعي، ومنهم من أنكر الاستدلال بها. وأشهر هذه الأدلة المختلفة في الاستدلال بها ستة: الاستحسان والمصلحة المرسلة، والاستصحاب، والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا. فجملة الأدلة الشرعية عشرة. أربعة متفق من جمهور المسلمين على الاستدلال بها -وستة مختلف في الاستدلال بها، وهذا تفصيل البحث فيها جميعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الدليل الأول: القرآن 1- خواصه. 2- حجيته. 3- أنواع أحكامه. 4- دلالة آياته إما قطعية وإما ظنية. خواصه: القرآن1 هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- بألفاظه العربية ومعانيه الحقة، ليكون حجة للرسول على أنه رسول الله، ودستورا يهتدون بهداه، وقربة يتعبدون بتلاوته. وهو المدون بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر كتابة ومشافهة جيلا عن جيل محفوظا من أي تغيير أو تبديل مصداق قول الله سبحانه فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فمن خواص القرآن أن ألفاظه ومعانيه من عند الله. وأن ألفاظه العربية هي التي أنزلها الله على قلب رسوله. والرسول ما كان إلا تاليا لها ومبلغا إياها. ويتفرع عن هذا ما يأتي: أ- ما ألهم الله به رسوله من المعاني ولم ينزل عليه ألفاظها بل عبر الرسول بألفاظ من عنده عما ألهم به لا يعد من القرآن ولا تثبت له أحكام القرآن، وإنما هو من أحاديث الرسول. وكذلك الأحاديث القدسية وهي الأحاديث التي قالها الرسول فيما يرويه عن ربه لا تعد من القرآن، ولا تثبت لها أحكام القرآن فلا تكون في مرتبة الحجية، ولا تصح الصلاة بها، ولا يتعبد بتلاوتها. ب- تفسير سورة أو آية بألفاظ عربية مرادفة لألفاظ القرآن دالة على ما دلت عليه ألفاظه لا يعد قرآنا مهما كان مطابقا للمفسر في دلالته؛ لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله.   1 لفظ القرآن في اللغة العربية مصدر قرأ كالغفران مصدر غفر يقال: قراءة وقرآنا، ومنه قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 جـ- ترجمة سورة أو آية بلغة أجنبية غير عربية لا تعد قرآنا مهما روعي من دقة الترجمة، وتمام مطابقتها للمترجم في دلالته؛ لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزل من عند الله. نعم لو كان تفسير القرآن أو ترجمته يتم بواسطة من يوثق بدينه وعلمه وأمانته وحذقه يسوغ أن يعتبر هذا التفسير أو هذه الترجمة بيانا لما دل عليه القرآن، ومرجعا لما جاء به ولكن لا يعتبر هو القرآن ولا تثبت له أحكامه، فلا يحتج بصيغة عبارته وعموم لفظه وإطلاقه؛ لأن ألفاظه عباراته ليست ألفاظ القرآن ولا عبارته، ولا تصح الصلاة به1 ولا يتعبد بتلاوته. ومن خواصه أنه منقول بالتواتر أي بطريق النقل الذي يفيد العلم والقطع بصحة الرواية. ويتفرع عن هذا أن بعض القراءات التي تروي بغير طريق التواتر كما يقال: وقرأ بعض الصحابة كذا لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكامه. حجيته: البرهان على أن القرآن حجة على الناس، وأن أحكامه قانون واجب عليهم ابتاعه أنه من عند الله وأنه نقل إليهم عن الله بطريق قطعي لا ريب في صحته، أما البرهان على أنه من عند الله فهو إعجازه الناس عن أن يأتوا بمثله. معنى الإعجاز وأركانه: الإعجاز: معناه في اللغة العربية نسبة العجز إلى الغير وإثباته له، يقال: أعجز الرجل أخاه إذا أثبت عجزه عن شيء. وأعجز القرآن الناس أثبت عجزهم عن أن يأتوا بمثله. ولا يتحقق الإعجاز أي إثبات العجز للغير إلا إذا توافرت أمور ثلاثة: الأول: التحدي، أي طلب المبادرة والمعارضة، والثاني: أن يوجد المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المبادرة والمنازلة والمعارضة، والثالث أن ينتفي المانع الذي يمنعه من هذه المبادرة.   1 وما نقل عن الإمام أبي حنيفة من أنه جوز قراءة القرآن في الصلاة بالفارسية لا يدل على أن الترجمة قرآة، وتثبت له أحكامه؛ لأن أبا حنيفة إنما جوز قراءة بالفارسية في الصلاة لمن لا يعرف العربية ولا يقدر على القراءة بها؛ لأنه في هذه الحال سقط عنه فرض القراءة للقرآن، فإذا قرأ بلغته فهو ذكر الله ولا مانع مه. وقد روي أن أبا حنيفة رجع عن هذا، وروي ما ذهب إليه سائر الأئمة من أن العاجز عن النطق بالعربية يصلي ساكتا، ولا يكلف بقراءة القرآن إذ لا تكليف إلا بمقدور كما يصلي قاعدا إذا عجز عن القيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فإذا ادعى رياضي أنه بطل نوع من أنواع الرياضة وأنكر عليه دعواه رياضي آخره، فتحدى مدعي البطولة من أنكر عليه وطلب منه أن يباريه أو أن يأتي بمن يباريه، وهذا المنكر مع شدة حرصه على إبطال دعوى هذا المدعي، ومع أنه ليس به أي مرض ولا له أي عذر يمنعه عن مباراته وعن الإتيان بمن يباريه لم يتقدم لمباراته ولم يأت بمن يباريه، فإن هذا اعتراف منه بالعجز وتسليم بالدعوى. والقرآن الكريم توافر فيه التحدي به. ووجد المقتضي لمن تحدوا به أن يعارضوه، وانتفى المانع لهم، ومع هذا لم يعارضوه ولم يأتوا بمثله. أما التحدي فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للناس: "إني رسول الله. وبرهاني على أني رسول الله، هذا القرآن الذي أتلوه عليكم؛ لأنه أوحي إلي به من عند الله"، فلما أنكروا عليه دعواه، قال لهم: "إن كنتم في ريب من أنه من عند الله وتبادر إلى عقولكم أنه من صنع البشر فأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله أو بسورة من مثله"، وتحداهم وطلب منهم هذه المعارضة بلهجات واخزة وألفاظ قارعة وعبارات تهكمية تستفز العزيمة وتدعو إلى المباراة، وأقسم أنهم لا يأتون بمثله ولن يفعلوا ولن يستجيبوا ولن يأتوا بمثله. قال تعالى في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} . وقال تعالى في سورة الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . وقال سبحانه في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وقال في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . وقال في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} . وأما وجود المقتضي للمباراة والمعارضة عند من تحداهم فهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ادعى أنه رسول الله وجاءهم بدين يبطل دينهم، وما وجدوا عليه آباءهم وسفه عقولهم، وسخر من أوثانهم واحتج على دعواه بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 القرآن من عند الله وتحداهم أن يأتوا بمثله، فما كان أحوجهم وأشد حرصهم على أن يأتوا بمثله كله أو بعضه ليبطلوا أنه من عند الله وليدحضوا حجة محمد على أنه رسول الله، وبهذا ينصرون آلهتهم ويدافعون عن دينهم ويجتنبون ويلات الحروب. وأما انتفاء ما يمنعهم من معارضته؛ فلأن القرآن بلسان عربي، وألفاظه من أحرف العرب الهجائية، وعباراته على أسلوب العرب، وهم من أهل البيان وفيهم ملوك الفصاحة وقادة البلاغة، وميدان سباقهم مملوء بالشعراء والخطباء والفصحاء في مختلف فنون القول. هذا من الناحية اللفظية، وأما من الناحية المعنوية فقد نطقت أشعارهم وخطبهم وحكمهم، ومناظراتهم بأنهم ناضجو العقول، ذوو بصر بالأمور وخبرة بالتجاريب، وقد دعاهم القرآن في تحديه لهم أن يستعينوا بمن شاءوا ليستكملوا ما ينقصهم ويتموا عدتهم، وفيهم الكهان وأهل الكتاب. وأما من الناحية الزمنية، فالقرآن لم ينزل جملة واحدة حتى يحتجوا بأن زمنهم لا يتسع للمعارضة بل نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة بين كل مجموعة وأخرى زمن في متسع للمعارضة والإتيان بمثلها لو كان في مقدورهم. فلا ريب أن الله سبحانه بلسان رسوله في كثير من الآيات تحدى الناس أن يأتوا بمثل القرآن، وأنهم مع شدة حرصهم وتوافر دواعيهم إلى أن يأتوا بمثله، وانتفاء ما يمنعهم لم يأتوا بمثله، ولو جاءوا بمثله وعارضوه لنصروا آلهتهم وأبطلوا حجة من سخر منهم وكفوا أنفسهم شر القتال والنضال، والغزوات عدة سنين. فالتجاؤهم إلى المحاربة بدل المعارضة، وائتمارهم على قتل الرسول بدل ائتمارهم على الإتيان بمثل قرآنه اعتراف منهم بعجزهم عن معارضته وتسليم أن هذا القرآن فوق مستوى البشري، ودليل على أنه من عند الله. وجوه إعجاز القرآن: ولكن لماذا عجزوا، وما وجوه الإعجاز؟ اتفقت كلمة العلماء على أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة، وإنما أعجزهم من نواحي متعددة، لفظية ومعنوية وروحية، تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه. واتفقت كلمتهم أيضا على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحي الإعجاز كلها، وحصرها في وجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 معدودات. وأنه كلما زاد التدبر في آيات القرآن، وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسنه، وأظهر كر السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية تجلت نواح من نواحي إعجازه، وقام البرهان على أنه من عند الله. وهذه ذكر بعض ما وصلت إليه العقول من نواحي الإعجاز: أولها: اتساق عباراته ومعانيه وأحكامه ونظرياته: تكون القرآن من ستة آلاف آية. وعبر عما قصد إلى التعبير عنه بعبارات متنوعة وأساليب شتى. وطرق وموضوعات متعددة اعتقادية وخلقية وتشريعية، وقرر نظريات كثيرة، كونية واجتماعية ووجدانية. ولا تجد في عباراته اختلافا بين بعضها والبعض. فليس أسلوب هذه الآية بليغا وأسلوب الأخرى غير بليغ، وليس هذا اللفظ فصيحا، وذاك اللفظ غير فصيح. ولا توجد عبارة أرقى مستوى في بلاغتها من عبارة، بل كل عبارة مطابقة لمقتضى الحال الذي وردت من أجله. وكل لفظ في موضوعه الذي ينبغي أن يكون فيه. كما لا تجد معنى من معانيه يعارض معنى، أو حكما يناقض حكما، أو مبدأ يهدم مبدأ، أو غرضا لا يتفق وآخر. فكما أنه لا خلاف بين عباراته وألفاظه، لا خلاف بين معانيه وأحكامه. ولا بين مبادئه ونظرياته، ولو كان صادرا من عند غير الله أفرادًا أو جماعات ما سلم من اختلاف بعض عباراته وبعض، أو اختلاف بعض معانيه وبعض؛ لأن العقل الإنساني مهما نضج وكمل لا يمكنه أن يكون ستة آلاف آية في ثلاث وعشرين سنة لا تختلف آية منها عن أخرى في مستوى بلاغتها، ولا تعارض آية منها آية أخرى فيما اشتملت عليه. وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه وتعالى بقوله في سورة النساء: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وما يوجد من اختلاف في الأسلوب بين بعض الآيات وبعض، أو اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة فليس منشؤه اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة، وإنما منشؤه اختلاف موضوع الآيات. فإذا كان الموضوع تقنينا وتبيينا لعدة المطلقة أو نصيب الوارث من الإرث أو مصرف الصدقات أو غير من الأحكام هذا لا مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الدقيقة المحددة. وإذا كان الموضوع تسفيها لعبادة الأوثان، أو بيانا لفيضان الطوفان أو استدلالا على قدرة الله، أو تذكيرا بنعمه على عباده، أو تخويفا بشدائد اليوم الآخر، فهذه فيها مجال للأسلوب الخطابي المؤثر المحرك للوجدان فاستعمال الألفاظ المحددة حيث يقتضي المقام الأسلوب الخطابي ليس من البلاغة؛ لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولكل مقام مقال. وما يوجد من تعارض ظاهري بين ما دلت عليه بعض الآيات، وما دلت عليه أخرى فقد بين المفسرون أنه ليس تعارضًا إلا فيما يظهر لغير المتأمل، وعند التمل يتبين أنه لا تعارض، ومن أمثلة هذا قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ، مع الآيات الدالة على أن الله لا يأمر بالسوء والفحشاء، فكل ما ظاهره التعارض من آيات القرآن فهو بعد البحث متفق متسق لا اختلاف فيه، ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. وثانيا: انطباق آياته على ما يكشفه العلم من نظريات علمية: القرآن أنزله الله على رسوله ليكون حجة له ودستورا للناس، ليس من مقاصده الأصلية أن يقرر نظريات علمية في خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان وحركات الكواكب وغيرها من الكائنات، ولكنه في مقام الاستدلال على وجود الله ووحدانيته، وتذكير الناس بآلائه ونعمه، ونحو هذا من الأغراض، جاء بآيات تفهم منها سنن كونية ونواميس طبيعية كشف العلم الحديث في كل عصر براهينها، ودل على أن الآيات التي لفتت إليها من عند الله؛ لأن الناس ما كان لهم بها من علم وما وصلوا إلى حقائقها، وإنما كان استدلالهم بظواهرها، فكلما كشف البحث العلمي سنة كونية وظهر أن آية في القرآن أشارت إلى هذه السنة قام برهان جديد على أن القرآن من عند الله. وإلى هذا الوجه من وجوده الإعجاز أرشد الله سبحانه وتعالى بقوله في سورة فصلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة النمل في مقام الاستدلال على قدرته ولفت النظر إلى آثاره: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . وقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} ، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1. وبعض الباحثين لا يرتضون الاتجاه إلى تفسير آيات القرآن بما يقرره العلم من نظريات ونواميس. وحجتهم أن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تتبدل والنظريات العلمية قد تتغير وتتبدل، وقد يكشف البحث الجديد خطأ نظرية قديمة. ولكني لا أرى هذا الرأي؛ لأن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الأدلة على ضوء العلم. وليس معنى هذا أن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه، فإذا ظهر خطأ النظرية ظهر خطأ فهم الآية على ذلك الوجه لا خطأ الآية نفسها، كما يفهم حكم من آية، ويتبين خطأ فهمه بظهور دليل على هذا الخطأ. وثالثها: إخباره بوقائع لا يعلمها إلا علام الغيوب: أخبر القرآن عن وقوع حوادث في المستقبل لا علم لأحد من الناس بها، كقوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} . وقوله سبحانه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} . وقص القرآن قصص أمم بائدة ليست بها آثار ولا معالم تدل على أخبارها وهذا دليل على أنه من عند الله الذي لا تخفى عليه خافية في الحاضر والماضي والمستقبل، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} .   1 ألف الصدر الأعظم الغازي أحمد مختار باشا القوميسير العثماني العالي في مصر سابقا كتابا سماه "سرائر القرآن في تكوين وفناء وإعادة الأكوان" تضمن تسعين آية قرآنية مطبقة على العلم تطبيقا دقيقا، وقد نقل هذا الكتاب عن التركية السيد محب الدين الخطي وطبعه مصدرا برسالة للأمير شكيب أرسلان قال فيها: إن هذا الكتاب لم يخدم القرآن بمثله إلى اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ورابعها: فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره: ليس في القرآن لفظ ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده. وعباراته في مطابقتها لمقتضى الأحوال في أعلى مستوى بلاغي، ويتجلى هذا لمن له ذوق عربي في تشبيهاته وأمثاله وحججه ومجادلاته، وفي إثباته للعقائد الحقة وإفحامه للمبطلين وفي كل معنى عبر وهدف رمى إليه، وحسبنا برهانًا على هذا شهادة الخبراء من أعدائه، واعتراف أهل البيان والبلاغة من خصومه. والإمامان الزمخشري في تفسيره "الكشاف" وعبد القاهر في كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" تكفلا ببيان كثير من وجوه الفصاحة والبلاغة في آيات القرآن، وأما قوة تأثيره في النفوس وسلطانه الروحي على القلوب، فهذا يشعر به كل منصف ذي وجدان، وحسبنا برهانًا على هذا أنه لا يمل سماعه ولا تبلى جدته، وقد قال الوليد بن المغيرة وهو ألد أعداء الرسول: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر". والحق ما شهدت به الأعداء1. أنواع أحكامه: أنواع الأحكام التي جاء بها القرآن الكريم ثلاثة: الأول: أحكام اعتقادية تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. والثاني: أحكام خلقية، تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل، وأن يتخلى عنه من الرذائل. والثالث: أحكام عملية، تتعلق بما يصدر عن الملكف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات. وهذا النوع الثالث هو فقه القرآن، وهو المقصود الوصول إليه بعلم أصول الفقه.   1 من أراد المزيد من بحوث إعجاز القرآن فليقرأ كتاب إعجاز القرآن للمرحوم مصطفى صادق الرافعي الذي قدمه المرحوم سعد زغلول باشا بمقدمة وصفه فيها بقوله: كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والأحكام العملية في القرآن تنتظم نوعين: أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة، وحج ونذر ويمين ونحوها من العبادات التي يقصد بها تنظيم علاقة الإنسان بربه، وأحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها مما عدا العبادات، ومما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم أمما أم جماعات، فأحكام ما عدا العبادات تسمى في الاصطلاح الشرعي أحكام المعاملات، وأما في اصطلاح العصر الحديث، فقد تنوعت أحكام المعاملات بحسب ما تتلعق به، وما يقصد بها إلى الأنواع الآتية: 1- أحكام الأحوال الشخصية: وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، وآياتها في القرآن نحو 70 آية. 2- والأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن، وكفالة وشركة ومداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق كل ذي حق، وآياتها في القرآن نحو 70 آية. 3- والأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة، ويقصد بها حفظ حياة الناس، وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة، وآياتها في القرآن نحو 30 آية. 4- وأحكام المرافعات: وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لتحقيق العدل بين الناس، وآياتها في القرآن نحو 13 آية. 5- والأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق، وآياتها نحو 10 آيات. 6- والأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول، وبمعاملة غير المسلمين في الدول الإسلامية، ويقصد بها تحديد علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم وفي الحرب، وتحديد علاقة المسلمين بغيرهم في بلاد الدول الإسلامية، وآياتها نحو 25 آية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 7- والأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحق السائل والمحروم في مال الغني، وتنظيم الموارد والمصارف، ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء، والفقراء وبين الدولة والأفراد. وآياتها نحو 10 آيات. ومن استقرأ آيات الأحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات، وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والمواريث؛ لأن أكثر أحكام هذا النوع تعبدي ولا مجال للعقل فيه ولا يتطور بتطور البيئات، وأما فيما عدا العبادات والأحوال الشخصية من الأحكام المدنية والجنائية، والدستورية والدولية والاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة ومبادئ أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر؛ لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح، فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة والمبادئ الأساسية ليكون ولاة الأمر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن من غير اصطدام بحكم جزئي فيه. دلالة آياته إما قطعية وإما ظنية: نصوص القرآن جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها، ونقلها عن الرسول إلينا، أي نجزم ونقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن، هو نفسه النص الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه الرسول المعصوم إلى الأمة من غير تحريف ولا تبديل؛ لأن الرسول المعصوم كان إذا نزلت عليه سورة أو آيات أو آية بلغها أصحابه وتلاها عليهم وكتبها وحيه، وكتبها من كتب لنفسه من صحابته، وحفظها منهم عدد كثير وقرءوها في صلواتهم، وتعبدوا بتلاوتها في سائر أوقاتهم، وما توفي الرسول إلا وكل آية من آيات القرآن مدونة فيما اعتاد العرب أن يدونوا فيه، ومحفوظة في صدور كثير من المسلمين، وقد جمع أبو بكر الصديق بواسطة زيد بن ثابت، وبعض الصحابة المعروفين بالحفظ والكتابة هذه المدونات، وضم بعضها إلى بعض، مرتبة الترتيب الذي كان الرسول يتلوها به ويتلوها به أصحابه في حياته، وصارت هذه المجموعة وما في صدور الحفاظ هي مرجع المسلمين في تلقي القرآن وروايته، وقام على حفظ هذه المجموعة أبو بكر في حياته، وخلفه في المحافظة عليها عمر، ثم تركها عمر عند ابنته حفصة أم المؤمنين، وأخذها من حفصة عثمان في خلافته، ونسخ منها بواسطة زيد بن ثابت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 نفسه، وعدد من كبار المهاجرين والأنصار عدة نسخ أرسلت إلى أمصار المسلمين، فأبو بكر حفظ كل ما دونت فيه آية أو آيات من القرآن حتى لا يضيع منه شيء، وعثمان جمع المسلمين على مجموعة واحدة من المدون ونشره بين المسلمين حتى لا يختلفوا في لفظ، وتناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون، وتلقيا من الحفاظ أجيالا عن أجيال في عدة قرون، وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ، ولا اختلف في لفظة منه صيني ومراكشي ولا بولوني وسوداني، وهذه ملايين المسلمين في مختلف القارات منذ ثلاثة عشر قرنا ونيف وثمانين سنة يقرءونه جميعا لا يختلف فيه فرد عن فرد، ولا أمة عن أمة، لا بزيادة ولا نقص ولا تغيير أو تبديل أو ترتيب تحقيقا لوعد الله سبحانه إذ قال عز شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلى قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه. ونص ظني الدلالة على حكمه. فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه، مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} فهذا قطعي الدلالة على أن فرض الزوج في هذه الحال النصف لا غير، ومثل قوله تعالى في شأن الزاني والزانية: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، فهذا قطعي الدلالة على أن حد الزنا مائة جلدة لا أكثر ولا أقل، وكذا كل نص دل على فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة معين أو نصاب محدد، وأما النص الظني الدلالة فهو ما دل على معنى ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف هذا المعنى ويراد منه معنى غيره مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين يطلق لغة على الطهر ويطلق لغة على الحيض، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات فهو ليس قطعي الدلالة على معنى واحد من المعنيين، ولهذا اختلف المجتهدون في أن عدة المطلقة ثلاثة حيضات أو ثلاثة أطهار ومثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} فلفظ الميتة عام والنص يحتمل الدلالة على تحريم كل ميتة، ويحتمل أن يخصص التحريم بما عدا ميتة البحر، فالنص الذي فيه لفظ مشترك أو لفظ عام، أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظني الدلالة؛ لأنه يدل على معنى يحتمل الدلالة على غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الدليل الثاني: السنة 1: 1- تعريفها. 2- حجيتها. 3- نسبتها إلى القرآن. 4- أقسامها باعتبار سندها. 5- قطعيها وظنيها. تعريفها: السنة في الاصطلاح الشرعي: هي ما صدر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير. فالسنن القولية: هي أحاديثه التي قالها في مختلف الأغراض، والمناسبات مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". وقوله: "في السائمة زكاة"، وقوله عن البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وغير ذلك. والسنن الفعلية: هي أفعاله -صلى الله عليه وسلم- مثل أدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها، وأدائه مناسك الحج، وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعي. والسنن التقريرية: هي ما أقره الرسول مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه، فيعتبر بهذا الإقرار والموافقة عليه صادرا عن الرسول نفسه، مثل ما روى أن صحابيين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فلما قصا أمرهما على الرسول أقر كلا منهما على ما فعل، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين، ومثل ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "بم تقضي"؟ قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي فأقره الرسول وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".   1 لفظ السنة معناه في اللغة العربية الطريقة ومنه قوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، وكما يطلق على الطريقة المحمودة تطلق على الطريقة المذمومة، وقد جاء في الحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 حجيتها: أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله، من قول أو فعل أو تقرير. وكان مقصودا به التشريع والاقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع، أو الظن الراجح، بصدقه يكون حجة على المسلمين، ومصدرا تشريعيا يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، أي أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانونًا واجب الاتباع. والبراهين على حجية السنة عديدة: أولها: نصوص القرآن، فإن الله سبحانه في كثير من آي الكتاب الكريم أمر بطاعة رسوله، وجعل طاعة رسوله طاعة له. وأمر المسلمين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله وإلى الرسول، ولم يجعل للمؤمن خيارا إذا قضى الله ورسوله أمرا، ونفى الإيمان لمن لم يطمئن إلى قضاء الرسول ولم يسلم له، وفي هذا كله برهان من الله على أن تشريع الرسول هو تشريع إلهي واجب اتباعه. قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، وقال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فهذه الآيات تدل باجتماعها وتساندها دلالة قاطعة على أن الله يوجب اتباع الرسول فيما شرعه. وثانيها: إجماع الصحابة رضوان الله عليهم في حياته، وبعد وفاته على وجوب اتباع سننه، فكانوا في حياته يمضون أحكامه ويمتثلون لأوامره ونواهيه وتحليله وتحريمه، ولا يفرقون في وجوب الاتباع بين حكم أوحي إليه في القرآن وحكم صدر عن الرسول نفسه، ولهذا قال معاذ بن جبل: "إن لم أجد في كتاب حكم ما أقضي به ما قضيت بسنة رسول الله". وكانوا بعد وفاته إذا لم يجدوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 كتاب الله حكم ما نزل بهم رجعوا إلى سنة رسول الله. فأبو بكر كان إذا لم يحفظ في الواقعة سنة خرج فسأل المسلمين: "فهل فيكم من يحفظ في هذا الأمر سنة عن نبينا؟ " وكذلك كان يفعل عمر وغيره ممن تصدى للفتيا والقضاء من الصحابة، ومن سلك سبيلهم من تابعيهم وتابعي تابعيهم بحيث لم يعلم أن أحدا منهم يعتد به خالف في أن سنة رسول الله إذا صح نقلها وجب اتباعها. وثالثها: أن القرآن فرض الله فيه على الناس عدة فرائض مجملة غير مبينة، لم تفصل في القرآن أحكامها ولا كيفية أدائها، فقال تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، ولم يبين كيف تقام الصلاة وتؤتى الزكاة ويؤدى الصوم والحج، وقد بين الرسول هذا الإجمال بسننه القولية والعملية؛ لأن الله سبحانه منحه سلطة هذا التبيين بقوله عز شأنه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . فلو لم تكن هذه السنن البيانية حجة على المسلمين، وقانونا واجبا اتباعه ما أمكن تنفيذ فرائض القرآن ولا اتباع أحكامه، وهذه السنن البيانية إنما وجب اتباعها من جهة أنها صادرة عن الرسول، ورويت عنه بطريق يفيد القطع بورودها عنه أو الظن الراجح بورودها، فكل سنة تشريعية صح صدورها عن الرسول فهي حجة واجبة الاتباع، سواء كانت مبينة حكما في القرآن أم منشئة حكما سكت عنه القرآن؛ لأنها كلها مصدرها المعصوم الذي منحه الله سلطة التبيين والتشريع. نسبتها إلى القرآن: أما نسبة السنة إلى القرآن، من جهة الاحتجاج بها والرجوع إليها لاستنباط الأحكام الشرعية، فهي المرتبة التالية له بحيث إن المجتهد لا يرجع إلى السنة للبحث عن واقعة إلا إذا لم يجد في القرآن حكم ما أراد معرفة حكمه؛ لأن القرآن أصل التشريع ومصدره الأول، فإذا نص على حكم اتبع، وإذا لم ينص على حكم الواقعة رجع إلى السنة، فإن وجد فيها حكمه اتبع. وأما نسبة السنة إل القرآن من جهة ما ورد فيها من الأحكام، فإنها لا تعدو واحدا من ثلاثة: 1- إما أن تكون سنة مقررة ومؤكدة حكما جاء في القرآن. فيكون الحكم له مصدران وعليه دليلان: دليل مثبت من أي القرآن، ودليل مؤيد من سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الرسول، ومن هذه الأحكام الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير الحق، وغير ذلك من المأمورات، والمنهيات التي دلت عليها آيات القرآن، وأيدتها سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقام الدليل عليها منهما. 2- وإما أن تكون سنة مفصلة ومفسرة ما جاء في القرآن مجملا، أو مقيدة ما جاء فيه مطلقا أو مخصصة ما جاء فيه عاما، فيكون هذا التفسير أو التقييد أو التخصيص الذي وردت به السنة تبيينًا للمراد من الذي جاء في القرآن؛ لأن الله سبحانه منح رسول الله حق التبيين لنصوص القرآن بقوله عز شأنه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، ومن هذا السنن التي فصلت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت؛ لأن القرآن أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، ولم يفصل عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، ولا مناسك الحج. والسنن العملية والقولية هي التي بينت هذا الإجمال، وكذلك أحل الله البيع وحرم الربا، والسنة هي التي بينت صحيح البيع وفاسده وأنواع الربا المحرم. والله حرم الميتة، والسنة هي التي بينت المراد منها ما عدا ميتة البحر. وغير ذلك من السنن التي بينت المراد من مجمل القرآن ومطلقه وعامه، وتعتبر مكملة له وملحقة به. 3- وإما أن تكون سنة مثبتة ومنشئة حكما سكت عنه القرآن، فيكون هذا الحكم ثابتا بالسنة ولا يدل عليه نص في القرآن، ومن هذا تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور. وتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب على الرجال، وما جاء في الحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب". وغير ذلك من الأحكام التي شرعت بالسنة وحدها ومصدرها إلهام الله لرسوله، أو اجتهاد الرسول نفسه. قال الإمام الشافعي في رسالته الأصولية: "لم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي -صلى الله عليه وسلم- من ثلاثة وجوه، أحدها: ما أنزل الله عز وجل فيه نص كتاب، فسن رسول الله مثل ما نص الكتاب، والآخر: ما أنزل الله عز وجل فيه جملة فبين عن الله معنى ما أراد، والوجه الثالث: ما سن رسول الله مما ليس فيه نص كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ومما ينبغي التنبيه إليه أن اجتهاد الرسول في التشريع أساسه القرآن وما بثه في نفسه من روح التشريع ومبادئه، فهو يستند في تشريعه الأحكام إلى القياس على ما جاء في القرآن، أو إلى تطبيق المبادئ العامة لتشريع القرآن، فمرجع أحكام السنة إلى أحكام القرآن. وخاصة ما قدمنا: أن الأحكام التي وردت في السنة: إما أحكام مقررة لأحكام القرآن، أو أحكام مبينة لها، أو أحكام سكت عنها القرآن مستمدة بالقياس على ما جاء فيه أو بتطيبق أصوله ومبادئه العامة، ومن هذا يتبين أنه لا يمكن أن يقع بين أحكام القرآن والسنة تخالف أو تعارض. أقسامها باعتبار سندها 1: تنقسم السنة باعتبار رواتها عن الرسول إلى ثلاثة أقسام: سنة متواترة وسنة مشهورة، وسنة آحاد. فالسنة المتواترة: هي ما رواها عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على كذب، لكثرتهم وأمانتهم واختلاف وجهاتهم وبيئاتهم، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته جمع لا يتفقون على كذب من مبدأ التلقي عن الرسول إلى نهاية الوصول إلينا، ومن هذا القسم السنن العملية في أداء الصلاة وفي الصوم، والحج والأذان وغير ذلك من شعائر الدين التي تلقاها المسلمون عن الرسول بالمشاهدة، أو السماع، جموعا عن جموع، من غير اختلاف في عصر عن عصر، أو قطر عن قطر، وقل أن يوجد في السنن القولية حديث متواتر. والسنة المشهورة: هي ما رواها عن رسول الله صحابي أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد جمع التواتر، ثم رواها عن هذا الراوي أو الرواة جمع من جموع التواتر، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، وعن هذا الجمع جمع، حتى وصلت إلينا بسند، أول طبقة فيه سمعوا من الرسول قوله أو شاهدوا فعله فرد أو فردان أو أفراد لم يصلوا إلى جمع التواتر، وسائر طبقاته جموع التواتر. ومن هذا القسم بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول عمر بن الخطاب، أو عبد الله بن مسعود أو   1 المراد بسند السنة: سلسلة الرواة الذين نقلوها عن الرسول إلينا. والمراد بمتن السنة: نفس الحديث المروي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أبو بكر الصديق، ثم رواها عن أحد هؤلاء جمع لا يتفق أفراده على كذب، مثل حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "بني الإسلام على خمس" وحديث: "لا ضرر ولا ضرار". فالفرق بين السنة المتواترة والسنة المشهورة: أن السنة المتواترة كل حلقة في سلسلة سندها جمع التواتر من مبدأ التلقي عن الرسول إلى وصولها إلينا. وأما السنة المشهورة فالحلقة الأولى في سندها ليست جمعا من جموع التواتر بل الذي تلقاها عن الرسول واحد أو اثنان، أو جمع لم يبلغ جمع التواتر، وسائر الحلقات جموع التواتر. وسنة الآحاد: هي ما رواها عن الرسول آحاد لم تبلغ جموع التواتر بأن رواها عن الرسول واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ورواها عن هذا الراوي مثله، وهكذا حتى وصلت إلينا بسند طبقاته أحاد لا جموع التواتر، ومن هذا القسم أكثر الأحاديث التي جمعت في كتب السنة وتسمى خبر الواحد. قطعيها وظنيها: أما من جهة الورود فالسنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول؛ لأن تواتر النقل يفيد الجزم والقطع بصحة الخبر كما قدمنا، والسنة المشهورة قطعية الورود عن الصحابي، أو الصحابة الذين تلقوها عن الرسول لتواتر النقل عنهم، ولكنها ليست قطعية الورود عن الرسول؛ لأن أول من تلقى عنه ليس جمع التواتر، ولهذا جعلها فقهاء الحنفية، في حكم السنة المتواترة، فيخصص بها عام القرآن ويقيد بها مطلقه؛ لأنها مقطوع ورودها عن الصحابي، والصحابي حجة وثقة في نقله عن الرسول، فمن أجل هذا كانت مرتبتها في مذهبهم بين المتواتر وخبر الواحد. وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول؛ لأن سندها لا يفيد القطع. وأما من جهة الدلالة فكل سنة من هذه الأقسام الثلاثة قد تكون قطعية الدلالة، إذا كان نصها لا يحتمل تأويلا، وقد تكون ظنية الدلالة إذا كان نصها يحتمل التأويل. ومن المقارنة بين نصوص القرآن ونصوص السنة من جهة القطعية والظنية، ينتج أن نصوص القرآن الكريم كلها قطعية الورود، ومنها ما هو قطعي الدلالة ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ما هو ظني الدلالة، وأما السنة فمنها ما هو قطعي الورود ومنها ما هو ظني الورود، وكل واحد منهما قد يكون قطعي الدلالة وقد يكون ظني الدلالة. وكل سنة من أقسام السنن الثلاثة المتواترة، والمشهورة وسنن الأحاد؛ حجة واجب اتباعها والعمل بها، أما المتواتر؛ فلأنها مقطوع بصدورها وورودها عن رسول الله، وأما المشهورة أو سنة الآحاد؛ فلأنها وإن كانت ظنية الورود عن رسول الله، إلا أن هذا الظن يرجح بما توافر في الرواة من العدالة وتمام الضبط والإتقان، ورجحان الظن كاف في وجوب العمل، لهذا يقضي القاضي بشهادة الشاهد، وهي إنما تفيد رجحان الظن بالمشهود به، وتصح الصلاة بالتحري في استقبال الكعبة وهو إنما يفيد غلبة الظن، وكثير من الأحكام مبنية على الظن، ولو التزم القطع واليقين في كل أمر عملي لنال الناس الحرج. ما ليس تشريعا من أقوال الرسول وأفعاله: ما صدر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أقوال، وأفعال إنما يكون حجة على المسلمين واجبا اتباعه إذا صدر عنه بوصف أنه رسول الله وكان مقصودا به التشريع العام والاقتداء. وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} . 1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام، وقعود، ومشي، ونوم، وأكل، وشرب، فليس تشريعا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني، ودل دليل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل. 2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق، والتجارب في الشئون الدنيوية من اتجار أو زراعة، أو تنظيم جيش، أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض، أو أمثال هذا فليس تشريعا أيضا؛ لأنه ليس صادرا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لما رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بينها للرسول. ولما رأى الرسول أهل المدينة يؤبرون النخل، أشار عليهم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لا يؤبروا فتركوا التأبير1 وتلف الثمر، فقال لهم: "أبروا. أنتم أعلم بأمور دنياكم". 3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعا عاما: كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} دل على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البينة شاهدان، ويراعى أن قضاء الرسول في خصومة يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما حكمه على تقدير ثبوت الوقائع، فإثباته الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقدير ثبوت الوقائع فهو تشريع، ولهذا روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم وقال: "إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصوم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها". والخلاصة أن ما صدر عن رسول الله من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بيناها فهو من سنته، ولكنه ليس تشريعا ولا قانونا واجبا اتباعه. وأما ما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به، فهو حجة على المسلمين وقانون واجب اتباعه. فالسنة إن أريد بها طريقة الرسول وما كان عليه في حياته، فهي كل ما صدر عنه من قول وفعل أو تقرير، مقصود به التشريع واقتداء الناس به لاهتدائهم.   1 التأبير: التلقيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الدليل الثالث: الإجماع 1 1- تعريفه. 2- أركانه. 3- حجيته. 4- إمكان انعقاده. 5- انعقاده فعلا. 6- أنواعه. تعريفه: الإجماع في اصطلاح الأصوليين: هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول على حكم شرعي في واقعة. فإذا وقعت حادثة وعرضت على جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية وقت حدوثها، واتفقوا على حكم فيها سمي اتفاقهم إجماعا، واعتبر إجماعهم على حكم واحد فيها دليلا على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة، وإنما قيل في التعريف بعد وفاة الرسول؛ لأنه في حياة الرسول هو المرجع التشريعي وحده فلا يتصور اختلاف في حكم شرعي، ولا اتفاق إذ الاتفاق لا يتحقق إلا من عدد. أركانه: ورد في تعريف الإجماع أنه: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر على حكم شرعي، ومن هذا يؤخذ أن أركان الإجماع التي لا ينعقد شرعا إلا بتحققها أربعة: الأول: أن يوجد في عصر وقوع الحادثة عدد من المجتهدين؛ لأن الاتفاق لا يتصور إلا في عدة آراء يوافق كل رأي منها سائرها، فلو خلا وقت من وجود عدد من المجتهدين، بأن لم يوجد فيه مجتهد أصلا أو وجد مجتهد واحد، لا ينعقد فيه شرعا إجماع، ومن هذا الإجماع في عهد الرسول؛ لأنه المجتهد وحده. الثاني: أن يتفق على الحكم الشرعي في الواقعة، جميع المجتهدين من المسلمين في وقت وقوعها، بصرف النظر عن بلدهم أو جنسهم أو طائفتهم، فلو   1 لفظ الإجماع معناه في اللغة العربية العزم ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} أي: اعزموا عليه. وسمي اتفاق المجتهدين إجماعا؛ لأن اتفاقهم على حكم تصميم عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 اتفق على الحكم الشرعي في الواقعة، مجتهد والحرمين فقط، أو مجتهدو العراق فقط، أو مجتهدوا الحجاز، أو مجتهدو آل البيت أو مجتهدو أهل السنة دون مجتهدي الشيعة1، لا ينعقد شرعا بهذا الاتفاق الخاص إجماع؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا بالاتفاق العام من جميع مجتهدي العالم الإسلامي في عهد الحادثة، ولا عبرة بغير المجتهدين. الثالث: أن يكون اتفاقهم بإبداء كل واحد منهم رأيه صريحا في الواقعة سواء أكان إبداء الواحد منهم رأيه قولا لأن أفتى في الواقعة بفتوى، أو فعلا بأن قضى فيها بقضاء، وسواء أبدى كل واحد منهم رأيه على انفراد وبعد جمع الآراء تبين اتفاقها، أم أبدوا آراءهم مجتمعين بأن جمع مجتهدو العالم الإسلامي في عصر حدوث الواقعة وعرضت عليهم، وبعد تبادلهم وجهات النظر اتفقوا جميعا على حكم واحد فيها. الرابع: أن يتحقق الاتفاق من جميع المجتهدين على الحكم، فلو اتفق أكثرهم لا ينعقد باتفاق الأكثر إجماعًا مهما قل عدد المخالفين، وكثر عدد المتفقين؛ لأنه ما دام قد وجد اختلاف وجد احتمال الصواب في جانب والخطأ في جانب، فلا يكون اتفاق الأكثر حجة شرعية قطعية ملزمة. حجيته: إذا تحققت أركان الإجماع الأربعة بأن أحصى في عصر من العصور بعد وفاة الرسول جميع من فيه من مجتهدي المسلمين على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطوائفهم، وعرضت عليهم وقعة لمعرفة حكمها الشرعي، وأبدى كل مجتهد منهم رأيه صراحة في حكمها بالقول أو بالفعل مجتمعين أو منفردين، واتفقت آراؤهم جميعا على حكم واحد في هذه الواقعة -كان هذا الحكم المتفق عليه قانونا شرعيا واجبا اتباعه ولا يجوز مخالفته، وليس لمجتهدين في عصر تال أن يجعلوا هذه الواقعة موضع اجتهاد؛ لأن الحكم الثابت فيها بهذا الإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا لنسخه. والبرهان على حجية الإجماع ما يأتي: أولا: أن الله سبحانه وتعالى كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله أمرهم بطاعة أولي الأمر منهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا   1 هذا الكلام فيه نظر. أ. هـ مصححة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، وأولو الأمر الدنيوي هم الملوك والأمراء والولاة، وأولو الأمر الديني هم المجتهدون وأهل الفتيا، وقد فسر بعض المفسرين وعلى رأسهم ابن عباس أولي الأمر في هذه الآية بالعلماء، وفسرهم آخرون بالأمراء والولاة، والظاهر التفسير بما يشمل الجميع وبما يوجب طاعة كل فريق فيما هو من شأنه، فإذا أجمع أولو الأمر في التشريع وهم المجتهدون على حكم وجب اتباعه وتنفيذ حكمهم بنص القرآن، ولذا قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وتوعد سبحانه من يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، فقال عز شأنه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} فجعل من يخالف سبيل المؤمنين قرين من يشاقق الرسول. ثانيًا: أن الحكم الذي اتفقت عليه آراء جميع المجتهدين في الأمة الإسلامية هو في الحقيقة حكم الأمة ممثلة في مجتهديها، وقد وردت عدة أحاديث عن الرسول، وآثار عن الصحابة تدل على عصمة الأمة من الخطأ، منها قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على خطأ". وقوله: "لم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة". وقوله: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". وذلك لأن اتفاق جميع هؤلاء المجتهدين على حكم واحد في الواقعة مع اختلاف أنظارهم والبيئات المحيطة بهم وتوافر عدة أسباب لاختلافهم دليل على أن وحدة الحق والصواب هي التي جمعت كلمتهم وغلبت عوامل اختلافهم. ثالثًا: إن الإجماع على حكم شرعي لا بد أن يكون قد بني على مستند شرعي؛ لأن المجتهد الإسلامي له حدود لا يسوغ له أن يتعداها، وإذا لم يكن في اجتهاده نص فاجتهاده لا يتعدى تفهم النص، ومعرفة ما يدل عليه، وإذا لم يكن في الواقعة نص فاجتهاده لا يتعدى استنباط حكمه بواسطة قياسه على ما فيه نص، أو تطبيق قواعد الشريعة ومبادئها العامة، أو بالاستدلال بما أقامته الشريعة من دلائل كالاستحسان أو الاستصحاب. أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة. وإذا كان اجتهاد المجتهد لا بد أن يستند إلى دليل شرعي. فاتفاق المجتهدين جميعا على حكم واحد في الواقعة دليل على وجود مستند شرعي، يدل قطعا على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الحكم؛ لأنه لو كان ما استند إليه دليلا ظنيا لاستحال عادة أن يصدر عنه اتفاق؛ لأن الظني مجال حتما لاختلاف العقول. وكما يكون الإجماع على حكم في واقعة يكون على تأويل نص أو تفسيره، وعلى تعليل حكم النص وبيان الوصف المنوط به. إمكان انعقاده: قالت طائفة من العلماء منهم النظام وبعض الشيعة: إن هذا الإجماع الذي تبينت أركانه لا يمكن انعقاده عادة؛ لأنه يتعذر تحقق أركانه. وذلك أنه لا يوجد مقياس يعرف به إذا كان الشخص بلغ مرتبة الاجتهاد أو لم يبلغها، ولا يوجد حكم يرجع إليه في الحكم بأن هذا مجتهد أو غير مجتهد. فمعرفة المجتهدين من غير المجتهدين متعذرة. ولو فرض أن أشخاص المجتهدين في العالم الإسلامي وقت حدوث الواقعة معروفون، فالوقوف على آرائهم جميعا في الواقعة بطريق يفيد اليقين أو القريب منه متعذر؛ لأنهم متفرقون في قارات مختلفة، وفي بلاد متباعدة ومختلفو الجنسية والتبعية فلا يتيسر سبيل إلى جمعهم، وأخذ آرائهم مجتمعين ولا إلى نقل رأي كل واحد منهم بطريق يوثق به. ولو فرض أن أشخاص المجتهدين عرفوا، وأمكن الوقوع على آرائهم بطريق يوثق به، فما الذي يكفل أن المجتهد الذي أبدى رأيه في الواقعة يبقى مصرا عليه حتى تؤخذ آراء الباقين؟ ما الذي يمنع أن تعرض له شبهة فيرجع عن رأيه قبل أخذ آراء الباقين؟ والشرط لانعقاد الإجماع أن يثبت اتفاق المجتهدين جميعا في وقت واحد على حكم واحد في واقعة. ومما يؤيد أن الإجماع لا يمكن انعقاده؛ أنه لو انعقد كان لا بد مستندا إلى دليل؛ لأن المجتهد الشرعي لا بد أن يستند في اجتهاده إلى دليل، والدليل الذي يستند إليه المجمعون إن كان دليلا قطعيا فمن المستحيل عادة أن تخفى؛ لأن المسلمين لا يخفى عليهم دليل شرعي قطعي حتى يحتاجون معه إلى الرجوع إلى المجتهدين وإجماعهم. وإن كان دليلا ظنيا فمن المستحيل عادة: أن يصدر عن الدليل الظني إجماع؛ لأن الدليل الظني لا بد أن يكون مثارا للاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقد نقل ابن حزم في كتابه "الأحكام" عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قوله: سمعت أبي يقول: "وما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب، من ادعى الإجماع فهو كذاب، لعل الناس قد اختلفوا -ما يدريه- ولم ينتبه إليه. فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا". وذهب جمهور العلماء: إلى أن الإجماع يمكن انعقاده عادة، وقالوا: إن ما ذكره منكرو إمكانه لا يخرج عن أنه تشكيك في أمر واقع، وأن أظهر دليل على إمكانه انعقاده فعلا، وذكروا عدة أمثلة لما ثبت انعقاد الإجماع عليه مثل: خلافة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير، وتوريث الجدات السدس، وحجب ابن الابن من الإرث بالابن، وغير ذلك من أحكام جزئية وكلية. والذي أراه الراجح أن الإجماع بتعريفه، وأركانه التي بيناها لا يمكن عادة انعقاده إذا وكل أمره إلى أفراد الأمم الإسلامية، وشعوبها، ويمكن انعقاده إذا تولت أمره الحكومات الإسلامية على اختلافها، فكل حكومة تستيطع أن تعين الشروط التي بتوافرها يبلغ الشخص مرتبة الاجتهاد، وأن تمنح الإجازة الاجتهادية لمن توافرت فيه هذه الشروط، وبهذا تستطيع كل حكومة أن تعرف مجتهديها آراءهم في أية واقعة. فإذا وقفت كل حكومة على آراء مجتهديها في واقعة، واتفقت آراء المجتهدين جميعهم في كل الحكومات الإسلامية على حكم واحد في هذه الواقعة، كان هذا إجماعا وكان الحكم المجمع عليه حكما شرعيا واجبا اتباعه على المسلمين جميعهم. انعقاده فعلا: هل انعقد الإجماع فعلا بهذا المعنى في عصر من العصور بعد وفاة الرسول؟ الجواب لا. ومن رجع إلى الوقائع التي حكم فيها الصحابة، واعتبر حكمهم فيها بالإجماع يتبين أنه ما وقع إجماع بهذا المعنى، وأن ما وقع إنما كان اتفاقا من الحاضرين، من أولي العلم والرأي على حكم في الحادثة المعروضة، فهو في الحقيقة: حكم صادر عن شورى الجماعة لا عن رأي الفرد. فقد روى أن أبا بكر كان إذا ورد عليه الخصوم ولم يجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله ما يقضي بينهم، جع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أجمعوا على رأي أمضاه، وكذلك كان يفعل عمر. ومما لا ريب فيه أن رءوس الناس وخيارهم الذين كان يجمعهم أبو بكر وقت عرض الخصومة ما كانوا جميع رءوس المسلمين وخيارهم؛ لأنه كان منهم عدد كثير في مكة والشام واليمن في ميادين الجهاد، وما ورد أن أبا بكر أجل الفصل في خصومة حتى يقف على رأي جميع مجتهدي الصحابة في مختلف البلدان، بل كان يمضي ما اتفق عليه الحاضرون؛ لأنهم جماعة، ورأي الجماعة أقرب إلى الحق من رأي الفرد. وكذلك كان يفعل عمر، وهذا ما سماه الفقهاء الإجماع، فهو في الحقيقة تشريع الجماعة لا الفرد. وهو ما وجد إلا في عصر الصحابة، وفي بعض عصور الأمويين بالأندلس، حين كونوا في القرن الثاني الهجري جماعة من العلماء، يستشارون في التشريع وكثيرا ما يذكر في ترجمة بعض علماء الأندلس أنه كان من علماء الشورى. وأما بعد عهد الصحابة، فيما عدا هذه الفترة في الدولة الأموية بالأندلس فلم ينعقد إجماع، ولم يتحقق إجماع من أكثر المجتهدين لأجل تشريع، ولم يصدر التشريع عن الجماعة بل استقل كل فرد من المجتهدين باجتهاده في بلده وفي بيئته. وكان التشريع فرديا لا شوريا، وقد تتوافق الآراء وقد تتناقض، وأقصى ما يستطيع الفقيه أن يقوله: لا يعلم في حكم هذه الواقعة خلاف. أنواعه: أما الإجماع من جهة كيفية حصوله فهو نوعان: أحدهما: الإجماع الصريح: وهو أن يتفق مجتهدو العصر على حكم واقعة، بإبداء كل منهم رأيه صراحة بفتوى أو قضاء، أي أن كل مجتهد يصدر منه قول أو فعل يعبر بصراحة عن رأيه. وثانيهما: الإجماع السكوتي: وهو أن يبدي بعض مجتهدي العصر رأيهم صراحة في الواقعة بفتوى أو قضاء، ويسكت باقيهم عن إبداء رأيهم فيها بموافقة ما أبدى فيها أو مخالفته. أما النوع الأول وهو الإجماع الصريح فهو الإجماع الحقيقي، وهو حجة شرعية في مذهب الجمهور. وأما النوع الثاني وهو الإجماع السكوتي فهو إجماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 اعتباري؛ لأن الساكت لا جزم بأنه موافق، فلا جزم بتحقيق الاتفاق وانعقاد الإجماع، ولهذا اختلف في حجيته، فذهب الجمهور إلى أنه ليس حجة، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض أفراد من المجتهدين. وذهب علماء الحنفية إلى أنه حجة إذا ثبت أن المجتهد الذي سكت عرضت عليه الحادثة، وعرض عليه الرأي الذي أبدى فيها ومضت عليه فترة كافية للبحث، وتكوين الرأي وسكت، ولم توجد شبهة في أنه سكت خوفا أو ملقا أو عيا أو استهزاء؛ لأن سكوت المجتهد في مقام الاستفتاء والبيان والتشريع بعد فترة البحث والدرس ومع انتفاء ما يمنعه من إبداء رأيه لو كان مخالفا، دليل على موافقته الرأي الذي أبدى إذ لو كان مخالفا ما وسعه السكوت. والذي أراه الراجح هو مذهب الجمهور؛ لأن الساكت من المجتهدين تحيط بسكوته عدة ظروف وملابسات منها النفسي ومنها غير النفسي، ولا يمكن استقصاء كل هذه الظروف والملابسات والجزم بأنه سكت موافقة ورضا بالرأي. فالساكت لا رأي له ولا ينسب إليه قول موافق أو مخالف، وأكثر ما وقع مما سمي إجماعا هو من الإجماع السكوتي. وإما الإجماع من جهة أنه قطعي الدلالة على حكمه أو ظني، فهو نوعان أيضا. أحدهما: إجماع قطعي الدلالة على حكمه، وهو الإجماع الصريح؛ بمعنى أن حكمه مقطوع به ولا سبيل إلى الحكم في واقعته بخلافه، ولا مجال للاجتهاد في واقعة بعد انعقاد إجماع صريح على حكم شرعي فيها. وثانيهما: إجماع ظني الدلالة على حكمه وهو الإجماع السكوتي بمعنى أن حكمه مظنون ظنا راجحا، ولا يخرج الواقعة عن أن تكون مجالا للاجتهاد؛ لأنه عبارة عن رأي جماعة من المجتهدين لا جميعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الدليل الرابع: القياس 1 1- تعريفه. 2- حجيته. 3- أركانه: الأصل والفرع وحكم الأصل وعلة الحكم. تعريفه: القياس في اصطلاح الأصوليين: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم. فإذا دل النص على حكم في واقعة، وعرفت علة هذا الحكم بطريق من الطرق التي تعرف بها علل الأحكام، ثم وجدت واقعة أخرى تساوي واقعة النص في علة تحقق علة الحكم فيها، فإنها تسوي بواقعة النص في حكمها بناء على تساويهما في علته؛ لأن الحكم يوجد حيث توجد علته. وهذه أمثلة من الأقيسة الشرعية والوضعية توضح هذا التعريف: 1- شرب الخمر: واقعة ثبت بالنص حكمها، وهو التحريم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} لعلة هي الإسكار، فكل نبيذ توجد فيه هذه العلة يسوي بالخمر في حكمه ويحرم شربه. 2- قتل الوارث مورثة: واقعة ثبت بالنص حكمها، وهو منع القاتل من الإرث الذي دل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل". لعلة هي أن قتله فيه استعجال الشيء قبل أوانه فيرد عليه قصده ويعاقب بحرمانه، وقتل الموصى له للموصي توجد فيه هذه العلة فيقاس بقتل الوارث مورثه، ويمنع القاتل للموصي من استحقاق الموصى به له. 3- البيع وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة: واقعة ثبت بالنص حكمها وهو الكراهة التي دل عليه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ   1 القياس معناه في اللغة: التقدير للشيء بما يماثله، يقال: قاس الثوب بالمتر أي قدر أجزاءه به، ويطلق القياس على التسوية؛ لأن تقدير الشيء بما يماثله تسوية بينهما ومنه: فلان لا يقاس بفلان أي لا يسوى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} لعلة هي شغله عن الصلاة، والإجازة أو الرهن أو أية معاملة وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة توجد فيها هذه العلة، وهي شغلها عن الصلاة، فتقاس بالبيع في حكمه وتكره وقت النداء للصلاة. 4- الورقة الموقَّع عليها بالإمضاء: واقعة ثبت بالنص حكمها وهو أنها حجة على الموقَّع الذي دل عليه نص القانون المدني، لعلة هي أن توقيع الموقع دال على شخصه، والورقة المبصومة بالأصبع توجد فيها هذه العلة فتقاس بالورقة الموقع عليها في حكمها، وتكون حجة على باصمها. 5- السرقة بين الأصول والفروع وبين الزوجين: لا تجوز محاكمة مرتكبها إلا بناء على طلب المجني عليه، في قانون العقوبات، وقيس على السرقة النصب واغتصاب المال بالتهديد وإصدار شيك بدون رصيد وجرائم التبديد لعلاقة القرابة والزوجية فيها كلها. ففي كل مثال من هذه الأمثلة سويت واقعة لا نص على حكمها، بواقعة نص على حكمها في الحكم المنصوص عليه، بناء على تساويهما في علة هذا الحكم، وهذه التسوية بين الواقعتين في الحكم، بناء على تساويهما في علته هي القياس في اصطلاح الأصوليين، وقولهم: تسوية واقعة بواقعة، أو إلحاق واقعة بواقعة أو تعدية الحكم من واقعة إلى واقعة، هي عبارات مترادفة مدلولها واحد. حجيته: مذهب جمهور علماء المسلمين أن القياس حجة شرعية على الأحكام العملية، وأنه في المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نص على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس بها ويحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكما شرعيًّا، ويسع المكلف اتباعه والعمل به، وهؤلاء يطلق عليهم: مثبتو القياس. ومذهب النظامية والظاهرية وبعض فرق الشيعة أن القياس ليس حجة شرعية على الأحكام، وهؤلاء يطلق عليهم: نفاة القياس. أدلة مثبتي القياس: استدل مثبتو القياس بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة وأفعالهم، وبالمعقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 1- أما القرآن فأظهر ما استدلوا به من آياته ثلاث آيات: الأولى: قوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله سبحانه أمر المؤمنين، إن تنازعوا واختلفوا في شيء، ليس لله ولا لرسوله ولا لأولي الأمر منهم فيه حكم، أن يردوه إلى الله والرسول، وردوه وإرجاعه إلى الله وإلى الرسول يشمل كل ما يصدق عليه أنه رد إليهما، ولا شك أن إلحاق ما نص فيه بما فيه نص لتساويهما في علة حكم النص؛ من رد ما لا نص فيه إلى الله والرسول؛ لأن فيه متابعة لله ولرسوله في حكمه. والآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} . وموضع الاستدلال قوله سبحانه {فَاعْتَبِرُوا} ووجه الاستدلال أن الله سبحانه وتعالى بعد أن قص ما كان من بني النضير الذين كفروا، وبين ما حاق {بِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أي فقيسوا أنفسكم بهم؛ لأنكم أناس مثلهم إن فعلتم حاق بكم مثل ما حاق بهم. وهذا يدل على أن سنة الله في كونه، أن نعمه ونقمه وجميع أحكامه هي نتائج لمقدمات أنتجتها، ومسببات لأسباب ترتبت عليها، وأنه حيث وجدت المقدمات نتجت عنها نتائجها، وحيث وجدت الأسباب ترتبت عليها مسبباتها، وما القياس إلا سير على هذا السنن الإلهي، وترتيب المسبب على سببه في أي محل وجد فيه. وهذا هو الذي يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا} وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} ، وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} فسواء فسر الاعتبار بالعبور أي المرور، أو فسر بالاتعاظ، فهو تقرير لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن ما جرى على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 النظير يجري على نظيره، ألا ترى أنه إذا فصل موظف من وظيفته بأنه ارتشي فقال الرئيس لإخوانه الموظفين: إن في هذا لعبرة لكم واعتبروا. لا يفهم من قوله إلا أنكم مثله فإن فعلتم فعله عوقبتم عقابه. الآية الثالثة: قوله تعالى في سورة يس: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} جوابًا لمن قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله سبحانه استدل على ما أنكره منكرو البعث بالقياس، فإن الله سبحانه قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أول مرة، لإقناع الجاحدين بأن من قدر على بدء خلق الشيء وإنشائه أول مرة، قادر على أن يعيده بل هذا أهون عليه، فهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجية القياس وصحة الاستدلال به. وهذه الآيات الدالة على حجية القياس أيدها في دلالتها أن الله سبحانه في عدة آيات من آيات الأحكام قرن الحكم بعلته مثل قوله سبحانه في المحيض: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ، وقوله في إباحة التيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ؛ لأن في هذا إرشاد إلى أن الأحكام مبنية على المصالح ومرتبطة بالأسباب، وإشارة إلى أن الحكم يوجد مع سببه وما بني عليه. 2- وأما السنة فأظهر ما استدلوا منها دليلان: الأول: حديث معاذ بن جبل أن رسول الله لما أراد أن يبعثه إلى اليمن، قال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء"؟ قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله". ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله أقر معاذا على أن يجتهد إذا لم يجد نصا يقضي به في الكتاب والسنة، والاجتهاد بذل الجهد للوصول إلى الحكم، وهو يشمل القياس؛ لأنه نوع من الاجتهاد والاستدلال، والرسول لم يقره على نوع من الاستدلال دون نوع. والثاني: ما ثبت في صحاح السنة من أن رسول الله في كثير من الوقائع التي عرضت عليه، ولم يوح إليها بحكمها استدل على حكمها بطريق القياس، وفعل الرسول في هذا المقام تشريع لأمته، ولم يقم دليل على اختصاصه به، فالقياس فيما لا نص فيه من سنن الرسول، وللمسلمين به أسوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ورد أن جارية خثعمية قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك"؟ قالت: نعم، فقال لها: "فدين الله أحق بالقضاء". وورد أن عمر سأل الرسول عن قبلة الصائم من غير إنزال، فقال له الرسول: "أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم"؟ قال عمر: قلت: لا بأس بذلك، قال: "فمه". أي: اكتف بهذا. وورد أن رجلًا من "فزارة" أنكر ولده لما جاءت به امرأته، فقال له الرسول: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم. قال: "ما ألوانها"؟ قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق" 1؟ قال: نعم. قال: "فمن أين"؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: "وهذا لعله نزعه عرق". وفي الجزء الأول من أعلام الموقعين أمثلة كثيرة لأقيسة الرسول. 3- وأما أفعال الصحابة وأقوالهم فهي ناطقة بأن القياس حجة شرعية، فقد كانوا يجتهدون في الوقائع التي لا نص فيها، ويقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص، ويعتبرون النظير بنظيره، قاسوا الخلافة على إمامة الصلاة، وبايعوا أبا بكر بها وبينوا أساس القياس بقولهم: رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا، وقاسوا خليفة الرسول على الرسول، وحاربوا مانعي الزكاة الذين منعوها استنادا إلى أنها كان يأخذها الرسول؛ لأن صلاته سكن لهم لقوله عز شأنه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} . قال عمر بن الخطاب في عهده إلى أبي موسى الأشعري: "ثم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس فيه قرآن ولا سنة، ثم قايس بين الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق. وقال علي بن أبي طالب: ويعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب، ولما روى ابن عباس أن الرسول نهى عن بيع الطعام قبل أن يقبض قال: لا أحسب كل شيء إلا مثله، وقد نقل ابن القيم في الجزء الثاني من أعلام الموقعين ابتداء من صفحة 244 عدة فتاوى لأصحاب رسول الله أفتوا فيها باجتهادهم بطريق القياس،   1 الأورق من الإبل: الأسود غير الحالك أي الذي يميل إلى الغبرة لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وما أنكر الرسول في حياته على من اجتهد من صحابته، وما أنكر بعض الصحابة على بعض اجتهاد الرأي وقياس الأشباه بالأشباه، فإنكار حجية القياس تخطئة لما سار عليه الصحابة في اجتهادهم وما قرروه بأفعالهم وأقوالهم. 4- وأما المعقول فأظهر أدلتهم منه ثلاثة: أولها: أن الله سبحانه ما شرع حكما إلا لمصلحة، وأن مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت الواقعة التي لا نص فيها الواقعة المنصوص عليها في علة الحكم التي هي مظنة المصلحة قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم تحقيقا للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع، ولا يتفق وعدل الله، وحكمته أن يحرم شرب الخمر لإسكاره محافظة على عقول عباده، ويبيح نبيذا آخر فيه خاصية الخمر وهي الإسكار؛ لأن مآل هذا المحافظة على العقول من مسكر، وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. وثانيها: أن نصوص القرآن والسنة محدودة ومتناهية، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها هي المصدر التشريعي لما لا يتناهى، فالقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجددة، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث، ويوفق بين التشريع والمصالح. وثالثها: أن القياس دليل تؤيده الفطرة السلمية والمنطق الصحيح، فإن من نهى عن شراب؛ لأنه سام يقيس بهذا الشراب كل شراب سام، ومن حرم عليه تصرف؛ لأن فيه اعتداء وظلما لغيره يقيس بهذا كل تصرف فيه اعتداء وظلم لغيره، ولا يعرف بين الناس اختلاف في أن ما جرى على أحد المثلين يجري على الآخر ما دام لا فارق بينهما. بعض شبه نفاة القياس: من أظهر شبههم قولهم: إن القياس مبني على الظن بأن علة حكم النص هي كذا والمبني على الظن ظني، والله سبحانه نعى على من يتبعون الظن وقال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، فلا يصح الحكم بالقياس؛ لأنه اتباع الظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وهذه شبهة واهية؛ لأن المنهي عنه هو اتباع الظن في العقيدة، وأما في الأحكام العملية فأكثر أدلتها ظنية، ولو اعتبرت هذه الشبهة لا يعمل بالنصوص الظنية الدالة؛ لأنه اتباع للظن، وهذا باطل بالاتفاق؛ لأن أكثر النصوص ظنية الدلالة. ومن أظهر شبههم قولهم: إن القياس مبني على اختلاف الأنظار في تعليل الأحكام فهو مثار اختلاف الأحكام وتناقضها، والشرع الحكيم لا يتناقض بين أحكامه، وهذه شبهة أوهى من سابقتها؛ لأن الاختلاف بناء على القياس ليس اختلافا في العقيدة أو في أصل من أصول الدين، وإنما هو اختلاف في أحكام جزئية عملية لا يؤدي الاختلاف فيها إلى أية مفسدة بل ربما كان رحمة بالناس وفيه مصلحتهم. ومن أظهر شبههم عبارات نقلوها عن الصحابة ذموا فيها الرأي، والقول في الأحكام بالرأي، مثل قول عمر: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا". هذه الآثار فوق أنها غير موثوق بها ليس المراد منها إنكار القياس، أو الاحتجاج به، وإنما المراد منها النهي عن اتباع الهوى، والرأي الذي ليس له مرجع من النصوص. أركانه: كل قياس يتكون من أركان أربعة: "الأصل": وهو ما ورد بحكمه نص، ويسمى: المقيس عليه، والمحمول عليه، والمشبه به. "والفرع": وهو ما لم يرد بحكمه نص، ويراد تسويته بالأصل في حكمه، ويسمى: المقيس، والمحمول عليه والمشبه. "وحكم الأصل": وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل، ويراد أن يكون حكما للفرع. "والعلة": وهي الوصف الذي بني عليه حكم الأصل وبناء على وجوده في الفرع يسوى بالأصل في حكمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فشرب الخمر أصل؛ لأنه ورد نص بحكمه وهو قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} الدال على تحريم شربه لعلة هي الإسكار، ونبيذ التمر فرع؛ لأنه لم يرد نص بحكمه، وقد ساوى الخمر في أن كلا منها مسكر، فسوى به في أن يحرم، والأشياء الستة: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح: أصل، لأنه ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة فيها إذا بيع كل واحد منها بجنسه، لعلة هي أنها مقدرات مضبوط قدرها بالوزن أو الكيل مع اتحاد الجنس، والذرة والأرز والفول فرع؛ لأنه لم يرد نص بحكمها، وقد ساوت الأشياء الواردة بالنص في أنها مقدرات، فسويت بها في حكمها حين المبادلة بجنسها. أما الركنان الأولان من هذه الأركان الأربعة، وهما: الأصل والفرع، فهما واقعتان، أو محلان، أو أمران، أحدهما دل على حكمه نص والآخر لم يدل على حكمه نص ويراد معرفة حكمه، ولا تشترط فيهما شروط سوى أن الأصل ثبت حكمه بنص والفرع لم يثبت حكمه بنص ولا إجماع، ولا يوجد فرق يمنع من تساويهما في الحكم. وأما الركن الثالث وهو حكم الأصل، فتشترط لتعديته إلى الفرع شروط؛ لأنه ليس كل حكم شرعي ثبت بالنص في واقعة يصح أن يعدى بواسطة القياس إلى واقعة أخرى؛ بل تشترط في الحكم الذي يعدى إلى الفرع بالقياس شروط: الأول: أن يكون حكما شرعيا ثبت بالنص، فأما الحكم الشرعي العملي الذي ثبت بالإجماع ففي تعديته بواسطة القياس رأيان، أحدهما: أنه لا يصح تعديته، وهذا هو الذي أرجحه؛ لأن الإجماع كما هو مقرر لا يلتزم فيه أن يذكر مع الحكم المجمع عليه مستنده، ومن غير ذكر المستند لا سبيل إلى إدراك علة الحكم، فلا يمكن القياس على الحكم المجمع عليه، وهذا على فرض وجود حكم أجمع عليه بمعنى الإجماع في اصطلاح الأصوليين، وثانيهما: أنه يصح تعديته، قال الشوكاني: وهذا أصح القولين، وأما الحكم الشرعي الذي ثبت بالقياس، فلا يصح تعديته أصلا؛ لأن الفرع إن كان يساوي ما ثبت فيه الحكم بالقياس في العلة فهو يساوي واقعة النص في نفس العلة، ويكون الحكم المعدى بالقياس هو حكم النص، وإن كان لا يساويه في العلة فلا يصح أن يساويه في الحكم، وعلى هذا لا يصح أن يقال: حرم نبيذ التفاح قياسا على نبيذ التمر الثابت حكمه بالقياس على الخمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 لأن نبيذ التفاح أن كان يساوي نبيذ التمر في الإسكار فهو يساوي الخمر، ويكون تحريمه بالقياس على الخمر لا على نبيذ التمر وإن كان لا يساويه في الإسكار، فلا يساويه في التحريم. الثاني: أن يكون حكم الأصل مما للعقل سبيل إلى إدراك علته؛ لأنه إذا كان لا سبيل للعقل إلى إدراك علته لا يمكن أن يعدى بواسطة القياس؛ لأن أساس القياس إدراك علة حكم الأصل، وإدراك تحققها في الفرع. وتوضيح هذا الشرط؛ إن الأحكام الشرعية العملية جميعها إنما شرعت لمصالح الناس ولعلل بنيت عليها، وما شرع حكم منها عبثا لغير علة. غير أن الأحكام نوعان: أحكام استأثر الله بعلم عللها، ولم يمهد السبيل إلى إدراك هذه العلل ليبلو عباده ويختبرهم: هل يمتثلون وينفذون ولو لم يدركوا ما بني عليه الحكم من علة، وتسمى هذه الأحكام: التعبدية، أو غير المعقولة المعنى. ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي يجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث. وأحكام لم يستأثر الله بعلم عللها بل أرشد العقول إلى عللها بنصوص أو بدلائل أخرى أقامها للاهتداء بها، وهذه تسمى: الأحكام المعقولة المعنى، وهذه هي التي يمكن أن تعدي من الأصل إلى غيره بواسطة القياس؛ سواء أكانت أحكاما مبتدأة أي ليست استثناء من أحكام كلية، كتحريم شرب الخمر الذي عدي بالقياس إلى شرب أي نبيذ مسكر، وتحريم الربا في القمح والشعير الذي عدي بالقياس إلى الذرة والأرز، أم كانت أحكاما مستثناة من أحكام كلية كالترخيص في العرايا1 استثناء من بيع الجنس بجنسه متفاضلا، الذي عدي بالقياس إلى بيع العنب على الكرم بالزبيب، وبقاء الصوم مع أكل الصائم ناسيا استثناء من فساد الصوم بوصول غذاء إلى معدة الصائم الذي عدي بالقياس إلى أكل الصائم خطأ، أو مكرها، وإلى بقاء الصلاة مع تكلم المصلي ناسيا، فالشرط لصحة تعدية حكم الأصل أن يكون معقول المعنى بلا فرق بين كونه حكما مبتدأ ليس استثناء من كونه حكما كليا، وكونه حكما استثنائيا من حكم كلي، وأما إذا كان غير معقول المعنى فلا يصح تعديته سواء أكان حكما أصليا أم   1 العرايا: بيع الرطب على النحل بمثله من التمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 استثنائيا، وعلى هذا لا قياس في العبادات والحدود، وفروض الإرث وأعداد الركعات. الثالث: أن يكون حكم الأصل غير مختص به، وأما إذا كان حكم الأصل مختصا به فلا يعدى بالقياس إلى غيره. ولا يكون حكم الأصل مختصا به في حالتين، الأولى: إذا كانت علة الحكم لا يتصور وجودها في غير الأصل، كقصر الصلاة للمسافر، فهذا حكم معقول المعنى؛ لأن فيه دفع مشقة، ولكن علته السفر، والسفر لا يتصور وجوده في غير المسافة، وكذلك إباحة المسح على الخفين حكم معقول المعنى؛ لأن فيه تيسيرا ورفع حرج، ولكن علته لبس الخفين ولا يتصور وجودهما في غير لبسهما. والثانية: إذا دل دليل على تخصيص حكم الأصل به، مثل الأحكام التي دل دليل على أنها مختصة بالرسول، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات وتحريم الزواج إحدى زوجاته بعد موته، ومثل الاكتفاء في القضاء بشهادة خزيمة بن ثابت وحده بقول الرسول: "من شهد له خزيمة فهو حسبه". فإن النصوص التي وردت في القرآن والسنة دالة على أنه لا يباح التزوج بأكثر من أربع، وعلى أن المتوفى عنها زوجها بعد انقضاء عدتها يحل لها أن تتزوج، وعلى أنه لا بد في الشهادة من رجلين أو رجل وامرأتين، وهي أدلة على تخصيص الحكم بالرسول وبخزيمة. وأما الركن الرابع: وهو علة القياس فهذا هو أهم الأركان؛ لأن علة القياس هي أساسه، وبحوثها أهم بحوث القياس، وهي كثيرة نقتصر منها على أربعة: تعريفها؛ وشروطها؛ وأقسامها؛ ومسالكها. 1- تعريف العلة: العلة: هي وصف في الأصل بني عليه حكمه ويعرف به وجود هذا الحكم في الفرع، فالإسكار وصف في الخمر بني عليه تحريمه، ويعرف به وجود التحريم في كل نبيذ مسكر، والاعتداء وصف في ابتياع الإنسان على ابتياع أخيه بني عليه تحريمه، ويعرف به وجود التحريم في استئجار الإنسان على استئجار أخيه، وهذا هو مراد الأصوليين بقولهم: العلة هي المعرف للحكم وتسمى العلة: مناط الحكم، وسببه وأمارته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ومن المتفق عليه بين جمهور علماء المسلمين أن الله سبحانه ما شرع حكما إلا لمصلحة عباده، وأن هذه المصلحة إما جلب نفع لهم وإما دفع ضرر عنهم، فالباعث على تشريع أي حكم شرعي هو جلب منفعة للناس ودفع ضرر عنهم، وهذا الباعث على تشريع الحكم هو الغاية المقصودة من تشريعه وهو حكمة الحكم، فإباحة الفطر للمريض في رمضان حكمته دفع المشقة عن الريض، واستحقاق الشفعة للشريك أو الجار حكمته دفع الضرر عنه، وإيجاب القصاص من القاتل عمدا وعدوانا حكمته حفظ حياة الناس، وإيجاب قطع يد السارق حكمته حفظ أموال الناس، وإباحة المعاوضات حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، فحكمة كل حكم شرعي تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة. وكان المتبادر أن يبنى كل حكم على حكمته، وأن يرتبط وجوده بوجودها وعدمه بعدمها؛ لأنها هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، ولكن رثى بالاستقراء أن الحكمة في تشريع بعض الأحكام قد تكون أمرا خفيا غير ظاهر، أي لا يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة، فلا يمكن التحقق من وجوده ولا من عدم وجوده، ولا يمكن بناء الحكم عليه ولا ربط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه، مثل إباحة المعاوضات التي حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، فالحاجة أمر خفي، ولا يمكن معرفة أن المعاوضة لحاجة أو لغير حاجة، ومثل ثبوت النسب بالزوجية الذي حكمته هو الاتصال الجنسي المفضي إلى حمل الزوجة من زوجها، وهذا أمر خفي لا يمكن الوقوف عليه، وقد تكون الحكمة أمرًا تقديريا أي أمرا غير منضبط فلا ينضبط بناء الحكم عليه، ولا ربطه به وجودا وعدما، مثال هذا: إباحة الفطر في رمضان للمريض، حكمتها دفع المشقة، وهذا أمر تقديري يختلف باختلاف الناس وأحوالهم، فلو بنى الحكم عليه لا ينضبط التكليف ولا يستقيم، وكذلك استحقاق الشفعة للشريك أو الجار حكمته دفع الضرر وهو أمر تقديري غير منضبط، فلأجل خفاء حكمة التشريع في بعض الأحكام، وعدم انضباطها في بعضها، لزم أمر آخر يكون ظاهرًا أو منضبطا يبنى عليه الحكم ويربط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه ويكون مناسبًا لحكمته، بمعنى أنه مظنة لها وأن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها؛ وهذا الأمر الظاهر المنضبط الذي بني الحكم عليه؛ لأنه مظنة لحكمته؛ ولأن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها، وهو المراد بالعلة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 اصطلاح الأصوليين، فالفرق بين حكمة الحكم، وعلته هو أن حكمة الحكم هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه، وهي المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم تحقيقها أو تكميلها، أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم دفعها أو تقليلها. وأما علة الحكم فهي الأمر الظاهر المنضبط الذي بني الحكم عليه وربط به وجودا وعدما؛ لأن الشأن في بنائه عليه وربطه به أن يحقق حكمة تشريع الحكم، فقصر الصلاة الرباعية للمسافر حكمته التخفيف ودفع المشقة، وهذه الحكمة أمر تقديري غير منضبط لا يمكن بناء الحكم عليه وجودا وعدما، فاعتبر الشارع السفر مناطا للحكم، وهو أمر ظاهر منضبط وفي جعله مناطا للحكم مظنة تحقيق حكمته؛ لأن الشأن في السفر أنه توجد فيه بعض المشقات، فحكمة قصر الصلاة الرباعية للمسافر دفع المشقة عنه، وعلته السفر. واستحقاق الشفعة بالشركة أو الجوار حكمته دفع الضرر عن الشريك أو مناط الحكم؛ لأن كلا منهما أمر ظاهر منضبط وفي جعله مناطًا للحكم مظنة تحقيق حكمته إذ الشأن أن الضرر ينال الشريك أو الجار، فحكمة استحقاق الشفعة دفع الضرر، وعلته الشركة أو الجوار. وإباحة المعاوضات حكمتها دفع الحرج عن الناس بسد حاجاتهم، وهذه الحكمة أمر خفي فاعتبرت صيغة العقد مناطا لحكمته؛ لأنها أمر ظاهر منضبط وفي جعلها مناطا مظنة تحقيق الحكمة؛ لأن الصيغة عنوان تراضي المتعارضين بالمعاوضة، والشأن في تراضيهما بها أن يكون عن حاجتهما إليها، فحكمة نقل الملكية في البدلين بالبيع أو الإجارة سد الحاجة، وعلته صيغة عقد البيع أو الإجارة. وعلى هذا فجميع الأحكام الشرعية تبنى على عللها، أي تربط بها وجودا وعدما، لا على حكمها، ومعنى هذا أن الحكم الشرعي يوجد حيث توجد علته ولو تخلفت حكمته، وينتفي حيث تنتفي علته ولو وجدت حكمته؛ لأن الحكمة لخفائها في بعض الأحكام، ولعدم انضباطها في بعض لا يمكن أن تكون أمارة على وجود الحكم أو عدمه، ولا يستقيم ميزان التكليف والتعامل إذا ربطت الأحكام بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فالشارع الحكيم لما اعتبر لكل حكم علة هي أمر ظاهر منضبط يظن تحقق الحكمة يربط الحكم به جعل مناط الأحكام عللها، ليستقيم التكليف وتنسق أحكام المعاملات، ويعرف ما يترتب على الأسباب من مسببات. وتخلف الحكمة في بعض الجزئيات لا أثر له بإزاء استقامة التكاليف واطراد الأحكام، لهذا قرر الأصوليون أن الأحكام الشرعية تدور وجودًا وعدما مع عللها لا مع حكمها، وبعبارة أخرى مناط الحكم الشرعي مظنته لا مئنته، فمن كان في رمضان على سفر يباح له الفطر لوجود علة إباحته وهي السفر، وإن كان في سفره لا يجد مشقة، ومن كان شريكا في العقار المبيع أو جارا له يستحق أخذه بالشفعة، لوجود علة استحقاقها وهي الشركة أو الجوار، وإن كان المشتري لا يخشى منه أي ضرر، ومن لم يكن شريكا في العقار المبيع أو جارا لا يستحق أخذه بالشفعة وإن كان لأي سبب من الأسباب يناله من شراء المشتري ضرر، ومن كان في رمضان غير مريض ولا مسافر لا يباح له الفطر، وإن كان عاملا في محجر أو منجم ويجد من الصوم أقسى مشقة، ومن حصل على النهاية الصغرى في الامتحان نجح وإن لم يلم بالعلوم، ومن لم يحصل عليها لا ينجح وإن كان ملمًّا بالعلوم. وما دام الحكم الشرعي يبنى على علته لا على حكمته فعلى المجتهد حين القياس أن يتحقق من تساوي الأصل والفرع في العلة لا في الحكمة، وعلى القاضي أن يقضي بالحكم حيث توجد العلة بصرف النظر عن الحكمة، فإذا قضى بالشفعة لغير شريك، ولا جار بناء على أنه يناله الضرر من شراء هذا المشتري فهو خاطئ وإذا رفض الحكم باستحقاق الشفعة لشريك أو جار بناء على أنه لا ضرر عليه من شراء هذا المشتري فهو خاطئ. ولكن في بعض الأحكام رئي أن الحكم قد تخلف عن علته، فقد قرر الفقهاء أن بيع المكره باطل، فالعلة وهي صيغة العقد وجدت ولم يوجد الحكم وهو نقل الملكية، ونصت المادة 15 من القانون رقم 25 لسنة 1929 على أنه لا تسمع دعوى النسب عند الإنكار لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينها وبين زوجها من حين عقد العقد، فالزواج وجد ولم يوجد حكمه وهو ثبوت النسب. والقاصر إذا بلغ 21 سنة ودلت القرائن على أنه غير رشيد لا تنتهي الولاية عليه مع وجود علة انتهائها وهو بلوغ سن الرشد، والحقيقة أن هذه الأحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وأمثالها لا منافاة بينها وبين ما تقدم؛ لأننا قدمنا أن العلل الظاهرة المنضبطة إنما تبنى الأحكام عليها، على أساس أنها مظان لحكمها وإن المظنة أقيمت مقام المئنة، لكن إذا قام الدليل على نفي أن يكون هذا الظاهر المنضبط مظنة لحكمة الحكم فقد دل على أنه فقد أساس العلية، ولم يبق علة، فالإكراه على البيع نفى أن تكون الصيغة مظنة التراضي الذي هو دليل الحاجة، فالصيغة من المكره ليس علة، والزوجية التي ثبت فيها أن الزوجين لم يلتقيا من حين العقد لم تبق مظنة لأن تكون الزوجة حملت من زوجها فليست علة لثبوت النسب، وبلوغ 21 سنة لم يبق مظنة لحسن التصرف المالي مع دلائل عدم الرشد. ومما ينبغي التنبيه له أن بعض الأصوليين جعل العلة والسبب مترادفين ومعناها واحدًا، ولكن أكثرهم على غير هذا، فعندهم كل من العلة والسبب علامة على الحكم، كل منهما بني الحكم عليه وربط به وجودا وعدما وكل منهما للشارع حكمة في ربط الحكم به وبنائه عليه، ولكن إذا كانت المناسبة في هذا الربط مما تدركه عقولنا سمي الوصف: العلة، وسمي أيضا: السبب، وإن كانت مما لا تدركه عقولنا سمي السبب فقط ولا يسمى العلة: فالسفر لقصر الصلاة الرباعية علة وسبب وأما غروب الشمس لإيجاب فريضة المغرب وزوالها لإيجاب فريضة الظهر، وشهود رمضان لإيجاب صومه، فكل من هذه سبب لا علة، فكل علة سبب، وليس كل سبب علة. شروط العلة: الأصل الذي ورد النص بحكمه قد يكون مشتملا على عدة أوصاف وخواص، وليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، بل لا بد في الوصف الذي يعلل به حكم الأصل من أن تتوافر فيه جملة شروط، وهذه الشروط استمدها الأصوليون من استقراء العلل المنصوص عليها، ومن مراعاة تعريف العلة، ومن الغرض المقصود من التعليل وهو تعدية الحكم إلى الفرع، وبعض هذه الشروط اتفقت على اشتراطها كلمة الأصوليين، وبعضها لم تتفق عليها كلمتهم، ونحن نقتصر على بيان الشروط المتفق عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 شروط العلة المتفق عليها أربعة: أولها: أن تكون وصفا ظاهرا، ومعنى ظهوره أن يكون محسا يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة؛ لأن العلة هي المعرف للحكم في الفرع فلا بد أن تكون أمرا ظاهرا يدرك بالحس في الأصل ويدرك بالحس وجوده في الفرع، كالإسكار الذي يدرك بالحس في الخمر ويتحقق بالحس من وجوده في نبيذ آخر مسكر، والقدر مع اتحاد الجنس اللذين يدركان بالحس في الأموال الربوية الستة، ويتحقق بالحس من وجودهما في مال آخر من المقدرات. لهذا لا يصح التعليل بأمر خفي لا يدرك بحاسة ظاهرة؛ لأنه لا يمكن التحقق من وجوده ولا عدمه، فلا يعلل ثبوت النسب بحصول نطفة الزوج في رحم زوجته، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي عقد الزواج الصحيح، ولا يعلل نقل الملكية في البدلين بتراضي المتبايعين بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي الإيجاب والقبول، ولا يعلل بلوغ الحلم بكمال العقل بل يعلل بمظنته الظاهرة، وهي بلوغ 15 سنة أو ظهور علامة من علامات البلوغ قبلها. وثانيها: أن يكون وصفا منضبطا، ومعنى انضباطه أن تكون له حقيقة معينة محدودة يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدها أو بتفاوت يسير؛ لأن أساس القياس تساوي الفرع والأصل في علة حكم الأصل، وهذا التساوي يستلزم أن تكون العلة مضبوطة محدودة حتى يمكن الحكم بأن الواقعتين متساويتان فيها، كالقتل العمد العدوان من الوارث لمورهة حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في قتل الموصى له للموصي، والاعتداء في ابتياع الإنسان على ابتياع أخيه حقيقته مضبوطة، وأمكن تحقيقها في استئجار الإنسان على استئجار أخيه. لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف المرنة غير المضبوطة، التي تختلف اختلافا بينا باختلاف الظروف والأحوال والأفراد، فلا تعلل إباحة الفطر في رمضان للمريض، أو المسافر بدفع المشقة بل بمظنتها وهو السفر أو المرض. وثالثها: أن تكون وصفا مناسبا، ومعنى مناسبته أن يكون مظنة لتحقيق حكمة الحكم، أي أن ربط الحكم به وجودا وعدما من شأنه أن يحقق ما قصده الشارع بتشريع الحكم من جلب نفع أو دفع ضرر؛ لأن الباعث الحقيقي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 تشريع الحكم والغاية المقصودة منه هو حكمته؛ ولو كانت الحكمة في جميع الأحكام ظاهرة مضبوطة لكانت هي علل الأحكام؛ لأنها هي الباعثة على تشريعها، ولكن لعدم ظهورها في بعض الأحكام وعدم انضباطها في بعضها، أقيمت مقامها أوصاف ظاهرة مضبوطة ملائمة ومناسبة لها، وما ساغ اعتبار هذه الأوصاف عللًا للأحكام ولا أقيمت مقام حكمها إلا أنها مظنة لهذا الحكم، فإذا لم تكن مناسبة ولا ملائمة لم تصلح علة للحكم، فالإسكار مناسب لتحريم الخمر؛ لأن في بناء التحريم عليه حفظ العقول، والقتل العمد العدوان مناسب لإيجاب القصاص؛ لأن في بناء القصاص عليه حفظ حياة الناس، والسرقة مناسبة لإيجاب قطع يد السارق والسارقة؛ لأن في بناء القطع عليها حفظ أموال الناس. لهذا لا يصح التعليل بالأوصاف غير المناسبة، وتسمى بالأوصاف الطردية أو الاتفاقية التي لا تعقل علاقة لها بالحكم، ولا بحكمته كلون الخمر أو كون القاتل عمدًا عدوانا مصري الجنس أو كون السارق أسمر اللون، أو كون المفطر عمدا في رمضان أعرابيا، ولا يصح التعليل بأوصاف مناسبة بأصلها إذا طرأ عليها في بعض الجزئيات ما ذهب بمناسبتها وجعلها قطعا غير مظنة لحكمة التشريع، فصيغة البيع من المكره لا تصلح علة لنقل الملكية، وزوجية من ثبت عدم تلاقيها من حين العقد لا تصلح علة لثبوت النسب، وبلوغ من بلغ مجنونًا لا يصلح علة لزوال الولاية النفسية عنه؛ لأن البيع والزواج والبلوغ في هذه الجزئيات ليست مظنة ولا مناسبة. رابعها: أن لا تكون وصفا قاصرا على الأصل، ومعنى هذا أن تكون وصفا يمكن أن يتحقق في عدة أفراد ويوجد في غير الأصل؛ لأن الغرض المقصود من تعليل حكم الأصل تعديته إلى الفرع، فلو علل بعلة لا توجد في غير الأصل لا يمكن أن تكون أساسًا للقياس، ولهذا لما علمت الأحكام التي هي من خصائص الرسول، بأنها لذات الرسول لم يصلح فيها القياس، فلا يصح تعليل تحريم الخمر بأنها نبيذ العنب تخمر، ولا تعليل تحريم الربا في الأموال الربوية الستة بأنها ذهب أو فضة. وبعض الأصوليين خالف في اشتراط هذا الشرط في العلة، وينبغي أن لا يكون في اشتراط هذا الشرط خلاف، ما دام المقصود هو شروط العلة التي هي ركن القياس وأساسه؛ لأنه لا تكون له العلة أساسا للقياس إلا إذا كانت متعدية، أي أمرا غير خاص بالأصل، ويمكن وجوده في غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أقسام العلة: تقسيم العلة من ناحية اعتبار الشارع إياها وعدمه: قدمنا في بحث "شروط العلة" أنه ليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، وأنه لا يصح التعليل بوصف إلا إذا كان ظاهرا منضبطا لحكمته، بحيث يكون بناء الحكم عليه وربطه به من شأنه أن يحقق المصلحة التي شرع الحكم من أجلها، ونقرر هنا أنه للاحتياط يشترط أن يكون الوصف المناسب مع ظهوره وانضباطه قد اعتبره الشارع علة بأي نوع من أنواع الاعتبار. ومن ناحية اعتبار الشاعر للمناسب وعدم اعتباره إياه، قسم الأصوليون الوصف المناسب إلى أقسام أربعة: المناسب المؤثر، والمناسب الملائم، والمناسب المرسل، والمناسب الملغي، وبنوا الحصر في هذه الأقسام على أن الوصف المناسب إذا اعتبره الشارع بعينة علة لحكم بعينه فهو المناسب المؤثر، وإذا اعتبره الشارع علة بنوع أخر من أنواع الاعتبار الثلاثة التي سيأتي بيانها فهو المناسب الملائم، وإذا لم يعتبره الشارع بأي نوع من أنواع الاعتبار ولم يلغ اعتباره ولم يرتب حكما على وفقه، فهو المناسب المرسل، وإذا ألغى الشارع اعتباره فهو المناسب الملغي، وقد اتفقوا على صحة التعليل بالمناسب المؤثر وبالمناسب الملائم، وعلى عدم صحة التعليل بالمناسب الملغي، واختلفوا في صحة التعليل بالمناسب المرسل، وهذا بيان الأقسام الأربعة وأمثلتها. 1- المناسب المؤثر: وهو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وفقه وثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة للحكم، الذي رتب على وفقه ومثاله قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} الحكم الثابت بهذا النص هو إيجاب اعتزال النساء في المحيض، وقد رتب على أنه أذى، وصوغ النص صريح في أن علة هذا الحكم هو الأذى، فالأذى لإيجاب اعتزال النساء في المحيض وصف مناسب مؤثر، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل" الحكم الثابت بهذا النص هو منع القاتل من إرث مورثه، وقد رتب على أنه قاتل، وصوغ النص يومئ إلى أن علة هذا المنع هو القتل؛ لأن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بأن مصدر الاشتقاق هو العلة، فالقتل للمنع من الإرث وصف مناسب مؤثر، وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} الحكم الثابت بهذا النص: أن من لم يبلغ الحلم من اليتامى تثبت الولاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 على ماله لوليه، وقد ثبت بالإجماع أن على ثبوت الولاية المالية على الصغير صغره، فالصغر لثبوت الولاية المالية وصف مناسب مؤثر، فكل حكم شرعي رتب على وصف مناسب في محله، ودل نص أو إجماع على أن هذا الوصف هو علة هذا الحكم، فهذا الوصف مناسب مؤثر، وهذا أعلى درجات اعتبار الوصف المناسب. 2- المناسب الملائم: هو الوصف المناسب الذي رتب الشارع حكمًا على وفقه، ولم يثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة لنفس الحكم الذي رتب على وفقه، ولكن ثبت بالنص أو الإجماع اعتباره بعينه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه، أو اعتبار وصف من جنسه علة لهذا الحكم بعينه، أو اعتبار وصف من جنسه علة لحكم من جنس هذا الحكم، فمتى كان الوصف المناسب معتبرًا بنوع من هذه الأنواع الثلاثة للاعتبار كان التعليل به موافقًا تصرفات الشارع في تشريعه وتعليله ولهذا سمى المناسب الملائم أي الموافق تصرفات الشارع في تشريعه وتعليله ولهذا يسمى المناسب الملائم، أي الموافق تصرفات الشارع في تشريعه وتعليله، ولهذا يسمى المناسب الملائم، أي الموافق تصرفات الشارع، وقد اتفق على صحة التعليل به وبناء القياس عليه. مثال الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع بعينه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: الصغر لثبوت الولاية للأب في تزويج الصغيرة، وذلك أنه ثبت بالنص ثبوت الولاية للأب في تزويج بنته البكر الصغيرة، فالحكم وهو ثبوت الولاية رتب على وفق البكارة، والصغر ولم يدل نص أو إجماع على أن العلة لثبوت هذا الولاية البكارة أو الصغر، لكن ثبت بالإجماع اعتبار الصغر علة للولاية على مال الصغيرة، والولاية على النفس هي وولاية التزويج من جنس واحد، وهو الولاية، فكأن الشارع لما اعتبر الصغر علة للولاية على مال الصغيرة اعتبر الصغر علة الولاية عليها بأنواعها، ومن أنواع الولاية: الولاية على تزويجها. فعلة ثبوت الولاية للأب على تزويج البكر الصغيرة الصغر، وبما أن الصغر يتحقق في الثيب الصغيرة، فتقاس على البكر الصغيرة وتثبت عليها ولاية التزويج، وتقاس عليها أيضًا من في حكم الصغيرة وهي المجنونة المعتوهة. ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر الشارع وصفا من جنسه علة للحكم الذي رتب على وفقه: المطر لإباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أنه ثبت بالنص إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر، فالحكم وهو إباحة الجمع بين الصلاتين رتب على وفق حال المطر، ولم يدل نص ولا إجماع على أن المطر هو علة هذا الحكم، لكن دل نص آخر على إباحة الجمع بين الصلاتين في وقت واحد حال السفر، وثبت بالإجماع أن علة إباحة الجمع السفر، والسفر والمطر نوعان من جنس واحد؛ لأن كلا منهما عاض مظنة الحرج والمشقة، فكأن الشارع لما اعتبر السفر علة لإباحة الجمع بين الصلاتين اعتبر كل ما هو من جنسه علة لهذه الإباحة، فعلة إباحة الجمع بين الصلاتين حال المطر: المطر، ويقاس عليه حال الثلج والبرد. ومثال الوصف المناسب الذي اعتبر الشارع وصفا من جنسه علة لحكم من جنس الحكم الذي رتب على وفقه: تكرار أوقات الصلوات في الليل والنهار لسقوط قضاء الصلاة عن الحائض، وذلك أنه قد ثبت بالنصب أن الحائض في أثناء حيضها لا تصوم ولا تصلي وأن عليها إذا طهرت أن تقضي الصوم دون الصلاة، فالحكم وهو سقوط قضاء الصلوات عنها لم يدل على علته ولكن رئي أن تكرار أوقات الصلوات ليلًا ونهارًا مظنة الحرج والمشقة في أدائها، والشارع اعتبر أشياء كثيرة هي مظان الحرج عللًا لأحكام كثيرة هي رخص وتخفيف عن المكلف، كالمرض والسفر لإباحة الفطر في رمضان، والسفر لقصر الصلاة الرباعية، وعدم الماء للتيمم، ودفع الحاجة للسلم والعرايا، فكأن الشارع اعتبر كل نوع من أنواع مظان الحرج علة لكل نوع من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف. وتكرار أوقات الصلوات من أنواع مظان الحرج، وسقوط قضائها عن الحائض من أنواع الأحكام التي فيها تخفيف. وهذا النوع من أنواع الاعتبار يفسح المجال للتعديل بالأوصاف المناسبة؛ لأن كل وصف مناسب رتب الشارع الحكم على وفقه، لا يخلو من أن يكون أي وصف من جنسه اعتبره الشارع علة لحكم من جنس حكمه، وصحة التعليل بالمناسب بناء على اعتبار جنسه في جنس الحكم تفتح أبواب القياس بسعة؛ لأن مآل هذا: أن الشارع إذا اعتبر وصفا هو مظنة الحرج علة لحكم فيه تخفيف، صح اعتبار أي وصف آخر من مظان الحرج علة لأي حكم آخر فيه تخفيف. ولا يتصور أن يوجد وصف مناسب رتب الشارع حكمًا على وفقه، ولم يعتبره بأي نوع من أنواع الاعتبار السابقة، بل لا بد أن الشارع اعتبره ولو باعتبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 جنسه علة لجنس حكمه، وعلى هذا فكل وصف مناسب رتب الشارع حكمًا على وفقه، فهو إما مؤثر وإما ملائم، وأما ما سماه بعض الأصوليين بالمناسب الغريب فلا يتصور وجوده؛ لأنهم عرفوه بالوصف المناسب الذي رتب الشارع حكما على وفقه ولم يثبت اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، وقد بينا أنه مع السعة في اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم لا يوجد مناسب غريب، ولهذا لم يذكر صاحب جمع الجوامع المناسب الغريب، واقتصر على تقسيم المناسب إلى مؤثر وملائم ومرسل، وهذا الذي اخترناه. 3- المناسب المرسل: هو الوصف الذي لم يرتب الشارع حكما على وفقه ولم يدل دليل شرعي على اعتباره بأي نوع من أنواع الاعتبار، ولا على إلغاء اعتباره فهو مناسب أن يحقق مصلحة؛ ولكنه مرسل أي مطلق عن دليل اعتبار ودليل إلغاء، وهذا هو الذي يسمى في اصطلاح الأصوليين "المصلحة المرسلة" ومثاله: المصالح التي بنى عليها الصحابة تشريع وضع الخراج على الأرض الزراعية، وضرب النقود وتدوين القرآن ونشره وغير هذا من المصالح التي شرعوا الأحكام بناء عليها، ولم يقم دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغاء اعتبارها. وهذا المناسب المرسل اختلف العلماء في تشريع الأحكام بناء عليه، فمنهم من نظر إلى ناحية أن الشارع لم يعتبره فقال: لا يبنى عليه تشريع، ومنهم من نظر إلى أن الشارع لم يلغ اعتباره فقال: يبني عليه التشريع وسيأتي بحثه مفصلًا. 4- المناسب الملغي: وهو الوصف الذي يظهر أن في بناء الحكم عليه تحقيق مصلحة، ولم يرتب الشارع حكما على وفقه، ودل الشارع بأي دليل على إلغاء اعتباره، مثل تساوي الابن والبنت في القرابة لتساويها في الإرث. ومثل إلزام المفطر عمدا في رمضان بعقوبة خاصة لردعه. وهذا لا يصح بناء تشريع عليه، وسيأتي بحثه مفصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 مسالك العلة: المراد بمسالك العلة: الطرق التي يتوصل بها إلى معرفتها، وأشهر هذه المسالك ثلاثة: أولا- النص: إذا دل نص في القرآن أو السنة على أن علة الحكم هي هذا الوصف كان هذا الوصف علة بالنص، ويسمى العلة المنصوص عليها وكان القياس بناء عليه هو الحقيقة تطبيق للنص، ودلالة النص على أن الوصف علة قد تكون صراحة وقد تكون إيماء أي إشارة وتلويحا لا تصريحا. فالدلالة صراحة هي: دلالة لفظ في النص على العلية بوضعه اللغوي مثل ما إذا ورد في النص لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص، لا يحتمل غير الدلالة على العلية، فدلالة النص على علية الوصف صريحة قطعية كقوله تعالى في تعليله بعثة الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وقوله في إيجاب أخذ خمس الفيء للفقراء والمساكين {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} . وكقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم عن إدخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة فكلوا وادخروا"، وإذا كان اللفظ الدال على العلية في النص يحتمل الدلالة على غير العلية، فدلالة النص على علية الوصف صريحة ظنية، مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وقول الرسول في طهارة سؤر الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، وإنما كانت دلالة النص على العلية ظنية في هذه الأمثلة؛ لأن الألفاظ الدالة عليها فيها -وهي اللام، والباء، والفاء، وإن- كما تستعمل في التعليل تستعمل في غيره، وإن كان التعليل هو الظاهر من معانيها في هذه النصوص. وأما دلالة النص على العلية إيماء أي إشارة وتنبيها؛ فهي مثل الدلالة المستفادة من ترتيب الحكم من الوصف واقترانه به، بحيث يتبادر من هذا الاقتران فهم علية الوصف للحكم وإلا لم يكن للاقتران وجه، وذلك مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 "يقضي القاضي وهو غضبان"، وقوله: "لا يرث القاتل"، وقوله: "للراجل سهم وللفارس سهمان"، وقوله للأعرابي لما قال له: "واقعت أهلي في نهار رمضان عمدا"، "كفِّر" وكون الدلالة صراحة أو إيماء، قطعية أو ظنية، مدارها على وضع اللغة وسياق النص. ثانيا- الإجماع: إذا اتفق المجتهدون في عصر من العصور على علية وصف حكم شرعي ثبتت علية هذا الوصف للحكم بالإجماع، ومثال هذا إجماعهم على أن علة الولاية المالية على الصغيرة الصغر، وفي عد هذا مسلكا نظر؛ لأن نفاة القياس لا يقيسون ولا يعللون فكيف ينعقد بدون إجماع؟. ثالثا- السبر والتقسيم: السبر: معناه الاختبار، ومنه المسبار، والتقسيم هو حصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة في الأصل، وترديد العلة بينها بأن يقال: العلة إما هذا الوصف أو هذا الوصف فإذا ورد نص بحكم شرعي في واقعة ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم، سلك المجتهد للتوصل إلى معرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم، بأن يحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم، وتصلح لأن تكون العلة وصفًا منها، ويختبرها وصفًا وصفًا على ضوء الشروط الواجب توافرها في العلة، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به، بواسطة هذا الاختبار يستبعد الأوصاف التي لا تصلح أن تكون علة، ويستبقي ما يصلح أن يكون علة، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحم بأن هذا الوصف علة، مثلا: ورد النصل بتحريم ربا الفضل والنسيئة في مبادلة الشعير بالشعير، ولم يدل نص ولا إجماع على علة هذا الحكم فالمجتهد يسلك لمعرفة علة هذا الحكم مسلك السبر التقسيم بأن يقول: علة هذا الحكم إما كون الشعير مما يضبط قدره؛ لأنه يضبط بالكيل، وإما كونه طعاما، وإما كونه مما يقتات به ويدخر؛ لكن كونه طعاما لا يصلح علة؛ لأن التحريم ثابت في الذهب بالذهب وليس الذهب طعاما، وكونه قوتا لا يصلح أيضا؛ لأن التحريم ثابت في الملح بالملح، وليس قوتا، فيتعين أن تكو العلة كونه مقدرًا، وبناء على هذا يقاس على ما ورد في النص كل المقدرات بالكيل أو الوزن، ففي مبادلتها بجنسها يحرم ربا الفضل والنسيئة، وكذا ورد النص بتزويج الأب بنته البكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الصغيرة، ولم يدل نص ولا إجماع على علة ثبوت هذه الولاية فالمجتهد يردد العلية بين كونها بكرا وكونها صغيرة، ويستبعد البكارة؛ لأن الشارع ما اعتبرها للتعليل بنوع من أنواع الاعتبار، ويستبقي الصغر؛ لأن الشارع اعتبره علة للولاية على المال، وهي والولاية على التزويج من جنس واحد، فيحكم بأن العلة الصغر ويقيس على البكر الصغيرة الثيب الصغيرة بجامع الصغر، وكذا ورد النص بتحريم شرب الخمر ولم يدل نص على علة الحكم، فالمجتهد يردد العلية بين كونه من العنب أو كونه سائلًا أو كونه مسكرا، ويستبعد الوصف الأول؛ لأنه قاصر والثاني؛ لأنه طردي غير مناسب ويستبقى الثالث فيحكم بأنه علة. وخلاصة هذا المسلك؛ أن المجتهد عليه أن يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علة منها، ويستبقى ما هو علة حسب رجحان ظنه، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقق شروط العلة، بحيث لا يستبقى إلا وصفا ظاهرا منضبطا متعديا مناسبا معتبرا بنوع من أنواع الاعتبار، وفي هذا تتافوت عقول المجتهدين؛ لأن منهم من يرى المناسب هذا الوصف، ومنهم من يرى المناسب وصفًا آخر، فالحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية القدر مع اتحاد الجنس، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس، والمالكية رأوه القوت والادخار مع اتحاد الجنس، والحنفية رأوا المناسب في تعليل ثبوت الولاية على البكر الصغيرة الصغر، والشافعية رأوه البكارة. وبعض علماء الأصول عد من مسالك العلة تنقيح المناط، والمراد بتنقيح المناط، هو تهذيب ما نيط به الحكم وبني عليه وهو علته، والحق أن تنقيح المناط إنما يكون حيث دال النص على العلية من غير تعين وصف بعينه علة، فهو ليس مسلكا للتوصل به إلى تعليل الحكم؛ لأن تعليل الحكم مستفاد من النص، وإنما هو مسلك لتهذيب وتخليص علة الحكم مما اقترن بها من الأوصاف التي لا مدخل لها في العلية، ومثال هذا ما ورد في السنة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله وقال له: هلكت، فقال له الرسول: "ما صنعت"؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عمدًا، فقال له الرسول: "كفر ............... " الحديث. فهذا النص دل بالإيماء على أن علة إيجاب التكفير على الأعرابي ما وقع منه ولكن هذا الذي وقع منه فيه ما لا مدخل له في العلية لإيجاب التكفير مثل كونه أعرابيا، وكونه واقع خصوص زوجته، وكونه واقع في نهار رمضان من تلك السنة بعينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فالمجتهد يستبعد هذه الأوصاف؛ لأنها لا مدخل لها في العلية، ويستخلص علة الوقاع عمدًا في نهار رمضان، وعلى هذا تجب الكفارة على من أفطر عامدا في نهار رمضان بالجماع خاصة، وهذا مذهب الشافعي، وأما الحنفية فقالوا: إن مثل الجماع كل مفطر، وهذه المماثلة تفهم بالتبادر فتجب الكفارة على كل من أفطر عمدا في نهار رمضان بجماع، أو بأكل أو بشرب أو غيرها، فيكون المناط لإيجاب الكفارة عندهم بعد تهذيبه المفسد للصوم عمدًا، فتهذيب العلة مما اقترن بها ومما لا مدخل له في العلية هو تنقيح المناط. ومن هذا يتبين أن تنقيح المناط غير السبر والتقسيم؛ لأن تنقيح المناط يكون حيث دل نص على مناط الحكم، ولكنه غير مهذب ولا خالص من اقتران ما لا مدخل له في العلية به، وأما السبر والتقسيم فيكونان حيث لا يوجد نص أصلا على مناط الحكم، ويراد التوصل بهما إلى معرفة العلة لا إلى تهذيبها من غيرها، وأما النظر في استخراج العلة غير المنصوص عليها، ولا المجمع عليها بواسطة السبر والتقسيم، أو بأي مسلك من مسالك العلة فيسمى تخريج المناط، فهو استنباط علة لحكم شرعي ورد به النص، ولم يرد نص بعلته ولم نعقد إجماع على علته، وأما تحقيق المناط فهو النظر في تحقيق العلة التي ثبتت بالنص، أو بالإجماع أو بأي مسلك في جزئية أو واقعة غير التي ورد فيها النص، كما إذا ورد النص بأن علة اعتزال النساء في المحيض هي الأذى فينظر في تحقيق الأذى في النفاس. وكما إذا ثبت أن علة تحريم شرب الخمر الإسكار فينظر في تحقيق الإسكار في نبيذ آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الدليل الخامس: الاستحسان 1- تعريفه. 2- أنواعه. 3- حجيته. 4- شبه من لا يحتجون به. 1- تعريفه: الاستحسان في اللغة: عد الشيء حسنا، وفي اصطلاح الأصوليين: هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقله رجح لديه هذا العدول. فإذا عرضت واقعة ولم يرد نص بحكمها، وللنظر فيها وجهتان مختلفتان إحدهما ظاهرة تقتضي حكمًا والأخرى خفية تقتضي حكمًا آخر، وقام بنفس المجتهد دليل رجح وجهة النظر الخفية، فعدل عن وجهة النظر الظاهرة فهذا يسمى شرعا: الاستحسان، وكذلك إذا كان الحكم كليا، قام بنفس المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي والحكم عليها بحكم آخر، فهذا أيضا يسمى شرعا الاستحسان. 2- أنواعه: من تعريف الاستحسان شرعًا يتبين أنه نوعان: أحدهما ترجيح قياس خفي على قياس جلي بدليل. وثانيهما استثناء جزئية من حكم كلي بدليل. من أمثلة النوع الأول: 1- نص فقهاء الحنفية على أن الواقف إذ وقف أرضًا زراعية يدخل حق المسيل، وحق الشرب حق المرور في الوقف تبعًا بدون ذكرها استحسانًا. والقياس أنها لا تدخل إلا بالنص عليها كالبيع، ووجه الاستحسان: أن المقصود من الوقف انتفاع الموقوف عليهم، ولا يكون الانتفاع بالأرض الزراعية إلا بالشرب والمسيل والطريق، فتدخل في الوقف بدون ذكرها؛ لأن المقصود لا يتحقق إلا بها كالإجارة. فالقياس الظاهر إلحاق الوقف في هذا بالبيع؛ لأن كلا منهما إخراج ملك من مالكه. والقياس الخفي إلحاق الوقف في هذا بالإجارة؛ لأن كلا منهما مقصود به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الانتفاع، فكما يدخل المسيل والشرب والطريق في إجارة الأطيان بدون ذكرها تدخل في وقف الأطيان بدون ذكرها. 2- نص فقهاء الحنفية على أنه إذا اختلفت البائع والمشتري في مقدار الثمن قبل قبض المبيع، فادعى البائع أن الثمن مائة جنيه، وادعى المشتري أنه تسعون يتحالفان استحسانًا، والقياس أن لا يحلف البائع؛ لأن البائع يدعي الزيادة "وهي عشرة" والمشتري ينكرها، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر فلا يمين على البائع، ووجه الاستحسان: أن البائع مدع ظاهرا بالنسبة إلى الزيادة ومنكر حق المشتري في تسلم المبيع بعد دفع التسعين، والمشتري منكر ظاهرًا الزيادة التي ادعاها البائع، وهي العشرة ومدع حق تسلمه المبيع بعد دفع التسعين، فكل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من جهة أخرى فيتحالفان. فالقياس الظاهر: إلحاق هذه الواقعة بكل واقعة بين مدع ومنكر، فالبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والقياس الخفي: إلحاق الواقعة بكل واقعة بين متداعيين، كل واحد منهما يعتبر في آن واحد مدعيا ومنكرا فيتحالفان. 3- نص فقهاء الحنفية على أن سؤر سباع الطير كالنسر والغراب والصقر والبازي، والحدأة والعقاب طاهر استحسانا نجس قياسا. وجه القياس: أنه سؤر حيوان محرم لحمه كسؤر سباع البهائم كالفهد والنمر والسبع والذئب، وحكم سؤر الحيوان تابع لحكم لحمه. وجه الاستحسان: أن سبع الطير وإن كان محرما لحمها إلا أن لعابها المتولد من لحمها لا يختلط بسؤرها؛ لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر، وأما سباع البهائم، فتشرب بلسانها المختلط بلعابها فلهذا ينجس سؤرها. ففي كل مثال من هذه الأمثلة، تعارض في الواقعة قياسان أحدهما جلي متبادر فهمه، والآخر خفي دقيق فهمه، وقام للمجتهد دليل رجح القياس الخفي فعدل عن القياس الجلي فهذا العدول هو "الاستحسان"، والدليل الذي بني عليه هو وجه الاستحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ومن أمثلة النوع الثاني: نهى الشارع عن بيع المعدوم والتعاقد على المعدوم، ورخص استحسانا في السلم والإجارة والمزارعة، والمساقاة والاستصناع وهي كلها عقود؛ المعقود عليه فيها معدوم وقت التعاقد، ووجه الاستحسان حاجة الناس وتعارفهم. ونص الفقهاء على أن الأمين يضمن بموته مجهلا؛ لأن التجهيل نوع من التعدي. واستثنى استحسانا موت الأب أو الجد أو الوصي مجهلًا، ووجه الاستحسان أن الأب والجد والوصي لكل منهم أن ينفق على الصغير ويصرف ما يحتاج إليه فلعل ما جهله كان قد صرفه في وجهه. ونصوا على أن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، واستثنى استحسانًا الأجير المشترك، فإن يضمن إلا إذا كان هلاك ما عنده بقوة قاهرة، ووجه الاستحسان تأمين المستأجرين، ونصوا على أن المحجور عليه للسفه لا تصح تبرعاته، واستثنى استحسانا وقفه على نفسه مدة حياته، ووجه الاستحسان أن وقفه على نفسه فيه تأمين عقاراته من الضياع، وهذا يتفق والغرض من الحجر عليه. ففي كل مثال من هذه الأمثلة استثنيت جزئية من حكم كلي بدليل، وهذا هو الذي يسمى اصطلاحًا الاستحسان. 3- حجيته: من تعريف الاستحسان وبيان نوعه يتبين أنه في الحقيقة ليس مصدرًا تشريعيا مستقلا؛ لأن أحكام النوع الأول من نوعية دليلها هو القياس الخفي الذي ترجح على القياس الجلي، بما اطمأن له قلب المجتهد من المرجحات، وهو وجه الاستحسان، وأحكام النوع الثاني من نوعه دليلها هو المصلحة التي اقتضت استثناء الجزئية من الحكم الكلي، وهي التي يعبر عنها بوجه الاستحسان. فمن احتجوا بالاستحسان وهم أكثر الحنفية ودليلهم على حجيته: أن الاستدلال بالاستحسان إنما هو استدلال بقياس خفي، ترجح على قياس جلي، أو هو ترجيح قياس على قياس يعارضه، بدليل يقتضي هذا الترجيح، أو استدلال بالمصلحة المرسلة على استثناء جزئي من حكم كلي، وكل هذا استدلال صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 4- شبه من لا يحتجون به: أنكر فريق من المجتهدين الاستحسان واعتبروه استنباطا للأحكام الشرعية بالهوى والتلذذ، وعلى رأس هذا الفريق الإمام الشافعي فقد نقل عنه أنه قال: "من استحسن فقد شرع"، أي ابتدأ من عنده شرعا، وقرر في رسالته الأصولية أن "مثل من استحسن حكما مثل من اتجه في الصلاة إلى جهة استحسن أنها الكعبة، من غير أن يقوم له دليل من الأدلة التي أقامها الشارع لتعيين الاتجاه إلى الكعبة" وقرر فيها أيضا أن "الاستحسان تلذذ، ولو جاز الأخذ بالاستحسان في الدين جاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعًا". والظاهر لي أن الفريقين المختلفين في الاستحسان لم يتفقا في تحديد معناه. المحتجون به يريدون منه معنى غير الذي يريده من لا يحتجون به، ولو اتفقوا على تحديد معناه ما اختلفوا في الاحتجاج به؛ لأن الاستحسان هو عند التحقيق عدول عن دليل ظاهر أو عن حكم كلي لدليل اقتضى هذا العدول، وليس مجرد تشريع بالهوى، وكل قاض قد تنقدح في عقله في كثير من الوقائع مصلحة حقيقية، تقتضي العدول في هذه الجزئية عما يقضي به ظاهر القانون، وما هذا إلا نوع من الاستحسان. ولهذا قال الإمام الشاطبي في الموافقات: "من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشباه المعروضة، كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى تفويت مصلحة من جهة، أو جلب مفسدة كذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الدليل السادس: المصلحة المرسلة 1- تعريفها. 2- أدلة من يحتجون بها. 3- شروط الاحتجاج بها. 4- أظهر شبه من لا يحتجون بها. 1- تعريفها: المصلحة المرسلة أي المطلقة، في اصطلاح الأصوليين: المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت مطلقة؛ لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء، ومثالها المصلحة التي شرع لأجلها الصحابة اتخاذ السجون، أو ضرب النقود، أو إبقاء الأرض الزراعية التي فتحوها في أيدي أهليها ووضع الخراج عليها، أو غير هذا من المصالح التي اقتضتها الضرورات، أو الحاجات أو التحسينات ولم تشرع أحكام لها، ولم يشهد شاهد شرعي باعتبارها أو إلغائها. وتوضيح هذا التعريف أن تشريع الأحكام ما قصد به إلا تحقيق مصالح الناس، أي جلب نفع لهم أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم، وإن مصالح الناس لا تنحصر جزئياتها، ولا تتناهى أفرادها وأنها تتجدد بتجدد أحوال الناس، وتتطور باختلاف البيئات، وتشريع الحكم قد يجلب نفعا في زمن وضررا في آخر، وفي الزمن الواحد قد يجلب الحكم نفعا في بيئة ويجلب ضررا في بيئة أخرى. فالمصالح التي شرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ودل على اعتبارها عللا لما شرعه، تيسمى في اصطلاح الأصوليين: المصالح المعتبرة من الشارع، مثل حفظ حياة الناس، شرع الشارع له إيجاب القصاص من القاتل العامد، وحفظ ما لهم الذي شرع له حد السارق والسارقة. وحفظ عرضهم الذي شرع له حد القاذف والزاني والزانية، فكل من القتل العمد، والسرقة، والقذف، والزنا، وصف مناسب، أي أن تشريع الحكم بناء عليه يحقق مصلحة، وهو معتبر من الشارع؛ لأن الشارع بنى الحكم عليه، وهذا المناسب المعتبر من الشارع إما مناسب مؤثر، وإما مناسب ملائم، على حسب نوع اعتبار الشارع له، ولا خلاف في التشريع بناء عليه كما قدمنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وأما المصالح التي اقتضتها البيئات والطوارئ بعد انقطاع الوحي، ولم يشرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ولم يقم دليل منه على اعتبارها أو إلغائا، فهذه تسمى المناسب المرسل أو بعبارة أخرى المصلحة المرسلة، مثل المصلحة التي اقتضت أن الزواج الذي لا يثبت بوثيقة رسمية لا تسمع الدعوى به عند الإنكار، ومثل المصلحة التي اقتضت أن عقد البيع الذي لا يسجل لا ينقل الملكية، فهذه كلها مصالح لم يشرع الشارع أحكاما لها، ولم يدل دليل منه على اعتبارها أو إلغائها، فهي مصالح مرسلة. 2- أدلة من يحتجون بها: ذهب جمهور علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة حجة شرعية يبنى عليها تشريع الأحكام، وأن الواقعة التي لا حكم فيها بنص أو إجماع، وقياس أو استحسان، يشرع فيها الحكم الذي تقتضيه المصلحة المطلقة، ولا يتوقف تشريع الحكم بناء على هذه المصلحة على وجود شاهد من الشرع باعتبارها. ودليلهم على هذا أمران: أولهما: أن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم، واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس. وثانيهما: أن من استقرأ تشريع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين؛ يتبين أنهم شرعوا أحكاما كثيرة لتحقيق مطلق المصلحة، لا لقيام شاهد باعتبارها. فأبو بكر جمع الصحف المفرقة التي كانت مدونا فيها القرآن، وحارب مانعي الزكاة، واستخلف عمر بن الخطاب، وعمر أمضى الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات، ووضع الخراج ودون الدواوين، واتخذ السجون، ووقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة، وعثمان جمع المسلمين على مصحف واحد ونشره وحرق ما عداه، وورث زوجة من طلق زوجته للفرار من إرثها، وعلى حرق الغلاة من الشيعة الروافض، والحنفية حجروا على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس، والمالكية أباحوا حبس المتهم وتعزيره توصلا إلى إقراره، والشافعية أوجبوا القصاص من الجماعة إذا قتلوا الواحد، وجميع هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 المصالح التي قصدوها بما شرعوه من الأحكام هي مصالح مرسلة، وقد شرعوا بناء عليها؛ لأنه مصلحة؛ ولأنها لا دليل من الشارع على إلغائها، وما وقفوا عن التشريع لمصلحة حتى يشهد شاهد شرعي باعتبارها، ولهذا قال القرافي: "إن الصحبة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار" وقال ابن عقيل: "السياسة كل فعل تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي، ومن قال: "لا سياسة إلا بما نطق به الشرع فقد غلط وغلط الصحابة في شريعتهم". 3- شروط الاحتجاج بها: من يحتجون بالمصلحة المرسلة احتاطوا للاحتجاج بها حتى لا تكون بابا للتشريع بالهوى والتشهي، ولهذا اشترطوا في المصلحة المرسلة التي يبني عليها التشريع شروطا ثلاثة: أولها: أن تكون مصلحة حقيقية وليست مصلحة وهمية، والمراد بهذا أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا أو يدفع ضررًا، وأما مجرد توهم أن التشريع يجلب نفعًا، من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر، فهذا بناء على مصلحة وهمية. ومثال هذه المصلحة التي تتوهم في سلب الزوج حق تطليق زوجته، وجعل حق التطليق للقاضي فقط في جميع الحالات. ثانيها: أن تكون مصلحة عامة وليست مصلحة شخصية. والمراد بهذا أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضررا عنهم وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم. فلا يشرع الحكم؛ لأنه يحقق مصلحة خاصة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم. فلا بد أن تكون لمنفعة جمهور الناس. ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكما، أو مبدأ ثبت بالنص أو الإجماع لا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة الابن والبنت في الإرث؛ لأن هذه مصلحة ملغاة لمعارضتها نص القرآن، ولهذا كانت فتوى يحيى بن يحيى الليثي المالكي فقيه الأندلس، وتلميذ الإمام مالك بن أنس خاطئة؛ وذلك أن أحد ملوك الأندلس أفطر عمدا في رمضان، فأفتاه الإمام يحيى بأنه لا كفارة لإفطاره إلا أن يصوم شهرين متتابعين، وبنى فتواه على أن المصلحة تقتضي هذا، إذ أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 المقصود من الكفارة زجر المذنب وردعه حتى لا يعود إلى مثل ذنبه، ولا يردع هذا الملك إلا هذا، فأما إعتاقه رقبة فهذا يسير عليه ولا ردع فيه. فهذه الفتوى بنيت على مصلحة ولكنها تعارض نصا؛ لأن النص صريح في أن كفارة من أفطر في رمضان عمدا إعتاق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، بلا تفريق بين ملك يفطر وفقير يفطر، فالمصلحة التي اعتبرها المفتي لإلزام الملك بالتكفير بصيام شهرين خاصة مصلحة ليست مرسلة بل هي ملغاة. ومن هذا يتبين أن المصلحة، وبعبارة أخرى الوصف المناسب إذا دل شاهد شرعي على اعتباره بنوع من أنواع الاعتبار، فهو المناسب المعتبر من الشارع، وهو إما المناسب المؤثر أو المناسب الملائم، وإذا دل شاهد شرعي على إلغاء اعتباره فهو المناسب الملغي، وإذا لم يدل شاهد شرعي على اعتباره، ولا على إلغائه فهو المناسب المرسل، وبعبارة أخرى المصلحة المرسلة. أظهر شبه من لا يحتجون بها: ذهب بعض علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة التي لم يشهد شاهد شرعي باعتبارها، ولا بإلغائها لا يبنى عليها تشريع. ودليلهم أمران: الأول: أن الشريعة راعت كل مصالح الناس نصوصها، وبما أرشدت إليه من القياس، والشارع لم يترك النالس سدى، ولم يهمل أية مصلحة من غير إرشاد إلى التشريع لها، فلا مصلحة إلا ولها شاهد من الشارع باعتبارها، والمصلحة التي لا شاهد من الشارع باعتبارها ليست في الحقيقة مصلحة، وما هي إلا مصلحة وهمية ولا يصح بناء التشريع عليها. والثاني: أن التشريع بناء على مطلق المصلحة فيه فتح باب لأهواء ذوي الأهواء، من الولاة والأمراء ورجال الإفتاء، فبعض هؤلاء قد يغلب عليهم الهوى والغرض فيتخيلون المفاسد مصالح، والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والبيئات، ففتح باب التشريع لمطلق المصلحة فتح باب الشر. والظاهر لي: هو ترجيح بناء التشريع على المصلحة المرسلة؛ لأنه إذا لم يفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 هذا الباب جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات. ومن قال: إن كل جزئية من جزئيات مصالح الناس، في أي زمن وفي أي بيئة قد راعاها الشارع، وشرع بنصوصه ومبادئه العامة ما يشهد لها ويلائمها، فقوله: لا يؤيده الواقع؛ فإنه مما لا ريب فيه أن بعض المصالح التي تجد لا يظهر شاهد شرعي على اعتبارها ذاتها. ومن خاف من العبث والظلم واتباع الهوى باسم المصلحة المطلقة،؟؟؟ خوفه بأن المصلحة المطلقة لا يبنى عليها تشريع إلا إذا توافرت فيها الشروط الثلاثة التي بيناها، وهي أن تكون مصلحة عامة حقيقية لا تخالف نصا شرعيا ولا مبدأ شرعيا. قال ابن القيم: "من المسلمين من فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة، لا تقوم بمصلح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق الحق والعدل، ومنهم من أفرطوا فسوغوا ما ينافي شرع الله، وأحدثوا شرا طويلا وفسادا عريضا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الدليل السابع: العرف 1- تعريفه. 2- أنواعه. 3- حكمه. 1- تعريفه: العرف: هو ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قول، أو فعل، أو ترك ويسمى العادة. وفي لسان الشرعيين: "لا فرق بين العرف والعادة، فالعرف العملي: مثل تعارف الناس البيع بالتعاطي من غير صيغة لفظية، والعرف القولي: مثل تعارفهم إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى، وتعارفهم على أن لا يطلقوا لفظ اللحم على السمك. والعرف يتكون من تعارف الناس على اختلاف طبقاتهم عامتهم، وخاصتهم بخلاف الإجماع فإنه يتكون من اتفاق المجتهدين خاصة، ولا دخل للعامة في تكوينه. 2- أنواعه: العرف نوعان: عرف صحيح وعرف فاسد: فالعرف الصحيح هو ما تعارفه الناس، ولا يخالف دليلا شرعيا ولا يحل محرما ولا يبطل واجبا، كتعارف الناس عقد الاستصناع، وتعارفهم تقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر، وتعارفهم أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا إذا قبضت جزءا من مهرها، وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب إلى خطيبته من حلي، وثياب هو هدية لا من المهر. وأما العرف الفاسد فهو ما تعارفه الناس، ولكنه يخالف الشرع أو يحل المحرم أو يبطل الواجب، مثل تعارف الناس كثيرا من المنكرات في الموالد والمآتم، وتعارفهم أكل الربا وعقود المقامرة. 