الكتاب: تاريخ مختصر الدول المؤلف: غريغوريوس (واسمه في الولادة يوحنا) ابن أهرون (أو هارون) بن توما الملطي، أبو الفرج المعروف بابن العبري (المتوفى: 685هـ) المحقق: أنطون صالحاني اليسوعي الناشر: دار الشرق، بيروت الطبعة: الثالثة، 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تاريخ مختصر الدول ابن العبري الكتاب: تاريخ مختصر الدول المؤلف: غريغوريوس (واسمه في الولادة يوحنا) ابن أهرون (أو هارون) بن توما الملطي، أبو الفرج المعروف بابن العبري (المتوفى: 685هـ) المحقق: أنطون صالحاني اليسوعي الناشر: دار الشرق، بيروت الطبعة: الثالثة، 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [ مقدمة ] مقدّمة الطبعة الاولى الحمد لله الذي ضاق التاريخ عن إحصاء نعمه. وفات ذرع الرواة وصف ما جاد خلقه من شآبيب كرمه. وبعد فان مختصر تاريخ الدول لابي الفرج الملطي قد جمع اخبار الأيام مع بلاغة في اختصار. وامتاز على جميع التواريخ بما يكثر سواد المقبلين عليه. ويوحى الى القلوب الاطمئنان اليه. فقد خلا عن كل ما لا يحفل به ولا عائدة منه. وقد كان مؤلفه واسع الاطلاع متقنا لكثير من العلوم واللغات معروفا بالبحث عن غثّ الاخبار وسمينها فروى كل ما روى عن خبرة وذكره على الهيئة التي وقعت. فكأنه أخذ صور الوقائع والسير والتراجم على ضياء الشمس لا رسم القلم. وقد طبع هذا التاريخ لاول مرة سنة 1663 في مدينة أكسفرد بالعربية واللاتينية بمراجعة العلّامة پوكوك. ثم ترجمه بوّر الى الالمانية سنة 1783. الا انه قد عزّ الآن وجود الطبعة الاولى. فاستفزّتنا محبة هذه البلاد الى اعادة طبع هذا التاريخ. فقابلنا النسخة التي في أيدينا بنسخة تكرّم باعارتنا إياها العلامة رست مدير مكتبة إنديا أفّس بلندن. وقد عنينا ايضا بمقابلة قسم كبير من الكتاب بنسختي أكسفرد ونسختي المتحف البريطاني (بريتيش موزيوم) والنسخ الثلاث التي في باريس الوطنية. فتسنّى لنا ان تكمل ما كان من النقص في النسخة المطبوعة في أكسفرد. ثم اننا لم نأل جهدا في مطالعة التواريخ الاسلامية التي كتبت هذه الوقائع مثل تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير وتاريخ ابي الفداء وتاريخ ابن خلدون ومروج الذهب للمسعودي والآداب السلطانية للفخري وتاريخ الخميس وغيرها. ثم عارضنا هذا الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 1 المختصر العربي بالمطوّل السرياني لأبي الفرج نفسه وبكتب أخر. وقد علقنا في الذيل ما استصوبناه بعد جهد البحث وتكرار المقابلة. ولتسهيل المطالعة اردفنا الكتاب بفهرس مرتب على حروف المعجم يشمل كل اسامي الأعلام والامكنة التي ورد ذكرها في الكتاب. هذا ونسأل الله ان يأخذ بيدنا لنخدم الحق والعلم في هذه الآفاق خدمة صادقة يشهد لها حسن الاثر لا خدمة ينادي بها اللسان. ويشهد بمين صاحبها الزمان. والله يوفق كل من ينوي في العمل وجهه الكريم، ويتّجه اليه بقلب سليم [1] .   [1] قد أثبتنا في الحواشي بعض المرويّات وقفنا عليها في بعض النسخ. وإليك تفسير الحروف المقتطعة: س: تدلّ على ان ما هو بجانبها مأخوذ عن تاريخ الدول السرياني لنفس المؤلّف. ر: على رواية مختلفة عن التي في المتن. ص: على ان ما بعدها هو الصواب. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 2 ترجمة ابن العبري ّ هو غريغوريوس ابو الفرج بن اهرون المعروف بابن العبري ولد سنة 1226 للمسيح. وكانت ولادته في مدينة ملطية قاعدة ارمينية الصغرى. وكان أبوه وجيها في قومه نافذ الكلمة في اهل بلده كريما على عشيرته. فلما آنس من غريغوريوس حذقا ورأى منه ذكاء وفهما دفعه من صغره الى تلقّي الآداب والتخرّج في العلوم التي كانت لأهل ذلك العصر. فجد الولد في الحفظ واقبل على ارتشاف سلافة العلم فدرس اوّلا اليونانية والسريانية والعربية ثم اشتغل بالفلسفة واللاهوت وقرأ الطب على أبيه وغيره من مشاهير أطباء زمانه. الّا انه بينما كان عاكفا على التحصيل جادّا في الطب انثالت المصائب على بلاده انثيالا وأفرغت النوائب إفراغا وتعاقب عليها الخراب من جانب المسلمين والفرنج والروم ثم من التاتار المغول الذين أسرفوا في القتل والنهب والسبي والحريق حتى لم يسمع في التاريخ عن جهة من الأرض انها أصيبت بمثل ما نزل بهذه البلاد من المخاوف والجوائح والمقاتل. وعندها فر به والده الى انطاكية وكان ذلك سنة 1243 فاختار ابو الفرج هنالك طريقة الزهد والنسك وانفرد في مغارة بالبرية. فلما انتهى خبر فضله الى اغناطيوس سابا بطريرك شيعته خف لزيارته في تلك المغارة وأبدى له غاية التجلة والتكريم. ولم يلبث غريغوريوس برهة في المغارة المشار إليها حتى شخص الى طرابلس الشام وأكمل قراءة البيان والطب مع رفيق له يسمى صليبا وجيه على عالم اسمه يعقوب من مذهب النساطرة. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 3 وفي تلك الأثناء استدعاه البطريرك اغناطيوس سابا الى انطاكية ورقاه في العشرين من سنّه الى اسقفية جوباس من اعمال ملطية ونصب رفيقه اسقفا على كنيسة عكاء وكان ذلك في 14 أيلول من شهور سنة 1246. وما أكمل السنة في تدبير تلك الاسقفية حتى امر البطريرك بنقله الى اسقفية لاقبين وهي قريبة من جوباس فأقام على تدبير شؤونها سبع سنوات. وتوفي حينئذ بطريرك اليعقوبية فوقع الشقاق بين اساقفتهم على انتخاب خلف له وانقسموا في ذلك حزبين. وتحزب ابن العبري لديونيسيوس عنجور على يوحنا ابن المعدني فنقله ديونيسيوس الى اسقفية حلب سنة 1253 الا ان الأحوال لم تمكنه من القبض على زمامها لان صليبا الذي تلقى الدروس معه في مدينة طرابلس، وكان قد اقامه يوحنا بن المعدني مفريانا [1] على المشرق، حصّل من الملك الناصر صاحب حلب عهدا سلّطه به على الاسقفية المشار إليها. فاضطر غريغوريوس ان يلزم بيت أبيه الذي قد انتقل حديثا الى حلب. ولما رأى ان لا سبيل الى الفوز برغيبته شخص الى دير برصوما بالقرب من ملطية واقام هنالك عند بطريركه سنة او سنتين. ثم قصد دمشق فحظي عند الملك الناصر ورفع مكانته واعاده الى كرسيه مكرّما وأعطاه ايضا براءة للبطريرك ديونيسيوس يسلّطه بها على المشرق كما كان سلّطه على المغرب عزّ الدين صاحب الروم. ولما كانت سنة 1258 استولى المغول تحت قيادة هولاكو على بغداد وقتلوا الخليفة وانقرضت دولة العباسيين فعم الخراب والدمار جميع بلاد ما بين النهرين وسورية. ثم خرجوا بالجيش على حلب فسار ابن العبري الى هولاكو ليستعطفه على رعيته ولكن الجند قد توغلوا في المدينة وقتلوا من الروم واليعاقبة مقتلة كبيرة. وفي سنة 1264 انتخبه البطريرك الجديد اغناطيوس الثالث مفريانا على جهات الشرق اي نواحي ما بين النهرين الشرقية والعراق العجمي واشور وكانت تلك الجهات قد حرمت هذا المنصب مدة ست سنوات بسبب توالي الحروب وتتابع الوقائع. وجرت حفلة إقامته على ذلك المقام في التاسع عشر من كانون الثاني في مدينة سيس مباءة الملك بقيليقية وشهد تلك الحفلة جميع اساقفة اليعاقبة وحاتم ملك الأرمن وأولاده وعظماؤه وجمهور غير يسير من الشعب مع اساقفة الأرمن وعلمائهم. وكان اوّل ما اهتم به انه سار الى هولاكو ايلخان ملك المغول فأنعم عليه بثلاث براءات واحدة له واخرى   [1-) ] مفريان من السرياني ومعناها المثمر. وكان منصب المفريان عند اليعاقبة من اكبر المناصب بعد البطريركية وتحت رئاسته عدد من الاساقفة له عليهم ملء السلطان مثل ما للبطريرك على اساقفته. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 4 للبطريرك والثالثة لأسقف قيسرية قبادوقية اليعقوبي. ومن ذلك الحين أخذ يتجول في اسقفيته المتسعة ويقوم بمهام منصبه ويسعى فيما يؤول الى نجاح رعيته ويدأب في خيرهم حتى استتبت لهم الراحة التامة وشملهم الأمن فحسدهم سكان البطريركية في سورية وارمينية وقيليقية. وقد اتى في مفريانيته أعمالا خطيرة جدا وآثارا مشكورة إذ عني بإنشاء وتجديد كنائس واديار كثيرة واقام اثني عشر اسقفا اختارهم ممن تميزوا بالعلم وحسن السيرة. وعمّر ابو الفرج ستين سنة وتوفي ليلة الثلاثاء في الثلاثين من تموز سنة 1286 في مدينة مراغة من اعمال اذربيجان وكان قد انتقل إليها منذ برهة من الموصل. فلم يقتصر جماعة اليعاقبة القليلة في تلك المدينة على الاحتفال بمأتمه بل شاركهم في ذلك النساطرة والأرمن والروم على ما اخبر به اخوه برصوما. كان ابو الفرج على بدعة اليعقوبية الذين يعتقدون طبيعة واحدة في السيد المسيح. ولكنك إذا طالعت قوله في قانون الايمان: «ان في سيدنا يسوع المسيح طبيعتين هما اللاهوت والناسوت. وان اتحاد لاهوته مع ناسوته عجيب لا يستطاع وصفه وهو من غير امتزاج ولا اختلاط ولا تغيّر ولا تحوّل مع سلامة الفرق بين الطبيعتين في ابن واحد ومسيح واحد» حسبته كاثوليكيا بحتا. الا انه لم يلبث ان ناقض اعتقاده بقوله: «ذات واحدة وشخص واحد واقنوم واحد ومشيئة واحدة وقوة واحدة وعمل واحد» . ومن هنا تعلم انه كان يقول بمذهب المشيئة الواحدة فوق مذهب الطبيعة الواحدة. وقد حاول اثبات معتقده هذا في كتاب له سماه منارة الاقداس. وخالف في الكتاب نفسه اعتقاد كنيسته بقوله: ان الروح القدس غير منبثق من الابن. وكان ابن العبري رجل كد وعمل لم ينقطع حياته كلها عن المطالعة والتأليف فانه ألف ما يزيد على الثلاثين كتابا بالعربية والسريانية ذكر العلامة السمعاني اسماءها ووصف اربعة عشر منها في المجلد الثاني من المكتبة الشرقية من صفحة 268 الى 321 ومنها يتبين انه اشتغل بجميع اصناف العلوم الادبية إذ انه كتب في المسائل اللاهوتية وشرح الكتاب المقدس والشرع الكنائسي والمدني والفلسفة وعلم الهيئة والطب والتاريخ والنحو والشعر والفكاهيات. اما تأليفه لكتاب تاريخ الدول هذا فروى اخوه برصوما انه لما فشت التعديات في نواحي نينوى ألحّ عليه في الانتقال الى مراغة. ومن حيث انه كان هناك مكرّما من خاصة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 5 الناس وعامتهم تقدم اليه بعض وجهاء العرب في ان ينقل الى اللغة العربية كتاب التاريخ الذي ألفه في السرياني. فلبى طلبتهم واقبل على العمل فأتمه الّا بعض صفحات في نحو شهر بإنشاء على جانب من التهذيب والفصاحة. وكان نقله لهذا التاريخ في أواخر حياته وقد ضمنه أمورا كثيرة لا توجد في المطول السرياني ولا سيما فيما يتعلق بدولتي الإسلام والمغول وتراجم العلماء والأطباء. وكان ابو الفرج مع كثرة علومه ماهرا في جميعها متقنا لكلها غير مكتف بنتف منها. وكان من المنشئين المجيدين في العربية، اما في السريانية فانه من أكابر كتبتها المبرزين ولذلك سماه العلامة السمعاني امير الكتبة اليعاقبة. وإذا نظرت الى خبرته في كثير من العلوم أيقنت انه كان اعلم وأعلى جميع السريان الذين اشتهروا بالمعارف. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 6 [ مقدمة المؤلف ] بسم الله الرحمن الرّحيم قال مولانا وسيدنا الأب القديس. الطاهر النفيس. العالم العلامة. ملك العلماء. أفضل الفضلاء. قدوة الزمان. فريد الوقت والأوان. افتخار اهل الفضل والحكمة. المفريان المؤيّد ماركريغوريوس ابو الفرج ابن الحكيم الفاضل اهرون المتطبّب الملطيّ تغمده الله برحمته الحمد لله الاول بلا بداية والآخر بلا نهاية، ذي الكلمة الاحدية، والحياة الابدية، معبود العليّيّن في الآفاق، ومسجود السّفليّين في الاعماق، والسلام على ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرشدين الى طاعة الله وتقواه، والسلوك في حفظ مذاهبه ورضاه. وبعد فهذا مختصر في الدول قصدت في اختصاره الاقتصار على بعض ما أوتي في ذكره اقتصاص احدى فائدتي الترغيب والترهيب من امور الحكام والحكماء خيرها وشرّها على سبيل الالتقاط من الكتب الموضوعة في هذا الفن بلغات مختلفة سريانية وعربية وغيرها مبتدئا من أول الخليفة ومنتهيا الى زماننا. وهو مرتّب على عشر دول داولها الله تعالى بين الأمم فتداولتها تداولا بعد تداول. الدولة الاولى: دولة الأولياء من آدم أول البرنساء [1] اي الناس.   [1-) ] برنسا معرب [؟] [؟] بالسريانية. ابن العبري- 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الدولة الثانية: الدولة المنتقلة من الأولياء الى القضاة قضاة بني إسرائيل. الدولة الثالثة: الدولة المنتقلة من قضاة بني إسرائيل الى ملوكهم. الدولة الرابعة: الدولة المنتقلة من ملوك بني إسرائيل الى ملوك الكلدانيين. الدولة الخامسة: الدولة المنتقلة من ملوك الكلدانيين الى ملوك المجوس. الدولة السادسة: الدولة المنتقلة من ملوك المجوس الى ملوك اليونانيين الوثنيين. الدولة السابعة: الدولة المنتقلة من ملوك اليونانيين الوثنيين الى ملوك الافرنج [1] . الدولة الثامنة: الدولة المنتقلة من ملوك الافرنج الى ملوك اليونانيين المتنصّرين. الدولة التاسعة: الدولة المنتقلة من ملوك اليونانيين المتنصرين الى ملوك العرب المسلمين. الدولة العاشرة: الدولة المنتقلة من ملوك العرب المسلمين الى ملوك المغول.   [1-) ] يريد بملوك الافرنج ملوك الرومانيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الدولة الاولى للأولياء قبل الدّخول إلى أرض الميعاد قال من عني بأخبار الأمم وبحث عن سير الأجيال ان اصول الأمم من سالف الدهر سبعة: الفرس والكلدانيون واليونانيون والقبط والترك والهند والصين. ثم تفرّع كل واحدة من هذه الأمم الى امم وتشعبت اللغات وتباينت الأديان. وكانوا جميعا صابئة يعبدون الأصنام تمثيلا للجواهر العلوية والأشخاص الفلكية. وهم على كثرة فرقهم وتخالف مذاهبهم طبقتان: طبقة عنيت بالعلوم كالكلدانيين والفرس وسائر من يأتي ذكره في موضعه، وطبقة لم تعن بهذا كأهل الصين والترك والصقالبة والبرابر والحبشة ومن اتصل بهم. اما الصين فأكثر الأمم عددا وافخمهم مملكة وأوسعهم ديارا، ومساكنهم محيطة بأقصى مشارق المعمورة ما بين خط الاستواء الى أقصى الأقاليم السبعة في الشمال وحظهم من المعرفة التي بزّوا فيها سائر الأمم إتقان الصنائع العملية واحكام المهن التصويرية. واما الترك فأمة كثيرة العدد ايضا فخمة المملكة وفضيلتهم التي برعوا فيها معاناة الحروب ومعالجة آلاتها. فهم احذق الناس بالفروسية وابصرهم بالطعن والضرب والرماية. واما سائر هذه الطبقة التي لم تعن بالعلوم فهم أشبه بالبهائم منهم بالناس، لان من كان موغلا في الشمال فافراط بعد الشمس عن مسامتة رؤوسهم برّد أمزجتهم وفجّج أخلاقهم فعظمت أبدانهم وابيضت ألوانهم واستدلت شعورهم فعدموا بهذا دقة الافهام وثقوب الخواطر فغلب عليهم الجهل والبلادة وفشا فيهم الغيّ والغباوة كالصقالبة ومجاوريهم. ومن كان منهم قريبا من معدّل النهار وخلفه الى نهاية المعمورة في الجنوب لطول مقاربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الشمس رؤوسهم سخنت أمزجتهم واحترقت اخلاطهم فاسودت ألوانهم وتفلفلت شعورهم فعدموا بهذا الاناة وثبوت البصائر كالحبشة وباقي السودان الا الهند فان الله قد فضلهم على كثير من السمر والبيض وهم معدن الحكمة وينبوع العدل الا انهم يثبتون أزل العالم ويبطلون النبوّات ويحرمون ذبح الحيوان ويمنعون إيلامه. (آدم) ابو البشر خلق يوم العروبة [1] سادس الشهر الاول وهو نيسان سنة احدى للعالم بعد ان خلق الله تعالى في يوم الأحد وهو أول نيسان السماء العليا اي الفلك التاسع المتحرك بالحركة الاولى من المشرق الى المغرب والأرض وتسع مراتب الملائكة والنور والأركان الاربعة. وخلق تعالى في يوم الاثنين الرقيع وهو السماء الدنيا اي الفلك الثامن وما في ضمنه من الارقعة السبع. المتحركة بالحركة الثانية من المغرب الى المشرق. وفي يوم الثلثاء امر الله تعالى الماء فاجتمع الى مكان واحد صائرا بحرا وأظهرت الأرض منبتة عشبا وأشجارا مثمرة وغير مثمرة [؟] في يوم الأربعاء قال عزّ من قائل: لتكن مصابيح اي كواكب في علو [؟] بين الليل والنهار ولدلالات الأوقات والأيام والأعوام فرصّعت الثوابت بالفلك الثامن [2] والنّيران والخمسة المتحيّرة كل بفلكه واستولت الشمس على سلطان النهار واستولى القمر على سلطان الليل وبقي الفلك التاسع وحده متطلّسا. وفي يوم الخميس خلق الله تعالى التنانين العظام وكل نفس متحركة في الماء وكل طائر ذي جناح. وفي يوم الجمعة امر الله تعالى الأرض فأخرجت أنفسا حيوانية بهائم وسباعا وحشرات. ثم خاطب ملائكته [3] قائلا: هلمّوا نخلق إنسانا بصورتنا ومثالنا عارفا بالخير والشر مستطيعا لفعلهما. فظهرت يمين مبسوطة فيها أجزاء من العناصر الأربع ونفخ فيها نسيم الحياة فوجد آدم شابا. ثم القى الله عليه الرقاد وانتزع احدى أضلاعه من جنبه الأيمن وخلق منها حواء ام البشر وأسكنهما فردوس عدن وهو الجنة ومستقرها نحو المشرق واباحهما الأكل من جميع ثمار الجنة خلا شجرة معرفة الخير والشر. وأردف ذلك يوم السبت فلم يخلق فيه شيئا.   [1-) ] اي يوم الجمعة. [2-) ] هذا بحسب مذهب اهل عصره. اما الآن فقد اثبت الفلكيون ان الكواكب ليست مرصعة بالأفلاك. وقرر الكيماويون ان الأركان اكثر من اربعة كثيرا. [3-) ] اتفق جمهور المفسرين على ان الله لم يقل لملائكته هذا الكلام بل قاله لذاته الالهية جل جلالها واستدلوا به على وجود الأقانيم الثلاثة في وحدانية الطبيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ومن علمائنا مار غريغوريوس النوسويّ ويعقوب الرهاويّ [1] يزعمان ان جميع المخلوقات انما وجدت في آن واحد [2] والكتاب الالهي انما خصص كون كل كائن بيوم لتعليمنا حسن الترتيب في الأمور وان الله غير موجب بالذات بل فاعل بالاختيار له ان يبرأ ما شاء متى شاء. وكان آدم وحواء عاريين بغير لباس ولم يستح أحدهما من الآخر حتى دخل الشيطان في الحية وخدعت حواء فأكلت من الثمرة التي نهاهما الله تعالى عن الأكل منها واعطت ايضا آدم بعلها فأكل. فانفتحت أعين قلبيهما وأحسا بالعري فاستحيا واتزرا بورق التين وأهبط بهما من جنة عدن الى الأرض على تسع ساعات من نهار الجمعة وكانت خلقتهما في الساعة الاولى [3] من هذا النهار بعينه. وقد اختلفت علماؤنا في امر الثمرة المنهي عنها [4] فقال قوم انها البرّ وقال آخرون انها العنب وقال الأكثرون انها التين وغريغوريوس النوسويّ يزعم انها رمز الى القوة الشهوانية والنازينزيّ يرى انها رمز الى المراء في ذات الله وصفاته. وعلى رأي مارثوديوس [5] بعد ثلثين سنة للانتفاء من الجنة باشر آدم حواء فولدت قايين وقليميا أخته توأمين. وبعد ثلثين اخرى غشيها فولدت هابيل ولبوذا أخته توأمين. وبعد سبعين سنة اخرى حاول آدم تزويج كل واحد منهما بتوأمة أخيه. فأبى قايين طالبا توأمته ولأجل ذلك قرب قربانا من ثمار ارضه لكونه فلاحا فلم يقبل لفساد طريقته. ورفع هابيل قربانا من أبكار غنمه لكونه راعيا فقبل بحسن سيرته. فأسرّ قايين عداوة أخيه فقتله غيلة واستوطن ارض نوذ [6] الخارجة عن حدود ولد أبيه. وحزن آدم على هابيل مائة سنة. ثم عاد مفضيا الى حواء فولدت شيث والماضي من عمر آدم يومئذ على رأي   [1-) ] الرهاوي نسبة الى الرها () مدينة بالجزيرة كانت تسمى في عهد السلوقيين ( [؟] ) وتأويلها الينبوع الحسن. فاختصر السريان هذا اللفظ وقالوا: ( [؟] ) واخذه عنهم العرب وقالوا الرها. وتسمى اليوم او رفا. [2-) ] وجود المخلوقات في آن واحد يراد به على الصحيح ان الله أوجد المادة أولا ثم كون منها سائر المخلوقات في الستة الأيام المذكورة في الكتاب المقدس. اما هذه الأيام الستة فرأي اكثر العلماء انها ليست أياما من مطلع الشمس الى مطلعها بل هي مدات طوال جدا. [3-) ] ساعة خلق آدم وحواء وساعة طردهما أمر لا يعلمه الا الله. [4-) ] لا يتصل احد الى معرفة الثمرة المنهي عنها أهي من البر او التين او غيرهما. ولكن الرأي الصحيح عند جمهور المفسرين انها ثمرة حقيقية. اما كون القصة رمزا فهو مردود. [5-) ] مار ثوديوس وثوذيوس س [؟] متوديوس. [6-) ] نوذ ر نون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الاثنين والسبعين حبرا الذين نقلوا التوراة وكتب الأنبياء لبطليموس ملك مصر قبل مجي السيد المسيح لذكره التبجيل كما سيأتي شرح ذلك في موضعه مائتان وثلثون سنة. وعلى رأي التوراة التي بأيدي اليهود بعد مجيئه مائة وثلثون سنة. وجميع ايام آدم على الرأيين تسعمائة وثلثون سنة. (شيث بن آدم) يقال انه أول من ابتدع الكتابة وشوق ولد الى الحياة السعيدة التي كانت لأبويه في الجنة فانقطعوا الى جبل حرمون [1] معتكفين على العبادة والنسك والعفّة لا يطورون بجنبة النساء. فسمّوا بذلك بنو ألوهيم اي الإله. وأولد شيث انوش وله حينئذ [2] على الرأي السبعينيّ مائتان وخمس سنين وعلى رأي اليهود مائة وخمس سنين [3] وجميع أيامه على الرأيين تسعمائة واثنتا عشرة سنة. (انوش بن شيث) يقال هو أول من دعا اسم الرب ومنحه الله تعالى معرفة الأكوان ومسير الكواكب وهو وان لم يجانب النساء لم يغفل التقرّب الى الله زلفى. وأولد قينان ابنه وله يومئذ على الرأي السبعيني مائة وتسعون سنة وعلى رأي اليهود تسعون سنة وجميع أيامه على الرأيين تسعمائة وخمس سنين. (قينان بن انوش) ولد له مهلالايل وعمره على الرأي السبعيني مائة وسبعون سنة وعلى رأي اليهود سبعون سنة وجميع أيامه على الرأيين تسعمائة وعشر سنين [4] . (مهلالايل بن قينان) ولد له يرد وعمره على الرأي السبعيني مائة وخمس وستون سنة وعلى رأي اليهود خمس وستون سنة وجميع أيامه على الرأيين ثمانمائة وخمس وتسعون سنة. (يرد بن مهلالايل) ولد له حنوخ [5] وعمره على الرأيين جميعا مائة واثنتان وستون سنة وجميع أيامه تسعمائة واثنتان وستون سنة. وفي سنة أربعين ليرد هبط بنو ألوهيم من جبل   [1-) ] وفي نسخة الى الجبل جبل مريرة. [2-) ] حينئذ ر يومئذ. [3-) ] لا يخفى ان ما بين النسخة العبرانية والسامرية والسبعينية اختلافا من جهة عدد السنين. ولا عجب في ذلك إذا لاحظنا طريقة العبرانيين فإنهم كانوا يورخون مثل العرب بالحروف الهجائية وهو الحساب المعروف بحساب الجمل. وهذه الطريقة كثيرا ما ينشأ عنها الغلت بسبب المشابهة بين الأحرف. فان حرف [؟] مثلا يشبه حرف [؟] وقس عليه مشابهة حرفي [؟] ، [؟] وحرفي [؟] ، [؟] وحرفي [؟] ، [؟] وحرفي [؟] ، [؟] المتطرفة. قلت اوردنا هذه الامثلة ليثبت عند القاري سرعة تطرق الفساد والتحريف الى التاريخ. ولكن الاختلاف الصادر عنه لا يمس صحة الاسفار الالهية المقررة في المجمع التريدنتيني ولا يقدح في تنزيلها لأن الله عز وجل انما ضمن حفظ صحة الآيات المتعلقة بالايمان والآداب ليس الا. [4-) ] ويروى 900 سنة. وفي نسخة 810 وليس ذلك بموافق للكتاب المقدس. [5-) ] حنوخ ر أخنوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 حرمون متآيسين