3- حكمه: ما العرف الصحيح فيجب مراعاته في التشريع وفي القضاء، وعلى المجتهد مراعاته في تشريعه، وعلى القاضي مراعاته في قضائه؛ لأن ما تعارفه الناس وما ساروا عليه صار من حاجاتهم ومتفقا ومصالحهم، فما دام لا يخالف الشرع وجبت مراعاته، والشارع راعى الصحيح من عرف العرب في التشريع، ففرض الدية على العاقلة، وشرط الكفاءة في الزواج، واعتبر العصبية في الولاية والإرث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ولهذا قال العلماء: العادة شريعة محكمة، والعرف في الشرع له اعتبار، والإمام مالك بنى كثيرا من أحكامه على عمل أهل المدينة، وأبو حنيفة وأصحابه اختلفوا في أحكام بناء على اختلاف أعرافهم، والشافعي لما هبط إلى مصر غير بعض الأحكام التي كان قد ذهب إليها وهو في بغداد، لتغير العرف، ولهذا له مذهبان قديم وجديد، وفي فقه الحنفية أحكام كثيرة مبنية على العرف، منها إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما فالقول لمن يشهد له العرف، وإذا لم يتفق الزوجان على المقدم والمؤخر من المهر فالحكم هو العرف، ومن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث بناء على العرف، والمنقول يصح وقفه إذا جرى به العرف. والشرط في العقد يكون صحيحا إذا ورد به الشرع أو اقتضاه العقد أو جرى به العرف، وقد ألف العلامة المرحوم ابن عابدين رسالة سماها: "نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف" ومن العبارات المشهورة: "المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والثابت بالعرف كالثابت بالنص". وأما العرف الفاسد فلا تجب مراعاته؛ لأن في مراعاته معارضة دليل شرعي أو إبطال حكم شرعي فإذا تعارف الناس عقدا من العقود الفاسدة كقعد ربوي أو عقد فيه غرر وخطر، فلا يكون لهذا العرف أثر في إباحة هذا العقد، ولهذا لا يعتبر في القوانين الوضعية عرف يخالف الدستور أو النظام العام، وإنما ينظر في مثل هذا العقد من جهة أخرى، وهي أن هذا العقد هل يعد من ضرورات الناس أو حاجياتهم، بحيث إذا أبطل يختل نظام حياتهم أو ينالهم حرج أو ضيق أو لا؟ فإن كان من ضرورياتهم أو حاجياتهم يباح؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، والحاجات تنزل منزلتها في هذا، وإن لم يكن من ضرورياتهم ولا من حاجياتهم يحكم ببطلانه، ولا عبرة لجريان العرف به. والأحكام المبنية على العرف تتغير بتغيره زمانا ومكانا؛ لأن الفرع يتغير بتغير أصله، ولهذا يقول الفقهاء، في مثل هذا الاختلاف: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان. والعرف عند التحقيق ليس دليلا شرعيا مستقلا، وهو في الغالب من مراعاة المصلحة المرسلة، وهو كما يراعى في تشريع الأحكام يراعى في تفسير النصوص، فيخصص به العام، ويقيد به المطلق. وقد يترك القياس بالعرف ولهذا صح عقد الاستصناع، لجريان العرف به، وإن كان قياسا لا يصح؛ لأنه عقد على معدوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الدليل الثامن: الاستصحاب 1- تعريفه. 2- حجيته. تعريفه: الاستصحاب في اللغة: اعتبار المصاحبة: وفي اصطلاح الأصوليين: هو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل، حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتا في الماضي باقيا في الحال حتى يقوم دليل على تغيره. فإذا سئل المجتهد عن حكم عقد أو تصرف، ولم يجد نصا في القرآن أو السنة ولا دليلا شرعيا على حكمه، حم بإباحة هذا العقد أو التصرف بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وهي الحال التي خلق الله عليها ما في الأرض جميعه، فما لم يقم دليل على تغيرها فالشيء على إباحته الأصلية. وإذا سئل المجتهد عن حكم حيوان أو جماد أو نبات، أو أي طعام أو أي شراب أو عمل من الأعمال، ولم يجد دليلا شرعيا على حكمه، حكم بإباحته؛ لأن الإباحة هي الأصل ولم يقم دليل على تغيره. وإنما كان الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأن الله سبحانه قال في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وصرح في عدة آيات بأنه سخر للناس ما في السماوات وما في الأرض، ولا يكون ما في الأرض مخلوقا للناس ومسخرا لهم إلا إذا كان مباحا لهم؛ لأنه لو كان محظورًا عليهم ما كان لهم. 2- حجيته: الاستصحاب آخر دليل شرعي يلجأ إليه المجتهد لمعرفة ما عرض له. ولهذا قال الأصوليون: إنه آخر مدار الفتوى هو الحكم على الشيء بما كان ثابتًا له ما دام لم يقم دليل يغيره، وهذا طريق في الاستدلال قد فطر عليه الناس، وساروا عليه ف جميع تصرفاتهم، وأحكامهم. فمن عرف إنسانا حيا حكم بحياته وبنى تصرفاته على هذه الحياة، حتى يقوم الدليل على وفاته، ومن عرف فلانة زوجة فلان شهد بالزوجية ما دام لم يقم له دليل على انتهائها، وهكذا كل من علم وجود أمر حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بوجوده حتى يقوم الدليل على عدمه، ومن علم عدم أمر حكم بعدمه حتى يقوم الدليل على وجوده. وقد درج على هذا القضاء، فالملك الثابت لأي إنسان بسبب من أسباب الملك يعتبر قائما حتى يثبت ما يزيله، والحل الثابت للزوجين بعقد الزواج يعبر قائما حتى يثبت ما يزيله، والذمه المشغولة بدين أو بأي التزام تعتبر مشغولة به حتى يثبت ما يخليها منه، والذمة البريئة من شغلها بدين أو التزام تعتبر بريئة حتى يثبت ما يشغلها، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره. وعلى هذا الاستصحاب بنيت المادة 180 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ونصها: "تكفي الشهادة بالدين وإن لم يصرح ببقائه في ذمة المدين وكذا الشهادة بالعين" والمادة 181منها ونصها: "تكفي الشهادة بالوصية أو الإيصاء، وإن لم يصرح بإصرار الموصي إلى وقت الوفاة". وعلى الاستصحاب بنيت المبادئ الشرعية الآتية: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره -الأصل في الأشياء الإباحة- ما ثبت باليقين لا يزول بالشك، الأصل في الإنسان البراءة. والحق أن عد الاستصحاب نفسه دليلا على الحكم فيه تجوز؛ لأن الدليل في الحقيقة هو الدليل الذي ثبت به الحكم السابق، وما الاستصحاب إلا استبقاء دلالة هذا الدليل على حكمه. وقد قرر علماء الحنفية أن الاستصحاب حجة للدفع لا للإثبات، مرادهم بهذا أنه حجة على بقاء ما كان على ما كان، ودفع ما يخالفه حتى يقوم دلل يثبت هذا الذي يخالفه، وليس حجة لإثبات أمر غير ثابت، ويوضح هذا ما قرروه في المفقود، وهو الغائب الذي لا يدرى مكانه ولا تعلم حياته ولا وفاته، فهذا المفقود يحكم بأنه حي باستصحاب الحال التي عرف بها حتى يقوم دليل على وفاته، وهذا الاستصحاب الذي دل على حياته حجة تدفع بها دعوى وفاته والإرث منه وفسخ إجارته. وطلاق زوجته، ولكنه ليس حجة لإثبات إرثه من غيره؛ لأن حياته الثابتة بالاستصحاب حياة اعتبارية لا حقيقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الدليل التاسع: شرع من قبلنا إذا قص القرآن أو السنة الصحيحة حكما من الأحكام الشرعية، التي شرعها الله لمن سبقنا من الأمم، على ألسنة رسلهم ونص على أنها مكتوبة علينا، كما كانت مكتوبة عليهم، فلا خلاف في أنها شرع لنا وقانون واجب اتباعه بتقرير شرعنا لها، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . وإذا قص القرآن الكريم أو السنة الصحيحة حكما من هذه الأحكام، وقام الدليل الشرعي على نسخه ورفعه عنا، فلا خلاف في أنه ليس شرعا لنا بالدليل الناسخ من شرعنا، مثل ما كان في شريعة موسى من أن العاصي لا يكفر ذنبه إلا أن يقتل نفسه، ومن أن الثوب إذا أصابته نجاسة لا يطهره إلا قطع ما أصيب منه، وغير ذلك من الاحكام التي كانت إصرا حمله الذين من قبلنا ورفعه الله عنا. وموضع الخلاف هو ما قصه علينا الله أو رسوله من أحكام الشرائع السابقة، ولم يرد في شرعنا ما يدل على أنه مكتوب علينا كما كتب عليهم، أو أنه مرفوع عنا ومنسوخ كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . فقال جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية: أنه يكون شرعا لنا وعلينا اتباعه وتطبيقه، ما دام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا ما ينسخه؛ لأنه من الأحكام الإلهية التي شرعها الله على ألسنة رسله، وقصه علينا ولم يدل الدليل على نسخها، فيجب على المكلفين اتباعها، ولهذا استدل الحنفية على قتل المسلم بالذمي، وقتل الرجل بالمرأة بإطلاق قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} . وقال بعض العلماء: إنه لا يكون شرعا لنا؛ لأن شريعتنا ناسخة للشرائع السابقة، إلا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، والحق هو المذهب الأول؛ لأن شريعتنا إنما نسخت من الشرائع السابقة ما يخالفها فقط؛ ولأن قص القرآن علينا حكما شرعيا سابقا بدون نص على نسخه هو تشريع لنا ضمنا؛ لأنه حكم إلهي بلغة الرسول إلينا ولم يدل على رفعه عنا؛ ولأن القرآن مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل فما لم ينسخ حكما في أحدهما فهو مقرر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الدليل العاشر: مذهب الصحابي بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تصدى لإفتاء المسلمين والتشريع لهم جماعة من الصحابة، عرفوا بالفقه والعلم وطول ملازمة الرسول وفهم القرآن وأحكامه، وقد صدرت عنهم عدة فتاوى في وقائع مختلفة، وعني بعض الرواة من التابعين وتابعي التابعين بروايتها وتدوينها، حتى إن منهم من كان يدونها مع سنن الرسول، فهل هذه الفتاوى من المصادر التشريعية الملحقة بالنصوص بحيث إن المجتهد يجب عليه أن يرجع إليها قبل أن يلجأ إلى القياس؟ أو هي مجرد آراء إفرادية اجتهادية ليست حجة على المسلمين؟. وخلاصة القول في هذا الموضوع أنه: لا خلاف في أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقل يكون حجة على المسلمين؛ لأنه لا بد أن يكون قاله عن سماع من الرسول، كقول عائشة رضي الله عنها: لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل. فمثل هذا ليس مجالا للاجتهاد والرأي، فإذا صح فمصدره السماع من الرسول، وهو من السنة، وإن كان في ظاهر الأمر من قول الصحابي. ولا خلاف أيضا في أن قول الصحابي، الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين؛ لأن اتفاقهم على حكم في واقعة مع قرب عهدهم بالرسول، وعلمهم بأسرار التشريع واختلافهم في وقائع كثيرة غيرها دليل على استنادهم إلى دليل قاطع، وهذا لما اتفقوا على توريث الجدات السدس كان حكما واجبا اتباعه، ولم يعرف فيه خلاف بين المسلمين. وإنما الخلاف في قول الصحابي الصادر عن رأيه واجتهاده، ولم تتفق عليه كلمة الصحابة. فقال أبو حنيفة ومن وافقوه: إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيره. فالإمام أبو حنيفة لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، فله أن يأخذ برأي من شاء منهم، ولكنه لا يسوغ مخالفة آرائهم جميعا. فهو لا يسوغ القياس في الواقعة ما دام للصحابة فيها فتوى، بل يأخذ فيها بأي قول من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أقوالهم. ولعل من وجهته أن اختلاف الصحابة في حكم الواقعة إلى قولين إجماع منهم على أنه لا ثالث، واختلافهم إلى ثلاثة أقوال إجماع منهم على أنه لا رابع، فالخروج عن أقوالهم جميعًا خروج عن إجماعهم. وظاهر كلام الإمام الشافعي أنه لا يرى رأي أحد معين منهم حجة، ويسوغ مخالفة آرائهم جميعا، والاجتهاد في استنباط رأي آخر؛ لأنها مجموعة آراء اجتهادية فردية لغير معصومين، وكما جاز للصحابي أن يخالف الصحابي يجوز لمن بعدهما من المجتهدين أن يخالفهما، ولهذا قال الشافعي: "لا يجوز الحكم أو الإفتاء إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب أو السنة، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض هذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 القسم الثاني: في الأحكام الشرعية 1- الحاكم : 1- من هو؟ 2- بم يعرف حكمه؟ لا خلاف بين علماء المسلمين، في أن مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين هو الله سبحانه، سواء أظهر حكمه في فعل المكلف مباشرة من النصوص التي أوحى بها إلى رسوله، أم اهتدى المجتهدون إلى حكمه في فعل المكلف، بواسطة الدلائل، والأمارات التي شرعها لاستنباط أحكامه، ولهذا اتفقت كلمتهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا. واشتهر من أصولهم "لا حكم إلا لله"، وهذا مصداق قوله سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} . وإنما اختلف علماء المسلمين في أن أحكام الله في أفعال المكلفين، هل يمكن للعقل أن يعرفها بنفسه من غير وساطة رسل الله، وكتبه بحيث إن من لم تبلغه دعوة رسول يستطيع أن يعرف حكم الله في أفعاله بعقله أم لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه؟ فلا خلاف في أن الحاكم هو الله، وإنما الخلاف فيما يعرف به حكم الله. ولعلماء المسلمين في هذا الخلاف مذاهب ثلاثة: 1- مذهب الأشاعرة: أتباع أبي الحسن الأشعري، وهو أنه: لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين إلا بواسطة رسله وكتبه؛ لأن العقول تختلف اختلافا بينا في الأفعال، فبعض العقول يستحسن بعض الأفعال، وبعضها يستقبحها، بل عقل الشخص الواحد يختلف في الفعل الواحد، وكثيرا ما يغلب الهوى على العقل فكون التحسين أو التقبيح بناء على الهوى، فعلى هذا لا يمكن أن يقال: ما رآه العقل حسنا فهو حسن عند الله ومطلوب لله فاعله، ويثاب عليه من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو قبيح عند الله ومطلوب لله تركه، ويعاقب من الله فاعله. وأساس هذا المذهب؛ أن الحسن من أفعال المكلفين هو ما دل الشارع على أنه حسن بإباحته، أو طلب فعله، والقبيح هو ما دل الشارع على أنه قبيح بطلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 تركه، وليس الحسن ما رآه العقل حسنا ولا القبيح ما رآه العقل قبيحًا. فمقياس الحسن والقبح في هذا المذهب هو الشرع لا العقل، وهذا يتفق وما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو القانون، فما أوجبه القانون أو أباحه فهو خير، وما حظره فهو شر. وعلى هذا المذهب لا يكون الإنسان مكلفًا من الله بفعل شيء، أو ترك شيء إلا إذا بلغته دعوة الرسول، وما شرعه الله. ولا يثاب أحد على فعل شيء ولا يعاقب على ترك أو فعل، إلا إذا علم من طريق رسل الله ما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه، فمن عاش في عزلة تامة بحيث لم تبلغه دعوة رسول، ولا شرعه فهو غير مكلف من الله بشيء ولا يستحق ثوابًا وعقابًا. وأهل الفترة -وهم من عاشوا بعد موت رسول الله وقبل مبعث رسول- غير مكلفين بشيء ولا يستحقون ثوابا ولا عقابا. ويؤيد المذهب قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . 2- مذهب المعتزلة: أتباع واصل بن عطاء وهو أنه يمكن أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسله وكتبه؛ لأن كل فعل من أفعال المكلفين فيه صفات وما يترتب عليه من نفع أو ضرر أن يحكم بأنه حسن أو قبيح، وحكم الله سبحانه على الأفعال هو على حسب ما تدركه العقول من نفعها أو ضرها، فهو سبحانه يطالب المكلفين بفعل ما فيه نفعهم حسب إدراك عقولهم؛ وبترك ما فيه ضررهم حسب إدراك عقولهم، فما رآه العقل حسنا فهو مطلوب لله ويثاب من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو مطلوب لله تركه ويعاقب من الله فاعله. وأساس هذا المذهب أن الحسن من الأفعال ما رآه العقل حسنا لما فيه من نفع، والقبيح من الأفعال ما رآه العقل قبيحا لما فيه من الضرر، وأن أحكام الله في أفعال المكلفين هي على وفق ماتدركه عقولهم فيها من حسن أو قبح، وهذا المذهب يتفق، وما ذهب إليه أكثر علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو ما يدرك في الفعل من نفع أو ضرر لأكبر مجموعة من الناس يصل إليهم أثر الفعل. وعلى هذا المذهب فممن لم تبلغهم دعوة الرسل، ولا شرائعهم فهم مكلفون من الله بفعل ما يهديهم عقلهم إلى أنه حسن ويثابون من الله على فعله، وبترك ما يهديهم عقلهم إلى أنه قبيح ويعاقبون من الله على فعله. وأصحاب هذا المذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يؤيدونه بأنه لا يستطيع عاقل أن ينكر أن كل فعل فيه خواص، وله آثار تجعله حسنا أو قبيحا. ومن الذي لا يدرك بعقله أن الشكر على النعمة والصدق والوفاء، والأمانة كل منها حسن، وأن ضد كل منها قبيح. ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن الله ما شرع أحكامه في أفعال المكلفين إلا بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، ويقولون: إن من بلغتهم شرائع الله مكلفون من الله بما تقضي به هذه الشرائع ومن لم تبلغهم شرائع الله مكلفون من الله بما تهديهم إليه عقولهم، فعليهم أن يفعلوا ما تستحسنه عقولهم، وأن يتركوا ما تستقبحه عقولهم. 3- مذهب الماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا المذهب وسط معتدل وهو الراجح في رأيى، وخلاصته أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، وأن العقل بناء على هذه الخواص والآثار يستطيع الحكم بأن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحا فهو قبيح. ولكن لا يلزم أن تكون أحكام الله في أفعال المكلفين على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح؛ لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ؛ ولأن بعض الأفعال مهما تشتبه فيه العقول فلا تلازم بين أحكام الله وما تدركه العقول، وعلى هذا لا سبيل إلى معرفة حكم الله إلا بواسطة رسله. فهؤلاء وافقوا المعتزلة في أن حسن الأفعال، وقبحها مما تدركه العقول بناء على ماتدركه من نفعها أو ضررها، وخالفوهم في أن حكم الله لا بد أن يكون على وفق حكم العقل، وفي أن ما أدرك العقل حسنه هو مطلوب لله فعله، وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب لله تركه. ووافقوا الأشاعرة في أنه لا يعرف حكم الله إلا بواسطة رسله وكتبه. وخالفوهم في أن الحسن والقبح للأفعال شرعيان لا عقليان. وفي أن الفعل لا يكون حسنا إلا بطلب الله فعله. ولا يكون قبيحًا إلا بطلب الله تركه؛ لأن هذا ظاهر البطلان. فإن أمهات الفضائل يدرك العقل حسنها لما فيها من نفع، وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها لما فيها من ضرر ولو لم يرد بهذا شرع. وهذا الخلاف لا يترتب عليه أثر إلا بالنسبة لمن لم تبلغهم شرائع الرسل، وأما من بلغتهم شرائع الرسل، فمقياس الحسن والقبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق. فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله. وما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 2- الحكم : 1- تعريف. 2- أنواعه. 3- أقسام كل نوع. 1- تعريفه: الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، طلبا أو تخييرا، أو وضعا. فقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} هذا خطاب من الشارع متعلق بالإيفاء بالعقود طلبا لفعله. وقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} هذا خطاب من الشارع متعلق بالسخرية طالب لتركها. وقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} هذا خطاب من الشارع متعلق بأخذ الزوج بدلًا من زوجته نظير تطليقها تخييرا فيه. وقول الرسول: "لا يرث القاتل" هذا خطاب من الشارع متعلق بالقتل وضعا له مانعا من الإرث. فنفس النص الصادر من الشارع الدال على طلب أو تخيير أو وضع هو الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين. وهذا يوافق اصطلاح القضائيين الآن؛ فهم يريدون بالحكم نفس النص الذي يصدر من القاضي؛ ولهذا يقولون: منطوق الحكم كذا. ويقولون: أجلت القضية للنطق بالحكم. وأما الحكم الشرعي في اصطلاح الفقهاء: فهو الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل، كالوجوب والحرمة والإباحة. فقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يقتضي وجوب الإيفاء بالعقود. فالنص نفسه هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، ووجوب الإيفاء هو الحكم في اصطلاح الفقهاء. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، وحرمة قربان الزنا هو الحكم في اصطلاح الفقهاء. ولا يتوهم متوهم منتعريف الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين، بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، بأن الحكم الشرعي خاص بالنصوص؛ لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 هي الخطاب من الشارع، وأنه لا يشمل الأدلة الشرعية الأخرى من إجماع أو قياس أو غيرهما؛ لأن سائر الأدلة الشرعية غير النصوص عند التحقيق إلى النصوص، فهي في الحقيقة خطاب من الشارع ولكنه غير مباشر، فكل دليل شرعي تعلق بفعل من أفعال المكلفين، طلبا أو تخييرا أو وضعا فهو حكم شرعي في اصطلاح الأصوليين. 2- أنواعه: من تعريف الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين يؤخذ أنه ليس نوعا واحدا؛ لأنه إما أن يتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب، أو على وجه التخيير أو على وجه الوضع، وقد اصطلح علماء الأصول على تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب أو التخيير بالحكم التكليفي، وعلى تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الوضع بالحكم الوضعي، ولهذا قرروا أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي، وحكم وضعي. فالحكم التكليفي: هو ما اقتضى طلب فعل من المكلف، أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل والكف عنه. فمثال ما اقتضى طلب فعل من المكلف قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وغير ذلك من النصوص التي تطلب من المكلف أفعالًا. ومثال ما اقتضى طلب الكف عن فعل، قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} ، وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} ، وغير ذلك من النصوص التي تطلب من المكلف الكف عن أفعال. ومثال ما اقتضى تخيير المكلف بين فعل والكف عنه، قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} . وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} . وغير ذلك من النصوص التي تقتضي تخيير المكلف بين فعل الشيء، والكف عنه. وإنما سمى هذا النوع الحكم التكليفي؛ لأنه يتضمن تكليف المكلف بفعل أو كف عن فعله أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تخييره بين فعل والكف عنه، ووجه التسمية ظاهر فيما طلب به من المكلف فعله أو الكف عنه. وأما ما خير به المكلف بين فعل والكف عنه، فوجه تسميته تكليفيا غير ظاهر؛ لأنه لا تكليف فيه؛ ولهذا قالوا: إن إطلاق الحكم التكليفي عليه من باب التغليب. وأما الحكم الوضعي: فهو ما اقتضى وضع شيء سببًا لشيء، أو شرطًا له، أو مانعًا منه. فمثال ما اقتضى وضع شيء سببا لشيء، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} اقتضى وضع إرادة إقامة الصلاة سببا في إيجاب الوضوء. وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، اقتضى وضع السرقة سببًا في إيجاب قطع يد السارق. وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا فله سلبه"، اقتضى وضع قتل القتيل سببًا في استحقاق سلبه، وغير ذلك من النصوص التي اقتضت وضع أسباب لمسببات. ومثال ما اقتضى وضع شيء شرطا لشيء، قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} اقتضى أن استطاعة السبيل إلى البيت شرط لإيجاب حجة. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بشاهدين"، اقتضى أن حضور الشاهدين شرط لصحة الزواج. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا مهر أقل من عشرة دراهم". اقتضى أن الشرط تقدير المهر تقديرًا صحيحا شرعا أن لا يقل عن عشرة دراهم. وغير ذلك من النصوص التي دلت على اشتراط شروط لإيجاب الفعل. أو لصحة العقد أو لأي مشروط. ومثال ما اقتضى جعل شيء مانعا من شيء، قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل ميراث"، اقتضى جعل قتل الوارث مورثه مانعا من إرثه. وإنما سمي الحكم الوضعي؛ لأن مقتضاه وضع أسباب لمسببات، أو شروط لمشروطات، أو موانع من أحكام. ويؤخذ مما تقدم أن الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي من وجهين: أحدهما: أن الحكم التكليفي مقصود به طلب فعل من المكلف أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل شيء والكف عنه. وأما الحكم الوضعي فليس مقصودا به تكليف أو تخيير، وإنما المقصود به بيان أن هذا الشيء سبب لهذا المسبب، أو أن هذا شرط لهذا المشروط. أو أن هذا مانع من هذا الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وثانيهما: أن ما طلب فعله أو الكف عنه، أو خير بين فعله وتركه بمقتضى الحكم التكليفي لا بد أن يكون مقدورا للمكلف، وفي استطاعته أن يفعله وأن يكف عنه؛ لأنه لا تكليف إلا بمقدور، ولا تخيير إلا بين مقدور ومقدور. وأما ما وضع سببًا أو شرطًا أو مانعًا، فقد يكون أمرا في مقدور المكلف بحيث إذا باشره ترتب عليه أثره، وقد يكون أمرًا ليس في مقدور المكلف بحيث إلا وجد ترتب عليه أثره. فمما جعل سببا وهو مقدور المكلف: صيغ العقود والتصرفات، وجميع الجرائم من جنايات وجنح ومخالفات، بحيث إذا باشر المكلف عقدا أو تصرفا ترتب عليه حكمه، وإذا ارتكب جريمة استحق عقوبتها. ومما جعل سببا هو مقدر للمكلف، القرابة سبب للإرث، والولاية والإرث سبب للملك، والضرورات سبب لإباحة المحظورات. ومما جعل شرطا وهو مقدور للمكلف، إحضار شاهدين في عقد الزواج لصحة العقد، وإبلاغ القدر المسمى مهرا إلى عشرة دراهم لصحة تسمية المهر، وتعيين الثمن، والأجل في البيع لصحة العقد. ومما جعل شرطا وهو غير مقدور للمكلف: بلوغ الحلم لانتهاء الولاية النفسية، وبلوغ الرشد لنفاذ عقود المفاوضات المالية. وكذلك المانع منه ما هو مقدور للمكلف كقتل الوارث مورثه، ومنه ما هو غير مقدور كون الموصى له وارثا. وأحكام القوانين الوضعية كالأحكام الشرعية، في أن منها ما هو أحكام تكليفية تقتضي تكليف المكلف بفعل، أو تخييره بين فعل والكف عنه، ومنها ما هو أحكام وضعية تقتضي جعل شيء سببًا لشيء، أو شرطًا أو مانعًا. ونظرة في مواد القانون المدني أو التجاري، أو قانون العقوبات أو الإجراءات الجنائية ترينا عدة أمثلة من النوعين. وهذه بعض أمثلة من القانون المدني في باب الإيجار: المادة 586: "يجب على المستأجر أن يقوم بوفاء الأجرة في المواعيد المتفق عليها". حكم تكيلفي اقتضى فعلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المادة 571: "على المؤجر أن يمتنع عن كل ما من شأنه أن يحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة". حكم تكليفي اقتضى كفا. المادة 593: "للمستأجر حق التنازل عن الإيجار أو الإيجار من الباطن، وذلك عن كل ما استأجره، أو بعضه ما لم يقض الاتفاق بغير ذلك". حكم تكليفي اقتضى تخييرًا. ومن اليسير التمثيل لأنواع الحكم الوضعي؛ لأن أكثر النصوص القانونية الوضعية تقتضي وضع أسباب لمسببات، أو شروط لمشروطات، أو موانع من آثار. أقسام الحكم التكليفي: ينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام: الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة. وذلك لأنه إذا اقتضى طلب فعل، فإن كان اقتضاؤه له على وجه التحتيم والإلزام فهو الإيجاب، وأثره الوجوب، والمطلوب فعله هو الواجب. وإن كان اقتضاؤه له ليس على وجه التحتيم والإلزام فهو الندب؛ والمطلوب فعله هو المندوب. وإذا اقتضى كفا عن فعل فإن كان اقتضاؤه على وجه التحتيم، والإلزام فهو التحريم وأثره الحرمة والمطلوب الكف عن فعله هو المحرم. وإن كان اقتضاؤه له ليس التحتيم والإلزام فهو الكراهة، والمطلوب الكلف عن فعله هو المكروه. وإذا اقتضى تخيير المكلف بين فعل شيء وتركه فهو الإباحة، والفعل الذي خير بين فعله وتركه هو المباح. فالمطلوب فعله قسمان: الواجب، والمندوب. والمطلوب الكف عن فعله قسمان: المحرم والمكروه، والمخير بين فعله وتركه هو القسم الخامس وهو المباح. وسنفرد كل قسم من هذه الأقسام الخمسة ببيان. 1- الواجب: تعريفه: الواجب شرعا هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما بأن اقترن طلبه بما يدل على تحتيم فعله، كما إذا كانت صيغة الطلب نفسها تدل على التحتيم، أو دل على تحتيم فعله ترتيب العقوبة على تركه، أو أي قرينة شرعية أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فالصيام واجب؛ لأن الصيغة التي طلب بها دلت على تحتيمه، إذ قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} . وإيتاء الزوجات مهورهن واجب، إذ قال سبحانه: {فَإذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} . وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت، وبر الوالدين وغير ذلك من المأمورات التي وردت صيغة الأمر بها مطلقة، ودل على تحتيم فعلها ما ورد في عدة نصوص من استحقاق المكلف العقاب بتركها. فمتى طلب الشارع الفعل ودلت القرينة على أن طلبه على وجه التحتيم كان الفعل واجبا، سواء أكانت القرينة صيغة الطلب نفسها أم أمرًا خارجيًّا. أقسامه: ينقسم الواجب إلى أربعة تقسيمات باعتبارات مختلفة: التقسيم الأول: الواجب من جهة وقت أدائه؛ إما مؤقت وإما مطلق عن التوقيت. فالواجب المؤقت هو ما طلب الشارع فعله حتما في وقت معين كالصلوات الخمس؛ حدد لأداء كل صلاة منها وقتا معينا بحيث لا تجب قبله، ويأثم المكلف إن أخرها عنه بغير عذر، وكصوم رمضان لا يجب قبل الشهر ولا يؤدى بعده، وكذلك كل واجب عين الشارع وقتا لفعله. والواجب المطلق عن التوقيت: هو ما طلب فعله حتما ولم يعين وقتا لأدائه، كالكفارة الواجبة على من حلف يمينا وحنث، فليس لفعل هذا وقت معين، فإن شاء الحانث كفر بعد الحنث مباشرة وإن شاء كفر بعد ذلك، وكالحج: واجب على من استطاع وليس لأداء هذا الواجب عام معين1. والواجب المؤقت إذا فعله المكلف في وقته كاملا مستوفيا أركانه، وشرائطه سمي فعله أداء، وإذا فعله في وقته غير كامل، ثم أعاده في الوقت كاملا سمي فعله إعادة. وإذا فعل بعد وقته سمي فعله قضاء. فمن صلى الظهر في وقته كاملا كانت صلاته أداء للواجب، ومن صلاه في وقته بالتيمم لعدم وجود الماء ثم وجد الماء في الوقت، فتوضأ وصلى الظهر ثانيا كانت صلاته إعادة، ومن صلاه بعد وقته كانت صلاته قضاء.   1 الحج إذا نظر إليه من جهة أنه واجب في العمر مرة وليس؛ لأدائه عام معين، فهو واجب مطلق. وإذا نظر إليه من جهة أنه إذا أدى لا يؤدي إلا في أشهر معلومات فهو واجب مؤقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والواجب المؤقت إذا كان وقته الذي وقته الشارع به يسعه وحده، ويسع غيره من جنسه سمي هذا الوقت موسعا وظرفا. وإن كان وقته الذي وقته الشارع يسعه، ولا يسع غيره من جنسه سمي هذا الوقت مضيقا ومعيارا. فالأول كوقت صلاة الظهر مثلا، فهو وقت موسع يسع أداء الظهر وأداء أي صلاة أخرى، وللمكلف أن يؤدي الظهر في أي جزء منه. والثاني كشهر رمضان فهو مضيق لا يسع إلا صوم رمضان. وإذا كان وقته لا يسع غيره من جهة ويسعه من جهة أخرى سمي الوقت ذا الشبهين كالحج، لا يسع وقته وهو أشهر الحج غيره من جهة أن المكلف لا يؤدي في العام إلا حجا واحدا، ويسع غيره من جهة أن مناسك الحج لا تستغرق كل أشهره. ومما يتفرع على تقسيم الواجب المؤقت إلى واجب موسع وقته، وواجب وقته ذو شبهين: أن الواجب الموسع وقته يجب على المكلف أن يعينه بالنية حين أدائه في وقته؛ لأنه إذا لم ينوه بالتعين لا يتعين أنه أدى الواجب المعين إذ الوقت يسعه وغيره، فإذا صلى في وقت الظهر أربع ركعات فإن نوى بها أداء واجب الظهر كان أداء له، وإذا لم ينو بها أداء واجب الظهر لم تكن صلاته أداء له، ولو نوى التطوع كانت صلاته تطوعا. وأما الواجب المضيق وقته فلا يجب على المكلف أن يعينه بالنية حين أدائه في وقته؛ لأن الوقت معيار له لا يسع غيره من جنسه فبمجرد النية ينصرف ما نواه إلى الواجب، فإذا نوى في شهر رمضان الصيام مطلقا، ولم يعين بالنية الصيام المفروض انصرف صيامه إلى الصيام المفروض، ولو نوى التطوع لم يكن صومه تطوعا بل كان المفروض؛ لأن الشهر لا يسع صوما غيره. وأما الواجب المؤقت بوقت ذي شبهين، فإذا أطلق المكلف النية نصرفت إلى الواجب؛ لأن الظاهر من حال المكلف أنه يبدأ بما يجب عليه قبل أن يتطوع، فهو في هذا كالمضيق، وإذا نوى التطوع كان تطوعا؛ لأنه صرح بنية ما يسعه الوقت، وبما يخالف الظاهر من حاله وهو في هذا كالموسع. ومما يتفرع على تقسيم الواجب إلى مؤقت ومطلق عن التوقيت، أن الواجب المعين وقته، يأثم المكلف بتأخيره عن وقته بغير عذر؛ لأن الواجب المؤقت هو واجبان: فعل الواجب وفعله في وقته، فمن فعل الواجب بعد وقته، فقد فعل أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الواجبين وهو الفعل المطلوب؛ وترك الواجب الآخر وهو فعله في وقته، فيأثم بترك هذا الواجب بغير عذر. وأم الواجب المطلق عن التوقيت فليس له وقت معين لفعله، وللمكلف أن يفعله في أي وقت شاء، ولا إثم عليه في أي وقت. التقسيم الثاني: ينقسم الواجب من جهة المطالب بأدائه إلى واجب عيني وواجب كفائي. فالواجب العيني: هو ما طلب الشارع فعله من فرد من كل أفراد المكلفين، ولا يجزئ قيام مكلف به عن آخر كالصلاة والزكاة والحج والوفاء بالعقود واجتناب الخمر والميسر. والواجب الكفائي: هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين، وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا بإهمال هذا الواجب. كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الصلاة على المتوفى وبناء المستشفيات، وإنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، والطب، والصناعات التي يحتاج إليها الناس، والقضاء، والإفتاء، ورد السلام وأداء الشهادة. فهذه الواجبات مطلوب للشارع أن توجد في الأمة أيا كان من فعلها؛ لأن المصلحة تتحقق بوجودها من بعض المكلفين ولا تتوفق على قيام كل مكلف بها. فالواجبات الكفائية المطالب بها مجموع أفراد الأمة، بحيث إن الأمة بمجموعها عليها أن تعمل على أن يؤدي الواجب الكفائي فيها، فالقادر بنفسه وماله على أداء الواجب الكفائي؛ عليه أن يقوم به، وغير القادر على أدائه بنفسه عليه أن يحث القادر ويحمله على القيام به؛ فإذا أدى الواجب سقط الإثم عنهم جميعا. وإذا أهمل أثموا جميعا: أثم القادر لإهماله واجبا قدر على أدائه، وأثم غيره لإهمال حث القادر وحمله على فعل الواجب المقدور له، وهذا مقتضى التضامن في أداء الواجب، فلو رأى جماعة غريقا يستغيث، وفيهم من يحسنون السباحة ويقدرون على إنقاذه، وفيهم من لا يحسنون السباحة ويقدرون على إنقاذه، وفيهم من لا يحسنون السباحة أن يبذل بعضهم جهده في إنقاذه. وإذا لم يبادر من تلقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 نفسه إلى القيام بالواجب، فعلى الآخرين حثه وحمله على أداء واجبه؛ فإذا أدى الواجب فلا إثم على أحد، وإذا لم يؤد الواجب أثموا جميعا. وإذا تعين فرد لأداء الواجب الكفائي كان واجبا عينيا عليه، فلو شهد الغريق الذي يستغيث شخص واحد يحسن السباحة، ولو لم ير الحادثة إلا واحد ودعي للشهادة، ولو لم يوجد في البلد إلا طبيب واحد وتعين للإسعاف؛ فهؤلاء الذين يعينوا لأداء الواجب الكفائي، يكون الواجب بالنسبة إليهم عينيا. التقسيم الثالث: ينقسم الواجب من جهة المقدار المطلوب منه إلى محدد وغير محدد. فالواجب المحدد: هو ما عين له الشارع مقدارًا معلومًا، بحيث لا تبرأ ذمة المكلف من هذا الواجب إلا إذا أداه على ما عين الشارع؛ كالصلوات الخمس والزكاة والديون المالية. فكل فريضة من الصلوات الخمس مشغولة بها ذمة المكلف حتى تؤدي بعدد ركعاتها وأركانها وشروطها، وزكاة كل مال واجبة فيه الزكاة مشغولة بها ذمة المكلف حتى تؤدي بمقدارها في مصرفها. وكذلك ثمن المشتري وأجر المستأجر وكل واجب يوجب مقدارًا معلوما بحدود معينة، ومن نذر أن يتبرع بمبلغ معين لمشروع خيري فالواجب عليه بالنذر واجب محدد. والواجب غير المحدد: هو ما لم يعين الشارع مقداره بل طلبه من المكلف بغير تحديد، كالإنفاق في سبيل الله، والتعاون على البر، والتصدق على الفقراء إذا وجب بالنذر، وإطعام الجائع وإغاثة الملهوف وغير ذلك من الواجبات التي لم يحددها الشارع؛ لأن المقصود بها سد الحاجة، ومقدار ما تسد به الحاجة يختلف باختلاف الحاجات والمحتاجين والأحوال. ومما يتفرع عن هذا التقسيم أن الواجب المحدد يجب دينا في الذمة، وتجوز المقاضاة به، وأن الواجب غير المحدد لا يجب دينا في الذمة، ولا تجوز المقضاة به؛ لأن الذمة لا تشغل إلا بمعين والمقاضاة لا تكون إلا بمعين. ولهذا من رأى أن نفقة الزوجة على زوجها، ونفقة القريب على قريبه واجب غير محدد؛ لأنه لا يعرف مقداره، قال: إن ذمة الزوج أو القريب غير المشغولة به قبل القضاء أو الرضاء، إذا حكم بها أو تراضى الطرفان عليها تحدد مقدار الواجب بالقضاء أو بالرضاء، وضحت المطالبة به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ومن رأى أنها من الواجب المحدد بحال الزواج أو بما يكفي للقريب، قال: إنها واجب محدد في الذمة فتصح المطالبة به عن مدة قبل القضاء أو الرضاء؛ لأن القضاء أظهر مقدار الواجب ولم يحدده. التقسيم الرابع: ينقسم الواجب إلى واجب معين، وواجب مخير. فالواجب المعين: ما طلبه الشارع بعينه "كالصلاة، والصيام، وثمن المشتري، وأجر المستأجر، ورد المغضوب" ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه بعينه. والواجب المخير: ما طلبه الشارع واحدًا من أمور معينة، كأحد خصال الكفارة فإن الله أوجب على من حنث في يمينه أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فالواجب أي واحد من هذه الأمور الثلاثة، والخيار للمكلف في تخصيص واحد بالفعل، وتبرأ ذمته من الواجب بأداء أي واحد. 2- المندوب: تعريفه: المندوب هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا غير حتم، بأن كانت صيغة طلبه نفسها لا تدل على تحتيمه، أو اقترنت بطلبه قرائن تدل على عدم التحتيم. فإذا طلب الشارع الفعل بصيغة: "يسن كذا أو يندب كذا" كان المطلوب بهذه الصيغة مندوبًا، وإذا طلبه بصيغة الأمر ودلت القرينة على أن الأمر للندب كان المطلوب مندوبًا، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فإن الأمر بكتابة الدين للندب لا للإيجاب بدليل القرينة التي في الآية نفسها. وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، فإنها تشير إلى أن يثق بمدينه ويأتمنه من غير كتابة الدين عليه، وكقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فمكاتبة المالك عبده مندوبة بقرينة أن المالك حر التصرف في ملكه. فالمطلوب فعله إن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه حتم ولازم، فهو الواجب مثل: كتب عليكم، فرض عليكم، وقضى ربك. وإن كانت صيغة طلبه نفسها تدل على أنه غير حتم فهو المندوب مثل: ندب لكم، سن لكم، وإن كانت صيغة طلبه لا تدل على طلب حتم أو غير حتم، استدل بالقرائن على أن المطلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 واجب أو مندوب. وقد تكون القرينة نصًّا، وقد تكون ما يؤخذ من مبادئ الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وقد تكون ترتيب العقوبة على ترك الفعل وعدم ترتيبها. ولهذا اشتهر تعريف الواجب بأنه ما يستحق تاركها لعقوبة، وتعريف المندوب بأنه ما لا يستحق تاركه العقوبة وقد يستحق العتاب. أقسامه: المندوب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مندوب مطلوب فعله على وجه التأكيد وهو لا يستحق تاركه العقاب. ولكن يستحق اللوم والعتاب. ومن هذا السنن والمندوبات التي تعد شرعا مكملة الواجبات كالأذان، وأداء الصلوات الخمس جماعة. ومنه كل ما واظب عليه الرسول من شئونه الدينية، ولم يتركه إلا مرة أو مرتين ليدل على عدم تحتيمه كالمضمضة في الوضوء، وقراءة سورة أو آية بعد الفاتحة في الصلاة. ويسمى هذا القسم السنة المؤكدة أو سنة الهدى. ومندوب مشروع فعله، وفاعله يثاب وتاركه لا يستحق عقابا ولا لوما: ومن هذا ما يواظب الرسول على فعله بل فعله مرة أو أكثر وتركه. ومنه جميع التطوعات كالتصدق على الفقير أو الصيام يوم الخميس من كل أسبوع أو صلاة ركعات زيادة عن الفرض وعن السنة المؤكدة. ويسمى هذا القسم السنة الزائدة أو النافلة. ومندوب زائد أي يعد من الكماليات للمكلف. ومن هذا الاقتداء بالرسول في أموره العادية التي تصدر عنه بصفته إنسانا كان يأكل، ويشرب ويمشي وينام ويلبس على الصفه التي كان يسير عليها الرسول. فإن الاقتداء بالرسول في هذه الأمور وأمثالها كمالي، ويعد من محاسن المكلف؛ لأنه يدل على حبه للرسول وفرط تعلقه به. ولكن من لم يقتد بالرسول في مثل هذه الأمور لا يعد مسيئا؛ لأن هذه ليست من تشريعه -صلى الله عليه وسلم. ويسمى هذا القسم مستحبا وأدبا وفضيلة. 3- المحرم: تعريفه: المحرم هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما، بأن تكون صيغة طلب الكف نفسها دالة على أنه حتم كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} ، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} . وقوله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ} أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يكون النهي عن الفعل مقترنا بما يدل على أنه حتم مثل: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} . أو يكون الأمر بالاجتناب مقترنا بذلك نحو {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} أو أن يترتب على الفعل عقوبة مثل {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . فقد يستفاد التحريم من صيغة خبرية تدل عليه، أو من صيغة طلبية هي نهي، أو من صيغة طلبية هي أمر بالاجتناب، فالقرينة تعين أن الطلب للتحريم. أقسامه: المحرم قسمان: محرم أصالة لذاته: أي أنه فعل حكمه الشرعي التحريم من الابتداء، كالزنا والسرقة والصلاة بغير طهارة، وزواج إحدى المحارم مع العلم بالحرمة، وبيع الميتة. وغير ذلك مما حرم تحريمًا ذاتيًّا لما فيه من مفاسد ومضار، فالتحريم وارد ابتداء على ذات الفعل؛ ومحرم لعارض، أي أنه فعل حكمه الشعري ابتداء الوجوب أو الندب أو الإباحة ولكن اقترن به عارض جعله محرما كالصلاة في ثوب مغصوب، والبيع الذي فيه غش، والزواج المقصود به مجرد تحليل الزوجة لمطلقها ثلاثا، وصوم الوصال، والطلاق البدعي وغير ذلك لما عرض له التحريم لعارض، فليس التحريم لذات الفعل، ولكن لأمر خارجي، أي ذات الفعل لا مفسدة فيه ولا مضرة، ولكن عرض له، واقترن به ما جعل فيه مفسدة أو مضرة. ومما يبنى على هذا التقسيم أن المحرم أصالة غير مشروع أصلا، فلا يصلح سببا شرعيا ولا تترتب أحكام شرعية عليه بل يكون باطلا. ولهذا كانت الصلاة بغير طهارة باطلة. وزواج إحدى المحارم مع العلم بالحرمة باطلا. وبيع الميتة باطلا. والباطل شرعا لا يترتب عليه حكم. وأما المحرم لعارض فهو في ذاته مشروع فيصلح سببا شرعيا وتترتب عليه آثاره؛ لأن التحريم عارض له وليس ذاتيا. ولهذا كانت الصلاة في ثوب مغصوب صحيحة مجزئة وهو آثم للغصب. والبيع الذي فيه غش صحيح. والطلاق البدعي واقع. والعلة في هذا أن التحريم لعارض لا يقع به خلل في أصل السبب، ولا في وصفه ما دامت أركانه وشروطه مستوفاة. وأما التحريم الذاتي فهو يجعل الخلل في أصل السبب ووصفه بفقد ركن أو شرط من أركانه، وشروطه فيخرج عن كونه مشروعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 4- المكروه: تعريفه: المكروه هو ما طلب الشارع من المكلف الكف عن فعله طلبا غير حتم، بأن تكون الصيغة نفسها دالة على ذلك؛ كما إذا ورد أن الله كره لكم كذا. أو كان منهيا عنه واقترن النهي بما يدل على أن النهي للكراهة لا للتحريم. مثل {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أو كان مأمورا باجتنابه ودلت القرينة على ذلك، مثل: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} . فالمطلوب الكف عن فعله؛ إن كانت صيغة طلبه نفسه تدل على أنه طلب حتم فهو المحرم، مثل: حرم عليكم كذا. وإن كانت الصيغة نفسها تدل على أنه طلب غير حتم فهو مكروه. مثل: كره لكم كذا. وإن كانت الصيغة نهيا مطلقًا، أو أمرًا بالاجتناب مطلقا، استدل بالقرائن على أنه طلب حتم أو غير حتم. ومن القرائن ترتيب العقوبة على الفعل وعدم ترتيبها، ولهذا عرف بعض الأصوليين المحرم بأنه ما استحق فاعله العقوبة، والمكروه بأنه ما لا يستحق فاعله العقوبة؛ وقد يستحق اللوم. 5- المباح: تعريفه: المباح هو ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه. فلم يطلب الشارع أن يفعل المكلف هذا الفعل، ولم يطلب أن يكف عنه. وتارة تثبت إباحة الفعل بالنص الشرعي على إباحته، كما إذا نص الشارع على أنه لا إثم في الفعل، فيدل بهذا على إباحته كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقوله سبحانه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} وكما أمر الشارع بفعل ودلت القرائن على أمر الإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وكقوله سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ، وكقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} . وتارة تثبت إباحة الفعل بالإباحة الأصلية. فإذا لم يرد الشارع النص على حكم العقد والتصرف أو أي فعل، ولم يقم دليل شرعي آخر على الحكم فيه؛ كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 هذا العقد أو التصرف أو الفعل مباحا بالبراءة الأصلية؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة. هذه هي أقسام الحكم التكليفي الخمسة على ما ذهب إليه جمهور الأصوليين. وأما علماء الحنفية فقد قسموه إلى سبعة أقسام لا خمسة، وذلك أنهم قالوا: "إن ما طلب الشارع فعله طلبا حتما إذا كان دليل طلبه قطعيا بأن كان آية قرآنية أو حديثا متواترا فهو الفرض، وإن كان دليل طلبه ظنيا بأن كن حديثا غير متواتر أو قياسا فهو الواجب. فإقامة الصلاة فرض؛ لأنها طلبت طلبا حتميا بدليل قطعي هو قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} . وقراءة الفاتحة في الصلاة واجبة؛ لأنها طلبت طلبا حتما، بدليل ظني هو قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". وأما ما طلب فعله طلبا غير حتم فهو المندوب. وكذلك ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتما إن كان دليله قطعيا كآية أو سنة متواترة فهو المحرم، وإن كان دليل ظنيا كسنة غير متواترة فهو المكروه تحريما. فالزنا محرم؛ لأنه طلب الكف عنه طلبا حتما بدليل قطعي هو قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} . ولبس الرجال الحرير وتختمهم بالذهب مكروهان تحريما؛ لأنه طلب الكف عنهما طلبا حتما، بدليل ظني، هو قوله -صلى الله عليه وسلم: "هذان حرام على رجال أمتي حلال لنسائهم". وأما ما طلب الكف عنه طلبا غير حتم فهو المكره تنزيها. فعند علماء الحنفية المطلوب فعله ثلاثة أقسام: الفرض، والواجب، والمندوب. والمطلوب الكف عنه ثلاثة أقسام المحرمة، والمكروه تحريما، والمكروه تنزيها والقسم السابع المباح. وقد قدمنا أن نصوص القرآن كلها قطعية الورود ولهذا يثبت بها عند الحنفية الفرض والتحريم والندب والكراهة، وأما السنة فما كان قطعي الورود منها هو المتواتر وفي حكمه المشهور، فيثبت به أيضا ما يثبت بالقرآن. وما كان منها ظني الورود وهو خبر الآحاد فلا يثبت به فرض ولا تحريم، ويثبت به ما عداهما من أنواع الأحكام التكليفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والفعل الواحد قد تعتريه هذه الأحكام كلها أو بعضها بحسب ما يلابسه، فمثلا: الزواج قد يكون فرضا على المسلم إذا قدر على المهر والنفقة وسائر واجبات الزوجية، وتيقن من حال نفسه أنه إذا لم يتزوج زنى. ويكون واجبا إذا قدر على ما ذكر وخاف أنه إذا لم يتزوج زنى. ويكون مندوبا إذا كان قادرا على واجبات الزوجية، وكان في حال اعتدال لا يخاف أن يزني إذا لم يتزوج. ويكون محرما إذا تيقن أنه إذا تزوج يظلم زوجته ولا يقوم بحقوق الزوجية. ويكون مكروها تحريما إذا خاف ظلمها. أقسام الحكم الوضعي: ينقسم الحكم الوضعي إلى خمسة أقسام: لأنه ثبت بالاستقراء أنه إما أن يقتضي جعل شيء سببا لشيء، أو شرطا، أو مانعا، أو مسوغا للرخصة بدل العزيمة، أو صحيحا أو غير صحيح. 1- السبب: تعريفه: السبب: هو ما جعله الشارع علامة على مسببه وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه بعدمه. فيلزم من وجود السبب وجود المسبب ومن عدمه عدمه. فهو ظاهر منضبط، جعله الشارع علامة على حكم شرعي هو مسببه، ويلزم من وجوده وجود المسبب، ومن عدمه عدمه. وقد قدمنا في مبحث العلة في القياس أن كل علة للحكم تسمى سببه، وليس كل سبب للحكم يسمى علته. وبينا الفرق بينهما وأمثلتهما. أنواعه: قد يكون السبب سببًا لحكم تكليفي؛ كالوقت جعله الشارع سببا لإيجاب إقامة الصلاة لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، وكشهود رمضان جعله الشارع سببًا لإيجاب صومه بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وملك النصاب النامي من مالك الزكاة جعل سببا لإيجاب إيتاء الزكاة، والسرقة جعلت سببا لإيجاب قطع يد السارق. وشرك المشركة جعل سببا لتحريم زواج المسلم بها. والمرض جعل سببا لإباحة الفطر في رمضان، وأمثال ذلك. وقد يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 السبب سببا لإثبات ملك أو حل أو إزالتهما، كالبيع لإثبات الملك وإزالته، والعتق والوقف لإسقاطه، وعقد الزواج لإثبات الحل. والطلاق لإزالته، والقرابة والمصاهرة والولاء لاستحقاق الإرث، وإتلاف مال الغير لاستحقاق الضمان على المتلف، والشركة أو الملك لاستحقاق الشفعة. وقد يكون السبب فعلًا للمكلف مقدورا له كقتله العمد سبب لوجوب القصاص منه، وعقده البيع أو الزواج أو الإجارة أو غيرها أسباب لأحكامها، وملكه مقدار النصاب لوجوب الزكاة عليه. وقد يكون أمرا غير مقدور للمكلف وليس من أفعاله، كدخول الوقت لإيجاب الصلاة والقرابة للإرث والولاية، والصغر لثبوت الولاية على الصغير. وإذا وجد السبب سواء أكان من فعل المكلف أم لا، وتوافرت شروطه وانتفت موانعه، ترتب عليه مسببه حتما، سواء أكان مسببه حكما تكليفيا، أم إثبات ملك أو حل، أم إزالتهما؛ لأن المسبب لا يتخلف عن سببه شرعا، سواء أقصد من باشر المسبب عليه أم لم يقصد، بل يترتب ولو قصد عدم ترتبه فمن سافر في رمضان أبيح له الفطر، سواء أقصد إلى الإباحة أم لم يقصد إليها. ومن طلق زوجته رجعيا ثبت له حق مراجعتها ولو قال: لا رجعة لي. ومن تزوج وجب عليه المهر ونفقة زوجته ولو تزوجها على أن لا مهر عليه ولا نفقة؛ لأن الشارع إذا وضع العقد أو التصرف سببًا للحكم، ترتب الحكم على العقد بحكم الشرع، ولا يتوقف ترتبه على قصد المكلف. وليس للمكلف أن يحل هذا الارتباط الذي ربط به الشارع المسببات بأسبابها. 2- الشرط: تعريفه: الشرط: هو ما يتوقف وجود الحكم على وجوده ويلزم من عدمه عدم الحكم. والمراد وجوده الشرعي الذي يترتب عليه أثره. فالشرط خارج عن حقيقه المشروط يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده. فالزوجية شرط لإيقاع الطلاق، فإذا لم توجد زوجية لم يوجد طلاق ولا يلزم من وجود الزوجية وجود الطلاق. والوضوء شرط لصحة إقامة الصلاة، فإذا لم يوجد وضوء لا تصح إقامة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء إقامة الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ووجود الزواج الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على حضور الشاهدين وقت عقده، ووجود البيع الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه يتوقف على العلم بالبدلين، وهكذا كل ما شرط الشارع له شرطا لا يتحقق وجوده الشرعي إلا إذا وجدت الشروط، ويعتبر شرعا معدوما إذا فقدت شروطه، ولكن لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط. والشروط الشرعية هي التي تكمل السبب وتجعل أثره يترتب عليه. فالقتل سبب لإيجاب القصاص، ولكن بشرط أن يكون قتلًا عمدًا وعدوانًا. وعقد الزواج سبب لملك المتعة، ولكن بشرط أن يحضره شاهدان، وهكذا كل عقد أو تصرف لا يترتب عليه أثره إلا إذا توافرت شروطه. والفرق بين الشيء وشروطه، مع أن كلا منها يتوقف وجود الحكم على وجوده، أن الركن جزء من حقيقة الشيء. وأما الشرط فهو أمر خارج عن حقيقته وليس من أجزائه. فالركوع ركن الصلاة؛ لأنه جزء من حقيقتها. والطهارة شرط الصلاة؛ لأنها أمر خارج عن حقيقتها، وصيغة العقد والعاقدان ومحل العقد أركان العقد؛ لأنها أجزاؤه. وحضور الشاهدين في الزواج وتعيين البدلين في البيع وتسليم الموهوب في الهبة شروط لا أركان؛ لأنها ليست من أجزاء العقد، ومن أجل هذا كان للوقف أركان وشروط، وكذا للبيع وسائر العقود والتصرفات، وإذا حصل خلل في ركن من الأركان كان خللًا في نفس العقد أو التصرف. وإذا حصل خلل في شرط من الشروط كان خللًا في وصفه أي في أمر خارج عن حقيقته. وقد يكون اشتراط الشرط الشرط بحكم الشارع، ويسمى الشرط الشرعي. وقد يكون اشتراط الشرط بتصرف المكلف ويسمى الشرط الجعلي. فمثال الأول: جميع الشروط التي اشترطها الشارع في الزواج والبيع والهبة والوصية، والتي اشترطها لإيجاب الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، والتي اشتراطها لإقامة الحدود ولغير ذلك. ومثال الثاني: الشروط التي يشترطها الزوج ليقع الطلاق على زوجته، والتي يشترطها المالك لعتق عبده. فإن تعليق الطلاق أو العتق على وجود شرط مقتضاه أنه يتوقف وجود الطلاق، أو العتق على وجود الشرط ويلزم من عدمه عدمه. فصيغة الطلاق سبب يترتب عليه الطلاق، ولكن إذا توافر الشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وليس للمكلف أن يعلق أي عقد أو تصرف على أي شرط يريده، بل لا بد أن يكون الشرط غير مناف حكم العقد أو التصرف. وأما إذا كان الشرط منافيا حكم العقد فيبطل العقد؛ لأن الشرط مكمل للسبب فإذا نافى حكمه أبطل سببيته. مثال ذلك: العقود التي تفيد الملك التام أو الحل التام، كعقد البيع. وعقد الزواج حكمهما الشرعي أن الأثر المترتب على كل واحد منهما لا يتراخى عن صيغته، فإذا عقد المكلف بيعا أو زواجا وعلق واحدا منهما على أن يوجد في المستقبل شرط شرطه، فإن مقتضى هذا الاشتراط أن لا يوجد أثر العقد إلا إذا وجد الشرط، وهذا يتنافى مع مقتضى العقد، وهو أن حكمه لا يتراخى عنه، ولهذا بطل البيع المعلق على شرط، وكذلك الزواج المعلق على شرط، فالشرط الجعلي إذا اعتبره الشارع صار كالشرط الشرعي. 3- المانع: تعريفه: المانع: هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم، أو بطلان السبب، فقد يتحقق السبب الشرعي، وتتوافر جميع شروطه ولكن يوجد مانع يمنع ترتب الحكم عليه، كما إذا وجدت الزوجية الصحيحة أو القرابة، ولكن منع ترتب الإرث على أحدهما كاختلاف الوارث مع المورث دينا، أو قتل الوارث مورثه. وكما إذا وجد القتل العمد العدوان ولكن منع من إيجاب القصاص به أن القاتل أبو المقتول. فالمانع في اصطلاح الأصوليين: هو أمر يوجد مع تحقق السبب وتوافر شروطه، ويمنع من ترتب المسبب على سببه، ففقد الشرط لا يسمى مانعا في اصطلاحهم، وإن كان يمنع من ترتب المسبب على السبب. وقد يكون المانع مانعا من تحقق السبب الشرعي لا من ترتب حكمه عليه كالدين لمن ملك نصاب من أموال الزكاة، فإن دينه مانع من تحقق السبب لإيجاب الزكاة عليه؛ لأن مال المدين كأنه ليس مملوكا له ملكا تاما، نظرا لحقوق دائنيه؛ ولأن تخليص ذمته مما عليه من الدين أولى من مواساته الفقراء والمساكين بالزكاة، وهذا في الحقيقة مخل بما يشترط توافره في السبب الشرعي، فهو من باب عدم توافر الشرط، لا من قبيل وجود المانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 4- الرخصة والعزيمة: تعريفهما: الرخصة هي ما شرع الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف، أو هي ما شرع لعذر شاق في حالات خاصة، أو هي استباحة المحظور بدليل مع قيام دليل الحظر. وأما العزيمة فهي ما شرع الله أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال، ولا بمكلف دون مكلف. أنواع الرخص: من الرخص إباحة المحظورات عند الضرورات أو الحاجات. فمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر أبيح له ترفيها عنه أن يتلفظ بها وقلبه مطمئن بالإيمان: وكذا من أكره على أن يفطر في رمضان أو يتلف مال غيره، أبيح له المحظور الذي أكره عليه ترفيها عنه. ومن اضطره الجوع الشديد أو الظمأ الشديد إلى أكل الميتة أو شرب الخمر أبيح له أكلها وشربها. قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} . وقال سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} ، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} . ومن الرخص: إباحة ترك الواجب إذا وجد عذر يجعل أداءه شاقا على المكلف. فمن كان في رمضان مريضا أو على سفر أبيح له أن يفطر، ومن سافر أبيح له قصر الصلاة الرباعية أي أداؤها ركعتين بدل أربع: قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} . ومن الرخص: تصحيح بعض العقود الاستثنائية، التي لم تتوافر فيها الشروط العامة لانعقاد العقد وصحته، ولكن جرت بها معاملات الناس وصارت من حاجاتهم، كعقد السلم فإنه بيع معدوم وقت العقد، ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجاتهم. ولذا جاء في الحديث: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم". وكذلك الاستصناع والإجارة وعقد الوصية. فهذه كلها عقود إذا طبقت عليها الشروط العامة لانعقاد العقود وصحتها في العاقد، والمعقود عليه لا تصح ولكن الشارع رخص فيها وأجازها سدا لحاجة الناس ودفعا للحرج عنهم. ومن الرخص: نسخ الأحكام التي رفعها الله عنا وكانت من التكاليف الشاقة على الأمم قبلنا، وهي المشار إليها بقوله سبحانه: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} مثل التكليف بقرض موضع النجاسة من الثواب، وأداء ربع المال في الزكاة، وقتل النفس توبة من المعصية وعدم جواز الصلاة في غير المساجد -وتسمية هذه رخصًا فيها وتوسع- ومن هذه الأنواع يتبين أن ترخيص الشارع للتخفيف عن المكلفين تارة بإباحة المحرم للضرورة. أو بإباحة ترك الواجب للعذر، أو باستثناء بعض العقود من الأحكام الكلية للحاجة، كلها ترجع عند التحقيق إلى إباحة المحظور للضرورة أو الحاجة. وعلماء الحنفية قسموا الرخصة إلى قسمين: رخصة ترفيه، ورخصة إسقاط. وفرقوا بينهما بأن رخصة الترفيه يكون حكم العزيمة معها باقيا ودليله قائما، ولكن رخص في تركه تخفيفا وترفيها عن المكلف. ومثلوا لهذا بمن أكره على التلفظ بكلمة الكفر. أو على إتلاف مال غيره، أو على الفطر في رمضان. وقالوا: إن النص المرخص لم يسقط حرمة التلفظ بكلمة الكفر عمن أكره عليه، ولكن استثنى من أكره من غضب الله عليه واستحقاقه العذاب. قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106] . ولكن يلاحظ أن الله قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فقد استثنى المضطر من الإثم كما استثنى المكره على التلفظ من الإثم واستحقاق العذاب. بل إن قوله سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يشعر بأنه محرم، ولكن الله لم يعاقبه عليه رحمة منه. وقالوا كذلك: لم يسقط الإكراه حرمة إتلاف مال الغير ولا حرمة الفطر في رمضان، بل الحرمة مع الإكراه ثابتة. وإنما المقصود بالإباحة الترفيه عن المكلف. ولبقاء هذه الحرمة قالوا: إن العمل بالعزيمة أولى وإن من تمسك بالعزيمة واحتمل ما أكره عليه حتى مات، مات شهيدًا. وأما رخصة الإسقاط فلا يكون حكم العزيمة معها باقيًا، بل إن الحال التي استوجبت الترخيص أسقطت حكم العزيمة، وجعلت الحكم المشروع فيها هو الرخصة، مثلوا لهذا بإباحة أكل الميتة أو شرب الخمر عند الجوع والظمأ وقصر الصلاة في السفر. فالمضطر إلى أكل الميتة وشرب الخمر سقطت حرمتها عنه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 حال اضطراره؛ لأن الله سبحانه بعد أن يبين هذه المحرمات قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا يقتضي رفع التحريم، ولو لم يأكل أو يشرب أثم. والمسافر سقطت عنه الأربع ولو صلى أربعا كانت الركعتان الأخيرتان نافلة وتطوعا لا من المفروض. والحق أن النصوص التي شرعت الرخص لا يدل ظاهرها على هذا التفريق. فإن الله سبحانه قال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} . فكل محرم عند الضرورة يباح بلا تفريق بين محرم ومحرم. والقول بأنه عند الإكراه على إفطار رمضان يكون حكم العزيمة، وهو فرض الصيام باقيًا. وعند الاضطرار إلى أكل الميتة، أو شرب الخمر، لا يكون حكم العزيمة، وهو تحريمها باقيا. تفريق لا يظهر له وجه؛ لأن الإكراه نوع من الاضطرار؛ وفي الحالتين أبيح المحظور للضرورة، وكما قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وصريح قوله سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} . أن القصر مباح، ومقتضى أنه مباح أن الأخذ بالعزيمة هو إتمام الصلاة أربعا مباح أيضا، فكيف يقال: إن حكم العزيمة هنا غير قائم، وإن الرخصة في هذا رخصة إسقاط؟ فالذي يؤخذ من النصوص أن الرخص كلها شرعت للترفيه، والتخفيف عن المكلف بإباحة فعل المحرم، وأن حكم الحظر ودليله قائمان. ومعنى إباحة المحظور ترخيصا أنه لا إثم في فعله. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فللمكلف أن يتبع الرخصة تخفيفا عن نفسه، وله أن يتبع العزيمة محتملا ما فيها من مشقة، إلا إذا كانت المشقة يناله من احتمالها ضرر، فإنه يجب عليه اتقاء الضرر، واتباع الرخصة لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، والله سبحانه وتعالى يحب أن تتبع رخصه، كما يجب أن تؤتى عزائمه، لأنه سبحانه ما جعل على الناس في الدين من حرج. ومما قدمناه في تعريف الرخصة وبيان أنواعها يظهر الوجه في عدها من أقسام الحكم الوضعي؛ لأن الحكم المشروع هو جعل الضرورة سببا في إباحة المحظور أو طروء العذر سببا في التخفيف بترك الواجب، أو دفع الحرج عن الناس سببا في تصحيح بعض عقود المعاملات بينهم، فهو في الحقيقة وضع أسباب لمسببات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 5- الصحة والبطلان: ما طلبه الشارع من المكلفين من أفعال، وما شرعه لهم من أسباب وشروط إذا باشرها المكلف قد يحكم الشارع بصحتها، وقد يحكم بعدم صحتها. فإذا وجدت على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن تحققت أركانها وتوافرت شرائطها الشرعية، حكم الشارع بصحتها، وإن لم توجد على وفق ما طلبه الشارع وما شرعه، بأن اختل ركن من أركانها أو شرط من شروطها، حكم الشارع بعدم صحتها. ومعنى صحتها شرعًا: ترتب آثارها الشرعية عليها. فإن كان الذي باشره المكلف فعلا واجبا عليه، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وأداء المكلف مستكملًا أركانه وشروطه، سقط عنه الواجب، وبرئت ذمته منه، ولم يستحق تعزيرًا في الدنيا واستحق المثوبة في الآخرة. وإن كان الذي باشره المكلف سببا شرعيا كالزواج والطلاق، والبيع والهبة وسائر العقود والتصرفات، واستوفى المكلف أركانه وشرائطه الشرعية، ترتب على كل سبب أثره الشرعي الذي رتبه الشارع عليه من إثبات الحل أو إزالته، تبادل ملك البدلين، أو الملك بغير عوض، أو غير ذلك من الآثار والحقوق التي تترتب على الأسباب الشرعية الصحيحة. وإن كان الذي باشره شرطا كالطهارة للصلاة واستوفى المكلف شروطها وأركانها، أمكن تحقيق المشروط صحيحًا. ومعنى عدم صحتها عدم ترتب آثارها الشرعية عليها، فإن كان الذي باشره واجبا لا يسقط عنه ولا تبرأ ذمته منه، وإن كان سببا شرعيا لا يترتب عليه حكمه، وإن كان شرطًا لا يوجد المشروط. وذلك لأن الشارع إنما رتب الآثار على أفعال وأسباب، وشروط تتحقق كما طلبها وشرعها، فإذا لم تكن كذلك فلا اعتبار لها شرعا. ومن هذا البيان يؤخذ أن ما صدر عن المكلف من أفعال، أو أسباب أو شروط ولم يتفق وما طلبه الشارع أو ما شرعه يكون غير صحيح شرعا، ولا يترتب عليه أثره، سواء كان عدم صحته لاختلال ركن من أركانه أو لفقد شرط من شروطه، وسواء أكان عبادة أم عقدًا أم تصرفًا، وعلى هذا فلا فرق بين باطل وفاسد، لا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 العبادات، ولا في المعاملات فالصلاة الباطلة كالصلاة الفاسدة لا تسقط الواجب عن المكلف ولا تبرئ ذمته، والزواج الباطل كالزواج الفائد لا يفيد ملك المتعة ولا يترتب عليه أثره، والبيع الباطل كالبيع الفاسد لا يفيد نقل الملك في البدلين ولا يترتب عليه حكم شرعي، وتكون القسمة ثنائية، أي أن الفعل أو العقد أو التصرف إما صحيح تترتب عليه آثاره، وإما غير صحيح لا يترتب عليه أثر شرعي، وهذا هو رأي الجمهور. وقال علماء الحنفية: إن القسمة ثنائية في العبادات، فهي إما صحيحة وإما غير صحيحة، ولا فرق بين باطل الصيام مثلا وفاسده في أنه لا يترتب عليه أثره ولا يسقط الواجب، وعلى المكلف قضاؤه، وأما العقود والتصرفات فالقسمة ثلاثية؛ لأن العقد غير الصحيح ينقسم إلى باطل وفاسد؛ فإن كان الخلل في أصل العقد أي في ركن من أركانه بأن كان في الصيغة، أو العاقدين أو المعقود عليه، كان العقد باطلا لا يترتب عليه أثر شرعي، وإن كان الخلل في وصف من أوصاف العقد بأن كان في شرط خارج عن ماهيته وأركانه، كان العقد فاسدا، وترتبت عليه بعض آثاره. وعلى هذا قالوا: إن بيع المجنون أو غير المميز أو بيع المعدوم باطل، وأما البيع بثمن غير معلوم فهو فاسد، وإن زواج غير المميز أو زواج إحدى المحرمات مع العلم بالحرمة باطل. وأما الزواج بغير شهود فهو فاسد، ولم يرتبوا على الباطل أثرًا، ورتبوا على الفاسد بعض الآثار، ولهذا أوجبوا بالدخول في الزواج الفاسد المهر والعدة وأثبتوا النسب، وفي البيع الفاسد إذا رفع سبب الفساد في المجلس بأن عين الثمن، أو الأجل ترتبت على العقد آثاره، وهو يفيد الملك بالقبض. ومما قدمنا بيانه من معنى الصحة ومعنى البطلان، يظهر الوجه على عدهما من الحكم الوضعي؛ لأن الصحة هي ترتب الآثار الشرعية على الأفعال والأسباب أو الشروط التي باشرها المكلف. والبطلان عدم ترتب شيء من تلك الآثار، فالحكم بصحة البيع حكم بسببيته شرعا لأحكامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 2- المحكوم فيه : تعريفه: المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به حكم الشارع. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، الإيجاب المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو: الإيفاء بالعقود فجعله واجبًا. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الندب المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو كتابة الدين، فجعله مندوبًا. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} التحريم المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو قتل النفس، فجعله محرما. وقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الكراهة المستفادة من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو إنفاق المال الخبيث، فجعلته مكروهًا. وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الخطاب تعلق بالمرض والسفر، فجعل كلا منهما مبيحا للفطر. فكل حكم من أحكام الشارع فهو لا بد متعلق بفعل من أفعال المكلفين على جهة الطلب، أو التخيير، أو الوضع. ومن المقرر أنه لا تكليف إلا بفعل، أي أن حكم الشارع التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف، فإذا حكم الشارع إيجابا أو ندبا فالأمر واضح؛ لأن متعلق الإيجاب فعل الواجب على سبيل الحتم. ومتعلق الندب فعل المندوب لا على سبيل الحتم والإلزام، فالتكليف في الحالين بفعل. وإذا كان حكم الشارع تحريما أو كراهة، فالمكلف به في الحالين هو فعل أيضا؛ لأنه هو كف النفس عن فعل المحرم أو المكروه. فمعنى قولهم: "لا تكليف إلا بفعل" أن الفعل يشمل الكف؛ أي المنع للنفس عن فعل. وبهذا تكون جميع الأوامر والنواهي متعلقة بأفعال المكلفين، ففي الأوامر: المكلف به: فعل المأمور به، وفي النواهي: هو الكف عن المنهي عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 شرط صحة التكليف بالفعل: يشترط في الفعل الذي يصح شرعا التكليف به ثلاثة شروط: أولها: أن يكون معلوما للمكلف علما تام حتى يستطيع المكلف القيام به كما طلب منه. وعلى هذا فنصوص القرآن المجملة؛ أي التي لم يبين المراد منها، لا يصح تكليف المكلف بها إلا بعد أن يلحق بها بيان الرسول عليه الصلاة والسلام. فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} لم يبين النص القرآني أركان الصلاة، وشروطها وكيفية أدائها، فكيف يكلف بالصلاة من لا يعرف أركانها وشروطها وكيفية أدائها؟ لذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المجمل وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وكذلك الحج والصوم والزكاة، وكل فعل متعلق به خطاب من الشارع مجمل لا يعلم مراد الشارع به، لا يصح التكليف به، ولا مطالبة المكلفين بامتثاله إلا بعد بيانه، ولهذا أعطى الله رسوله سلطة التبيين بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وبين الرسول بسنته القولية والفعلية ما أجمل في القرآن. واتفق العلماء على أنه لا يسوغ تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. وثانيها: أن يكون معلوما أن التكليف به صادر ممن له سلطان التكليف. وممن يجب على المكلف اتباع أحكامه؛ لأنه بهذا العلم تتجه إرادته إلى امتثاله، وهذا هو السبب في أن أول بحث في أي دليل شرعي هو حجيته على المكلفين. أي أن الأحكام التي يدل عليها أحكام واجب على المكلف تنفيذها. وهو السبب أيضا في أن كل قانون وضعي يتوج بالديباجة الخاصة التي تدل على أن الحاكم أصدر القانون بناء على عرض مجلس الوزراء وموافقة البرلمان، ليعلم المكلفون أن القانون صادر ممن لهم سلطان التشريع، وممن يجب عليهم امتثال تكاليفهم، فيتجهوا للتنفيذ. ويلاحظ أن المراد بعلم المكلف بما كلف به إمكان علمه به، لا علمه به فعلا، فمتى بلغ الإنسان عاقلا قادرا على أن يعرف الأحكام الشرعية بنفسه أو بسؤال أهل الذكر عنها، اعتبر عالما بما كلف به، ونفذت عليه الأحكام وألزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بآثارها ولا يقبل منه الاعتذار بجهلها، ولهذا قال الفقهاء: لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي؛ لأنه لو شرط لصحة التكليف علم المكلف فعلا بما كلف به ما استقام التكليف، واتسع المجال للاعتذار بجهل الأحكام. وعلى هذا التقنين الوضعي، فالناس يعتبرون عالمين بالقانون بتيسير إمكان علمهم به، وذلك بنشره بالطريق القانوني بعد إصداره، ولا اعتبار؛ لأن كل فرد من المكلفين علم به فعلا أو لا، ولذا جاء في مادة 22 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية: "لا يقبل من أحد أن يدعى بجهله القانون". وكذلك المراد بعلم المكلف بأن تكليفه بما كلف به صادر ممن يجب عليه امتثال أحكامه، إمكان علمه بهذا لا علمه به فعلا. فكل حكم شرعي يمكن للمكلف أن يعرف دليله، وأن يعرف أن دليله حجة شرعية، على المكلفين اتباع ما يستمد منه. سواء أكان هذا بنفسه أم بواسطة سؤال أهل الذكر عنه. وثالثها: أن يكون الفعل المكلف به ممكنًا، أو أن يكون في قدرة المكلف أن يفعله أو أن يكلف عنه. ويتفرع عن هذا الشرط أمران: أحدهما: أن لا يصح شرعا التكليف بالمستحيل، سواء أكان مستحيلا لذاته أم مستحيلا لغيره، فالمستحيل لذاته أي المستحيل عقلا هو ما لا يتصور العقل وجوده، كالجمع بين الضدين، مثل إيجاب الفعل وتحريمه في وقت واحد على شخص واحد أو الجمع بين النقيضين كالنوم واليقظة في وقت واحد والمستحيل لغيره، أو العادي، ما يتصور العقل وجوده، ولكن ما جرت سنن الكون ولا العادة المطردة بوجوده، كطير الإنسان في الهواء بغير طائرة ووجود زرع بغير بذرة؛ لأن ما لا يتصور وجوده عقلا أو عادة لا يمكن المكلف فعله، وهو ليس في وسعه، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو حكيم منزه عن العبث وعن التكليف بفعل ما لا سبيل إلى فعله، وعن هذا تفرع قول الأصوليين: "الشخص الواحد في الوقت الواحد بالشيء الواحد لا يؤمر وينهى"؛ لأن هذا تكليف بالجمع بين النقيضين، وهما فعل الشيء وتركه في وقت واحد من مكلف واحد. وثانيهما: أنه لا يصح شرعا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلا أو يكف غيره من فعل؛ لأن فعل غيره أو كف غيره ليس ممكنا له هو. وعلى هذا لا يكلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 إنسان بأن يزكي أبوه أو يصلي أخوه أو يكف جاره عن السرقة. وكل ما يكلف به الإنسان مما يخص غيره هو النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا من فعله المقدور له. وكذلك لا يصح شرعا أن يكلف الإنسان بأمر من الأمور الجبلية للإنسان التي هي مسببات لأسباب طبيعية ولا كسب للإنسان فيها، ولا اختيار، كالانفعال عند الغضب، والحمرة عند الخجل، والحب والبغض، والحزن والفرح، والخوف، حين وجود أسبابها، والهضم والتنفس، والطول والقصر، والسواد والبياض، وغير ذلك من الغرائز التي فطر عليها الناس، ووجودها وعدمها خاضع لقوانين خلقية، وليس خاضعًا لإرادة المكلف واختياره، فهي خارجة عن قدرته، وليست من الممكنات له. وإذا ورد في بعض النصوص ما يدل ظاهره على أن فيه تكليفا بما ليس مقدورا للإنسان من هذه الأمور، فهو ليس على ظاهره، وبتحقيق النظر فيه يتبين أنه تكليف بما هو مقدور. مثلًا قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" ظاهره التكليف بالكف عن أمر طبيعي غير كسبي وهو الغضب عند وجود داعيته، ولكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الغضب، ويلحق الغضوب من ثورة نفسه ومظاهر انتقامه، فالمراد: اضبط نفسك حين الغضب وكفها عن آثاره السيئة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"، ظاهره التكليف بأن يقتله غيره، ولكن حقيقته التكليف بأن لا يظلم ولا يبدأ بعدوان، فالمراد: لا تظلم. وقوله عليه الصلاة والسلام: "أحبوا الله لما أسدى عليكم من نعمه". ظاهره التكليف بالحب. ولكن حقيقته التكليف بالنظر في النعم التي أسداها الله إليكم حتى تكونوا دائمًا ذاكرين شاكرين. وقوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ظاهره تكليفهم الآن بأن يكونوا حين يموتون مسلمين، ولكن حقيقته تكليفهم الآن بأن يسيروا في طريق يثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 إيمانهم ويقوي عقائدهم حتى يؤدي بهم هذا إلى أن يموتوا على دينهم. وقوله تعالى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ظاهره التكليف بأن لا يحزن الإنسان على شيء فاته، ولا يفرح بشيء أتاه، وهذا غير مقدور له، لكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الاسترسال في الحزن من السخط، وما يعقب الاسترسال في الفرح من البطر والزهو. وهكذا كل ما ورد من أمثال هذه النصوص فهو مؤول بأن التكليف فيه إما ورد على ما يلحق الأمر الطبيعي ويترتب عليه من آثار، أو على ما يسبقه من بواعث ودوافع، وهذه اللواحق والسوابق أمور كسبية للإنسان وفي مقدوره. ولا يتبادر إلى الذهن من اشتراط أن يكون الفعل مقدورا للمكلف لصحة التكليف به شرعا أن هذا يسلتزم أن لا تكون في الفعل أية مشقة على المكلف؛ لأنه لا منافاة بين كون الفعل مقدورا، وكونه شاقا. وكل ما يكلف به الإنسان لا يخلو من نوع مشقة؛ لأن التكليف هو الإلزام بما فيه كلفة ونوع مشقة. غير أن المشقة نوعان -النوع الأول: مشقة جرت عادة الناس أن يحتملوها وهي في حدود طاقتهم، ولو داموا على احتمالها لا يلحقهم أذى ولا ضرر لا في نفس ولا في مال ولا في أي شأن من شئونهم، كالمشقات التي يحتملها الناس في المداومة على طرق السعي للرزق من زرع وحرث واتجار وغيرها، والمشقات التي يحتملها الموظفون في أداء واجباتهم، وكل عامل في أداء عمله. والتكاليف الشرعية لا تخلو عن مشقات من هذا النوع فيها صعوبة، ولكنها محتملة، والمداومة عليها لا تلحق بمن داوم عليها ضررا ولا أذى. والشارع ما قص بالتكاليف هذه المشقات التي تلابسها وإنما قصد بها المصالح المترتبة عليها، وإلزام المكلف أن يحتمل مشقة في حدود طاقته في سبيل ما يترتب له من مصالح؛ كالطبيب الذي يلزم المريض أن يتناول الدواء المر لما يترتب على تناوله من شفائه فهو يحمله مرارته في سبيل السلامة من أمراضه، فالصلاة والزكاة والصيام، ومسائر ما أمر به المكلف وما نهى عنه: في القيام بها نوع مشقة وصعوبة على نفس المكلف ولكنها صعوبة محتملة وفي حدود الطاقة، وهي وسيلة إلى غاية ومصالح لا بد للإنسان منها لاستقامة حياته: والشارع ما أراد إيلام المكلف وتحميله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المشقات، وإنما أراد إصلاح حاله. كما أن الطبيب ما أراد إيلام المريض بمرارة الدواء وإنما أراد شفاءه. النوع الثاني: مشقة خارجة عن معتاد الناس، ولا يمكن أن يداوموا على احتمالها؛ لأنهم إذا داوموا عليها انبتوا وانقطعوا، ونالهم الضرر والأذى في أنفسهم أو أموالهم، وأي شأن من شئونهم؛ كالمشقة في صوم الوصال، والمثابرة على قيام الليل، والترهب، والصيام قائمًا في الشمس، والحج ماشيًا، والتزام العزيمة في حال الترخيص بتركها مهما لحق من ضرر، فهذه المشقة لا يكلف الشارع بتكاليف تلابسها، ولا يلزم المكلف باحتمالها؛ لأن المقصد الأول من التشريع رفع الضرر عن الناس، وفي التكاليف بما فيه من هذا النوع من المشقة إضرار بالناس، وتكليفهم بما ليس في وسعهم، وقد شرع الله أحكام الرخص عند طروء الأعذار دفعا لهذا النوع من المشقة، فما أباح الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وما أباح التيمم عند عدم الماء أو حال المرض، وما أباح المحظورات عند الضرورات أو الحاجات، إلا لدفع هذه المشقات، فلا يصح أن يكلف المكلف بأحكام فيها مشقات قد قصد الشارع دفعها. فالمشقة التي من هذا النوع إذا كان يجلبها نفس العمل المكلف به، فقد دفعها الله بتشريع الرخص، وإذا كان يجلبها المكلف على نفسه بإرادته، فقد نهاه الله عن ذلك وحرمه عليه، ولهذا نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن صوم الوصال، وعن قيام الليل كله، وعن الترهب، وقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال لمن نذر أن يصوم قائما في الشمس: "أتم صومك ولا تقم في الشمس". وقال: "خذوا من الأعمال ما تطيقون"، "والقصد القصد تبلغوا"، "هلك المتنطعون"، "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى". وحكم بإثم من ترك الرخص واستمسك بالعزيمة محتملا ما فيها من ضرر، وقال: "ليس من البر الصيام في السفر". وقال: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 4- المحكوم عليه : المحكوم عليه: هو المكلف الذي تعلق حكم الشارع بفعله. ويشترط في المكلف لصحة تكليفه شرعا شرطان: أحدهما: أن يكون قادرًا على فهم دليل التكليف، بأن يكون في استطاعته أن يفهم النصوص القانونية التي يكلف بها من القرآن والسنة بنفسه أو بالواسطة؛ لأن من لم يستطع فهم دليل التكليف لا يمكنه أن يتمثل ما كلف به، ولا يتجه قصده إليه، والقدرة على فهم أدلة التكليف إنما تتحقق بالعقل وبكون النصوص التي يكلف بها العقلاء في متناول عقولهم فهمها؛ لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك، وبه توجه الإرادة إلى الامتثال، ولما كان العقل أمرًا خفيًّا لا يدرك بالحس الظاهر، ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر يدرك بالحس هو مظنة للعقل وهو البلوغ، فمن بلغ الحلم من غير أن تظهر أعراض خلل بقواه العقلية فقد توافرت فيه القدرة على أن يكلف. وعلى هذا لا يكلف المجنون، ولا الصبي لعدم وجود العقل الذي هو وسيلة فهم دليل التكليف، ولا يكلف الغافل والنائم والسكران؛ لأنهم في حالة الغفلة والنوم أو السكر ليس في استطاعتهم الفهم. ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل". وقال عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها". وأما إيجاب الزكاة والنفقة والضمان على الصبي والمجنون فليس تكليفا لهما، وإنما هو تكليف الولي عليهما بأداء الحق المالي المستحق في مالهما، كأداة ضريبة أطيانهما وأملاكهما. وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ، فليس تكليفا للسكارى حين سكرهم أن لا يقربوا الصلاة، وإنما هو تكليف للمسلمين في حال صحوهم أن لا يشربوا الخمر، إذا دنا وقت الصلاة حتى لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكأنه سبحانه قال: إذا دنا وقت الصلاة فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 تشربوا الخمر، وأما إيقاع طلاق السكران على مذهب الحنفية فهو عقاب له على سكره، ولهذا شرطوا أن يكون جانيًا بسكره بأن شرب محرما طائعا. وأما من لا يعرفون اللغة العربية، ولا يستطيعون فهم أدلة التكليف الشرعية من القرآن والسنة، كاليابانيين والهنود والجاويين وغيرهم، فهؤلاء لا يصح تكليفهم شرعا إلا إذا تعلموا اللغة العربية واستطاعوا أن يفهموا نصوصها، أو ترجمت أدلة التكليف الشرعية إلى لغتهم، بحيث يستطيعون أن يجدوا كتابا دينيا بلغتهم يبين لهم ما يكلفهم به الإسلامي، أو قامت طائفة بتعلم لغات هذه الأمم التي لا تعرف اللغة العربية، ونشرت بينهم تعاليم الإسلام، وأدلته التكليفية مخاطبة لهم بلغتهم، وهذا الطريق الثالث هو الطريق القويم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خطبته يوم حجة الوداع أشهد الله أنه بلغ رسالته، وأمر المسلمين أن يبلغ منهم الشاهد الغائب، والشاهد يشمل كل من اهتدى إلى الإسلام وعرف أحكامه. والغائب يشمل كل من لم يعرف لغة القرآن ولم يستطع فهم آياته. فأما إذا ترك هذا الغائب على حاله لا يعرف لغة القرآن، ولا يستطيع أن يفهم دلائله، ولا ترجمت آياته إلى لغته، ولا قام أحد يعرف لغة القرآن بتعليمه ما يكلف به باللغة التي يفهمها؛ فهو شرعًا غير مكلف؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. ولهذا قال الله تعالى في سورة إبراهيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وثانيهما: أن يكون أهلًا لما كلف به. والأهلية معناها في اللغة: الصلاحية. يقال: فلان أهل للنظر على الوقف أي صالح له. وأما في اصطلاح الأصوليين فالأهلية تنقسم إلى قسمين: أهلية وجوب، وأهلية أداء، فأهلية الوجوب هي صلاحية الإنسان، لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وأساسها الخاص التي خلق الله عليها الإنسان، واختصه بها من بين أنواع الحيوان، وبها صلح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات. وهذه الخاصة هي التي سماها الفقهاء الذمة. فالذمة هي الصفة الفطرية الإنسانية التي بها ثبتت للإنسان حقوق قبل غيره، ووجبت عليه واجبات لغيره. وهذه الأهلية أي أهلية الوجوب ثابتة لكل إنسان بوصف أنه إنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى، وسواء أكان جنينا أم طفلا أم مميزا أم بالغا، أم رشيدا أم سفيهًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 عاقلا أو مجنونا، صحيحا أو مريضا؛ لأنها مبنية على خاصة فطرية في الإنسان. فكل إنسان أيا كان له أهلية الوجوب ولا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب؛ لأن أهليته للوجوب هي إنسانيته. وأما أهلية الأداء: فهي صلاحية المكلف، لأن تعتبر شرعا أقواله وأفعاله. بحيث إذا صدر منه عقد أو تصرف كان معتبرا شرعا وترتبت عليه أحكامه، وإذا صلى أو صام أو حج أو فعل أي واجب كان معتبرا شرعا ومسقطا عنه الواجب، وإذا جنى على غيره، في نفس أو مال أو عرض أخذ بجنايته وعوقب عليها بدنيا وماليا، فأهلية الأداء هي المسئولية وأساسها في الإنسان التمييز بالعقل. حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب: الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب به حالتان اثنتان فقط: فقد تكون له أهلية وجوب ناقصة إذا صلح؛ لأن تثبت له حقوق، لا لأن تجب عليه واجبات، أو العكس، ومثلوا للأول بالجنين في بطن أمه فإنه تثبت له حقوق؛ لأنه يرث ويوصى له ويستحق في ربع الوقف، ولكن لا تجب عليه لغيره واجبات، فأهلية الوجوب الثابتة له ناقصة، ومثلوا للثاني بالميت، إذا مات مدينا فإنه تبقى عليه حقوق دائنيه، بل إن بعض الفقهاء اعتبر للميت بعد موته أهلية وجوب كاملة، إذا مات دائنا ومدينا فتكون له حقوق على مدينيه، وعليه حقوق لدائنيه، وهذا كلام لا وجه له. والحق أن الموت قضى على خاصة الإنسان، فليست له ذمة ولا أهلية وجوب كاملة ولا ناقصة، وأما مطالبة مدينيه بما عليهم من الديون؛ فلأنها صارت حقا للورثة، والورثة خلفوا مورثهم فيما كان له وفيما كان عليه في حدود ما تركه، وبعبارة أخرى ورثوا ما له من ديون على غيره، وآلت إليهم تركته مشغولة بديون لغيره. وقد تكون له أهلية وجوب كاملة إذا صلح، لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وهذه تثبت لكل إنسان من حين ولادته، فهو في طفولته وفي سن تمييزه، وبعد بلوغه، على أية حال كان في أي طور من أطوار حياته له أهلية وجوب كاملة. وكما قدمنا لا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء: الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء له حالات ثلاث: 1- قد يكون عديم الأهلية للأداء أصلًا، أو فاقدها أصلا. وهذا هو الطفل في زمن طفولته والمجنون في أي سن كان. فكل منهما لكونه لا عقل له لا أهلية أداء له، وكل منهما لا تترتب آثار شرعية على أقواله ولا على أفعاله، فعقوده وتصرفاته باطلة، غاية الأمر أنه إذا جنى أحدهما على نفس أو مال يؤاخذ ماليا لا بدنيا، فإذا قتل الطفل أو المجنون أو أتلف مال غيره ضمن دية القتيل أو ما أتلفه ولكنه لا يقتص منه. وهذا معنى قول الفقهاء: "عمد الطفل أو المجنون خطأ"؛ لأنه ما دام لا يوجد العقل لا يوجد القصد فلا يوجد العمد. 2- وقد يكون ناقص الأهلية للأداء، وهو المميز الذي لم يبلغ الحلم، وهذا يصدق على الصبي في دور التمييز قبل البلوغ، ويصدق على المعتوه، فإن المعتوه ليس مختل العقل ولا فاقده ولكنه ضعيف العقل ناقصه، فحكمه حكم الصبي المميز. وكل منهما لوجود وثبوت أصل أهلية الأداء له بالتمييز تصح تصرفاته النافعة له نفعا محضا، كقبوله الهبات والصدقات بدون إذن وليه. وأما تصرفاته الضارة بماله ضررا محضا، كتبرعاته، وإسقاطاته، فلا تصح أصلا ولو أجازها وليه، فهبته ووصيته ووقفه وطلاقه وإعتاقه كل هذه باطلة ولا تلحقها إجازة وليه. وأما تصرفاته الدائرة بين النفع له والضرر به، فتصح منه ولكنها تكون موقوفة على إذن وليه بها. فإن أجاز وليه العقد أو التصرف نفذ، وإن لم يجزه بطل. فصحة أصل هذه العقود والتصرفات من المميز أو المعتوه مبنية على ثبوت أصل أهلية الأداء له، وجعلها موقوفة على إذن الولي مبني على نقص هذه الأهلية، فإذا انضم الولي أو إجازته إلى التصرف جبر هذا النقص، فاعتبر العقد أو التصرف من ذي أهلية كاملة. 3- وقد يكون كامل الأهلية للأداء وهو من بلغ الحلم عاقلا. فأهلية الأداء الكاملة تتحقق ببلوغ الإنسان عاقلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والأصل أن أهلية الأداء بالعقل، ولكنها ربطت بالبلوغ؛ لأن البلوغ مظنة العقل، والأحكام تربط بعلل ظاهرة منضبطة، فالبالغ سواء كان بلوغه بالسن أو بالعلامات يعتبر عاقلا وأهلا للأداء كامل الأهلية ما لم يوجد ما يدل على اختلال عقله أو نقصه. عوارض الأهلية: قدمنا أن أهلية الوجوب تثبت للإنسان بوصف أنه إنسان، وأنه وهو جنين في بطن أمنه تثبت له أهلية وجوب ناقصة، وبعد ولادته تثبت له أهلية وجوب كاملة في طفولته، وفي سن تمييزه وبعد بلوغه وفي نومه ويقظته وفي جنونه وإفاقته وفي رشده وسفهه. وما دام حيا لا يعرض لهذه الأهلية ما يزيلها أو ينقصها. وأما أهلية الأداء فقد قدمنا أنها لا تثبت وهو جنين قبل أن يولد، ولا وهو طفل لم يبلغ السابعة، وأنه من سن التمييز أي بعد السابعة إلى سن البلوغ أي خمس عشرة سنة تثبت له أهلية أداء ناقصة. ولهذا يصح بعض تصرفاته ولا يصح بعضها، ويتوقف بعضها على إذن الولي أو إجازته. وأنه من سن بلوغه الحلم تثبت له أهلية أداء كاملة غير أن هذه الأهلية قد تعرض لها عوارض، منها ما هو عارض سماوي لا كسب للإنسان فيه ولا اختيار، كالجنون والعته والنسيان، ومنها ما هو عارض كسبي يقع بكسب الإنسان، واختياره كالسكر والسفه والدين. وهذه العوارض التي تعرض لأهلية الأداء منها ما يعرض للإنسان، فيزيل أهليته للأداء أصلا كالجنون، والنوم والإغماء فالمجنون والنائم، والمغمى عليه ليس لواحد منهم أهلية أدء أصلا، ولا تترتب على تصرفاته آثارها الشرعية، وما وجب على المجنون بمقتضى أهليته للوجوب من واجبات مالية يؤديها عنه وليه، وما وجب على النائم والمغمى عليه بمقتضى أهليتهما للوجوب من واجبات بدنية، أو مالية يؤديها كل منهما بعد يقظته أو إفاقته. ومنها ما يعرض للإنسان فينقص أهليته للأداء ولا يزيله كالعته، ولهذا صحت بعض تصرفات المعتوه دون بعضها كالصبي المميز. ومنها ما يعرض للإنسان فلا يؤثر في أهليته لا بإزالتها ولا بنقصها، ولكن يغير بعض أحكامه لاعتبارات ومصالح قضت بهذا التغير، لا لفقد أهلية أو نقصها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 كالسفه، والغفلة والدين، فكل من السفيه وذي الغفلة بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة، ولكن محافظة على مال كل منهم من الضياع، ومنعا من أن يكون كل منهما عالة على غيره حجر عليهم في التصرفات المالية، فلا تصح معاوضة مالية منهما، ولا تبرعات مالية، لا لفقد أهليتهما، أو نقصها، ولكن محافظة على مالهما. وكذلك المدين بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة. ولكن محافظة على حقوق دائنيه حجر عليه أن يتصرف في ماله بما يضر بحقوق الدائنين كالتبرعات. فأهلية الأداء أساسها التمييز بالعقل، وأمارة العقل البلوغ، فمن بلغ عاقلًا فأهليته للأداء كاملة، وإذا طرأ عليه طارئ ذهب بعقله كالجنون، أو أضعفه كالعته، أو حال دون فهمه كالنوم والإغماء، فهذا الطارئ عارض له تأثير في أهلية الأداء بإزالتها أو بنقصها. وإذا طرأ على الإنسان طارئ لم يذهب بعقله ولم يضعفه ولم يحل دون فهمه، فهذا الطارئ لا تأثير له في أهلية الأداء لا بإزالة ولا بنقص، وإن كان يقضي بتغير بعض الأحكام لمصالح اقتضت هذا التغير، كالسفه والغفلة والدين. ولهذا لا يرى الإمام أبو حنيفة الحجر بواحد من هذه الثلاثة؛ لأنه لا تأثير لواحد منها في أهلية الإنسان، ويرى أن المصالح التي ترتب على الحجر بها لا توازن بالضرر الذي يلحق الإنسان من الحجر عليه، واعتباره غير أهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية تمهيد : نصوص القرآن والسنة باللغة العربية. وفهم الأحكام منها إنما يكون فهما صحيح إذا روعي فيه مقتضى الأساليب في اللغة العربية وطرق الدلالة فيها، وما تدل عليه ألفاظها مفردة ومركبة، ولهذا عنى علماء أصول الفقه الإسلامي، باستقراء الأساليب العربية وعباراتها ومفرداتها، واستمدوا من هذا الاستقراء ومما قرره علماء هذه اللغة قواعد وضوابط، يتوصل بمراعاتها إلى فهم الأحكام من النصوص الشرعية فهما صحيحًا، يطابق ما يفهمه منها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، ويتوصل بها أيضا إلى إيضاح ما فيه خفاء من النصوص، ورفع ما يقد يظهر بينها من تعارض، وتأويل ما دل دليل على تأويله، وغير هذا مما يتعلق باستفادة الأحكام من نصوصها. وهذه القواعد والضوابط اللغوية مستمدة من استقراء الأساليب العربية، ومما قرره أئمة اللغة العربية، وليست لها صبغة دينية. فهي قواعد لفهم العبارات فهما صحيحًا، ولهذا يتوصل بها أيضا إلى فهم مواد أي قانون وضع باللغة العربية؛ لأن مواد القوانين الوضعية المصوغة باللغة العربية، هي مثل النصوص الشرعية في أنها جميعها عبارات عربية مكونة من مفردات عربية، ومصوغة في الأسلوب العربي، ففهم المعاني والأحكام منها يجب أن يسلك فيه السبيل العربي في فهم العبارات والمفردات والأساليب. وليس من السائغ قانون ولا عقلا أن يسن الشارع قانونا من القوانين بلغة، ويتطلب من الأمة أن تفهم ألفاظ مواده وعباراتها، على مقتضى أساليب وأوضاع لغة أخرى؛ لأن شرط صحة التكليف بالقانون قدرة المكلفين به على فهمه. ولهذا يوضع القانون في الأمة بلسانها، وبلغة جمهور أفرادها، ليكون في استطاعتهم فهم الأحكام منه بأساليب الفهم في لغتهم، ولا يكون القانون حجة على الأمة إذا وضع بغير لغتها أو كان طريق فهمه غير طريق فهم اللغة التي وضع بها، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وعلى هذا فالقواعد والضوابط التي قررها علماء أصول الفقه الإسلامي في طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وفيما يفيد العموم من الصيغ، وفيما يدل عليه العام والمطلق والمشترك، وفيما يحتمل التأويل وما لا يحتمل التأويل، وفي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 العبوة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي أن العطف يقتضي المغايرة، وأن الأمر المطلق يقتضي الإيجاب، غير ذلك من ضوابط فهم النصوص، واستثمار الأحكام منها؛ كما تراعى في فهم النصوص الشرعية، تراعى في فهم نصوص القانون المدني والتجاري، وقانون المرافعات والعقوبات وغيرها من قوانين الدولة الموضوعة باللغة العربية طبقا للمادة 149 من الدستور "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية". ولا يقال: إن بعض هذه القوانين معربة عن أصل فرنسي، وواضع الأصل ما عرف أساليب اللغة العربية في الفهم، ولا قصد أن تفهم مواده على وفقها؛ لأننا نقول: إن القانون الذي كلفنا به صيغ باللغة العربية واعتبر صادرا عمن يفهم الأساليب العربية، ولا يستقيم التكليف به إلا إذا قصد فهمه على وفق أساليب اللغة التي صيغ بها، ولا عبرة بأساليب اللغة التي نقل عنها، وعلى هذا إذا تعارض النص العربي وأصله الفرنسي، ولم يمكن التوفيق بينهما يعمل بمقتضى النص العربي؛ لأن الناس لا يكلفون إلا بما يفهمون وهو ما نشر بينهم1. نعم إذا كان النص العربي يحتمل أن يفهم على وجهين، وألفاظه تحتمل الدلالة على معنيين، ساغ الاستدلال بالأصل الفرنسي على ترجيح أحد المعنيين واختيار أحد الوجهين، كما يستدل على هذا بأية قرينة. وإذا كان في أصول القانون الوضعي أو في العرف التجاري اصطلاح خاص بدلالة بعض الأساليب على أحكام، أو بدلالة بعض الألفاظ على معان، أو بإزالة بعض أنواع الخفاء بطرق خاصة، يتبع في فهم مواد القانون ما يقضي به الاصطلاح والعرف القانونيات، لا ما تقضي به الأوضاع اللغوية. ولهذا قرر علماء أصول الفقه أن الألفاظ التي استعملت في معان عرفية شرعية، كالصلاة والزكاة والطلاق تفهم في النصوص بمعانيها العرفية لا بمعانيها اللغوية؛ لأن المقنن يراعي في تعبيره عرفه الخاص، فإذا لم يكن له عرف خاص يراعي العرف اللغوي العام.   1 على هذا سارت محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 30 يناير سنة 1929 محتجة بأن القانون لا يكون قانونا إلا إذا نشر بين الأفراد، ونشره يكون باللغتين العربية والفرنسية، وجمهور الأفراد يجهل الغة الفرنسية، فيتحتم الأخذ بالنص العربي، وبأن لغة المناقشة في القوانين هي اللغة العربية "مجلة المحاماة ص529 السنة التاسعة"، ولا يصح الأخذ بالنص الفرنسي كما ذهبت إليه محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 29 ديسمبر سنة 1924 محتجة بأنه هو الأصل الذي وضعت به المادة، فضلا عن أن اللغة الفرنسية هي لغة القانون "مجلة المحاماة ص805 السنة السادسة"؛ لأن هذا فيه تكليف الناس بما لا يفهمون، ومخاطبتهم بلغة على أن يفهموها بمقتضى لغة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص النص الشرعي -أو القانوني- يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارته أو دلالته، أو اقتضائه؛ لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه. "وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارات على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة". المعنى الإجمالي لهذه القاعدة: أن النص الشرعي، أو القانوني قد يدل على معان متعددة بطرق متعددة من طرق الدلالة، وليست دلالته قاصرة على ما يفهم من عبارته وحروفه، بل هو قد يدل أيضا على معان تفهم من إشارته، ومن دلالته ومن اقتضائه. وكل ما يفهم منه من المعاني بأي طريق من هذه الطرق يكون من مدلولات النص ويكون النص دليلا وحجة عليه، ويجب العمل به؛ لأن المكلف بنص قانوني مكلف بأن يعمل بكل ما يدل عليه هذا النص، بأي طريق من طرق الدلالة المقررة لغة، وإذا عمل بمدلول النص من بعض طرق دلالته وأهمل العمل بمدلوله من طريق آخر فقد عطل النص من بعض الوجوه. ولهذا قال الأصوليون: يجب العمل بما تدل عليه عبارة النص، وما تدل عليه روحه ومعقوله وهذه الطرق بعضها أقوى دلالة من بعض، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض. أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة فهو بيان المراد بكل طريق من هذه الطرق الأربع للدلالة. وأمثلته من نصوص القوانين الشرعية والوضعية: 1- عبارة النص: المراد بعبارة النص صيغته المكونة من مفرداته وجمله. والمراد بما يفهم من عبارة النص المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه، فمتى كان المعنى ظاهرًا فهمه من صيغة النص، والنص سيق لبيانه وتقريره، كان مدلول عبارة النص، "ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص" فدلالة العبارة: هي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها، المقصود من سياقها سواء أكان مقصودا من سياقها أصالة أو مقصودا تبعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأمثلة هذا لا تحصى؛ لأن كل نص قانوني إنما ساقه الشارع لحكم خاص، قصد تشريعه به وصاغ ألفاظه وعباراته لتدل دلالة واضحة عليه. فكل نص في أي قانون شرعي أو وضعي له معنى تدل عليه عباراته، وقد يكون له مع هذا معنى يدل عليه بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء، وربما لا يكن، فلا حاجة إلى ذكر أمثلة مما يدل عليه النص بعبارته، وإنما نقتصر على بعض أمثلة يتبين منها الفرق بين المقصود من السياق أصالة والمقصود منه تبعًا: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} هذا النص تدل صيغته دلالة ظاهرة على معنيين كل منهما مقصود من سياقه، أحدهما أن البيع ليس مثل الربا، وثانيهما أن حكم البيع الإحلال، وحكم الربا التحريم، فهما معنيان مفهومان من عبارة النص، ومقصودان من سياقه؛ ولكن الأول: مقصود من السياق أصالة؛ لأن الآية سيقت للرد على الذين قالوا: إنا البيع مثل الربا. والثاني: مقصود من السياق تبعا؛ لأن نفي المماثلة استتبع بيان حكم كل منهما حتى يؤخذ من اختلاف الحكمين أنهما ليسا مثلين. ولو اقتصر على المعنى المقصود من السياق أصالة. لقال: وليس البيع مثل الربا. وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . يفهم من عبارة هذا النص ثلاثة معان: إباحة ما طاب من النساء، وتحديد أقصى عدد الزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف الجور حال تعدد الزوجات؛ لأن كل هذه المعاني تدل عليها ألفاظ النص دلالة ظاهرة، وكلها مقصودة من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود تبعا، والثاني والثالث مقصودان أصالة؛ لأن الآية سيقت لمناسبة الأوصياء على القصر الذين تحرجوا من قبول الوصاية خوف الجور في أموال اليتامى، فالله سبحانه نبههم1 إلى أن خوف الجور يجب أن يحول أيضا بينكم، وبين تعدد الزوجات إلى غير حد، وبغير قيد، فاقتصروا على اثنتين أو ثلاث أو أربع، وإن خفتم أن لا تعدلوا حين التعدد فاقتصروا على واحدة، فهذا الاقتصار على اثنتين أو ثلاث أو أربع، أو واحدة هو   1 جاء في تفسير البيضاوي في تفسير هذه الآية: أي إن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن. أ. هـ. مصححة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الواجب على من يخاف الجور، وهو المقصود أصالة من سياق الآية، وهذا استتبع بيان إباحة الزواج، فإباحة الزاج مقصود تبعا لا أصالة، والمقصود أصالة: قصر عدد الزوجات على أربع، أو واحدة، ولو اقتصر على الدلالة على المعنى المقصود من السياق لقال: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا على عدد الزواجات لا يزيد على أربع، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين العدد منهم فاقتصروا على واحدة. 2- إشارة النص: المراد بما يفهم من إشارة النص المعنى الذي لا يتبادر فهمه من ألفاظه، ولا يقصد من سياقه، ولكنه معنى لازم للمعنى المتبادر من ألفاظه، فهو مدلول اللفظ بطريق الالتزام، ولكونه معنى التزاميا وغير مقصود من السياق كانت دلالة النص عليه بالإشارة لا بالعبارة، وقد يكون وجه التلازم ظاهرًا، وقد يكون خفيًّا، ولهذا قالوا: إن ما يشير إليه النص قد يحتاج فهمه إلى دقة نظر ومزيد تفكير، وقد يفهم بأدنى تأمل، فدلالة الإشارة هي دلالة النص عن معنى لازم لما يفهم من عبارته غير مقصود من سياقه؛ يحتاج فهمه إلى فضل تأمل أو أدناه، حسب ظهور وجه التلازم وخفائه. مثال هذا قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . يفهم من عبارة هذا النص أن نفقة الوالدات من رزق وكسوة، واجبة على الآباء؛ لأن هذا هو المتبادر من ألفاظه، المقصود من سياقه، ويفهم من إشارته أن الأب لا يشاركه أحد في وجوب النفقة لوالده عليه؛ لأن ولده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الوالد لأبيه قرشيا؛ لأن ولده له لا لغيره، وأن الأب له عند احتياجه أن يتملك بغير عوض من مال ابنه ما يسد به حجته؛ لأن ولده له، فمال ولده له، وإنما فهمت هذه الأحكام من إشارة النص؛ لأن في ألفاظ النص نسبة المولود لأبيه بحرف اللام الذي يفيد الاختصاص {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} ، وهذا الاختصاص هو المعبر عنه في الحديث "أنت ومالك لأبيك" ومن لوازم هذا الاختصاص ثبوت هذه الأحكام، فهي أحكام لازمة لمعنى مفهوم من عبارة النص وغر مقصودة من سياقه، ولذا كان فهمها من إشارته لا من عبارته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 مثال آخر: قوله تعالى في بيان من لهم نصيب في الفيء1 {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} يفهم من عبارة هذا النص استحقاق هؤلاء الفقراء المهاجرين نصيبا من الفيء، ويفهم من إشارته أن هؤلاء المهاجرين زال ملكهم عن أموالهم التي تركوها حين أخرجوا من ديارهم؛ لأن النص عبر عنهم بلفظ الفقراء، ووصفهم بأنهم فقراء يستلزم أن لا تكون أموالهم باقية على ملكلهم، فهذا حكم لازم لمعنى لفظ في النص، وغير مقصود من سياق النص. مثال: 3: قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} يفهم منه بطريق الإرشارة إيجاب إيجاب طائفة من الأمة تمثلها وتستشار في أمرها؛ لأن تنفيذ الأمر ومشاورة الأمة يستلزم ذلك. مثال: 4: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} يفهم منه بطريق الإشارة إيجاب إيجاد أهل الذكر في الأمة. مثال من قانون العقوبات، المادة: 274: "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن تنفيذ الحكم برضائه معاشرتها". هذه المادة تدل بعبارتها على عقوبة الزوجة التي ثبت زناها، وعلى أن للزوج الحق في وقف تنفيذ العقوبة، وتدل بإشارتها على أن زنا الزوجة ليس جناية على المجتمع في نظر الشارع المصري، وإنما هو جناية على الزوج، وهذا لازم لإثبات حق إسقاط عقوبته للزوج، إذ لو كان جناية على المجتمع كالسرقة ما ثبت لأحد حق إسقاط عقوبته. مثال من القانون المدني الملغي، مادة 155: يجب على الفروع وأزواجهم ما دامت الزوجية قائمة أن ينفقوا على الأصول وأزواجهم. دومادة 156، كذلك يجب على الأصول القيام بالنفقة على فروعهم، وأزواج الفروع والأزواج أيضا ملزمون بالنفقة على بعضهم.   1 الفيء: هو ما أخذه المسلمون من غير المسلمين من الأموال بغير قتال كمال الخراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ومادة 157: تقدير النفقات يكون بمراعاة لوازم من تفرض لهم ويسر من تفرض عليهم، وعلى كل حل يلزم دفع النفقات شهرا بشهر مقدما. يفهم من عبارة كل مادة من هذه المواد حكم موضوعي من أحكام النفقات، ويفهم منها بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأن يلزم من النص علها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى لازم لورود هذه المواد في القانون، وغير مقصود من سياق المواد فهو مفهوم بطريق الإشارة. وكثير من النصوص القانونية الوضعية تدل عبارتها على أحكام، وتشير إلى أحكام، وهذا ما يعبر عنه رجال القانون بقولهم: النص صريح في كذا، ويؤخد منه بطريق الإشارة كذا. ويجب الاحتياط في الاستدلال بطريق الإشارة وقصره على ما يكون لازما لمعنى من معاني النص لزوما لا انفكاك له؛ لأن هذا هو الذي يكون النص دالا عليه، إذ الدال على الملزوم دال على لازمه، وأما تحميل النص معاني بعيدة لا تلازم بينها وبين معنى فيه بزعم أنها إشارته، فهذا شطط في فهم النصوص، وليس هو المراد بدلالة إشارة النص. 3- دلالة النص: المراد بما يفهم من دلالة النص المعنى الذي يفهم من روحه ومعقولة، فإذا كان النص تدل عبارته على حكم في واقعة لعلة بني عليها هذا الحكم، ووجدت واقعة أخرى، تساوي هذه الواقعة في علة الحكم أو هي أولى منها، وهذه المساواة أو الأولوية تتبادر إلى الفهم بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى اجتهاد أو قياس، فإنه يفهم لغة أن النص تناول الواقعتين، وأن حكمه الثابت لمنطوقه يثبت لمفهومه الموافق له في العلة، سواء كان مساويا أم أولى. مثال هذا قوله تعالى في شأن الوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} تدل عبارة هذا النص على نهي الولد أن يقول لوالديه: "أف"؛ والعلة في هذا النهي ما في هذا القول لهما من إيذائهما وإيلامهما، وتوجد أنواع أخرى أشد إيذاء، وإيلاما من التأفف كالضرب والشتم، فيتبادر إلى الفهم أنها يتنالها النهي، وتكون محرمة بالنص الذي حرم التأفف؛ لأن المتبادر لغة من النهي عن التأفف، النهي عما هو أكثر منه إيذاء للوالدين فهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مثال آخر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} . يفهم من عبارة هذا لنص تحريم أكل الأوصياء أمول اليتامى ظلما، ويفهم من دلالته تحريم أن يؤكلوها غيرهم، وتحريم إحراقها وتبديدها وإتلافها بأي نوع من أنواع الإتلاف؛ لأن هذه الأشياء تساوي أكلها ظلما في أن كلا منها اعتداء على مال القاصر العاجز عن دفع الاعتداء، فيكون النص المحرم بعبارته أكل أموال اليتامى ظلما؛ محرما إحراقها وتبديدها بطريق الدلالة، وهنا المفهوم الوافق المسكوت عنه مساو للمنطوق، فالفرق بين دلالة النص، وبين القياس أن مساواة المفهوم الموافق لمنطوق النص تفهم بمجرد فهم اللغة من غير توقف على اجتهاد واستنباط، وأما مساواة المقيس عليه فلا تفهم بمجرد فهم اللغة، بل لا بد من اجتهاد في استنباط العلة في حكم المقيس عليه، وفي معرفة تحققها في المقيس. مثال من القانون المدني الملغي: نصت المادة 370 على أنه "لا يكلف المؤجر بعمل أي مرمة كانت إلا إذا اشترط في العقد إلزامه بذلك" يفهم من دلالة هذا النص أنه لا يكلف المؤجر بإنشاء حجرة مثلا: لأن هذا أولى من عمل المرمة في تحقق علة المنع من التكليف به، وهي التراضي على المعقود عليه بحاله وقت العقد. مثال من قانون العقوبات: نصت المادة 274 على "أن المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت"، ويفهم من دلالة هذا النص أن للزوج أن يطلب وقف السير في دعوى الزنا قبل الحكم فيها؛ لأن من ملك وقف تنفيذ الحكم بعد صدوره ملك بالأولى وقف إجراءات الدعوى بشأنه. ونصت المادة 237 "على أن من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المقررة في المادتين 234، 236". يفهم من دلالة هذا النص أنه لو ضربها هي ومن يزني بها ضربا أحدث عاهة مستديمة تعتبر جريمة جنحة لا جناية؛ لأن هذا أولى بالقتل من التخفيف. وجاء في حكم محكمة بني سويف الابتدائية الصادر في 9 ديسمبر سنة 1922 "رقم 213 ص43، ص4 مجلة المحاماة"، "إن العلة التي أدت بالشارع إلى سن قانون تشكيل اللجان لتخفيض إيجار الأطيان الزراعية إنما هي غلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 المؤجرين في تقدير الإيجار نظرًا لارتفاع أسعار القطن، وأسعار سائر الحاصلات من حبوب وغيرها، وما دامت هذه هي العلة التي اقتضت التخفيض في السنة التي زرعت فيها الأطيان قطنًا، فإنها تقتضي من باب أولى التخفيض أيضا في السنة التي تزرع فيها الأطيان قطنا وزرعت حبوبا". وهذا الطريق، أي طريق الدلالة، كما يسمى دلالة النص يسمى القياس الجلي لظهور فهم المساواة، أو الأولوية بين المنطوق والمفهوم الموافق له، ويسمى حكمه مفهوم الموافقة أي المفهوم الذي وافق المنطوق في حكمه بناء على موافقته له في علته موافقة تفهم بمجرد فهم اللغة، ويسمى فحوى الخطاب أي روحه وما يعقل منه؛ لأن كل نص دل على حكم في محل لعلة، يدل على ثبوت هذا الحكم في كل محل تتحقق فيه العلة العلة بتبادر الفهم، أو تكون العلة أكثر توافرًا فيه. 4- اقتضاء النص: المراد بما يفهم من اقتضاء النص المعني الذي لا يستقيم الكلام إلا بتقديره، فصيغة النص ليس فيها لفظ يدل عليه ولكن صحتها واستقامة معناها تقتضيه، أو صدقها ومطابقتها للواقع تقتضيه. مثال هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". هذه العبارة يدل ظاهرها على رفع الفعل إذا وقع خطأ أو نسيانا أو مكرها عليه، وهذا معنى غير مطابق للواقع؛ لأن الفعل إذا وقع لا يرفع، فصحة معنى هذه العبارة تقتضي ما تصح به، فيقدر هناك رفع عن أمي إثم الخطأ: فالإثم محذوف اقتضى تقديره صحة معنى النص، فيعتبر من مدلولات النص اقتضاء. ومثال قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ .... } 1 أي زواجهن وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} أي أكلها والانتفاع بها. لأن الذات لا يتعلق بها التحريم، وإنما يتعلق التحريم بفعل المكلف فيقدر المقتضي في كل نص بما يناسبه. ومثال هذا من عبارات الواقفين قول الواقفين: جعلت الشروط العشرة لمن يكون ناظرا على وقفي، فإن هذا يدل اقتضاء على جعلها لنفسه؛ لأنه لا يملك أن   1 آية المحرمات في سورة النساء، وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ..... } تفهم منها أحكام شرعية بطرق الدلالات الأربع فتحريم الأمهات والبنات، والأخوات والعمات والخالات وسائر المذكورات صرحة في الآيات، يفهم من عبارة النص؛ لأنها معان يتبادر فهمها من ألفاظه، وهي المقصودة من سياقه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 يجعلها لغيره إلا إذا كانت له، فثبوت الشروط العشرة لناظر وقفه بعبارة نصه وثبوتها لنفسه باقتضائه. ومن هذا قول إنسان لآخر يملك عبدا: "اعتق عبدك عني بألف"، فإن هذا يدل بمقتضاه على شراء عبده منه؛ لأنه لا ينوب عنه في عتقه إلا بعد أن يتملكه منه بشرائه، فالشراء ثابت بنص هذه الصيغة اقتضاء. ومن هذا التفصيل يثبت ما قدمناه في الإجمال، وهو أن كل معنى فهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربع يكون من مدلولات النص، ويكون النص حجة عليه؛ لأن المعنى المأخوذ من عبارته هو المعنى المتبادر من ألفاظه المقصود من سياقه، والمعنى المأخوذ من عبارته هو المعنى المتبادر من ألفاظه المقصود من سياقه، والمعنى المأخوذ من إشارته هو المعنى الازم لمعنى عبارته لزومًا لا ينفك، فهو مدلوله بطريق الالتزام، والمعنى المأخوذ من دلالته هو المعنى الذي تدل عليه روحه ومعقوله، والمفهوم اقتضاء هو معنى ضروري اقتضى تقديره صدق عبارة النص أو استقامة معناه. وطريق العبارة أقوى دلالة من طريق الإشارة؛ لأن الأول يدل على معنى متبادر فهمه مقصود بالسياق، والثاني يدل على معنى لازم غير مقصود بالسياق، وكل منهما أقوى من طريق الدلالة؛ لأن كلا منهما منطوق النص ومدلوله بصيغته وألفاظه، ولكن طريق الدلالة مفهوم النص ومدلوله بروحه ومعقوله، ولهذا التفاوت يرجع عند التعارض المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ويرجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة. مثال التعارض بين المفهوم بالعبارة والمفهوم بالإشارة من النصوص الشرعية   = وتحريم الخالات رضاعا، والعمات رضاعا، والأب رضاعا، يفهم من إشارة النص؛ لأن الله سبحانه وتعالى سمى اللاتي أرضعن أمهات، ويلزم من جعل المرضعة أما للرضيع أن تكون أختها خالته، وأن يكون زوجها أباه وأخت زوجها عمته؛ لأن صلة الأمومة تلزمها هذه الصلات. وتحريم العمات والخالات يفهم منه تحريم الجدات بطريق دلالة النص؛ لأن الجدة أقرب من العمة، إذ العمة تنتسب بها، فتحريم القريبة يستلزم تحريم الأقرب منها بالأولى. وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} يدل اقتضاء على مقدر محذوف تقديره زواج أمهاتكم؛ لأن إسناد التحريم إلى ذات الأمهات لا يستقيم، فصحة الإسناد تقتضي هذا المقدر. وكذلك المادة 247 من قانون العقوبات تفهم منها معان بعبارتها، وإشارتها ودلالتها، وقد بان هذا مما تقدم وكذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يدل بطريق العبارة على وجوب نفقة الوالدات على الأب، ويدل بطريق الإشارة على أن نفقة الولد واجبة له على أبيه وخاصة أن للأب نسبة في مال ابنه، ويدل بطريق الدلالة على وجوب أجر علاج الوالدات، وثمن أدويتهن؛ لأنهن أحوج إليه من رزقهن وكسوتهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} مع قوله سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} تدل الآية الأولى بعبارتها على وجوب القصاص من القاتل، وتدل الآية الثانية بإشارتها على أن القاتل العامد لا يقتص منه؛ لأن في اقتصارها على أن جزاءه جهنم إشارة إلى هذا، إذ يلزم من هذا الاقتصار في مقام البيان أنه لا تجب عليه عقوبة أخرى، ولكن رجح مدلول العبارة على مدلول الإشارة ووجب القصاص، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "أقل الحيض ثلاثة أو أكثره عشر"، مع قوله -صلى الله عليه وسلم- في تعليل نقصان الدين في النساء: "تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصلي"، فإن الحديث الأول يدل بعبارته على أن أكثر مدة الحيض عشرة أيام، والحديث الثاني يدل بإشارته على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يومًا؛ لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض نصف شهر حتى يتحقق أنها في نصف عمرها لا تصلي، فلما تعارض المفهوم من عبارة النص الأول، والمفهوم من إشارة النص الثاني، رجح المفهوم من العبارة، وهو تقدير أكثر مدة الحيض بعشرة أيام. مثال هذا من القانون المدني الملغي مواد النفقات الواردة في المواد "155، 157، 158" تدل بطريق الإشارة على اختصاص المحاكم الأهلية بالفصل في قضايا هذه النفقات؛ لأن هذا يلزم من النص عليها في قانونها، والمادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية الملغاة التي جاء فيها أن ليس لهذه المحاكم أن تنظر في الأنكحة، وما يتعلق بها من قضايا المهر والنفقة، تدل بطريق العبارة على عدم اختصاص المحاكم الوطنية بقضايا النفقة، فلما تعارض المفهوم بطريق إشارة الأولى، والمفهوم بطريق عبارة الثانية، رجح المفهوم بطريق العبارة، فلا اختصاص للمحاكم الوطنية بمواد النفقات. ومثال التعارض بين المفهوم بالإشارة والمفهوم بالدلالة من النصوص الشرعية قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} يؤخذ منه بطريق الدلالة أن من قتل مؤمنًا متعمدًا عليه أن يحرر رقبة مؤمنة؛ لأنه أولى من القاتل خطأ بهذا التكفير عن جريمته؛ لأن تحرير الرقبة كفارة للقاتل عن ذنبه، والعامد أولى أن يكفر عن ذنبه من الخاطئ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} يؤخذ منه بطريق الإشارة أنه لا يجب عليه تحرير رقبة؛ لأن الآية تشير إلى أنه لا كفارة لذنبه في الدنيا إذ جعلت جزاءه خلوده في جهنم لا غير، فلما تعارضا رجحت الإشارة على الدلالة، فلا يجب على القاتل عمدًا تحرير رقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 القاعدة الثانية: في مفهوم المخالفة "النص الشرعي لا دلالة له على حكم في مفهوم المخالفة". إذا دل النص الشرعي على حكم في محل مقيدًا بقيد، بأن كان موصوفا بوصف أو مشروطا بشرط أو مغيا بغاية أو محددا بعدد، يكون حكم النص في المحل الذي تحقق فيه القيد هو منطوق النص، وأما حكم المحل الذي انتفى عنه القيد فهو مفهومه المخالف. والمعنى الإجمالي لهذه القاعدة؛ أن النص الشرعي لا دلالة له على حكم ما في المفهوم المخالف لمنطوقه؛ لأنه ليس من مدلولاته بطريق من طرق الدلالة لأربع، بل يعرف حكم المفهوم المخالف المسكوت عنه بأي دليل آخر من الأدلة الشرعية التي منها الإباحة الأصلية. فقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} منطوقه تحريم الدم المسفوح، وأما تحليل الدم غير المسفوح، فهو مفهوم مخالف لمنطوقه ولا دلالة لهذه الآية عليه، بل يعرف بالإباحة الأصلية أو بأي دليل شرعي، مثل قوله الرسول: "أحلت لكم ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال". وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} منطوقه أن من لم يستطع زواج الحرائر يباح له أن يتزوج الإماء المؤمنات، وأما من استطاع زواج الحرائر، فلا دلالة لهذه الآية على حكمه، وكذلك الإماء غير المؤمنات لا دلالة لهذه الآية على حكم فيهن. أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة فيقتضي بيان أنواع مفهوم المخالفة؛ لأن هذا المفهوم يتنوع بحسب القيد الذي قيد به منطوق النص إلى خمسة أنواع: 1- مفهوم الوصف: كقوله تعالى في بيان المحرمات: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} مفهوم المخالفة حلائل الأبناء الذين ليسوا من الأصلاب كابن الابن رضاعًا، وكقول الرسول: "في السائمة زكاة" مفهوم المخالفة المعلوفة التي ليست سائمة، وكقوله: "من باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 2- مفهوم الغاية: كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، مفهوم المخالفة إذا تزوجت المطلقة ثلاثا زوجها غير مطلقها، وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، مفهوم المخالفة إذا تبين الأبيض من الأسود من الفجر. 3- مفهوم الشرط: كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} مفهوم المخالفة إن كن لسن أولات حمل، وكقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} مفهوم المخالفة إذا لم تطب نفس الزوجة عن شيء من مهرها. 4- مفهوم العدد: كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثمانين، وكقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} مفهوم المخالفة الأقل والأكثر من ثلاثة. 5- مفهوم اللقب: كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} مفهوم المخالفة غير محمد، وكقول الرسول: "في البر صدقة". مفهوم المخالفة غير البر، وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} مفهوم المخالفة غير الأمهات. وقد اتفق الأصوليون على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة في صورة، وعلى الاحتجاج به في صورة، واختلفوا في الاحتجاج به في صورة. 1- فأما ما اتفقوا على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة فيه فهو مفهوم اللقب، والمراد باللقب اللفظ الجامد الذي ورد في النص اسمًا وعلمًا على الذات المسند إليها الحكم المذكور فيه، ففي حديث: "في البر صدقة" لفظ البر اسم للحب المعلوم الذي أوجبت فيه صدقة، وفي حديث: "في الغنم زكاة" لفظ الغنم اسم للحيوان المعروف الذي أوجبت فيه زكاة، ولا يفهم لغة ولا شرعا ولا عرفا أن ذكر البر احتراز عما عداه من الحبوب، ولا أن ذكر الغنم احتراز عما عداها من السوائم، ولا أن إيجاب صدقة في البر يفهم منه أن لا صدقة في الشعير، والذرة وغيرهما من الحبوب، ولا أن إيجاب زكاة في الغنم يفهم منه أن لا زكاة في الإبل والبقر وغيرهما، فلهذا اتفق الأصوليون على عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة في اللقب؛ لأنه لا يقصد بذكره تقييد ولا تخصيص ولا احتراز عما عداه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ولا فرق في هذا بين النصوص الشرعية ونصوص القوانين الوضعية، وعقود الناس وتصرفاتهم وسائر أقوالهم، فمحمد رسول الله لا يفهم منها أن غير محمد ليس رسول الله، ودين المتوفى يؤدى من تركته لا يفهم منه إن غير دينه كنفقة تجهيزه، ووصاياه النافذة لا تؤدى من تركته، والبيع بنقل الملكية لا يفهم منه أن غير البيع لا ينقلها، وأن بيع الحقوق في تركة إنسان على قيد الحياة ولو برضاه غير باطل، ولهذا قال الشوكاني: "والقائل بمفهوم المخالفة في اللقب لا يجد حجة لغوية ولا عقلية ولا شرعية، ومعلوم من لسان العرب أن من قال: رأيت زيدا لا يفهم من قوله أنه لم ير غيره، وأما إذا دلت القرينة على العمل في جزئية خاصة فما ذلك إلا للقرينة". 