من العود الى الفردوس ورغبوا في النساء فلم يزوجهم ذوو قرابتهم مستخفين لهم. فاختطبهم قوم قايين باذلين لهم بناتهم فنكحوهنّ فولدن جبابرة مبرزين في الحروب والغارات. وقيل ان بنات قايين اخترعن آلات الملاهي زامرات بها ولذلك تسمي السريانية اللحن قينة بالكسر وتسمي العرب الأمة المغنية قينة بالفتح. (حنوخ [1] بن يرد) ولد له متوشلح [2] وعمره على الرأي السبعيني مائة وخمس وستون سنة وعلى رأي اليهود خمس وستون سنة. هذا حنوخ تمسك بوصايا الله الطاهرة وعمل بها وتتبع الخير وصرف عن الشر مواظبا على العبادة ثلاثمائة سنة فنقله الله الى حيث شاء حيا وقيل الى الفردوس. والأقدمون من اليونانيين يزعمون ان حنوخ هو هرمس ويلقب طريسميجيسطيس اي ثلاثي التعليم لأنه كان يصف الباري تعالى بثلاث صفات ذاتية هي الوجود والحكمة والحياة. والعرب تسميه إدريس. وقيل ان الهرامسة ثلثة: الاول هرمس الساكن بصعيد مصر الأعلى وهو أول من تكلم في الجواهر العلوية وانذر بالطوفان وخاف ذهاب العلوم ودرس الصنائع فبنى الاهرام [3] وصور فيها جميع الصناعات والآلات ورسم فيها طبقات العلوم حرصا منه على تخليدها لمن بعده. والثاني هرمس البابلي سكن كلواذا مدينة الكلدانيين وكان بعد الطوفان وهو أول من بنى مدينة بابل بعد نمرود بن كوش. والثالث هرمس المصري وهو الذي يسمى طريسميجيسطيس اي المثلث بالحكمة لأنه جاء ثالث الهرامسة الحكماء ونقلت من صفحه نبذ وهي من مقالاته الى تلميذه طاطي على سبيل سؤال وجواب بينهما وهي على غير نظام وولاء لان الأصل كان باليا [4] مفرقا والنسخة موجودة عندنا بالسريانية. وقيل ان هرمس الاول بنى مائة وثمانين مدينة صغراها الرها وسن للناس عبادة الله والصوم والصلاة والزكاة والتعييد لحلول السيّارة ببيوتها واشرافها [5] وكذلك كلما استهل الهلال وحلت الشمس برجا من الاثني عشر. وان يقرّبوا قرابين من كل فاكهة باكورتها ومن الطيب والذبائح والخمور أنفسها. وحرّم السكر والمآكل   [1-) ] حنوخ ر أخنوخ. [2-) ] متوشلح ر متوشلح. [3-) ] من المعلوم ان الاهرام بناها ملوك مصر بعد الطوفان بزمان ليجعلوها مدافن لهم. وان الهرم الأكبر بناه كيوبس والثاني اخوه كيفريم. [4-) ] وفي نسخة بالبابلي. [5-) ] واشرافها. في احدى نسخيّ بريتش موزيوم «وإشراقها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 النجسة. والصابئة تزعم ان شيث بن آدم هو اغاثاديمون المصري معلم هرمس. وكان اسقليبياذيس الملك احد من أخذ الحكمة عن هرمس وولّاه هرمس ربع الأرض المعمورة يومئذ وهو الربع الذي ملكه اليونانيون بعد الطوفان. ولما رفع الله هرمس اليه حزن اسقليبياذيس حزنا شديدا تأسفا على ما فات الأرض من بركته وعلمه وصاع له تمثالا على صورته ونصبه في هيكل عبادته. وكان التمثال على غاية ما يمكن من اظهار اهبة الوقار عليه والعظمة في هيبته ثم صوره مرتفعا الى السماء وكان يمثل بين يديه تارة ويجلس اخرى ويتذكر شيئا من حكمه [1] ومواعظه على العبادة. وبعد الطوفان ظن اليونانيون ان الصورة لاسقليبياذيس فعظموه غاية التعظيم. وكان ابقراط إذا عهد الى تلامذته يقول: نشدتكم الله باري الموت والحياة وابي وأباكم اسقليبياذيس. وكان يصوره وبيده نبات الخطميّ رمزا منه الى فضيلة الاعتدال في الأمور واللين والمؤاتاة والمطاوعة في المعاملة. وقال جالينوس: لا يجب ان يرفض الشفاء الذي يحصل عليه المرضى بدخولهم هيكل اسقليبياذيس. أقول كلما ورد من اخبار ما قبل الطوفان ولم يسند الى نبإ نبوي فهو حدس وتخمين لعدم [2] المخبر به على الوجه. (متوشلح بن حنوخ) ولد له لمك وعمره على الرأي السبعيني مائة وسبع وستون سنة وعلى رأي اليهود مائة وسبع وثمانون سنة وجميع أيامه على الرأيين تسعمائة وتسع وستون سنة. [3] (لمك بن متوشلح) ولد له نوح وعمره على الرأي السبعيني مائة وثماني وثمانون سنة وعلى رأي اليهود مائة واثنتان وثمانون سنة. وجميع أيامه على الرأيين [4] سبعمائة وثلث وسبعون سنة. ومات قبل أبيه. (نوح بن لمك) ولد له شام [5] وعمره على الرأيين خمسمائة سنة. وعلى الرأيين جميع أيامه تسعمائة وخمسون سنة. وفي سنة ستمائة لعمر نوح تهارج الناس وأبا حوا المحظورات وارتكبوا المحارم. وكان نوح بارا صديقا. وأخبره الله تعالى بحال الطوفان وأمره ان يصنع فلكا طوله ثلاثمائة ذراعا وعرضه خمسون ذراعا في عمق ثلثين ذراعا. ونزل اليه هو وزوجته وبنوه الثلاثة: شام وحام ويافث ونساؤهم وأدخل معهم من كل نوع من الطيور والحيوان   [1-) ] حكمه وحكمته. [2-) ] ويروى: لقدم. [3-) ] وفي نسخة 962 سنة وهو غير موافق للكتاب الكريم. [4-) ] وفي النسخة العبرانية انه عاش 777 سنة. وفي النسخة السبعينية انه عاش 753 سنة. [5-) ] شام ر سام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الطاهر سبعة ازواج ذكورا وإناثا. ومن النجس زوجا ومن الطعام ما يقوته ومن معه قوتا ماسكا للرمق. وقيل ان تابوت أبينا آدم ايضا كان معهم في الفلك. ثم هطلت السماء انهطالا وتواترت الأمطار واستنهرت المياه أربعين يوما أولها السابع والعشرون من شهر أيار وتغشمرت السيول العمران وغشي الماء كل شيء وركب الجبال الشامخة وعلا عليها خمس عشرة ذراعا [1] . ودام ذلك سنة كاملة. ثم ذكر الله نوحا ومن معه في الفلك فأمسك نزول الماء وعصفت الرياح فجففت الأرض واجتنح الفلك الى جبل قرد [2] ويعرف بالجوديّ وفي اثناء ذلك بعث نوح الغراب مستكشفا عن حال الأرض. فلم يعد لاشتغاله بأكل الجيف. واتبعه بحمامة فلم تجد موضعا للوقوف فعادت الى نوح. ثم صبر بعد ذلك سبعة ايام وسرح حماما آخر فرجع اليه مساء وفي منقاره ورقة من شجرة الزيتون. فعلم ان الماء قد غاض. وبعد ايام أرسل طائرا آخر فلم يعد. فأقام تتمة سنة وخرج هو وآله من الفلك في السابع والعشرين من السنة الثانية وبنى مذبحا وقرّب قربانا قبله الله وعهد اليه ان لا يورد على خلقه طوفانا ولا يبيد فيما بعد حيوانا وجعل آية رضوانه قوس قزح المرئية في السحاب. واطلق الله لنوح أكل لحوم الغنم والمواشي وشرب الخمر ومما كان قد حرّم قبل الطوفان. وابتدأ نوح بعمارة الأرض وغرس كرما وشرب من عصيره وثمل يوما في خيمته فانكشف. فشهده ابنه حام وهزئ منه. وعرف أخواه شام ويافث ذلك وأخذ إزارا فغطيا أباهما ووليا يمشيان القهقرى حتى لا ينتبه. ولما استيقظ نوح علم ما صنع به فلعن كنعان بن حام قائلا: انّ زرعه من بعده يكون لعبودية الأمم. وانما لعنه نوح والذنب لأبيه لا له لأنه عرف بالوحي ما سيبدو منه من اتخاذ الملاهي وإنشاء الزمر وافشاء الزنا وباقي الفواحش التي ارتكبها بنو قايين. وبعد الطوفان قسم نوح المسكونة بين بنيه عرضا من الجنوب الى الشمال فأعطى بلاد السودان حاما وبلاد السمر شاما وبلاد الشقر ليافث. ثم مات وله تسعمائة وخمسون سنة. فمن خلق العالم الى ورود الطوفان على الرأي السبعيني الفان ومائتان واثنتان وأربعون سنة وعلى رأي اليهود ألف وستمائة وست وخمسون سنة وعلى رأي السمرة ألف وثلاثمائة وسبع سنين. وهذا الى غاية الفساد لاقتضائه ادراك نوح آدم في قيد الحياة بمائتين وثلث وعشرين سنة ولم يأت به خبر عن الله ولا عن أنبيائه. وقال انيانوس الراهب الاسكندري ان مدة ما بين ابتداء خلق آدم وبين ليلة   [1-) ] خمس عشرة ذراعا. كذا في الأصل. ص خمسة عشر ذراعا. [2-) ] قرد. «قردى وباز بدى قريتان قريبتان من جبل الجودي بالجزيرة» (ياقوت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الجمعة التي كان فيها الطوفان الفان ومائتان وست وعشرون سنة وشهر وثلثة وعشرون يوما واربع ساعات. (شام بن نوح) ولد له أرفخشد وعمره مائة سنة وسنة واحدة. وجميع أيامه ستمائة سنة. وقيل ان نوح اوصى الى شام ابنه وقال له: اني إذا متّ فأخرج تابوت أبينا آدم من الفلك وخذ معك من أولادك ملكيزدق [1] لأنه كاهن الله تعالى وسيرا معا بالتابوت الى حيث يهديكما ملاك الرب. فعملا بهذه الوصية وهداهما الملاك الى جبل بيت المقدس ووضعا التابوت على قلة هناك فغاص فيها. فعاد شام الى اهله ولم يعد ملكيزدق لكنه بنى ثمّ مدينة اسمها أورشليم اي قرية السلام ولذلك تسمّى هو ايضا مليخ شليم اي ملك السلام وسكنها باقي أيامه لهجا بالعبادة وما غشي امرأة ولا أراق دما وكان قربانه خبزا وخمرا فقط. ولأن الكتاب الالهي ابان عن عظم شأنه واعرض عن ابانة نسبه وتاريخي ولادته ووفاته. قال الرسول المغبوط بولس: لا ابتداء لأيامه ولا انقضاء لسنته. وقد ضرب مثلا للمسيح في نبوة داود حيث قال: أنت الكاهن الى الأبد بهيئة ملكيزدق. وعلى تلك القلة التي فيها قبر آدم صلب السيد المسيح. (أرفخشد بن شام) ولد له قينان على الرأي السبعينيّ وعمره مائة وثلثون سنة وجميع أيامه اربعمائة وخمس وستون سنة وليس لهذا قينان ذكر في التورية العبرية ولا في التي بيد السمرة وهو مذكور في إنجيل لوقا [2] . (قينان بن أرفخشد) ولد له شالح على الرأي السبعيني وعمره مائة وثلثون سنة. وجميع أيامه اربعمائة وثلثون سنة. واما على رأي اليهود فارفخشد لما أتت عليه خمس وثلثون سنة ولد له شالح. وكذلك السمرة انما تجعل شالح ابنا لارفخشد لا لقينان بن أرفخشد. وقيل ان هذا قينان اخترع علم الأفلاك بعد الطوفان وبنوه اتخذوه إلها وصاغوا له تمثالا بعد وفاته وسجدوا له. وهو بنى مدينة حرّان على اسم هاران ابنه.   [1-) ] لا ندري على من استند المؤلف في زعمه ان ملكيزدق كان في ايام نوح وانه كان ابن شام. وهو نفسه يقول بعيد هذا ان الكتاب الالهي اعرض عن ابانة نسب ملكيزدق وتاريخي ولادته ووفاته. والذي نعلمه ان ملكيزدق كان في ايام ابراهيم لا في ايام نوح. ولا يظهر انه أراد شخصا آخر يدعى بهذا الاسم. [2-) ] ان القديس لوقا روى ان قينان هو ابو شالح مستندا في ذلك الى تقليد قديم العهد والى النسخة السبعينية (تكوين ص 11 ع 12) . هذا وان اغفال التوراة العبرية اسم قينان واقتصارها على ذكر أرفخشد أبا لشالح مع انه جده في الحقيقة انما هو من باب التوسع والتساهل. ولمثله نظائر في الكتاب الكريم فضلا عن انه قد وقع في تواريخ العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 (شالح بن قينان) ولد له عابر وعمره على الرأي السبعيني مائة وثلثون سنة وعلى رأي اليهود ثلثون سنة. وجميع أيامه اربعمائة وستون سنة. (عابر بن شالح) ولد له فالغ وعمره على الرأي السبعيني مائة وثلث وثلثون سنة وعلى رأي اليهود اربع وثلثون سنة. وجميع أيامه ثلاثمائة وثلث وأربعون سنة. ومنه اشتق اسم العبريّ. وقيل من ابرهيم لعبوره الأنهار منزوحا به من العراق الى الشام. ومن أئمتنا باسيليوس وافريم يزعمان ان من آدم الى هذا عابر كانت لغة الناس واحدة وهي السريانية وبها كلم الله آدم وتنقسم الى ثلث لغات أفصحها الآرامية [1] وهي لغة اهل الرها وحرّان والشام الخارجة. وبعدها الفلسطينية وهي لغة اهل دمشق وجبل لبنان وباقي الشام الداخلة. واسمجها الكلدانية النبطية [2] وهي لغة اهل جبال اثور وسواد العراق. ويعقوب الرهاوي يقول: ان اللغة لم تزل عبرية الى ان تبلبلت الألسن ببابل. (فالغ بن عابر) ولد له ارعو وعمره على الرأي السبعينيّ مائة وثلثون سنة وعلى رأي اليهود ثلثون سنة. وجميع أيامه ثلاثمائة وثلث وأربعون سنة. وفي سنة مائة وأربعين لفالغ فلغت الأرض اي قسمت قسمة ثانية [3] بين ولد نوح. فصار لبني شام وسط المعمورة فلسطين والشام واثور وسامر [4] وبابل وفارس والحجاز. ولبني حام التيمن كله اي   [1-) ] وفي نسخة: ارمانية. ويروى: الارمائية. [2-) ] النبط: شعب قديم كانت منه بقية في ايام العرب بعد الهجرة. وكانوا في عزّ ملكهم ينزلون بلاد ما بين النهرين والعراق. وقد تقرر الآن انهم كانوا سريانيين كلدانيين ولغتهم السريانية. قال المسعودي في الصفحة 78 من الكتاب الاول من مروج الذهب «ونزل ماش بن ارم بن سام ارض بابل على شاطئ الفرات فولد نمرود بن ماش وهو الذي بنى الصرح ببابل وجسر بابل على شاطئ الفرات ... وهو ملك النبط» وفي الصفحة 105 من الكتاب الثالث «فسائر النبط وملوكها ترجع في أنسابها الى نبيط بن ماش» وفي الصفحة 94 من الكتاب الثاني «وكان من اصل اهل نينوى ممن سمينا نبيطا وسريانيين والجنس واحد واللغة واحدة. وانما بان النبيط عنهم بأحرف يسيرة من لغتهم والمقالة واحدة» . وفي الصفحة 107 من الكتاب الثالث «ومنهم (من النبط) ملوك بابل الذين قدمنا ذكرهم وانهم الملوك الذين عمروا الأرض ومهدوا البلاد وكانوا اشرف ملوك الأرض. فأذلهم الدهر وسلبهم الملك والعز فصاروا على ما هم عليه من الذلة في هذا الوقت بالعراق وغيرها» . وأنشأ النبيط في بلاد العرب بين بحر القلزم والفرات عمارة كانت قاعدتها مدينة سائع المعروفة عند الأجانب باسم. وذهب المورخون الى ان ذلك كان ايام محاربة نبوكدنصر الثاني لليهود والعرب وفراعنة مصر. (راجع ما كتبه عن النبيط العلامة الفرنسي كاترمير) . . (1835.-.. ... [3-) ] لم تقسم الأرض عند بناء برج بابل وانما قسمت بعد ذلك عند تفرق الألسنة. [4-) ] وفي نسخة: سامرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الجنوب: افريقية والزنج ومصر والنوبة والحبشة والسند والهند. ولبني يافث الجربيا اي الشمال: الأندلس والافرنجة وبلاد اليونانيين والصقالبة والبلغار والترك والأرمن. وبعد وفات فالغ ثارت الفتن بين بنيه وبين بني يقطان أخيه وشرع الناس في تشييد الحصون. (ارعو بن فالغ) ولد له ساروغ وعمره على الرأي السبعيني مائة واثنتان وثلثون سنة وعلى رأي اليهود اثنتان وثلثون [1] سنة. وجميع أيامه ثلاثمائة وتسع وثلثون سنة. وفي سبعين سنة لارعو قال الناس بعضهم لبعض: هلموا نضرب لبنا ونحرق آجرا ونبني صرحا شامخا في علوّ السماء ويكون لنا ذكرا كي لا نتبدد على وجه الأرض. فلما جدوا في ذلك بأرض شنعار [2] وهي السامرة (ونمرود بن كوش قات راصفي الصرح بصيده وهو أول ملك قام بأرض بابل وهو الذي رأى شبه اكليل في السماء واتخذ مثله ووضعه على رأسه فقيل ان اكليله (نزل من السماء) . قال الله تعالى: هذا ابتداء عملهم ولا يعجزون عن شيء يهتمون به سوف افرق لغاتهم لئلا يعرف أحدهم ما يقول الآخر. فبدد الله شملهم على وجه الأرض وأرسل رياحا عاصفة فهدمت الصرح ومات فيه نمرود الجبار وتبلبلت لغات الآدميين ولذلك دعي اسم ذلك الموضع بابل. وبنى نمرود ثلث مدن ارخ [3] وخيليا (اي الرها ونصيبين) والمدائن. (ساروغ بن ارعو) ولد له ناحور وعمره على الرأي السبعيني مائة وثلثون سنة [4] وعلى رأي اليهود ثلثون سنة. وجميع أيامه ثلاثمائة وثلثون سنة. ويقال ان ساروغ اظهر سكة الدراهم والدنانير. وفي أيامه اكثر الناس اتخاذ الأصنام وكان الشياطين يظهرون منها الآيات الباهرة. وساميروس ملك الكلدانيين ابدع المكاييل والموازين ونسج الإبريسم واخترع الاصباغ. وقد جاء في الخرافات انه كان له ثلث عيون وقرنان. وفي هذا الزمان اوفيفانوس ملك مصر صنع سفينة وغزا سكان السواحل. وبعده قام فرعون بن سانس ومنه سمّيت الفراعنة. (ناحور بن ساروغ) ولد له ترح وعمره على الرأي السبعيني تسع وسبعون سنة وعلى رأي اليهود تسع وعشرون سنة. وجميع أيامه مائتان وسنة واحدة. وفي خمس   [1-) ] مائة واثنتان وثلثون س مائة وثلث وثلثون. [2-) ] شنعار وسنعار س [؟] ارض سنعار. [3-) ] ارخ وخيلبا ص ارخ واخد وخيليا أي الرها ونصيبين والمدائن س [؟] ارخ واخر وخليلا. وفي سفر التكوين (10: 10) النسخة العبرانية [؟] وفي السبعينية [؟] . [4-) ] مائة وثلثون سنة س مائة وسبعون ومائة وثلثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وعشرين سنة من عمره كان جهاد أيوب الصديق على رأي اروذ الكنعانيّ. وبنى ارمونيس ملك كنعان سذوم وغامورا على اسم ولديه ومدينة صاعر [1] على اسم أمهما. (ترح بن ناحور) ولد له ابراهيم وعمره على الرأيين. جميعا سبعون سنة. وجميع أيامه مائتان وخمس وسبعون سنة. ومات بمدينة حرّان. وبنى مورفوس ملك فلسطين مدينة دمشق قبل ميلاد ابراهيم بعشرين سنة. ويوسيفوس يقول ان عوص بن أرام بناها ومن هاهنا يتفق التاريخان السبعيني والعبراني. (ابراهيم بن ترح) ولد له اسحق وعمره مائة سنة. وجميع أيامه مائة وخمس وسبعون سنة. ولما أتت عليه خمس عشرة سنة استجابه الله تعالى في العقاعق التي كانت تفسد في ارض الكلدانيين وتمحق زروعهم. واحرق ابرهيم هيكل الأصنام بقرية الكلدانيين ودخل هاران اخوه ليطفئ النار فاحترق ولذلك فر ابراهيم وعمره ستون سنة مع أبيه ترح وناحور أخيه ولوط بن هاران أخيه المحترق الى مدينة حرّان وسكنها اربع عشرة سنة. ثم خاطبة الله قائلا: انتقل عن هذه الديار التي هي ديار آبائك الى حيث آمرك. فأخذ سارا امرأته ولوط ابن أخيه وصعد الى ارض كنعان وحارب ملوك كدر لعمر وقهرهم. وفي عوده من المحاربة اجتمع بملكيزدق الكاهن الأعظم وخرّ على وجهه بين يديه وأعطاه عشرا [2] من السلب وباركه ملكيزدق. وفي سنة خمس وثمانين من عمره وعده الله ان يجعل نسله كعدد الكواكب التي في السماء وذريته كرمل البحار فوثق ابرهيم بالله حق الثقة. وفي هذه السنة دخل الى مصر ووشي. بحسن سارا امرأته الى فرعون [3] فسأل ابراهيم عنها. فقال: هي اختي من ابي لا من امي. ولم يكذب بقوله هذا لأنها كانت ابنة عمه فأقام جدهما مكان أبيهما. فاختارها فرعون الى نفسه مختليا حتى حقق انها زوجته فردها اليه مع هدايا جزيلة من. جملتها هاجر المصرية أمة سارا وتقدم اليه بالانتزاح من بلده خوفا من ان يهجس في صدره هاجس سوء ثانيا. ولأنه لم يكن لإبراهيم ولد من امرأته سارا سمحت بجاريتها هاجر فوطئها ابرهيم وولدت له إسماعيل. واستهانت هاجر بسارا مولاتها   [1-) ] كان موقع هذه المدينة قرب الموضع الذي فيه الآن البحيرة المنتنة. وكانت المدينة تسمى بالع [؟] (تكوين ص 14) «ملك بالع وهي صوعر» . ولقبت صوعر [؟] وتأويلها صغر) لصغرها كما يتضح ذلك من قول لوط في سفر التكوين (ص 19 ع 20- 22) «ها ان هذه المدينة قريبة للهرب إليها وهي صغيرة دعني أتخلص إليها انما هي صغيرة فتحيا نفسي ... لذلك سميت المدينة صوعر» . وعليه فيكون زعم المؤلف ان تسمية هذه المدينة صاعر باسم امرأة لا حقيقة له. [2-) ] عشرا من السلب ص عشرا من جميع ما كان معه من السلب. [3-) ] فرعون ر فرعون بن فانوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 شامخة عليها بسبب ولدها فأزاحتها سارا من عندها الى القفر بغيظة منها فتراءى ملك الرب لهاجر قائلا: لا تيأسي من رحمة ربك فان الله قد بارك على الصبي حين خاطب أباه ابرهيم. وكان خاتمة البركة باللغة السريانية هكذا: وأكبرته طب طب وأعظمته جدا جدا. أقول قد اتّفق في هذه الألفاظ سرّ عجيب لاح في عصرنا وهو انّا إذا جمعنا حروفها بحساب الجمّل كان الحاصل ستمائة وستة وخمسون سنة وهي المدة من الهجرة الى السنة التي قتل فيها آخر الخلفاء العباسيين وزال الملك المعظم جدا عن آل إسماعيل. وبعد مائة سنة مضت من عمر ابرهيم ولد له اسحق من سارا. ولما حصل لإسحاق تسع عشرة [1] سنة أصعده ابرهيم لجبل نابو [2] ليضحّي به ضحيّة لله تعالى ففداه الله بحمل مأخوذ من الشجرة وأنقذه. والحمل مثال لسيدنا يسوع المسيح له المجد الذي فدى العالم بنفسه ولذلك قال في انجيله المقدس: ان ابرهيم كان يرجو ان يشاهد يومي فشاهد وسرّ. وقيل في تلك السنة تمّ ملكيزدق بناء أورشليم. وفي ثماني وثلثين سنة من عمر اسحق درجت سار أمّه وعمرها مائة وسبع وعشرون سنة. وتزوج ابرهيم قنطورا ابنة ملك الترك. ولما بلغ اسحق أربعين سنة نزل ايليعازر وليد بيت ابرهيم الى حرّان وجاء برفقا زوجة اسحق ولما توفي ابرهيم دفن الى جانب قبر سارا زوجته في المغارة المضاعفة التي ابتاعها من عفرون الحيثانيّ. وفي زمن ابرهيم كانت ساميرم ملكة اثور وهي بنت التلال خوفا من عود الطوفان. (اسحق بن ابرهيم) ولد له يعقوب وعمره ستون سنة. وجميع أيامه مائة وثمانون سنة. وبعد عشرين سنة من تزوّجه حبلت رفقا امرأته. ولأنها تألمت بالحبل مضت الى ملكيزدق لتسأله [3] عن حملها ودعا لها وبشّرها بأن امّتين عظيمتين في احشائك وان الكبير من توأميك يطيع الصغير يعني عيسو أبا الاذوميين وهم الافرنج الشقر [4] ينقاد   [1-) ] تسع عشرة سنة وست عشرة س خمس عشرة. [2-) ] روى بعض العلماء كيوسيفوس المؤرخ والقديس ايرونيموس ان ابرهيم الخليل قصد الجبل الذي ابتنى سليمان على متنه الهيكل. وزعم غيرهم انه ذهب الى جبل جريزيم قرب شكيم غربي الأردن. اما جبل نابو فهو شرقي الأردن في صحراء مواب تجاه الأردن. وهو الجبل الذي من ذروته ارى الله موسى ارض الميعاد (تثنية الاشتراع ص 34 ع 1) . ومسافة ما بين بئر سبع وجبل نابو أعظم من ان يكون لإبراهيم ان يقطعها مع ابنه بأقل من ثلاثة ايام. [3-) ] لتسأله ر ليسأل لها. [4-) ] ان المؤلف صرح في الصفحة الثامنة عشرة بأن الافرنج هم من بني يافث. وقال هنا ان الفرنج من الادوميين وهذا تناقض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ليعقوب ابي الاسرائيليين. وقيل في ذلك الزمان بنيت مدينة اربيل من اربول الملك ومدينة ايريحو من سبعة ملوك كلّ منهم بنى لها سورا. (يعقوب بن اسحق) ولد له لاوي وعمره اثنتان وثمانون سنة. وجميع أيامه مائة وسبع وأربعون سنة. وفي سبع وسبعين سنة من عمره أخذ من عيسو أخيه البكورة ومن اسحق أبيه تبريك البكورة بالحيلة المذكورة في التورية وهي ان اسحق لمّا طعن في السن ذهب بصره. وكان عيسو ازبّ ويعقوب أجرد. فلبّسته أمه مسك جدي وقدمته الى اسحق قائلة: هذا عيسو ابنك أعطه بركة بكورته. فجسّه اسحق وقال: محبسة عيسو وشمائل يعقوب. ومع ارتيابه به لم يأب تبريكه. ولما حنق عليه عيسو اخوه هرب من قدامه الى حرّان ورأى يعقوب في أول ليلة خرج من بيت أبيه فارا من أخيه في منامه سلّما منصوبا في الأرض ورأسه الى السماء والملائكة يصعدون وينزلون عليه وعظمة الله ظاهرة في أعلاه. فانتبه يعقوب وقال: لا ريب ان هذا بيت الله. فأخذ الحجر الذي كان فوق [1] رأسه ونصبه مذبحا وسكب عليه دهنا تمثيلا بدهن الميرون الذي به تتقدس هياكل الله عندنا. ووصل يعقوب الى بيت لابان خاله بحرّان واختطب راحيل ابنته الصغيرة وقبل ان يرعى غنمه سبع سنين حق المهر. فلما تمت المدة زوّجه لابان ابنته الكبرى محتجا بوجوب تزويج الكبرى قبل الصغرى وزف معها جارية اسمها زلفا. فقبل يعقوب ثانية الرعي سبعا أخرى حق مهر راحيل. وعند تمام المدة زوجه راحيل ابنته الصغيرة وزف معها جارية اسمها بلها. ومال يعقوب الى راحيل فمانعها الله الولاد برهة من الزمان. وولدت لايا ستة أولاد البكر روبيل اي العظيم لله [2] ثم شمعون اي الطائع ثم لاوي اي التام ثم يهوذا اي الشاكر ومن ذريته ظهر الملك المسيح المدعوّ ابن داود بالجسد. ثم ايساخر اي الاجر [3] . ثم زبولون اي النجاة من هول الليل. وولدت راحيل ابنين يوسف اي الزيادة ثم بنيامين اي ابن العزاء [4] . وولدت زلفا ابنين جاذ اي الحظ ثم أشير اي المجد [5] . وولدت بلها ابنين ايضا دان اي الحكم ونفتالي اي المتضرع وابنة اسمها دينا   [1-) ] فوق ص تحت. [2-) ] في نسخة التوراة العبرية [؟] (راوبين) وتأويله الرب نظر مذلتي. الا ان المؤلف تبع الترجمة السريانية [؟] وتاريخ يوسيفوس الذي ابدا يضبط [؟] . وهذه الكلمة روبيل تحتمل التأويل الذي اتى به المؤلف. [3-) ] الاجر ص حاضر الرجاء. [4-) ] العزاء ر العزي.- معناها بالعبرانية ابن اليد اليمنى. وقد أشير بها الى القدرة. [5-) ] اشر تأويله بالعبرانية غبطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 اي العادلة. جملة البنين اثنا عشر وهم الأسباط اي قبائل بني إسرائيل. وبعد ميلاد لاوي بثلاث سنين ولدت راحيل يوسف وبيع ابن سبعة عشرة [1] سنة وبقي عبدا عشر سنين ومعتقلا ثلث سنين وأمينا على دار فرعون ثلثين سنة ووزيرا ثمانين سنة وجميع أيامه مائة وأربعون سنة. وبعد وفاة اسحق حارب عيسو يعقوب أخاه فنصر الله يعقوب. ورماه بسهم فقتله وهزم من معه. وانحدر يعقوب الى مصر وعمره مائة وثلثون سنة بعد ان أقحط سنتين. ويهوذا بن يعقوب تزوج امرأة كنعانية اسمها شوع [2] وولدت له ثلث [3] أولاد عير واوانان وشيلا. وتزوج عير امرأة من بنات لاوي اسمها ثامر [4] وكان يضاجعها مضاجعة قوم لوط ومات ولم يرزق ولدا فزوّجها يهوذا بولده الآخر وهو اونان ليقيم منها نسلا لأخيه عير. وكان إذا باشرها سكب ماءه على الأرض فهلك هو ايضا بغير خلف. واما شيلا الأخ الصغير لما رأى هلاك أخويه أبى قربها. والسر في ذلك ان يعقوب طلب من ربه ان لا يترك زرع كنعان الذي لعنه نوح يختلط مع نسله. فاحتالت ثامر كنّة يهوذا حتى باشرها يهوذا متنكرة عليه فحملت من حميها واتأمت بابنين هما فرص وزرح وداود النبيّ من نسل فرص بن يهوذا. (لاوي بن يعقوب) ولد له قاهاث وعمره سبع وأربعون سنة. وجميع أيامه مائة وسبع وثلثون سنة. وانما ذكر لاوي في النسب وان كان روبيل اكبر أولاد يعقوب لان من ذرّية لاوي ولد موسى النبي المنقذ لآل إسرائيل من عبودية المصريين والسانّ لهم سننا إلهية. (قاهاث بن لاوي) ولد له عمرم وعمره ستون سنة. وجميع أيامه مائة وثلث وثلثون سنة. وفي زمانه صار الطوفان المذكور في كتب الكلدانيين في العراق والملك باثور بالفرس [5] . وقيل في ايام لاوي كان. (عمرم بن قاهاث) ولد له موسى وعمره خمس وثمانون سنة [6] . وجميع أيامه مائة وسبع وثلثون سنة. وعند ما ولد موسى وضعه والداه في صندوق مقيّر ورمياه في النيل خوفا من   [1-) ] سبعة. كذا في الأصل ص سبع. [2-) ] وفي الكتاب المقدس ان شوع اسم لابي الصبيّة التي تزوج بها يهوذا. [3-) ] ثلث كذا في الأصل ص ثلثة. [4-) ] ثامر ر تامر. [5-) ] بالفرس ر بالس س [؟] . [6-) ] خمس وثمانون وخمس وسبعون س خمس وسبعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فرعون امونفاثيس [1] خانق مولودي العبرانيين فوجدته ابنة فرعون هذا واتخذته ولدا وسلمته الى يانيس ويمبريس الحكيمين فعلماه الحكمة وقصة تعلّمه منهما غير مذكورة في التوراة وقد ذكرها الرسول بولس نقلا عن ارسطامونيس [2] . (موسى بن عمرم) بعد ما أتت عليه أربعون سنة من عمره وهو في بيت فرعون رأى شخصا مصريا يفتري على شخص اسرائيلي فالتفت الى جوانبه فلم ير أحدا فضربه وقتله. وبعد ايام رأى اسرائيليين يتخاصمان فأخذ ينكر عليهما. فقال له أحدهما: من جعلك علينا واليا قد جئت تقتلنا كما قتلت بالأمس المصري. ففزع موسى لئلا يظهر ذلك لفرعون فهرب الى ارض العرب وتزوج صافورا الزنجية ابنة يثرون بن رعوئيل المدينيّ ابن دادان بن يقش [3] بن ابرهيم من قنطورا زوجته التركية. وولدت صافورا الزنجية لموسى ابنين أحدهما جرشون اي الغريب والآخر ايليعازر اي الله اعانني. ولما بلغ موسى ثمانين سنة وكان يرعى غنم يثرون حميه، تراءى له ملاك الرب في جبل حوريب وهو طور سينا بلهيب النار في العوسج والعوسج لا يحترق فدعاه الله من العوسج قائلا: يا موسى يا موسى. فقال: ها انا. فقال له: حلّ نعليك من قدميك لان المكان الذي أنت قائم عليه مقدس. ثم قال له الرب: قد سمعت استغاثة شعبي من المصريين ونزلت لخلاصهم على يدك. فقال موسى: من انا حتى امضي الى فرعون رسولا. فقال له الله: انا أكون معك. قال موسى: فان قالوا لي ما اسم ربك ماذا أقول لهم. قال: قل اهيا اشر اهيا اي الازلي الذي لا يزال. فقال موسى: ان لساني الثغ ثقيل النطق كيف يقبل مني فرعون. قال الله له: اني قد جعلتك إلها لفرعون وهرون أخاك نبيا بين يديك يقول لفرعون ما تقص عليه فيرسل ابني بكري إسرائيل وانا أقسّي قلب فرعون فلا يطيعكما فأظهر آياتي بأرض مصر. فلما مضيا موسى وهرون الى فرعون بالرسالة قال لهما: اصنعا لي آية. فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ 26: 45 تنيّن. فدعى فرعون السحرة ففعلوا كذلك فابتلعت عصا موسى عصيّهم. ومع هذا أبى فرعون ان يرسلهم. فصنع الرب بمصر من الآيات ما قد شرح في التورية من تغيّر الماء دما واظهار الجراد والضفدع والظلام والحشرات والنار وغير ذلك. وفي الليلة التي قتل الله فيها جميع أبكار المصريين من بكر   [1-) ] وهو المعروف الآن باسم امينوفيس وهو ابو رعمسيس الثاني المشهور عند اليونيين باسم سيزوسترس الذي وجدت جثته منذ عهد قريب. [2-) ] ارسطامونيس س [؟] ارطمونيس.- انما ذكر بولس الرسول هذه القصة نقلا عن تقليد قديم لليهود. وقد ورد ذكر هذين الحكيمين في الرسالة الثانية الى تيموتاوس (ص 3 ع 8) . [3-) ] يقش ص يقشن س [؟] . ابن العبري- 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فرعون وما دون اذن فرعون لموسى وهرون ان يخرجا بني إسرائيل من مصر ويمضون ويعبدون امام الرب ثم يعودون الى مصر. فاستعار بنو إسرائيل من جيرانهم حلي الذهب والفضة والملابس الفاخرة بحجة العود وخرجوا من مصر ستمائة ألف رجل سوى الحشم والأثقال بعد ان تم لهم بمصر اربعمائة سنة وثلثون سنة. ولما لم يرجعوا لما أمروا اتّبعهم فرعون وجنوده. فدمدم بنو إسرائيل على موسى قائلين: قد كان الأصلح ان نخدم المصريين ولا نهلك في البر فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وعبر بنو إسرائيل فيه. ودخل فرعون وجنوده خلفهم فغرقوا. وسار بنو إسرائيل في البر أياما. ثم ثاروا على موسى قائلين: كنا نؤثر الموت بمصر ولا نموت بالجوع في هذا البر. فأمطرهم الله تعالى الخبر من السماء وانزل عليهم المن والسلوى وكان الغمام يظلهم نهارا وعمود نار يضيئهم ليلا سائرا بين أيديهم. وقال الله لموسى: اصعد اليّ أنت وهرون وناذاب وابيهو ولداه وسبعون شيخا. ففعلوا ذلك ودنا موسى وحده والباقون وقفوا أسفل الجبل فعرّفهم موسى وصايا الله ثم نزلوا واقام موسى بالجبل أربعين يوما صائما. وتقدم الله اليه بالفرائض مكتوبة في لوحين من حجر. ولما استبطأ بنو إسرائيل مجيء موسى قالوا لهرون: قم اعمل لنا إلها يمضي امامنا لان أخاك ما نعلم ما كان منه. واحضروه حلي الذهب التي لنسائهم وأولادهم وصاغ منها عجلا وقال: هذا إلهك يا إسرائيل الذي أخرجك من مصر. ولما عاد موسى وعرف فعلهم غضب غضبا شديدا وضرب باللوحين سفح الجبل وكسرهما وألقى العجل في النار وبرد سبيكته بالمبارد ناعما وألقاه في البحر وأمر بني إسرائيل ان يشربوا منه جميعهم وقال لبني لاوي: الرب يأمركم ان يقتل الرجل منكم أخاه ونسيبه. فقتل منهم ثلثة آلاف رجل. ثم رقي موسى للجبل مرة ثانية ومعه لوحان آخران من حجر واقام فيه أربعين يوما صائما طاويا لياليها وعاد نازلا وبيده اللوحان مكتوبا فيهما العشر وصايا وهي: الرب إلهك واحد. لا تحنث في يمينك. احفظ يوم السبت. أكرم والديك. لا تقتل. لا تزن. لا تسرق. لا تشهد بالزور. لا تتمنّ منزل أخيك. لا تتمنّ قنية رفيقك. وقال الله: ملعون من يشتم والديه. ملعون من يظلم جاره. ملعون من يضل الأعمى عن السبيل. ملهون من يحيف في القضاء على اليتيم والمسكين. ملعون من يضاجع أخته ومن يلامس امرأة أبيه ومن يضرب صاحبه غيلة ومن يرشو في قتل نفس. ملعون من لا يثبت على هذه السنن. فان أنتم خالفتموها تزرعون ويأكل زرعكم أعداؤكم وتنهزمون من غير ان يطردكم احد وأرسل عليكم الوحوش فتفنيكم ولا تشبعون طعاما ولا تروون ماء ولا تقبل لكم صلاة واخرّب أرضكم وابدّدكم بين الأمم المبغضة لكم واختسّ قدركم. وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الله لموسى: قل لبني إسرائيل يفردون لي ذهبا وفضة ونحاسا وثياب أرجوان وقزا وإبريسما ومرعزّى وأديما وخشب شمشار ويعملون لي مسكنا بينهم زمان تقلّبهم خارج ارض الميعاد ويكون أخوك هرون وبنوه يلهبون السرج فيه من العشاء الى الصباح. فعملوا كما أمرهم الله تعالى وسار بنو إسرائيل وموسى امامهم يعدّ لهم منزلا. وتغطرس هرون ومريم على موسى لأجل زوجته الزنجية وقالا: ألعلّ موسى وحده كلمه الله فمعنا ايضا قد تكلم. فقال لهما الله: ان تمّت نبوؤتكما فاني سرا اتجلى عليكما واما موسى فقد ائتمنته على بيتي ومن فم لفم اكلّمه. وعند ذلك برصت مريم وابيض جسمها كالثلج. وتضرع موسى الى الله ان يطهّرها. فقال الله: لو ان أباها تفل في وجهها لكان يجب ان تستحي منه فلتنعزل عن الحلّة سبعة ايام ثم تدخل. ففعلت وطهرت. فجاء بنو إسرائيل الى البرّ المعروف بصين. وماتت هناك مريم اخت موسى وهرون ودفنت حيث توفيّت. ثم جاءوا الى جبل هور ومات هناك هرون وولي مكانه ايليعازر ابنه. ولما عبر بنو إسرائيل نهر الاردنّ قال الله: يا إسرائيل ان عملت بوصايا إلهك بوركت في قريتك بوركت في حقلك بورك ثمار كرومك وولد بعيرك يسلم الله عدوك في يديك ويجيئك من طريق واحد ويهرب في سبع طرق يبارك الله الأرض التي يعطيك ويجعلك له شعبا مقدسا كوعده لك. وان خالفت هذه الوصايا تنقلب بركاتك لعنات ويبددك الله في جميع الأمم ويعطيك قلبا فزعا ووجع العين ورماك بالنيّط وتكون مرعوبا بالليل والنهار. أقول تأمل ايها القارئ كيف جعل الله وعده ووعيده لبني إسرائيل مقصورين على ما يرونه في دنياهم من غير ان يذكر لهم شيئا من احوال الآخرة وامور المعاد وذلك لغلظ طباعهم وقصورهم عن النظر الى العالم الروحانيّ. ثم اوحى الله الى موسى قائلا: ها أنت ماض في طريق آبائك فادع يوشع بن نون تلميذك وأوصه بان يقوم بتدبير هذا الشعب فاني اعلم انه يضل بعد موتك ويتخذ الأصنام ويعبدها فيحل غضبي بهم فيلحقهم بؤس وذل. ولست أورثهم ارض الجبابرة المغلة عسلا ولبنا من قبل ورعهم وصلاحهم لكن لسوء اعمال سكانها قبلهم ولما وعدت به آباءهم ابرهيم واسحق ويعقوب. فلما فرغ موسى مما اوصى به يوشع بن نون خاصة وبني إسرائيل عامة أصعده الله الى جبل نابو وأراه ارض كنعان وهي ارض الميعاد التي سيورثها لبني إسرائيل. ومات هناك ودفنته الملائكة من غير ان يعرف له قبر الى آخر الدهر. وكانت سنّه مائة وعشرين سنة ولم يضعف بصره ولم تتشنج وجنتاه. ويوشع بن نون امتلأ روح الحكمة بوضع موسى يده عليه وأطاعه بنو إسرائيل. فمن آدم الى وفاة موسى على الرأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 السبعيني ثلثة آلاف وتسعمائة واحدي وخمسون [1] سنة وعلى رأي اليهود الفان واربعمائة واحدي وتسعون سنة. وقيل في زمان موسى صار طوفان ثالث في تاساليا. وانونيوس [2] الحكيم أوجد علم السيميا. وخيرون اخترع الطب. وما يندروس [3] استنبط نوعا من الشعر يسمى قوموذيا وفيه يذكر الرذائل والاهاجي والقبائح المشتركة بين الناس والبهائم. واستنبط آخر نوعا آخر من الشعر يسمّى طراغوذيا وفيه يذكر الفضائل والمدائح والمرائي المشتركة بين الناس والملائكة. وزعم المعنيون بتعريف طبقات الأمم انه كان بمصر بعد الطوفان علماء بضروب علوم الفلسفة من الرياضية والطبيعية والالهية وخاصة بعلم الكيمياء والطلسمات والنيرنجيات والمراءي المحرقة. وتصديق ذلك قول الله في التوراة عن موسى انه حذق جميع حكم المصريين. وكانت دار الملك والعلم بمصر في قديم الدهر مدينة منف. فلما بنى الإسكندر الاسكندرية رغب الناس في عمارتها لحسن هوائها وطيب مائها وكانت دار العلم والحكمة بمصر الى ان تغلّب عليها المسلمون واختط عمرو بن العاص على نيل مصر المدينة المعروفة بفسطاط عمرو فانسرب العرب والعجم لسكناها فصارت قاعدة مصر.   [1-) ] (3951) س على رأي انيانوس (3851) وعلى الرأي السبعيني (3882) وفي النسخة العبرانية والسريانية (2500) . [2-) ] ويروى انوميوس. ولعل انونيوس تصحيف زينون لاشتباه حرفي الألف والزاي بالسريانية. الا ان زينون كان بعد هذا الزمان بمدة طويلة. [3-) ] مايندروس س [؟] منندروس.- مينندروس مستنبط القوميديا توفي سنة 290 قبل المسيح. فيكون بعد زمن موسى بأكثر من ألف ومائتي سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الدولة الثانية المنتقلة من الأولياء الى القضاة قضاة بني إسرائيل العبرانيّون لمفارزتهم باقي الأمم حرموا تعلّم الحكمة مقتصرين على علوم الشرائع وسير الأنبياء. فكان أحبارهم اعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدو الخليقة ومنهم أخذ ذلك غيرهم. وكانت مساكنهم بلاد الشام وبها كان ملكهم الاول والآخر الى ان اجلاهم عنها بعد مجيء السيد المسيح حقا أنكروه طيطوس ابن الملك اسفسيانوس الروميّ وفرّق ملكهم وبدّد جمعهم. فتقطعوا في البلاد ايدي سبا وتفرقوا في أقطارها شذر مذر. فليس في معمور الأرض الا وفيها منهم في مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وشمالها الا ما كان من جزيرة العرب وهي الحجاز ونجد وتهامة واليمن. فان عمر بن الخطاب اجلاهم عنها. فلما تفرقوا في البلاد وداخلوا الأمم تحركت هم قليل منهم لطلب العلوم النظرية واكتساب الفضائل العقلية فنال افراد منهم ما شاءوا من فنون الحكمة. (أيشوع [1] بن نون) خليفة موسى ووصيّه دبّر بني إسرائيل سبعا وعشرين سنة وأدخل أولاد الأمّة الخارجة من مصر الى ارض الميعاد دون الآباء كما قال الله لموسى: قل لبني إسرائيل: يا شعب السوء حيّ انا الى الأبد ستضلّون ضالّين مذبذبين أربعين سنة حتى تقع أجسادكم وتبلى في هذا البر وأولادكم هم يدخلون ارض الميعاد. واما أنتم فلا تطأونها سوى كلاب بن يوفنيا وأيشوع بن نون. وقهر أيشوع سبع أمم من الكنعانيين وقتل ملوكهم وأخرب احدى وثلثين مدينة وقسم الأرض التي أخذها بين الأسباط وأمرهم ان   [1-) ] ايشوع ر يشوع س [؟] يشوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 يهدموا بيوت الأوثان وان لا يتزوجوا بنساء الأمم الغريبة ولا يأكلوا من ذبائحهم وان يجتمعوا كل عام الى البيت المقدس ليقرأ عليهم فينحاس [1] بن اليعازر الكاهن كتاب الله. فخالفوا جميع ذلك وعصوا الله. فجمعهم أيشوع بن نون في بعض البقاع وظهر لهم ملاك الله في صورة انسان قائلا بصوت عال: اسمعوا يا بني إسرائيل قول الله فانه يقول: انا ربكم خلصتكم من عبودية المصريين وفلقت لكم البحر ودبّرتكم في البر أربعين سنة واطعمتكم المن والسلوى واحييتكم عيشا طيبا. لم يبل لكم لباس ولم يشعث لكم رأس ولم يتسخ لكم ثوب. ثم اني كلمتكم من النار وأنزلت لكم كتابا وأورثتكم أرضا تدرّ اللبن والعسل درورا. فعصيتموني ونقضتم عهدي ونسيتم آياتي. فباسمي اقسم ان لا أبيد هذه الأمم من بين أيديكم لكن اقرّهم بين ظهرانيكم فيكون ذلك سبب بواركم. ولما سمعوا ذلك جلسوا يبكون ولذلك سميت تلك البقعة بقعة البكاء. ثم صرفهم أيشوع الى منازلهم وتوفي ابن مائة وعشر سنين. (فينحاس [1] بن اليعازر بن هرون الكاهن) دبّر الأمة أربعا وعشرين سنة على رأي انيانوس. وقال افريقيانوس: والمشايخ ساسوا ثلثين سنة. والكتاب الالهي لم يعيّن هذه السنين. وفي هذا الزمان زاد بنو إسرائيل في طغيانهم. فقال ملاك الرب لفينحاس: ان هذه الأمة ليست بأهل ان تسمع كلام الله. فاصنع حبّا من نحاس واجعل فيه خمسة اسفار التوراة واللوحين وعصا موسى وقضيب هرون الذي أورق وهو يابس وما استبقي من المن تذكارا وسدّه برصاص. وعمل فينحاس كما أمر وحمل الحب وسار الملاك بين يديه حتى أنزله مغارة في بيت الله الذي بناه سليمان بن داود فانفجرت له صخرة ووضع الحبّ فيها وأخفى مكانه [2] . (كوشن الأثيم [3] المتغلّب) بعد ان طغى بنو إسرائيل وجاوزوا الحد في العصيان أسلمهم الله في يدي كوشن المارد من الأمم الغريبة فعذبهم وجار عليهم ثمان سنين. (عثنائيل) لما اجهد كوشن بني إسرائيل استغاثوا الى الله. فأنشأ لهم رجلا من سبط   [1-) ] فينحاس ر فنحاس وفينخاس. [2-) ] خبر خبء التابوت صحيح وهو وارد في الكتاب المقدس لكن عن ارميا لا عن فينحاس خلافا للمؤلف. وهاك النص «وجاء في هذه الكتابة ان النبي بمقتضى وحي صار اليه أمر ان يذهب معه بالمسكن والتابوت حتى يصل الى الجبل الذي صعد اليه موسى ورأى ميراث الله. ولما وصل ارميا وجد كهفا فأدخل اليه المسكن والتابوت ومذبح البخور ثم سد الباب. فأقبل بعض من كانوا معه ليسموا الطريق فلم يستطيعوا ان يجدوه. فلما أعلم بذلك ارميا لامهم وقال: ان هذا الموضع سيبقى مجهولا الى ان يجمع الله شمل الشعب ويرحمهم» (سفر المكابيين الثاني ص 2 ع 4- 8) . [3-) ] الأثيم ر الايثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 يهوذا اسمه عثنائيل ابن اخي كلاب بن يوفنيا فقتل كوشن وولي امر الأمة أربعين سنة وردّهم الى عبادة الله تعالى ثم مات. (عجلون) بعد موت عثنائيل بن قيناز طغا بنو إسرائيل وعبدوا الأوثان. فأسلمهم الله في يد عجلون ملك موآب فاستعبدهم ثمان عشرة سنة. ثم ابتهلوا الى الله. فأنشأ لهم رجلا من سبط افريم اسمه اهور [1] فقتل عجلون الموآبيّ وانقذهم من عبوديته. (اهور بن جارا) هذا كان اعشم [2] قد شلت يمينه واحتال بأن مثل بين يدي عجلون المتغلب وقال له: كلمة الله معي أريد استكتامها. فصرف عجلون كل من كان عنده وقام يدخل الى خزانة له ليسمعها هناك. فتناول اهور سيفا صغيرا كان قد شده على فخذه اليمنى بيده اليسرى وضرب به على وسط عجلون فبرز مراق بطنه ومات. وخرج اهور واغلق الباب عليه ومضى الى بني إسرائيل وعرفهم الحال. فسرّوا بذلك وتولى أمرهم اهور اثنتين وستين سنة. ومنهم من قال ثمانين سنة يضيف إليها سني عجلون المتغلب ايضا. وفي هذا الزمان بنيت مدينة حلب بأمر بتحوس [3] ملك اثور. وشيدت محكمة اريوس فاغوس بمدينة اثيناس. وقتل اهور من بني موآب عشرة آلاف رجل. (شمغر بن عناث) هذا نشأ في ايام اهور وقتل من الفلسطينيين ستين رجلا [4] بمنخسة الفدان وحكم ثمان عشرة سنة ومات. فطغى بنو إسرائيل بعد وفاته وعبدوا الأوثان. فأسلمهم الله بيدي يابين ملك حاصور من جملة ملوك الكنعانيين. (يابين ملك حاصور) تغلب على الأمة عشرين سنة وكان لقائد جيشه واسمه سيسرا تسع مائة [5] مركب من حديد تجر كل واحدة منها اربعة أفراس تحمل نفرا من الرجال المقاتلين. وكانت الأئمّة معه في ضنك شديد. فاستغاثوا الى الله فأنشا لهم امرأة نبيّة اسمها دبورا. فأنقذتهم منه. (دبورا النبيّة وبارق) لما تولت دبورا النبية وهي من سبط افريم امر بني إسرائيل أشركت معها في التدبير رجلا اسمه بارق من سبط نفتالي ووليا الأمر أربعين سنة.   [1-) ] وفي العبرانية [؟] «اهود» ولعل اهور هو تصحيف اهود لان الدال تلتبس بالراء في السريانية والعبرانية كما هو الأمر في العربية. [2-) ] ان لفظة اعسر هي اكثر مناسبة في هذا الموضع. وهكذا ترجمت النسخة اللاتينية المعروفة بالعامة والنسخة السبعينية [؟] اي اعسر. [3-) ] بتحوس وبلحوس ص بلخوس س [؟] . [4-) ] وفي الكتاب الكريم انه قتل ستمائة رجل. [5-) ] تسعمائة وتسعون س تسعون مركبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وجيّش بارق من بني إسرائيل عشرة آلاف رجل مقاتل والتقى عساكر سيسرا الجّمة فانكسر الكنعانيون ونزل سيسرا عن فرسه ملتجئا الى امرأة من بني إسرائيل اسمها عنائيل [1] . فعرفته وحوته في منزلها وسقته عوض الماء الذي طلبه لبنا ودثرته فنام وحيث ثقل في نومه أخذت سكة من حديد وسمرتها في صماخه حتى مات. ثم خرجت الى باب منزلها فرأت بارق مجدا في طلب سيسرا فقالت له: هلمّ أريك من تريد. فدخل ورأى سيسرا ملقى ميتا والسكة في أذنه. وما زال بارق في طلب يا بين ملك حاصور حتى ظفر به فقتله. (المذيانيّون) وبعد موت دبورا وبارق توثّن بنو إسرائيل كعادتهم وأسلموا في يدي بني مذيان فاستعبدوهم سبع [2] سنين وهرب بنو إسرائيل من شدة ما قاسوا من المذيانيين واتخذوا لهم بيوتا في الكهوف والمغارات وسكنوها. وصار كلما زرعوا زرعا صعدت العمالقة والمذيانيون ورعوه وقرفوه واقحلوا وجه الأرض من كل نبات بكثرة أنعامهم وماشيتهم واغنامهم. (جذعون) لما رأى الله ذل بني إسرائيل رحمهم وأرسل ملاكا الى رجل اسمه جذعون ابن يواش وأمره ان يتولى خلاص الاسرائيليين. فولي تدبيرهم أربعين سنة وقتل ملوك الاعراب مضطهديهم. وولد له سبعون ولدا ذكورا. وفي زمانه كان ابولون ملك الزنوج الذي بزمره انخدعت له الصخور اي أطاعته القلوب القاسية. (ابيملك بن جذعون) الذي ولدت له سرّيته وولي بعد أبيه ثلث سنين وقتل اخوته التسعة والستين. (تولع بن فوا) من سبط ايساخر ساس بني إسرائيل عشرين سنة. وفي زمانه بنيت مدينة طرسوس وخرجت مدينة ايليون الخراب الذي هو من أعظم الرزايا عند قدماء اليونانيين وقد رثاها اميروس الشاعر في كتابين نقلهما من اليوناني الى السرياني ثاوفيل المنجّم الرهاوي. (يائير الجلعدي) ولي تدبير بني إسرائيل اثنتين وعشرين سنة. (العمونيّون) لما طغى بنو إسرائيل في عبادة الأوثان أسلمهم الله في ايدي بني عمون فنكد بهم عيشة الأمة ثمان عشرة سنة. (يفتاح) هذا قتل ملك بني عمّون وهم بنو لوط. وكان قد نذر على نفسه انه ان   [1-) ] هكذا في السريانية [؟] . واما في العبرانية فهي [؟] ياعيل. [2-) ] سبع سنين س سبعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ظفر بالعدو وكرّ منتصرا أول من لمح من ذوي قرابته قرّبه لله تعالى قربانا. فلما انتصر وعاد دانيا من منزله أقبلت عليه ابنته العذراء تهنئه بالنصر. فقال لها: كبّا كببتني لوجهي يا ابنتي وانا اليوم أكببت على وجهي بك. فعلمت ما به واستمهلته شهرا ان تنوح على بكارتها مع أقرانها وترثي على روحها دائرة في الصحاري. فأذن لها في ذلك. وعند تمام المدة ضحّى بها ضحية بموجب نذره المكروه. وكان مدة ولايته ست سنين. ومن جعلها اربع وعشرين سنة فانه يضيف إليها ثماني عشرة سنة التي لولاية العمونيّين. (ابيصان) [1] من اهل بيت لحم حكم سبع سنين وجماعة من المؤرخين لم يتعرضوا لذكر هذا الاسم. (الون) [2] من سبط زبولون ساس الأمة عشر سنين. وهو غير مذكور في نقل السبعين. (ابدون [3] بن هليان) [4] حكم ثماني سنين وفي زمانه فارق قوم من ولد عيسو ابن اسحق بن ابراهيم بني إسرائيل وساروا الى ارض الافرنجة [5] نازلين في بيوت شعر ثم حصلوا تحت يد ملك يسمى لا طين وبعده ملكهم رومالوس الملك الذي بنى مدينة رومية فسمّى سكانها روما ولا طينيين. (الفلسطينيون) ثم تغلب اهل فلسطين على بني إسرائيل على رأي انيانوس الراهب الاسكندري أربعين سنة. وعلى رأي اندرونيقوس عشرين سنة. واما اوسابيوس فلم يثبت في الخرونيقون شيئا من هذه السنين. (شمشون الجبّار المتقشف) حكم عشرين سنة وقهر الفلسطينيين وكان له قوة عجيبة في البطش. (مشايخ الأمّة) حكموا عشرين سنة. وعلى رأي اندرونيقوس عشر سنين. وعلى   [1-) ] ابيصان يوافق الأصل السرياني [؟] . اما في العبراني فهي [؟] ايبصان. [2-) ] أخذ المؤلف اسم الون عن الترجمة السريانية [؟] . اما في التوراة العبرانية فنجد أيلون [؟] [3-) ] ابدون س عبرون. [4-) ] ان المؤلف رسم اسم هليان تبعا للنسخة السريانية [؟] . وفي العبرانية [؟] هليل. اما ابدون فلا يوافق لا النسخة العبرانية ولا السريانية لان الاولى ترسم [؟] «عبدون» والاخرى [؟] «عبرون» . ويروى في نسخة من تاريخ الدول «لميرون» ويروى ايضا في اخرى «كبرون» . [5-) ] هذه حكاية مختلفة كانت سببا لزعم اليهود والعرب بعدهم بان الافرنج من الادوميين. وفي شعراء اللاتين ان قوما بعد حرب ترويا في القرن الثاني عشر قبل المسيح أجازوا الى ايتاليا وعقدوا صلات مع الملك لاتين. الا انهم لم يكونوا من ولد عيسو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 رأي افريقيانوس أربعين سنة. هؤلاء هادنوا الأمم التي حواليهم فلم ينصبوا قائد جيش وكان لهم عنه غنى. (عالي الكاهن) حكم على الرأي السبعيني عشرين سنة وعلى رأي اليهود أربعين سنة. (شموايل النبيّ) نذره أبوه لله وهو ابن سنتين فلما ترعرع أتاه الوحي وخدم عالي الكاهن في هيكل الرب من سن الطفولية الى ان توفي عالي الكاهن فولي هو امر بني إسرائيل عشرين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الدولة الثالثة المنتقلة من قضاة بني إسرائيل إلى ملوكهم لما بلغ شموايل [1] النبيّ من العمر سبعا وسبعين [2] سنة قال له بنو إسرائيل: انصب لنا ملكا منّا كسائر الأمم. فعلم الله بذلك فأوحى اليه قائلا: ان بني إسرائيل لم يعصوك أنت لكن ايّاي عصوا فأخبرهم اني ان نصبت لهم ملكا استعبدهم وجعل عليهم رؤوس ألوف ومئين ويحرثوا حرثه ويحصدوا حصاده ويعملوا أدوات قتاله ومراكبه. ويتسخر بناتهم كسّاحات وطحّانات وخبّازات ويختلس مزارعهم وكرومهم ويعطيها لعبيده ويعشّر أموالهم واغنامهم ودوابهم فيستغيثون منه اليّ فلا أجيبهم يومئذ. فأعلمهم شموايل بجميع ذلك فلم يقبلوا منه ولكن ألحوا عليه قائلين: لا بد لنا من ملك يسوسنا. فقال الله: سوف املّك عليهم ملكا. (شاول) من سبط بنيامين وتسمّيه العرب طالوت كان شابا لم يكن في بني إسرائيل أتم منه خلقة. فضلّت أتن لأبيه قيش فخرج مع غلام له طائفين عليها وانتهيا الى القرية التي فيها شموايل النبيّ. وقال الغلام لشاول [3] : ها هنا رجل عظيم نذهب اليه لعله يدلنا على الأتن [4] . وعند ما همّا بذلك خرج إليهم شموايل فقالا له: دلنا على بيت النظار.   [1-) ] شموايل ر شمويل. [2-) ] سبعا وسبعين «عمّر سبعا وسبعين سنة منها خمس وثلاثون في مدة ملك شاول» . فلا يظهر اتفاق بين التاريخين. [3-) ] لشاول ر لشاوول. [4-) ] الأتن ر الماتونا والماترنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لأن في ذلك الزمان كانت تسمّى الأنبياء نظارة. فقال لهما: انا النظار ادخلا الى منزلي وكلا معي طعاما وانبئكما عن بغيتكما. فلما دخلا معه البيت قال لهما: لا تهتما بأمر الأتن فقد وجدت ولم تكن لذة بني إسرائيل الا لك يا شاول ولآل أبيك. فقال له شاول مستعفيا: قبيلتي اقلّ سبط بنيامين. وأخذ شموايل قرن الدهن وافاضه على رأس شاول قائلا: ان الله اصطفاك لتكون ملكا لميراثه. وسيلقاك في مضيك زمرة من الأنبياء ويتنبأون وتتنبأ معهم. فمضى شاول حتى لقي الأنبياء وبين أيديهم صنوج ودفوف فنزل عليه روح الربّ وتنبأ معهم. فقال الناس: وشاول ايضا من الأنبياء. وصار ذلك مثلا سائرا بينهم. وبعد قليل اقبل ملك العمونيين وهو منوط بجيوش عظيمة طالبا قتال بني إسرائيل. فأرسلوا اليه قائلين: صالحنا على ما نؤديه إليك وتنصرف عنا. فقال لهم: اصالحكم على ان يفقأ كل رجل منكم عينه اليمنى. فسمع ذلك شاول واشتد غضبه وجمع من بني إسرائيل ثلاثمائة ألف مقاتل ومن بني يهوذا ثلثين ألف مقاتل وسار نحو العمونيين وقاتلهم وهزمهم وحينئذ أذعن له بنو إسرائيل بالملك. ثم قال له شموايل: ربك يقول لك ان تقاتل العمالقة وتبيدهم وتقتل رجالهم ونساءهم وولدانهم وماشيتهم. فسار شاول نحو العمالقة وأبادهم وأسر ملكهم ولم يقتله وأبقى ايضا نقاوة ماشيتهم. فأوحى الله الى شموايل يقول له: اني قد رذلت شاول لمخالفته اياي. فاشتد ذلك على شموايل وقال لشاول: ما لي اسمع ثغاء الغنم وخوار البقر. فأجابه شاول قائلا: ان بني إسرائيل اقبلوا بها ليذبحوها لله ربك. فقال له شموايل: أولم تعلم ان الله لا يرضى بالذبائح كمرضاته عمّن يطيع امره قد أسخطت ربك ورذلك من الملك بمعصيتك له. فقال شاول: استغفر الله فقد اخطأت وأريد ان ترجع معي حتى اسجد له وأتوب اليه. فأبى عليه شموايل وجلس حزينا. فأوحى الله اليه: حتّام تحزن على شاول قم وانطلق الى شخص اسمه ايشي من قرية بيت لحم فقد ارتضيت من بنيه ملكا. فمضى اليه شموايل وقال له: أريد ان امسح احد أولادك ملكا. فقال له ايشي: انّى لي بذلك. واحضر ابنه الكبير فأعجبه حسنه. فأوحى الله اليه ان نظري ليس كنظر البشر فأعرض عنه. ووقف شموايل حتى عرض عليه سبعة من بنيه. فلم يفض القرن على أحدهم. فقال لا يشي: هل بقي من بنيك احد. قال له: بقي غلام هو أصغرهم سنّا يرعى الغنم. فقال: ائتني به. فأحضره ايشي وأفاض عليه القرن ومسحه ملكا ومضى الى منزله. وفي تلك الأيام ظهر علج من الفلسطينيين اسمه جولياذ والعرب تسميه جالوت وكان يسب بني إسرائيل ويستهين بهم. فدنا منه داود قائلا: أنت اتيتني بالسيف والدرقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وانا أتيتك باسم الرب الذي عيّرت صفوفه. وتناول داود حجرا من خريطته فوضعه في مقلاعه ثم رماه فغيبه في جبهة العلج فوقع على وجهه فسل داود سيفه وقطع به رأسه. واتى بداود الى شاول فقال له: من أنت يا غلام. قال: ابن عبدك ايشي من بيت لحم. وكان شاول قد اصابه ريح سوء فقيل له: ليكن عندك انسان جيد الضرب بالصنج ذي الأوتار ليلهيك عما بك. ووصف له داود انه ماهر في ذلك. فطلبه من أبيه وكان يلهيه. وكانت بنات إسرائيل بعد قتل داود جولياذ يغنين ويفرحن ويقلن: قتل شاول ألوفا وداود عشرات ألوف. فحسد شاول داود. وزج يوما برمح لطيف كان عنده بيده نحوه. فارتاع لذلك داود. فخافه شاول ورأسه على ألف رجل. وقال يوما: من اتاني بغرلة مائتي فلسطيني زوجته ابنتي ملكيل [1] . فخرج داود وقتل منهم مائتي رجل وأتاه بغرلهم فزوجه إياها فأحبت داود حبا شديدا وكذلك أخوها يوناثان وجميع بني إسرائيل. وحذر يوناثان داود من أبيه وهربه الى بعض الجبال. وخرج شاول في طلبه حتى اتى مع أصحابه الى مغارة في ذلك الجبل وباتوا فيها. فسار داود ليلا واتى الى المغارة وصادف شاول نائما فقطع قطعة من ردائه ورجع الى أصحابه. ولما أصبح النهار وخرج شاول من المغارة ناداه داود وقبل الأرض بين يديه وقال له: لا تسمع في سيدي قول واش فقد أسلمك الله في يدي اليوم ولم يدنك مني سوء وهذا طرف ردائك معي. قال له شاول: جزاك الله خيرا. انك ستملك. فاحلف لي انك لا تهلك ذريتي. فحلف له. ومضى شاول الى منزله. ومات شموايل النبي. وخرج شاول في طلب داود مرة ثانية ونام في بعض الطريق ليلا مع أصحابه فأتاه داود وهو نائم ورام اصحاب داود قتله فمنعهم قائلا: لا يحلّ لا حد ان يمد يده الى مسيح الرب اتركوه ليومه. ثم أخذ رمحه وكوز الماء وانطلق. فعلم ذلك شاول وقال: اخطأت في طلبك يا داود ولست بعائد. وقاتل الفلسطينيون بني إسرائيل وقتل يوناثان واخوته وهرب شاول وخاف ان يدركوه فتحامل على سيفه حتى خرج من ظهره وأدركه القوم فقطعوا رأسه وانفذوه الى بيوت أصنامهم وصلبوا جسده على سور مدينتهم. وجاء شخص من بني إسرائيل وادعى انه قتل شاول. فقال له داود: كيف طاوعتك نفسك ان تقتل مسيح الله فقتله. وناح داود وأصحابه على شاول ويوناثان ابنه ورثاهما قائلا: ان حجفة شاول مصبوغة بدم القتلى وقوس يوناثان لم تكن تنثني الى ورائها وحربة شاول لم تكن تنثني. لقد كان اخف من النسور سيرا وأشجع من الأسد بطشا. يا بنات إسرائيل ابكينانّ شاول الذي كان يكسوكن الأرجوان والبهرمان. وكانت مدة   [1-) ] هكذا في السرياني [؟] «ملكل» . واما في العبراني فهي [؟] «ميكال» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ملكه على رأي اوسابيوس أربعين سنة وعلى رأي انيانوس عشرين سنة. (داود بن ايشي) لما قتل شاول استقام داود في ملكه وقال لناثان النبي يومئذ: انا ساكن في بيوت الارز وسكينة الرب (يعني مسكن الزمان) في الخيم. أفلا ابني له بيتا. فأوحى الله الى ناثان النبي وقال له: قل لعبدي داود: لا تبني لي بيتا لان ابنك الذي أقيمه مكانك هو يبني بيتا على اسمي. ثم تقدم داود الى يوآب قائد جيشه ليحصي عدد مقاتلة بني إسرائيل. فغاب يوآب عنه في مدن بني إسرائيل وقراهم تسعة أشهر وعشرين يوما. ثم أتاه وقال له: وجدت عدّة مقاتلة بني إسرائيل ثمانمائة ألف رجل وبني يهوذا خمسمائة ألف نفس. فأوحى الله الى جاد النبيّ قائلا: قل لداود: قد رأيت الغلبة بكثرة جيوشك ولم تعلم اني الناصر. فها انا مبتليك عن ذلك بإحدى ثلث. فاختر واحدة منهنّ اما قحط سبع سنين واما استيلاء عدو ثلثة أشهر واما موتان ثلثة ايام. فقال داود: أن تكون يد الله مؤدّبتنا خير لنا. فاختار الموت. فمات من الصبح الى ثلث ساعات. من النهار سبعون ألفا من رجال بني إسرائيل. فقال داود: إله وسيدي ان كنت اخطأت فما ذنب هذه الغنم. أحلل عقوبتك بي وببيت ابي. فرفع الله الموت عنهم. وأتاه مع الملك النبوءة وتلا الزبور وانتخب من سبط لاوي ثماني وثمانين [1] ومائتي شيخ يرتّلون المزامير ترتيلا كل أسبوع اربعة وعشرون منهم اثنا عشر في صف واثنا عشر في آخر. ثم ان داود كبر وبردت حرارة جسمه فطلبوا له فتاة عذراء اسمها ابيشاع الشيلومية، فكانت تحتضنه وتدفئه ليلا. ولما حضرت وفاته عهد الى سليمان ابنه وملّكه في حياته وقال له: تشجّع وتقو وكن رجلا واحفظ نواميس ربّك وصدق قول الله الذي قال لي: ان حفظ بنوك وصاياي لا يزال رجل من نسلك يجلس على كرسيك الى انقضاء العالم. وكان عمر داود حين ملك ثلثين سنة وعاش في الملك أربعين سنة وتزوج ثلث نسوة سوى امرأة أوريا أم سليمان وكان له سبعة عشر ولدا. ومات ودفن في أورشليم. وفي سنة ثمان وعشرين من ملك داود بنيت مدينة أفسوس ومدينة ساموس. وفي زمانه كان امبيذقليس الحكيم احد الأساطين الخمسة أعنيه [2] وفيثاغورس وسقراط وفلاطون وارسطوطاليس. وهو أول من نفى الصفات عن ذات الباري تعالى قائلا: ذاته وجوده   [1-) ] ثماني وثمانين ومائة ر مائتين وثمانين س «قسمهم اربعة وعشرين قسما في كل قسم اثنا عشر» . فيكون الحاصل مائتين وثمان وثمانين. [2-) ] اعنيه ر اعنيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ووجوده ذاته واما حياته وحكمته فمعنيان اضافيان لا يوجبان اختلافا في الذات. وله كتاب في بطلان المعاد الروحاني فضلا عن الجسماني. وقد انتحل مذهبه سليمان بن داود في كتابه الذي يسمّي [1] فيه نفسه قوهلاث اي الجامع الذي ذهب فيه مذهب الدهرية [2] واعلم انه قد يوجد فيما يفتش عنه من الكتب اختلاف كثير في تواريخ سني الفلاسفة. فذكر في بعضها ان ثاليس الملطيّ هو أول من تفلسف من اليونانيين وان الشعر ظهر في أمّة يونان قبل الفلسفة بمائتين من السنين وأبدعه او ميروس. وذكر كيريلوس في كتابه الذي ردّ فيه على يوليانوس فيما ناقض به الإنجيل ان كون ثاليس قبل ابتداء ملك بختنصر بثمان وعشرين سنة. وقال فرفوريوس: ان ثاليس ظهر بعد بختنصر بمائة سنة وثلث وعشرين سنة. وقال آخر: ان أول من تفلسف فيثاغورس. وقال بعض الاسلاميّين: ان أول من وصف بالحكمة كان لقمان وكان في زمان داود النبيّ ومنه أخذ امبيذوقليس. ولأن غرضنا ههنا ليس تحقيق سني الفلاسفة ولكن ذكر بعض أحوالهم المتشبهة بما يحمد من سيرهم والتذاذ النفس بسماع بعض نكتهم التي جمعت الى الحكمة الفكاهة والى الفائدة المؤانسة والى الجد المهازلة والى الوقار التبسّم [3] وهي أنفاس تهادت بين نفوس كريمة وسحائب درّت عن عقول شريفة فلا علينا أكانت الازمنة التي أورد فيها ذكرهم هي أزمنتهم بأعيانها او لم تكن. والذي أثبتناه ههنا من اوقات هذه الفلاسفة المتقدمين هو ما نقلناه من كتابي اوسابيوس واندرونيقوس المؤرخين لما رأيناه من موافقة أفضل المجتهدين يعقوب الرهاوي المبرّز في اللغات الثلث العبرانية واليونانية والسريانية. (سليمان بن داود) ولي الملك وهو ابن اثنتي عشرة سنة وعند ذلك اوحى الله اليه في المنام وقال له: سلني ما أحببت حتى أعطيكه. فقال سليمان: يا ربي قوّتي تعجز عن التدبير ولا علم لي بالقضاء بين شعبك فامنحني قلبا فهما وعقلا رزينا. فقال له: سأعطيك ما لم يكن لأحد من الملوك. وان سلكت سبيلي أطلت عمرك ولا أزلت الملك   [1-) ] يسمّي ر يسمّي. [2-) ] اعلم أرشدك الله ان صاحب سفر الجامعة انما يذكر كلام الدهرية في معرض الرد والتفنيد لا ذكر حقائق يعتقدها. فأوهم ذلك المؤلف ان سليمان قد ذهب فيه مذهب الدهرية. والواقع ان المذهب المذكور ابعد ما يكون من صاحب الجامعة. الا وهو الذي ختم كتابه بما نصه: «فيعود التراب الى الأرض حيث كان ويعود الروح الى الله الذي وهبه ... فلنسمع ختام الكلام كله. اتق الله واحفظ وصاياه فان هذا هو الإنسان كله. لان الله سيحضر كل عمل ليدين على كل خفي خيرا كان او شرا» (سفر الجامعة ص 12 ع 7 و 13 و 14) . [3-) ] التبسّم ر التبسيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عن بنيك. فأصبح سليمان مسرورا. وجلس على كرسي الملك فأتته امرأتان تختصمان اليه في صبي تدّعي كل واحدة منهما انه ولدها. فقال سليمان لسيافه: اقطع الصبي بنصفين وأعط لكل واحدة نصفه. فقالت الواحدة: نعم حتى لا يكون لي ولا لها. وقالت الاخرى: ادفعه إليها ايها الملك ولا تقتله. فعلم سليمان انه ابنها فدفعه إليها. فرأى بنو إسرائيل ذلك وتحققوا ان الله قد آتى سليمان حكمة وعلما. وخضع الملوك له وهادنوه. وكان ارتفاع مملكته التي هي اربعمائة فرسخ في مثلها في عام ستمائة ألف وستمائة وستين قنطارا ذهبا سوى الهدايا وأرباع المتاجر. والقنطار وهو الككر [1] على ما في التوراة ثلثة آلاف مثقال بمثاقيل القدس كل مثقال خمسة مثاقيل بمثقالنا. وكان ما يحتاج اليه سليمان. لمائدته في كل يوم من الدقيق مائة كرّ. ومن الثيران ثلثين رأسا. ومن الغنم مائة رأس. سوى الظباء والأيايل وانواع الطيور. وكان له سبعمائة زوجة من الحرائر وثلاثمائة جارية من السراريّ وأربعون ألف رأس من الخيل. وفي رابع سنة لملكه شرع في بنيان بيت المقدس وهو المعروف بالمسجد الأقصى في جبل الاموريين في اندر أران [2] اليبوسي وطوله ستون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وعلوه ثلثون ذراعا. وتممه في سبع سنين. وفي سنة اربع وعشرين من ملكه خرب مدينة انطاكية وبنى سبع مدن من جملتها تذمر. ولما شيّد سليمان بيت الرب شكر الله ودعا لبني إسرائيل بالبركة وجثا على ركبتيه وبسط يديه الى السماء وقال: اللهم إله إسرائيل ليس مثلك في السموات العلى ولا في الأرضين السّفلى قد وفيت لعبدك داود بالوعد الذي وعدته فأسألك انه ان اثم بنو إسرائيل وانهزموا من أعدائهم ودعوك في هذا البيت فاستجب لهم واغفر خطاياهم وانصرهم على أعدائهم. وإذا أثموا فاحتبس عنهم المطر فأتوا هذا البيت فأهطل لهم مطرا وارو أرضهم بغيثك. وإذا كان في الأرض جوع او جراد او موت او مرض فاستغاثوا إليك فاستجب لهم. وإذا اتى احد الأمم الغريبة الى هذا البيت ودعاك فاستجب له لتعلم شعوب الأرض انك أنت الله وحدك فيخافوك. ثم قرّب قرابين من الذبائح اثنين وعشرين ألف ثور ومائة وعشرين ألف رأس غنم وجعل ذلك عيدا لله سبعة ايام. فكان الملوك يقصدونه ليسمعوا حكمته ويأتونه بالهدايا النفيسة من الذهب والفضة والجواهر والثياب والطيب والسلاح والخيل. وأتته ملكة التيمن وقدمت له مائة وعشرين قنطارا من الذهب وطيبا وجواهر ثمينة وقالت له: يا سليمان لقد   [1-) ] الكر ر الككر. في العبراني [؟] . [2-) ] كذا في السريانية [؟] اما في العبرانية [؟] ارنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 زاد خبرك على خبرك. طوبى نسائك طوبى عبيدك السامعين حكمتك. يكون الرب إلهك مباركا. وأعطاها سليمان من جميع الألطاف أحسنها وعادت الى بلدها. ولسليمان كتاب في الغزل ومراودة النساء يسمى شيرث شيرين [1] اي مدحة المدائح ظاهره ينبئ انه يغازل فيه ابنة فرعون السمراء وتغازله. والعلماء منا اوّلوه فقالوا ان العاشقة النفس الناطقة التي حال حسنها بالشوائب البدنية ومعشوقها باريها المعشوق لذاته من ذاته ومن المبتهجين به. وله ايضا كتاب الأمثال في الحكمة العملية ناهيك من كتاب [2] . ومات سليمان ودفن في تربة أبيه داود [3] . (رحبعم بن سليمان) لم يخلف سليمان ولدا سوى هذا رحبعم. فأجلسه بنو إسرائيل مكان أبيه في الملك وقالوا له: ان أباك جفا علينا في المعاملة فخفّف أنت عنا. فأجابهم بعد ثلثة ايام شاور فيها أقرانه قائلا: ان خنصري اغلظ من إبهام ابي وان كان ابي ادّبكم بالقضبان فانا اعاقبكم بالسياط. فقال بنو إسرائيل: لا سهم لنا مع بيت داود ولا قسمة لنا مع آل ايشي عليكم بمنازلكم يا بني إسرائيل. فمضى كل انسان الى بيته. وانفذ رحبعم رسوله الى قرى بني إسرائيل يستعطفهم فرجموه بالحجارة ومات. وكان لسليمان غلام شجاع نجيب اسمه يوربعام بن ناباط فملكته العشرة الأسباط عليهم بأرض السامرة. وبقي لرحبعم بن سليمان سبطا يهوذا وبنيامين وجعل كرسي مملكته باورشليم. فحاول يوربعام تزهيد بني إسرائيل عن زيارة بيت المقدس واتخذ عجلين من ذهب ونصبهما بمدينة دان [4] وهي بانياس [5] وقال لهم: اغتنموا قرب الطريق وترك الكلفة في السفر الى أورشليم فهذان إلاهاك يا إسرائيل اللذان اخرجاك من مصر. فأرسل الله نبيا اسمه شمعي الى يوربعام. فسار اليه وصادفه يبخر قدام عجليه بخورا. فحلت روح الله على النبي وقال: ايها المذبح انصت لقول الرب. سيولد لآل داود ابن اسمه يوشيا يذبح عليك كهنتك ويحرق عظام قوّامك عليك. وآية ذلك انك تنصدع الآن وينزل الرماد عنك. فصار كما قال.   [1-) ] هو اسم الكتاب في العبرانية [؟] ؟. [2-) ] ناهيك من كتاب ر ناهيا فيه عن الحرص على الدنيا. [3-) ] راجع ما قاله الكتاب المقدس عن سليمان في سفر الملوك الثالث الفصل الحادي عشر. [4-) ] دان س نصب واحدا بمدينة دان والآخر بيت ايل.- موقع مدينة دان على ساعة من قرية بانياس. وكانت المدينة تسمى قديما لاشم. ويسمى الموضع الآن تل القاضي. ويخرج من أسفل هذا التل نهر اللدّان. وفي الظن ان كلمة «اللدان» تصحيف كلمة «دان» . [5-) ] بانياس ر نابلس. ابن العبري- 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 واما رحبعم بن سليمان فانه ملك على السبطين سبع عشرة سنة وفعل كل قبيح. وفي السنة الخامسة من ملكه صعد شيشق ملك مصر الى أورشليم وسلب جميع الآلات وترسة الذهب التي عملها سليمان لبيت الرب. وصاغ رحبعم عوضها نحاسا. ومات رحبعم ودفن في تربة بيت داود. (ابيّا بن رحبعم) في السنة الاولى لجلوسه حاربه يوربعام ابن ناباط ملك العشرة الأسباط بثمانين ألفا من الجند. والتقاه باربعة آلاف وهزمه. وهلك من بني إسرائيل الذين مع يوربعام في ذلك اليوم خمسون ألفا من المقاتلة. وكان لابيّا اربع عشرة زوجة وولد له ستة وعشرون ولدا [1] ذكرا وست عشرة بنتا. وملك ثلث سنين ومات. وكان يتنبأ في زمانه احيّا وشمعيّا النبيّان. (آسا بن ابيّا) ملك احدى وأربعين سنة. وكان جميل الطريقة. وفي السنة الثانية لملكه مرض يوربعام بن ناباط ملك العشرة الأسباط ومات بعد ان ملك اثنتين وعشرين سنة. وولى بعده ناداب [2] ابنه مدة سنتين. ثم انتقل ملك الأسباط الى رجل من سبط ايساخر اسمه بعشا بن احيّا وملك أربعا وعشرين سنة. وفي السنة العاشرة لملك آسا ملك السبطين حاربه زرح ملك الزنوج بألف ألف وستمائة ألف رجل من البربر والحبشة والنوبة. فالتقاه آسا بفلاة جادر [3] وهزمه. وبعد خمس سنين احرق الأصنام وخلع أمّه الوثنية من الملك ونفى كل زان وزانية من ارضه. (يوشافاط بن آسا) ملك خمسا وعشرين سنة على السبطين. وفي زمانه مات بعشا ملك الأسباط العشرة وملك بعده آلا ابنه سنتين ثم اغتاله زمري عبده وقائد جيشه وقتله وملك بعده سبعة ايام. ولما رأى مثاورة بني إسرائيل به طالبين ثأر ملكهم اضرم النار في داره وأحرقها ونفسه وذريته [4] . وملك بعده عمري وبنى بالشام مدينة عمورية [5] . ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة ومات. وملك بعده احاب ابنه ثلثة وعشرين سنة وتزوج   [1-) ] ستة وعشرون س اربعة وعشرون. [2-) ] ناداب ر ناذاب. [3-) ] جادر ر جاذر. [4-) ] وذريته ر وذويه. [5-) ] عموريّة س وابتي مدينة سمرية [؟] التي سميت فيما بعد سبسطية وهي ذات مدينة نابلس.