2- وأما ما اتفقوا على الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيه، فهو مفهوم الوصف، أو الشروط، أو العدد، أو الغاية، في غير النصوص الشرعية، أي في عقود المتعاقدين وتصرفاتهم، وأقوال الناس وعبارات المؤلفين ومصطلحات الفقهاء، فقول الواقف: جعلت ريع وقفي من بعدي لأقاربي الفقراء، منطوقه ثبوت الاستحقاق لأقاربه الفقراء، ومفهوم المخالفة له نفي استحقاق أقاربه غير الفقراء، ونصه حجة على الحكمين، وقول الواقف: جعلت ثمن ريع وقفي من بعدي لأرملتي إذا لم تتزوج، منطوقه ثبوت الاستحقاق لأرملته إذا لم تتزوج، ومفهوم المخالفة له نفى استحقاقها إذا تزوجت، ونصه حجة على الحكمين، وهكذا كل عبارة من أي عاقد أو متصرف أو مؤلف أو أي قائل، إذا قيدت بوصف أو شرط أو حددت بعدد أو غاية، تكون حجة على ثبوت الحكم الوارد بها حيث يوجد ما قيدت به، وعلى نفيه حيث ينتفي؛ لأن عرف الناس واصطلاحهم في الفهم والتعبير على هذا؛ ولو لم يفهم النفي والإثبات كان التقييد في عرفهم عبثًا، إلا إذا دلت قرينة على أن القيد ليس للتخصيص. 3- وأما الصورة التي اختلف الأصوليون في الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيها فهي مفهوم المخالفة في الوصف، أو الشرط، أو الغاية أو العدد، في النصوص الشرعية خاصة، فذهب جمهور الأصوليين إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة؛ إذا قيد بوصف أو شرط بشرط أو حدد بغاية أو عدد، يكون حجة على ثبوت حكمه في الواقعة التي وردت فيه بالوصف، أو الشرط أو الغاية أو العدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الذي ذكر فيه، ويكون حجة على ثبوت نقيض حكمه في الواقعة التي وردت فيه إذا كانت على خلاف الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو العدد الذي ذكر فيه، ويسمى حكمه الأول منطوقه، ويسمى حكه الثاني مفهومه المخالف، فالتحريم للدم المسفوح، والتحليل للدم غير المسفوح، كل منهما مدلول قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} . وذهب الأصوليون من الحنفية؛ إلى أن النص الشرعي الدال على حكم في واقعة، إذا قيد بوصف أو شرط بشرط، أو حدد بغاية أو عدد، لا يكون حجة إلا على حكمه في واقعته، التي ذكرت فيه بالوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد الذي ذكر فيه، وأما الواقعة التي انتفى عنها ما ورد فيه من قيد، فلا يكون حجة على حكم فيها، بل يكون النص ساكتًا عن بيان حكمها، فيبحث عن حكمها بأي دليل من الأدلة الشرعية التي منها أن الأصل في الأشياء الإباحة. استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بعدة أدلة، أظهرها اثنان: الأول: أن المتبادر إلى الفهم من أساليب العرب وعرفهم في استعمال عباراتهم؛ أن تقييد الحكم بوصف أو شرط، أو تحديده بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد، وعلى نفيه حيث ينتفي، فمن قال: مطل الغني ظلم، يفهم من قوله أن الفقير ليس كذلك، ومن قال: هب ابنك ساعة إذا نجح، يفهم منه لا تهبه إذا لم ينجح. ولهذا لما رأى عمر أنهم يقصرون الصلاة في السفر، ولا خوف من فتنة الكفار لهم، تعجب من هذا وسأل الرسول: ما بالنا نقصر الصلاة في الأمن؟ فقال الرسول: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"، ومنشأ هذا التعجب أن عمر فهم من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أنهم إن لم يخافوا الفتنة لا يقصرون، وهذا هو مفهوم المخالفة، والرسول في جوابه لم يخطئه في فهمه، وإنما دل على أن الله وسع عليهم ورخص لهم في حل الأمن أيضا. والثاني: أن القيود التي ترد في النصوص، لا بد أن تكون لحكمة؛ لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية أو عدد عبثا، وأظهر ما يتبادر إلى الفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد، والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد، ولا فرق في هذا بين النص الشرعي وغيره من عبارات الناس، إلا إذا دلت قرينة على أن الوصف أو الشرط أو غيرهما، ليس للقيد بل لغرض آخر مثل التفخيم، أو المدح أو لذم أو الجري على الغالب، فلا يحتج بمفهوم المخالفة له. واستدل الأصوليون من الحنفية على مذهبهم بعدة أدلة، أظهرها اثنان: الأول: أنه ليس مطردًا في الأساليب العربية أن تقييد الحكم بوصف أو شرط أو تحديده بغاية أو عدد، يدل على إثبات الحكم حيث يوجد القيد وعلى نفيه حيث ينتفي، وكثيرًا ما ترد العبارة مقيدة، ويتردد السمع في فهم حكم ما انتفى فيه القيد، ويسأل المتكلم عنه ولا يستنكر عليه السؤال فمن قال: إذا سألك صباحًا فاقض حاجته، لا ينكر على سامعه إذا استفهم عمن سأله مساء، وإذا كانت الدلالة على نفي الحكم حيث ينتفي القيد غير مقطوع بها، فلا يكون النص الشرعي حجة عليه؛ لأن النصوص الشرعية يجب الاحتياط في الاحتجاج بها، ولا تكون حجة بمجرد الاحتمال. والثاني: أن كثيرًا من النصوص الشرعية التي دلت على أحكام وقيدت بقيود، لم ينتف حكمها حيث انتفى القيد، بل ثبت حكم النص للواقعة التي فيها القيد، وللواقعة التي انتفى عنها، فالصلاة في السفر تقصر إن خاف المصلون فتنة الذين كفروا وإن لم يخافوا، مع أن النص شرط القصر بهذا الشرط: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُو} ، والربيبة تحرم على زوج أمها إذا كانت في حجره وإذا لم تكن حجره، مع أن النص قيد التحريم بهذا الوصف: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، فالاحتياط في فهم النص الشرعي يوجب أن لا يحتج به على نفي الحكم إذا انتفى القيد، وكثير من النصوص، بعد أن ذكرت الحكم المقيد، نصت على مفهوم المخالفة له، مثل قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، وهذا دليل على أنه غير مفهوم قطعا من النص السابق، وإلا ما ذكره ثانيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ويظهر أثر هذا الخلاف في مثل قوله تعالى في توريث بنات المتوفى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} مع قول الرسول لأخي سعد بن الربيع: "أعط ابنتي سعد الثلثين وزوجه الثمن وما بقي فهو لك"، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة للآية، وهو أن الواحدة والاثنتين لا يرثن الثلثين، وبين منطوق هذا الحديث الذي ورث البنتين الثلثين، ويرجح المنطوق، وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض؛ لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها في آية توريث البنات. وفي مثل قوله تعالى في قصر الصلاة في السفر: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُو} مع قصر الرسول الصلاة في السفر حال الأمن وعدم خوف فتنة الذين كفروا، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة ومنطوق الحديث، وعلى مذهب الأصوليين من الحنفية لا تعارض. والذي نستخلصه من المقارنة، والمقابلة بين أدلة الطرفين أن النص الشرعي حجة على مفهوم المخالفة للوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد، ولكن بعد الحبث وإمعان النظر والتحقق من أن القيد الوارد في النص، إنما ورد للتخصيص والاحتراز به عما عداه، ولم يرد لحكمة أخرى، ولم يعارض هذا المفهوم بمنطوق نص آخر. وأما إذا دلت القرينة على أن القيد ليس للتخصيص ولا للاحتراز، بل ورد جريًا على الغالب مثل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، أو لمجرد تفخيم الأمر مثل قول الرسول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج"، أو لأية حكمة أخرى يدل عليها سياق النص أو حكمة التشريع، فلا يكون النص حجة على مفهوم المخالفة فيه. هذا الاحتياط كما تجب مراعاته في النصوص الشرعية، تجب مراعاته في نصوص القوانين الوضعية، وبهذا قررت محكمة النقض في 30 مايو سنة 1935 أن وسائل الإثبات الواردة في مادة 29 من القانون المدني ليست واردة على سبيل الحصر، فلا تكون حجة على أن ما عداها ليس وسيلة للإثبات، وعلى هذا إذا قدمت ورقة في قضية وتناولتها المرافعة بالجلسة؛ فهذا كاف في إثبات تاريخ الورقة المقدمة في الجلسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 أمثلة لأنواع المفاهيم من النصوص الشرعية، ونصوص القوانين الوضعية: مفهوم الوصف: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . والمادة 466 ق م: "إذا باع شخص شيئا معينا بالذات وهو لا يملكه جاز للمشتري أن يطلب إبطال البيع". مفهوم الشرط: قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} . والمادة 468 ق م: "إذا حكم للمشتري بإبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية". مفهوم العدد: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} . "يسقط الحق في إبطال العقد إذا لم يتمسك به صاحبه خلال ثلاث سنوات". والمادة 76 من الدستور الملغي "مدة عضوية النائب خمس سنوات". مفهوم الغاية: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وفي كثير من القوانين هذا النص: يعمل بهذا القانون إلى أن يصدر ما يخالفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 القاعدة الثالثة: في الواضح الدلالة ومراتبه الواضح الدلالة من النصوص: هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي، فإن كان يحتمل التأويل والمراد منه ليس هو المقصود أصالة من سياقه، سمي الظاهر؛ وإن كان يحتمل التأويل والمراد منه هو المقصود أصالة من سياقه، سمي النص؛ وإن كان لا يحتمل التأويل ويقبل حكمه النسخ، سمي المفسر، وإن كان لا يحتمل التأويل ولا يقبل حكمه النسخ، سمي المحكم. وكل نص واضح الدلالة يجب العمل بما هو واضح الدلالة عليه، ولا يصح تأويل ما يحتمل التأويل منه إلا بدليل. هذه القاعدة الثالثة والقاعدة الرابعة الآتية، خاصتان ببيان الواضح الدلالة من النصوص الشرعية، وغير الواضح الدلالة منها، وبيان مراتب وضوح الواضح، ومراتب خفاء غير الواضح، وما يزال به هذا الخفاء. وأساس التفريق بين الواضح وغير الواضح هو دلالة النص بنفسه على المراد منه من غير توقف على أمر خارجي أو توقفه على أمر خارجي، فما فهم المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي فهو الواضح الدلالة، وما لم يفهم المراد منه إلا بأمر خارجي فهو غير الواضح الدلالة. وأساس التفاوت في مراتب الوضوح هو احتمال التأويل وعدم احتماله، فما فهم معناه من نفس صيغته ولا يحتمل أن يفهم منه معنى غيره، أوضح دلالة مما فهم معنى منه، ويحتمل أن يفهم منه معنى غيره. وأساس التفاوت في مراتب الخفاء هو القدرة على إزالة الخفاء وعدمها، فما في دلالته خفاء، ولا سبيل إلى إزالة خفائه إلا بالرجوع إلى مصدره وهو الشارع، أخفى مما في دلالته خفاء، والطريق ممهدة لإزالة خفائه بالبحث والاجتهاد. وقد قسم علماء الأصول الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم، وهي في وضوح دلالتها على هذا الترتيب فالمحكم أوضحها دلالة، ويليه المفسر، ثم النص، ثم الظاهر، وتظهر ثمرة هذا التفاوت عند التعارض. 1- الظاهر: الظاهر في اصطلاح الأصوليين هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف فهم المراد منه على أمر خارجي، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق ويحتمل التأويل. فمتى كان المراد يفهم من الكلام من غير حاجة إلى قرينة، ولم يكن هو المقصود الأصلي من سياقه، يعتبر الكلام ظاهرا فيه. فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ظاهر في إحلال كل بيع وتحريم كل ربا؛ لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظي: "أحل وحرم" من غير حاجة إلى قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية؛ لأن الآية كما قدمنا مسوقة أصالة لنفي المماثلة بين البيع والربا ردا على الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} لا لبيان حكميهما. وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ظاهر في إباحة نكاح ما حل من النساء؛ لأن هذا معنى يتبادر فهمه من لفظ، فانكحوا ما طاب لكم منهن من غير توقف على قرينة، وهو غير مقصود أصالة من سياق الآية؛ لأن المقصود أصالة من سياقها هو قصر العدد على أربع أو واحدة كما قدمنا. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ظاهر في وجوب طاعة الرسول في كل ما أمر به وكل ما نهى عنه؛ لأنه يتبادر فهمه من الآية، وليس هو المقصود أصالة من سياقه؛ لأن المقصود أصالة من سياقه هو: ما آتاكم الرسول من الفيء حين قسمته فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا. وقوله -صلى الله عليه وسلم- في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، ظاهر في حكم ميتة البحر؛ لأنه ليس المقصود أصالة من السياق، إذا السؤال خاص بماء البحر. وحكم الظاهر أنه يجب العمل بما ظهر منه ما لم يقم دليل يقتضي العمل بغير ظاهره؛ لأن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا إذا اقتضى ذلك دليل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وأنه يحتمل التأويل أي صرفه عن ظاهره وإرادة معنى آخر منه، فإذا كان الظاهر عاما يحتمل أن يخصص، وإن كان مطلقًا يحتمل أن يقيد، وإن كان حقيقة يحتمل أن يراد به معنى مجازي، وغير ذلك من وجوه التأويل. وأنه يقبل النسخ، أي أن حكمه الظاهر منه يصح في عهد الرسالة، وفي زمن التشريع أن ينسخ ويشرع حكم بدله متى كان من الأحكام الفرعية الجزئية التي تتغير بتغير المصالح وتقبل النسخ. 2- النص: النص في اصطلاح الأصوليين: هو ما دل بنفس صيغته على المعنى المقصود أصالة من سياقه، ويحمل التأويل: فمتى كان المرد متبادرًا فهه من اللفظ، ولا يتوقف فهمه على أمر خارجي، وكان هو المقصود أصالة من السياق، يعتبر اللفظ نصًّا عليه. فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} نص على نفي المماثلة بين البيع والربا؛ لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ، ومقصود أصالة من سياقه. وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} نص على قصر أقصى عدد من الزوجات على أربع؛ لأنه معنى متبادر فهمه من اللفظ ومقصود أصالة من سياقه. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} نص على وجوب طاعة الرسول في قسة الفيء إعطاء ومنعا؛ لأنه المقصود من سياقه. وحكمه حكم الظاهر، فيجب العمل بما هو نص عليه، ويحتمل أن يؤول أي يراد منه غير ما هو نص عليه، ويقبل النسخ على ما بينا في الظاهر، ولهذا أخذ من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ ..... } إباحة الزواج وقصر العدد على أربع أو واحدة. فكل من الظاهر والنص واضح الدلالة على معناه، أي لا يتوقف فهم المراد من كل منهما على أمر خارجي، ويجب العمل بما وضحت دلالة منهما عليه، ويحتمل أن يؤول كل منهما بأن يراد منه غير ما وضحت دلالته عليه إذا ما وجد ما يقتضي هذا التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والتأويل معناه في اللغة بيان ما يؤول إليه الأمر، قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ومنه المآل. ومعناه في اصطلاح الأصوليين: صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، ومن المقرر أن الأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره؛ وأن تأويله أي صرفه عن روح التشريع أو مبادئه العامة، وإذا لم يبن التأويل على دليل شرعي صحيح، بل بني على الأهواء والأغراض والانتصار لبعض الآراء كان تأويلا غير صحيح، وكان عبثا بالقانون ونصوصه، وكذلك إذا عارض التأويل نصًّا صريحا أو كان تأويلا إلى ما لا يحتمله اللفظ. من أمثلة التأويل الصحيح، تخصيص عموم البيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} بالأحاديث التي نهت عن بيع الغرر، وعن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وهذا من تأويل الظاهر؛ لأن الآية كما قدمنا، نص ظاهر في إحلال كل بيع ونص في نفي المماثلة. وتخصيص عموم المطلقات في قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وتقييد الدم المطلق في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} بقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} ، وهكذا من كل تخصيص أو تقييد، قضى به التوفيق بين نصوص القرآن والسنة. وكذلك تأويل الشاة في قوله -صلى الله عليه وسلم: "في كل أربعين شاة شاة" والصاع من تمر في حديث المصراة: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار بين أن يمسكها، وبين أن يردها وصاعا من تمر"، فإن ظاهر الحديث الأول أنه لا يجزي في زكاة الأربعين شاة إلا واحدة منها، ولا تجزي قيمتها، وظاهر الحديث الثاني أنه إذا رد المشتري الشاة المصراة لا يجزي في تعويض البائع عما احتلب من لبنها إلا صاع من تمر. وهذا الظاهر، تقتضي حكمة التشريع والأصول العامة في التضمين تأويله وصرفه عن ظاهره، وإرادة معنى آخر يتفق معها؛ لأن الغرض من إيجاب الشاة زكاة للأربعين دفع حاجة الفقراء، وقد تكون دفع حاجة الفقير بقيمة الشاة أكثر توافرا، فيراد بالشاة شاة، أو ما يعادلها من كل مال متقوم؛ ولأن الغرض من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إيجاب صاع من تمر هو تعويض البائع عما أتلفه من لبن شاته، وقد يتراضيان على التعويض بقيمة اللبن، أو بأي تعويض آخر غير الصاع من التمر، والمقصود هو مثل ما تلف أو قيمته، وهذا هو الأصل العام شرعا في ضمان المتلفات، وكذلك تأويل الثلث للأم بثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين في إحدى المسألتين الغراوين، منعا من زيادة نصيبها في الإرث عن نصيب الأب. ومن أمثلة ذلك في القانون الجنائي، لفظ الليل في جعله جريمة السرقة وفي جريمة إتلاف المزروعات ظرفا مشددا، فإذا أخذ بظاهر النص أريد بالليل من غروب الشمس إلى شروقها، ولكن هذا ربما لا يتفق وحكمة الشارع في جعل الليل ظرفا مشددا؛ لأن الغرض تشديد العقوبة على من يغتنم الظلام فرصة لارتكاب جريمته، فيراد بالليل إذا خيم الظلام، وربما لا يكون ذلك أثر غروب الشمس مباشرة. ومن التأويل الذي هو موضع نظر، تأويل قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ، بإرادة عشرة مساكين أو مسكينًا واحدًا عشر مرات. وقوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} بإرادة مسكينا أو مسكينا واحدا ستين مرة، وقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} بإرادة الهبة، أي إذا وهب أحدكم هبة ليعوض الواهب خيرا منها أو مثلها. وإغلاق باب التأويل كله والأخذ بالظاهر دائما، كما هو مذهب الظاهرية، قد يؤدي إلى البعد عن روح التشريع والخروج عن أصوله العامة، وإظهار النصوص متخالفة. وفتح باب التأويل على مصراعيه بدون حذر واحتياط، قد يؤدي إلى الزلل والعبث بالنصوص ومتابعة الأهواء، والحق هو في احتمال التأويل الصحيح، وهو ما دل عليه دليل من نص أو قياس أو أصول عامة، ولا يأباه اللفظ بل يحتمل الدلالة عليه بطريق الحقيقة أو المجاز، ولم يعارض نصا صريحا. 3- المفسر: في اصطلاح الأصوليين: هو ما دل بنفسه على معناه المفصل تفصيلا لا يبقى معه احتمال للتأويل، فمن ذلك، أن تكون الصيغة دالة بنفسها دلالة واضحة على معنى مفصل، وفيها ما ينفي احتمال إرادة غير معناها؛ كقوله تعالى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قاذفي المحصنات: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، فإن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصا، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ، فإن كلمة كافة تنفي احتمال التخصيص، وكثير من مواد العقوبات التي حددت العقوبات على جرائم معينة، ومواد القانون المدني التي حصرت أنواعا من الديون أو الحقوق أو فصلت أحكاما تفصيلا لا احتمال معه للتأويل. ومن ذلك أن تكون الصيغة قد وردت مجملة غير مفصلة، وألحقت من الشارع ببيان تفسيري قطعي أزال إجمالها، وفصلها حتى صارت مفسرة لا تحتمل التأويل، كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، وكقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، وكقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، فالصلاة والزكاة والحج والربا، كل هذه ألفاظ مجملة لها معان شرعية لم تفصل بنفس صيغة الآية. وقد فصل الرسول معانيها بأفعاله وأقواله، فصلى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وحج وقال: "خذو عني مناسككم"، وحصل الزكاة، وفصل الربا المحرم، وهكذا كل مجمل في القرآن، فصلته السنة تفصيلا وافيا يصير من المفسر، ويكون هذا التفصيل جزءًا من المفصل، مكملا له ما دام قطعيا، وهذا ما يسمى في الاصطلاح الحديث: التفسير التشريعي، أي الذي مصدره الشارع نفسه. فإن الرسول أعطاه الله سلطة التفسير والتفصيل بقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . وحكم المفسر أنه يجب العمل به كما فصل، ولا يحتمل أن يصرف عن ظاهره، ويقبل حكمه النسخ إذا كان مما بيناه في الظاهر، أي حكما فرعيا يقبل التبديل. فالتفسير الذي ينفي احتمال التأويل هو التفسير المستفاد من نفس الصيغة، أو المستفاد من بيان تفسيري قطعي ملحق بالصيغة صادر من المشرع نفسه؛ لأن هذا البيان من القانون. وأما تفسير الشراح والمجتهدين، فلا يعتبر جزءًا مكملًا للقانون ولا ينفي احتمال التأويل، وليس لأحد غير الشارع نفسه أن يقول فيما يحتمل التأويل منه هو كذا لا غير. ويظهر من مقارنة التفسير بالتأويل، أن كلا منهما تبيين للمراد من النص، ولكن التفسير تبيين للمراد بدليل قطعي من الشارع نفسه، ولهذا لا يحتمل أن يراد غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأما التأويل فهو تبيين للمرد بدليل ظني بالاجتهاد، وليس قطعيا في تعيين المراد، ولهذا يحتمل أن يراد غيره. 4- المحكم: المحكم في اصطلاح الأصوليين: هو ما دلّ على معناه الذي لا يقبل إبطالًا ولا تبديلا بنفسه دلالة واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل، فهو لا يحتمل التأويل أي إرادة معنى خر غير ما ظهر منه؛ لأنه مفصل ومفسر تفسيرا لا مجال عه للتأويل، ولا يقبل النسخ في عهد الرسالة وفترة التزيل ولا بعدها؛ لأن الحكم المستفاد منه، إما حكم أساسي من قواعد الدين لا يقبل التبديل: كعبادة الله وحده، والإيمان برسله وكتبه؛ أو من أمهات الفضائل التي لا تختلف باختلاف الأحوال: كبر الوالدين، والعدل؛ أو حكم فرعي جزئي، ولكن دل الشارع على تأييد تشريعه كقوله تعالى في قاذفي المحصنات: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة". وحكمه أنه يجب قطعا العمل به، لا يحتمل صرفه عن ظاهره ولا نسخه، وإنما قلنا: لا يقبل النسخ؛ لأنه بعد عهد الرسول وانقطاع الوحي والتنزيل، صارت الأحكام الشرعية التي جاءت في القرآن والسنة كلها محكمة لا تقبل نسخًا، ولا إبطالًا، إذ لا توجد بعد الرسول سلطة تشريعية تمل إبطال ما جاء به أو تبديله. وسيأتي توضيح هذا في مبحث النسخ. وهذه الأنواع الأربعة للواضح الدلالة، متفاوتة في وضوح دلالتها على المراد منها كما قلنا، وظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض. فإذا تعارض ظاهر ونص1 يرجع النص؛ لأنه أوضح دلالة من الظاهر من جهة أن معنى النص مقصود أصالة من السياق، ومعنى الظاهر غير مقصود أصالة من السياق. ومن لا شك في أن المقصود أصلة يتبادر إلى الفهم قبل غيره. فلهذا كانت دلالة النص أوضح من دلالة الظاهر، ولهذا يرجع الخاص على العام عند التعارض؛ لأن الخاص مقصود أصالة بالحكم فاللفظ نص فيه، وهو في العام غير مقصود أصالة بل في ضمن أفراده.   1 النص يطلق على معنيين أحدهما المعنى الذي بيناه هو ما يقابل الظاهر والمفسر والمحكم، وثانيهما كل آية قرآنية أو حديث نبوي، فيقال: نصوص القرآن والسنة، ويراد بها ما يشمل الظاهر أو النص أو المفسر، ويقال: الحكم ثابت بالنص لا بالقياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومثال هذا قوله تعالى بعد عد المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، مع قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . فالآية الأولى ظاهرة في إحلال زواج زوجة خامسة؛ لأنها مما وراء ذلك، والآية الثانية نص في قصر إباحة الزواج على أربع، فلما تعارضا رجح النص لقوته في وضوح دلالته، وحرم زواج ما زاد على أربع. وإذا تعارض نص ومفسر يرجح المفسر؛ لأنه أوضح دلالة من النص من جهة أن تفسيره جعله غير محتمل لتأويل، وجعل المراد منه متعينًا. ومثال هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تتوضأ لكل صلاة"، مع قوله: "المستحاضة توضأ وقت كل صلاة". فالأول: نص في إيجاب الوضوء لكل صلاة؛ لأنه يفهم من لفظه ومقصود من سياقه، والثاني مفسر لا يحتمل تأويلا؛ لأن الأول يحتمل إيجاب الوضوء لكل صلاة ولو في وقت واحد، أو لوقت كل صلاة، ولو أدى في الوقت عدة صلوات، ولكن الثاني قطع هذا الاحتمال، فيرجح. وصار الحكم الشرعي هو إيجاب الوضوء للوقت، وتصلي فيه ما شاءت من الفرائض والنوافل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه "غير الواضح الدلالة من النصوص، وهو ما لا يدل على المراد منه بنفس صيغته، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي. إن كان يزال خفاؤه بالبحث والاجتهاد فهو الخفي أو المشكل، وإن كان لا يزال خفاؤه إلا بالاستفسار من الشارع نفسه فهو المجمل، وإن كان لا سبيل إلى إزالة خفائه فهو المتشابه". قدمنا في القاعدة الثالثة أن مراتب الواضح الدلالة تتفاوت في وضوحها وبينا في تلك القاعدة أقسام الواضح الدلالة. ونبين في هذه القاعدة أقسام غير الواضح الدلالة، ومراتب خفائه وما يزال به الخفاء. وقد قسم الأصوليون غير الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام أيضا: الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه. وهذا بيان المراد اصطلاحًا بكل واحد من هذه الأقسام الأربعة، وأمثلته وحكمه: 1- الخفي: المراد بالخفي في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي يدل على معناه دلالة ظاهرة، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء تحتاج إزالته إلى نظر وتأمل، فيعتبر اللفظ خفيا بالنسبة إلى هذا البعض من الأفراد، ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد أو ينقص عنها صفة، أو له اسم خاص؛ فهذه الزيادة أو النقص أو التسمية الخاصة تجعله موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفيا بالنسبة إلى هذا الفرد؛ لأن تناوله لا يفهم من نفس اللفظ، بل لا بد له من أمر خارجي. مثال ذلك لفظ السارق، معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوم المملوك للغير خفية من حرز مثله، ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالنشال "الطراز" فإنه آخذ المال في حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارقة الأعين. فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه وهو جرأة المسارقة، ولذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 سمي باسم خاص. فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أو لا يصدق عليه فيعاقب تعزيرا؟ وقد ثبت بالاجتهاد اتفاقا وجوب قطع يده من طريق دلالة النص؛ لأنه أولى بالحكم من جهة أن علة القطع أكثر توافرا فيه. وكالنباش، فإنه أخذ مال غير مرغوب فيه عادة من قبور الموتى، كأكفانهم وثيابهم، فهو يغاير السارق من جهة أنه لا يأخذ مملوكا من حرز، ولذا سمي باسم خاص به فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده أو لا يصدق فيعاقب تعزيرًا. وقد ثبت للشافعي، وأبي يوسف أنه سارق فتقطع يده. وثبت لسائر أئمة الحنفية أنه غير السارق فيعاقب تعزيرًا بما يردعه ولا تقطع يده؛ لأنه أخذه مالًا غير مرغوب فيه ولا مملوكا لأحد ومن غير حرز شبهه يسقط الحد، وكذا لفظ القاتل في حديث: "لا يرث القاتل"، هل يتناول القاتل خطأ أو بالتسبب أو لا يتناوله. والبائع إذا أخذ من المشتري نقودا على أن يأخذ منها ثمن المبيع ويرد الباقي اختفى، هل يصدق عليه أنه سارق أو خائن الأمانة. وكذا كل لفظ دل دلالة ظاهرة على معناه، ولكن وجد خفاء واشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد يعتبر اللفظ خفيا بالنسبة إلى هذه الأفراد. وأمثلة هذا في القوانين الشرعية والوضعية كثيرة. ومن أظهرها بعض الجرائم التي يشتبه في أنها جناية أو جنحة، أي في انطباق أحد اللفظين عليها. والطريق لإزالة هذا الخفاء هو بحث المجتهد وتأمله. فإن رأى اللفظ يتناول هذا الفرد، ولو بطريق الدلالة جعله من مدلولاته فأخذ حكمه، وإن رأى اللفظ لا يتناوله بأي طريق منطرق الدلالة لم يجعله من مدلولاته فلا يأخذ حكمه، وهذا مما تختلف فيه أنظار المجتهدين. ولذلك جعل بعضهم النباش سارقا ولم يجعله آخرون. ومرجعهم في اجتهادهم لإزالة هذا الخفاء هو علة الحكم، وحكمته، ما ورد في هذا الشأن من النصوص، فقد تكون العلة أكثر توافرا في هذا الفرد، وربما لا تكون متحققة فيه، وقد يدل على حكمه نص آخر يتناوله بوضوح. 2- المشكل: المراد بالمشكل في اصطلاح الأصوليين؛ اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لا بد من قرينة خارجية تبين ما يراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فسبب الخفاء في الخفي ليس من نفس اللفظ، ولكن من الاشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد لعوامل خارجية، وأما سبب الخفاء في المشكل فمن نفس اللفظ لكونه موضوعا لغة لأكثر من معنى، ولا يفهم المعنى المراد منه بنفسه، أو لتعارض ما يفهم من نص مع ما يفهم من نص آخر. وقد ينشأ الإشكال في النص من لفظ مشترك فيه، فإن اللفظ المشترك موضوع لغة لأكثر من معنى واحد، وليس في صيغته دلالة على معنى معين مما وضع له، فلا بد من قرينة خارجية تعينه كلفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، فإنه موضوع في اللغة للطهر وللحيض، فأي المعنيين هو المراد في الآية، وهل تنقضي عدة المطلقة بثلاث حيضات أو بثلاثة أطهار؟ ذهب الشافعي وبعض المجتهدين إلى أن القرء في الآية المراد منه الطهر، والقرينة هي تأنيث اسم العدد؛ لأنه يدل لغة على أن المعدود مذكر وهو الأطهار لا الحيضات -وذهبت الحنفية وفريق آخر من المجتهدين إلى أن القرء في الآية هو الحيض والقرينة: أولًا: حكمة تشريع العدة، فإن الحكمة في إيجاب العدة على المطلقة تعرف براءة رحمها من الحمل، والذي يعرف هذا هو الحيض لا الطهر. وثانيا: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، فإنه جعل مناط الاعتداد بالأشهر عدم الحيض، فدل على أن الأصل هو الاعتداد بالحيض. وثالثا: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان". فالتصريح بأن عدة الأمة بالحيض بيان للمراد بالقرء في اعتداد الحرة، وأما تأنيث اسم العدد فمراعاة تذكير لفظ المعدود وهو القرء. وقد ينشأ الإشكال في مقابلة النصوص بعضها ببعض، أي يكون كل نص على حدته ظاهر الدلالة على معناه ولا إشكال في دلالته، ولكن الإشكال في التوفيق والجمع بين هذه النصوص. ومثال هذا قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} مع قوله سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ، وسائر النصوص التي ظاهرها التعارض. والطريق لإزالة إشكال المشكل هو الاجتهاد. فعلى المجتهد، إذا ورد في النص لفظ مشترك أن يتوصل بالقرائن، والأدلة التي نصبها الشارع إلى إزالة إشكاله وتعيين المراد منه، كما تبين من اجتهاد المجتهدين تعيين المراد بلفظ القرء في الآية، واختلاف وجهة نظرهم في هذا التعيين، وإذا وردت نصوص ظاهرها التخالف والتعارض، فعلى المجتهد أن يؤولها تأويلا صحيحا يوفق بينها، ويزيل ما في ظاهرها من اختلاف، وهاديه في هذا التأويل: إما نصوص أخرى، أو قواعد الشرع أو حكمة التشريع. 3- المجمل: المراد بالمجمل في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا توجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، فسبب الخفاء فيه لفظي لا عارض. فمن المجمل الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية، ووضعها لمعان اصطلاحية شرعية خاص، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والربا، وغير هذا من كل لفظ أراد به الشارع معنى شرعيا خاصا لا معناه اللغوي. فإذا ورد لفظ منها في نص شرعي كان مجملا حتى يفسره الشارع. ولذا جاءت السنة العملية والقولية بتفسير الصلاة، وبيان أركانها وشروطها وهيئاتها، وقال الرسول: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وكذلك فسر الزكاة والصيام والحج والربا، وكل ما جاء مجملًا في نصوص القرآن. ومن المجمل اللفظ الغريب الذي فسره النص نفسه بمعنى خاص، كلفظ القارعة في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} ، ولفظ الهلوع في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . ومن المجمل في نصوص القوانين الوضعية كلمة "أصل الأوقاف" الواردة بالمادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، فإن الشارع أراد بها معنى أجمله، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 يفصله، ولذا ظل السنين العديدة مثار الخلاف بين الهيئات القضائية في مصر حتى فصلها الشارع المصري بعض التفصيل في الفقرة 2 من المادة 28 من لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة الصادرة في سنة 1927 ونصها: "كذلك لا تختص المحاكم المختلطة بالمنازعات المتعلقة مباشرة، أو بالواسطة بأصل الواقف أو بصحته أو بتفسيره أو تطبيق بعض شروطه أو بتعيين النظار وعزلهم". وكلمة الأحوال الشخصية الواردة في عبارة: "غير ذلك مما يتعلق بالأحوال الشخصية" في المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، فإن المراد منها مجمل فسره الشارع المصري أخيرًا في المادة 2 من القانون رقم 91 سنة 1938 التي بينت المراد من الأحوال الشخصية. وكلمات ضبط الإشهادات وكتابة سنداتها وتسجيلها الواردة في المادة 363 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية. ولهذا فسّر الشارع كل كلمة منها بمادة، فكل لفظ لا يفهم المراد منه بنفسه بسبب وضعه لغة لأكثر من معنى إذا حفت به قرائن يمكن أن يتوصل بها إلى تعيين المراد منه فهو المشكل. وكل لفظ لا يفهم المراد منه بنفسه إذا لم تحف به قرائن يتوصل بها إلى فهم المراد منه فهو المجمل. فسبب إجمال اللفظ، إما كونه من المشترك الذي لا تحف به قرينة تعين أحد معانيه، أو إرادة الشارع منه معنى خاصًّا غير معناه اللغوي، أو غرابة اللفظ وغموض المراد منه. والمجمل بأي سبب من هذه الأسباب الثلاثة لا سبيل إلى بيانه وإزالة إجماله، وتفسير المراد منه إلا بالرجوع إلى الشارع الذي أجمله؛ لأنه هو الذي أبهم مراده ولم يدل عليه لا بصيغة لفظية ولا بقرائن خارجية. فإليه يرجع في بيان ما أبهمه. وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل وكان بيانًا وافيًا قاطعًا، صار به المجمل من المفسر، كالبيان الذي صدر مفصلا للزكاة والصلاة والحج وغيرها. وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل، ولكن بيان غير واف بإزالة الإجمال صار به المجمل من المشكل، وفتح الطريق للبحث والاجتهاد لإزالة إشكاله، ولم يتوقف بيانه على الرجوع إلى الشارع؛ لأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فتح الباب للبيان بالتأمل والاجتهاد. ومثال ذلك الربا، ورد في القرآن مجملا وبينه الرسول بحديث الأموال الربوية الستة1، ولكن هذا البيان ليس وافيا؛ لأنه لم يحصر الربا فيها، وبهذا فتح الباب لبيان ما يكون فيه الربا قياسا على ما ورد في الحديث. ولفظ أصل الوقف ورد في القانون مجملا، وبينه الشارع في الفقرة 2 من المادة 28 من لائحة التنظيم القضائي، ولكنه بيان غير واف ولا حاصر، فصار اللفظ به من المشكل. وفتح الطريق لبيانه بالاجتهاد. 4- المتشابه: المراد بالمتشابه في اصطلاح الأصوليين، اللفظ الذي لا تدل صيغته بنفسها على المراد منه. ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره. والمتشابه بهذا المعنى ليس في النصوص التشريعية منه شيء. فلا يوجد في آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام لفظ متشابه لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما يوجد في مواضع أخرى من النصوص مثل الحروف المقطعة في أوائل بعض السور: ال م. ق. ص. ح م، ومثل الآيات التي ظاهرها أن الله يشبه خلقه في أن له يدًا وعينًا ومكانًا، مثل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، فالحروف الهجائية المقطعة في أوائل بعض السور لا تدل بنفسها على المراد منها، ولم يفسر الله ما أراده منها فهو أعلم بمراده. وكذلك الآيات الموهم ظاهرها تشبيه الخالق بخلقه لا يمكن أن يفهم منها معنى ألفاظها اللغوية؛ لأن الله سبحانه منزه عن اليد والعين والمكان وكل ما يشبه خلقه، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولم يبين الشارع ما أراد منها فهو أعلم بمراده. هذا هو رأي السلف في معنى المتشابه. فهم يفوضون إلى الله علمه ويؤمنون به ولا يبحثون في تأويله، وأما رأي الخلف فهو أن هذه الآيات ظاهرها مستحيل؛ لأن الله لا يد له ولا عين ولا مكان، ولك ما ظاهره مستحيل إرادته يجب أن يؤول ويصرف عن هذا الظاهر، ويراد به معنى   1 نص الحديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، والتمر بالتمر، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم. إذا كان يدا بيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 يحتمله اللفظ ولو بطريق المجاز، وليس فيه تشبيه الخالق بخلقه. فقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} تأويله: قدرة الله فوق قدرتهم. وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} تأويله: واصنع الفلك برعايتنا وإحاطتنا. وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ .... } تأويله: أنه سبحانه مع كل من يتناجون بعلمه وإحاطته وهكذا. ومنشأ هذا الخلاف في قوله تعالى في شأن المتشابهات: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، فمن جعل الوقف على لفظ الجلالة قال: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، فتؤمن به ونفوض علمه له ولا نبحث في تأويله، ومن جعل الوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال: "لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فهم يعلمون تأويله بإرادة معنى يحتمله اللفظ ويتفق وتنزيه الخالق عن مشابهة خلقه. والذي يظهر لي أنه الحق هو تفسير المتشابهات في القرآن بالمشتبهات أي المحتملات التي يكون احتمالها مجالا للاختلاف في تأويلها، وهي تقابل المحكمات التي أحكمت عباراتها وحفظت من الاشتباه واحتمال التأويل. فعلى هذا ليس في القرآن ما لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما فيه ألفاظ تدل على المراد منها نفسها من غير اشتباه ولا احتمال للتأويل والاختلاف، وفيه ألفاظ تدل على معنى ويحتمل أن يراد منها غيره، وهذا مجال البحث والاجتهاد لإزالة الاحتمال وتعيين المراد، وفيه ألفاظ لا تدل على المراد منها بنفسها، ولكن أحاطها الشارع بقرائن أو ألحقها ببيان يفسر ما أراد منها؛ لأن الله أنزل القرآن للتدبر والذكر فكيف يكون في آياته ما لا سبيل إلى فهمه مطلقًا: والمقطعات في أوائل بعض السور ذكرت للدلالة على أن القرآن الذي أعجز الناس هو مكون من حروفهم، وليس من حروف أخرى غريبة عنهم، ولهذا يرى أن أكثر السور المبدوءة بهذه المقطعات فيها ذكر الكتاب بعد سرد هذه الحروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته "إذا ورد في النص الشرعي لفظ مشترك، فإن كان مشتركًا بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي، وجب حمله على المعنى الشرعي، وإن كان مشتركا بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه. ولا يصح أن يراد بالمشترك معنياه أو معانيه معًا". هذه القاعدة الخامسة والقاعدتان السادسة، والسابعة الآتيتان خاصة ببيان الألفاظ الثلاثة التي ترد كثيرا في النصوص الشرعية والقوانين الوضعية، وهي اللفظ المشترك، واللفظ العام، واللفظ الخاص، وبيان ما يدل عليه كل واحد منها إذا ورد في نص. والفرق الجوهري بين هذه الألفاظ الثلاثة من حيث المعنى: أن المشترك لفظ وضع لمعان متعددة بأوضاع متعددة: كلفظ السنة وضع للهجرية وللميلادية، ولفظ اليد لليمنى واليسرى، ولفظ القرش للعشرة مليمات وللخمسة. وإن العم لفظ وضع لمعنى واحد، وهذا المعنى الواحد يتحقق في أفراد كثيرين غير محصورين في اللفظ، وإن كانوا في الواقع محصورين أي أنه بحسب وضعه اللغوي لا يدل على عدد محصور من هذه الأفراد، وإنما يدل على شمول جميع هذه الأفراد، كلفظ الطلبة يدل على معنى يتحقق في أفراد غير محصورين ويشملهم جميعًا. وإن الخاص لفظ لمعنى يتحقق في فرد واحد أو في أفراد محصورين، كلفظ محمد، أو الطالب أو الطلاب العشرة، أو مائة أو ألف. فالاشتراك يتحقق بتعدد المعاني التي وضع لها اللفظ بأوضاع متعددة. والعموم يتحقق بدلالة اللفظ على شمول جميع الأفراد التي يصدق عليها من غير حصر. والخصوص يتحقق بدلالة اللفظ على الفرد أو الأفراد المحصورين التي يصدق عليها من غير شمول. فاللفظ المشترك، وهو ما وضع لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة، يدل على ما وضع له على سبيل البدل، أي يدل على هذا المعنى أو ذاك، كلفظ العين وضع في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 اللغة للباصرة، ولعين الماء النابع، وللجاسوس. ولفظ القرء، وضع في اللغة للطهر، وللحيض، ولفظ السنة، ولفظ اليد. وأسباب وجود الألفاظ المشتركة في اللغة كثيرة، أهمها اختلاف القبائل في استعمال الألفاظ للدلالة على معان، فبعض القبائل تطلق اليد على الذراع كله، وأخرى تطلق اليد على الساعد والكف، وأخرى تطلقها على الكف خاصة، فنقلة اللغة يقررون أن اليد في اللغة العربية لفظ مشترك بين المعاني الثلاثة، ومنها أن يوضع اللفظ على سبيل الحقيقة لمعنى، ثم يستعمل في غير ما وضع له مجازًا، ثم يشتهر استعمال هذا اللفظ في المعنى المجازي حتى يتناسى أنه مجازي، فيقرر علماء اللغة أن اللفظ موضوع لهذا ولهذا: كلفظ السيارة، ولفظ الدراجة، ولفظ المسرة. ومنها أن يوضع اللفظ لمعنى ثم يوضع اصطلاح شرعي أو قانوني لمعنى آخر. كلفظ الصلاة أو لفظ الدفع، وأيا كان سبب وقوع الاشتراك في الألفاظ لغة، فإن الألفاظ المشتركة بين معنيين أو أكثر ليست قليلة في اللغة وواردة في النصوص الشرعية من آي القرآن وأحاديث الرسول، وهي كما قدمنا من باب المشكل ما دامت توجد قرائن يتوصل بها إلى ترجيح أحد المعاني، وعلى المجتهد أن يزيل إشكالها ويعين المراد من كل لفظ منها إذا ورد في نص شرعي. والمشترك قد يكون اسما كما مثلنا، أو فعلا كصيغة الأمر للإيجاب وللندب، أو حرفا مثل الواو للعطف وللحال، فإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركًا بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي وجب أن يراد به معناه الاصطلاحي الشرعي، فلفظ الصلاة وضع لغة للدعاة، ووضع شرعا للعبادة المخصوص. ففي قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يراد منه معناه الشرعي وهو العبادة المخصوصة لا معناه اللغوي وهو الدعاة، ولفظ الطلاق وضع لغة لحل أي قيد، ووضع شرعا لحل قيد الزوجية الصحيحة، ففي قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يراد منه معناه الشرعي لا اللغوي؛ وهكذا كل لفظ مشترك بين معنى لغوي، ومعنى شرعي إذا ورد في نص شرعي، فمراد الشارع منه معناه الذي وضعه له؛ لأنه لما نقل هذا اللفظ عن معناه اللغوي إلى المعنى الخاص الذي استعمله فيه، كان اللفظ في لسان الشارع متعين الدلالة على ما وضعه الشارع له. وكذلك في نصوص القوانين الوضعية إذا كان اللفظ الوارد في النص له معنيان: معنى في اللغة ومعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 في الاصطلاح القانوني، وجب أن يراد به معناه القانوني لا اللغوي للسبب الذي بيناه، فلفظ الدفع ولفظ الحلول وغيرهما، يراد به المعنى القانوني لا المعنى اللغوي، وكذا لفظ الضبط، ولفظ التسجيل. وإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركا بين عدة معان لغوية، وجب الاجتهاد لتعيين المعنى المراد منها؛ لأن الشارع ما أراد باللفظ إلا أحد معانيه، وعلى المجتهد أن يستدل بالقرائن، والأمارات والأدلة على تعيين هذا المراد. فلفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، مشترك بين الطهر والحيض، وقد بينا في الكلام على المشكل ما استدل به بعض المجتهدين على أن المراد به الطهر، وما استدل به آخرون على أن المراد به الحيض. ولفظ اليد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، مشترك بين الذراع "من رءوس الأصابع إلى المنكب"، وبين الكف والساعد "من رءوس الأصابع إلى المرفق"، وبين الكف "من رءوس الأصابع إلى الرسغين"، وبين اليمنى واليسرى. وقد استدل جمهور المجتهدين بالسنة العملية على تعيين المراد منها في الآية، وهو المعنى الأخير أي رءوس الأصابع إلى الرسغين في اليمنى. ولفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} ، مشترك، يطلق لغة على من لم يخلف ولدًا ولا والدًا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من جهة غيرة الولد والوالد. وقد استدل جمهور المجتهدين باستقراء آيات التوريث على تعيين أن المراد في الآية هو المعنى الأول. ولفظ الواو في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} مشترك، يستعمل للعطف ويستعمل للحال، فإن أريد به هنا الحال كان النهي واردا على ما لم يذكر اسم الله عليه، والحال أنه فسق، أي ذكر عليه حين ذبحه اسم غير الله، وإن أريد به العطف كان النهي واردا على ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقا، سواء ذكر عليه حين الذبح اسم غير اسم الله أم لم يذكر. والمجتهدون انقسموا في تعيين المراد منها في الآية إلى رأين، ولكل وجهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ولا يصح أن يراد باللفظ المشترك معنيان أو أكثر من معانيه معًا؛ بحيث يكون الحكم الذي ورد في النص متعلقا في وقت واحد بأكثر من معنى؛ لأن اللفظ ما أراد به الشارع إلا معنى واحدا من معانيه، ووضعه لمعان متعددة إنما هو على سبيل البدل، أي أنه إما أن يدل على هذا أو ذاك. فأما دلالته على هذا وذاك في وقت واحد، فهو تحميل اللفظ ما لا يدل عليه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، فلا يصح أن يراد بالقرء في الآية الطهر والحيض معا، بحيث إن المطلقة إن شاءت تربصت ثلاثة أطهار، وإن شاءت تربصت ثلاث حيضات؛ لأن اللفظ لا يدل على هذا بأي طريق من طرق الدلالة. وكذلك الحال في نصوص القوانين الوضعية إذا ورد فيها لفظ لفظ مشترك بين عدة معان لغوية، ولم يبين الشارع المعنى الذي أراده منه، وجب الاجتهاد في تعيين المعنى، إما بواسطة نصوص أخرى في القانون، وإما بالرجوع إلى قواعد التشريع، ولا يصح أن يراد من لفظ مشترك في نص أكثر من معنى واحد؛ لأن اللفظ المشترك ما وضع إلا لمعنى واحد ولكنه دائر بين اثنين أو أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 القاعدة السادسة: في العام ودلالته إذا ورد في النص الشرعي لفظ عام ولم يقم دليل على تخصيصه، وجب حمله على عمومه وإثبات الحكم لجميع أفراده قطعًا. فإن قام دليل على تخصيصه وجب حمله على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، وإثبات الحكم لهذه الأفراد ظنا لا قطعا، ولا يخصص عام إلا بدليل يساويه أو يرجحه في القطعية أو الظنية. تعريف العام: العام: هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله، واستغراقه لجميع الأفراد، التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها، فلفظ "كل عقد" في قوله الفقهاء: كل عقد يشترط لانعقاده أهلية العاقدين، لفظ عام يدل على شمول كل ما يصدق عليه أنه عقد من غير حصر في عقد معين أو عقود معينة. ولفظ "من ألقى" في حديث: "من ألقى سلاحه فهو آمن"، لفظ عام يدل على استغراق كل فرد ألقى سلاحه من غير حصر في فرد معين أو أفراد معينين. من هذا يؤخذ أن العموم من صفات الألفاظ؛ لأنه دلالة اللفظ على استغراقه لجميع أفراده، وأن اللفظ إذا دل على فرد واحد كرجل، أو اثنين كرجلين، أو كمية محصورة من الأفراد كرجال، ورهط ومائة وألف، فليس من ألفاظ العموم، وأن الفرق بين العام والمطلق، هو أن العام يدل على شمول كل فرد من أفراده، وأما المطلق فيدل على فرد شائع أو أفراد شائعة لا على جميع الأفراد. فالعام يتناول دفعة واحدة كل ما يصدق عليه من الأفراد، والمطلق لا يتناول دفعة واحدة إلا فردًا شائعا من الأفراد. وهذا هو المراد بقول الأصوليين: عموم العام شمولي، وعموم المطلق بدلي. ألفاظ العموم: استقراء المفردات والعبارات في اللغة العربية دل على أن الألفاظ التي تدل بوضعها اللغوي على العموم والاستغراق لجميع أفرادها هي: 1- لفظ كل، ولفظ جميع -"كل راع مسئول عن رعيته"، {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} - كل خطأ يحدث ضررًا بالغير يلزم فاعله بالتعويض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 2- المفرد المعروف بأل تعريف الجنس: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، البيع ينقل الملكية؛ لأن الجنس يتحقق في كل فرد من أفراده لا في فرد خاص أو أفراد مخصوصين. 3- الجمع المعرف بأل تعريف الجنس: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ... } ، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . والجمع المعرف بالإضافة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . 4- الأسماء الموصولة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} ، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . 5- أسماء الشرط: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} . 6- النكرة في سياق النفي أي النكرة المنفية: "لا ضرر ولا ضرار". "لا هجرة بعد الفتح"، {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . فكل لفظ من هذه الألفاظ موضوع في اللغة وضعًا حقيقيا للدلالة على استغراق جميع أفراده، وإذا استعمل في غير هذا الاستغراق كان استعمالًا مجازيا لا بد له من قرينة تدل عليه، وتصرفه عن المعنى الحقيقي. دلالة العام: لم يختلف الأصوليون في أن كل لفظ من ألفاظ العموم التي بيناها موضوع لغة لاستغراق جميع ما يصدق عليه من الأفراد، ولا في أنه إذا ورد في نص شرعي دل على ثبوت الحكم المنصوص عليه لكل ما يصدق عليه من الأفراد، إلا إذا قام دليل تخصيص على الحكم ببعضها. وإنما اختلفوا في صفة دلالة العام الذي لم يخصص على استغراقه لجميع أفراده، هل هي دلالة قطعية أو دلالة ظنية. فذهب فريق منهم وفيهم الشافعية إلى أن العام الذي لم يخصص ظاهر في العموم لا قطعي فيه. فهو ظني الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص كان ظني الدلالة أيضًا على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، فهو ظني الدلالة قبل التخصيص وبعده. ويترتب على هذا أنه يصح تخصيص العام بالدليل الظني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 مطلقًا، سواء كان أول تخصيص أو ثاني تخصيص؛ لأن الظني يخصص بالظني، وأنه لا يتحقق التعارض بين عام وبين خاص قطعي؛ لأن شرط تحقق التعارض بين الدليلين أن يكونا قطعيين أو ظنيين، بل يعمل بالخاص فيما دل عليه. ويعلم بالعام فيما عداه، وحجتهم على ما ذهبوا إليه أن استقراء النصوص الشرعية التي وردت فيها ألفاظ العموم دل على أنه ما من عام إلا وخصص، وعلى أن العام الذي بقي على عمومه نادر جدا، وما استفيد بقاؤه على عمومه إلا من قرينة صاحبته، وإذاكان الشأن والكثير الغالب في كل عام أنه غير باق على عمومه؛ فإذا ورد العام مطلقا عن دليل يخصصه فهو بناء على الكثير الغالب محتمل للتخصيص. وعلى هذا فالعام المطلق عن دليل يخصصه ظاهر في العموم لا قطعي فيه. وذهب فريق منهم وفيهم الحنفية إلى أن العام الذي لم يخصص قطعي في العموم، فهو قطعي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص صار ظاهرًا في دلالته على ما بقي بعد التخصيص، أي ظني الدلالة عليه. ففي هذا المذهب: العام الذي لم يخصص قطعي الدلالة على استغراقه جميع أفراده، وإذا خصص صار ظني الدلالة على ما بقي من أفراده بعد التخصيص. ويترتب على هذا أنه لا يصح أن يخصص العام أول تخصيص بدليل ظني؛ لأن الظني لا يخصص القطعي، وأنه لا يصح أن يخصص ثانيا وثالثا بدليل ظني؛ لأنه بعد التخصيص الأول صار ظنيا، والظني يخصص الظني، وأنه يتحقق التعارض بين العام الذي لم يخصص، وبين الخاص القطعي؛ لأنهما قطعيان، وحجتهم على ما ذهبوا إليه "أن اللفظ العام موضوع حقيقة لاستغراق جميع ما صدق عليه معناه من الأفراد". واللفظ حين إطلاقه يدل على معناه الحقيقي قطعًا، فالعام المطلق عن قرينة تخصصه يدل على العموم قطعا، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بدليل. ولهذا استدل الصحابة والتابعون الأئمة المجتهدون بعموم الألفاظ العامة التي وردت في النصوص مطلقة عن التخصيص، واستنكروا تخصيصها من غير دليل، فإذا خصص العام بدليل دل هذا على صرفه عن معناه الحقيقي وهو العموم، واستعماله في معنى مجازي وهو الخصوص، وصار محتملًا لتخصيص ثان قياسا على التخصيص الأول؛ لأن علة التخصيص الأول قد تتحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 في أفراد أخرى، فكأن التخصيص الأول فتح ثغرة في العموم، ومهد لفتح ثغرات أخرى. ولهذا صار العام الذي خصص ظني الدلالة على ما بقي بعد التخصيص. والذي يظهر لي بعد المقارنة بين أدلة الفريقين، وأمثلتهما وشواهدهما أنه ليس بين رأييهما اختلاف جوهري من الناحية العملية؛ لأنه لا خلاف بينهما في أن العام يجب العمل بعمومه حتى يقوم على تخصيصه دليل، ولا في أن العام يحتمل أن يخصص بدليل، وأن تخصيصه بغير دليل تأويل غير مقبول. والقائلون بأن العام الذي لم يقم دليل على تخصيصه قطعي الدلالة على العموم، ما أرادوا بكونه قطعي الدلالة أنه لا يحتمل التخصيص مطلقا، وإنما أرادوا أنه لا يخصص إلا بدليل، والقائلون بأنه ظني الدلالة على العموم ما أرادوا أنه يخصص مطلقًا. وإنما أرادوا أنه يخصص بالدليل. أنواع العام: وقد ثبت باستقراء النصوص أن العام ثلاثة أقسام. 1- عام يراد به قطعا العموم: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه كالعام في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . في كل واحدة من هاتين الآيتين، تقرير سنة إلهية عامة لا تتخصص ولا تتبدل، فالعام فيهما قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص. 2- وعام يراد به قطعا الخصوص: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه وتبين أن المراد منه بعض أفراده مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، فالناس في هذا النص عام، مراد به خصوص المكلفين؛ لأن العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين، مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} ، فأهل المدينة والأعراب في هذا النص لفظان عامان مراد بكل منهما خصوص القادرين؛ لأن العقل لا يقضي بخروج العجزة. فهذا عام مراد به الخصوص ولا يحتمل أن يراد به العموم. 3- عام مخصوص: وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، مثل أكثر النصوص التي وردت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فيها صيغ العموم، مطلقة عن قرائن لفظية أو عقلية أو عرفية تعين العموم أو الخصوص. وهذا ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه، مثل {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} . قال الشوكاني في التفريق بين العام الذي يرد به الخصوص، والعام المخصوص: العام الذي يراد به الخصوص هو العام الذي صاحبته حين النطق به قرينة دالة على أنه المراد به الخصوص لا العموم، مثل خطابات التكليف العامة، فالمراد بالعام فيها خصوص من هم أهل للتكليف لاقتضاء العقل إخراج من ليسوا مكلفين. ومثل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} ، فالمراد كل شيء مما يقبل التدمير. وأما العام المخصوص فهو الذي لم تصاحبه قرينة دالة عن أنه مراد به بعض بعض أفراده، وهذا ظاهر في دلالته على العموم حتى يقوم دليل على تخصيصه. تخصيص العام: تخصيص العام في اصطلاح الأصوليين هو تبيين أن مراد الشارع من العام ابتداء بعض أفراده لا جميعها، أو هو تبيين أن الحكم المتعلق بالعام من ابتداء تشريعه حكم لبعض أفراده، فحديث: "لا قطع في أقل من ربع دينار" تخصيص للعام في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ؛ لأنه تبيين؛ لأن حكم القطع ما شرع لكل سارق وسارقة؛ وحديث: "ليس للقاتل ميراث" تخصيص لعموم الوارث في آيات المواريث؛ لأنه تبيين؛ لأن حكم الإرث ما شرع لكل قريب. إما إذا شرع الحكم ابتداء متعلقا بكل أفراد العام، ثم قضت المصلحة بقصر الحكم على بعض أفراده، وقام الدليل على هذا القصر فلا يسمى هذا في اصطلاح الأصوليين تخصيصًا، وإنما يسمى نسخا جزئيا؛ لأنه إبطال العمل بحكم العام بالنسبة لبعض أفراده. فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ، هو نسخ جزئي للعام في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ؛ لأن هذه الآية الثانية بعمومها تشمل كل قاذف سواء قذف زوجته أو غيرها، وقد شرع الحكم ابتداء عامًا، ثم قام الدليل وهو آيات اللعان على قصر الجلد على القاذف الذي يقذف غير زوجته، ودل على هذا حديث ابن مسعود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قال: كنا جلوسا في المسجد ليلة الجمعة إذ دخل أنصاري فقال: يا رسول الله، أرأيتم الرجل يجد مع زوجته رجلًا، فإن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ، ثم قال: اللهم افتح، فنزلت آية اللعان في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ... } الآيات. ومن هذا ينتج أن التخصيص في اصطلاح الأصوليين لا بد أن يكون بدليل مقارنة لتشريع العام؛ لأن بهذه المقارنة يتبين أن المراد ابتداء من العام بعض أفراده، وأما إذا كان متأخرًا عنه فهو نسخ جزئي له. دليل التخصيص: ودليل التخصيص قد يكون غير مستقل لفظا عن نص العام بأن يكون متصلا به وكالجزء منه. وقد يكون مستقلا عن نص العام، ومنفصلا عنه. ومن أظهر الأدلة المتصلة غير المستقلة: الاستثناء، والشرط، والوصف، والغاية. فالاستثناء كقوله تعالى في آية المداينة، بعد أن أر بكتابة الدين المؤجلة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} . والشرط كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . والوصف كقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، والغاية كقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} . ومن أظهر أدلة التخصيص المستقلة المنفصلة: العقل، والعرف، والنص، وحكمة التشريع. فمن التخصيص بالعقل ما بيناه من قبل من تخصيص الناس في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} بمن عدا فاقدي الأهلية من الصبيان والمجانين، وتخصيص العام في كل خطاب تكليفي بمن هم أهل للتكليف. وتخصيص أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب بالقادرين على الجهاد مع الرسول؛ لأن العقل يقضي بأن يوجه الخطاب إلى من هم أهل له، وأن يخص بالتكليف من توافرت فيهم الأهلية للمكلف به، والشرع يؤيد هذا التخصيص الذي يقتضيه العقل، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية. ومن التخصيص بالعرف، تخصيص الوالدات في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} بمن عدا الوالدة الرفيعة القدر، التي ليس من عادة مثلها أن تلزم بإرضاع ولدها، كما ذهب إلى هذا الإمام مالك، وتخصيص الطعام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 في حديث نهي رسول الله عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا بالطعام الذي كان متعارفا إطلاق لفظ الطعام عليه وقت التشريع، وتخصيص كل شيء في قوله تعال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} بكل شيء قابل للتدمير. وبعض الأصوليين يعتبر دليل التخصيص في المثال الأخير الحس، وبعضهم يعتبره العقل والنتيجة واحدة، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فكثيرا ما يخصص العرف بعض الألفاظ العامة في مواد القانون، وكثيرا ما يخصص العرف التجاري بعض النصوص العامة في صيغ العقود. ومن التخصيص بالنص: ما أشرنا إليه من قبل، في مواضع كثيرة، كقوله تعالى في المطلقات قبل الدخول: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الذي خصص عموم قوله سبحانه: {الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} . ولا خلاف بين الأصوليين، في أنه يجوز تخصيص عام القرآن بالقرآن والسنة المتواترة؛ لأن نصوص القرآن والسنة المتواترة قطعية الثبوت، فيخصص بعضها بعضًا. وأما تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة، فذهب جمهور الأصوليين إلى أنه سائغ، واحتجوا بوقوعه والاتفاق على العمل به. فحديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". خصص عموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، وحديث: "ليس للقاتل ميراث"، خصص عموم الوارث في آيات المواريث؛ والرجم خصص عموم الزاني والزنية، وحديث: "لا قطع في أقل من ربع دينار"، خصص عموم السارق والسارقة، وحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، خصص عموم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، ودعوى تواتر بعض هذه الأحاديث أو شهرتها لا يقوم عليها دليل، وهذا المذهب هو السديد. والذين منعوا تخصيص عام الكتاب بالسنة غير المتواترة يصطدمون بعدة تخصيصات نبوية، لا سبيل لهم إلى إنكارها، ولا إلى تأويلها، ولا إلى إثبات تواترها. وتخصيص نصوص في القوانين الوضعية لنصوص عامة فيها كثير. فمن ذلك المادة 164 من القانون المدني، التي تجعل التمييز مناط المسؤلية عن العمل غير المشروع وتعويض ما ينجم عنه من ضرر، فقد خصصت بفقرتها الثانية إذا تقرر أنه وقع الضرر من شخص عديم التمييز ولم يكن من يسأل عنه، أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول، فإنه يجوز للقاضي إلزام من وقع منه الضرر بتعويض عادل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: إذا ورد النص الشرعي بصيغة عامة وجب العمل بعمومه الذي دلت عليه صيغته، ولا اعتبار لخصوص السبب الذي ورد الحكم بناء عليه، سواء كان السبب سؤالا أم واقعة حدثت؛ لأن الواجب على الناس اتباعه هو ما ورد به نص الشارع، وقد ورد نص الشارع بصيغة العموم فيجب العمل بعمومه، ولا تعتبر خصوصيات السؤال أو الواقعة التي ورد النص بناء عليها؛ لأن عدول الشارع في نص جوابه أو فتواه عن الخصوصيات، إلى التعبير بصيغة العموم قرينة على عدم اعتباره تلك الخصوصيات. روى أن قوما قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر، ولو توضأنا بما معنا من الماء خشينا العطش، أنتوضأ بماء البحر؟ فقال الرسول: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". فهذه الصيغة العامة -هو الطهور ماؤه- تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهر كل أنواع التطهير في حال الضرورة والاختيار. فيجب العمل بعمومها، ولا عبرة بكون السؤال ورد خاصا عن التوضؤ، ولا بكون السائلين سألوا عن حالة ضرورتهم إلى الماء خشية العطش، وروي أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد، وقد أخذ عمهما مالهما، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال الرسول لعم البنتين: "أعط البنتين الثلثين وللزوجة الثمن وما بقي فهو لك"، فهذا الحديث يدل بعمومه على أن لبنتي المتوفى الثلثين، ولا اعتبار لكونهما لا مال لهما أو لكون أبيهما قتل في أحد. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- مر بشاة ميمونة وهي ميتة فقال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" فكل جلد دبغ صار طاهرا ولا اعتبار لخصوص جلد الشاة. قال الآمدي في الأحكام: أكثر العموميات وردت على أسباب خاصة فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان. وآية الظاهر نزلت في حق مسلمة بن صخر. وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية، إلى غير ذلك. والصحابة عمموا أحكام هذه الآيات من غير نكير فدل على أن السبب غير مسقط للعموم، نعم إذا ورد النص جوابا غير مستقل بنفسه عن السؤال بأن كان الجواب نعم أو لا، أو ما في أحدهما، فإنه يكون تابعا للسؤال في عمومه وخصوصه. أما في عمومه، فمثاله ما روي أن رسول الله سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس"؟، قالوا: نعم، قال: "فلا إذن". وأما في خصوصه فمثاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قول الرسول لأبي بردة، وقد سأله عن الأضحية بجذعة من المعز: "تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك". فما دام الجواب الشرعي عن السؤال وورد تابعا للسؤال غير مستقل بنفسه، فهو تابع للسؤال في عمومه وخصوصه. وكان السؤال معادا في الجواب. وأما الجواب المستقل إذا ورد عاما فهو عام ولا عبرة بخصوصيات سببه، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فمادة تحديد سن الزواج عامة، ولا عبرة بخصوصيات الواقعة، أو الوقائع التي كانت سببا في تشريعها. والمواد التي منعت سماع دعوى الزواج أو الطلاق أو النفقة في بعض الحالات عامة، ولا عبرة بخصوصيات الوقائع التي كانت سببًا في تشريعها، والمادة 115 من الدستور التي كانت توجب التجديد النصفي كل خمس سنوات عامة، ولا عبرة بخصوصيات السبب الذي بني عليه تشريعها؛ لأن السبب كما قال الإمام الشافعي: لا يصنع شيئا، إنما تصنع الألفاظ. ويلاحظ الفرق بين حكمة تشريع النص وبين ما ورد النص بناء عليه من سؤال أو واقعة، فإن حكمة تشريع العام قد تخصصه بلا خلاف. وأما ما ورد في النص بناء عليه فهو المراد بقولهم، لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته وإذا ورد في النص لفظ خاص ثبت الحكم لمدلوله قطعا، ما لم يقم دليل على تأويله وإرادة معنى آخر منه، فإن ورد مطلقا أفاد ثبوت الحكم على الإطلاق ما لم يوجد دليل يقيده. وإن ورد على صيغة الأمر أفاد إيجاب المأمور به ما لم يوجد دليل يصرفه عن الإيجاب، وإن ورد على صيغة النهي أفاد تحريم المنهي عنه ما لم يوجد دليل يصرفه عن التحريم. اللفظ الخاص: هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص مثل محمد. أو واحد بالنوع مثل رجل، أو على أفراد متعددة محصورة مثل ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على عدد من الأفراد، ولا تدل على استغراق جميع الأفراد. وقد يرد اللفظ الخاص مطلقا من أي قيد، وقد يرد مقيدا بقيد، وقد يكون على صيغة طلب بالفعل؛ مثل "اتق الله". وقد يكون على صيغة النهي عن الفعل مثل: "ولا تجسسوا" فيندرج في الخاص المطلق، والمقيد والأمر والنهي. وحكم الخاص على وجه الإجمال، أنه إذا ورد نص شرعي دل دلالة قطعية على معناه الخاص الذي وضع له حقيقة، وثبت الحكم لمدلوله على سبيل القطع لا الظن. فالحكم المستفاد من قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} هو وجوب عشرة مساكين، ولا تحتمل العشرة نقصا ولا زيادة. والحكم المستفاد من حديث: "في كل أربعين شاة شاة"، هو تقدير النصاب الذي تجب الزكاة فيه من الغنم بأربعين، وتقدير الواجب بشاة بلا احتمال زيادة أو نقص في هذا أو ذاك. ولكن إذا قام دليل يقتضي تأويل هذا الخاص، أي إرادة معنى آخر منه يحتمل على ما اقتضاه الدليل. ومثال هذا ما قدمناه في تأويل علماء الحنفية الشاة في الحديث السابق بما يعم الشاة وقيمتها. وتأويلهم الصاع من تمر أو شعير في صدقة الفطر بما يعم الصاع وقيمته. وتأويلهم الصاع من تمر في حديث المصراة بما يشمله، ويشمل أي عوض يماثل المتلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فإذا ورد الخاص مطلقا حمل على إطلاقه، وإذا ورد مقيدًا حمل على تقيده. والفرق بين اللفظ الملطق واللفظ المقيد: أن المطلق هو ما دل على فرد غير مقيد لفظًا بأي قيد، مثل: مصري، ورجل، وطائر. والمقيد هو ما دل على فرد مقيد لفظا بأي قيد، مثل: مصري مسلم، ورجل رشيد، وطائر أبيض. فالمطلق يفهم على إطلاقه إلا إذا قام دليل على تقييده. فإن قام الدليل على تقييده كان هذا الدليل صارفًا له عن إطلاقه ومبينًا المراد منه. ففي قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الوصية مطلقة قيدت بالحديث، الذي دل على أنه لا وصية بأكثر من الثلث، فصار المراد في الآية الوصية التي في حدود ثلث التركة. وإذا ورد اللفظ مطلقًا في نص شرعي، وورد هو نفسه مقيدًا في نص آخر. فإذا كان موضوع النصين واحدًا بأن كان الحكم الوارد فيهما متحدا، والسبب الذي بني عليه الحكم متحدا. حمل المطلق على المقيد، أي كان المراد من المطلق هو المقيد؛ لأنه مع اتحاد الحكم والسبب، لا يتصور الاختلاف بالإطلاق والتقييد، فيكون المطلق مقيدا بقيد المقيد. مثال هذا قوله تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ......... } الدم هنا مطلق عن القيد. وقوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الدم هنا مقيد بالمسفوح. فالمراد بالدم في آية المائدة الدم المسفوح المنصوص على تحريمه في آية الأنعام؛ لأن الحكم في الآيتين واحد وهو التحريم، والسبب الذي بني عليه الحكم فيهما واحد وهو كونه دمًا. فلو كان الدم المحرم مطلق الدم خلا القيد وهو "مسفوحا" من الفائدة. أما إذا اختلف النصان في الحكم، أو في السبب، أو فيهما معا، فلا يحمل المطلق على المقيد بل يعمل بالمطلق على إطلاقه في موضعه، وبالقيد على قيده في موضعه؛ لأن اختلاف الحكم والسبب أو أحدهما قد يكون هو علة الاختلاف إطلاقًا وتقييدًا، وهذا مذهب الحنفية وأكثر المالكية. أما الشافعية فوافقوهم إذا اختلف النصان حكما وسببا أو حكما فقط، وأما إذا اختلفا في السبب واتحدا في الحكم فيحمل المطلق على المقيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 مثال النصين المختلفين حكما مع اتحاد السبب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ..... } وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} . والسبب في الآيتين واحد وهو التطهر لإقامة الصلاة. والحكم في الأولى وجوب الغسل وفي الثانية وجوب المسح، ومثله قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} . ومثال النصين المتحدين حكمًا المختلفين سببًا، قوله تعالى في كفارة القتل خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وقوله تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} . وقوله في شهود المداينة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . وقوله في شهود المراجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . ففي الآيتين الأوليين الحكم واحد وهو وجوب تحرير رقبة، والسبب في الوجوب مختلف؛ لأنه في الأولى القتل خطأ، وفي الثانية إرادة المظاهر أن يعود إلى زوجته. وفي الآيتين الثانيتين الحكم واحد وهو وجوب الاستشهاد بشهيدين، والسبب في الوجوب مختلف؛ لأنه في إحداهما المداينة، وفي الثانية المراجعة. فلا يعتبر المقيد بيانا للمطلق ويحمل المطلق عليه إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا اتحد موضوعهما حكمًا وسببًا. وأما إذا اختلفا حكما، أو اختلافا سببا، فلا يحمل المطلق على المقيد بل يفهم المطلق في موضعه على إطلاقه، ويفهم المقيد في موضعه على قيده؛ لأن اختلاف الحكم قد يكون سببا في الاختلاف بالإطلاق والتقييد، أي أنه لما كان الحكم في آية الوضوء وجوب غسل الأيدي، قيدها بكونها إلى المرافق. ولما كان الحكم في آية التيمم وجوب مسح الأيدي، يقيدها بكونها إلى المرافق. ولما كان الحكم في آية التيمم وجوب مسح الأيدي، أطلقها ولم يقيدها بكونها إلى المرافق؛ لأن التيمم رخصة شرعت للتخفيف عند عدم وجود الماء، فيناسبه التخفيف أيضا في إطلاق اليد فيجزئ كل ما يصدق عليه لفظ يد. وكذلك الحال إذا اختلف السبب فقد يكون القتل خطأ اقتضى تقييد الرقبة بالإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 تشديدا للعقوبة، وإرادة المظاهر العودة لم يقتض هذا التشديد فجزئ تحرير أية رقبة. صيغة الأمر: إذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة الأمر أو صيغة الخبر التي في معنى الأمر أفاد الإيجاب؛ أي طلب الفعل المأمور به أو المخبر عنه على وجه الإلزام والحتم. فقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أفاد إيجاب قطع يد السارق والسارقة. وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} أفاد إيجاب تربص المطلقة ثلاثة قروء؛ لأن الرأي الراجح هو أن صيغة الأمر وما في معناها موضوعة لغة للإيجاب. واللفظ عند إطلاقه يدل على معناه الحقيقي الذي وضع له، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بقرينة. فإن وجدت قرينة تصرف صيغة الأمر عن الإيجاب إلى معنى آخر فهم منها ما دلت عليه القرينة كالإباحة في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} . والندب في قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله: {مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، والتهديد في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} والتعجيز في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ، وغير ذلك مما تدل عليه صيغة الأمر بالقرائن. وإذا لم توجد قرينة اقتضى الأمر الإيجاب. وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة الأمر مشتركة بين عدة معان، ولا بد من قرينة لتعيين أحد معانيها شأن كل مشترك، فهي موضوعة لمعان متعددة. وصيغة الأمر لا تدل لغة على أكثر من طلب إيجاد الفعل المأمور به، ولا تدل على طلب تكرير الفعل المأمور به، ولا على وجوب فعله فورا. فالتكرير أو المبادرة بالفعل لا تدل الصيغة عند إطلاقها على واحد منهما؛ لأن مقصود الأمر هو حصول المأمور به، هذا المقصود يتحقق بوقوعه مرة في أي وقت. فإن وجدت قرينة تدل على التكرير كان هذا التكرير مستفادا من القرينة لا من الصيغة. وكذلك إن وجدت قرينة تدل على المبادرة. ففي قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} استفيد تكرير طلب الصيام من تعليق الأمر به بشرط متكرر وهو شهود الشهر، كأنه قال: فكلما شهد أحدكم الشهر وجب عليه الصيام، وكذا في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . وفي الواجبات المحددة بأوقات استفيدت المبادرة من تحديد وقت للواجب يفوت بانتهائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وفي الأوامر بالخيرات استفيد المبادرة من قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} . صيغة النهي: إذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة النهي أو صيغة الخبر التي في معنى النهي أفاد التحريم، أي طلب الكف عن المنهي عنه على وجه الإلزام والحتم. فقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أفاد تحريم زواج المسلم بالمشركات. وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} أفاد تحريم أخذ عوض من المطلقات؛ لأن صيغة النهي على الرأي الراجح، موضوعة لغة للدلالة على التحريم فيفهم منها عند الإطلاق. وإذا وجدت قرينة تصرفها عن المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي، فهم منها ما دلت عليه القرينة، كالدعاء في قوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} ، والكراهة في قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة النهي من باب المشترك هي كالأمر والخلاف فيهما واحد. والنهي يقتضي طلب الكف دائما وفورا؛ لأنه لا يتحقق المطلوب وهو الكف إلا إذا كان دائما، بمعنى أنه كلما دعت المكلف نفسه إلى فعل المنهي عنه كفها، فالتكرير ضروري لتحقيق الامتثال في النهي. وكذلك المبادرة؛ لأن النهي عن الفعل إنما هو تحريمه لتلافي ما فيه من مضار، وهذا واجب في الحال؛ لأن من نهى عن الشيء إذا فعله ولو مرة في أي وقت لا يتحقق أنه امتثل، فتكرير الكف وكونه على الفور من مقتضيات النهي، فصيغة النهي المطلق تقتضي الفور والتكرير، وصيغة الأمر المطلق لا تقتضي فورًا ولا تكريرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع ... القسم الرابع: في الأصول التشريعية القاعدة الأولى: في المقصد العام من التشريع "والمقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجتهم وتحسينياتهم. فكل حكم شرعي ما قصد به إلا واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس. ولا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي، لا يراعي حاجي ولا تحسيني إذا كان في مراعاة أحدهما إخلال بضروري". هذه القاعدة الأولى بينت المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام الشرعية؛ سواء أكانت تكليفية أم وضعية. وبينت مراتب الأحكام باعتبار مقاصدها. ومعرفة المقصد العام للشارع من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. لأن دلالة اللفظ والعبارات على المعاني، قد تحتمل عدة وجوه. والذي يرجح واحدا من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع؛ ولأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها. والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع؛ ولأن كثيرا من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص. وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامه بأي دليل من الأدلة الشرعية، والهادي في هذا الاستدلال هو معرفة مقصد الشارع. ولهذا يعني رجال السلطة التشريعية في الحكومات الحاضرة بوضع المذكرات التفسيرية، التي تبين المقصد من تشريع القانون بوجه عام، وتبين المقصد الخاص من كل مادة من مواده. وهذه المذكرات التفسيرية وجميع البحوث والمناقشات التي تبودلت أثناء تحضير القانون وتشريعه هي عون رجال القضاء على فهم القانون، وتطبيقه بنصوصه وروحه ومعقوله. وكذلك نصوص الأحكام الشرعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام. وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية، أو وردت السنة القولية أو العملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فالمقصد العام للشارع من التشريع هو المبين في هذه القاعدة الأصولية الأولى، وأما الوقائع الجزئية التي شرعت لها الأحكام فهي مبينة في كتب التفسير وأسباب النزول وصحاح السنة. ومنطوق هذه القاعدة: أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة، بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم؛ لأن مصالح الناس في هذه الحياة تتكون من أمور ضرورية لهم، وأمور حاجية وأمور تحسينية، فإذا توافرت لهم ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم فقد تحققت مصالحهم، والشارع الإسلامي شرع أحكاما في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينيات للأفراد والجماعات، وما أهمل ضروريا ولا حاجيا ولا تحسينيا من غير أن يشرع حكما لتحقيقه وحفظه، وما شرع حكما إلا لإيجاد وحفظ واحد من هذه الثلاثة، فهو ما شرع حكما إلا لتحقيق مصالح الناس، وما أهم مصلحة اقتضتها حال الناس لم يشرع لها حكما. أما البرهان على أن مصالح الناس لا تعدو هذه الأنواع الثلاثة فهو الحس والمشاهدة؛ لأن كل فرد أو مجتمع تتكون مصلحتهم من أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية، مثلا: الضروري لسكنى الإنسان مأوى يقبه حر الشمس وزمهرير البرد ولو مغارة في الجبل. والحاجي أن يكون المسكن مما يسهل فيه السكنى بأن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب الحاجة، والتحسيني أن يجمل ويؤثث وتوفر فيه وسائل الراحة، فإذا توافر له ذلك فقد تحققت مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه، وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه الأنواع الثلاثة له. ومثل الفرد المجتمع، فإذا توافر لأفراده ما يكفل إيجاد وحفظ ضرورياتهم وحاجيتهم وتحسيناتهم، فقد يتحقق لهم ما يكفل لهم مصالحهم. أما البرهان على أن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد واحد من هذه الأمور الثلاثة، وحفظه فهو استقراء الأحكام الشرعية الكلية، والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، واستقراء العلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقبل أن نعرض أمثلة من هذا الاستقراء نبين المراد شرعا بالضروري، وبالحاجي وبالتحسيني. فأما الأمر الضروري: فهو ما تقوم عليه حياة الناس ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى والمفاسد. والأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. فحفظ كل واحد منها ضروري للناس. وأما الأمر الحاجي: فهو ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واحتمال مشاق التكاليف، وأعباء الحياة. وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى كما إذا فقد الضروري، ولكن ينالهم الحرج والضيق، والأمور الحاجية للناس بهذا المعنى ترجع إلى رفع الحرج عنهم، والتخفيف عليهم ليحتملوا مشاق التكاليف. وتيسر لهم طرق التعامل والتبادل وسبل العيش. وأما التحسيني: فهو ما تقتضيه المروءة والآداب، وسير الأمور على أقوم منهاج، وإذا فقد لا يختل نظام حياة الناس كما إذا فقد الأمر الضروري، ولا ينالهم حرج، كما إذا فقد الأمر الحاجي، ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة، والأمور التحسينية للناس بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وكل ما يقصد به سير الناس في حياتهم على أحسن منهاج. ما الذي شرعه الإسلام للأمور الضرورية للناس؟ الأمور الضرورية للناس كما قدمنا ترجع إلى خمسة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكامًا تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاما تكفل حفظه وصيانته. بهذين النوعين من الأحكام حقق للناس ضرورياتهم. فالدين هو مجموعة العقائد والعبادات، والأحكام والقوانين التي شرعها الله سبحانه لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقتهم بعضهم ببعض. وقد شرع الإسلام لإيجاده، وإقامته إيجاب الإيمان وأحكام القواعد الخمس التي بني عليها الإسلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت؛ وسائر العقائد، وأصول العبادات، التي قصد الشارع بتشريعها، إقامة الدين وتثبيته في القلوب باتباع الأحكام التي لا يصلح الناس إلا بها، وأوجب الدعوة إليه وتأمين الدعوة إليه من الاعتداء عليها وعلى القائمين بها ومن وضع عقبات في سبيلها. وشرع لحفظه وكفالة بقائه وحمايته من العدوان عليه أحكام الجهاد، لمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة إليه، ومن يفتن متدينا ليرجعه عن دينه، وعقوبة من يرتد عن دينه، وعقوبة من يبتدع، ويحدث في الدين ما ليس منه أو يحرف أحكامه عن مواضعها، والحجر على المفتي الماجن الذي يحل المحرم. النفس: شرع الإسلام لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وبقاء النوع على أكمل وجوه البقاء. وشرع لحفظها وكفالة حياتها، إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن، وإيجاب القصاص والدية والكفارة على من يعتدي عليها، وتحريم الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها. وشرع لحفظ العقل تحريم العقل تحريم الخمر وكل مسكر، وعقاب من يشربها أو يتناول أي مخدر. وشرع لحفظ العرض حد الزاني والزانية وحد القذف. والمال: شرع الإسلام لتحصيله وكسبه، إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات التجارية والمضاربة. وشرع لحفظه وحمايته تحريم السرقة، وحد السارق والسارقة، وتحريم الغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، وإتلاف مال الغير، وتضمين من يتلف مال غيره، والحجز على السفيه وذي الغفلة، ودفع الضرر وتحريم الربا. وكفل حفظ الضروريات كلها بأن أباح المحظورات للضرورات. فمن هذا يتبين أن الإسلام شرع أحكاما في مختلف أبواب العبادات، والمعاملات والعقوبات تقصد إلى كفالة ما هو ضروري للناس بإيجاده، وبحفظه وحمايته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقد دل على هذا القصد بما قرنه ببعض هذ الأحكام من العلل والحكم التشريعية. كقوله تعالى في إيجاب الجهاد: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، وقوله في إيجاب القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، وقوله سبحانه: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} . وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تعليل النهي عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه: "أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه"؟. إلى غير ذلك من العلل التي تدل على أن قصد الشارع حماية الدين، والنفس والأموال وكل ما هو ضروري للناس. ما الذي شرعه الإسلام للأمور الحاجية للناس! الأمور الحاجية للناس، كما قدمنا ترجع إلى ما يرفع الحرج عنهم، ويخفف عنهم أعباء التكليف، وييسر لهم طرق المعاملات والمبادلات؛ وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات، والعقوبات جملة أحكام المقصود بها رفع الحرج واليسر بالناس. ففي العبادات شرع الرخص ترفيها، وتخفيفا عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم، فأباح الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وقصر الصلاة الرباعية للمسافر، والصلاة قاعدا لمن عجز عن القيام. وأباح التيمم لمن لم يجد الماء، والصلاة في السفينة ولو كان الاتجاه لغير القبلة. وغير ذلك من الرخص التي شرعت لرفع الحرج عن الناس في عبادتهم. وفي المعاملات، شرع كثيرا من أنواع العقود والتصرفات التي تقتضيها حاجات الناس، كأنواع البيوع والإجارات والشركات والمضاربات، ورخص في عقود لا تنطبق على القياس، وعلى القواعد العامة في العقود، كالسلم وبيع الوفاء1 والاستصناع، والمزارعة والمساقاة، وغير ذلك مما جرى عليه عرف الناس ودعت إليه حاجتهم. وشرع الطلاق للخلاص من الزوجية عند الحاجة، وأحل الصيد وميتة البحر والطيبات من الرزق، وجعل الحاجات مثل الضروريات في إباحة المحظورات.   1 من العقود المستحدثة في القرن الخامس الهجري، وجمهور الفقهاء يعتبرونه باطلا؛ لأنه يشتمل على بيع وشرط 10هـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وفي العقوبات جعل الدية على العاقلة تخفيفا عن القاتل خطأ، وردأ الحدود بالشبهات، وجعل لولي المقتول حق العفو عن القصاص من القاتل. وقد دل على ما قصد بهذه الأحكام من التخفيف، ورفع الحرج بما قرنه ببعضها من العلل والحكم التشريعية. كقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} ، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة". ما الذي شرعه الإسلام للأمور التحسينية للناس؟ الأمور التحسينية للناس كما قدمنا، ترجع إلى كل ما يجمل حالهم ويجعلها على وفاق ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق. وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات، والعقوبات أحكاما تقصد إلى هذا التحسين والتجميل، وتعود الناس أحسن العادات وترشدهم إلى أحسن المناهج وأقومها. ففي العبادات شرع الطهارة للبدن، والثوب، والمكان، وستر العورة، والاحتراز عن النجاسات. والاستنزاه من البول. وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد، وإلى التطوع بالصدقة والصلاة والصيام، وفي كل عبادة شرع مع أركانها وشروطها آدابًا لها، ترجع إلى تعويد الناس أحسن العادات. وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير، وحرم التعامل في كل نجس وضار، ونهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، وعن تلقي الركبان، وعن التسعير، وغير ذلك مما يجعل معاملات الناس على أحسن منهاج. وفي العقوبات، يحرم في الجهاد قتل الرهبان والصبيان والنساء، ونهى عن المثلة والغدر، وقتل الأعزل، وإحراق ميت أو حي. وفي أبواب الأخلاق وأمهات الفضائل قرر الإسلام ما يهذب الفرد والمجتمع ويسير بالناس في أقوام السبل. وقد دل سبحانه على قصده التحسين، والتجميل بالعلل والحكم التي قرنها ببعض أحكامه، كقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فاستقراء الأحكام الشرعية والعلل والحكم التشريعية في مختلف الأبواب والوقائع ينتج أن الشارع الإسلامي ما قصد من تشريعه الأحكام إلا حفظ ضروريات الناس وحاجياتهم وتحسينياتهم، وهذه هي مصالحهم. وقد أفاض الإمام أبو إسحاق الشاطبي في أول الجزء الثاني من كتاب "الموافقات"، فبإثبات هذا بما لا مزيد عليه. وبعد أن أتى بأمثلة عديد من أحكام الشريعة وحكم تشريعها تدل على أن كل حكم شرعي، إنما قصد بتشريعه حفظ واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس، قال ما نصه: "إن الظواهر، والعمومات، والمطلقات، والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، يؤخذ منها أن التشريع دائر حول حفظ هذه الثلاث التي هي أسس مصالح الناس". وقد اقتضت حكمة الشارع الإسلامي، وما أراده من حفظ هذه الأنواع الثلاثة على أتم وجه، أن شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع منها أحكاما تعتبر مكملة لها في تحقيق هذه المقاصد. ففي الضروريات لما شرع إيجاب الصلاة لحفظ الدين، شرع أداءها جماعة وإعلانها بالأذان، لتكون إقامة الدين وحفظه أتم بإطهار شعائره والاجتماع عليها. ولما أوجب القصاص لحفظ النفوس، وشرع التماثل فيه ليؤدي إلى الغرض منه من غير أن يثير العداوة والبغضاء؛ لأن قتل القاتل بصورة أفظع مما فعل قد تؤدي إلى سفك الدماء، وإلى نقيض المقصود من القصاص. ولما حرم الزنا لحفظ العرض حرم الخلوة بالأجنبية سدا للذريعة. ولما حرم الخمبر حفظا للعقل حرم القليل منه ولو لم يسكر. وجعل كل ما لا يتم الواجب إلا به واجبا، ولك ما يؤدي إلى المحظورات محظورا. وحذر من كثير من المباحات، وقيد كثيرا من المطقات، وخصص كثيرا من العمومات سدا للذرائع. ولما قد شرع الزواج للتوالد والتناسل، اشترط الكفاءة بين الزوجين تكميلًا للوفاق وحسن المعاشرة. فالأحكام التي شرعها لحفظ الضروريات كملها بتشريع أحكام تحقق هذا المقصد على أكمل وجوهه. وفي الحاجيات لما شرع أنواع المعاملات من بيوع، وإيجارات وشركات ومضاربات، كملها بالنهي عن الغرر والجهالة وبيع المعدوم، وبيان ما يصح اقتران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 العقد به من شروط وما لا يصح، وغير ذلك مما يقصد به أن تكون المعاملات فيها سد حاجة الناس من غير أن تثير الخصومات والأحقاد. وفي التحسينيات لما شرط الطهارة ندب فيها عدة أشياء تكملها. ولما ندب إلى التطوع جعل الشروع فيه موجبا له، حتى لا يعتاد المكلف إبطال عمله الذي شرع فيه قبل أن يتمه. ولما ندب الإنفاق ندب أن يكون الإنفاق من طيب الكسب. فمن حقق النظر في أحكام الشريعة الإسلامية، يتبين أن المقصود من كل حكم شرع فيها حفظ ضروري للناس، أو حاجي لهم، أو تحسيني، أو مكمل لما حفظ واحدًا منها. ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها: مما قدمنا في بيان المراد من الضروري والحاجي، والتحسيني يتبين أن الضروريات أهم هذه المقاصد؛ لأنها يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة، وشيوع الفوضى بين الناس وضياع مصالحهم، وتليها الحاجيات؛ لأنه يترتب على فقدها وقوع الناس في الحرج والعسر، واحتمال المشقات التي قد تنوء بهم؛ وتليها التحسينيات؛ لأنه لا يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة ولا وقوع الناس في الحرج. ولكن يترتب على فقدها خروج الناس عن مقتضى الكمال الإنساني والمروءة، وما تستحسنه العقول السليمة. فالأحكام الشرعية لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة. وتليها الأحكام التي شرعت لتوفير الحاجيات. ثم الأحكام التي شرعت للتحسين والتجميل، وتعتبر الأحكام التي شرعت للتحسينيات كالمكملة التي شرعت للحاجيات. وتعتبر الأحكام التي شرعت للحاجيات كالمكلمة التي شرعت لحفظ الضروريات. فلا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري أو حاجي؛ لأن المكمل لا يراعى إذا كان في مراعاته إخلال بما هو مكمل له. ولذا أبيح كشف العورة إذا قتضى هذا علاج أو عملية جراحية؛ لأن ستر العورة تحسيني، والعلاج ضروري. وأبيح تناول النجس إذا كان دواء أو اضطر إليه؛ لأن الاحتراز عن النجاسات تحسيني؛ والمداواة، ودفع الضروريات ضروري. وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أبيح بيع المعدوم في السلم والاستصناع، واغتفرت الجهالة في المزارعة والمساقاة وبيع الغائب؛ لأن حاجة الناس قضت بأن لا تراعى هذه التحسينيات. ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري. ولهذا تجب الفرائض والواجبات على المكلفين الذين ليسوا في حال تبيح لهم الرخصة وإن شق عليهم ما كلفوا به، إذ كل تكليف فيه كلفة ومشقة. فلو روعي أن لا تنال المكلف أية مشقة لأهملت عدة من الأحكام الضرورية من عبادات وعقوبات وغيرها؛ لأن كل ما أمر به المكلف أو نهى عنه لحفظ الضروريات لا يخلو امتثاله من مشقة عليه، ولكن احتملت هذه المشقة في سبيل حفظ الضروريات للمكلفين. وأما الأحكام الضرورية فتجب مراعاتها، ولا يجوز الإخلال بحكم منها إلا إذا كانت مراعاة ضروري تؤدي إلى الإخلال بضروري أهم منه. ولهذا وجب الجهاد حفاظًا للدين وإن كان فيه تضحية النفس؛ لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس. وأبيح شرب الخمر إذا أكره على شربها بإتلاف نفسه أو عضو منه أو اضطر إليها في ظمأ شديد؛ لأن حفظ النفس أهم من حفظ العقل، وإذا أكره على إتلاف مال غيره، أبيح له أن يقي نفسه من الهلاك بإتلاف مال غيره. فبهذه الأحكام فيها إهمال حكم ضروري مراعاة لحكم ضروري أهم منه. فقد ثبت بالبرهان أن مقاصد الشارع مما شرعه من الأحكام، لا تعدو حفظ واحد من هذه الثلاثة أو ما يكمله، وأن هذه المقاصد مرتبة في مراعاتها حسب أهميتها، وعلى ترتيبها رتبت الأحكام التي شرعت لتحقيقها. وعلى هذه القاعدة الأصولية التشريعية الأولى، وضعت المبادئ الشرعية الخاصة بدفع الضرر، والمبادئ الشرعية الخاصة برفع الحرج، وعن كل مبدأ من هذه المبادئ تفرعت عدة فروع، واستنبطت جملة أحكام. وهذا بيان المبادئ الخاصة بدفع الضرر، وأمثلة مما تفرع على كل مبدأ منها: 1- الضرر يزال شرعًا: من فروعه: ثبوت حق الشفعة للشريك أو الجار، وثبوت الخيار للمشتري في رد المبيع بالعيب وسائر أنواع الخيارات، والجبر على القسمة إذا امتنع الشريك. ووجوب الوقاية والتداوي من الأمراض. وقتل الضار من الحيوان. وتشريع العقوبات على الجرائم من حدود وتعازير وكفارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 2- الضرر لا يزال بالضرر: من فروعه: لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره. ولا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر. 3- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام: من فروعه: يقتل القاتل لتأمين الناس على نفوسهم. تقطع اليد لتأمين الناس على أموالهم. يهدم الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام. يحجز على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس. يباع مال المدين جبرا عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه. تسعر أثمان الحاجيات إذا غلا أربابها في أثمانها. يباع الطعام جبرا على مالكه إذا احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع من بيعه. يمنع اتخاذ حانوت حداد بين تجار الأقمشة. 4- يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما: من فروعه: يحبس الزوج إذا ماطل في القيام بنفقة زوجته. يحبس القريب إذا امتنع عن الإنفاق على قريبه. وتطلق الزوجة للضرر وللإعسار. إذا اضطر المريض إلى تناول الميتة أو مال الغير تناوله. إذا عجز مريض الصلاة عن التطهير، أو ستر العورة أو استقبال القبلة صلى كما قدر؛ لأن ترك هذه الشروط أخف من ترك الصلاة. 5- دفع المضر مقدم على جلب منافع: ولذا جاء في الحديث: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، ومن فروعه: يمنع أن يتصرف المالك في ملكه إذا كان تصرفه يضر بغيره. يكره للصائم أن يبالغ في المضمضة، أو الاشتنشاق. 6- الضرورات تبيح المحظورات: من فروعه: من اضطر في مخمصة إلى ميتة أو دم أو أي محرم فلا إثم عليه في تناوله. من لم يستطع الدفاع عن نفسه إلا بالإضرار بغيره فلا إثم عليه في الدفاع به. من امتنع من أداء دينه يؤخذ الدين من ماله بغير إذنه. 7- الضرورات تقدر بقدرها: من فروعه: ليس للمضطر أن يتناول من المحرم إلا قدر ما يسد الرمق. ولا يعفى من النجاسة إلا القدر الذي لا يمكن الاحتراز عنه، وأحكام الرخص تبطل إذا زالت أسبابها. فالتيمم يبطل إذا تيسر التطهر بالماء، والفطر يحرم في رمضان إذا أقام المسافر الصحيح، وكل ما جاز لعذر يبطل بزواله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وهذا بيان المبادئ الخاصة برفع الحرج وأمثلة مما تفرع عنها: 1- المشقة تجلب التيسر: من فروعه: جميع الرخص التي شرعها الله ترفيها وتخفيفا عن المكلف لسبب من الأسباب التي تقتضي هذا التخفيف. وهذه الأسباب بالاستقراء سبعة: السفر: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، وسقوط الجمعة، والجماعة، والتيمم. المرض: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، والتيمم، والصلاة قاعدا، وتناول المحرم للعلاج. الإكراه: ومن أجله أبيح للمكره التلفظ بكلمة الكفر، وترك الواجب وإتلاف مال الغير، وأكل الميتة، وشرب الخمر. النسيان: ومن أجله رفع الإثم عمن ارتكب معصية ناسيا، ولم يبطل صوم من أكل في نهار رمضان أو شرب ناسيًا، ولم تحرم ذبيحة من ترك التسمية عليها عند ذبحها ناسيا. الجهل: ومن أجله ساغ رد المبيع لمن اشتراه جاهلا بعيبه. وساغ فسخ الزواج بالعيب لمن تزوج جاهلا به، واغتفر التناقض في دعوى النسب للجهل. وكذلك اغتفر التناقض للوارث والوصي، وناظر الوقف للجهل. عموم البلوى: ومن أجهله عفي عن رشاش النجاسات من طين الشوارع وغيره مما لا يمكن الاحتراز عنه. وعفي عن الغبن اليسير في المعاوضات. النقص: ومن فرعه رفع التكليف عن فاقد الأهلية كالطفل والمجنون، ورفع بعض الواجبات عن الأرقاء وعن النساء؛ ولذا لا تجب عليهن الجمعة، ولا الجماعة ولا الجهاد. 2- الحرج شرعا مرفوع: من فروعه: قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال من عيوب النساء وشئونهن، والاكتفاء بغلبة الظن دون التزام الجزم، والقطع في استقبال القبلة وطهارة المكان والماء والقضاء والشهادة، ومن فروعه ما قرروه من أنه إذا ضاق الأمر اتسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 3- الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات: من فروعه: الترخيص في السلم، وبيع الوفاء، والاستصناع، وضمان الدرك، وجواز الاستقراض بالربح للمحتاج، وغير ذلك مما فيه العقد أو التصرف على مجهول أو معدوم، ولكن قضت به حاجه الناس. ومما يتفرع على هذا المبدأ حكم كثير من عقود المعاملات، وضروب الشركات التي تحدث بين الناس وتقتضيها تجارتهم. فإنه إذا قام البرهان الصحيح، ودل الاستقراء التام على أن نوعًا من هذه العقود، أو التصرفات صار حاجيا للناس بحيث ينالهم الحرج والضيق إذا حرم عليهم هذا النوع من التعامل، أبيح لهم قدر ما يرفع الحرج منه، ولو كان محظورا لما فيه من الربا أو شبهته. بناء على أن الحاجات تبيح المحظورات كالضرورات، وتقدر بقدرها كالضرورات. قال صاحب الأشباه والنظائر: "ومن ذلك الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى، وهكذا بمصر، وقد سموه بيع الأمانة .... وفي القنية والبغية: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 القاعدة الثانية: فيما هو حق الله. وما هو حق المكلف "افعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية، إن كان المقصود بها مصلحة المجتمع عامة فحكمها حق خالص لله وليس للمكلف بها خيار، وتنفيذه لولي الأمر. وإن كان المقصود بها مصلحة المكلف خاصة، فحكمها حق خالص للمكلف وله في تنفيذه الخيار. وإن كان المقصود بها مصلحة المجتمع؛ والمكلف معًا؛ ومصلحة المجتمع فيها أظهر، فحق الله فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو حق خالص لله. وإن كانت مصلحة المكلف فيها أظهر، فحق المكلف فيها الغالب، وحكمها كحكم ما هو خالص للمكلف". القاعدة التشريعية الأولى تضمنت أن أحكام الإسلام بوجه عام إنما قصد بها تحقيق مصالح الناس. وهذه القاعدة التشريعة الثانية تضمنت أن المصلحة التي قصد بتشريع الحكم تحقيقها قد تكون مصلحة عامة للمجتمع، وقد تكون مصلحة خاصة للفرد، وقد تكون مصلحة لهما معا. المراد بما هو حق الله ما هو حق للمجتمع، وشرع حكمه للمصلحة العامة لا مصلحة فرد خاص. فلكونه من النظام العام، ولم يقصد به نفع فرد بخصوصه نسب إلى رب الناس جميعهم، وسمي حق الله. المراد بما هو حق المكلف ما هو حق للفرد، وشرع حكمه لمصلحته خاصة، وقد ثبت بالاستقراء أن أفعال المكلفين التي تعلقت بها الأحكام الشرعية. منها ما هو حق خالص لله، ومنها ما هو حق خالص للمكلف، ومنها ما اجتمع فيه الحقان، وحق الله غالب؛ ومنها ما اجتمع فيه الحقان، وحق المكلف الغالب. فأما ما هو حق خالص لله، فهو منحصر بالاستقراء فيما يأتي: 1- العبادات المحضة كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما بنيت عليه هذه العبادات من الإيمان والإسلام، فإن العبادات وأسسها مقصود بها إقامة الدين وهو ضروري لنظام المجتمع، وحكمة تشريع كل عبادة منها على أنها لمصلحة عامة لا لمصلحة المكلف وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 2- العبادات التي فيها معنى المئونة كصدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أنها تقرب إلى الله بالصدقة للفقراء والمساكين، ولكنها ليست عبادة محضة بل فيها معنى الضريبة على النفس، لبقائها وحفظها. وهذا مرادهم بأن فيها معنى المئونة، ولهذا لا تجب على الإنسان عن نفسه فقط، بل تجب عليه عن نفسه وعمن يعوله ممن هم في ولايته، كابنه الصغير وخادمه، ولو كانت العبادة محضة ما وجبت على الإنسان إلا عن نفسه، وكان ينبغي أن تعد الزكاة من هذا النوع لا من النوع الأول وهو العبادات المحضة؛ لأن الزكاة عبادة فيها معنى الضريبة على المال لبقائه وحفظه، ولهذا تجب على رأي جمهور المجتهدين في مال فاقد الأهلية كالصبي، والمجنون، ولو كانت عبادة محضة ما وجبت إلا على البالغ العاقل. 3- الضرائب التي فرضت على الأرض الزراعية، سواء كانت عشرية أم خراجية، وسواء كان المفروض على الأرض العشرية العشر أم نصف العشر، والمفروض على الخراجية خراج وظيفة أم خراج مقاسمة. فإن المقصود من هذه الضرائب صرفها في المصالح العامة التي يقتضيها بقاء الأرض في يد أربابها واستثمارها كإصلاح طرق الري والصرف، وإقامة الجسور، وتمهيد الطرق وحمايتها من العدوان عليها، ومعونة الفقراء، والمساكين، وغير ذلك مما تستوجبه المصلحة للعامة وللتأمين الاجتماعي. 4- الضرائب التي فرضت فيما يغنم بالجهاد، وفيما يوجد في باطن الأرض من الكنوز والمعادن. فإن الشارع جعل أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وخمسها لمصالح عامة بينها الله في القرآن بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وجعل أربعة أخماس ما يوجد من المعادن والكنوز للواجد، وخمسه لمصالح عامة بينها. 5- أنواع من العقوبات الكاملة وهي: حد الزنا، وحد السرقة، وحد البغاة الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، فهي لمصلحة المجتمع كله. 6- نوع من العقوبات القاصرة، وهو حرمان القاتل من الإرث فهو عقوبة قاصرة؛ لأنه عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني، أو غرم مالي. وهو حق الله؛ لأنه ليس فيه نفع للمقتول. 7- عقوبات فيها معنى العبادة، كالكفارة لمن حنث في يمينه، والكفارة لمن أفطر في رمضان عمدًا، والكفارة لمن قتل خطا أو ظاهر زوجته. فهي عقوبة؛ لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وجبت جزاء على معصية. ولهذا سميت كفارة، أي ستارة للإثم، وفيها معنى العبادة؛ لأنها تؤدي بما هو عبادة من صوم، أو صدقة، أو تحرير رقبة. فهذه الأنواع كلها حق خالص لله، وتشريعها لتحقيق مصالح الناس العامة، وليس للمكلف الخيرة فيها، وليس له إسقاطها؛ لأن المكلف لا يملك أن يسقط إلا حق نفسه. ولا أن يسقط صلاة أو صوما أو حجا أو زكاة، أو صدقة واجبة أو ضريبة مفروضة أو عقوبة من هذه العقوبات؛ لأنها ليست حقه. وأما ما هو حق خالص للمكلف فمثاله: تضمين من أتلف المال بمثله أو قيمته هو حق خالص لصاحب المال إن شاء ضمن وإن شاء ترك. وحبس العين المرهونة حق خالص للمرتهن، واقتضاء الدين حق خالص للدائن. فالشارع أثبت هذه الحقوق لأربابها، وهم لهم الخيرة إن شاءوا استوفوا حقوقهم، وإن شاءوا أسقطوها، ونزلوا عنها؛ لأن لكل مكلف الحق في أن يتصرف في حق نفسه. وهذه ليست من المصالح العامة. وأما ما اجتمع فيه الحقان وحق الله فيه غالب، فهو حد القذف؛ لأنه من جهة أنه صيانة لأعراض الناس، ومنع من التعادي والتقاتل يحقق مصلحة عامة، فيكون من حق الله؛ ومن جهة أنه دفع للعار عن المحصنة التي قذفت وإعلان لشرفها، وحصانتها يحقق مصلحة خاصة بها فيكون من حق الفرد. ولكن الجهة الأولى أظهر في هذه العقوبة، فلهذا كان حق الله غالبا فيها. فليس للمقذوفة أن تسقط الحد عن قاذفها؛ لأنها لا تملك إسقاط حد غلب حق الله فيه؛ وليس لها أن تقيم الحد بنفسها؛ لأن الحدود التي هي حق خالص لله أو يغلب فيها حق الله لا تقيمها إلا الحكومة. وليس للمجني عليه أن يقيمها بنفسه. وأما ما اجتمع فيه الحقان، وحق المكلف فيه غالب فهو القصاص من القاتل العامد، فإن القصاص من جهة أن فيه حياة الناس بتأمينهم على أنفسهم يحقق مصلحة عامة، ومن جهة أن فيه شفاء صدور أولياء المقتول، وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل يحقق مصلحة خاصة. ولكن الجهة الثانية غلبت، ولهذا كان حق المكلف غالبا معه، ولهذا جاز لولي المقتول أن يعفو فلا يقتص منه. ولا يقتص من القاتل إلا بناء على طلب ولي المقتول. ومن هذا يؤخذ أن العقوبات المقدرة في القرآن، وهي الحدود الشرعية الخمسة؛ منها ما هو حق خالص لله، وهي حد الزنا، وحد السرقة، وحد السعي في الأرض فسادًا بالخروج على الجماعة، ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 غالب فيه، وهو حد قذف المحصنات، وفي هذين لا يملك المجني عليه العفو عن الجاني، ولا يملك أن يتولى عقابه بنفسه؛ لأن حق الله خالصا أو غالبا لا يملك المكلف إسقاطه، والمنوط باستيفائه الإمام العام "الحكومة". ومنها ما اجتمع فيه الحقان وحق المكلف غالب فيه، وهو القصاص، فللمجني عليه أن يعفو عن القاتل؛ وإذا حكم على القاتل بالقصاص كان له أن يتولى تنفيذ الحكم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . ومما تقدم يتبين أمران: أولهما: أن كل حد من الحدود الشرعية فيه حق الله، أي للمجتمع؛ ولكن هذا الحق قد يكون خالصًا، وقد يكون معه حق للفرد، إما راجحا وإما مرجوحا. وثانيهما: أن الشريعة الإسلامية تفترق والنظرية الجنائية في قوانيننا الوضعية في عقوبة القصاص من القاتل العامد، وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها. ففي عقوبة القصاص من القاتل العامد؛ الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة فيها حق للمجني عليه وهو ولي المقتول، وفيها حق الله، أي المجتمع، وجعلت حق المجني عليه أرجح، ورتبت على أن فيها حقا راجحا للمجني عليه أنها جعلت الحق له في رفع الدعوى بطلب الحكم بالقصاص، وجعلت له الحق إذا حكم بالقصاص أن يعفو، وأن يتولى التنفيذ، ورتبت على أن فيها حقا لله أن للحكومة في حال عفو المجني عليه أن تعاقب الجاني بما تراه رادعا له ولغيره؛ لأن نزول أحد صاحبي الحق عن حقه لا يسقط حق الآخر. وأما القوانين الوضعية فقد جعلت هذه العقوبة حق خالصًا للمجتمع، وجعلت رفع الدعوى على القاتل من اختصاص النيابة العمومية؛ ولا يملك المجني عليه عفوا ولا مباشرة تنفيذ، وحق العفو ومباشرة التنفيذ هو لولي الأمر العام. وفي عقوبة الزوجة التي ثبت زناها: الشريعة الإسلامية جعلت هذه العقوبة حقا خالصا لله أي للمجتمع. وجعلت رفع الدعوى على الزانية من اختصاص النيابة العمومية، وتنفيذ الحكم من اختصاص السلطة التنفيذية، ولا يملك زوجها ولا أي فرد غيره وقف إجراءات الدعوى عليها، ولا وقف تنفيذ الحكم عليها بعد صدوره. وأما في القوانين الوضعية، فلا ترفع الدعوى إلا بشكوى من زوجها وله أن يوقف إجراءات الدعوى عليها، وإذا حكم عليها، فله أن يوقف تنفيذ الحكم برضاه بمعاشرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه "لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي". الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين: هو بذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية. فإن كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد دل على الحكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الورود والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها، والواجب أن ينفذ فيها ما دل عليه النص؛ لأنه ما دام قطعي الورود فليس ثبوته وصدوره عن الله أو رسوله موضع بحث وبذل جهد. وما دام قطعي الدلالة، فليست دلالته على معناه واستفادة الحكم منه موضع بحث واجتهاد. وعلى هذا فآيات الأحكام المفسرة التي تدل على المراد منها دلالة واضحة، ولا تحتمل تأويلا يجب تطبيقها. ولا مجال للاجتهاد في الوقائع التي تطبق فيها. ففي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} لا مجال للاجتهاد في عدد الجلدات. وكذلك في كل عقوبة أو كفارة مقدرة. وفي قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، بعد أن فسرت السنة العملية المراد من الصلاة أو الزكاة، لا مجال للاجتهاد في تعرف المراد من أحدهما. فما دام النص صريحا مفسرا بصيغته أو بما ألحقه الشارع به من تفسير وبيان، فلا مساغ للاجتهاد فيما ورد فيه. ومثل هذه الآيات القرآنية المفسرة للسنن المتواترة والمفسرة، كحديث الأموال الواجبة فيها الزكاة ومقدار النصاب من كل مال منها، ومقدار الواجب فيه. أما إذا كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد ورد فيها نص ظني الورود والدلالة أو أحدهما ظني فقط ففيهما للاجتهاد مجال؛ لأن المجتهد عليه أن يبحث في الدليل الظني الورود من حيث سنده، وطريق وصوله إلينا عن الرسول ودرجة رواته من العدالة والضبط والثقة والصدق، وفي هذا يختلف تقدير المجتهدين للدليل، فمنهم من يطمئن إلى روايته ويأخذ به، ومنهم من لا يطمئن إلى روايته ولا يأخذ به. وهذا باب من الأبواب التي اختلف من أجلها المجتهدون في كثير من الأحكام العملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فإذا أداه اجتهاده في سند الدليل إلى الاطمئنان لروايته، وصدق رواته، اجتهد في معرفة ما يدل عليه الدليل من الأحكام، وما يطبق فيه من الوقائع؛ لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى، ولكنه ليس هو المراد، وقد يكون عاما، وقد يكون مطلقا، وقد يكون على صيغة الأمر أو النهي، فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول، وأن العام باق على عمومه أو هو مخصص، وكذلك المطلق على إطلاقه أو هو مقيد، والأمر للإيجاب أو لغيره، والنهي للتحريم أو لغيره، وهاديه في اجتهاده القواعد الأصولية اللغوية، ومقاصد الشارع ومبادئه العامة، وسائر نصوصه التي بينت أحكاما، وبهذا يصل إلى أن النص يطبق في هذه الواقعة أو لا يطبق. وكذلك إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها أصلا، ففيها مجال متسع للاجتهاد؛ لأن المجتهد يبحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس، أو الاستحسان أو الاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة. فالخلاصة أن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلا؛ وما فيه نص غير قطعي، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي. وعلى هذا أصول التقنين الوضعي، فقد جاء في كتاب أصول القوانين: الأصل أنه ما دام القانون صريحًا فلا يجوز تأويله وتغيير نصوصه، بناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيير، حتى لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غير عادل؛ لأن مرجع ذلك أن المشرع نفسه، ومأمورية القاضي قاصرة على الحكم بمقتضى القانون لا الحكم على القانون. وجاء في المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية أنه: "إن لم يوجد نص صريح بالقانون يحكم بمقتضى قواعد العدل"، فما دام في القانون نص صريح، فهو وحده الذي يقضى به. الأهلية للاجتهاد: بعد أن بينا ما فيه مجال للاجتهاد، وما ليس فيه مجال نبين من يكون أهلا للاجتهاد. يشترط لتحقيق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة: الأول: أن يكون الإنسان على علم باللغة العربية، وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليب ونسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الاطلاع على آدابها وآثار فصاحتها من شعر ونثر وغيرهما؛ لأن أول وجهة للمجتهد هي النصوص في القرآن والسنة، وفهمها كما يفهمها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، وتطبيق القواعد الأصولية اللغوية في استفادة المعاني من العبارات والمفردات. الثاني: أن يكون على علم بالقرآن، والمراد أن يكون عليما بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن، وبالآيات التي نصت على هذه الأحكام، وبطرق استثمار هذه الأحكام من آياتها، بحيث إذا عرضت له واقعة كان ميسورا له أن يستحضر كل ما ورد في موضوع هذه الواقعة من آيات الأحكام في القرآن، وما صح من أسباب نزول كل آية منها، وما ورد في تفسيرها وتأويلها من آثار، وعلى ضوء هذا يستنبط حكم الواقعة. وآيات الأحكام في القرآن ليست كثيرة، وقد خصها بعض المفسرين بتفسير خاص. ومن الممكن أن تجمع الآيات المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع في مجموعة واحدة إلى كل الآيات القرآنية التي تضمنت أحكامًا في الطلاق، وكل الآيات التي تضمنت أحكاما في الزواج، وفي الإرث، وفي العقوبات، وفي المعاملات، وفي غير ذلك من أنواع أحكام القرآن. ومن الميسور أن يذكر مع كل آية ما ورد في الصحاح من سبب نزولها، وما ورد من الأحاديث التي فيها تبيين لمجملها، وما ورد من الآثار في تفسيرها؛ وبهذا تكون المجموعة القانونية في القرآن ميسورا الرجع إليها عند الحاجة، وميسورا مقارنة مواد الموضوع الواحد بعضها ببعض، وفهم كل مادة على ضوء سائر موضوعها؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، ومن الخطأ أن تفهم آية منه على أنها وحدة مستقلة. الثالث: أن يكون على علم بالسنة كذلك، بأن يكون عليما بالأحكام الشرعية التي وردت بها السنة النبوية بحيث يستطيع في كل باب من أبواب أعمال المكلفين أن يستحضر ما ورد في السنة من أحكام هذا الباب، ويعرف درجة سند هذه السنة من الصحة أو الضعف في الرواية، ولقد أدى العلماء للسنة النبوية خدمات جليلة، وعنوا بفحص أسانيدها ورواة كل حديث منها، حتى كفوا من جاء بعدهم مئونة البحث في الأسانيد، وصار معروفًا في كل حديث أنه متواتر، أو مشهور، أو صحيح، أو حسن، أو ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وكذلك عني العلماء بجمع أحاديث الأحكام، وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال المكلفين، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع إلى ما ورد في السنة الصحيحة من أحكام البيع، أو الطلاق أو الزواج أو العقوبات أو غيرها. ويستطيع أن يرجع إلى الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع واحد من موضوعات الأحكام؛ وعلى ضوئها يفهم الحكم الشرعي، ومن خير الكتب التي يرجع إليها في هذا "كتاب نيل الأوطار" للإمام الشوكاني. الرابع: أن يعرف وجوه القياس. وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي شرعت من أجلها الأحكام، ويعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل أحكامه، ويكون خبيرًا بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم، حتى يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيرًا أيضا بمصالح الناس وعرفهم؛ وما يكون ذريعة إلى الخير والشر فيهم، حتى إذا لم يجد في القياس سبيلا إلى معرفة حكم الواقعة، سلك سبيلا أخرى من السبل التي مهدتها الشريعة الإسلامية للوصول إلى استنباط الحكم فيما لا نص فيه. ومما ينبغي التنبيه إليه أمور ثلاثة: أحدها: أن الاجتهاد لا يتجزأ، أي أنه لا يتصور أن يكون العالم مجتهدا في أحكام الطلاق وغير مجتهد في أحكام البيع، أو مجتهدا في أحكام العقوبات، وغير مجتهد في أحكام العبادات؛ لأن الاجتهاد -كما يؤخذ مما قدمناه- أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص، واستثمار الأحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور أن يقتدر بها في موضوع دون آخر، نعم يتصور أن يكون المرء عالمًا متخصصًا في المدنيات دون العقوبات أو في العقوبات دون المدنيات، ولكن لا يتصور أن يكون قادرًا على الاجتهاد في هذا الموضوع من الأحكام دون هذا؛ ولأن عماد المجتهد في اجتهاده فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي بثها الشارع في مختلف أحكامه وبنى عليه تشريعه، وهذه الروح التشريعية والمبادئ العامة لا تخص بابا دون باب من أبواب الأحكام. وفهمها حق فهمها لا يتم إلا بأقصى ما يستطاع من استقراء الأحكام الشرعية وحكمها في مختلف الأبواب. وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ، أو تعليلًا تقرر في أحكام البيع. فلا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 مجتهدًا إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن، والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض، ومن مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح. وثانيها: أن المجتهد مأجور؛ إن أصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الصواب، وإن أخطأ فله أجر واحد في اجتهاده؛ لأننا قدمنا أن الله سبحانه ما ترك الناس سدى، بل شرع لكل فعل من أفعال المكلفين حكما، ونصب لكل حكم دليلا يدل عليه. وطلب من أهل النظر في هذه الأدلة أن ينظروا فيها ليهتدوا إلى حكمه. فمن توافرت فيه أهلية النظر فيها؛ واجتهد حتى وصل إلى الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، فهو مأجور على هذا الاجتهاد، وواجب عليه أن يعمل في قضائه، وإفتائه بما أداه إليه اجتهاده؛ لأنه حكم الله حسب ظنه الراجح. والظن الراجح كما قدمنا، كاف في وجوب العمل. ولا يجب على غيره أن يقلده في العمل بما وصل إليه اجتهاده؛ لأن قول أي إنسان بعد الرسول المعصوم ليس حجة واجبا اتباعه على أي مسلم، وإنما يجوز للعامة الذي ليست لهم ملكة الاجتهاد، واستثمار الأحكام من نصوصها، أن يتبعوا المجتهدين، ويقلدوهم مصداق قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وثالثها: إن الاجتهاد لا ينقض بمثله، فلو اجتهد في واقعة وحكم فيها بالحكم الذي أداه إليه اجتهاده، ثم عرضت عليه صورة من هذه الواقعة فأداه اجتهاده إلى حكم آخر، فإنه لا يجوز له نقض حكمه السابق، كما لا يجوز لمجتهد آخر خالفه في اجتهاده أن ينقض حكمه؛ لأنه ليس الاجتهاد الثاني بأرجح من الأول، ولا اجتهاد أحد المجتهدين أحق أن يتبع من اجتهاد الآخر؛ ولأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يؤدي إلى ألا يستقر حكم وإلى ألا تكون للشيء المحكوم به قوة. وفي هذا مشقة وحرد، وقد ورد أن عمر بن الخطاب قضى في حادثة بقضاء؛ ثم تغير اجتهاده فلم ينقض ما قضى به أولا، بل قضى في مثل هذه الحادثة بالحكم الآخر الذي أداه إليه اجتهاده الثاني وقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. وقد قضى أبو بكر في مسائل وخالفه بعده عمر فيها، ولم ينقض حكمه. وعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم قول عمر بن الخطاب في عهده لأبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء: "لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم "لا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته، فقد اقتضت سنة التدرج بالتشريع، ومسايرته المصالح نسخ بعض الأحكام التي وردت فيها ببعض نصوصهما نسخا كليا، أو نسخا جزئيا". النسخ في اصطلاح الأصوليين: هو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمنا، إبطالا كليا أو إبطالا جزئيا لمصلحة اقتضته، أو هو إظها دليل لاحق نسخ ضمنا العمل بدليل سابق. حكمته: وهذا النسخ وقع في التشريع الإلهي، ويقع في كل تشريع وضعي؛ لأن المقصود من كل تشريع سواء أكان إلهيا أو وضعيا تحقيق مصالح الناس، ومصالح الناس قد تتغير بتغير أحوالهم. والحكم قد يشرع لتحقيق مصالح اقتضتها أسباب، فإذا زالت هذه الأسباب فلا مصلحة في بقاء الحكم. كما ورد أن وفودا من المسلمين، وفدوا على المدينة في أيام عيد الأضحى، فأراد الرسول أن يقيموا بين إخوانهم في سعة، فنهى المسلمين عن إدخار لحوم الأضاحي حتى تجد الوفود فيها توسعة عليهم، فلما رحلوا أباح للمسلمين الإدخار. وقال عليه السلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ألا فادخروا"؛ ولأن عدالة التشريع تقتضي التدرج وعدم مفاجأة من يشرع لهم بما يشق عليهم فعله، أو ما يشق عليهم تركه؛ وهذا التدرج يقتضي التعديل والتبديل كما وقع في حكم الخمر، فإن الله سبحانه وتعالى لم يشرع تحريمها في ابتداء التشريع، ولكن بين سبحانه أن فيه إثما كبيرا، ومنافع للناس، وأن إثمها أكبر من نفعها. وكان هذا تهيئة وتمهيدا إلى تحريمها؛ لأن الذي ضرره أكبر من نفعه يجدر بالعقل أن يجتنبه؛ ثم أمر المسلمين أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكان هذا تمهيدا ثانيا لتحريمها واجتنابها؛ لأن أوقات الصلاة متعددة ومتفرقة، فلا يأمن المسلمون إذا شربوها أن يأتي عليهم وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الصلاة وهم سكارى. ثم بعد ذلك جاء النص الصريح على أنها رجس من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها. وكذلك نظام التوريث، بقي فترة في بدء الإسلام على ما كان عليه عند العرب في جاهليتهم، ثم أخذ الإسلام في تعديله بالتدريج، فنسخ أولًا الإرث بالتبني، ثم نسخ الإرث بالتحالف والتآخي، ثم شرعت للتوريث أحكام مفصلة، هدمت الأسس الجائرة التي كان عليها أهل الجاهلية في نظام توريثهم. أنواعه: قد يكون النسخ صريحا وقد يكون ضمنيا. فالنسخ الصريح أن ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق، ومثال ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها تذكركم الحياة الآخرة". وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ألا فادخروا". وهذا النسخ الصريح هو الكثير في التشريع الوضعي، فإن أكثر القوانين التي تصدر معدلة لقوانين سابقة، ينص فيها صراحة على النصوص الملغاة في تلك القوانين السابقة، أو على إلغاء كل حكم في قانون سابق مخالف ما نص عليه في هذا القانون، كما نص الأمر الملكي بدستور سنة 1930 صراحة على إلغاء دستور سنة 1923، وكما نص قانون التسجيل صراحة على إلغاء نصوص في القانون المدني. وأما النسخ الضمني فهو ألا ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال تشريعه السابق. ولكن يشرع حكما معارضا حكمه السابق، ولا يمكن التوفيق بين الحكمين إلا بإلغاء أحدهما؛ فيعتبر اللاحق ناسخا ضمنا. وهذا النسخ الضمني هو الكثير في التشريع الإلهي، فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 على ذلك أن المالك إذا حضرته الوفاة عليه أن يوصي لوالديه، وأقاربه من تركته بالمعروف. وقوله تعالى في آية التوريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ... } الآية، يدل على أن الله قسم تركة كل مالك بين ورثته حسبما اقتضت حكمته، ولم يعد التقسيم حقًّا للمورث نفسه، وهذا الحكم يعارض الأول، فهو ناسخ له على رأي الجمهور. ولذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدما نزلت آية المواريث: "وإن الله أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث". ومثاله في التشريع الوضعي الأمر الملكي الصادر بدستور سنة 1923، فإنه تضمن أحكامًا كثيرة تخالف الأحكام الدستورية السابقة عليه، ولم ينص صراحة على إلغائها فاعتبر ناسخا لها ضمنا؛ وقانون العقوبات الجديد لم ينص صراحة على إلغاء ما خالف أحكامه من قوانين العقوبات السابقة، فاعتبر ناسخا لها ضمنا. ويرى بعض رجال التشريع الاكتفاء بهذا النسخ الضمني، والاستغناء عن التصريح بالنسخ؛ لأنه تأكيد في مقام لا يقتضي التأكيد؛ فإن تشريع الشارع حكمًا معارضًا لحكم شرعه من قبل، ولا يمكن الجمع بينهما هو عدول من الشارع عن حكمه السابق، وإبطال له من غير حاجة إلى التصريح بأنه عدل عنه أو أبطله. وقد يكون النسخ كليا وقد يكون جزئيا. فالنسخ الكلي: أن يبطل الشارع حكما شرعه من قبل إبطالا كليا بالنسبة إلى كل فرد من أفراد المكلفين؛ كما أبطل إيجاب الوصية للوالدين والأقربين بتشريع أحكام التوريث ومنع الوصية للوارث، وكما أبطل اعتداد المتوفى عنها زوجها حولًا باعتدادها أربعة أشهر وعشرا. فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . والنسخ الجزئي: أن يشرع الحكم عاما شاملا كل فرد من أفراد المكلفين، ثم يلغى هذا الحكم بالنسبة لبعض الأفراد، أو يشرع الحكم مطلقا، ثم يلغى بالنسبة لبعض الحالات. فالنص الناسخ لا يبطل العمل بالحكم الأول أصلا، ولكن يبطله بالنسبة لبعض الأفراد أو بعض الحالات. مثال ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} يدل على أن قاذف المحصنة الذي لم يقم بينة على ما قذف به يجلد ثمانين جلدة، سواء كان زوجها أم غيره. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} الآية، يدل على أن القاذف إذا كان الزوج لا يجلد بل يتلاعن وزوجته. فالنص الثاني نسخ حكم جلد القذف بالنسبة إلى الأزواج فقط. وإنما يكون هذا نسخا جزئيًّا إذا شرع أولا حكم العام على عمومه، أو المطلق على إطلاقه، ثم شرع بعد ذلك بفترة حكم لبعض أفراده، أو قيد بقيد. وأما إذا ورد العام في القانون وورد في القانون نفسه تخصيص بعض أفراده بحكم يكون هذا التخصيص بيانا للمراد من العام لا نسخًا، وكذلك يكون التقييد بيانا للمراد من الطلق لا نسخًا. وهذا معنى قول الأصوليين إخراج بعض أفراد العام من حكمه، أو تقييد المطلق بقيد إذا كان بدليل مقارن تشريع حكم العام أو المطلق، يعتبر بيانا للمراد من العام، أو المطلق بمنزلة الاستثناء ولا يعتبر نسخًا. والأحكام الشرعية وإن كانت شرعت تدريجا في مدى اثنتين وعشرين سنة وشهور، ولكن بعد وفاة الرسول واستقرار التشريع، صارت في حق المسلمين قانونا واحدا، فالخاص منه بيان للعام، والمقيد بيان للمطلق، من غير نظر إلى أن هذه الآية بعد هذه الآية في التلاوة، أو في سورة بعد السورة التي فيها الآية، إلا ما نص عليه من ناسخ ومنسوخ. وقد يكون النسخ بتشريع حكم بدل حكم، كما نسخ إيجاب الوصية للوالدين والأقربين بتقسيم الإرث، وكما نسخ الاتجاه إلى بيت المقدس في الصلاة بالاتجاه إلى الكعبة، وكما نسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها بالتربص حولا، باعتدادها بالتربص أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد يكون النسخ بمجرد إلغاء الحكم كنسخ زواج المتعة. وكما يجوز أن يكون الحكم الذي شرع مساويا الحكم الذي نسخ، أو أخف منه على المكلفين، يجوز أن يكون أشق منه عليهم؛ لأن هذا الإلغاء والتبديل إنما قضت به مصالح المكلفين، وقد تقتضي مصلحتهم حكما أشق عليهم من المنسوخ، فتحريم الخمر والميسر أشق عليهم من إباحتهما، ولكن قصد به المصلحة، وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . المراد بالخير ما يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أصلح للمكلفين، سواء كان أشق عليهم أم مساويا أم أخف، هذا إذا كان المراد آيات القرآن في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} . ما يقبل النسخ وما لا يقبله: ليس كل نص ورد في القرآن أو السنة يقبل في عهد الرسول أن ينسخه نص لاحق، بل من النصوص نصوص محكمات لا تقبل النسخ أصلا وهي: أولا: النصوص التي تضمنت أحكاما أساسية لا تختلف باختلاف أحوال الناس، ولا تختلف حسنا وقبحا باختلاف التقدير، كالنصوص التي تضمنت إيجاب الإيمان بالله ورسله، وكتبه واليوم الآخر، وسائر أصول العقائد والعبادات، وكالنصوص التي قررت أمهات الفضائل من بر الوالدين، والصدق، والعدل وأداء الأمانات إلى أهلها، وغير ذلك مما لا يتصور أن يكون قبيحًا في آية حال وعلى أي تقدير؛ وكالنصوص التي دلت على أسس الرذائل من الشرك بالله، وقتل النفس بغير الحق، وعقوق الوالدين، والكذب والظلم، وغير ذلك مما لا يتصور أن يكون حسنا في أي حال. ومن أمثلة هذا النوع في القوانين الوضعية: المادتان 156 و158 من الدستور، فهما لا تقبلان النسخ. وثانيا: النصوص التي تضمنت أحكاما، ودلت بصيغتها على تأبيدها؛ لأن تأبيدها يقتضي عدم نسخها. كقوله تعالى في بيان حد قاذفي المحصنات: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ، فإن لفظ بدا يدل على أن هذا حكم دائم لا يزول، وكقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة"، فإن كونه ماضيا إلى يوم القيامة يدل على أنه باق ما بقيت الدنيا. وثالثا: النصوص التي دلت على وقائع وقعت، وأخبرت عن حادثات كانت، كقوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} . وكقول الرسول: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"؛ لأن نسخ النص الخبري تكذيب لمن أخبر به، والكذب محال على الشارع. فهذه الأنواع الثلاثة من النصوص لا تقبل النسخ، وما عداها يقبله في بدء التشريع، أي في حياة الرسول لا فيما بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ما يكون به النسخ: الأصل العام أن النص لا ينسخه إلا نص في قوته أو أقوى منه. وعلى هذا فنصوص القرآن قد ينسخ بعضها بعضًا، وقد تنسخ بالسنة المتواترة؛ لأنها كلها قطعية وفي قوة واحدة. ونصوص السنة غير المتواترة قد ينسخ بعضها بعضا؛ لأنها في قوة واحدة، وقد تنسخ بنصوص القرآن والسنة المتواترة؛ لأنها أقوى منها. فالنص القرآني الذي دل على اعتداد المتوفى عنها زوجها بحول، نسخ بالنص القرآني الذي دل على اعتدادها بأربعة أشهر وعشرة أيام. والنص القرآني الذي دل على تحريم كل ميتة، خصص بالسنة العملية المتواترة التي دلت على إباحة ميتة البحر، والتي أكدها الرسول بقوله: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته". والنص القرآني الذي دل على وجوب تنفيذ أية وصية قيد بالسنة العملية التي منعت نفاذ الوصية بأكثر من الثلث وأكدها الرسول بقوله في حديث معاذ: "الثلث والثلث كثير". وفي السنة النهي عن زيارة القبور ثم إباحتها، والنهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحته، وغير ذلك. وعلى هذا لا ينسخ نص قرآني أو سنة متواترة بسنة غير متواترة أو بقياس؛ لأن الأقوى لا ينسخ بما هو أقل منه قوة، ومن أجل هذا تقرر أنه لا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول؛ لأنه بعد وفاة الرسول انقطع ورود النصوص واستقرت الأحكام، فلا يمكن أن ينسخ النص بقياس أو اجتهاد. وما يكون به النسخ في القوانين الوضعية هو على هذا الأصل، فلا ينسخ النص القانوني إلا نص قانوني في قوته أو أقوى منه. فنصوص القانون الدستوري لا ينسخها إلا نصوص قانون دستوري. ونصوص القوانين التشريعية الرئيسية تنسخها قوانين السلطة التشريعية الرئيسية؛ لأنها في قوتها، وتنسخها نصوص القانون الدستوري؛ لأنها أقوى منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ونصوص القوانين التشريعية الفرعية تنسخها قوانين السلطات التشريعية الرئيسية، ونصوص القانون الدستوري. ويؤخذ مما قدمناه أن النص لا ينسخه إلا نص، وأن النص لا يتصور أن ينسخه الإجماع؛ لأن النص إذا كان قطعيا لا يمكن أن ينعقد إجماع على خلافه أصلًا، وإن كان ظنيًّا لا يمكن أن ينعقد إجماع على خلافه إلا مستندًا إلى نص، فيكون النص الذي استند إليه الإجماع هو الناسخ. والحكم الثابت بالقياس لا ينسخ بمثله؛ لأن المجتهد إذا استنبط حكما في واقعة بطريق القياس، ثم استنبط بالقياس هو أو مجتهد آخر في مثل هذه الواقعة حكمًا يخالف الأول، فهذا ليس نسخا للحكم الأول، وإنما هو إظهار لبطلان الدليل الأول أي لخطأ القياس السابق، والقياس لا ينسخ حكما شرعيا ثابتا بالنص أو الإجماع؛ لأنه ليس في مرتبتهما، فالقياس لا ينسخ حكمه ولا ينسخ حكما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 القاعدة الخامسة: في التعارض والترجيح "إذا تعارض النصان ظاهرا وجب البحث والاجتهاد في الجمع والتوفيق بينهما بطريق صحيح من طرق الجمع والتوفيق، فإن لم يمكن وجب البحث والاجتهاد في ترجيح أحدهما بطريق الترجيح، فإن لم يمكن هذا ولا ذاك وعلم تاريخ ورودهما كان اللاحق منهما ناسخا للسابق، وإن لم يعلم تاريخ ورودهما توقف عن العمل بهما. وإذا تعارض قياسان أو دليلان من غير النصوص، ولم يمكن ترجيح أحدهما عدل عن الاستدلال بهما". التعارض بين الأمرين معناه في اللغة العربية اعتراض كل واحد منها الآخر. والتعارض بين الدليلين الشرعيين معناه في اصطلاح الأصوليين اقتضاء كل واحد منهما في وقت واحد حكما في الواقعة يخالف ما يقتضيه الدليل الآخر فيها. مثلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، هذا النص يقتضي بعمومه أن كل من توفي عنها زوجها تنقضي عدتها بأربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أكانت حاملًا أم غير حامل. وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} هذا النص يقتضي بعمومه أن كل حامل تنقضي عدتها بوضع حملها، سواء كانت متوفى عنها زوجها أم مطلقة. فمن توفي عنها زوجها وهي حامل، واقعة يقتضي النص الأول أن تنقضي عدتها بتربص أربعة أشهر وعشرة أيام، ويقتضي النص الثاني أن تنقضي عدتها بوضع حملها، فالنصان متعارضان في هذه الواقعة. ولا يتحقق التعارض بين دليلين شرعيين إلا إذا كانا في قوة واحدة، أما إذا كان أحد الدليلين أقوى من الآخر، فإنه يتبع الحكم الذي يقتضيه الدليل الأقوى، ولا يلتفت لخلافه الذي يقتضيه الدليل الآخر. وعلى هذا لا يتحقق التعارض بين نص قطعي وبين نص ظني، ولايتحقق التعارض بين نص وبين إجماع أو قياس، ولا بين إجماع وبين قياس، ويمكن التعارض بين آيتين أو حديثين متواترين أو بين آية، وحديث متواتر أو حديثين غير متواترين، أو بين قياسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ومما ينبغي التنبه له أنه لا يوجد تعارض حقيقي بين آيتين، أو بين حديثين صحيحين أو بين آية وحديث صحيح؛ وإذا بدا تعارض بين نصين من هذه النصوص إنما هو تعارض ظاهري فقط بحسب ما يبدو لعقولنا، وليس بتعارض حقيقي؛ لأن الشارع الواحد الحكيم لا يمكن أن يصدر عنه دليل يقتضي حكما في واقعة، ويصدر عنه نفسه دليل آخر يقتضي في الواقعة نفسها حكما خلافه في الوقت الواحد. فإن وجد نصان ظاهرهما التعارض وجب الاجتهاد في صرفهما عن هذا الظاهر، والوقوف على حقيقة المراد منهما تنزيهًا للشارع العليم الحكيم عن التناقض في تشريعه. فإن أمكن إزالة التعارض الظاهري بين النصين بالجمع والتوفيق بينهما، جميع بينهما وعمل بهما، وكان هذا بيانا؛ لأنه لا تعارض في الحقيقة بينهما. مثال1- قوله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} . وقوله تعالى في سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى آخر آية المواريث. الآية الأولى توجب على المورث إذا قارب الموت أن يوصي من تركته لوالديه وأقاربه بالمعروف. والآية الثانية توجب لكل واحد من الوالدين والأولاد والأقربين حقا من التركة بوصية الله لا بوصية المورث. فهما متعارضتان ظاهرًا، ويمكن التوفيق بينهما بأن يراد في آية سورة البقرة الوالدان، والأقربون الذين منع من إرثهم مانع كاختلاف الدين. مثال2- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . ويمكن التوفيق بينهما بأن الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين، فإن وضعت حملها قبل أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الوفاة، تربصت حتى تتم أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن مضت أربعة أشهر وعشرة أيام قبل أن تضع حملها تربصت حتى تضع حملها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ومن طرق الجمع والتوفيق تأويل أحد النصين أي صرفه عن ظاهره، وبهذا لا يعارض النص الآخر. ومن طرق الجمع والتوفيق، اعتبار أحد النصين مخصصا لعموم الآخر، أو مقيدا لإطلاقه، فيعمل بالخاص في موضعه وبالعام فيما عداه، وبعمل بالمقيد في موضعه وبالمطلق فيما عداه. وإن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين المتعارضين، نظر في ترجيح أحدهما على الآخر بطريق من طرق الترجيح، فإذا اظهر البحث رجحان أحدهما على الآخر عمل بما اقتضاه الدليل الأرجح، وكان هذا تبيينا؛ لأن النصين غير متساويين في المرتبة. وقد يكون الترجيح من جهة طريق الدلالة فيرجح المدلول عليه بعبارة النص على المدلول عليه بإشارة النص، ويرجح المفسر على الظاهر أو النص، وتقدمت عدة أمثلة لهذا التعارض والترجيح. وإن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين، ولم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بطريق من طرق الترجيح، نظر في تاريخ صدروهما عن الشارع، فإذا علم أن أحدهما سابق كان المتأخر منهما ناسخًا للسابق فيعمل به، ويعمل هذا من الرجوع إلى أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث، وجميع الأمثلة التي قدمناها في نسخ بعض الآيات لأحكام بعض آيات أخرى، ثابت فيها أن الناسخ لاحق في وروده للمنسوخ، وإن لم يمكن الجمع والتوفيق بين النصين، ولا ترجيح أحدهما على الآخر، ولم يعلم تاريخ ورودهما، توقف عن الاستدلال بهما، ونظر في الاستدلال على حكم الواقعة التي فيها التعارض بدليل غيرهما كأنها واقعة لا نص فيها، وهذه صورة فرضية لا وجود لها. وإن كان التعارض بين دليلين شرعيين ليسا نصين، كالتعارض بين قياسين، فهذا قد يكون تعارضا حقيقيا؛ لأنه قد يكون أحد القياسين خطأ، فإن أمكن ترجيح أحد القياسين على الآخر عمل به، ومن طرق ترجيح أحد القياسين على الآخر أن تكون علة أحدهما منصوصا عليها، وعلة الآخر مستنبطة، أو تكون علة أحدهما مستنبطة بطريق إشارة النص، وعلة الآخر مستنبطة بطريق المناسبة. ومجال الأصوليين في طرق التوفيق أو الترجيح بين النصوص، والأقيسة المتعارضة ذو سعة، ومن طرق الترجيح طرق موضوعية قرروا فيها مبادئ ترجيحية عامة، مثل قولهم: إذا تعارض المحرم والمبيح، رجح المحرم. وقولهم: إذا تعارض المانع والمقتضي، قدم المانع. والله يوفق من يريد الحق، ويهدي من يشاء إلى صراط المستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الكتاب الثاني: خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي مدخل الحمد لله على نعمة التوفيق، والصلاة والسلام على رسول الله الهادي إلى أقوم طريق، وعلى آله وصحبه ومن صار على نهجه واهتدى بهداه. أما بعد: فإن التشريع الإسلامي قد مر بأطوار ثلاثة في عهود متقاربة، فقد نشأ وتكون، ثم نما ونضج، ثم وقف وجمد. وقد عنيت بدراسة هذا التشريع في أطواره الثلاثة، والوقوف على أسراره، وتطوره، وأسباب اختلاف الأئمة المجتهدين، وتكون مذاهبهم، والعوامل التي أوقفت هذه الحركة، وحالت دون نماء هذه الثروة، وما يلوح في عصرنا الحاضر من بوادر النهوض والنشاط. وها هي ذي خلاصة دراستي، أسأل الله أن يحقق بها ما أرجوه من نفع وخير. تمهيد في بيان المراد من التشريع : التشريع في الاصطلاح الشرعي والقانوني هو: سن القوانين التي تعرف منها الأحكام لأعمال المكلفين وما يحدث لهم من الأقضية والحوادث، فإن كان مصدر هذا التشريع هو الله سبحانه بواسطة رسله وكتبه فهو التشريع الإلهي، وإن كان مصدره الناس سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات، فهو التشريع الوضعي، والقوانين الإسلامية نوعان: قوانين سنها الله سبحانه بآيات قرآنية، وألهمها رسوله وأقره عليها، وهذه تشريع إلهي محض، وقوانين سنها مجتهدو المسلمين من الصحابة وتابعيهم والأئمة المجتهدين استنباطا من نصوص التشريع الإلهي وروحها ومعقولها ومما أرشدت إليه من مصادر، وهذه تعتبر تشريعا إلهيا باعتبار مرجعها ومصدرها، وتعتبر تشريعا وضعيا باعتبار جهود المجتهدين في استمدادها واستنباطها. ومرادنا بالتشريع الإسلامي سن هذه القوانين نوعيها، ولهذا قسمنا العهود التشريعية الإسلامية أربعة أقسام: الأول عهد الرسول : وهو عهد الإنشاء والتكوين، ومدته "22"سنة وأشهر من بعثته سنة 610 إلى وفاته سنة 632م. الثاني عهد الصحابة: وهو عهد التفسير والتكميل، ومدته 90 سنة بالتقريب من وفاة الرسول سنة 11 هجرية إلى أواخر القرن الهجري الأول. الثالث عهد التدوين: والأئمة المجتهدين، وعهد النمو والنضج التشريعي، ومدته 250 سنة من سنة 100 إلى سنة 350 هجرية. الرابع عهد التقليد: وهو عهد الجمود والوقوف، وقد ابتدأ من أواسط القرن الهجري الرابع ولا يعلم نهايته إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 1- عهد الرسول : هذا العهد كانت سنواته قليلة؛ لأنها لم تزد عن "22" سنة وبضعة أشهر، ولكن كانت آثاره جليلة؛ لأنه خلف نصوص الأحكام في القرآن والسنة، وخلف عدة أصول تشريعية كلية، وأرشد إلى عدة مصادر ودلائل يتعرف بها حكم ما لا نص على حكمه، وبهذا خلف أسس التشريع الكامل. وقد كان هذا العهد فترتين متمايزتين: الفترة الأولى: مدة وجود الرسول بمكة: وهي "12" سنة وبضعة أشهر من بعثته إلى حين هجرته، في هذه الفترة كان المسلمون أفرادا قلائل مستضعفين لم تتكون منهم أمة ولم تكن لهم شئون دولة، وكان هم الرسول فيها موجها إلى بث الدعوة إلى توحيد الله وتحويل وجوه الناس عن الأوثان، والأصنام واتقاء أذى الذين وقفوا في سبيل دعوته وأمعنوا في كيده وكيد من آمن به، لم يوجد في هذه الفترة مجال، ولا داع إلى التشريع العملي وسن القوانين المدنية والتجارية ونحوها، ولهذا لم توجد في السور المكية بالقرآن مثل: يونس، والرعد، والفرقان، ويس، والحديد آية من آيات الأحكام العملية، وأكثر آياتها خاص بالعقيدة، والخلق والعبر من سير الماضين. والفترة الثانية: مدة وجود الرسول بالمدينة، وهي عشر سنوات بالتقريب من تاريخ هجرته إلى تاريخ وفاته، في هذه الفترة عز الإسلام وكثر عدد المسلمين وتكونت منهم أمة وصارت لهم شئون دولة، وذللت العقبات في سبيل الدعوة، ودعت الحاجة إلى التشريع وسن القوانين لتنظيم علاقة أفراد الأمة الناشئة بعضهم ببعض، وتنظيم علاقاتهم بغيرهم في حالتي السلم والحرب، ولهذا شرعت بالمدينة أحكام الزواج والطلاق، والإرث والمداينة والحدود، وغيرها، والسور المدنية بالقرآن مثل: البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة، والأنفال، والتوبة، والنور، والأحزاب هي التي اشتلمت على آية الأحكام مع ما اشتملت عليه من آيات العقائد والأخلاق والقصص. من تولى السلطة التشريعية في هذا العهد؟ كانت السلطة التشريعية في هذا العهد لرسول الله وحده، وما كان لأحد غيره من المسلمين أن يستقل بتشريع حكم في واقعة لنفسه أو لغيره؛ لأنه مع وجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الرسول بينهم وتيسر رجوعهم إليه فيما يعرض لهم، لم يسوغ واحد منهم لنفسه أن يفتي باجتهاده في حادثه، أو يقضي باجتهاده في خصومة، بل كانوا إذا عرضت الحادثة أو شجر الخلاف أو خطر السؤال أو الاستفتاء رجعوا إلى الرسول هو يفتيهم ويفصل في خصوماتهم، ويجيب عن أسئلتهم تارة بآية أو آيات قرانية يوحي إليه بها ربه، وتارة باجتهاده الذي يعتمد فيه على إلهام الله له، أو على ما يهديه إليه عقلة وبحثه وتقديره، وكل ما صدر عنه من هذه الأحكام هو تشريع للمسلمين، وقانون واجب عليهم أن يتبعوه سواء أكانت من وحي الله أم من اجتهاده نفسه. وقد ورد أن بعض الصحابة اجتهد في عهد الرسول، وقضى باجتهاده في بعض الخصومات، أو استنبط باجتهاده حكمًا في بعض الوقائع مثل: علي بن أبي طالب، الذي بعثه الرسول إلى اليمن قاضيًا وقال له: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء"، ومثل معاذ بن جبل الذي بعثه الرسول إلى اليمن وقال له: "بم تقضي إذا عرض لك قضاء ولم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما تقضي به"؟ فقال معاذ: أجتهد رأيي. فقال الرسول: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لم يرضي الله ورسوله". ومثل حذيفة بن اليمان الذي أرسله الرسول للقضاء بين جارين اختصما في جدار بينهما، وادعى كل منهما أنه له، وعمرو بن العاص الذي قال له الرسول يوما: "احكم في هذه القضية"، فقال عمرو: أجتهد وأنت حاضر، قال: "نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر"، والصحابيين اللذين خرجا في سفر وحضرتهما الصلاة، ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأما أحدهما فأداه اجتهاده إلى أن يتوضأ، ويعيد الصلاة وأما الثاني فأداه اجتهاده إلى أن صلاته الأولى أجزأته، ولا إعادة عليه ولم يعدها. ولكن هذه الجزئيات وأمثالها لا تدل على أن أحدًا غير الرسول كانت له سلطة التشريع في عهد الرسول؛ لأن هذه الجزئيات منها ما صدر في حالات خاصة تعذر فيها الرجوع إلى الرسول لبعد المسافة أو خوف فوات الفرصة، ومنها ما كان القضاء أو الإفتاء فيه تطبيقًا لا تشريعًا وكل ما صدر فيها من أي صحابي عن اجتهاده في أي قضاء أو أية واقعة لم يكن تشريعا للمسلمين، وقانونًا ملزمًا لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 إلا بإقرار الرسول، فالرسول في حياته كانت في يده وحدة السلطة التشريعية، وما صدر عن غيره لم يكن تشريعا إلا بإقراره، ولهذا لم يوجد في عهد الرسول رأيان في واقعة ولم يعرف أحد من الصحابة في عهده بالفتيا أو الاجتهاد. مصادر للتشريع في هذا العهد: كان للتشريع في عهد الرسول مصدران: الوحي الإلهي، واجتهاد الرسول نفسه، فإذا طرأ ما يقتضي تشريعا من خصومة أو واقعة أو سؤال أو استفتاء أوحى الله إلى رسوله بآية أو آيات فيها حكم ما أري معرفة حكمه، وبلغ الرسول المسلمين ما أوحي إليه وكان قانونا واجبا اتباعه، وإذا طرأ ما يقتضي تشريعا، ولم يوح الله إلى الرسول بآيات تبين الحكم اجتهد الرسول في تعرفه الحكم، وما أداه إليه اجتهاده قضى به أو أفتى أو أجاب عن السؤال أو الاستفتاء، وكان ما صدر عن اجتهاده قانونا واجبا اتباعه مع قانون الوحي الإلهي، ومن تتبع آيات الأحكام التي وردت في القرآن، وما رواه المفسرون من سبب نزول كل آية منها يتبين أن كل حكم قرآني إنما شرع لحادث اقتضى تشريعه، ويتجلى ذلك في مثل قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ، وفي مثل الخصومة التي وقعت في بعض التركات ومن أجلها شرعت أحكام الإرث، والحيرة التي أصابت بعض الأزواج لما شرع حد القذف، ومن أجلها شرع حكم اللعان بين الزوجين وفي غير ذلك من أسباب النزول. ومن تتبع أحاديث الأحكام وما رواه المحدثون من أسباب ورودها يتبين أيضا أن كل حكم للرسول باجتهاده كان قضاء في خصومة أي فتوى في واقعة أو جوابا عن سؤال، مثل ما روي أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر، وليس معنا من الماء العذب ما يكفي للوضوء أفنتوضأ بماء البحر؟ قال الرسول: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وغير ذلك من وقائع الأحاديث. فكل ما شرع من الأحكام في عهد الرسول كان مصدره الوحي الإلهي أو الاجتهاد النبوي، وكان صدوره بناء على طروء حاجة تشريعية اقتضته. وكانت وظيفة الرسول بالنسبة لما شرع بالمصدر الأول تبليغه، وتبيينه تنفيذًا لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ولقوله عز شأنه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وكان ما صدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 عن المصدر الثاني وهو الاجتهاد النبوي تارة تعبيرًا عن إلهام إلهي، أي أن الرسول إذا أخذ في الإجهاد ألهمه الله حكم ما أراد معرفة حكمه، وتارة استنباطًا واستمدادا للحكم بما تهدي إليه المصلحة وروح التشريع، والأحكام الاجتهادية التي يلهم الله بها الرسول هي أحكام إلهية ليس للرسول فيها إلا التعبير عنها بقوله أو فعله، والأحكام الاجتهادية التي لم يلهم الله بها الرسول بل صدرت عن بحثه، ونظره هي أحكام نبوية بمعانيها وعباراتها، وهذه لا يقره الله عليها إلا إذا كانت صوابا، وأما إذا لم يوفق الرسول فيها إلى الصواب فإن الله يرده إلى الصواب، ومثال ذلك حادث افتداء أسرى بدر، فإن المسلمين في غزوة بدر وقع في أيديهم سبعون أسيرًا من المشركين، ولم يكن قد شرع حكم الأسرى فاجتهد الرسول فيما يفعل بهم واستشار بعض الصحابة، فأشار أبو بكر بأخذ الفدية ممن يفتدي منهم وبين وجهة نظره بقوله للرسول: "قومك وأهلك، استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي أصحابك". وأشار عمر بأن لا يقبل منهم فدية وأن يقتلوا. وبين وجهة نظره بقوله للرسول: "كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم هؤلاء أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء". وقد أدى اجتهاد الرسول إلى قبول الفداء فبين الله له الصواب بقوله سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ومثاله أيضا حادث إذن الرسول لمن اعتذروا وتخلفوا عن عزوة تبوك، فإن الله سبحانه بين له الصواب بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} . فمن هذا ينتج أن التشريع في عهد الرسول كان إلهيًّا كله؛ لأن مصدره إما وحي الله في القرآن، وإما اجتهاد الرسول الذي هو تعبير عن إلهام إلهي، وإما اجتهاد الرسول ببحثه ونظره ولكنه ملحوظ برعاية الله له، فإن جاء صوابا أقره الله عليه، وإن جاء غير صواب رد الله رسوله إلى الصواب فيه. ولا سبيل إلى التمييز بين حكم اجتهادي نبوي لم يصدر عن إلهام إلهي، وحكم اجتهادي نبوي صدر عن إلهام إلهي إلا أن ما رد الله رسوله فيه إلى الصواب يعلم أنه ما كان عن إلهام، وما بين الرسول به مجملا في القرآن يعلم أنه من الله بينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الخطة التشريعية في هذا العهد: المراد من الخطة التشريعية الطريق التي يتبعها رجال التشريع في الرجوع إلى مصادر التشريع والمبادئ العامة التي يراعونها فيه، ولما كان هذا العهد هو عهد التكوين؛ ووضع الأسس التشريعية كانت الخطة التشريعية فيه هي الخطة الأساسية للتشريع الإسلامي. فأما الطريق التي اتبعها الرسول في الرجوع إلى مصادر التشريع، فهي أنه كان إذا طرأت حاجة إلى تشريع ينتظر وحي الله بآية أو آيات فيها حكمه، فإن لم يوح إليه علم أن الله وكل التشريع في هذه الواقعة إلى اجتهاده، فاجتهد مهتديًا في اجتهاده بالقانون الإلهي، وروح التشريع وتقديره المصلحة ومشورة أصحابه. وأما المبادئ العامة التي بنى عليها التشريع الإسلامي في عهد تكوينه فأظهرها أربعة: الأول: التدرج في التشريع، وهذا التدرج كان في زمن التشريع وكان في أنواع الأحكام التي شرعت، فالتدرج الزمني ظاهر من أن الأحكام التي شرعها الله ورسوله لم تشرع دفعة واحدة في قانون واحد، وإنما شرعت متفرقة في مدى اثنتين وعشرين سنة، وبضعة أشهر حسب ما اقتضاها من الأقضية والحوادث وكان لكل حكم تاريخ لصدوره وسبب خاص لتشريعه، والحكمة في هذا التدرج الزمني أنه ييسر معرفة القانون بالتدرج مادة فمادة، وييسر فهم أحكامه على أكمل وجه بالوقوف على الحادثة، والظروف التي اقتضت تشريعها. والتدرج في أنواع ما شرع من الأحكام ظاهر من أن المسلمين لم يكلفوا في أول عهدهم بالإسلام بما يشق عليهم فعله، أو ما يشق عليهم تركه بل سلك بهم سبيل التدرج، وأخذوا بالرفق حتى تكون استعدادهم واستأهلوا للتكليف. ففي أول أمرهم لم تفرض عليهم الصلاة خمس فرائض في اليوم والليلة ركعات محددة في كل فريضة، بل طلبت منهم صلاة مطلقة بالغداة والعشي، ولم تفرض عليهم الزكاة والصيام إلا بعد الهجرة بسنة، وكان التكليف قبل ذلك بما استطاعوا من صدقة وصوم ولم يحرم عليهم الخمر والميسر، وكثير من عقود الزواج والربا والمعاملات التي كانوا يتعاملون بها في جاهليتهم إلا بالمدينة، والحكمة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 هذا التدرج في أنواع الأحكام أنه: هو العلاج لإصلاح النفوس الجامحة، والوسيلة لتقبل التكاليف وامتثالها من غير ضجر ولا عنت، وهو من الحكمة في الدعوة. والثاني: التقليل من التقنين، وهذا يتجلى في أن الأحكام التي شرعها الله ورسوله لم تشرع إلا على قدر الحاجات التي دعت إليها والأقضية، والحوادث الي اقتضتها ولم تشرع منها أحكام لحل مسائل فرضية أو للفصل في خصومات محتملة. ويتجلى أيضا مما ورد في القرآن والسنة من النهي عن الإكثار من الأسئلة التي تقتضي تشريعا فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} ، ونهى رسول الله عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وقال: "أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته"، وقال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها". والحكمة في هذا التشريع إنما هو دفع حاجات الناس، وتحقيق مصالحهم فينبغي أن يقتصر في كل عصر على تشريع ما اقتضته حاجاته، ومصالحه حتى لا يجد اللاحقون من تشريع السابقين عقبات تحول دون تشريع ما يدفع حاجتهم ويحقق مصالحهم. ومن المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية أن الأصل في الأشياء الإباحة فكل حيوان، أو جماد أو عقد أو تصرف لم يشرع له حكم بأي دليل شرعي، فحكمه الإباحة وعلى هذا لا حرج من تقليل التقنين؛ لأن كل ما لا قانون فيه فهو على الإباحة الأصلية. والثالث: التيسير والتخفيف وهذا أجلى ظاهرة في التشريع الإسلامي، ففي كثير من الأحكام تصريح بأن الحكمة في تشريعها التيسير والتخفيف قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال عز شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} ، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وورد في صحيح السنة: أن الرسول ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وأنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، وفي كل الحالات الخاصة التي يكون فيها حكم العزيمة شاقًّا شرعت الرخصة، فأبيحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المحظورات عند الضرورات، وأبيح ترك الفرض والواجب إذا كان في أداء أحدهما حرج، واعتبر الإكراه، والمرض، والسفر، والخطأ، والنسيان، والجهل من الأعذار التي تقتضي التخفيف. والرابع: مسايرة التشريع مصالح الناس: وبرهان هذا أن الشارع علل كثيرا من أحكامه بمصالح الناس، ودل بشواهد عدة على أن المقصود من تشريع الأحكام تحقيق مصالح الناس، وقرر أن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، ولهذا شرع الله بعض الأحكام ثم أبطلها ونسخها لما اقتضت المصلحة تعديلها، فقد فرض الاتجاه في الصلاة إلى بيت القدس، ثم نسخه، وفرض الاتجاه في الصلاة إلى الكعبة، وفرض عدة المتوفى عنها زوجها حولًا، ثم نسخها، وفرضها أربعة أشهر وعشرة أيام. والرسول نهى عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الوفود التي كانت بالمدينة أيام العيد، وأباح ادخارها لما رحلت تلك الوفود، ونهى عن زيارة القبور ثم أباحها، فهذا النسخ، والتبديل والتعديل في وقت التشريع برهان على أن التشريع الإسلامي ساير مصالح الناس، ولهذه المسايرة نفسها راعى الشارع عرف الناس وقت التشريع ما دام لا يهدم أصلا من أصول الدين، فراعى الكفاءة في الزواج وراعى العصبية في الإرث والولاية، وفرض الدية على العاقلة؛ لأن من مصالح الناس أن تراعى عاداتهم وما جرى به عرفهم ما دام لا يعارض أصلا دينيا ولا يجلب ضررا. ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية: المصدر التشريعي الأول وهو الوحي الإلهي صدرت عنه آيات الأحكام في القرآن، والمصدر التشريعي الثاني وهو اجتهاد الرسول صدرت عنه أحاديث الأحكام، ومجموعة نصوص هذه الآيات والأحاديث هي ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية، وهي القانون الأساسي للمسلمين، وهي أساس التشريع ومرجع كل مجتهد إسلامي في أي عصر من العصور، فإذا وقعت واقعة ودل على حكمها نص قاطع من نصوص هذه المجموعة، فلا مجال فيها لاجتهاد أي مجتهد في أي عصر، وإذا لم يدل على حكمها نص قاطع من نصوصها كانت مجالا للاجتهاد، ولكن على أن يسير المجتهد في اجتهاده على ضوء هذه المجموعة بأن يقيس على ما ورد فيها، أو يهتدي بروحها ومعقولها ومبادئها العامة، وليس له أن يخالف باجتهاده نصا من نصوصها، أو يخرج عن مبدإ من مبادئها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 مقدار النصوص في هذه المجموعة: مواد هذه المجموعة من النصوص ليست كثيرة، فعدد آيات الأحكام المتعلقة بالعبادات وما يلحق بها من الجهاد نحو 140 آية، وعدد الآيات المتعلقة بالمعاملات، والأحوال الشخصية والجنايات والقضاء والشهادة نحو 200 آية، وعدد أحاديث الأحكام في أنواعها المختلفة نحو 4500 حديث كما ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين، وأكثرها تبيين لما أجمل من أحكام القرآن، أو تقرير وتوكيد، وباقيها تشريع أحكام سكت عنها القرآن. وآيات الأحكام في القرآن مفرقة في جملة سور، وليست الآيات الخاصة بفرع قانوني واحد مجموعة في سورة واحدة، فآيات العقوبات وهي نحو عشر آيات مفرقة في سورة البقرة، والمائدة، والنور، وآيات المجموعة المدنية وهي نحو سبعين آية مفرقة أيضا في جملة سور، وهكذا سائر آيات الأحكام. وأما أحاديث الأحكام فقد جمعها رواة الأحاديث حسب أبواب الفقه، فأحاديث البيع مجموعة في باب البيع وأحاديث الرهن والشركة، والحدود وغيرها كذلك. ومن اليسير أن تجمع في كل فرع قانوني آيات الأحكام الخاصة به، وأمهات أحاديث الأحكام الخاصة به، وبعض آثار الصحابة والتابعين التي فيها تفسير لنص من هذه النصوص، وتكون هذه المجموعة هي الأحكام الأساسية التي وردت في القرآن، والسنة خاصة بهذا الفرع من القوانين. أسلوب النصوص في هذه المجموعة: لم تلتزم آيات الأحكام وأحاديث الأحكام أسلوبا واحدًا في بيان ما شرع بها بل تنوعت أساليبها وتعددت صيغها في التعبير عن الأحكام، فالنصوص التي دلت على التحريم تارة عبرت بالنهي عما حرم، وتارة دلت على تحريمه بالوعيد على فعله وتارة صرحت بأنه لا يحل أو حرم، والنصوص التي دلت على الإيجاب تارة عبرت بالأمر بما وجب، وتارة دلت على إيجابه بالوعيد على تركه وتارة صرحت بأنه وجب أو فرض أو كتب، والسبب في تنوع هذه الأساليب أن النصوص كما قدمنا شرعت في أوقات مختلفة حسب الحوادث والمناسبات، ولكل مناسبة أسلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يناسبها، فقد تقتضي المناسبة الدلالة على تحريم الشيء بالوعيد على فعله، وقد تقتضي التصريح بتحريمه، فالمناسبة التي اقتضت تشريع الحكم الخاص اقتضت أسلوبًا خاصًّا في بيانه. وسبب آخر لتنوع هذه الأساليب: أن القرآن لم يقصد منه بيان ما تضمنه من عقائد وأخلاق وتشريع فحسب، وإنما قصد منه مع هذا إعجاز الناس عن أن يأتوا بمثله ليكون برهانًا على صدق الرسول، ومن وجوه الإعجاز تنوع أساليب البيان. وكما تنوعت أساليب النصوص من ناحية صيغها وعباراتها، تنوعت من ناحية أخرى وهي أن بعض النصوص تتبع بيان الحكم ببيان علته وحكمة تشريعه، وبعضها تقرر الحكم مجردا عن بيان علته، والحكمة في هذا أن الشارع ببيانه علة التشريع، وحكمته في بعض الأحكام يلفت العقول إلى أن الأحكام التشريعية ليست تعبدية وإنما هي معللة بمصالح الناس، ويفتح باب الاجتهاد في تشريع كل ما يحقق مصلحة أو يدفع مفسدة. أنواع الأحكام التي اشتملت عليها هذه النصوص: الأحكام على وجه عام تنقسم ثلاثة أقسام، القسم الأول: أحكام اعتقادية تتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقسم الثاني: أحكام خلقية تتعلق بالفضائل التي يجب على الإنسان أن يتحلى بها، والرذائل التي يجب على الإنسان أن يتخلى عنها، والقسم الثالث: أحكام عملية تتعلق بأعمال المكلفين من عبادات ومعاملات، وجنايات، وخصومات، وعقود وتصرفات. فأما النوع الأول فهو: أساس الدين، أما النوع الثاني: فهو مكمل هذا الأساس ومتممه وقد أفاض القرآن، وأسهبت السنة في بيانهما وإقامة براهينهما. وقد ابتدأ أمر الإسلام بهما فكان المسلمون في مكة لا يخاطبون إلا بعقائد وأخلاق؛ لأن تكوين العقيدة وتقويم الخلق هما الأساس الذي يبنى عليها كل تشريع وتقنين. وأما النوع الثالث وهو الأحكام العملية، فهذا هو الفقه وهو المراد من الأحكام عند الإطلاق، ومن تتبع فقه القرآن والسنة وجد أن كل فرع من فروع القوانين له في القرآن مواد تخصه وتبين أحكامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ففي العبادات بأنواعها نحو "140" آية. وفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق، وإرث ووصية وحجر وغيرهما نحو سبعين آية. وفي المجموعة المدنية من بيع، وإجارة، ورهن، وشركة، وتجارة، ومداينة وغيرها نحو سبعين آية. وفي المجموعة الجنائية من عقوبات وتحقيق جنايات نحو ثلاثين آية. وفي القضاء والشهادة وما يتعلق بها نحو عشرين آية. وفي كل باب من هذه الأبواب كثير من الأحاديث بعضها يبين حكما أجمله القرآن، وبعضها يشرح حكما سكت عنه، وقد كملت عنه هذه الأحكام الجزئية، بعدة أصول تشريعية كلية، وبهذا خلف عهد الرسول تشريعا كاملا وافيا بحاجة المسلمين في كل بيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 2- عهد الصحابة : هذا العهد ابتدأ بوفاة رسول الله في سنة: 11 للهجرة، وانتهى في أواخر القرن الأول الهجري، وأطلقنا عليه عهد الصحابة؛ لأن السلطة التشريعية فيه تولاها رءوس أصحاب الرسول، ومنهم من عاش إلى العقد العاشر الهجري مثل أنس بن مالك الذي توفي سنة 93هـ. وهذا العهد هو عهد التفسير التشريعي، وفتح أبواب الاستنباط فيما لا نص فيه من الوقائع، فإن رءوس الصحابة صدرت عنهم آراء كثيرة في تفسير نصوص الأحكام في القرآن والسنة تعد مرجعا تشريعيا لتفسيرها وتبيينها. وصدرت عنهم فتاوى كثيرة بأحكام في وقائع لا نص فيها تعتبر أساسا للاجتهاد والاستنباط. من تولوا سلطة التشريع في هذا العهد: العهد التشريعي الأول -وهو عهد الرسول- خلف للمسلمين قانونا مكونا من نصوص الأحكام في القرآن والسنة، ومواد هذا القانون الأساسي ليس كل واحد من المسلمين أهلا لأن يرجع إليها بنفسه، ويفهم ما تدل عليه من الأحكام؛ لأن فيهم العامة الذين لا يتوصلون إلى فهم النصوص إلا بواسطة من يفهمهم إياها، ومن جهة ثانية: مواد هذا القانون لم تكن نشرت بين المسلمين نشرا عاما يجعلها في متناول كل واحد منهم؛ لأن نصوص القرآن كانت في أول هذا العهد مدونة في صحف خاصة محفوظة في بيت الرسول وبيوت بعض أصحابه، والسنة لم تكن مدونة أصلًا، ومن جهة ثالثة: مواد القانون شرعت أحكاما لحوادث وأقضية وقعت حين تشريعها، ولم تشرع أحكاما لحوادث فرضية يحتمل وقوعها، وقد طرأت للمسلمين حاجات وحوادث وأقضية لم تطرأ في عهد الرسول، ولا يوجد فيما خلفه من النصوص ما يدل على حكمها. لهذه الأسباب الثلاثة رأى العلماء من الصحابة والرءوس فيهم أن عليهم واجبا تشريعيا لا بد أن يقوموا به، وهذا الواجب هو أن يبينوا للمسلمين ما يحتاج إلى التبيين، والتفسير من نصوص الأحكام في القرآن والسنة، وأن ينشروا بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المسلمين ما حفظوا من آيات القرآن وأحاديث الرسول، وأن يفتوا الناس فيما يطرأ لهم من الوقائع، والأقضية التي لا نص فيها. هؤلاء العلماء من الصحابة الذين قاموا بهذا الواجب التشريعي من بيان النصوص ونشرها، والإفتاء فيما لا نص فيه هم رجال السلطة التشريعية في هذا العهد، وهم الذين خلفوا الرسول في رجوع المسلمين إليهم، ولم يكتسبوا هذا الحق التشريعي من تعيين الخليفة أو انتخاب الأمة، وإنما كسبوه بمميزاتهم الشخصية التي امتازوا بها، فقد طالت صحبتم للرسول وحفظوا عنه القرآن والسنة، وشاهدوا أسباب نزول الآيات وورود السنن، وكثير منهم كانوا مستشاري الرسول في اجتهاده؛ فلهذه المزايا كانوا أهلا لأن يبينوا النصوص، ويجتهدوا فيما لا نص فيه، وأهلا لأن يرجع المسلمون إليهم ويثقوا بما يصدر عنهم من بيان أو إفتاء، ومن أشهر هؤلاء المفتين من الصحابة بالمدينة: الخلفاء الأربعة الراشدون، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وبمكة: عبد الله بن عباس، وبالكوفة: علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وبالبصرة: أنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وبالشام: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وبمصر عبد الله بن عمرو بن العاص، وعدد من عرفوا من الصحابة بالإفتاء، وحفظت عنهم: مائة ونيف وثلاثون ما بين رجل وامرأة، ولكن أشهرهم من ذكرنا. وقد كان هؤلاء المفتون في أول هذا العهد أكثريتهم العظمى بالمدينة، وبعد أن امتدت الفتوح الإسلامية تفرقوا بالأمصار، ولهذا كان التشريع في أول هذا العهد باجتهاد الجماعة؛ ثم بعد ذلك صار باجتهاد الأفراد. مصادر التشريع في هذا العهد: كانت مصادر التشريع في هذا العهد ثلاثة: القرآن، والسنة، واجتهاد الصحابة، فكانت إذا عرضت حادثة أو وقعت خصومة نظر أهل الفتيا من الصحابة في كتاب الله، فإن وجدوا فيه نصا يدل على حكمها أمضوه، وإن لم يجدوا في كتاب الله نصا وعلموا من السنة ما يدل على حكمها أمضوه، وإن لم يجدوا ما يدل على حكمها في القرآن، أو السنة اجتهدوا في معرفة حكمها واستنبطوه بالقياس على ما ورد فيه النص، أو بما تقتضيه روح التشريع ومصالح الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وحجتهم في الرجوع إلى القرآن والسنة ما ورد في آيات كثيرة من الأمر بطاعة الله والرسول، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول، والتسليم لما قضى به الله والرسول. وحجتهم في الرجوع إلى اجتهادهم ما شاهدوه من الرسول حين كان يرجع إلى اجتهاده إذا لم ينزل عليه بالتشريع وحي إلهي، ما ورد من أن رسول الله لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "بم تقضي"؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد"؟ قال: أقضي بسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد"؟ قال: أجتهد رأيي؛ فأقره الرسول وحمد الله على توفيقه. وما فهموه من تعليل بعض الأحكام في نصوص القرآن والسنة، فإنهم فهموا من هذا أن المقصود من تشريع الأحكام تحقيق مصالح الناس، وأنه كلما دعت المصالحة إلى التشريع وجب على المسلمين أن يشرعوا ما يحققها. لهذه البراهين اتفقت كلمة المفتين من الصحابة على الرجوع إلى هذه المصادر التشريعية الثلاثة، وعلى ترتيب الرجوع إليها كما ذكرنا. ما طرأ على مصادر التشريع: وقد طرأ في هذا العهد على المصدر الأول، وهو آيات الأحكام في القرآن، طارئ له أثر تشريعي خالد، وهذا الطارئ هو تدوين هذه الآيات في ضمن تدوين القرآن، ونشرها على المسلمين كافة بطريق قانوني رسمي بحيث صار ميسورًا لكافة المسلمين أينما كانوا حفظها، والعلم بنصوصها من غير اختلاف في مفرد أو جملة، وذلك أن رسول الله في حياته اتخذ كتابا لتدوين ما يوحى إليه من القرآن، فكان إذا أوحي إليه بآية أو آيات من القرآن قرأها على المسلمين، فيكتبها من حضر من كتاب وحيه، ويكتبها من حرص على أن يكتب لنفسه من صحابته، ويحفظها منهم عدد كثير، وقد توفي الرسول وكل آيات القرآن مدونة، وكثير من أصحابه يحفظونه كله أو بعضه، ولكن هذا التدوين في حياة الرسول تارة كان على الورق، وتارة كان على بعض الأحجار الرقيقة البيضاء وتارة كان على سعف النخل، وكان كل كاتب من كتاب الوحي، عنده مجموعة مما كتب، وكذلك عند بعض الصحابة وفي بيت الرسول، ولم تكن من هذه المدونات مجموعة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فلما نشبت حروب الردة في خلافة أبي بكر الصديق، وأصبح كثير من الصحابة عرضة، لأن يموتوا في هذا القتال، خشي ولاة الأمر أن تضيع صحيفة من القرآن محفوظة عند واحد منهم فأشاروا على أبي بكر أن يجمع كل ما دون فيه من القرآن ويضم بعضه إلى بعض، ويكون من متفرقه مجموعة واحدة، فعهد أبو بكر بهذا إلى زيد بن ثابت -من أشهر كتاب الوحي، ومن أحفظ الصحابة للقرآن- فأخذ زيد في جمع هذه المدونات المفرقة مع مقابلة ما دونه كتاب الوحي بما دونه من دون لنفسه من الصحابة، والمقابلة بين ما دون في السطور وما حفظ في الصدور وأتم جمع ما دون فيه القرآن، وضم بعضه إلى بعض مرتبًا مضبوطا على ملأ من المهاجرين والأنصار، وبقيت هذه المجموعة عند أبي بكر، ثم خلفه في حفظها عمر، ثم خلفته في حفظها أم المؤمنين حفصة بنت عمر. وفي سنة "20هـ" أخذ الخليفة عثمان بن عفان هذه المجموعة من أم المؤمنين حفصة، وعهد إلى زيد بن ثابت وبعض الصحابة أن يكتبوا منها عدة نسخ لتنشر في أمصار المسلمين حتى يتيسر لكل مسلم الرجوع إلى القرآن، وحتى لا يقع اختلاف بسبب اختلاف لهجات الأداء، وقد كتبوا ست نسخ احتفظ الخليفة عثمان لنفسه بواحدة ووزع الباقيات بالمدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، ودمشق، ووضعت بالمساجد العامة وصارت مرجع المسلمين يحفظون منها، وينقلون عنها بلا تغيير ولا تبديل، والأثر التشريعي الخالد لهذا التدوين أن آيات الأحكام في القرآن بهذا التدوين تواتر نقلها كتابة ومشافهة، وصارت كلها قطعية الورود، وكفى المسلمون عناء الجهود في روايتها وأسانيد رواتها، ولم يطرأ من هذه الناحية أي اختلاف. وأما المصدر التشريعي الثاني -وهو نصوص الأحكام في السنة- فلم يدون في هذا العهد، كما أن السنة كلها لم تدون فيه؛ لأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فكر في تدوينها، ولكنه بعد التروي والتشاور خشي أن يؤدي تدوينها إلى أن تلتبس الستة بالقرآن؛ فلم ينفذ ما فكر فيه، انقضى القرن الأول الهجري من غير أن تدون السنة ما عدا ما روي من أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كانت له صحيفة اسمها الصادقة دون فيها الأحاديث التي سمعها من رسول الله نفسه. ولكنهم مع عدم تدوينهم السنة اتخذوا بعض احتياطات رأوا فيها ما يكفل الوثوق من روايتها، وتحرى الرواة في نقلها، فقد كان أبو بكر لا يقبل الحديث من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 راو إلا إذا أيده شاهد، وعمر كان يطالب الراوي أن يأتي بالبينة على أنه روى، وعلي بن أبي طالب كان يستحلف الراوي، ولكن هذه الاحتياطات لم تحقق الغرض منها، وما قامت مقام التدوين، وقد كان لعدم تدوين السنة من فجر الإسلام أثران: إحداهما: أنه اضطر علماء المسلمين إلى بذل جهود في بحث رواة الأحاديث ودرجات الثقة بهم، وانقسمت الأحاديث باعتبار رواتها إلى أحاديث قطعية الورود، وأحاديث ظنية الورود، والظنية إلى: صحيح، وحسن، وضعيف. ووضع فن الحديث رواية، وألفت فيه عدة مؤلفات. وثانيهما: أن عدم التدوين لم يجمع المسلمين على مجموعة واحدة من السنة، كما جمعوا على القرآن وهذا أفسح في المجال للتحريف، والزيادة والنقص عمدا أو خطأ، مما أدى بعد إلى اختلاف في أن السنة حجة ومصدر تشريعي أو لا: وأدى إلى اختلاف من يحتجون بها في طريق الوثوق بما يحتجون به منها، وسيأتي بيان هذا. وأما المصدر التشريعي الثالث، وهو اجتهاد بعض المفتين من الصحابة، فلم يدون أيضا من آثار، في هذا العهد شيء، وكان تقديرهم لفتاويهم أنها آراء فردية إن تكن صوابا فمن الله، وإن تكن خطأ فمن أنفسهم، وما كان واحد مهم يلزم الآخر أو يلزم أن مسلم بفتواه، وكثيرًا ما خالف عمر أبا بكر، وكثيرا ما تحاج زيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، والوقائع التي اختلف الصحابة في أحكامها كثيرة، وأدلتهم تدل على مبلغ حريتهم في البحث، وتحريهم جلب المصالح ودرء المفاسد. الخطة التشريعية في هذا العهد: كانت الخطة التشريعية التي سار عليها رجال التشريع من الصحابة بالنسبة إلى المصادر التشريعية، أنهم إذا وجدوا نصا في القرآن أو السنة يدل على حكم الواقعة التي طرأت لهم وقفوا عند هذا النص وقصروا جهودهم التشريعية على فهمه، والوقوف على المراد منه ليصلوا إلى تطبيقه تطبيقا صحيحا على الوقائع، ولا تتجاوز سلطتهم التشريعية حدود هذا، وإذا لم يجدوا نصا في القرآن والسنة يدل على حكم ما عرض لهم من الوقائع لاستنباط حكمه، وكانوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 اجتهادهم يعتمدون على ملكتهم التشريعية التي تكونت لهم من مشافهة الرسول ومشاهدتهم تشريعه واجتهاده، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامة، فتارة كانوا يقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص، وتارة كانوا يشرعون ما تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة، ولم يتقيدوا بقيود في المصلحة الواجب مراعاتها، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نص فيه فسيحًا مجاله، وفيه متسع لحاجات الناس ومصالحهم، وقد دخلت في الإسلام شعوب مختلفة وبلاد متنائية، وكانت حرية هذا الاجتهاد كفيلة بالتقنين والتشريع لكل معاملتهم وحاجاتهم. وكانوا في أول عهدهم -أي في خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر- يتولون سلطتهم التشريعية فيما لا نص فيه في جمعية تشريعية مكونة من رءوسهم وما يصدر عنهم من الأحكام يعتبر حكم جماعتهم. يدل على ذلك ما رواه البغوي في مصابيح السنة قال: "كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكان عمر يفعل ذلك؛ فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء؛ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رءوس المسلمين؛ فإن اجتمعوا على شيء قضى به". وبهذا الاجتماع كان الاختلاف في الآراء نادرا؛ لأن كل واحد من رءوس التشريع المجتمعين يبدي للآخرين ما عنده من وجوه النظر، وما يستند إليه من أدلة، ووجهتهم الحق والصواب وأكثر الأحكام التي يقال فيها: إنها أجمع عليها الصحابة شرعت في هذه الفترة من هذا العهد. أما بعد أن فتح الله للمسلمين كثيرا من البلاد وتفرق رءوس الصحابة في مختلف الأمصار، وصار غير ميسور للخليفة بالمدينة أن يجمع هؤلاء الرءوس من الكوفة والبصرة والشام ومصر وغيرها كلما عرضت واقعة ليس فيها نص في القرآن أو السنة، فقد أخذ رجال التشريع من الصحابة يتولون سلطتهم التشريعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أفرادا أو جماعات، وكان بكل مصر من أمصار المسلمين واحد أو أكثر تصدر عنهم الفتاوى فيما لا نص فيه، والتبيين والتفسير للنصوص، ومن النتائج الحتمية لهذا أن يقع اختلاف بينهم في أحكام كثيرة من الوقائع لعدة أسباب: أولها: أن أكثر نصوص الأحكام في القرآن والسنة ليست قطعة الدلالة على الماد منها بل هي ظنية الدلالة، وكما تحتمل أن تدل على معنى تحتمل أن تدل على معنى آخر بسبب أن في النص لفظا مشتركا لغة بين معنيين أو أكثر أو أن فيه لفظا عاما يحتمل التخصيص أو لفظا مطلقا يحتمل التقييد، فكل مشرع يفهم منه حسب ما ترجح عنده من القرائن ووجهات النظر. والجزئيات التي اختلفوا فيها بناء على اختلافهم في فهم النص كثيرة جدًّا. وثانيها: أن السنة لم تكن مدونة ولم تجتمع الكلمة على مجموعة منها وتنشر بين المسلمين لتكون مرجعا لهم على السواء بل كانت تتناقل بالرواية والحفظ، وربما علم منها المفتي في مصر ما لم يعلمه المفتي في دمشق، وكثيرًا ما كان يرجع بعض المفتين منهم عن فتواه إذا علم من الآخر سنة لم يكن يعلمها. وثالثها: أن البيئات التي يعيشون فيها مختلفة والمصالح والحاجات التي يشرعون لها متفاوتة، فعبد الله بن عمر بالمدينة لا يطرأ له ما يطرأ لمعاوية بن أبي سفيان في الشام، ولا ما يطرأ لعبد الله بن مسعود بالكوفة، فبناء على اختلاف البيئات اختلفت الأنظار في تقدير المصالح والبواعث على تشريع الأحكام. فلهذه الأسباب الثلاثة وجدت فتاوى مختلفة للصحابة في الواقعة الواحدة، ولكل واحد منهم دليل على ما أفتى به. وقد كانت خطتهم في المبادئ التشريعية العامة التي راعوها في تشريعهم هي الخطة الإسلامية، وهي الاقتصار على تشريع ما تدعو إليه الحاجة فقط، وعدم سبق الحوادث بالتشريع، ومسايرة المصالح، ورعاية التيسير والتخفيف. ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية: الآثار التشريعية التي خلفها هذا العهد ثلاثة: الأول: شرح قانوني لنصوص الأحكام في القرآن والسنة، فإن مجتهدي الصحابة لما بحثوا في هذه النصوص لتطبيقها على الوقائع تكونت لهم آراء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فهمها وما يراد منها، وكانوا في تقدير آرائهم يستندون إلى ملكتهم اللسانية، وملكتهم التشريعية وما وقفوا عليه من حكم التشريع، وأسباب نزول القرآن، وورود السنة، فمن مجموعة هذه الآراء تكون شرح قانوني لنصوص الأحكام يعد أوثق مرجع لتفسيرها وبيان إجمالها، ووجوه تطبيقها، ويتجلى هذا في كتب تفسير القرآن بالمأثور مثل: التفسير المنسوب لابن عباس، وتفسير محمد بن جرير الطبري. والثاني: عدة فتاوى اجتهادية صدرت من الصحابة في وقائع لا نص على حكمها؛ فإن المجتهدين منهم كانوا إذا لم يجدوا نصًّا في القرآن أو السنة على كم الواقعة المعروضة اجتهدوا لاستنباط حكمها بطريق من طرق الاستنباط؛ وبهذا الاستنباط شرعوا أحكاما كثيرة في وقائع عديدة في مختلف البلدان، وكان الفتاوى التي صدرت في أول عهدهم لها صبغة غير الصبغة التي للفتاوى الني صدرت منهم بعد ذلك؛ لأن الأولى في الغالب صدرت عن اجتهاد الجماعة، وأما الثانية فقد صدرت عن اجتهاد الأفراد. وقد عنى بعض رجال الحديث في أول العهد بتدوين السنة بأن يدونوا فتاوى الصحابة في مختلف أبواب الأحكام مع السنة، وسيتبين في العهد التشريعي الثالث أن الاحتجاج بهذه الفتاوى كان موضع اختلاف الأئمة، فمنهم من لا يخرج عنها، ومنهم من يخالفها. الثالث: انقسام حزبي ابتدأ سياسيا بشأن الخلافة والخليفة، وانقلب دينيا ذا أثر خطير في التشريع، وذلك أنه بعد أن قتل عثمان بن عفان وبويع بالخلافة علي بن أبي طالب، ونازعه عليها معاوية بن أبي سفيان، واشتعلت الحرب بين الفريقين، وانتهت إلى تحكيم الحكمين نتج عن هذا انقسام المسلمين إلى أحزاب ثلاثة: الخوارج، والشيعة، وأهل السنة والجماعة، وهم جمهور الأمة. فالخوارج جماعة من المسلمين نقموا من عثمان سياسته في خلافته، ونقموا من علي قبوله التحكيم، ونقموا من معاوية توليه الخلافة بالقوة، فخرجوا عليهم جميعا، وكان مبدؤهم أن خليفة المسلمين يجب أن ينتخبه المسلمون بانتخاب حر ممن توافرت فيه الكفاءة للخلافة، سواء كان قرشيا أم غير قرشي، ولو كان عبدا حبشيا، وأنه لا تجب طاعته إلا إذا كان عمله في حدود القرآن والسنة، فإن جاوز حدودهما وجبت معصيته، وسلكوا في تأييد مبدئهم، والانتقام من خصومهم كل وسائل العنف والشدة في حربهم، وفي تأييد عقيدتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وأما الشيعة فهم جماعة من المسلمين أحبوا علي بن أبي طالب وذريته وأفرطوا في هذه المحبة، ورأوا أنه هو وذريته أحق بالخلافة من غيره؛ لأنه هو الوصي الذي أوصى إليه الرسول بالخلافة من بعده. وانقسموا فيما بينهم فرقًا بشأن توارث هذه الخلافة إلى: كيسانية، وزيدية، وإسماعيلية، وجعفرية، كل فرقة تجعل الخلافة في فرع خاص من ذرية علي. وأما جمهور المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة، فهم الذين لم يذهبوا مذهب الخوارج ولا مذهب الشيعة، ولم يروا أن الخلافة وصية لأحد، ورأوا أن الخليفة ينتخب من أكفأ قريش إن وجد، لا يفاضلون بين الخلفاء ولا بين غيرهم من الصحابة ويؤولون ما كان بينهم من خصومات بأنها كانت اجتهادية في أمور سياسية لا ترتبط بكفر ولا إيمان. هذا الانقسام السياسي بين الأحزاب الثلاثة كان له أثر تشريعي؛ لأن الخوارج كانوا لا يأخذون بالأحكام التي وردت في أحاديث رواها عثمان، أو علي أو معاوية أو رواها صحابي ممن ناصروا واحدا منهم، وردوا كل أحاديثهم وآرائهم وفتاويهم، ورجحوا كل ما روي عمن يرضونهم وآراء علمائهم وفتاويهم، وبهذا كان له فقة خاص، وكذلك الشيعة ردوا أحاديث كثيرة رواها عن الرسول جمهور الصحابة ولم يعولوا على آرائهم وفتاويهم، وعولت كل طائفة منهم على الأحاديث التي رواها أئمتهم من آل البيت والفتاوى التي صدرت عنهم، وبهذا كان لهم أيضا فقه خاص، وكتب فقههم المبطوعة لا تحصى، وأما جمهور المسلمين فكانوا يحتجون بكل حديث صحيح رواه الثقات العدول بلا تفريق بين صحابي وصحابي، ويأخذون بفتاوى الصحابة وآرائهم جميعا على التفصيل الذي سنبينه، وبهذا كان أحكامهم لا تتفق مع أحكام الخوارج والشيعة في عدة موضوعات، كالإرث والوصية وبعض عقود الزواج وغيرها. وهذه نبذة في التعريف بأشخاص بعض رءوس التشريع من الصحابة وهم: زيد بن ثابت من رءوس التشريع بالمدينة، وعبد الله بن عباس رأس التشريع بمكة، وعبد الله بن مسعود رأس التشريع بالعراق، وعبد الله بن عمرو بن العاص رأس التشريع بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 زيد بن ثابت: هو أبو سعيد زيد بن ثابت الضحاك النجاري الأنصاري. قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان يحفظ من القرآن وقتئذ ست عشرة سورة، شهد غزوة الخندق وما بعدها من المشاهد، وأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- راية بني النجار يوم تبوك وكانت مع عمارة بن حزم، فلما استفسر عن سبب أخذها منه قال: القرآن مقدم، وزيد أكثر أخذًا للقرآن منك. وكان يكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوحي والرسائل. روي عنه أنه قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا فتعلم السريانية"، فتعلمتها في سبعة عشر يوما، وتعلم العبرانية في خمسة عشر يوما. وكان يكتب لأبي بكر عمر في خلافتهما، وولي بيت المال لعثمان، وكان كل من عمر وعثمان يستخلفه على المدينة إذا حج، وهو الذي جمع القرآن بإشارة أبي بكر وعمر، وقال له أبو بكر: إنك شاب ثقة لا نتهمك. وكفى بهذا تعديلًا. كان زيد رأسا في القضاء والفتوى والجراءة والفرائض، وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للصحابة: "أفرضكم زيد"، وقال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين الفرائض والقرآن. وعن ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وبالجملة فقد كان واسع الاطلاع، ضليعا في فهم تعاليم الإسلام، له القدرة الفائقة على استنباط الأحكام، إذا رأى فيما لم يرد فيه أثر. قال سليمان بن يسار: ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحدا في القضاء، والفتوى والفرائض والقراءة. روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اثنان وتسعون حديثا اتفق الشيخان على خمسة منها. وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بحديث توفي رضي الله عنه سنة 15هـ. عبد الله بن عباس: هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كان يقال له: الحبر والبحر لكثرة علمه، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين حين كان بنو هاشم بالشعب، ولما أتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حنكه بريقه، وضمه إلى صدره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". وفي رواية: "علمه الحكمة". وقد انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير، وكان أكثر الصحابة إفتاء على الإطلاق، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد الستة المكثرين لرواية الحديث. فقد روي له ألف وستمائة وستون حديثا. اتفق الشيخان منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري منها بمائة وعشرين. ومسلم بتسعة وأربعين، وجل مروياته عن كبار الصحابة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي ولابن عباس ثلاث عشرة سنة، فكان يجتهد في تعرف ما عند الصحابة من حديث وعلم، وكان يقول: وجدت عامة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الأنصار، فإني كنت لآتي الرجل فأجده نائما لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ وأسأله عما أريد ثم أنصرف. ولسعة علمه وقوة حجته وصفاء ذهنه كان عمر يدنيه ويعظمه ويعتد به مع حداثة سنه، ولما قال له عبد الرحمن بن عوف: إن أبناءنا مثله. قال عمر: إنه من حيث تعلم "يريد: قدمه علمه". وكان من الأدب بمكان، فإذا سأله عمر مع الصحابة يقول: لا أتكلم حتى يتكلموا، وكان عمر يقول له: إنك لأصبح فتياننا وجها، وأحسنهم خلقا، وأفهمهم في كتاب الله. وروى البخاري في تفسير سورة النصر عن ابن عباس أن عمر دعا ذات يوم شيوخ بدر ودعاني معهم، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم، فقال لي: أكذلك يا ابن عباس؟ قلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلن له. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وبالجملة فقد ظهر النبوغ العربي في ابن عباس بأكمل معانيه علما وفصاحة وكمالا وألمعية، وكان واسع الاطلاع في نواح علمية مختلفة، يعرف الشعر، والأنساب، وأيام العرب، ويعلم ما ورد في القرآن، وأسباب نزوله، وحساب الفرائض، والمغازي، ويعرف شيئًا من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل. قال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وكان ابن عمر يقول: "ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"، وقال عطاء: "ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس"، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع، وقال عبيد الله بن عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ابن عتبة: ما رأيت أحدًا أعلم من ابن عباس بما سبقه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبقضاء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا أفقه منه، ولا أعلم بتفسير القرآن وبالعربية وبالشعر، والحساب والفرائض وكان يجلس يوما للفقه، ويما للتأويل، ويوما للمغازي، ويوما للشعر، ويوما لأيام العرب، وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، ولا سائلا سأله إلا وجد عنده علما، كانت أكثر حياته علمية يتعلم ويعلم، لم يشغل بالإمارة إلا قليلا لما استعمله علي على البصرة وتوفي بالطائف سنة 68هـ عن أحد وسبعين عاما. وعلى ابن عباس يدور علم أهل مكة في التفسير والفقه. عبد الله بن مسعود: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، وينسب إلى أمه أحيانا فيقال: ابن أم عبد، أسلم قديما، قال: رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وهو أول من جهر بالقرآن وأسمعه قريشا: هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد بدرا، واحدا، والمشاهد كلها. وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وشهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان شديد الملازمة كثير الخدمة للنبي -صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب سواكه وطهوره ونعله، يلبسه إياه إذا قام ويخلعه، ثم يجعله في ذراعه إذا جلس، يمشي أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب حتى لقد ظنه بعضهم من قرابته، ففي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نرى من كثرة دخوله ودخول أمه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولزومه له. وقيل لحذيفة: أخبرنا برجل قريب للسمت والدل والهدى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نأخذ عنه، فقال: لا نعلم أحدا أقرب سمتا ودلا وهديا برسول الله من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة. وقال عقبة بن عامر: ما أدري أحدا أعلم بما نزل على محمد بن عبد الله. فقال أبو موسى: إن تقل ذلك فإنه يسمع حين لا نسمع؛ ويدخل حين لا ندخل؛ وصح عنه أنه قال: أخذت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 سبعين سورة. وروى له ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على أربع وستين، وانفرد البخاري بواحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وكان من أنفذ الصحبة بصيرة في الفتيا، ومن ساداتهم في القرآن والفقه؛ لما سيره عمر إلى الكوفة كتب إلى أهلها: إني قد بعثت عمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل بدر، فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي. وقد أقام في الكوفة يأخذ عنه أهله الحديث والفقه، وهو معلمهم، وقاضيهم ومؤسس طريقتهم، وقد كان من منحى عمر، وأظهر مناحيه الاعتداد بالرأي حيث لا نص، وتلقى عنه طريقته: علقمة بن قيس النخعي وأخذها إبراهيم النخعي عن علقمة وإبراهيم هو أستاذ حماد بن أبي سليمان، وحماد هو أستاذ أبي حنيفة. قدم ابن مسعود في آخر عمره من الكوفة إلى المدينة ومات بها سنة 32هـ. عبد الله بن عمرو بن العاص: أسلم عبد الله قبل أبيه عمرو، وكان أصغر منه باثنتي عشرة سنة، وكان عالما بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة، وقد امتاز بأنه ما كان يكتفي بحفظ ما سمعه من رسول الله، بل كان يكتبه، وقد استأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أن يكتب عنه فأذن له فقال: يا رسول الله؛ أكتب ما أسمع في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول إلا حقا. وقال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب، وقال مجاهد: أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة تحت مفروشه فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئا؟ قال: هذه الصادقة، ما سمعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه أحد، إذا سلمت لي هذه، وكتاب الله، والوعظ فلا أبالي على ما كانت عليه الدنيا. وقد شهد مع أبيه فتح مصر، واختلط بها، وروى عنه أهلها أكثر من مائة حديث، وكان مرجعهم في شئونهم التشريعية يفتيهم ويعلمهم، وعنه أخذ مفتي مصر: يزيد بن حبيب، وتلاميذه، كالليث بن سعد، وأقرانه، فهو في مصر كعبد الله بن مسعود بالكوفة، وعبد الله بن عباس بمكة. وقد قال ابن سعد أنه توفي رحمه الله بمصر، ودفن بداره سنة سبع وسبعين هجرية، في خلافة عبد الملك بن مروان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 3- عهد التدوين والأئمة المجتهدين : هذا العهد ابتدأ من أول القرن الثاني الهجري، وانتهى في أواسط القرن الرابع الهجري، فهو بالتقريب 250 سنة، وسمى عهد التدوين والأئمة المجتهدين؛ لأن حركة الكتابة والتدوين نشطت فيه، فدونت السنة، وفتاوى المفتين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وموسوعات في تفسير القرآن، وفقه الأئمة المجتهدين، ورسائل في علم أصول الفقه؛ ولأن مواهب عدد كبير من رجال الاجتهاد والتشريع ظهرت فيه وسرت فيهم روح تشريعية كان لها أثر خالد في التقنين، واستنباط الأحكام لما وقع وما يحتمل وقوعه. وهذا هو العهد الذهبي للتشريع الإسلامي، فقد نما فيه ونضج وأثمر ثورة تشريعية أغنت الدولة الإسلامية بالقوانين والأحكام على سعة أرجائها واختلاف شئونها وتعدد مصالحها. والأسباب التي أدت إلى نمو الفقه الإسلامي ونشاط حركة الاجتهاد في هذا العهد كثيرة، ولكن أهمها ما يأتي: أولا: أن الدولة الإسلامية في هذا العهد اتسعت رقعتها وتباعدت أطرافها وشملت برعايتها كثيرا من الشعوب المختلفة الأجناس، والعادات والمعاملات والمصالح؛ لأن حدود الدولة الإسلامية امتدت شرقا إلى الصين، وغربا إلى بلاد الأندلس. وهذه البلدان وشعوبها لا بد لها من قوانين يرجع إليها قضاتها، وولاتها وفتاوى يرجع إليها أفرادها، ولا مصدر لهذا التقنين والإفتاء إلا مصادر الشريعة. لهذا بذل العلماء جهودهم في الرجوع إلى هذه المصادر، واستمدوا من نصوص الشريعة وروحها، وما أقامه الشارع من دلائلها، أحكام ما طرأ للدولة من مصالح وحاجات، بل زاد نشاطهم فشرعوا أحكاما لحوادث فرضية، وبهذا النشاط لم يضق التشريع الإسلامي بحاجة، ولم يقصر عن مصلحة، والنشاط السياسي يبث روح النشاط في كل شئون الدولة. وثانيًا: أن الذين تصدوا للتقنين والإفتاء في ذلك العهد وجدوا طرق التشريع ممهدة وصعابه ميسرة؛ لأنهم وجدوا المصادر التشريعية في متناولهم ووجدوا كثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 من الوقائع والمشاكل قد عالجها سلفهم من قبلهم، فالقرآن مدون ومنشور بين لخاصة المسلمين وعامتهم، والسنة مدون أكثرها من بدء القرن الثاني الهجري، وكذلك فتاوى الصحابة والتابعين، فاليسر الذي وجده مجتهدو ذلك العهد في رجوعهم إلى القرآن والسنة والنور الذي لمحوه من فتاوى سلفهم من الصحابة، وتابعيهم ومن آثارهم في تفسير النصوص كانا من عوامل نشاطهم، ووفرة إنتاجهم والخلف يستثمر عقله وعقل سلفه. وثالثًا: أن المسلمين في ذلك العهد كانوا شديدي الحرص على أن تكون جميع أعمالهم من عبارات ومعاملات، وعقود وتصرفات على وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فلهذا كانوا في كلياتهم وجزئياتهم يرجعون إلى المفتين ورجال التشريع، فكان المجتهدون في ذلك العهد موردا لا ينقطع وارده من أفراد وولاة وقضاة. ومن هذا اتصلت جهودهم ونما إنتاجهم. ورابعا: أن ذلك العهد نشأت فيه أعلام لهم مواهبهم واستعداداتهم، وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها على استثمار هذه المواهب والاستعدادات. فتكونت الملكة التشريعية لكثير من أفذاذهم أمثال: أبي حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وغيرهم من معاصريهم من الأئمة والمجتهدين، واقتدوا بهذه الملكات على تنمية الفقه الإسلامي وسد الحاجة التشريعية للدولة. فالبيئة الإسلامية في ذلك العهد أنضجت عقول ذوي المذاهب من رجالها؛ لأن العقول الراجحة كالبذر الصالح إذا وجد التربة الطيبة والجو الملائم آتى ثمراته، ولا خير في صلاح البذر إذا خبثت التربة وفسد الجو، كما أنه لا خير في طيب التربة، وحسن الجو إذا فسد البذر. من تولى سلطة التشريع في هذا العهد: في أواخر القرن الأول لازم الصحابة الذين تصدوا للإفتاء والتشريع في مختلف الأمصار جماعة من التابعين أخذوا عنهم القرآن، ورووا عنه السنة: وحفظوا فتاويهم؛ وفهموا منهم أسرار التشريع وطرق الاستمداد للأحكام، وهؤلاء التابعون منهم من كان يستفتي، ويفتي في حياة الصحابة أنفسهم مثل: سعيد بن المسيب بالمدينة، وعلقمة بن قيس. وسعيد بن جبير بالكوفة، حتى روي أن عبد الله بن عباس كان إذا حج أهل الكوفة واستفتوه قال لهم: أليس فيكم سعيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 جبير؟ وقد لازم هؤلاء التابعين في حياتهم جماعة من تابعي التابعين تلقوا عنهم ما تلقوه عن الصحابة؛ من القرآن والسنة، وأخذوا عنهم ما علموه من الفقه وأسرار التشريع، ولازم تابعي التابعين جماعة من طبقة الأئمة الأربعة المجتهدين ومعاصريهم من رجال التشريع. فلما انقرض رجال التشريع من الصحابة خلفهم في تولي سلطة التشريع تلاميذهم من التابعين، وخلف هؤلاء تلاميذهم من تابعي التابعين، وخلف هؤلاء تلاميذهم من الأئمة الأربعة المجتهدين وأقرانهم. فكان رجال التشريع في كل مصر من أمصار المسلمين طبقات؛ وكل طبقة يعد رجالها تلاميذ لسلفهم وأساتذة لخلفهم، ومن لازموا المشرعين في حياتهم، وأخذوا عنهم علمهم وفقههم تصدوا لإفتاء الناس من بعدهم، والقيام بما كان يقوم به أساتذتهم، وبهذا اتصلت حركة التشريع في الأمصار. ففي المدينة أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب؛ وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأشهر تلاميذ هؤلاء: سعيد بن المسيب؛ وعروة بن الزبير؛ وسائر فقهاء المدينة السبعة. وأشهر تلاميذ: هؤلاء محمد بن شهاب الزهري؛ ويحيى بن سعيد. وأشهر من خلف هؤلاء: مالك بن أنس وأقرانه. وفي مكة أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عباس. وأشهر تلاميذه: عكرمة، ومجاهد، وعطاء. وأشهر تلاميذهم: سفيان بن عيينة، ومفتي الحرم مسلم بن خالد، وأشهر من خلف هؤلاء: الشافعي في حياته الأولى. وفي الكوفة أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عباس، وأشهر تلاميذه: علقمة بن قيس، والقاضي شريح. وأشهر تلاميذهما: إبراهيم النخعي. وأشهر تلاميذه حماد بن أبي سليمان أستاذ أبي حنيفة وأصحابه. وفي مصر أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص وأشهر تلاميذه: مفتي مصر يزيد بن حبيب. وأشهر تلاميذه: الليث بن سعد وأقرانه من بني عبد الحكم، وأشهر من خلف هؤلاء: الشافعي في حياته الأخيرة. ولم يكتسب رجال التشريع من كل طبقة من هذه الطبقات سلطة التشريع من تعيين الخليفة، أو انتخاب الأمة وإنما وثق المسلمون بهم كما وثقوا بأساتذتهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الصحابة واطمأنوا إلى عدالتهم، وضبطهم، وعلمهم، وفقههم، فرجعوا إليهم يسألهم الولاة والقضاة في الأقضية والخصومات، ويستفتيهم الأفراد في وقائعهم وما يطرأ لهم من الحاجات، وكانت كل طبقة ترث من سلفها العلم والثقة، واطمئنان المسلمين إلى بيانهم النصوص وفتاويهم فيما لا نص فيه. وكان أكثر رجال التشريع في هذا العهد يقومون بتدريس العلوم الشرعية ورواية الحديث، ومنهم ولي القضاء مثل: شريح، والشعبي، وأبي يوسف. ومنهم من كان يتجر، كأبي حنيفة، فلم يكن الإفتاء وظيفة ينقطع لها المفتي وإنما كان واجبا يتصدى للقيام به من آنس في نفسه القدرة على أدائه مع اشتغاله بوظيفته أو تجارته أو دراسته. مصادر التشريع في هذا العهد: كانت مصادر التشريع في هذا العهد أربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والاجتهاد بالقياس أو بأي طريق من طرق الاستنباط. فكان المفتي إذا وجد نصا في القرآن أو السنة يدل على حكم ما استفتي فيه، وقف عند النص ولا يتعدى حكمه، وإذا لم يجد في الواقعة نصا ووجد سلفه من المجتهدين أجمعوا في هذه الواقعة على حكم، وقف عنده وأفتى به، وإذا لم يجد نصا على حكم الواقعة ولا إجماعا على حكم فيها، اجتهد واستنبط الحكم بالطرق التي أرشد إليها الشارع للاستنباط. ما طرأ على مصادر التشريع: وقد طرأ على المصدر التشريعي الأول، وهو القرآن، في هذا العهد طارئان لهما أثرهما في حفظه، وضبطه وصونه من أي تحريف. الأول: عناية طائفة من المسلمين بحفظه، جميعه وتصديهم لتلقي الحفاظ عنهم، وأشهر هؤلاء القراء السبعة الذين اشتهروا بالحفظ والضبط والإتقان، وما انقرضوا في القرن الثاني الهجري إلا وقد خلفهم في الحفظ والضبط تلاميذهم، وخلف هؤلاء تلاميذهم واتصل سند الحفاظ الذين تنافسوا في الضبط وساعدوا على ازدياد حفظة القرآن والتنافس في حفظه. إن تلاوته عبادة وإنه يتلى كل صلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 والطارئ الثاني: إدخال الإصلاح في رسم كتابته وشكل حروفه. وذلك أن المصحف الذي دون في عهد عثمان بن عفان ومنه نسخت عدة مصاحف ووزعت في الأمصار، كان مكتوبا بالخط الكوفي لا نقط ولا شكل، وكان الاعتماد في قراءته على التلقي من الحفظة، ولكن لما دخل في الإسلام كثير من الأمم غير العربية وخيف أن يقع بعض القارئين في الخطأ أو اللبس، وضع أبو الأسود الدؤلي بناء على طلب أمير العراق -زياد بن أبيه- علامات لشكل أواخر الكلمات. فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف. وعلامة الكسرة نقطة تحته، وعلامة الضمة نقطة إلى جانبه، وعلامة التنوين نقطتن. ثم عدل الخليل بن أحمد هذه العلامات فجعل علامة التفحة ألفا مسطوحة فوق الحرف، وعلامة الكسرة ياء تحته، وعلامة الضمة واو فوقه، ولم يقتصر على شكل أواخر الكلمات بل زاد شكل الكلمات كلها، ووضع نصر بن عاصم بناء على طلب أمير العراق -الحجاج بن يوسف- النقط لما ينقط من الحروف بنقطة أو اثنتين. وبهذا التنافس في حفظ القرآن والتزايد في حفظته، وهذا الإصلاح والتهذيب في رسمه، وشكله، ونقطه، وتمييز كل حرف بما يعين على النطق به صحيحا تمت للمصدر التشريعي الأول وسائل التكميل والضبط والتيسير. وأما المصدر التشريعي الثاني وهو السنة، فقد طرأ عليه أيضا في أول هذا العهد طارئ له أثر تشريعي عظيم، وذلك أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب في عهد خلافته إلى والي المدينة أبي بكر محمد بن عمر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم. وذهاب العلماء"، وكلف أيضا بهذا التدوين محمد بن شهاب الزهري، فقام كل منهما بتدوين ما استطاع تدوينه من السنة، وبهذا بدأ تدوين نصوص المصدر التشريعي الثاني بعد أن لبثت في القرن الهجري الأول كله يرجع إليها في صدور رواتها وحفاظها فقط، وتتابع على هذا التدوين كثير من العلماء. ففي سنة 140هـ دون الإمام مالك بن أنس كتابه: الموطأ في صحيح الحديث بناء على طلب الخليفة المنصور، وفي القرن الثاني الهجري دون أصحاب المسانيد في السنة مسانيدهم، والمسند هو: ما تجمع فيه الأحاديث حسب رواتها، فيجمع ما رواه عمر على حدة، وما رواه أبو بكر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 حدة بصرف النظر عن موضوع الحديث، وأقدم ما وصل إلينا منها مسند الإمام أحمد. وفي القرن الثالث الهجري دونت كتب صحاح السنة الستة وهي: صحيح البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه. وإذا قيل في الحديث رواه الستة، أو متفق عليه فالمراد أنه رواه هؤلاء جميعهم، ودون كثيرون غير هؤلاء عدة مجاميع في السنة. ولكن هذا التدوين الذي حفظ السنة من الضياع لم يؤد إلى جمع المسلمين على مجموعة واحدة من السنة تكون مرجعا لخاصتهم وعامتهم على السواء، كما جمعت كلمتهم على مجموعة واحدة من نصوص القرآن، ولهذا بقيت السنة بعد تدوينها فيها مجال للاختلاف وإليها منفذ للوضع والافتراء، وقد فكر الخليفة المنصور العباسي في أن يكون مجموعة من السنة وينشرها بين المسلمين يجمع كلمتهم عليها والرجوع إليها، فأمر إمام المدينة مالك بن أنس أن يكتب من السنن كتابا يتجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، فكتب الإمام مالك كتابه الموطأ، وأراد المنصور أن ينفذ فكرته ويحمل الناس على الرجوع إليه وحده فقال له مالك: لا سبيل إلى ذلك يا أمير المؤمنين؛ لأن الصحابة افترقوا بعد الرسول كل يتبع ما صح عنده. وكلهم على هدى وكلهم يريد الله، فعدل المنصور عما أراد. الخطة التشريعية في هذا العهد: في صدر هذا العهد حين كانت السلطة التشريعية في طبقة التابعين وكبار تابعيهم، كانت خطتهم التشريعية هي خطة أساتذتهم من الصحابة في رجوعهم إلى مصادر التشريع، وفي مبادئها العامة التي راعوها في تشريعهم، ولهذا كانت فتاويهم على قدر ما وقع من الحوادث والأقضية، ولم تتسع مسافات الخلاف بينهم ولم تتجاوز أسباب اختلافهم الأسباب الثلاثة التي من أجلها اختلفت فتاوى الصحابة، ولكن من ابتداء هذا العهد وقعت بين بعض رجال التشريع مناظرات واختلافات، وكانت تؤذن بظهور خطط تشريعية جديدة، فقد وقعت في المدينة بحوث تشريعية بين: ربيعة بن أبي عبد الرحمن وبين محمد بن شهاب الزهري ونظرائه، أدت إلى أن كثيرين من فقهاء المدينة كانوا يفارقون مجلس ربيعة، وإلى أنهم لقبوه ربيعة الرأي، ووقع في الكوفة مثل هذا بين إبراهيم النخعي، وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الشعبي. فلما آلت السلطة التشريعية في أواسط القرن الهجري الثاني إلى طبقة الأئمة المجتهدين، أبي حنيفة، وأقرانه، وأصحابه، ومالك وأقرانه وأصحابه، كانت قد تكونت عدة آراء في خطة التشريع وطرأت جملة عوامل جعلت من رجال التشريع أحزابًا كل حزب له مذهب تشريعي يختلف عن مذاهب الآخرين في أحكامه، وفي طرق استنباطه وفي بعض مبادئه العامة، ومن هذا تعددت الخطط التشريعية لرجال التشريع، وتكونت المذاهب الفقهية. أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين وتكون المذاهب: بينا أنه في عهد الرسول لم يقع اختلاف في حكم الواقعة؛ لأن المرجع التشريعي واحد، وأنه في عهد الصحابة لما تعدد رجال التشريع منهم وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام، وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة، وأن هذا الاختلاف كان لا بد أن يقع بينهم؛ لأن المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر؛ ولأن السنة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء، وربما وقف بعضهم منها على ما لم يقف عليه الآخر؛ لأن المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع، فلهذه الأسباب اختلفت فتاويهم وأحكامهم في بعض الوقائع والأقضية مع اتفاقهم على مصادر التشريع، وترتيب رجوعهم إليها والمبادئ التشريعية العامة. أي أنهم اختلفوا في الفروع فقط. ولم يختلفوا في أصول التشريع، ولا في خطته، ولكن لما آلت السلطة التشريعية في القرن الثاني الهجري إلى طبقة الأئمة المجتهدين اتسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع، ولم تقف أسباب اختلافهم عند الأسباب الثلاثة التي بني عليها اختلاف الصحابة، بل جاوزتها إلى أسباب تتصل بمصادر التشريع وبالنزعة التشريعية وبالمبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص، وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط، بل كان اختلافًا أيضا في اسس التشريع وخططه، وصار لكل فريق منهم مذهب خاص يتكون من أحكام فرعية استنبطت بخطة تشريعية خاصة. ويرجع اختلاف الخطة التشريعية للأئمة المجتهدين إلى اختلافهم في أمور ثلاثة: الأول: في تقدير بعض المصادر التشريعية. والثاني: في النزعة التشريعية. والثالث: في بعض المبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فأما اختلافهم في تقدير بعض مصادر التشريع فقد ظهر فيما يأتي: أولًا: في طريق الوثوق بالسنة والميزان الذي ترجع به رواية عن رواية، وذلك أن الوثوق بالسنة مبني على الوثوق برواتها وكيفية روايتها، وقد اختلف الأئمة في طريق هذا الوثوق فمجتهدو العراق -أبو حنيفة وأصحابه- يحتجون بالسنة المتواترة والمشهورة، ويرجحون ما يروي الثقات من الفقهاء، ولهذا قال أبو يوسف: "وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء"، ومجتهدو المدينة مالك وأصحابه يرجحون ما عليه أهل المدينة بدون اختلاف ويتركون ما خالفه من أخبار الآحاد، وباقي الأئمة يحتجون بما رواه العدول الثقات من الفقهاء وغير الفقهاء، وافق عمل أهل المدينة أو خالفه. وترتب على هذا أن مجتهدي العراق جعلوا المشهور في حكم المتواتر وخصصوا به العام في القرآن وقيدوا به المطلق فيه، وغيرهم لم يجعلوا له هذه القوة، وترتب أيضا أن الحديث المرسل هو: ما رواه الصحابي بقوله: أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا، من غير أن يصرح بأنه سمع ذلك بنفسه أو شافهه أو شاهده، يحتج به بعض رجال التشريع ولا يحتج به بعضهم. فهذا الاختلاف في طريق الوثوق بالسنة أدى إلى أن بعضهم احتج بسنة لم يحتج بها الآخر، وبعضهم رجح سنة هي مرجوحة عند الآخر، وعن هذا نشأ اختلاف الأحكام. وثانيا: في فتاوى الصحابة وتقديرها، فإن الأئمة اختلفوا في الفتاوى الاجتهادية التي صدرت عن أفراد الصحابة، فأبو حنيفة -ومن تابعه- خطته بالنسبة إليها: أن يأخذ بأية فتوى منها، ولا يتقيد بواحدة معينة ولا يخرج عنها جميعًا، والشافعي -ومن تابعه- خطته بالنسبة إليها أنها فتاوى اجتهادية فردية صادرة من غير معصومين فله أن يأخذ بأية فتوى منها، وله أن يفتي بخلافها كلها. وعن هذا نشأ أيضا اختلاف في الأحكام. وثالثا: في القياس. فإن بعض المجتهدين من: الشيعة، والظاهرية أنكروا الاحتجاج بالقياس، ونفوا أن يكون مصدرا للتشريع ولهذا سموا: نفاة القياس. وجمهور الأئمة احتجوا بالقياس، وعدوه المصدر التشريعي بعد القرآن والسنة والإجماع، ولكنهم مع اتفاقهم على أنه حجة اختلفوا فيما يصلح أن يكون علة للحكم ويبني عليه القياس، ونشأ عن هذا أيضا اختلاف في الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وأما اختلافهم في النزعة التشريعية؛ فقد ظهر في انقسامهم إلى فريق أهل الحديث، ومنهم أكثر مجتهدي الحجاز، وفريق أهل الرأي، ومنهم أكثر مجتهدي العراق، وليس معنى هذا الانقسام أن فقهاء العراق لا يصدرون في تشريعهم عن الحديث؛ وأن فقهاء الحجاز لا يصدرون في تشريعهم عن الاجتهاد بالرأي؛ لأنهم جميعا متفقون على أن الحديث حجة شرعية ملزمة، وأن الاجتهاد بالرأي، أي القياس، حجة شرعية فيما لا نص فيه. وإنما معنى هذا الانقسام وسبب هذه التسمية أن فقهاء العراق أمعنوا النظر في مقاصد الشارع، وفي الأسس التي بنى عليها التشريع، فاقتنعوا بأن الأحكام الشرعية معقول معناها، ومقصود بها تحقيق مصالح الناس، وبأنها تعتمد على مبادئ واحدة، وترمي إلى غاية واحدة، وهي لهذا لا بد أن تكون متسقة ولا تعارض ولا تباين بين نصوصها وأحكامها، وعلى هذا الأساس يفهمون النصوص، ويرجحون نصا على نص ويستنبطون فيما لا نص فيه، ولو أدى استنباطهم على هذا الأساس إلى صرف نص عن ظاهره، أو ترجيح نص على آخر أقوى منه رواية، حسب الظاهر، وهم من أجل هذا لا يتحرجون من السعة في الاجتهاد بالرأي، ويجعلون له مجالا في أكثر بحوثهم التشريعية. وأما فقهاء الحجاز فقد عنوا بحفظ الأحاديث وفتاوى الصحابة، واتجهوا في تشريعهم إلى فهم هذه الآثار حسبما تدل عليه عبارتها، وتطبيقها على ما يحدث من الحوادث غير باحثين في علل الأحكام ومبادئها؛ فإذا وجدوا ما فهموه من النص لا يتفق مع ما يقتضيه العقل لم يبالوا بهذا، وقالوا: هو النص. وكانوا من أجل هذا يتحرجون من الاجتهاد بالرأي، ولا يلجأون إليه إلا عند الضرورة القصوى. مثلا: ورد في الحديث أن في كل أربعين شاة شاة، وأن صدقة الفطر صاع من تمر أو شعير، وأن من رد الشاة المصراة بعد احتلاب لبنها رد صاعا من تمر. فقهاء العراق يفهمون هذه النصوص على ضوء معناها المعقول ومقصد الشارع من تشريعها؛ وهو أن المالك أربعين شاة يجب عليه أن ينفع الفقراء بواحدة أو ما يعادلها، وأن المتصدق بصدقة الفطر يجب عليه أن ينفعهم بصاع من تمر أو ما يعادله، واللبن المحتلب يضمن بمثله أو قيمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وليس خصوص الشاة أو الصاع مقصودا للشارع، فمن زكى بقيمة الشاة أو تصدق بقيمة الصاع، أو ضمن لبن المصراة بقيمته أجزأه؛ لأن المقصود نفع الفقراء، وتعويض المال المتلف. وأما فقهاء الحجاز فيفهمون هذه النصوص حسبما تدل عليه عبارتها الظاهرة، ولا يبحثون في علة التشريع، ولا يتجهون إلى التأويل بناء على مراعاة العلل المعقولة، وعلى هذا يوجبون الشاة بخصوصها، والصاع بخصوصه، ولا تجزئ في مذهبهم القيمة. وأهم الأسباب التي أدت إلى اختلاف هاتين النزعتين هي: 1- أن الأحاديث وفتاوى الصحابة لم تكن كثيرة في العراق كثرتها في الحجاز، فالحجازيون وجدوا عندهم ثروة من الآثار اعتمدوا عليها في تشريعهم، وركنوا إليها، وأما فقهاء العراق فلم تكن لديهم هذه الثروة، فاعتمدوا على عقولهم، واجتهدوا في تفهم معقول النص وعلة التشريع لتتسع معاني النصوص لما لم تتسع له ألفاظها، وأسوتهم في هذا أستاذهم عبد الله بن مسعود. 2- إن العراق كانت فيها الفتن التي أدت إلى افتراء الأحاديث وتحريفها؛ لأنها كانت مهد الشيعة ومقر الخوارج، وقد شاهد فقهاء العراق من الجرأة على وضع الأحاديث والتحريف فيها ما لم يشاهده فقهاء الحجاز، فلهذا تشددوا في قبول الرواية والتزموا أن يكون الحديث مشهورا بين أهل الفقه، وإذا وجدوا حديثًا يفهم منه ما لا يتفق، وحكمة الشارع أولوه أو تركوه. 3- أن بيئة العراق غير بيئة الحجاز، والأقضية والحوادث في البلدين مختلفة؛ لأن دولة الفرس خلفت في العراق أنواعًا من المعاملات والعادات والنظم لا يعهد مثلها في بلاد الحجاز، فكان مجال الاجتهاد في العراق ذا سعة وأفق البحث ممتدا، ولهذا تكونت في فقهاء العراق ملكة البحث، والتفكير وبدت لهم وجوه عديدة من الرأي والنظر في التشريع، وأما فقهاء الحجاز فقلما حدث لهم ما لم يحدث لسلفهم من التابعين أو الصحابة؛ لأن البيئة واحدة، وقلما حدث لهم ما لم يحفظوا في حكمه حديثا أو فتوى صحابي، فلما لم يجدوا للاجتهاد المجال الذي وجده العراقيون اعتادوا فهم النصوص على ظواهرها، ولم تدعهم حاجة إلى البحث في عللها أو التعمق في مقاصدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وأما اختلافهم في بعض المبادئ الأصولية اللغوية: فقد نشأ من اختلاف وجهات النظر في استقراء الأساليب العربية. فمنهم من رأى أن النص حجة على ثبوت حكمه في منطوقه، وعلى ثبوت خلاف حكمه في مفهومه المخالف، ومنهم من لم ير هذا. ومنهم من رأى أن العام الذي لم يخصص قطعي في تناول جميع أفراده، ومنهم من رأى أنه ظني. ومنهم من رأى المطلق يحمل على المقيد عند اتحاد الحكم ولو اختلف السبب، ومنهم من رأى أنه لا يحمل عليه إلا عند اتحاد الحكم والسبب. ومنهم من رأى أن الأمر المطلق للإيجاب ولا يصرف عنه إلا بقرينة، ومنهم من رأى أنه مجرد أنه طلب الفعل. والقرينة هي التي تعين الإيجاب أو غيره، إلى غير ذلك من المبادئ الأصولية التي تفرع على اختلافهم فيها كثير من الأحكام. فالخطة التشريعية لكل مجتهد في هذا العهد كانت قائمة على طريق ثقته بالسنة، وتقديره لفتاوى الصحابة، ومسلكه في القياس، ونزعته في فهم النصوص وتأويلها وتعليلها، ومبادئه التي سار عليها من استقرائه الأحكام الشرعية والأساليب العربية، وبنى عليها استنباطه. ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية: أهم ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية ثلاثة: الأول: صحاح السنة التي دونت فيه، فبعضها جمعت فيها الأحاديث على طريق المسانيد، وبعضها جمعت فيه الأحاديث حسب أبواب الفقه. وقد تنافس علماء الحديث في الجمع والضبط وتعرف الرواة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. الثاني: تدوين الفقه وأحكامه، وجمع المسائل المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، وتعليل الأحكام والاستدلال عليها؛ لأن الدولة الإسلامية في هذا العهد لما استعت أرجاؤها وزادت حضارتها وجدت فيها أقضية، وحوادث ونظم كانت مجالا فسيحا للاجتهاد والمجتهدين، فاجتهدوا في فهم النصوص، وفي الاستنباط فيما لا نص فيه، وتنافسوا في هذا الاجتهاد، وتأثروا في طرق اجتهادهم وبحثهم بطرق البحث التي ظهرت في بحوث من دخلوا في الإسلام من الأمم غير العربية، وفيما نقل إلى المسلمين من علوم وفنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فلهذا لم تكن فتاوى المجتهدين في هذا العهد مجرد فتاوى. بل كانت آراء وبحوثا معللة مؤيدة بالبرهان، وبهذا صار الفقه وأحكامه علما ذا مسائل كلية تطبق على ما وقع وما لم يقع، وكان من أحكامه أحكام لحوادث لم تقع أصلا، ودونت فيها موسوعات لا تزال مرجع المسلمين حتى اليوم؛ ومن أشهر هذه الموسوعات في مذهب الإمام أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي رواها محمد بن حسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وجمعها كتاب الكافي للحاكم الشهيد، وفي مذهب الإمام مالك كتاب المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك. وفي مذهب الإمام الشافعي: كتاب الأم الذي أملاه الشافعي على تلاميذه بمصر، وغير ذلك كثير في مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين. 3- تدوين علم أصول الفقه، وذلك أنه لما اتخذ كل مجتهد في هذا العهد خطة تشريعية خاصة، عني بوضع الأصول، والأسس التي بنى عليها خطته واجتهاده، وكان كل مجتهد منهم يثبت مبادئه وأصوله في ثنايا مسائله وأحكامه. ففي كثير من موضوعات الموطأ أشار الإمام مالك إلى مبادئه وقواعده التشريعية، وكذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه، حتى نقل أن أبا يوسف كتب كتابا مستقلًّا في أصول الفقه. ولكن أول من جمع هذه القواعد مرتبة معللة مقاما على كل قاعدة منها برهانها، هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي في رسالته المشهورة في علم الأصول. ولذا اشتهر أنه واضع علم أصول الفقه، والحقيقة: أنه رتبه، وصاغ قواعده صوغا علميا، ولم يبتدئ وضعه. وهذه نُبَذ موجزة في ترجمة بعض رءوس الاجتهاد في هذا العهد. الإمام أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت، ولد بالكوفة سنة 80هـ، وتوفي ببغداد سنة "150" هـ قال حفيده إسماعيل بن حماده: نحن من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط، ذهب جدي ثابت إلى علي وهو صغير فدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته. تلقى أبو حنيفة الفقه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود. وكان أبو حنيفة خزازا بالكوفة1، وقد اشتهر بين الناس بصدق المعاملة   1 الخزاز: هو الذي يبيع الخز وهو الثياب المتخذة من الحرير أو من الحرير المخلوط بالصوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وإعلام المشتري بالثمن الحقيقي وكراهة المماكسة، ولما طلب الفقه على رأس المائة الثانية نبغ فيه نبوغا عظيما، وكان يطرح المسألة على من يحضر من طلاب العلم، ويتناقشون فيها جميعا حتى يستقر الرأي على جواب فيها أو يحتفظ كل برأيه، وبهذا كانت مسائل فقهه لا تتقرر إلا بعد المناظرة والأخذ والرد فيها غالبا. وكانت خطته في استنباط الأحكام الفقهية ما قال هو نفسه: إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فلما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلا قول غيرهم؛ فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، فعلي أن أجتهد كما اجتهدوا. وقد برع في القياس، والاستحسان وتوسع فيهما، وكذا أصحابه حتى اتسعت بذلك المسائل الفقهية وكثرت كثرة عظيمة جدا، وكانوا كلهم يفترضون صورا لمسائل ويلتمسون لكل صورة جوابا، وبهذا خالفوا سنة من قبلهم، فقد كان أولئك لا ينظرون إلا في أحكام الحوادث التي وقعت بالفعل، ولا يفترضون حوادث ولا رسائل، ولا يفرعون تفريعات لا وجود لها بالفعل، بل كان بعضهم يحجم عن جواب المسألة إذا لم يجد نصا فيها، وبالجملة فقد نشط فقه الرأي على يد أبي حنيفة وأصحابه، ومن كان معه من فقهاء العراق وقضت بذلك الحضارة الجديدة. ومن ناحية الرأي والتماس العلل والأوصاف المناسبة للأحكام أمكن وضع الروابط التي تربط مسائل الشريعة بعضها ببعض، ورد كل طائفة منها إلى أصل تبنى عليه وقواعد تنظمها، حتى أصبح الفقه علما ذا قواعد وأصول بعد أن كان مسائل مبعثرة لا ألفة بينها ولا ارتباط، حتى الذين كانوا يقفون عند المروي من السنة ويهابون التكلم بالرأي، انتهى الأمر بكثير منهم إلى الآخذ بالرأي تحت اسم القياس والمصالح المرسلة، كما يظهر ذلك من مراجعة كتب المذاهب الأربعة وغيرها. وقدكان لأبي حنيفة أصحاب أجلاء، أخذوا العلم عنه وشاركوه في الرأي والاستنباط، ونمت بهم مسائل مذهبه وكثرت، وقد امتزجت أقوالهم بأقوال إمامهم، وسميت جملة ذلك مذهب أبي حنيفة مع أنها خليط من آرائه وآراء تلاميذه، ولم يفكر أحد منهم في الانفصال من أستاذه، كما انفصل الشافعي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أستاذه مالك بن أنس، وكما انفصل أحمد عن أستاذه الشافعي. ومن أشهر أصحاب أبي حنيفة صاحباه: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. فأما أبو يوسف، فهو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ولد سنة 113هـ، وتوفي سنة 193هـ. وكان يشتغل أولا برواية الحديث، ثم اتصل بأبي حنيفة، فكان أكبر أصحابه وأفضل معين له. وله كتاب الخراج في نظام الأموال والضرائب، وقد طبع أكثر من مرة. وهو الذي نشر مذهب أبي حنيفة؛ لأنه كان قاضي القضاة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد. فكان لا يولي قاضيا إلا كان على مذهب أبي حنيفة. وأما محمد بن الحسن، فقد ولد سنة 132هـ، وتوفي سنة 189هـ، نشأ بالكوفة وكان يحضر مجلس أبي حنيفة وهو صغير، وكان أبو حنيفة يتوسم فيه النباهة والذكاء، ولكن أبا حنيفة توفي وهو صغير السن؛ فأتم دراسته على أبي يوسف، وهو الذي جمع مسائل فقه أبي حنيفة، وتولى كتابتها وأملاها في كتبه الستة المشهورة وهي الأصل المسمى: بمبسوط محمد، والجامع الكبير، والجامع الصغير، وكتاب السير الكبير وكتاب السير الصغير، والزيادات. وله كتب أخرى لم ترو عنه بالشهرة التي رويت بها الكتب الأولى، ولذا سميت بالنوادر. ولأبي يوسف كتب مروية عنه كذلك، وزيد على ذلك فيما يعد أجوبة الفتاوى لحوادث لم توجد لها أجوبة فيما نقل عن الأصحاب سميت: بالواقعات. وبذا صارت مسائل الفقه الحنفي مؤلفة من ثلاثة أنواع: الأول: كتب ظاهر الرواية، وهو المرجع الذي يعتمد عليه في المذهب الحنفي. والثاني: كتب النوادر، وهي في الرتبة الثانية. والثالث: الواقعات، وهي في الرتبة الثالثة؛ لأنها تخريجات لمشايخ المذهب. وقد انتشر المذهب الحنفي بقوة السلطان في بلاد المشرق بواسطة أبي يوسف كما أسلفنا وبإيثار الخلفاء العباسيين له في القضاء على غيره، وانتشر كثيرا ببلاد المغرب إلى قريب سنة "400" حتى غلب على جزيرة صقلية "سيسليا"، وانتشر بمصر أيضا في أوائل الدولة العباسية، وزاحمه مذهب مالك، ومذهب الشافعي، وهو الآن منتشر في بلاد الهند بكثرة عظيمة جدا. وهو السائد على البلاد التركية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وهو مرجع القضاء في مصر إلى الآن "انظر المادة "280" من القانون رقم 78 لسنة 1931"، وقد أدخلت بعض تغييرات قليلة من المذاهب الأخرى. الإمام مالك: هو مالك بن أنس الأصبحي أصله من اليمن؛ وقد كان أجداده أبو عامر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ولد مالك سنة 93هـ بالمدينة المنورة، وتوفي بها سنة 179هـ، ولم يرحل عن المدينة إلى غيرها من البلاد. وكان إماما في الحديث، وإماما في الفقه معا، وقد أجمع الناس على فضله وإمامته في كل منهما. وكان اعتماده في فتواه على كتاب الله أولا ثم على السنة، ولكنه كان يقدم عمل أهل المدينة على خبر الواحد إذا كان مخالفا؛ وذلك لاعتقاده أن أهل المدينة توارثوا ما كانوا يعملون به عن سلفهم، وسلفهم توارثوه عن الصحابة، فكان ذلك أثبت عنده من خبر الواحد. ولكن الشافعي وبعض الأئمة خالفوه في هذا، بحجة أن كثير من السنة حمله بعض الصحابة معهم إلى الأمصار والبلدان المفتوحة التي رحلوا إليها واستقروا فيها، فليست السنة كلها محصورة في عمل أهل المدينة، بل بعضها والكثير منها موجود في غيرها، وعلى ذلك إذا صح الحديث عند هؤلاء أخذوا به سواء أكان موافقا لعمل أهل المدينة أم كان مخالفا له، على عكس مالك في هذا. وبعد السنة يرجع مالك إلى القياس، ومما لا شك فيه أن كثيرا من مسائل مذهبه بني على المصالح المرسلة، حتى إنك لتجد بعض أحكام المسائل فيه تخصيص لعموم الكتاب بالمصلحة. وقد تلقى الشافعي عنه الحديث وتفقه به، وحضر دروسه أهل مصر، وأهل المغرب، وأهل الأندلس، وانتفعوا به انتفاعا كبيرا، ونقلوا مذهبه، ونشروه في بلادهم، وكان هو المذهب السائد على بلاد الأندلس بواسطة أمير تلك البلاد كما نشر الخلفاء العباسيين مذهب أبي حنيفة. ومذهب مالك الآن هو السائد على بلاد المغرب، وصعيد مصر، وبلاد السودان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقد طبعت المدونة التي هي أساس فقه مالك مرتين بمصر وهي منتشرة بها، وكذلك وضع الموطأ مجردا من الشرح، وطبع مشروحا بشروح مطولة وموجزة وهو منتشر عندنا بكثرة. واقتبس المشرع المصري بعض أحكام من مذهب مالك لترجع إليها المحاكم الشرعية في مصر، وكذلك من مذهب الشافعي ابتداء من سنة 1920م. الإمام الشافعي: هو محمد بن إدريس الشافعي القرشي، يلتقي نسبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبد مناف. ولد سنة 150هـ بمدينة غزة يتيما، ثم انتقلت به أمه إلى مكة، وتوفي بمصر سنة 204هـ وضريحه بها مشهور. وكان أبوه إدريس قد سافر إلى غزة في حاجة له هناك، وكانت أم الشافعي حاملا به، فتوفي والده إدريس هناك، وولد الشافعي بتلك المدينة فرجعت به أمه إلى مكة بعد سنتين من مولده؛ لأن مكة هي الوطن الأصلي لآباء الشافعي. وقد حفظ الشافعي القرآن في صباه. ثم خرج إلى قبائل هذيل ببادية العرب، وكانوا من أفصح العرب، فاستفاد الفصاحة منهم، وحفظ كثيرًا من أشعارهم، وقد كان يضرب به المثل في الفصاحة. وتفقه الشافعي بمكة على شيخ الحرم ومفتيه مسلم بن خالد، ثم رحل إلى المدينة بعد أن حفظ الموطأ وقرأه على مالك، وأخذ العلم عنه. فمالك هو الأستاذ الثاني للشافعي. ثم سافر إلى العراق ثلاث مرات، والتقى في خلالها بأصحاب الإمام أبي حنيفة، وكانت له مناظرات مع محمد بن الحسن، ونشر بالعراق مذهبه القديم، ثم جاء إلى مصر سنة 198هـ، ونزل مدينة الفسطاط التي فيها جامع عمرو بن العاص، ونشر علمه بين المصريين، وكون مذهبه الجديد بمصر، واستمر يملي على تلاميذه ويفيدهم من علمه وفقهه إلى أن توفاه الله تعالى إليه سنة 204 كما أسلفنا. ومن إملائه كتاب الأم وهو كتاب جليل عظيم الفائدة. وقد طبع بمصر، وهو أساس مذهبه. ومن مفاخر الشافعي -رحمه الله- وضعه لعلم أصول الفقه، فقد كتب فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 رسالته المعروفة، وبذلك ضبط طرق الاجتهاد واستنباط الأحكام، وابتعدت عن الفوضى بالقدر المستطاع: والشافعي هو الذي نشر مذهبه نفسه في العراق، وفي مصر. وقام بذلك تلاميذه بعده، فزاحم مذهب الحنفية ومذهب المالكية، وأصبحت له السيادة على ريف مصر "الوجه البحري" وعلى أكثر بلاد الشام، وبعض اليمن والحجاز وأواسط آسيا. الإمام أحمد: هو أحمد بن حنبل الشيباني المروزي، ولد بمدينة مرو1 سنة 164هـ وتوفي ببغداد سنة 241هـ. وقد حمل إلى بغداد رضيعا، فلما شب تلقى الحديث عن أكابر المحدثين من أهل عضره؛ وتلقى عنه الحديث الأئمة العظام، منهم البخاري ومسلم. وقد غلب عليه الاشتغال بالحديث، حتى لقب بإمام أهل السنة، وصنف مسنده المشهور في ستة مجلدات، وهو مطبوع بمصر. وأخذ الفقه عن الإمام الشافعي، ولازمه مدة مقامه ببغداد، فهو تلميذ للشافعي في الفقه. وهو من الأئمة المجتهدين، لكنه إلى الحديث أميل منه إلى الفقه، ولم يخرج مذهبه من حدود العراق إلا بعد القرن الرابع، ولم يظهر ظهورا بينا في مصر إلا في القرن السابع، وقد غلب على بغداد في القرن الرابع، وهو الآن المذهب السائد في البلاد النجدية، ويوجد في بعض أنحاء العراق والشام والحجاز؛ وله طلاب في الأزهر بمصر، ولكنهم قليلو العدد جدا بالنسبة لأتباع المذاهب. وقد جمع بعض أصحاب الإمام أحمد أقواله وفتاويه في مجلدات لكننا لم نطلع عليها، ومن كتبه: كتاب المغني لابن قدامة في اثني عشر مجلدا، وهو مطبوع بمصر وهو من أجل وأعظم الكتب الفقهية، ويوجد غيره كالإقناع، والمقنع وشروحهما، والفروع، ودليل الطالب، وكل هذه الكتب مطبوعة بمصر.   1 هي مدينة مشهورة ببلاد فارس، وفي طبقات الشافعية الكبرى أن أمه جاءت به من مرو، وهو حمل إلى بغداد فولدته بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 4- عهد التقليد : هذا هو العهد الذي فترت فيه همم العلماء عن الاجتهاد المطلق، وعن الرجوع إلى المصادر التشريعية الأساسية لاستمداد الأحكام من نصوص القرآن، والسنة واستنباط الأحكام فيما لا نص فيه بأي دليل من الأدلة الشرعية، والتزموا اتباع ما استمدوه من الأئمة المجتهدين السابقين من الأحكام. ابتدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب حين طرأت على المسلمين عدة عوامل: سياسية، وعقلية، وخلقية، واجتماعية أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي إلى فتور. ووقفت حركة الاجتهاد والتقنين، وماتت في العلماء روح الاستقلال الفكري، فلم يردوا المعين الذي لا ينضب ماؤه وهو القرآن والسنة، بل راضوا أنفسهم على التقليد، ورضوا أن يكونوا عالة على فقه الأئمة السابقين: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأقرانهم، وحصروا عقولهم في دوائر محدودة من فروع مذاهب هؤلاء الأئمة وأصولها. وحرموا على أنفسهم أن يخرجوا عن حدودها، وبذلوا جهودهم في ألفاظ أئمتهم، وعباراتهم لا في نصوص الشارع ومبادئه العامة، وبلغ من ركونهم إلى أقوال أئمتهم أن قال أبو الحسن الكرخي من العلماء الحنفية: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ. وبهذا وقف التشريع عند ما وصل إليه أئمة العهد السابق، وقصر عن مسايرة ما يجد من التطورات، والمعاملات، والأقضية، والوقائع. أسباب وقوف حركة الاجتهاد: وأهم العوامل التي أدت إلى هذا الوقوف والتزام تقليد السابقين أربعة: أولًا: انقسام الدولة الإسلامية إلى عدة ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وأفرادها، فهذا الانقسام شغل ولاة الأمور بالحروب والفتن، واتقاء المكايد، وتدبير وسائل القهر والغلبة، وشغل الناس معهم، فدب الانحلال العام وفترت الهمم في العلوم والفنون، وكان لهذا الانحلال أثره في وقوف حركة التشريع. وثانيًا: أنه لما انقسم الأئمة المجتهدون في العهد الثالث إلى أحزاب، وصار لكل حزب مدرسة تشريعية لها تزعتها وخطتها، عني تلاميذ كل مدرسة أو أعضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 كل حزب بالانتصار لمذهبهم، وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل. فتارة كان التأييد بإقامة البراهين على صحة ما ذهبوا إليه وبطلان ما خالفه، وتارة كان التأييد بالإشادة بزعمائهم ورءوسهم، وعد آيات نبوغهم ومقدرتهم. وهذا وذاك شغل علماء المذاهب وصرفهم عن الأساس التشريعي الأول وهو القرآن والسنة. وصار الواحد منهم لا يرجع إلى نص قرآني أو حديث إلا ليلتمس فيه ما يؤيد مذهب إمامه، ولو بضرب من التعسف في الفهم أو التأويل، وبهذا فنيت شخصية العالم في ضربيته وماتت روح استقلالهم العقلي، وصار الخاصة كالعامة أتباعا مقلدين. وثالثا: أنه لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية، ولم يضعوا نظاما كفيلا بألا يجترئ على الاجتهاد إلا من هو أهل له، دبت الفوضى في التشريع والاجتهاد وادعى الاجتهاد من ليس أهلا له وتصدى لإفتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة، وبحقوق الناس ومصالحهم، وبهذا تعددت الفتاوى وتباينت، وتبع هذا تعدد الأحكام في الأقضية؛ حتى كان القضاء يختلف في الحادث الواحد، في البلد الواحد فتستحل دماء وأموال في ناحية من نواحي المدينة، وتستباح من ناحية أخرى منها، وكل ذلك نافذ من المسلمين وكله يعتبر من أحكام الشريعة، فلما فزع من هؤلاء العلماء حكموا في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد، وتقييد المفتين والقضاة بأحكام الأئمة السابقين، فعالجوا الفوضى بالجمود. ورابعًا: أن العلماء فشت فيهم أمراض خلقية، حالت بينهم وبين السمو إلى مرتبة الاجتهاد، فقد فشا بينهم التحاسد والأنانية، فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد، فتح على نفسه أبوابًا من التشهير به، وحط أقرانه من قدره، وإذا أفتى في واقعة برأيه، قصدوا إلى تسفيه رأيه تفنيد ما أفتى به بالحق والباطل، فلهذا كان العالم يتقي كيد زملائه وتجريحهم بأنه مقلد وناقل، لا مجتهد ومبتكر، وبهذا ماتت روح النبوغ ولم ترفع في الفقه رءوس وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم وثقه الناس بهم، فولوا وجههم مذاهب الأئمة السابقين. جهود العلماء التشريعية في هذا العهد: ولكن هذه العوامل التي قعدت بالعلماء عن الاجتهاد المطلق؛ واستمداد الأحكام الشرعية من مصادرها الأولى، لم تقعدهم عن بذل جهود تشريعية في دوائرهم المحدودة. ولهذا قسم العلماء كل مذهب إلى طبقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الطبقة الأولى: أهل الاجتهاد في المذهب: وهؤلاء لا يجتهدون في الشرع اجتهادًا مطلقًا، وإنما يجتهدون في الوقائع على أصول الاجتهاد التي قررها أئمتهم، وقد يخالف الواحد منهم مذهب زعيمه في بعض الأحكام الفرعية، ومن هؤلاء الحسن بن زياد في الحنفية، وابن القاسم وأشهب في المالكية، والبويطي والمازني في الشافعية، فهؤلاء قادرون على استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها الأولى، ولكنهم ألزموا أنفسهم أن يكون استمدادهم على وفاق استمداد أئمتهم وأساسهم هو أساسهم. ومن الخطأ أن يعد من هذه الطبقة أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وزفر أصحاب أبي حنيفة؛ لأن هؤلاء من أهل الاجتهاد المطلق في الشرع، ولهم آراء مستقلة ومنزلتهم من أبي حنيفة منزلة الشافعي من مالك، ومنزلة أحمد من الشافعي إلا أنهم مزجوا مذهبهم بمذهب زعيمهم، وأطلق على مجموعها اسمه، ولو أراد كل واحد منهم لكان له مذهب مستقل. الطبقة الثانية: أهل الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها عن إمام المذهب وهؤلاء لا يخالفون الأئمة في أحكام فرعية ولا في أصول اجتهادية، وإنما يستنبطون أحكام المسائل التي لا رواية فيها حسب أصول أئمتهم، وبالقياس على فروعهم كالخصاف، والطحاوي، والكرخي من الحنفية، واللخمي وابن العربي وابن رشيد من المالكية، وأبي حامد الغزالي وأبي إسحاق الإسفراييني من الشافعية. الطبقة الثالثة: أهل التخريج: وهؤلاء لا يجتهدون في استنباط أحكام المسائل. ولكنهم لإحاطتهم بأصول المذهب ومأخذه يستخرجون علل أحكامه ومبادئها، وبهذا يقتصرون على تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهين. فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في بعض أقوال الأئمة، وأحكامهم كالجصاص وأضرابه من علماء الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الطبقة الرابعة: أهل الترجيح وهؤلاء يوازنون بين ما روي عن أئمتهم من الروايات المختلفة، ويرجحون بعضها على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدراية فيقولون: هذا أصح رواية أو هذا أولى النقول بالقول، أو هذا أوفق للقياس أو أرفق بالناس. ومن هؤلاء: القدودي، وصاحب الهداية، وأضرابهما من علماء الحنفية. الطبقة الخامسة: أهل التقليد المحض ولكنهم يميزون بين النوادر وظاهر الرواية، بين القوي من الأدلة والضعيف، ومن هؤلاء أصحاب المتون المشهورة المعتبرة في مذهب أبي حنيفة، كصاحب الكنز والوقاية. أسباب الخمود التشريعي: فمن هذا يؤخذ أن جهود العلماء التشريعية في هذا العهد اتجهت إلى أقوال الأئمة وأحكامهم، وأنهم بدل أن ينظروا في النصوص الشرعية وتعليلها، والتوفيق بين مظاهر التعارض منها، واستنباط الأحكام منها، قصروا نظرهم على أقوال الأئمة وتعليلها والترجيح بين المتعارضات منها، وبعد أن كان المسلمون في العهد السابق فيهم عامة يقلدون، وأئمة يقلدون صاروا كلهم في العهد مقلدين، ونسي العلماء ما قاله أبو حنيفة فيمن سبقه، من الفقهاء: هم رجال ونحن رجال. وما قاله مالك بن أنس: ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم. وقول الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 بوادر النشاط التشريعي الحديث: في أواخر القرن الهجري الثالث عشر جمعت الحكومة العثمانية طائفة من كبار علمائها، وكلفتهم وضع قانون في المعاملات المدنية تكون مآخذه الفقه الإسلامي، ولو من غير المذاهب المعروفة متى كان الحكم المأخوذ يتمشى وروح العصر. وقد اجتمع هؤلاء العلماء وسنوا القانون الذي سمي مجلة الأحكام العدلية في سنة 1286هـ، وصدر الأمر بالعمل به في سنة 1292هجرية، وأخذوا فيه أحكام البيع بالشرط من مذهب ابن شبرمة وهذه أول ثغرة في خط التقليد المحض للمذاهب الأربعة. وفي مصر لما كثرت شكاوي الناس من التزام الحكم بمذهب أبي حنيفة في أحكام المحاكم الشرعية، خطت الحكومة المصرية في سنة 1920 أولى الخطوات لتلافي هذه الشكاوي، وأصدرت القانون رقم 52 لسنة 1920 الذي اشتمل على بعض أحكام في الأحوال الشخصية تخالف مذهب أبي حنيفة، ولكنها لم تخرج عن مذاهب الأئمة الأربعة. وفي سنة 1929م: خطت خطوة ثانية أبعد مدى من الأولى أكثر توفيقا، وأصدرت القانون رقم 25 لسنة 1929 الذي اشتمل على بعض أحكام في الأحوال الشخصية تخالف مذهب أبي حنيفة، ومذاهب سائر الأئمة الأربعة، ولكنها لم تخرج عن المذاهب الإسلامية. وفي سنة 1936م: خطت خطوة ثالثة وكونت جماعة من كبار علماء الشرع والقانون، وكلفتهم وضع قانون شامل لأحكام الأحوال الشخصية وما يتفرع منها، والوقف، والمواريث، والوصية، وغيرها مما يدخل في اختصاص المحاكم الشرعية والمجالس الحسبية. على ألا تتقيد بمذهب دون مذهب بل تأخذ من آراء الفقهاء أكثرها ملاءمة لمصالح الناس والتطور الاجتماعي، وقد أتمت هذه الجماعة وضع مشروعات قانون المواريث، وقانون الوصية، وقانون الوقف، وصدرت فعلا هذه القوانين وصارت من قوانين الدولة المعمول بها الآن. وعسى أن نخطو الخطوة الرابعة، ونأخذ في سنن القوانين الشرعية التي تحقق مصالح الناس، وتساير روح العصر وتطوراته، بما لا يخالف نصا في القرآن والسنة الصحيحة، ولو لم تكن مأخوذة من مذاهب السابقين. وبهذا يبعث النشاط التشريعي الإسلامي من مرقده، ويحيا الفقه الإسلامي بالتطبيق العملي والدراسة المقارنة، وما ذلك على الله تعزيز. وكما بدأنا بحمد الله نختم بحمد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 المحتويات : محتويات علم أصول الفقه : الصفحة الموضوع 3 المقدمة في المقارنة بين علمي الفقه والأصول. 13 تعريفهما. 14 موضوعهما. 16 الغاية القصودة بهما. 16 نشأة كل منهما وتطوره. 23 القسم الأول في الأدلة الشرعية: 26 الدليل الأول: القرآن. 26 خواصه. 27 حجيته ومعنى الإعجاز وأركانه. 29 بعض وجوه إعجازه. 33 أنواع أحكامه. 35 القطعي والظني من آياته. 37 الدليل الثاني: السنة. 37 تعريفها. 38 حجيتها. 39 نسبتها إلى القرآن. 41 أقسامها باعتبار سندها. 42 القطعي والظني منها. 43 ما ليس تشريعا من السنة. 45 الدليل الثالث: الإجماع. 45 تعريفه. 45 أركان انعقاده. 46 حجيته. 48 إمكان انعقاده. 49 انعقاده فعلا. 52 الدليل الرابع: القياس. 52 تعريفه وأمثلته. 53 حجيته وأدلة مثبتيه وأدلة نفاذته. 58 أركانه. 58 الأصل والفرع. 59 حكم الأصل وشروط تعديته. 61 تعريف العلة. 65 شروط العلة. 68 أقسام العلة من ناحية اعتبارها. 72 مسالك العلة. 76 الدليل الخامس: الاستحسان. 76 تعريفه. 76 أنواعه. 78 حجيته وشبهة من لا يحتجون به. 80 الدليل السادس: المصلحة المرسلة. 80 تعريفها وأمثلتها. 81 أدلة من يحتجون بها. 82 شروط الاحتجاج بها. 83 أظهر شبه من لا يحتجون بها. 85 الدليل السابع: العرف. 85 تعريفه. 85 أنواعه. 85 حكمه. 87 الدليل الثامن: الاستصحاب. 87 تعريفه. 87 حجيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الصفحة الموضوع 89 الدليل التاسع: شرع من قبلنا. 90 الدليل العاشر: مذهب الصحابي. 93 القسم الثاني في الأحكام الشرعية: 94 الحاكم: من هو؟ وبما يعرف حكمه؟. 94 مذاهب المسلمين في حسن الفعل وقبحه. 97 الحكم: تعريفه. 98 أنواعه. 99 الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي. 101 أقسام الحكم التكليفي خمسة عند الجمهور. 101 1- الواجب: تعريفه. 102 تقسيمه إلى مؤقت ومطلق. 104 تقسيمه إلى عيني وكفائي. 105 تقسيمه إلى محدد وغير محدد. 106 تقسيمه إلى معين ومخير. 106 2- المندوب: تعريفه. 107 تقسيمه إلى أقسام ثلاثة. 107 3- المحرم: تعريفه. 108 تقسيمه إلى محرم لذاته ومحرم لعارض. 109 4- المكروه: تعريفه. 109 5- المباح، تعريفه وما تثبت به الإباحة. 111 أقسام الحكم الوضعي. 111 1- السبب: تعريفه وأنواعه. 112 2- الشرط: تعريفه وأنواعه. 114 3- المانع: تعريفه وأنواعه. 115 4- الرخصة: تعريفها وأنواعها. 118 5- الصحة والبطلان وتعريفهما. 120 3- المحكوم فيه وهو فعل المكلف. 121 شروط صحة التكليف بالفعل ثلاثة. 126 المحكوم عليه وهو المكلف. 126 شروط صحة تكليف المكلف اثنان. 128 الأهلية وأنواعها وحالات الإنسان بالنسبة لها. 130 عوارض الأهلية أنواع ثلاثة. 133 القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية. 134 تمهيد في تطبق هذه القواعد. 136 القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص. 136 المراد بعبارة النص وإشارته ودلالته واقتضائه. 145 القاعدة الثانية: في مفهوم المخالفة. 145 أنواع مفهوم المخالفة خمسة. 146 المتفق على الاحتجاج به وعلى عدم الاحتجاج به. 148 موضع الخلاف وأدلة المختلفين. 152 القاعدة الثالثة: في الواضح الدلالة ومراتبه. 153 المراد بالظاهر والنص المفسر والمحكم. 160 القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه. 167 المراد بالخفي والمشكل والمجمل والمتشابه. 167 القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته. 168 تعريف المشترك وأمثلته وأسباب الاشتراك. 168 حكم المشترك من حيث دلالته. 171 القاعدة السادسة: في العام ودلالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الصفحة الموضوع 171 تعريف العام. 171 صيغ العموم وأمثلتها. 172 دلالة العام. 174 أنواع العام. 175 تخصيص العام. 178 العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. 180 القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته. 180 تعريف الخاص. 180 الفرق بين المطلق والمقيد. 181 متى يحمل المطلق على المقيد. 183 صيغة الأمر وما تدل عليه. 184 صيغة النهي وما تدل عليه. 185 القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية. 186 القاعدة الأولى: في المقصد العام من التشريع. 188 تعريف الضروري والحاجي والتحسيني. 188 ما شرع الإسلام للضروريات. 190 ما شرعه الإسلام للحاجيات. 191 ما شرعه الإسلام للتحسينات. 193 ترتيب الأحكام حسب مقاصدها. 194 المبادئ العامة لدفع الضرر. 196 المبادئ العامة لدفع الحرج. 198 القاعدة الثانية: فيما هو حق الله، وما هو حق العبد. 198 المراد بحق الله وحق العبد. 198 أنواع ما هو حق الله. 202 القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه. 203 شروط الأهلية للاجتهاد. 205 متفرقات تتعلق بالاجتهاد. 207 القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم. 207 تعريف النسخ وحكمته. 208 أنواعه. 211 ما يقبل النسخ وما لا يقبله. 212 ما يكون به النسخ. 214 القاعدة الخامسة: في التعارض والترجيح. 214 تعريف التعارض ومتى يتحقق. 214 ما يعرف به التعارض. 215 ما يكون به الترجيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 محتويات خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي : الصفحة الموضوع 219 المراد من التشريع. 220 عهد الرسول: فترتان متمايزتان. 220 من تولى التشريع في هذا العهد. 222 مصادر التشريع في هذا العهد. 224 خطة التشريع في هذا العهد. 226 الآثار التشريعية لهذا العهد. 230 عهد الصحابة: مبدؤه ونهايته وفترته. 230 من تولى التشريع في هذا العهد. 231 مصادر التشريع في هذا العهد. 232 ما طرأ على مصادر التشريع في هذا العهد. 234 خطة التشريع في هذا العهد. 235 أسباب اختلاف الصحابة في الأحكام. 236 الآثار التشريعية لهذا العهد. 238 نبذة موجزة في تاريخ زيد بن ثابت، وابن عباس وابن مسعود وابن عمرو. 234 عهد التدوين والأئمة المجتهدين. 243 أسباب النشاط التشريعي في هذا العهد. 244 من تولى التشريع في هذا العهد. 246 ما طرأ على مصادر التشريع في هذا العهد. 248 خطة التشريع في هذا العهد. 249 أسباب اختلاف الأئمة في الأحكام. 249 أهل الحديث وأهل الرأي. 253 الآثار التشريعية لهذا العهد. 254 نبذة موجزة في تاريخ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. 260 عهد التقليد ومبدؤه. 260 طبقات العلماء في المذهب. 261 أسباب الجمود التشريعي. 264 بوادر النشاط التشريعي الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268