- في هذا الاسم تصحيف ينسب للنساخ لان المدينة التي ابتناها عمري تسمى شامر وفي العبرانية [؟] واما في السريانية فهي [؟] . وهذا نص الكتاب الكريم: «وابتاع جبل السامرة من شامر بقنطارين من الفضة وبنى على الجبل ودعا المدينة التي بناها باسم شامر صاحب جبل السامرة» (سفر الملوك الثالث ص 16- ع 24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 امرأة وثنية اسمها ايزبيل ابنة ملك صور. وجدد بناء مدينة أريحا التي لعنها ايشوع ابن نون. ووبخه اليّا النبي لعبادة الأصنام وهرب الى البادية وكان الغراب يجيئه بالقوت. وامتنع المطر بدعائه ثلث سنين ونصف. وانزل النار من السماء وأحرقت مائة نفس في مرتين. ثم دعا الى الله ونزل المطر واروى الأرض. وهرب من شرّ ايزبل امرأة احاب الى القفر وصام أربعين يوما بلياليها. ومضى بعد ذلك مع تلميذه اليشع وشق نهر الأردن وجاز في قعره. وارتفع في السحاب ومضى حيا الى حيث شاء الله تعالى. وفي هذا الزمان كان من أنبياء الحق اليّا وتلميذه اليشع وعوبذيا وابيهوذ وعوزيل وميخا بن يمشي. ومن الكذّابين صدقيا واليعازر مع اربعمائة أخر. ومات احاب وملك بعده أحاز ابنه سنة واحدة. ووقع من روشن دار له ومات. وملك بعده يورم أخيه اثنتي عشرة سنة. (يورم بن يوشافاط) ملك ثماني سنين. وتزوج اخت احاب ملك العشرة الأسباط اسمها عثليا وقتل اخوته كلهم. فنزلت عليه البلوى ومات مبطونا. (احزيا بن يورم) ملك سنة واحدة. وفي زمانه انتقل ملك العشرة الأسباط من بيت احاب الى رجل اسمه يا هو بن نمشي. هذا قتل يورم بن احاب وجميع اهل بيته مع ايزبل امرأته مدحضا أثرهم. (عثليا ام احازيا) ملكت سبع سنين. هذه أباحت الزنا للرجال والنساء متظاهرين في مدينة القدس وأبادت ذرّية المملكة لتستبد وحدها بها ولا يبقى من ينافسها عليها. ولم ينج سوى يواش حافدها اي ابن احزيا ابنها الذي سرقته عمته يوشبع امرأة يوياذع رئيس الكهنة وربّته سرّا. (يواش بن احزيا) ملك أربعين سنة. ولي الملك وله يومئذ سبع سنين وذلك لان يوياذع رئيس الكهنة قتل عثليا الباغية جدته وقلده الملك. ولم يعترف له بجميله لكنه بعد وفاة يوياذع قتل جميع أولاده. ثم اغتاله مماليكه. ومات ايضا يا هو بن نمشي ملك العشرة الأسباط وكان مدة ملكه ثماني وعشرين سنة. وملك بعده يا هو أحاز ابنه سبع عشرة سنة ومات. وملك بعده يهواش ابنه ثلث عشرة سنة. وفي سنة ست وثلاثين ليواش بن احزيا توفي اليشع النبي. وكان يتنبأ زخريا النبي. (اموصيا بن يواش) ملك تسعا وعشرين سنة. هذا اباد جميع اعداء أبيه الاذوميّين واهل ساعير [1] ونقل آلهتهم الى أورشليم وعبدها. وغزاه يهواش ملك العشرة الأسباط وثلم   [1-) ] ساعير س [؟] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 في سور أورشليم ثلمة قدرها اربعمائة ذراع ودخلها وسلب مال هيكل الله ودار الملك وعاد الى شمرين. وقتل اموصيا في الحرب. ومات يهواش وملك بعده يوربعام ابنه احدى وأربعين سنة. (عوزيا بن اموصيا [1] ملك اثنتين وخمسين سنة. وفي أيامه كان يونس بن متى المبعوث الى نينوا. وفي سنة اربع وعشرين من ملكه تعدّى طوره ودخل محراب [2] البخور في هيكل الله ليعمل اعمال الكهنة. فبرص جسده كله دفعة ولم يطهر حتى مات [3] . ولما لم ينهه اشعيا النبي ارتفع عنه الوحي ثماني وعشرين سنة حتى مات عوزيا ثم ردت عليه النبوة احدى وستين سنة اخرى وكان قد تنبّأ قبل أربعا وعشرين سنة. وفي سنة ثماني وأربعين لملك عوزيا أغار ثغلثفلسر ملك اثور على أورشليم وجميع ارض بني إسرائيل وجلا منهم كثيرين. وفي سنة تسع وعشرين لعوزيا مات يوربعام ملك العشرة الأسباط وملك بعده زخريا ابنه ستة أشهر. وقتله رجل اسمه شالوم وملك بعده شهرا واحدا. ثم قتله رجل اسمه محنيم [4] وملك بعده عشر سنين ومات. وجلس مكانه فقحيا ابنه سنتين ثم قتله فقاح بن رومليا وجلس مكانه عشرين سنة [5] . قال فرفوريوس المؤرخ ان اوميروس الشاعر وايسيدوس في هذا الزمان كانا. (يوثم بن عوزيا) ولي الملك ست عشرة سنة وسلك السبيل المستقيم قدام ربه ورمم أورشليم وقهر العمونيّين وأخذ منهم الجزية. وفي هذا الزمان كان اوميروس الشاعر على ما نقل عن فرفوريوس. هذا عانى الصناعة الشعرية من انواع المنطق واجادها وهو معدود في زمرة الحكماء لعلو مرتبته. وقد وضع كتابين في الحروب التي جرت بين اليونانيين على مدينة ايليون ونسختاهما موجودتان   [1-) ] عوزيّا س عزريّا ويسمى ايضا عوزّيا [؟] .- كان لهذا الملك اسمان والمعنى واحد. فالاسم الاول عوزيّا وفي العبرانية [؟] وتأويله عزّ الله. والاسم الثاني عزريا وفي العبرانية [؟] ويؤوّل عزر الله اي معونة الله. وقد ورد هذان الاسمان في سفر الملوك الرابع (ص 15- ع 1 و 32) . [2-) ] محراب ر مذبح. [3-) ] قد ذكر الكتاب المقدس لبرص الملك عوزيا سببا غير هذا قال: «وصنع يا هو قويم في عيني الرب على حسب كل ما عمل امصيا أبوه. الا ان المشارف لم تزل ولم يبرح الشعب يذبحون ويقترون على المشارف فضرب الرب الملك فكان أبرص الى يوم وفاته» (سفر الملوك الرابع ص 15 ع 3 و 4) . [4-) ] قوله «محنيم» تبعا للنسخة السريانية. وفي العبرانية «منحيم» بتقديم النون. [5-) ] عشرين سنة س اربع وثلاثين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 عندنا بالسريانية وهما مشحونتان بالالغاز والرموز. وقيل ان انلينيا [1] الماجن جاءه فقال له: اهجني لافتخر بهجائك إذ لم أكن أهلا لمديحك. فقال له: لست فاعلا ذلك ابدا قال: فاني امضي الى رؤساء اليونانيين فأشعرهم بنكولك. قال اوميروس مرتجلا: بلغنا ان كلبا حاول قتال اسد بجزيرة قبرص. فامتنع عليه انفة. فقال له الكلب: انني امضي الى السباع فأشعرهم بضعفك. قال له الأسد: لان تعيّرني السباع بالنكول عن مبارزتك احبّ اليّ من ان ألوث شاربي بدمك. (أحاز بن يوثم) ملك ست عشرة سنة وأساء السيرة وقرب الذبائح للجن. حاربه فقاح بن رومليا مستنجدا برصان ملك الشام وأهلك من آل يهوذا مائة وعشرين ألفا. ومات فقاح وملك بعده هوشع بن آلا تسع سنين. وفي سنة ثماني لملك أحاز غزاه شلمانعسر [2] ملك بابل. وكتب أحاز نفسه عبدا له. وأخذ جميع ما وجد في بيت الرب والملك من الذهب والفضة والآنية. وحاصر مدينة شمرين ثلث سنين وفتحها وقتل هوشع وسبى العشرة الأسباط وفرقهم فيء جبال اثور واراضي بابل وبلاد الفرس. ومن أفلت من هذا السبي انضاف الى ملك السبطين يهوذا وبنيامين وبطل بذلك ملك العشرة الأسباط. وفي هذا الزمان عمرت جزيرة رودس وبقيت ألفا واربعمائة وخمس سنين الى ان اخربها المسلمون. وبنيت في بلد فونطوس مدينة طرابيزونطا. وفي هذا الزمان اشتهر في الفلسفة ثاليس الملطي على ما ذكره اوسابيوس القيصري [3] في تاريخه المسمى خرونيقون. وقيل هو أول يوناني صار الى ارض مصر وأخذ الحكمة من القبط ثم رجع الى ملطية. وكان أول ما اظهر لقومه من الحكمة انه انذرهم بكسوف الشمس انه سيقع في ساعة معيّنة من نهار معيّن. فلما صح حكمه مثل عندهم واستطرفوا [4] إنذاره وتلمذ له جماعة منهم. والقبط أخذوا الحكمة من الكلدانيين. ولم يكن لليونانيين قبل ثاليس شيء من الحكمة وانما كانت حالهم كحال العرب لم يعرفوا غير علم اللغة وتأليف الاشعار والأمثال والخطب. وقيل أول من قال بالاطوماطون هو ثاليس اي ان الوجود لا موجد له واحتجّ بما شاهد في هذا العالم من الشرور. وهكذا يعتقد اهل الهند.   [1-) ] انلينيا ر انابيا. [2-) ] شلمانعسر ر شلمانسر.- كذا في السريانية [؟] . واما في العبرانية فهي [؟] شلمناسر. [3-) ] القيصري ر القيصراني. [4-) ] استطرفوا ر استظرفوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وبعد ثاليس اشتهر في العلوم الرياضية خاصة ابولونيوس النجار وله كتاب المخروطات المؤلف في علم احوال الخطوط التي ليست بمستقيمة ولا مقوّسة بل منحنية. أخرج منه الى العربية في زمان المأمون سبع مقالات. ومقدمته تدل على انه ثماني مقالات. وهذا الكتاب مع كتاب آخر من تصنيف ابولونيوس كانا السبب في تصنيف اوقليدس كتابه بعد زمان طويل. واما اوقليدس النجار فهو من مدينة صور له يد طولى في علم الهندسة. وكتابه المعروف باسطوخيا اي الأركان كتاب جليل القدر عظيم النفع لم يكن لليونان كتاب جامع في هذا الشان ولا جاء بعده الا من دار حوله وقال قوله وما في القوم الا من سلّم الى فضله وشهد بغزير نيله. وله في هذا النوع ايضا كتاب المفروضات وكتاب المناظر وكتاب تأليف اللحون وغير ذلك. ومن مشاهير الرياضيين ارشيميديس وهو يوناني أخذ الحكمة من المصريين. وقيل ان الذي اردم اراضي اكثر قرى مصر وأسس الجسورة المتوصل بها من قرية الى قرية في زيادة النيل ارشيميديس. وله مصنفات عدة مثل كتاب الكرة والاسطوانة والمسبّع في الدائرة. وقيل ان الروم أحرقت من كتبه خمسة عشر حملا. وبعده عرف منالاوس المتصدر [1] لافادة العلوم الرياضية. وله كتاب معرفة تمييز الاجرام المختلطة. (حزقيا بن أحاز) ملك تسعا وعشرين سنة وأطاع الله وأزال الأصنام. فظفره الله باعدائه تظفيرا. وفي السنة الرابعة من ملكه صعد شلمانعسر ملك بابل الى ارض السامرة مرة ثانية وسبى جميع من تبقى من العشرة الأسباط. وفي السنة الثامنة من ملكه انفذ شلمانعسر قوما من الاثوريين الى ارض شمرين ليحرثوها فكانت تخرج عليهم السباع وتقتلهم. فقيل لشلمانعسر: انما ابتلوا بذلك لأنهم لا يعرفون سنّة إله تلك الأرض. فأرسل إليهم عوزيا الكاهن ليعلّمهم التوراة. فلما تعلّموها وعملوا بسنّتها أمسكت السباع عن الإضرار بهم. ومن ذلك الزمان صار السمرة لا يقبلون من الكتب الالهية سوى التوراة. وفي السنة العاشرة من ملك حزقيا غزا سنحاريب [2] ملك اثور ديار القدس وبصلاة حزقيا خلصت أورشليم. ومرض حزقيا ليموت فبكى بكاء شديدا وناح قائلا: ان البركة التي جعلها الله في ذرّية داود انقطعت مني وعندي تنقضي سلالة ملك ابن ايشي. فزاد الله في حياته خمس عشرة سنة. وولد له ابن فسمّاه مناشا. وعلى هذا الولد تحمل اليهود   [1-) ] المتصدر ر المتصدّي. [2-) ] ومعنى سنحاريب «القمر يكثر الاخوة» . ومن هنا يوخذ ان الاثوريين كانوا يتفاءلون بالأسماء كالعرب حتى لعهدنا. فسمي هذا سنحاريب تفاؤلا بكثرة الاخوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 نبؤة اشعيا النبي حيث يقول: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمنوئيل. قالوا وانما سمّى النبي امرأة حزقيا عذراء لصدور النبوّة قبل ان يماسّها [1] بعلها. وكان سنحاريب عند نزوله يرسل الى حزقيا فيقول له: لا تغترّ بربك فسأهلكك. فذعر منه حزقيا وانفذ الى اشعيا النبي يقول له: هذا يوم بلاء فادع الى ربك. فأوحى الله الى اشعيا قائلا: قل لحزقيا: لا تخف من سنحاريب فاني رادّه في الطريق الذي جاء فيه. وبعث الله ملاكا فقتل في معسكر سنحاريب مائة ألف وخمسة وثمانين ألفا من الجند. فعاد منهزما الى اثور وهنالك قتله ابناه وهو ساجد في بيت صنمه. ويقال ان هذا سنحاريب جدد عمارة مدينة طرسوس [2] . وعمل حزقيا بحيرة ماء خارج أورشليم وأدخل إليها الماء بالقناة وحفر لها خندقا. وكان حزقيا لما أتاه رسول سنحاريب أطلعه على جميع ما في بيته. فغضب الله لذلك وقال له: ان جميع ما رأى الاثوريون في بيتك يكون لملك بابل وستكون بنوك خصيانا له. فقال حزقيا: ليت أمنا كان في ايامي. وفي زمانه كان طوبيث الصديق من جالية بني إسرائيل قاطنا بنينوا. وقصة مناولة ملاك الرب إياه مرارة داوى بها عينه وبرئه من عماه مذكورة في كتابه. (منشا بن حزقيا) ملك خمسا وخمسين سنة واجتمع له ملك الأسباط الاثني عشر بعد سبي شلمانعسر. وارتكب كل محظور ومحرّم وعمل صنما ذا اربعة أوجه وامر بالسجود له. ونشر اشعيا النبي ناهيه عن المنكر بمنشار مشدودا [3] بين دفّتين. وكان عمر اشعيا مائة وعشرين سنة منها في النبوة خمس وثمانون سنة. فرذل الله مناشا وأسلمه الى الاثوريين فأسروه وأخذوه مسلسلا الى اثور وسجنوه في برج النحاس بمدينة نينوا. وعند ذلك تاب الى الله ودعا دعاءه المشهور. فتاب الله عليه وردّه الى ملكه. وحال وصوله الى أورشليم اخرج الصنم ذا الوجوه الاربعة من الهيكل وطهّره وبنى سور أورشليم الجنوبي.   [1-) ] ان نبؤة اشعيا المتضمنة هذه الآية: «هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا إلخ» كانت كما يظهر من الكتاب المقدس في عهد آحاز الملك. وآحاز هذا توفي في 36 من عمره. وهنا نسأل اليهود أكان لحزقيا امرأة عند مجيء النبوة. ثم نسألهم أكان مناشا أهلا لمثل هذه النبوة الجليلة مع ما كان عليه من رداءة السيرة في بدء امره. اما نحن فنؤمن لاسباب يضيق المقام عن ذكرها ان النبوة تشير الى مريم العذراء عليها اشرف السلام والى ابنها يسوع المسيح لاسمه السجود. وحسبنا مصداقا لذلك استشهاد القديس متى بالآية المشار إليها عند ميلاد المخلص (متى ص 1- ع 32) . [2-) ] ورد ذكر بناء مدينة طرسوس في الصفحة 24. [3-) ] مشدودا ر مشدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وفي سنة احدى وعشرين لملك مناشا بنيت مدينة خلقذونيا. والصقالبة ملكوا الى ارض فلسطين. وولي مدينة رومية الكبرى اوسطيليوس وهو أول من اختص بالحلى الارجوانية والقضيب السلطاني. وبنى بوزوس مدينة بوزنطيا. وبعد تسعمائة وسبعين [1] سنة عظمها قوسطنطينوس وسمّاها قوسطنطينوفوليس. (امون بن مناشا) ملك اثنتي عشرة سنة وعلى رأي اليهود سنتين. هذا سلك الطريقة القبيحة وعبد آلهة الأمم الخارجة وقتله عبيده في الحرب [2] . وفي هذا الزمان اشتهرت في الحكمة بجزيرة رودس امرأة تسمّى سيبولا. وبجزيرة سقيليا ارخيلوخوس الخطيب الملقّب بالغراب. وسار اليه الطلبة لاستفادة الخطابة منه. وكان من جملة قاصديه فتى من اليونان يقال له ثيسناس [3] ورغب اليه في تعليم هذا الفن وضمن له عن ذلك مالا معيّنا. فأجابه برغبته وعلمه. فلما لقنها [4] حاول الغدر به ورام فسخ ما وافقه عليه فقال له: يا معلم ما حدّ الخطابة. فقال: انها المفيدة للاقناع. قال: اني أناظرك الآن في الاجرة فان أقنعتك بأنني لا ادفعها إليك لم ادفعها إذ قد أقنعتك بذلك. وان لم اقدر على ذلك فلست أعطيك شيئا لانني لم أتعلم منك الخطابة التي هي مفيدة للاقناع. فأجابه المعلم وقال: وانا ايضا أناظرك فان أقنعتك بانه يجب لي أخذ حقي منك أخذته أخذ من اقنع. وان لم اقنعك فيجب ايضا اخذه منك إذ قد نشأت تلميذا يستظهر على معلّمه. فقيل: بيض رديء لغراب رديء اي تلميذ نكد ومعلم نكد. (يوشيا بن امون) ملك احدى وثلاثين سنة. وجلس في الملك وله ثماني سنين. وكان جميل المذهب حسن الطريقة. وامر حلقيا الكاهن أبا ارميا النبي بان يدخل هيكل الرب ويرمّمه. وفي ترميمه وجد سفر الناموس وتلاه على يوشيا. فغار على نفسه وأمته وكسر أصنام أبيه وقتل خدمها واحرق عظام قوّامها على مذبحها كما تنبأ شمعي النبي ايام يوربعام ابن ناباط وجدد عيد الفصح باورشليم. وفي سنة احدى وثلثين من ملكه نزل فرعون نخاوث اي الأعرج على الفرات بقرب مدينة منبج طالبا حراب ملك اثور. فسار اليه يوشيا بجيوشه ليمنعه من العبور. فانتصر عليه فرعون وقتله. وحمل ميتا الى أورشليم. وكان   [1-) ] تسعمائة وسبعين ر سبع وتسعين. وكذا في السرياني. [2-) ] وصف النبي صفنيا (ص 3 ع 1- 5) حالة أورشليم السيئة ايام هذا الملك المنافق. [3-) ] تيسناس ر ثيسانس ولعل الصواب ثسياس. [4-) ] لقنها ر أتقنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 له اربعة بنين يهواحاز وصذقيا ويوخنيا ابو اب دانيال النبي ويوياقيم ابو الفتيان [1] الثلاثة حننيا وعزريا وميشائل. وفي زمانه كان صفنيا النبي وارميا وحولذى النبيّة. (يهواحاز بن يوشيا) ملك ثلثة أشهر. وكان فاسد الطريقة فسباه فرعون الأعرج في عوده وواثقه بالحديد وأنفذه الى مصر ومات هناك. ونصب يوياقيم أخاه مكانه. (يوياقيم بن يوشيا) ملك اثنتي عشرة [2] سنة. وكان قبيح المذهب مذموم الطريقة. وقبل عليه الجزية لملك مصر كل سنة مائة قنطار ذهبا. وفي السنة الثالثة من ملكه صعد بختنصّر ملك بابل الى بيت المقدس وسباها وجلا اكثر أهلها الى بابل ومعهم دانيال النبي والفتية الثلاثة أولاد يوياقيم أعمام دانيال النبي ووضع الجزية على يوياقيم ورجع عنه. ثم وصل فرعون الأعرج الى الفرات مرة ثانية والتقاه بختنصر هناك وقتله. وفي السنة الثامنة من ملك يوياقيم نزل بختنصر على أورشليم نزولا ثانيا وأخذ مالا من يوياقيم وعاد. وبعد ثلث سنين مات يوياقيم. (يوياخين [3] بن يوياقيم) وهو المسّمى في إنجيل متى يوخنيا [4] . ولما مضت عليه ثلثة أشهر من ملكه قصده بختنصر وحاصر بيت المقدس. فخرج يوياخين اليه مستأمنا مع امه وحشمه وعبيده. فجلاهم كلهم الى بابل ولم يترك في أورشليم الا شيخا مسنا وعجوزا ضعيفة. وولى على من تخلف باورشليم صدقيا بن يوشيا عم يوياخين وبقي يوياخين معتقلا في بابل سبعا وثلثين سنة. (صدقيا بن يوشيا) كان اسمه مثنيا وبختنصّر سمّاه صدقيا. ملك احدى عشرة سنة. ثم عصى ومنع الجزية التي كان يؤديها الى بختنصر. فعاد اليه واسره وذبح أولاده بين يديه وسمل عينيه وسار به الى اثور وجعله يدير الرحى مثل الحمار. وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة. ولما مات رميت جثته وراء السور فأكلته الكلاب. وفي هذه المرة دخل بختنصر الى مصر وجزائر البحر وهدم مدنا كثيرة واحرق مدينة صور وقتل حيرم ملكها وكان عمره كما يقال خمسمائة سنة [5] . وبعث بختنصر نبوزردن القائد الى أورشليم فدعثر   [1-) ] الفتيان ر الفتية. [2-) ] اثنتي عشرة س احدى عشرة. [3-) ] يوياخين س [؟] [؟] [؟] ؟.- يوياخين بن يوياقيم ر يوناخير بن يوياقيم هو ابو دانيال النبي.- او يوياكين. وفي بعض النسخ يوناخير وهو تصحيف. وفي تاريخ الطبري (الجزء الاول الصفحة 693) «يوياحين» . [4-) ] متى ص 1- ع 11. [5-) ] خمسمائة سنة. وكذا ايضا في السرياني. اما المترجم برنز فانه خصص بالمدينة ما يقوله المؤلف عن الملك حيرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 سورها واحرق الهيكل. وكان لشمعون رئيس الكهنة عند هذا القائد منزلة فسأله في امر كتب الوحي فلم يحرقها فجمعها هذا شمعون باتفاق ارميا النبي ووضعاها مع لوحي الناموس وعصا موسى ومجمرة البخور وباقي آلات القدس في تابوت العهد ورميا بها في بعض الآبار ولم يعرف مكانها الى الآن. وجلس ارميا النبي ينوح على أورشليم عشرين سنة. ثم انتقل الى مصر فقبض عليه قوم من اليهود وحبسوه في جب ثم أخرجوه ورجموه ومات ودفن في مصر. ثم الإسكندر في زمانه نقل تابوته الى الاسكندرية فدفن هناك. وكان حزقيال النبي في جملة من سبي الى بابل. فقتله اليهود لأجل توبيخه لهم. فمن السنة الرابعة من ملك سليمان التي كان فيها الشروع في بنيان هيكل الرب الى خرابه الكلي وحريقه اربعمائة واثنتان وأربعون سنة. وعلى رأي من جعل مدة ملك صدقيا تسعا وستين سنة تكون مدة الهيكل عامرا خمسمائة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الدولة الرّابعة المنتقلة من ملوك بني إسرائيل الى ملوك الكلدانيّين الكلدانيّون أمّة قديمة الرئاسة نبيهة الملوك وكان منهم النماردة الجبابرة الذين كان أولهم نمرود بن كوش من بني حام باني المجدل. وكان من ولد نمرود بختنصّر الذي غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا كثيرا وسبى بقيتهم وغزا مصر وافتتحها ودوّخ كثيرا من البلاد. ولم يزل ملك الكلدانيين ببابل الى ان ظهر عليهم الفرس وغلبوهم على مملكتهم وابادوا كثيرا منهم. فدرست اخبارهم وطمست آثارهم. وكانت من الكلدانيين حكماء متوسعون في فنون المعارف من المهن التعليميّة والعلوم الرياضيّة والالهيّة وكانت لهم عناية بأرصاد الكواكب وتحقيق بعلم اسرار الفلك ومعرفة مشهورة بطبائع النجوم وأحكامها. وهم نهجوا لأهل الشقّ الغربي من معمور الأرض الطريق الى تدبير الهياكل لاستجلاب قوى الكواكب واظهار طبائعها وطرح شعاعاتها عليها بأنواع القرابين الموافقة لها وضروب التدابير المخصوصة بها. فظهرت منهم الأفاعيل الغريبة والنتائج الشريفة من إنشاء الطلسمات وما أشبهها. ولم يصل إلينا من مذاهب الكلدانيين في حركات النجوم ولا من ارصادهم غير الارصاد التي نقلها عنهم بطليموس القلوذي في كتاب المجسطي. فانه اضطرّ إليها في تصحيح حركات الكواكب المتحيّرة إذ لم يجد لأصحابه اليونانيين ارصادا يثق بها. (بختنصّر بن نبوفلسّر) ملك قبل إحراقه هيكل الرب واخرابه أورشليم تسع عشرة سنة وبعده أربعا وعشرين سنة. واسمه بالسريانية نبوخذنصر اعني عطارد ينطق [1] .   [1-) ] اصل الاسم نبو (وهو عطارد) . كدر. نصر. فيكون المعنى نبو ينصر من الكدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وانما سمّي بذلك لأنه نطق بالعلوم والآداب المنسوبة الى عطارد. وفي السنة الثالثة من قمعه ملك اليهود رأى مناما راعت روحه منه واقتصّه على علماء بابل. فقالوا: هذا خطب عسير لا يكشفه للملك الا آلهة السماء الذين ليس مسكنهم مع الارضيين. فاحتدم صدره لذلك غيظا وتقدم الى اريوخ صاحب شرطه بإهلاك المنجمين والسحرة واصحاب الرقي والزجر والفأل. فقال دانيال لاريوخ: مهلا اتئد ولا تقتل حكيما ولكن اوصلني الى الملك. فلما مثل بين يديه مثولا قال له: اقادر أنت على ان تخبرني بالرؤيا التي رأيت وتعبيرها. فأجابه دانيال قائلا: إله السماء والأرض هو الذي يبدي السرائر. وأنت ايها الملك رأيت صنما عظيما ذا منظر رائع رأسه من الذهب الابريز وصدره وذراعاه من فضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه حديد ورجلاه خزف [1] . ورأيت حجرا انقطع من غير قاطع وضرب رجلي الصنم فهشمها هشما شديدا. فهذه الرؤيا. واما التعبير فأنت رأس الذهب بما منحك الله ملكا عزيزا وكرامة وجلالة. ويقوم بعدك ملك يكون دونك في العزّة. والثالث الممثّل بالنحاس يكون دون الثاني. والرابع الممثّل بالحديد دون الثالث فيهشم ويدقّ كثيرا من مجاوريه. اما الأرجل والأصابع التي من حديد وخزف فدليل ممالك مختلفة قوية وواهية. واما الحجر المنقطع من جبل من غير يد قاطعة فدليل ملك روحاني مبيد كل معبود سوى الواحد الحقّ يظهر في آخر الأيام. فخرّ بختنصر ساجدا لدانيال وأعطاه الألطاف والهدايا ورأسّه على جميع حكماء بابل. وولّى أعمامه حننيا وعزريا وميشائل امر مدينة بابل وسمّاهم بأسماء نبطيّة اعني شدراخ وميشاخ وعبدناغو. ثم اتّخذ بختنصر صنما من ذهب طوله ستون ذراعا في عرض ستة اذرع. وتقدم الى جميع عظماء دولته ان يوافوا عيد الصنم. وانهم إذا سمعوا صوت القرن وباقي انواع الزمر يخرّون سجّدا للصنم. فامتثل الجميع امره ما عدا حننيا وعزريا وميشائل. فسعى بهم قوم الى بختنصر انهم لا يعتدّون بأمره. فاستشاط من ذلك غضبا وامر ان يسجر الآتون فوق ما كان يسجر سبعة أضعاف الوقود وان يكتّفوا [2] بسراويلهم وقلانيسهم وبرانسهم وباقي ثيابهم ويزجّوا في اتون النار. فلما فعل بهم ذلك أحرقت النار الذين سعوا بهم. فأما هم فمكثوا في النار ممجّدين لله وملاك الطلّ نزل عليهم وامال عنهم لهيب النار فلم تنك فيهم ولا في ثيابهم ولا في لباسهم. فلما شاهد الملك ذلك بهت تعجبا وقال: ارى الرابع منهم شبيه المنظر ببني الآلهة يعني الملاك. وناداهم بأسمائهم قائلا: يا عباد الله العليّ اخرجوا.   [1-) ] ر رجلاء حديد وخزف. [2-) ] يكتّفوا ر يكفتوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فخرجوا من النار ولم يشط شيء من ثيابهم ولا شعورهم. فرفع بختنصّر درجاتهم. ثم رأى بختنصر رؤيا ثانية كأنّ شجرة في سواء الأرض قد علت حتى بلغت الى السماء ولها ورق أنيق وثمار كثيرة فيها مطعم لكل بشر. وجميع حيوانات البرّ وطيور الجوّ تأوي الى ظلّها. وكأنّ ملاكا قدّيسا نزل من السماء وقال: اقلعوا هذه الشجرة وجذّوا أغصانها وانثروا أوراقها وبدّدوا ثمارها وتتفرّق عنها حيوانات البرّ وطيور الجوّ وذروا عروقها في الأرض الى ان يحول عليها سبعة احوال. فاقتصّ بختنصّر هذه الرؤيا ايضا على دانيال وقال له: أنت قادر على تعبيرها لانّ فيك روح الآلهة القديسين. فقال دانيال: ايها الملك الرؤيا لمن يشنأك وتعبيرها على أعدائك. اما الشجرة الموصوفة بتلك الصفات الجليلة فإنك أنت الذي عززت حتى ارتفع اسمك الى السماء. واما الملاك القديس الذي رأيت وأقواله تلك فتدلّ على انّ الناس يخرجونك من بينهم ليصير لك تعمّر مع الوحوش وتطعم العشب طعما كالثور ويبلّك قطر السماء حتى تحول عليك سبعة احوال. ثم يثوب عقلك إليك وتستوي على كرسي ملكك. فكفّر خطاياك بالصدقات وآثامك بالترحّم على الضعفاء لتبعد عنك هفواتك. ومن بعد سنة لما رأى بختنصّر ان رقاب امم المسكونة قد خضعت له ودانت له ملوكها هيبة له وخوفا من شدّة بأسه طغى بقلبه وشمخ بأنفه وأخذته العزّة في نفسه. فسمع صوت هاتف يهتف به هتافا ويقول: لك يقولون يا بختنصّر لقد لفظتك مملكتك وسيهيج عليك الناس. فتّمت الكلمة عليه في تلك الساعة وطرده الناس ورعى العشب كالثور. وطال شعره وصارت أظافيره كمخاليب سباع الطيور حتى أتت عليه سبع سنين. ثم راجعه عقله وطلبه قادته واستوى على سرير مملكته ومنح مزيدا من العظمة وحمد الله وعلم ان سلطانه الى دهر الداهرين يهب الملك لمن يشاء ويجعله في سفلة الناس وسقّاطهم. وجدت في كتاب عتيق سرياني مجهول ان اوطولوقيوس المهندس اليوناني عرف في زمان بختنصّر وكان مشهورا في وقته. والموجود من كتبه الآن كتاب الكرّة المتحرّكة إصلاح الكندي وكتاب الطلوع والغروب ثلث مقالات. واما ثاوذوسيوس فلم نقف له على زمان معيّن وهو من حكماء اليونان المشهورين وله تصانيف حسان. له كتاب الأكر الذي هو اجلّ الكتب المتوسطات بين كتاب اوقليدس والمجسطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وفي هذا الزمان كان فورون الفيلسوف الكلدي [1] . وكانت حكمته هي الحكمة الاولى التي لم تستقرّ. وكان صاحب فرقة وله جمع يتعلمون منه الفلسفة الطبيعية وذهب إليها فيثاغوروس وثاليس الملطيّ وعامّة الطلبة من اليونانيّين والمصريّين. وكانت هذه الفلسفة شائعة في يونان الى قبل زمان سقراطيس. ثم مال الناس عنها وقد انتصر لها أناس من المتأخرين منهم محمد بن زكريا الرازي لأنه لم يتوغل في العلم الالهي ولا فهم غرض ارسطوطاليس فيه فاضطرب رأيه وتقلّد آراء سخيفة وانتحل مذهبا خبيثا مذهب فورون وذمّ أقواما لم يفهم عنهم ولا هدي سبيلهم. وفرقة فورون يعرفون باصحاب اللذّة لأنهم كانوا يرون ان الغرض المقصود اليه في تعلم الفلسفة اللذة الحاصلة للنفس بمعرفتها وهي مع البدن لانجائها من عذاب الجهل في الآخرة كما هو رأي أرسطو لان النفس لا بقاء لها بعد البدن عندهم. (أول مرودخ بن بختنصر) ملك ثلث سنين. هذا اخرج يوياخين بن يوياقيم من السجن وأكرمه وآكله مؤاكلة بعد سبع وثلاثين سنة وكان فيها معتقلا. وقتل مرودخ وملك بعده اخوه بلطشاصر. (بلطشاصر بن بختنصّر) ملك سنتين. ثم عمل وليمة عظيمة لألف رجل من أكابر دولته وكان يشرب الخمر بازائهم. وامر وهو يشرب ان يؤتى بآنية هيكل الرب التي سباها أبوه من أورشليم وشرب فيها مع عظمائه. فظهرت قبالته كفّ يد كاتبة عقابه في ضوء المصباح على الحائط. فرابته الكتابة واحضر حكماء بابل ليترجموا الكتابة. فعجزوا عن حلّها. فامتعض لذلك امتعاضا شديدا. فأخبرته أمّه عن دانيال النبي انه درّاك غيب وحلّال عقد. فاستدعاه وضمن له ان يلبسه الأرجوان وان يولّيه ثلث الملك ان اوّل الكتابة. فقال دانيال: لتكن مواهبك لك واجعل ذخائر بيتك لغيري. اما الكتابة فقراءتها أحصي إحصاء وزن وأعري. وتأويلها: ان الله احصى ملكك واستلبه. ووزنك زنة فوجدك شائلا فلذا اعراك من ملكك فأنت عار عرية. وفي تلك الليلة اغتاله داريوش المادي [2] وقتله.   [1-) ] الكلدي والكلداني.- كان مولده في مدينة «أليس» من القسم المسمى «أليد» من بلاد اليونان القديمة. ولعل الكلدي تصحيف الالدي. [2-) ] المادي ر الماهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الدولة الخامسة المنتقلة من ملوك الكلدانيّين الى ملوك الفرس امّا الفرس فأهل الشرف الشامخ. والعزّ الباذخ. وأوسط الأمم دارا. وأشرفهم إقليما. وأسوسهم ملوكا. تجمعهم وتدفع ظالمهم عن مظلومهم. وتحملهم من الأمور على ما فيه حظهم على اتصال ودوام. واحسن التئام وانتظام. وخواصّ الفرس عناية بالغة بصناعة الطبّ ومعرفة ثاقبة بأحكام النجوم. وكانت لهم ارصاد قديمة. وقال بعض علماء العجم: اوّل من ملك بعد الطوفان كيومرث من بني سام بن نوح وكان ينزل فارس. واتخذ الآلات لاصلاح الطرق وحفر الأنهار وذبح ما يؤكل من الحيوان وقتل السباع. وما زال الملك في ولده الى ان ملك دارا بن دارا [1] الذي غزاه الإسكندر وقتل في المعركة. ثم ملكت الاشكانية أولهم أشك. ثم أشك بن أشك وهو أول من تسمّى بالشاهيّة. ودام الملك فيهم الى ان ظهرت المملكة الساسانية أولهم أردشير [2] بن بابك بن ساسان من بني كشتاسب. فأحسن السيرة وبسط العدل. وتوارث بنوه الملك الى ان ملك يزجرد [3] ابن شهريار بن قباذ بن فيروز بن هرمز بن كسرى انوشروان المعروف بالعادل. وهو آخر ملوك الفرس. فلما ملك انتقضت عليه الدولة وتفاقمت أمورها وطلعت اعلام الإسلام بالنصرة وقتل كما يأتي شرح ذلك في موضعه.   [1-) ] دارا بن دارا ر داراب بن دارا. [2-) ] أردشير وازدشير. [3-) ] يزجرد ر يزدجرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 (داريوش المادي [1] واليونانيّون يسمّونه نابونيذس. ملك سنة واحدة. وقيل تسع سنين. وبه بطلت مملكة النبط الكلدانيين منتقلة الى الفرس المجوس. وهذا الملك استولى على الملك وهو من أبناء اثنتين وستين سنة. وحسنت منزلة دانيال النبي عنده. واقام في ولايته مائة وعشرين قائدا ورأسّ عليهم ثلثة رجال أحدهم دانيال. وكان يرجع في سرائره اليه. فساد ذلك ارباب الدولة وجعلوا يطلبون عليه حجة يوقعونه بها عن مرتبته. فلم يظفروا منه بهفوة غير انه يدين بغير دين الملك. فساروا الى الملك وقالوا: ان دانيال يعبد إلها غريبا. وفي سنّتنا ان من دان في أرضنا بدين غير ديننا وتعدّى سنّة اهل ماه [2] وفارس قذف به في جبّ الأسد. فلما لم يقدر الملك على إبطال شريعة قومه تقدّم بقذف دانيّال في جب الأسد وقال له: إلهك ينجيك. وانصرف الى منزله وبات طاويا وطار عنه نومه إشفاقا على دانيال. وكان حبقوق النبي في الشام قد طبخ طبيا ومضى يطعم الحواصيد فأخذه ملاك الرب بشعر رأسه ووضعه في بابل على فم الجبّ فقال: دانيال دانيال قم خذ الطعام الذي انفذ لك ربّك. فقال دانيال: ذكرني الله ولم يهملني. وأخذ الملاك لحبقوق ووضعه في موضعه. وجاء الملك داريوش بعد سبعة ايام ليبكي على دانيال لكثرة اهتمامه له. فلما دنا من الجبّ ناداه: يا دانيال هل قدر معبودك ان ينجيك من السباع. اجابه دانيال قائلا: ايها الملك عش خالدا ان إلهي بعث لي ملاكه وسدّ أفواه الأسد فلم تهلكني. فحسن موقع ذلك من الملك جدّا واخرج دانيال من الجب وألقى وشاته فيه مع نسائهم وبنيهم وذريتهم. فما استقرّوا في قرار الجبّ الّا ومزّقتهم الأسد ورضّت عظامهم رضا. وفي هذا الزمان اشتهر فراخوديس [3] مصنف القصص معلم فيثاغورس. (كورش الفارسي) ملك احدى وثلثين سنة واستولى على ملك العراق وخراسان وارمينية والشام وفلسطين وغزا بلاد الهند وقتل ملكها. هذا كورش تزوّج اخت زوربابيل ابن شلاثيل بن يوياخين بن يوياقيم ملك يهوذا. ولما دخل بها ارتفعت عنده وقال لها: اطلبي مني ما شئت. فطلبت منه عود بني إسرائيل الى أورشليم وان يأذن لهم بعمارتها. فجمعهم كورش الملك وخيّرهم قائلا: من اختار الصعود فليصعد ومن أباه فليقم. فكان   [1-) ] المادي ر الماهي. وهو مناسب للفظة ماه في السطر 7 من هذه الصفحة. س [؟] مادي. [2-) ] ماه ر ماد. [3-) ] فراخوديس ر فراقوديس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 عدد مؤثري الصعود خمسين ألفا من الرجال غير النساء والأولاد. فحصل زوربابيل ملكهم ويشوع بن يوزاداق كاهنهم. وعنهما قال ملاك الرب لزخريا النبي: ان هذين ابنا الدلال وهما يقومان بين يدي ربّ العالمين. فصعدت هذه الشرذمة من بني إسرائيل في السنة الاولى من ملك كورش الى أورشليم وهمّوا بعمارتها. ولأن الفلسطينيين مجاوريهم اعنتوهم كان تشييدهم الهيكل على التراخي في ستّ وأربعين سنة كما قال يوحنا الانجيلي. ولاختلاط كورش بنسل داود قال عنه اشعيا النبي قبل ولاده: قال الله لمسيحه كورش الذي عضدت بيمينه. وعظم كورش ايضا شأن دانيال وفوّض اليه سياسة ملكه. فغار لله غيرة وكسر الصنم المسمّى بيل وقتل التنين معبود البابليّين. فمقت ورمي في جب فيه سبعة أسد ونجا منها وهلك مبغضوه. ثم رأى الرؤيا على نهر الفرات وعرّفه ملاك الرب مدّة السنين التي بقين من السبي ومن ظهور السيد المسيح وآلامه وموته. ومات دانيال ودفن في قصر شوشن اعني مدينة ششتر [1] . (قمباسوس بن كورش) ملك ثماني سنين. وفي أيامه كانت يهوديث المرأة العبرية التي احتالت على الفرنا الماجوجي صاحب جيش قمباسوس وقطعت رأسه وامّنت اليهود بأسه. وفي هذا الزمان كان زرادشت معلم المجوسية وأصله من بلد اذربيجان. وقيل: من بلاد اثور. وقيل: انه من تلامذة اليّا النبي. وهو عرّف الفرس بظهور السيد المسيح وأمرهم بحمل القرابين اليه وأخبرهم ان في آخر الزمان بكرا تحبل بجنين من غير ان يمسها رجل وعند ولادته يظهر كوكب يضيء بالنهار ويرى في وسطه صورة صبية عذراء. وأنتم يا اولادي قبل كل الأمم تحسّون بظهوره. فإذا شاهدتم الكوكب امضوا حيث يهديكم واسجدوا لذلك المولود وقرّبوا قرابينكم فهو الكلمة مقيمة السماء. (داريوش بن بشتسب [2] : ملك ستا وثلثين سنة على رأي قليميس واوسابيوس واندرونيقوس. وفي السنة الاولى من ملكه بالقرب من نجاز بنيان هيكل الرب باورشليم اعني قبله بست سنين تمّت السبعون سنة التي للسبي كما اوحى الله الى ارميا النبي ان تبقى الأمّة جالية ببابل. ويؤكد ذلك حجي وزخريا النبيّان بابتهالهما الى الله قائلين: حتّام لا ترحم أورشليم وقد اتى على خرابها سبعون سنة. وذلك إذا عددناها مبتدئين من آخر   [1-) ] ششتر ر تستر وشستر. [2-) ] بشتسب ر بستسب ويشتسب ويستسب س [؟] . ابن العبري- 4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ملك صدقيا وهي السنة الرابعة والعشرون من ملك بختنصّر التي فيها احترق الهيكل وخربت أورشليم وجلي اليهود عن أوطانهم الى بابل الجلاء الكلي. واما افريقيانوس فانه يعدّها مبتدئا من أول ملك صدقيا ليتم في أول ملك كورش عند إرساله الجماعة من بني إسرائيل الى أورشليم وتقدمه إليهم بعمارتها. وفي هذا الزمان توفي فيثاغورس الحكيم ابن خمس وتسعين سنة. هذا جعل مبادئ الأكوان الاعداد بدليل ان المركبات مبادئها البسائط. ولا ابسط من الاعداد إذ كل ما عداها يلزمه التركيب من اضافة العدد اليه. واشتهر في الفلسفة ديموقراطيس وهو القائل بانحلال الأجسام الى أجزاء لا تتجزأ. وديوجانيس الكلبي وكان قد راض أصحابه رياضة فارق فيها اصطلاح اهل المدن من اطراح التكليف. وكان أحدهم يتغوط غير مستتر عن الناس ............... ............... ........ ويقول فيما يأتيه من ذلك: لا يخلوا اما ان يكون ما يفعله قبيحا على الإطلاق فلا يحسن في موضع دون موضع وعلى صورة دون صورة. وان كان ممّا يحسن في موضع دون موضع وعلى صورة دون صورة فهذا امر اصطلاحي فلا اقف معه. وكانوا يحبون من قرب منهم ويكرهون من بعد عنهم. فقال اهل زمانهم: هذه الأفعال تشبه أفعال الكلاب فسمّوهم الكلبيّين. ومن مشاهير هذا الزمان انكساغورس الطبيعي وفينذارس وسيموندس الموسيقيّان وفروطوغورس واسوقراطيس السفسطانيان واريسطوفنيس واقحاليس الشاعران الهاجيان. وفي هذا الزمان ايضا عرف ابقراط الطبيب. هذا كان يسكن مدينة حمص ويتردد الى مدينة دمشق ويأوي الى بستان كان له فيها ومكانه معروف الى يومنا هذا في واد هناك يسمّى النّيرب. وكان رجلا إلهيا يداوي المرضى مجانا. وقد احسن جالينوس في وصفه له حيث قال: ان جالينوس ادّبه الدرس وابقراط ادّبته الطبيعة. وقال ايضا: ان ابقراط انغمس في الطبيعة وسرى معها حتى انتهى الى أعماقها واخبر عمّا شاهد هناك. وله من الكتب كتاب افوريسمون [1] اي الفصول وكتاب بروغنوسطيقون اي تقدمة المعرفة وكتاب ابيذيميا اي الأمراض الوافدة وكتاب ماء الشعير وكتاب الاخلاط وكتاب   [1-) ] افوريسمون ر افوريسموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قسطران [1] اي كتاب المدن والماء والهواء وكتاب طبيعة الإنسان وكتاب شجاج الرأس وكتاب دياثيقي اي العهد. ومن الحكماء المعاصرين لأبقراط فيليمون وكان عالما في فنّ من فنون الطبيعة اعني الفراسة إذا رأى شخصا استدلّ بتركيب أعضائه على أخلاقه. وله فيها كتاب عندنا نسخته بالسريانيّ. وحكي انه اجتمع تلاميذ ابقراط وقال بعضهم لبعض: هل تعلمون في زماننا هذا اعلم من هذا الرجل يعنون ابقراط. فقالوا: لا. فقالوا: نمتحن به فيليمون فيما يدّعي من الفراسة. فصوروا صورة ابقراط ثم نهضوا الى فيليمون. وكانت يونان تحكم الصورة بحيث تحكيها [2] على الوجه في قليل أمرها وكثيرها لأنهم كانوا يعبدون الصور فأحكموا لذلك التصور ويظهر التقصير في التصوير من غيرهم ظهورا بيّنا. فلما انهم حضروا عند فيليمون وقف على الصورة وتأملها وأنعم النظر فيها ثم قال: هذا رجل يحب الزنا. وهو لا يدري من هو المصوّر. فقالوا: كذبت هذه صورة ابقراط. فقال: لا بد لعلمي ان يصدق فاسألوه. فلما رجعوا الى ابقراط واخبروه الخبر قال: صدق فيليمون أحبّ الزنا ولكن املك نفسي. (احشيرش بن داريوش) ملك احدى وعشرين سنة. وفي السنة الثانية من ملكه استولى على مصر. وبعد تسع سنين [3] فتح مدينة اثيناس وأحرقها. وقيل في زمانه كانت قضية استير العفيفة ومردخاي البارّ من اهل يهوذا. وهذا القول غير سديد والّا لما أهمل ذكرها في كتاب عزرا المستوعب جميع ما جرى لليهود في زمان هذا الملك. والصحيح انها جرت في ايام ارطحششت المدبّر. (ارطبانس) ملك سبعة أشهر معدودة مع سني احشيرش. (ارطحششت الطويل اليدين) ويسمى ايضا اريوخ. ملك احدى وأربعين سنة. وفي سنة سبع من ملكه امر عزرا الحبر وهو الذي تسمية العرب العزير ان يصعد الى أورشليم ويجتهد في عمارتها. وفي سنة عشرين من ملكه أرسل نحميا الساقي الخصيّ ايضا ليجد في ترميمها. وفي هذا الزمان لم يكن لليهود نار قدس لأنهم رموها في بئر وقت جلائهم. فأتوا   [1-) ] كتاب قسطران إلخ. لعل الصواب: وكتاب قسطران اي المدن وكتاب الماء والهواء. وقسطران لفظة منحوتة من كلمتين في اليونانية [؟] () وهو ابتداء كتاب ابقراط في الماء والهواء. [2-) ] تحكيها ر تحكيمها. [3-) ] تسع سنين س احدى عشرة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بحمأة منها ووضعوها على حطب القربان فاشتعلت بأمر الله بعد ان طفئت مائة سنة وأربعين [1] سنة بالتقريب. ولما رأى عزرا المعجز استف من سفساف [2] تلك البئر ثلث سفّات فأعطي منحة روح القدس وأنطقه الله بجميع كتب الوحي وأعادها كما كانت [3] . (احشيرش الثاني) ويسمى أردشير [4] . ملك شهرين. ثم قتله سغدينوس [5] وملك بعده مدة يسيرة. (سغدينوس [5] ملك سبعة أشهر وهي مع الشهرين المتقدمين معدودة مع سني اريوخ. (داريوش نوثوش [6] اي ابن الأمة. ملك تسع عشرة سنة. وفي سنة خمس عشرة من ملكه خلع المصريون ربقة طاعة الفرس من أعناقهم ونصبوا لهم ملكا بعد مائة واربع وعشرين سنة لتسلط الفرس عليهم. (ارطحششت الثاني) المعروف بالمدبّر [7] واليونانيون يسمونه ارطاكسراكسيس. ملك أربعين سنة وتزوّج باستير العبرية الصالحة وصلب هامان العملقي الذي زاول زوال الجالية من بني إسرائيل. وذلك بدعاء استير ومردخاي الصدّيق صاحبها. وفي سنة خمس عشرة من مملكة هذا ارطحششت اخرب افريقيانوس قائد الافرنج مدينة قرخيذونيا وسمي بلدها باسمه افريقية [8] . وفي هذا الزمان كان ميطن واقطمين [9] وهما إمامان في علوم الفلك اجتمعا بالاسكندريّة على احكام آلات الارصاد ورصدا ما احبّا من الكواكب. وقيل ان بين   [1-) ] وأربعين ر وست وأربعين س واستمرت النار متقدة بعد مائة وست وأربعين سنة. [2-) ] سفساف ر سفاف. [3-) ] ان اسفار موسى وسائر الاسفار المقدسة القديمة لم يهلكها الجلاء البابلي. فجمعها عزرا الخبر وفسرها للشعب. فلا صحة إذا للقول بان الله أنطقه بجميع كتب الوحي وأعادها كما كانت. انما هذه حكاية مأخوذة عن كتاب مصنوع ينحله بعضهم عزرا ويسمونه سفر عزرا الرابع. [4-) ] أردشير يروى بالزاي المعجمة. [5-) ] سغدينوس يروى بالعين المهملة. [6-) ] نوثوش س نوثوس س [؟] . [7-) ] بالمدّبر س [؟] . [8-) ] ان النساخ قد صحفوا وأفسدوا هذه العبارة. والصواب ان اميليانوس شيبيون لقب افريقيانوس نسبة الى بلاد افريقية. اما خراب مدينة قرطاجنة فحدث سنة 146 قبل المسيح. وارطحششت الثاني توفي نحو سنة 362 قبل المسيح. [9-) ] اقطيمن ر افطيمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 زمانهما وبين بطليموس صاحب المجسطي خمسمائة سنة وسبعين سنة [1] . (ارطحششت الثالث) المعروف بالأسود. واليونانيون يسمونه اوخوس. ملك سبعا وعشرين سنة واستعاد ملك مصر وهزم نقطابيوس [2] ملكها وصار يسيح في بلاد اليونانيون بزيّ منجّم لأنه كان ماهرا في علم الفلك واسرار الحركات السماوية. وقيل انه تلطف لمجامعة ألومفيذا امرأة فيليفوس ملك مقدونيا في تنجيمه لها. فحملت منه بالإسكندر ذي القرنين. (ارسيس [3] بن اوخوس) ملك اربع سنين. وفي زمانه اشتهر سقراطيس الحكيم المتألّه. هذا زهد في الدنيا ومتاعها الى حد انه سكن الحبّ. وقيل له: ان انكسر الحبّ ماذا تعمل. فقال: ان انكسر الحب لم ينكسر مكانه. وكان يقول: حسن الظاهر تابع للحسن الباطن فيستدل على حسن النفس بحسن البدن. ولأنه كان يختار للتعليم الاحداث الوسام نسبه الاثنيّون الى الفحشاء. ولكثرة تقييده الملك المشتهر بالفجور علم ابنيه انطوس وميليطوس الإفساد عليه وأماته مسموما. وبعد موت سقراط صار الصيت لافلاطون. هذا كان شريف الوالدين نسب أبيه يرتقي الى فوسيديون ونسب أمّه الى سولون واضع النواميس للاثنيّين. وقيل: انه تميز في حداثته في علم الشعر. فلما رأى سقراط يهجن هذا الفن من جملة العلوم احرق كتبه الشعرية وتلمذ له خمسين سنة ومنه اقتبس الحكمة الفيثاغورية وقال: ان المبادي ثلثة الإله والهيولي والصورة. واثبت وجود الأمثال النوعية في الخارج مجرّدة عن الموادّ. وادّعى تناسخ النفوس وان وجودها قبل وجود الأبدان. وكان يأذن لمن عجز عن مكابدة العزوبة من تلامذته ان يشاركه النفر منهم في زوجة واحدة لما في ذلك من قلة المؤنة وكثرة المعونة. وقد عدّ له ثاون الاسكندريّ ثلثة وثلثين كتابا. والموجود منها الآن كتاب فادن وكتاب طيماوس وكتاب النواميس وكتاب سياسة المدن. ومات وقد بلغ من العمر اثنتين وثمانين سنة. وخلّف بستانين [4] ومملوكين وكأسا واحدا وقرطا كان معلّقا في شحمة أذنه شعارا   [1-) ] ان ميطن واقطيمن كانا قبل المسيح بخمسمائة سنة. واما بطليموس صاحب المجسطي فكان في القرن الثاني للمسيح وكانت الاسكندرية موضع إقامته. والمجسطي (وهي لفظة يونانية معناها الأعظم) موضوع في علم الكواكب ومساحة البلدان. [2-) ] نقطابيوس ر نقطانوس ونفطابيوس س [؟] نقطانبوس وهو الصواب. [3-) ] ارسيس ر فرسيس س [؟] . [4-) ] بستانين ر بساتين. وكذلك في السرياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بشرفه. وباقي ماله كان قد أخرجه على تزويج بنات أخيه. وكتب على قبره: هاهنا وضع رجل إلهي فاق الناس كلهم في العلم والعفة والنباهة والأخلاق العادلة. فكل من مدح الحكمة فقد مدحه إذ فيه أكثرها. وكتب في الجانب الآخر من التربة: يا أيتها الأرض وان كنت مخفية جسد أفلاطون لكنّك لا يمكنك الدنوّ من نفسه التي لا تموت. وتولّى بعده مدرسته سفوسيفوس [1] ابن عمه. وفي هذا الزمان اشتهر في الطب روفس وتصدر للتعليم وله في ذلك تصانيف. الّا انه كان ضعيف النظر مدخول الادلّة ردّ على اكثر أقواله ارسطوطاليس في كتبه الطبيعيات. وردّ عليه جالينوس ايضا مثل ذلك وأقاما الحجج الواضحة على غلطه. ولم تكن الصناعة تحققت في زمانه تحققها في زمان هذين الفاضلين. (داريوش بن ارشك) هو دارا بن دارا. ملك ست سنين. ولما بلغه خروج الإسكندر بن فيليفوس اليوناني المقدونيّ جيّش والتقاه في الشام. فانتصر اليونانيون على الفرس وانهزم داريوش طالبا الثغور. فأدركه الإسكندر عند مدينة إياس التي هي فرضة البحر ببلد قيليقيا وقتله وتزوّج ابنته المسماة روشنك. وبطلت وقتئذ مملكة الفرس باستيلاء الإسكندر على الأرض. وفي هذا الزمان اشتهر في الفلسفة ارسطوطاليس بن نيقوماخس الطبيب من قرية طاجيرا من اعمال مقدونيا. ونسبه من والديه يرتقي الى اسقليبياذيس. وأخذ الحكمة من أفلاطون وهو ابن سبع عشرة سنة ولازمه عشرين سنة. وكان إذا لم يحضر في الدرس يقول أفلاطون: العقل لم يحضر. كأن الغافلين [2] عن الحق صمّ هم عمّا هم سامعوه. وصار له منزلة عظيمة عند الملوك. وبرأيه كان يسوس الإسكندر ملكه ويتوجه الى محاربة ملوك الأرض. وتفرّغ ارسطوطاليس لتصنيف الكتب المنطقية والحكمة العلمية والعلمية. ويسمّى معلما أول لا لأنه اخترع المنطق اختراعا كما ظنّ. لكن لأنه جمع أشتاته ورتبه ترتيبا كما قال حاكيا عن نفسه: انه قد كان لنا في الصنائع المنطقية اصول مأخوذة ممّن سبقنا مستعملة في جزئيات برهانية مثلا في الهندسة جدلية [3] وخطابية في السؤال والجواب.   [1-) ] سفوسيوس ر سقوسيقوس س سفوسيفوس. [2-) ] كأنّ الغافلين عن ر بان الفيلسوف عن. [3-) ] جدلية ر وجدليّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 واما في صورة القياس وصورة قياس القياس فأمر قد كددنا في طلبه مدة من العمر حتى استنبطناه. وكان لا يفتر عن الدرس والمطالعة الّا عسى عند النوم. وكان إذا سئل لا يبادر الجواب الا بعد الفكر. ولا قصد في البحث الا الحق دون الغلبة. وكان يقول في إبطاله التناسخ: أفلاطون صديق والحق ايضا صديق فإذا لحظتهما كان اختياري واكرامي للحق. وكان إذا شعر بتقصير من نفسه لم يستنكف من ان يدفعه. وكان معتدلا في الملابس والمأكل والمشرب والمنكح والحركات. ومات وله ثمان وستون سنة. وخلّف ابنا وابنة صغيرة وخلف مالا كثيرا. واعلم وفّقك الله ان الحكماء الذين نظروا في اصول الموجودات دهريّون وطبيعيّون وإلهيّون. فأما الدهريون فهم فرقة قدماء جحدوا الصانع المدبّر للعالم وقالوا ان العالم لم يزل موجودا بنفسه لم يكن له صانع صنعه. والطبيعيون فهم قوم بحثوا عن أفعال [1] الطبائع وانفعالاتها وما صدر عن تفاعلها [2] من الموجودات حيوان ونبات. وفحصوا عن خواص النبات وتركيب أعضاء الحيوانات فمجدوا الله وتحققوا بمخلوقاته انه قادر حكيم عظيم [3] . الّا انهم رأوا ان النفس تهلك بهلاك الجسد وان لا بقاء لها بعده. واما الإلهيون فهم المتأخرون من حكماء يونان مثل سقراط وهو شيخ أفلاطون. وأفلاطون شيخ ارسطوطاليس. وأرسطو هو مرتّب هذه العلوم ومحرّرها ومقرّر قواعدها ومزيّن فوائدها ومخمّر فطيرها ومنضّج قديرها [4] وموضّح طرق الكلام وتحقيق قوانينه والرادّ على الدهرية والطبيعية والمندّد عليهم والقائم بإظهار فضائحهم. وهذّب كلام أفلاطون وسقراط وحقّقه ونمّقه ورتّبه فجاء كلامه ابضع [5] كلام وأحكم معاني. وكل من نقل كلامه من اليوناني الى لغة اخرى حرّف وجزّف وما أنصف. واقرب الجماعة حالا في تفهّمه الفارابي وابن سينا فإنهما تحمّلا علمه على الوجه المقصود. واعذبا منه لوارد منهله المورود [6] . وكان لارسطو ابن أخ اسمه ثاوفريسطس وهو احد تلاميذه الآخذين الحكمة عنه وهو الذي تصدّر بعده للاقراء بدار التعليم. وكان فهما عالما مقصودا لهذا الشأن. وقرئت عليه   [1-) ] أفعال ر احوال. [2-) ] تفاعلها ر تفاعليها. [3-) ] عظيم ر عليم. [4-) ] قديرها ر قديدها. [5-) ] ابضع كلام. يروى بعده: واسدّ نظام. [6-) ] المورود ر الورود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 كتب عمه وصنّف التصانيف الجليلة واستفيدت منه ونقلت عنه. فمنها كتاب الآثار العلوية وكتاب الأدب وكتاب ما بعد الطبيعة نقله من السرياني الى العربي يحيى بن عدي. وكتاب الحسّ والمحسوس نقله ايضا ابراهيم بن بكوس [1] . وكتاب اسباب النبات نقله ايضا ابراهيم والمذكور. واما نيقوماخس والد ارسطوطاليس فكان متطببا لفيليفوس ابي الإسكندر وكان حكيما فيثاغوريّ المذهب وله من التصانيف كتاب الارثماطيقي وكتاب النغم.   [1-) ] بكوس ر تكوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الدولة السّادسة المنتقلة من ملوك الفرس المجوس إلى ملوك اليونانيّين الوثنيّين اما اليونانيون فكانوا أمّة عظيمة القدر في الأمم طائرة الذكر في الآفاق فخمة الملوك. منهم الإسكندر بن فيليفوس المقدوني الذي اجمع ملوك الأرض طرا على الطاعة لسلطانه. وكان من بعده من ملوك اليونانيين البطالسة دامت لهم الممالك وذلّت لهم الرقاب. ولم يزل ملكهم متصلا الى ان غلب عليهم الروم وهم الافرنج. وكانت بلاد اليونانيين في الربع الغربي الشمالي من الأرض. ويحدها من جهة الجنوب البحر الرومي ومن جهة الشمال بلاد اللان ومن جهة المغرب تخوم بلاد الامانية ومن جهة المشرق بلاد ارمينية وباب الأبواب [1] . ويتوسط بلاد اليونانيين الخليج المعترض ما بين بحر الروم وبحر نيطس الشمالي فيصير القسم الأعظم منها في حيّز المشرق والقسم الأصغر منها في حيّز المغرب. ولغة اليونانيين تسمّى الاطيقيّة وهي أوسع اللغات واجلّها. وكانت عامة اليونانيين صابئة [2] معظمة للكواكب دائنة بعبادة الأصنام. والفلاسفة منهم من ارفع الناس طبقة واجلّ اهل العلم منزلة لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة من العلوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والالهية والسياسات المنزلية. (الإسكندر بن فيليفوس) : ملك ست سنين بعد قتله داريوش. وكان قد ملك   [1-) ] ان باب الأبواب هي مدينة. ويقال لها ايضا «الباب» غير مضاف «والباب والأبواب» . [2-) ] ان اليونانيين عبدوا فضلا عن الكواكب آلهة كثيرة تصوروها كأناس واعاروها من عوائد البشر ورذائلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قبل ذلك ستا اخرى. وفتح بلادا كثيرة حتى بلغ ملكه الى أقصى الهند وأوائل حدود الصين. وسمّي ذا القرنين لبلوغه قرني الشمس وهما المشرق والمغرب. وقتل خمسة وثلثين ملكا وبنى اثنتي عشرة مدينة منها اثنتان في بلد خراسان وهما هراة ومرو. وواحدة في بلد السغد وهي سمرقند. واخرى في بلد القبط وهي الاسكندرية. وفي عودته من الهند ووصوله الى بابل مات مسموما ووضع في تابوت ذهب وحمل على أكتاف الملوك والاشراف الى اسكندرية القبط ودفن بها. وكان لما احتضر أمر ان يكتب الى أمّه بالتعزية وان تتخذ طعاما وتأمر ان لا يدخل اليه الّا من لم تصبه مصيبة. ففعلت كذلك فرجع جميع الخلق وحسن بذلك عزاؤها. وبعد موت الإسكندر تقاسم الممالك اربعة من عبيده وهم بطلميوس بن الاغوس واريذاوس وانطيوخوس وسلوقوس. وسئل الإسكندر بناء السدّ سدّ يأجوج فبناه بحجارة الحديد والنحاس وأضرم عليه النار فصار صخرا واحدا طوله اثنا عشر ذراعا وعرضه ثمانية اذرع. ولما فرغ من بناء سد يأجوج جاء الى موضع السد الأعظم وهو المكان الذي يعرف بالباب والأبواب في مروج [1] بلدان القفجاق فحفر موضع الأساس ومدّه في الجبال حتى ألحقه بحر الروم. فلم تزل ملوك فارس في طلب هذا الأساس فتجشوا معرّة الترك والخزر من بلاد العراق والجبل واذربيجان وارّان وارمينية حتى وجد الأساس يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد ابن سابور. فابتدأ ببناء السد من حجارة ونحاس ورصاص ولم يتمّمه. وكان اكثر همّ ملوك الفرس بعده في بنائه فما اتفق لهم الفراغ منه حتى سهل الله ذلك على يدي كسرى انوشروان فأحكم بناءه وألصقه برؤوس الجبال ثم مدّه في البحر على ميل ثم غلق عليه أبواب الحديد واقام على بنائه سنة واكثر. فصار يحرسه مائة رجل بعد ان لم تكن تطيقه مائة ألف رجل من الجند. وأذن للمرزبان الذي يقيم هناك بالجلوس على سرير الذهب ولذلك يسمّى ملك تلك الناحية ملك السرير. وفي زمان الإسكندر كان اندروماخس الطبيب الذي زاد في معجون المثروديطوس لحوم الافاعي فصار نافعا من نهوشها. (بطلميوس بن لاغوس) اي ابن الأرنب. ولي مصر وجميع ارض القبط والنوبة أربعين سنة. ومنه سمّوا ملوك مصر البطالسة. وهو جلا اليهود الى مصر في ايام حونيا رئيس الكهنة. وحصل لاريذاوس وهو فيليبوس المذكور في السونطاكسيس اي المجسطي   [1-) ] مروج ر فروج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مقدونيا وجميع بلاد اليونانيين. ولانطيوخس سوطير اي المخلص انطاكية وجميع بلاد الشام. وبعد اثنتي عشرة سنة من موت الإسكندر حصل لسلوقوس المسمّى نيقاطور اي القاهر ملك بابل وكل العراق وخراسان الى الهند. ومن أول ولايته يبتدئ هذا التاريخ المعروف بتاريخ الإسكندر وهو الذي يورّخ به السريان والعبريون. ومن آدم الى أول هذا التاريخ على رأي ثاوفيل الرهاوي خمسة آلاف ومائة وسبع وتسعون سنة. فإذا زدنا على سني الإسكندر التامة اعني سني سلوقوس هذا المبلغ وعلى الشهور التامة من السنة المنكسرة التي أولها تشرين الاول شهرا واحدا حصل لنا سنون تامة وشهور من السنة المنكسرة التي أولها شهر أيلول وبهذا التاريخ يؤرّخ الروم في زماننا هذا. (بطلميوس فيلاذلفوس) اي محب أخيه. ملك ثماني [1] وثلثين سنة. وفي زمانه خلع الأرمن طاعة ملوك اليونان ونصبوا لهم ملكا اسمه ارشك. ومن هنا سمّوا ارشكونية. ولما ملك هذا بطلميوس حبّب اليه العلم والعلماء وسمع ان في السند والهند وفارس وجرجان وبابل واثور فنونا من الحكمة غير التي عند اليونان فتقدم الى وزيره بالاجتهاد في جمع كتب هذه الأمم وتحصيلها والمبالغة في اثمانها وترغيب التجار في جلبها. ففعل ذلك فاجتمع من ذلك في مدة قريبة اربعة وخمسون ألف كتاب ومائة وعشرون كتابا. فلما علم الملك باجتماعها قال لوزيره: أترى بقي في الدنيا شيء من كتب العلوم لم يكن عندنا. فقال له الوزير: بقي عند اليهود كتب إلهيّة اوحى الله بها الى الأنبياء فنطقوا بها. فأمر ان يجدّ في طلبها. فأطلق سبيل جالية اليهود وطلب من اليعازر رئيس الكهنة ان يسيّر اليه جماعة من أحبار اليهود المتبحّرين في لغتي العبريين واليونانيين لينقلوا له كتب الوحي من اللغة العبرية الى اللغة اليونانية. فأرسل اليه اثنين وسبعين حبرا ذوي مهارة في النقل من كل سبط ستا. فرتب الملك كل اثنين منهم في بيت في جزيرة فوروا وأمرهم ان ينقل كل اثنين منهم كلّ واحد واحد من الكتب الإلهية. وعند الفراغ قوبلت النسخ الستة والثلاثون فوجدت مطابقة لم تتخالف لفظا ولا معنى فاعتمد على صحة النقل. وهذا النقل السبعينيّ هو المعتبر عند علمائنا وهو الذي بأيدي الروم وباقي فرق النصارى خلا السريان وخصوصا المشارقة فان نسختهم المسماة بسيطة لترك البلاغة في نقلها تطابق نسخة اليهود. واما المغاربة فلهم النقلان البسيط المنقول من العبري الى السرياني بعد مجيء السيد المسيح في زمان ادي السليح. وقيل قبله في زمان سليمان بن داود وحيرم صاحب صور. والسبعيني   [1-) ] ثماني ر خمساس ثماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المنقول من اليوناني الى السرياني بعد ظهور المخلص بزمان طويل. وفي هذا الزمان كان طيموخاريس الحكيم الرياضي. وكان عالما بهيئة الفلك وصناعة آلات الارصاد. وقد ذكر بطلميوس الحكيم في المجسطي ان وقته كان متقدما لوقته بأربع مائة وعشرين سنة. (بطلميوس اورغاطيس) اي الصانع [1] ملك ستا وعشرين سنة. وفي زمانه بنيت قرقيسياء [2] وقالونيقوس وهي الرقّة. وحونيا رئيس كهنة اليهود منع الجزية التي كان يعطيها لملوك مصر. فغضب اورغاطيس وهم باستئصال اليهود. فأرسل اليه يوسيفوس الحكيم العبري وهادنه فتهادنت [3] امور اليهود. (بطلميوس فيليفاطور) اي محب أبيه. ملك سبع عشرة سنة واضطهد اليهود. وفي آخر ولايته قهره انطيوخس الكبير صاحب الشام. وهذا ايضا اعتسف اليهود وعنف عليهم وجرت الوقائع المذكورة في القصة الاولى من كتاب المقبانيين. (بطلميوس افيفانوس) اي المظهر [4] . ملك احدى وعشرين سنة وأرسل جيشا مع اسقافوس [5] قائده الى بلد يهوذا والشام. فحاربه انطيوخس الكبير وانتصر عليه وهزمه واستولى على مدن كثيرة كانت للمصريين. وحينئذ أخلص له اليهود في الطاعة فأحسن إليهم ورصف الحجارة في الطرق المؤدية الى انطاكية وعقد القناطر على اكثر انهار الشام. وفي سنة احدى عشرة من ملك هذا انطيوخس قهره الافرنج وكان يعطيهم الجزية كل سنة ألف قنطار ذهبا وسلم إليهم ولده رهينة. وصالح ايضا بطلميوس افيفانوس وتزوج ابنته قلاوفطرا. ثم مات وقام بعده ابنه المسمى باسمه انطيوخس وهو الصغير الملقب بأفيفانوس وهو لقب صاحب مصر. هذا وردّ البيت المقدس ونجس الهيكل بنصبه صنم زاوس وهو المشتري فيه. وألزم اليعازر الكاهن ان يضحّي للضم الاضحية. ولأنه ابى أماته بالعقاب. ثم سعي اليه بامرأة اسمها اشموني [6] مع سبعة بنيها انهم يسبّون الأصنام.   [1-) ] أي المحسن. [2-) ] ان مدينة قرقيسياء ليست كما زعم بعضهم مدينة كركميش القديمة التي ورد ذكرها في محاربة بختنصر لملك مصر نكو (راجع سفر الاخبار الثاني ص 35 ع 20) . [3-) ] هادنه فتهادنت ر هاونه فتهاونت. [4-) ] يعني الشهير الشريف. [5-) ] اسقافوس ر اسفانس س [؟] اسقافوس. [6-) ] اشموني ر شموني س [؟] شموني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فأحضرهم بين يديه وأمر بقطع لسان الاول وأطراف جميع أعضائه والقائه في الطاجن [1] وسلخ جلدة رأس الثاني. وكذلك أمات الباقين وبعدهم أمهم بأنواع العذاب. ودفنوا في أورشليم. ثم بعد مجيء المخلص نقل مؤمنو النصارى أجسادهم الى مدينة انطاكية وبنوا عليهم كنيسة. (بطلميوس فيلوميطور) اي محب أمّه. ملك خمسا وثلثين سنة. وفي السنة السادسة عشرة من ملكه مات انطيوخس الصغير غازيا بالفرس. وملك بعده انطيوخس اوفاطور سنتين واضطهد اليهود اضطهادا شديدا. وولي امر اليهود يهوذا المقبي وجمع بين الملك والكهنوت ونفى نوّاب انطيوخس من ارض يهوذا وطهّر الهيكل وصار اليهود يحاربون ملوك الروم. وفي هذا الزمان بنى حونيا رئيس كهنة اليهود هيكلا بأرض مصر كالذي باورشليم. وبعد اوفاطور ولي الشام ديميطريوس سوطير وهو ابن سلوقوس. وملك اثنتي عشرة سنة ثم قتله الإسكندروس وقام بعده عشر سنين وأطاعه فيلوميطور صاحب مصر وزوجه ابنته قلاوفطرا. وتمّت نبوءة دانيال حيث قال: ابنة ملك التيمن تعطى لملك الجربياء. وقيل بالأخرى التي تزوجها انطيوخس الكبير تمّت هذه النبوءة. (بطلميوس اورغاطيس الثاني) ويعرف بابن الهشيم [2] . ملك تسعا وعشرين سنة. وفي السنة الثالثة من ملكه مات الإسكندروس. وولي الشام بعده ديميطريوس الثاني ثلث سنين ثم خلع وولي مكانه انطيوخس سيذيطوس سبع سنين ومات. وعاد ديميطريوس الى الملك اربع سنين. ثم مات وقام بعده انطيوخس اغريباس اثنتي عشرة سنة وحاصر أورشليم في ولاية هورقانس الملك الكاهن. ولأنه ضيّق عليها فتح هرقانوس قبر داود النبي ووجد فيه ثلثة آلاف قنطار من الذهب كان قد خزنها القدماء هناك. فأعطى منها ثلاثمائة قنطار لأغريباس فرحل عنه. وفي هذا الزمان اخرب هورقانس مدينة شمرين وهي نابلس [3] وعصى جماعة من العبيد بجزيرة سقليا فحوصروا في بعض مدنها حتى أكل بعضهم بعضا. (بطلميوس فيسقوس) ويسمّى ايضا سوطير. ملك سبع عشرة سنة. وفي السنة   [1-) ] الطاجن ر الطنجل س [؟] طنجن. [2-) ] الهشيم س [؟] . ومعناه الهشيم. [3-) ] ان المدينة التي بنيت في موضع شمرين هي سبسطية جدد بناءها هيرودوس لما وهبه إياها اوغسطوس ولقبها باليونانية سبسطية إيماء الى معنى اسم اوغسطوس باللاتيني وهو المجل. اما نابلس ومعناها المدينة الجديدة فهي شكيم القديمة وهي على ساعتين عن سبسطية. وانما لقبها بهذا اللقب الجديد وسبسيانوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الرابعة من ملكه ولي الشام انطيوخس قوزيقوس ثماني عشرة سنة. وفي السنة الحادية عشرة من ملك سوطير مات هورقانس ملك اليهود. وقام بعده اريسطابولس بن يونثان سنة واحدة متتوّجا. ثم اغتاله اخوه انطيغونيس واغتيل من يوحنا أخيه الآخر الذي وسمّي الإسكندر وولي سبعا وعشرين سنة وكان ذا بأس. واما بطلميوس فيسقوس فعزلته أمه قلاوفطرا وفرّ منها الى جزيرة قبرس. وفي هذا الزمان اشتهر ديسقوريدوس وهو حكيم فاضل حشائشيّ من اهل مدينة عين زربة. قال جالينوس: تصفحت اربعة عشر مصحفا في الادوية المفردة لأقوام شتى فما رأيت فيها أتم من كتاب ديسقوريدوس. ويحيى النحوي الاسكندري يمدحه في كتابه في التاريخ ويقول: تقدمة [1] الأنفس صاحب النفس الزكية النافع للناس المنفعة الجليلة المنعوت المنصوب السائح في البلاد المقتبس العلوم والادوية المفردة من البراري والجزائر والبحار والمصوّر لها. وقد جاء في كتاب المجسنطي ان بين رصدي ايبرخس وبطلميوس للاستواء الربيعي مائتين وخمسا وثمانين سنة. وهذا يدل على انه كان معاصرا لديسقوريدوس. وفاق المتقدمين والمتأخرين وعلاهم بعلم الارصاد. ومن كتبه أخذ بطلميوس القلوذي وعلى ارصاده بنى. ولم يصل إلينا من كتبه سوى كتاب واحد في اسرار الكواكب ومنه يعرف تجدّد الممالك في العالم. (بطلميوس الاكسندروس) هواخو فيسقوس الفارّ الى قبرس. ملك عشر سنين. وفي السنة الرابعة من ملكه ظفر بقوزيقوس ملك الشام وأحرقه بالنار حيّا وولي في الشام سنة واحدة. ثم قام بالشام ملكا فيليفوس سنتين ورذلته الرعية بسبب اعانته على هلاك قوزيقوس. ودخل الشاميون في طاعة ملوك رومية قبل ان يسّموا قياصرة ولم يدخلوا في طاعة البطالسة نفورا منهم بما فعلوا بملكهم قوزيقوس. (بطلميوس فيسقوس) هو المسمّى سوطير هذا عاد من قبرس الى مصر ونازع أخاه الإسكندروس فاعتقله وملك بعده ثماني سنين اخرى. ثم مات وأقيم بعده ذيانوسيوس ابنه. (بطلميوس ذيانوسيوس) ملك ثلثين سنة. وفي سنة خمس من ملكه مات يوحنا الإسكندر ملك اليهود وخلف ولدين هورقانس واريسطابولوس مسمّيين باسمي عمّيهما.   [1-) ] تقدمة ر تفدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وكانت أمهما سيلينا اي القمر ذات سطو. فنصبت هورقانس ابنها رئيس الكهنة واريسطابولوس ابنها الآخر ملكا. وبعد قليل جلاه بومبيوس قائد جيش قيصر الى رومية واستقام هورقانس اخوه ملكا لليهود أربعا وثلثين سنة. (قلاوفطرا) ابنة ذيانوسيوس ملكت اثنتين وعشرين سنة. وفي سنة ثلث من ملكها ولي رومية الكبرى غابيوس [1] الملقب يوليوس وهو أول من دعي قيصرا وتأويله السليل. وانما سمّي بذلك لان أمّه وهي حامل به ماتت حين ولدت فشقّوا احشاءها وسلّوه منها. ثم صار هذا الاسم نبزا لكل من ولي رومية. وسمّي شهر تمّوز يوليوس باسمه وكان يسمّى أولا قنطاليس [2] . وبعد اربع سنين مات. وقام بعده اغوسطس قيصر ستا [3] وخمسين سنة. وفي سنة ست من ملك اغوسطس سبي هورقانس ملك اليهود الى فارس ووليهم هيروذيس بن انطيفطروس العسقلانيّ من قبل قيصر وهدم سوري أورشليم واحتجز على تركة الكهنوت ولم يترك أحدا يتولى رئاسة الكهنة الا سنة واحدة. وفي السنة الثالثة عشرة من ملك اغوسطس تمرد عليه انطونيوس قائد جيشه وانهزم منه الى مصر بسبب عشقه فلاوفطرا الملكة. فسار نحوه اغوسطس وأسر ولدي قلاوفطرا المسمى أحدهما شمسا والآخر قمرا وقتلهما. ولما سمع انطونيوس وقلاوفطرا بقتل الولدين وكانا محاصرين في بعض الحصون شربا سمّا وماتا. وكان في آخر مملكة البطالسة فطون [4] الفيلسوف ذو يد باسطة في نوعي العدد والمساحة وله كتاب في الحساب الى قلاوفطرا الملكة. وقلاوفطرا هذه كانت حكيمة تصنف الكتب في انواع الحكمة ولها القانون المنسوب إليها المختصر وهو قانون مبسوط سهل قريب المأخذ ويقال انه من تصانيف فطون لها ونحلها إياه فادّعته. والله اعلم.   [1-) ] غايبوس س [؟] غايوس. [2-) ] اي الخامس. [3-) ] ستا س سبعا. [4-) ] فطون ر قوطون وفوطون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الدولة السابعة المنتقلة من اليونانيّين الوثنيّين إلى ملوك الإفرنج الروم هم الافرنج بلادهم مجاورة لبلاد اليونانيين ولغتهم مخالفة للغتهم. فلغة اليونانيين الاطيقية ولغة الروم اللاطينية. وحدّ بلاد الروم من جهة الجنوب البحر الرومي الممتدّ طولا في المغرب الى المشرق ما بين طنجة الى الشام. وحدها من جهة الشمال بعض ممالك الأمم الشمالية من الروس وغيرها. وحدّها من جهة المشرق تخوم بلاد اليونانيين. وحدها من جهة المغرب الى أقصى الأندلس البحر المغربي المحيط المعروف باوقيانوس. وهذه المملكة ثلث قطع أولها من جهة المشرق بلاد الامانيّة [1] ثم وسطها بلاد افرنسة ثم آخرها بلاد الأندلس. وقاعدة هذه المملكة كلها كانت مدينة رومية العظمى من بلاد الامانيّة الى ان تغلّب اغوسطس أول القياصرة على ملوك اليونانيين وأضاف الى مملكتهم مملكته فصارت مملكة واحدة روميّة عظيمة الشأن كما فعلت الفرس بمملكة الكلدانيين حتى استولت عليها وصيّرت المملكتين مملكة واحدة فارسية. وصارت رومية قاعدة هاتين المملكتين الى ان قام قسطنطينوس بن هيلاني بدين المسيح ورفض دين الصابئة وبنى مدينة بوزنطيا وعظّمها وسماها باسمه القسطنطينية واستوطنها فصارت حينئذ قاعدة ملك الروم الى سنة ألف ومائتين واثنتين وستين للإسكندر حتى قوي العامل على رومية وكثرت جموعه فلبس التاج وسمي ملكا بكافة ملك قسطنطينية ورضي بسلمه وتميّزت   [1-) ] الامانية واللاتيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 مذ ذاك مملكة اللاطينيين من مملكة الاطيقيين من جهة مغاربها. وبعدت أعمالهم من اعمال رومية بمن توسط بينهما من فرق الترك المخيّمة هنالك والمخربة لكثير من عمائرها. فلا يصل احد اليوم من القسطنطينية الى رومية الا في البحر. وكان للروم بمدينة رومية وغيرها علماء بأنواع الفلسفة الا ان لليونانيين من المزية في ذلك والفضل ما لا ينكره الروميون ولا سواهم. (اغوسطس قيصر) ملك ستا وخمسين سنة. وباسمه سمي شهر آب اغوسطس وكان يسمى أولا سجاسطيلوس [1] . وفي أيامه جدّد هيروذيس مدينة نابلس [2] وعظم قصر اسطراطون وسمّاهما قيصرية [3] وهي [4] المعروفة بفيليبوس. وبنى ايضا مدينة جبلة. وفي السنة الثالثة والأربعين من ملك اغوسطس قيصر وهي سنة تسع وثلاثمائة [5] من تأريخ الإسكندر ولد السيد المسيح من مريم العذراء ليلة الثلثاء في الخامس والعشرين من كانون الاول. وفي تلك السنة كان قد أرسل قيصر الملك قورينوس القاضي مع اصحاب الجزية الى أورشليم. فصعد يوسف خطيب مريم من الناصرة مدينته الى أورشليم ليثبت اسمه. وعند موافاتهم قرية بيت لحم ولدت مريم. وأتى المجوس بألطافهم من المشرق فأهدوها الى المسيح وهي ذهب ومر ولبان. وكانوا قد مروا أولا بهيروذيس وسألهم عن أمرهم. فقالوا له: ان عظيما كان لنا وهو قد أنبأنا بكتاب وضعه ذاكرا فيه: سيولد في فلسطين مولود أصله من السماء ويتعبد له اكثر العالم. وآية ظهوره انكم ترون نجما غريبا وهو يهديكم الى حيث هو. فإذا رأيتموه فاحملوا ذهبا ومرّا ولبانا وانطلقوا اليه وألطفوه بها واسجدوا له وانصرفوا لئلّا ينالكم بلاء عظيم. والآن قد ظهر لنا النجم وأتينا لنتمّ ما أمرنا به. فقال لهم هيروذيس: قد أصبتم الرأي فانطلقوا وابحثوا عن الصبي نعمّا. فإذا وجدتموه فأعلموني لأنطلق انا ايضا فأسجد له. فمضوا ولم يعودوا اليه. فغضب غضبا   [1-) ] اي السادس. [2-) ] والصواب بانياس. [3-) ] وسماها قيصرية إلخ. ان هذه العبارة غامضة يتضح معناها من التاريخ السرياني حيث يروى: ان هيرودس جدد مدينة سمرية وسماها سبسطية إكراما لأوغسطوس الملقب سبسطس وجدد قصر اسطراطون وسماه قيصرية. [4-) ] يريد بانياس. [5-) ] في الحساب الشائع المشهور ان ولادة السيد له المجد كانت في السنة الحادية عشرة والثلاثمائة من تاريخ الإسكندر. ابن العبري- 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 شديدا وأمر بذبح جميع أطفال بيت لحم من ابن سنتين وما دون لعدم علمه بوقت ولادة المخلّص. وكانت مريم يومئذ ابنة ثلث عشرة سنة وعمّرت احدى وخمسين سنة. وكتب اوتغنيوس [1] الفيلسوف الى قيصر يعلمه عن مجيء المجوس قائلا في رسالته: ان فرس المشرق دخلوا سلطانك وقرّبوا القرابين لصبح ولد بأرض يهوذا. فأمّا من هو وابن من هو فلم يبلغنا بعد. فأجابه قيصر: ان هيروذيس عاملنا على اليهود هو يعلمنا ما أمر هذا المولود وقضيته. وكتب قيصر الى هيروذيس يستعمله الخبر. فكتب اليه وعرفه قول المجوس له وانه ذبح أطفال بيت لحم أجمعين ليكون قد اتى على نفس الصبي معهم. وفي تلك الليلة التي أتت المجوس هرب يوسف مع مريم والمولود الى مصر ولبثوا بها سنتين. ولما بلغهم موت هيروذيس عادوا الى الناصرة مدينتهم. وقبل ان يموت هيروذيس قتل امرأته مريم التي كانت ابنة يوحنا الإسكندر ملك اليهود وأخاها [2] وأمها وبالجملة كل من وجد من نسل الملوك. ثم حدث له استسقاء زقّي ونقرس شديد وبقي في عذاب أليم مدة سنتين ثم مات. وولي مكانه ارخيلاوس ابنه تسع سنين. ثم اعتقله اغوسطس وجعل ملك اليهود أرباعا وولّى في الثلاثة الارباع ثلثة من اخوة ارخيلاوس وهم هيروذيس وانطيفطرس وفيليفوس. وفي الربع الرابع لوسانيا. (طيباريوس قيصر) ملك اثنتين [3] وعشرين سنة. وفي السنة الاولى من ملكه عرضت زلزلة عظيمة وسقط فيها مواضع كثيرة ومات خلق من الناس والمواشي. وفي السنة السابعة بنى هيروذيس بن هيروذيس مدينة طبريّة على اسم طيباريوس الملك. وفي السنة الرابعة عشرة ولي فيلاطوس القضاء على اليهود ونصب تمثال قيصر في الهيكل واضطرب لذلك اليهود. وبعد ثلث سنين اعتمد المسيح من يوحنا بن زكريا يوم الأربعاء وقيل: يوم الأحد لستّ خلون من كانون الاخيرة. وكان ابن ثلثين سنة. ومن هاهنا بدأ بإظهار الآيات الباهرة وافشاء سر ملكوت الله والحث على العمل بسنّة الفضيلة فضلا عن سنّة العدالة. وفي السنة التاسعة عشرة من ملك طيباريوس وهي سنة ثلاثمائة واثنتين وأربعين من تاريخ الإسكندر أرسل ابجر ملك الرها فيجا اسمه حنان الى المسيح بكتاب يقول فيه: من ابجر الأسود الى ايشوع المتطبب الظاهر باورشليم. امّا بعد فانه بلغني   [1-) ] اوتغنيوس ر لونغنيوس س [؟] لونغينوس. [2-) ] ويروى: أختها. والذي نعلمه من التاريخ انه قتل أولا هورقانس جد مريم ثم امرأته مريم ثم ابنيها إسكندر وارسطابولوس ثم ابنه الكبير انطيبطر. [3-) ] اثنتين س ثلث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 عنك وعن طبّك الروحاني وانّك تبرئ الأسقام من غير ادوية فحدست انك امّا إلاه نزلت من السماء او ابن الإله. فأنا اسألك ان تصير اليّ لعلّك تشفي ما بي من السقم. وقد بلغني ان اليهود يرومون قتلك. ولي مدينة واحدة نزهة وهي تكفيني وإياك نسكن فيها في هدو. والسلام. فأجابه المسيح بكتاب قائلا: طوباك انك آمنت بي ولم ترني. واما ما سألتني من المصير إليك فانه يجب ان أتمم ما أرسلت له واصعد الى ابي. ثم أرسل إليك تلميذا لي يبرئ سقمك ويمنحك ومن معك حياة الأبد. فلما أخذ حنان الجواب من المسيح جعل ينظر اليه ويصوّر صورته في منديل لأنه كان مصورا وأتى به الى الرها ودفعه الى ابجر الأسود. وقيل ان المسيح تمندل بذلك المنديل ماسحا به وجهه فانتقشت فيه صورته. وبعد صعود المسيح الى السماء أرسل ادي السلّيح احد الاثنين والسبعين الى الرها وابرأه من سقامه. وفي هذه السنة تمّت الاربعمائة والتسعون سنة التي اوحى الله الى دانيال النبي ان سبعين أسبوعا تطمئنّ أمّتك ثم يأتي الملك المسيح ويقتل. وهذا إذا ابتدأنا بتعديدها من آخر سنة عشرين لملك ارطحششت الطويل اليدين وهي السنة التي أرسل فيها نحميا الساقي الى أورشليم وجدّد العهد بتقريب القرابين وكتب عزرا كتب الوحي. وفي هذه السنة اعني التاسعة عشرة من ملك طيباريوس قيصر صلب المسيح يوم الجمعة في الثالث والعشرين [1] من آذار وكان فصح اليهود يوم السبت وانما أكله المسيح مع تلاميذه ليلة الجمعة لتعذر. إتمامه في وقته بسبب صلبه نهار الجمعة. وكان الصعود يوم الخميس لثلث خلون من أيار. وصار الفنطيقوسطي يوم الأحد لثلث عشرة ليلة خلت من أيار. وفي هذا اليوم سمع كهنة اليهود من داخل الهيكل صوت هاتف يهتف بهم قائلا: قد أزمعنا على الانتقال من هاهنا. فراعهم ذلك جدا. فمن بدء العالم الى مجيء المسيح بمقتضى التوراة التي بأيدي اليهود اربعة آلاف ومائتان وعشر سنين بالتقريب. وبمقتضى التوراة السبعينية التي بأيدي الروم وسائر فرق النصرانية خلا السريان خمسة آلاف وخمسمائة وست وثمانون سنة بالتقريب. ينقص التاريخ الاول من الثاني ألف وثلاثمائة وخمس [2] وسبعون سنة. وهذا النقص منسوب الى أحبار اليهود لأن البشارة بالمسيح قد تقدمت في التوراة والأنبياء انه يبعث في آخر الأزمان   [1-) ] الثالث والعشرين ر ثالث عشر. [2-) ] خمس ر ست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ولم يكن لمن سلف من رباني اليهود حيلة في دفع مجيء المسيح غير ان يبدلوا أعمار الآدميّين التي منها يوقف على تاريخ العالم فنقصوا من عمر آدم الى ان ولد شيث مائة سنة وزادوها في باقي عمره. وكذلك عملوا في أعمار باقي ولد آدم الى ابراهيم. فصار تاريخهم يدل على ان المسيح ظهر في الالف الخامس وهذا قريب من توسط سني العالم التي هي جميعها عندهم سبعة آلاف سنة. فقالوا: نحن بعد في توسط الزمان فلم يحن حين مجيء المسيح. واما التاريخ السبعيني فيدل على ان المسيح ظهر في الالف السادس فيكون قد حان حينه. (غاييوس قيصر) ملك اربع سنين. وفي السنة الاولى من ملكه ولي هيروذيس اغريباس على اليهود سبع سنين. وفي هذه السنة قتل فنطيوس فيلاطوس نفسه وأرسل فيليكوس [1] قاضيا الى أورشليم وملأ محاريب اليهود أصناما. فأرسلوا رسولين حكيمين هما فيلون ويوسيفوس العبريان الى قيصر يتضوّرون من صنيع الناظر. فمضيا واستعطفاه متقدما بازالة ما كره اليهود عنهم. وفي السنة الرابعة ورد فطرونيوس الناظر من رومة الى أورشليم ونصب صورة زاوس اي المشتري في هيكل الرب. وتمّت نبوءة دانيال النبي الذي قال: علامة نجسة قائمة حيث لا ينبغي. (قلوذيوس قيصر) ملك خمس عشرة [2] سنة. وفي السنة الثانية من ملكه ظهر رجل مصري بأرض يهوذا وادعى النبوءة وأفسد خلقا [3] من الناس وأراد ان يكبس أورشليم قهرا. فتوجه اليه فيليكوس [1] البطريق فقتله وقتل عامة اتباعه. وظهر ايضا رجل يسمى قورينثوس وكان يقول: ان في ملكوت الله أكلا وشربا ونكاحا. وفي هذا الزمان امر قلوذيوس قيصر بإحصاء اليهود الذين في سلطانه. فبلغ عددهم ستمائة وأربعا وتسعين ربوة واربعة آلاف نفس. وفي يوم عيد الفصح وقع اليهود في الخلّيطى وضغط الناس بعضهم بعضا فمات في الزحام ثلثون ألف نفس. وكان اليهود متفرقين على سبع فرق. الاولى: الربّانيون وهم كتاب الناموس ومعلّموه. والثانية: اللاويّون الذين لم يفارقوا خدمة الهيكل.   [1-) ] فيليكوس ص فيليكس س [؟] . [2-) ] خمس عشرة س أربع عشرة. [3-) ] خلقا ر عقول خلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 والثالثة: المعتزلة الذين يؤمنون بقيامة الموتى ويقولون بوجود الملائكة ويصومون يومين في الأسبوع. والرابعة: الزنادقة الذين يجحدون القيامة والملائكة. والخامسة: المغتسلون الذين يقولون لا يثاب احد ان لم يغتسل كل يوم. والسادسة: النسّاك الذين لا يأكلون شيئا فيه روح. والسابعة: السمرة الذين لا يقبلون من الكتب الّا التوراة وهي المجسّمة [1] . (نارون قيصر) ملك اربع عشرة سنة. وفي السنة الثالثة عشرة من ملكه اضطهد الناصري وضرب عنق فطروس وبولوس وصليهما منعكسين [2] . وعصى اليهود عليه فغزاهم اسفسيانوس القائد مع جيوش كثيرة وحاصر أورشليم زمانا طويلا. فلما دنا من فتحها أتاه الخبر بموت نارون وانه اعتراه جنون في مرضه وقتل نفسه وابنه وزوجته. فنصب اسفسيانوس ابنه طيطوس مكانه في محاربة اليهود ونهض ارجعا الى رومية وغزا الاسكندرية وفتحها وركب في البحر وسار الى رومية وملكها. (اسفسيانوس قيصر) ملك عشر سنين. وهو بنى قوقلس اي منارة الاسكندرية وطولها مائة وخمس وعشرون خطوة. وفي السنة الثانية من ملكه افتتح طيطوس ابنه مدينة أورشليم وقتل فيها زهاء ستين ألف نفس وسبى نيفا ومائة ألف نفس. ومات فيها من الجوع خلق كثير [3] والباقون تشتتوا في البلاد. ودعثرها وأخرب [4] هيكلها. وتمّت نبوءة يعقوب حيث قال: لن تفقد هراوة الملك من يهوذا ولا المنذر اي النبي من ذريته حتى يأتي من له الغلبة وإياه تتوقع الشعوب. وتم ايضا ما انذر به المخلص مخاطبا لاورشليم: انه سيأتي ايام تحيط بك اعداؤك ويكبسونك وبنيك فيك. وكان ذلك بعد أربعين سنة من صلب المسيح. وذكر يوسيفوس العبري انه ظهر قبل خراب أورشليم علامات فظيعة. وذلك انه ظهر فوق المدينة نجم طويل كسيف [5] من نار يلمع. وفي عيد الفصح   [1-) ] اي القائلون بان الله ذو جسم. [2-) ] منعكسين ر منكسين.- ان بولس لم يصلب بل قطع رأسه بالسيف لأنه كان وطنيا رومانيا. وهذا ما سطره المؤلف في تاريخه البيعي « [؟] » . وهذا تأويله: قطع رأس بولس بالسيف واما بطرس فصلب منكسا كما سأل. [3-) ] كثير. في هامش احدى نسختي اكسفرد يروى مائة وعشر ربوات. [4-) ] واخرب ر واحرق س احترق. [5-) ] كسيف ر كثيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 جاءوا ببقرة الذبيحة فولدت حملا في وسط الهيكل. وأبواب النحاس التي كانت على باب الهيكل ولم تكن تغلق وتفتح دون اجتماع عشرين رجلا وجدت نصف الليل مفتوحة من غير علة. وكانوا عامة السنة يسمعون في الهيكل أصواتا مختلفة تقول: انّا سننتقل من هاهنا. (طيطوس قيصر) ملك سنتين. وفي السنة الثانية لملكه انشق جبل بالروم وخرج منه شهب نار أحرقت مدنا كثيرة. ووقع برومية حريق كثير. وخطب بعض الخطباء ذات يوم خطبة في حفل من الناس وفي جملة الانباز التي نبزها طيطوس اشتق له اسما [1] من اسماء الله تعالى. ولأنه سر بذلك فجأه الموت فجأة. (ذوميطيانوس قيصر) ملك ستّ عشرة سنة. ونفى من رومية المنجمين واصحاب الزجر والفأل والعيافة والطيرة. وأمر ان لا يغرس برومية كرم البتة. وفي السنة التاسعة لملكه اضطهد النصارى اضطهادا شديدا ومع هذا كان الناس يدخلون في دين المسيح أفواجا ويتمسكون به تمسكا أشد. فقال فطروفيلس المحصل لارسنيوس الحكيم معلمه ما الذي الجأ ديونوسيوس [2] رئيس حكماء اثيناس وافريقيانوس الاسكندري ومرطيانوس الباذوي الى ان يسجدوا لرجل مصلوب. فأجابه قائلا: ان آلهة السماء اقتضوا هذا. فاستنار واختار اتّباع النصارى بالسيرة الحسنة وترك الدنيا وملاذّها يفيدهم الأيد بالقول والعمل. وفي هذا الزمان عرف افولونيوس الطلسماطيقي وكان يضادّ التلاميذ بأفاعيله المخالفة لأفاعيل المسيح ويقول: الويل لي ان سبقني ابن مريم. وهذا الملك نفى يوحنا الانجيلي الى بعض الجزائر. وكتب اليه دينوسيوس اسقف اثيناس كتابا يقول فيه: لا يعترينّك الضجر والملل فانه لا يطول سجنك فالمسيح يعمل لك الخلاص فألهم نفسك بالصبر. وبعد قليل قتل دوميطيانوس قيصر على بساطه في مجلسه. (نارون [3] قيصر الصغير) ملك سنة واحدة. وأمر ان يردّ المنفيون. ورجّع يوحنا الانجيلي الى مدينة أفسوس بعد ست سنين لنفيه. ثم جذم نارون ومات في بستان خارج رومية.   [1-) ] اسما ر لقبا. [2-) ] ديونوسيوس ر ثاوذوسيوس س ثاودوروس [؟] . [3-) ] نارون ر ناران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 (طريانوس قيصر) ملك تسع عشرة سنة. وفي السنة العاشرة لملكه اضطهد النصارى. واستشهد شمعون بن قليوفا اسقف أورشليم ويوحنا السلّيح وايغناطيوس النوراني [1] اسقف انطاكية رمي للسباع فافترسته. وفيلنيوس صاحب الشرط لما عجز من قتل النصارى لكثرتهم طالع قيصر ان اهل هذا المذهب عاملون بجميع سنن الفلاسفة غير انهم لا يكرمون الأصنام. فأمر قيصر ان لا يجدّ في اذاهم الا إذا وجد منهم من يتفوه بسب الآلهة فليدن. وفي آخر سنة من ملكه عصت اليهود الذين بجزيرة قبرس والشام والحبشة. ويهود مصر ايضا نصبوا لهم ملكا اسمه لومينوس [2] . فجيّش وتوجه الى فلسطين. فطلبته جيوش الروم وقتلته مع ربوات من اليهود في كل مكان. وفي هذا الزمان ظهر بأنطاكية رجل اسمه سوطرنينوس [3] وكان يقول: ان سبعة من الملائكة خلقوا العالم وإياهم عنى الله بقوله هلموا نخلق إنسانا بشبهنا وصورتنا. وقال: ان التزويج وهيئته أعضاء البضاع للرجل والنساء من فعل الشيطان ولهذا يستقبح الناس كشفها. وظهر ايضا بسيليذيس القائل بإكرام الحية وتعظيمها لأنها المشيرة على حواء بالمجامعة ولولاها لما تناسل الناس. وظهر ايضا رجل اسمه قورنثوس [4] وكان يقول: ان العالم خلق الملائكة وان المسيح ولد من المباضعة. وقيل: ان بيعة الله الى هذه الغاية التي ظهر فيها هؤلاء المخالفون كانت عذراء من مثل هذه العلوم الشيطانية وخرافات البدع. (اذريانس قيصر) ملك احدى وعشرين سنة. وفي أول سنة من ملكه اطلق الديون وأمر المديونين ان لا يقضوا مما عليهم شيئا البتة وأطلق للناس الاخاريج والاتاوى الديوانية ايضا. وفي السنة الرابعة بطل الملك من الرها وولي أمرها القضاة من قبل الروم. وأمر اذريانس ببناء مدرسة بمدينة اثيناس ورتب فيها قوما من الحكماء وحمل إليهم نواميس سولون وذراقون ومن هنالك فاضت الحكيم في اثيناس. وفي هذه السنة ظهر باورشليم رجل يقال له ابن الكوكب وأضل اليهود مدعيا انه نزل من السماء كالكواكب ليخلصهم من عبودية الروم. فتبعه خلق كثير منهم. وبلغ الخبر الى اذريانس فوجّه اليه جيوشا فقتلوه وغزوا أورشليم واهلكوا اليهود وخربوا أورشليم   [1-) ] لقّب السريان هذا القديس بالنوراني اشارة لمعنى اسمه اللاتيني ايغناطيوس. [2-) ] لومينوس ر لويقس او لوسقس س لومفيس [؟] . [3-) ] سوطرنينوس ر سوطرنيوس او سوطرينوس. [4-) ] قد مر ذكر قورنثوس في الصفحة 68 ولا ريب في ان المؤلف أراد هنا ذكر قربوقراطس لان المذهب المذكور هو مذهبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 غاية الخراب وبنوا قريبا منها مدينة سموها هيليا اذريانس وأسكنوها قوما غرباء. وأمر اذريانس بصرم آذان الذين تخلفوا من اليهود وسنّ لهم سنّة ان لا ينظروا الى أورشليم ولا من بعيد. (طيطوس انطونيانس قيصر) المسمى اوسابيوس ويسمى ايضا بارّا وأب البلد. ملك اثنتين وعشرين سنة وأزال عن النصارى الاضطهاد وأباح للناس ان يتديّنوا بأيّ دين شاءوا. وفي هذا الزمان نبغ في البيعة من المخالفين شخص اسمه ولنطيانوس وكان يقول: ان المسيح انزل معه جسدا من السماء واجتازه بمريم كاجتياز الماء بالميزاب اي لم يأخذ منها شيئا. وظهر ايضا رجل يسمى مرقيون وقال: ان الآلهة ثلثة عادل وصالح وشرير وان العادل اظهر أفاعيله في الشرير وهو الهيولي فخلق منها العالم. ولما رأى الصالح العالم قد انجذب الى جهة الشرير أرسل ابنه ليدعو الناس الى عبادة أبيه الصالح. فأتي ونسخ التوراة المتضمّنة سنّة العدل بالإنجيل الذي هو متضمن سنّة الفضل. فهيج العادل عباده عليه فأمكنهم من نفسه حتى قتلوه وبقيامته من بين الأموات سبى الناس واصارهم الى عبادة أبيه. فلما اظهر مرقيون هذه الخزعبلة وعظته الاساقفة زمانا طويلا فلم يرجع عن خزعبلته وتمادى في اباطيله فنفوه الجماعة [1] وصار لعنة. وفي هذا الزمان اشتهر جالينوس في الطب ووضع فيه كتبا كثيرة. والموجود في ايدي الناس منها الآن زهاء مائة كتاب. وكان شيخه في الطب طبيبا اسمه اليانوس. وهو الذي توجه الى مدينة انطاكية في السنة التي وقع الموتان في أهلها ومعه ترياق الفاروق فمن شرب منه قبل ان يمرض نجا والذين شربوه بعد المرض بعضهم نجا وبعضهم هلك. وكان اصل جالينوس من مدينة برغاموس. وكان اشتغاله في الإسكندرية. والدليل على انه لم يكن في زمان المسيح كما ظن ولكن بعده [2] قوله في المقالة الاولى من كتاب التشريح انه صنفه في مبدإ ملك انطونيانس في أول مرة صعد الى رومية. فمن صعود المسيح الى هذه الغاية ما ينيف على مائة سنة. وقال ايضا في شرحه لكتاب أفلاطون في الأخلاق وهو المسمى فادن: ان هؤلاء القوم الذين يسّمون نصارى تراهم قد بنوا مذهبهم على الرموز والمعجزات وليسوا بأقل من الفلاسفة الحقيقيين بأعمالهم. يحبون العفة   [1-) ] الجماعة وعن الجماعة. [2-) ] كان مولد جالينوس سنة 131 مسيحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ويدمنون [1] الصوم والصلاة ويجتنبون المظالم. وفيهم أناس لا يدنّسون بالنساء. أقول: يريد بالرموز الأمثال المضروبة لملكوت السماء في الإنجيل الطاهر. ومات جالينوس بجزيرة سيقيليا وقد بلغ من العمر ثمانيا وثمانين سنة. وقد دلت التواريخ ان بطلميوس القلوذي الرياضي كان في هذا الوقت. وهو أول من سطح الكرة واخترع خط الأسطرلاب الذي [2] بأيدي الناس. وكتبه المشهورة في زماننا اربعة: الكتاب الكبير المسمى سونطاكسيس وهو المجسطي. وكتاب جاوغرافيا في صورة الأرض وأطوال وعروض البلدان. وكتاب الأربع مقالات في احكام النجوم. وكتاب الثمرة منها ايضا. ومن ورود ذكر ثاون الرياضي الاسكندري [3] في المجسطي وذكر بطلميوس في القانون يستدل على انهما كانا متعاصرين. ولثاون من الكتب الزيج المسمى. بالقانون. وكتاب ذات الحلق وهي الآلة التي بها ترصد حركات الكواكب. وكتاب الأسطرلاب وكتاب المدخل الى المجسطي. وممن اشتهر عند الناس فضيلته في هذا الزمان الإسكندر الافروديسي شارح كتب أرسطاطاليس المنطقية والحكمية. وقد جرى بينه وبين جالينوس محاورات عديدة. وكان يسمى جالينوس رأس البغل لقوة رأسه في البحث. (مرقوس اورليوس قيصر) ملك تسع عشرة سنة وأشرك معه في الملك ولديه انطونيانس ولوقيوس. وفي أول ملكهم ولكش ملك الأرمن اخرب بلادا كثيرة من اعمال اليونانيين فغزاهم ابنا مرقوس قيصر وانتصرا عليهم وأطاعوهما. وغزا ايضا لوقيوس الصقالبة والترك وقهرهم. ولذلك يسمى اوطوقراطور اي ضابط الكل. ومات بعد تسع سنين. وولي مكانه قومذوس ابنه ومات مختنقا. وفي هذا الوقت ظهر رجل اسمه طيطيانوس وكان يقول بوجود عوالم كثيرة كعالمنا هذا. وان التزويج كله زنى وشر. وان بعد الموت اكلا وشربا ونكاحا. وظهر ايضا في بلد آسيا مونطانس القائل عن نفسه انه الفارقليط الذي وعد المسيح ان يوجهه الى العالم.   [1-) ] يدمنون ر يديمون. [2-) ] الاسطراب الذي ر الاسطرلابات التي. [3-) ] الاسكندري ر الاسكندراني. ثاون ر تادن وتاون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وظهر ايضا رجل يسمى ابن ديصان لأنه ولد على نهر ديصان فوق مدينة الرّها. وكان يسمي الشمس اب الحياة والقمر ام الحياة وان في أول كل شهر تخلع ام الحياة النور الذي هو لباسها وتدخل على اب الحياة فيجامعها فتلد أولادا يمدون العالم السفلي بالنمو والزيادة. (فرطيناخس قيصر) ملك ستة أشهر وقتل غيلة في مجلسه. (سوريانس قيصر) ملك ثماني عشرة سنة. وفي السنة الاولى من ملكه ثارت فتنة عظيمة بين اليهود والسمرة فتحاربوا وقتل من الفريقين خلق كثير. ومن السنة التاسعة من ملكه الى آخر عمره اضطهد النصارى اضطهادا شديدا واعتسفهم بالسجود للأصنام والأكل من ذبائحهم. ثم قتل في غزو الصقالبة. (انطونيانس قيصر) ملك سبع [1] سنين وأزال عن النصارى الاضطهاد وغزا ما بين النهرين وقتل بين الرها وحرّان. (ماقرينوس قيصر [2] ملك سنة واحدة. وفي زمانه وقع حريق فظيع في رومية. ووثب عليه غلمانه وقتلوه. (انطونيانس قيصر المعروف باليوغالي) ملك اربع سنين [3] . وفي زمانه بنيت مدينة نيقوبوليس. وهي التي يسميها الكتاب الالهي عماوس [4] . وكان يتولى بنيانها افريقيانوس المؤرخ. (الإسكندروس قيصر) ملك ثلث عشرة سنة. وكان اسم أمّه ماما. هذه آمنت بالمسيح وكان منها معونة كثيرة للمؤمنين. وفي السنة الثالثة من ملك هذا الإسكندروس قيصر وهي سنة خمسمائة واثنتين وأربعين للإسكندر ابتدأت مملكة الفرس الاخيرة المعروفة ببيت ساسان. ودامت اربعمائة وثماني عشرة سنة اعني الى ظهور الإسلام وملكهم. (مكسيميانوس قيصر) ملك ثلث سنين واضطهد النصارى وقتل سرجيس وباخوس الشاهدين وقوفريانوس الأسقف مع جماعة من المؤمنين. (غورديانس [5] قيصر) ملك ست سنين. وغزا بلاد فارس وقتل هناك. وفي هذا   [1-) ] سبع س اربع. [2-) ] ماقرينوس ر مقاريوس. [3-) ] اربع سنين ر سنتين. [4-) ] [؟] . [5-) ] غورديانس ر غوذريانس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الوقت افريقيانوس المؤرخ وضع كتبا كثيرة في الازمنة وسير الملوك والفلاسفة. (فيليبوس قيصر) ملك سبع سنين واحسن الى النصارى ورام الاجتماع مع المؤمنين. فقال له الأسقف: لا يمكنك الدخول الى البيعة حتى تنتهي عن المحارم وتقتصر على زوجة واحدة من غير ذوات القربى. فكان يحضر وقت الصلاة ويقف خارج البيعة مع الذين ألفوا الدين ولم يكملوا فيه بعد. وفي أول سنة من ملك هذا فيليبوس ملك بفارس سابور بن أردشير احدى وثلثين سنة. وفي السنة الثالثة ظهر قوم من اصحاب البدع قائلين: ان من كفر بلسانه وأضمر الايمان بقلبه فليس بكافر. وفي هذا الزمان بدأت اعمال الرهبان على يدي انطونيوس وفولى [1] المصريّين. وهما أول من اظهر لبس الصوف والتخلّي في البراري. (ذوقيوس قيصر) ملك سنة واحدة. ولبغضة فيليبوس قيصر المحسن الى النصارى عاداهم وشدد عليهم جدا. فكفر كثيرون من المؤمنين الى ان قتل فقدموا التوبة. وكان ناباطيس القسيس لا يقبل توبتهم قائلا: انه لا مغفرة لمن اخطأ بعد المعمودية. فوعظه الآباء كثيرا وسألوه الرجوع الى رأي الجمهور. فلم يقبل. فاجتمع عليه ستون اسقفا وأبعدوه عن البيعة وزيفوا تعليمه. وفي زمان ذوقيوس كان الفتية السبعة اصحاب الكهف الذين هربوا منه واختفوا في مغارة فوق الكهف. ورفع خبرهم اليه فأمر ان يسد باب المغارة عليهم. فألقى الله عليهم سباتا الى يوم انبعاثهم من رقادهم. (غالوس قيصر) هذا أشرك معه في الملك رجلا يسمى ولسيانوس [2] وملكا سنتين. ثم قتلا في سوق من أسواق رومية يسمى فلامنيوس [3] . وفي هذا الزمان ظهر في مدينة بوزنطيا قسيس اسمه سابيليوس وقال ان الأقانيم الثلاثة هي الوجود والحكمة والحياة ليست معاني زائدة على ذات الله تعالى بل هي صفات اعتبارية لا مسمى لشيء منها في الخارج إذ الباري تعالى موجود لا بوجود وحكيم لا بحكمة وحيّ لا بحياة. أقول هذا مذهب انبيذوقليس بعينه في الصفات وقد انتحله فرقة من علماء الاسلامية ايضا وهي نفاة الصفات.   [1-) ] فولى ر فولي. [2-) ] لسيانوس ر لوسيانوس ولوسيانس. [3-) ] فلامنيوس ر فلامينوس س فلامينوس [؟] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 (اولارينوس قيصر) ملك تسع سنين وشدد على انصارى وعسفهم جدا. ثم غزاه سابور بن أردشير بن بابك ملك فارس ومصر وأسره في المعركة وحدره الى بابل وسجنه هناك وملك غالوس ابنه مكانه. (غالوس قيصر الثاني) ملك ست سنين وأزال الاضطهاد عن النصارى خوفا ممّا نزل بأبيه من العقوبة. وفي هذا الزمان ظهر من المبتدعة فولى الشميشاطيّ وكان يقول: ان جميع معلولات الله تعالى إرادية وليس له معلول ذاتي بتة ولذلك لم يلد ولم يولد. ولهذا لم يكن المسيح كلمة الله ولا ايضا ولد من عذراء كما ورد في ظاهر المذهب وانما حصل له الكمال بالاجتهاد. فكل من تعاطى رياضته [1] نال درجته. وذكر اوسابيوس المؤرخ عن هذا فولي انه استعان بامرأة يهودية رأسّها غالوس قيصر على الشام وكانت تستحسن علمه وكلامه. وفوضعت اليه بطركية انطاكية. فكان يجلس على سرير عال وصبايا حسنات النغمة يزمّرن زبور داود بين يديه. وكان متهما بالزنى معهنّ. فاجتمع عليه عدة من الاساقفة وحرموه واتباعه. (قلوذيس قيصر) ملك سنتين. وفي أول سنة من ملكه ظهرت في السماء آية اكليل من نار. (اورلينوس قيصر) ملك ست سنين وهادن سابور ملك فارس وزوّجة ابنته. فبنى لها سابور بفارس مدينة شبه بوزنطيا وسماها جنديسابور. وكان قد أرسل اورلينوس في خدمة ابنته جماعة من الأطباء اليونانيين وهم بثوا الطب البقراطي بالمشرق. وفي السنة السادسة لاورلينوس همّ بالتضييق على النصارى. وبينا هو يفكر بذلك برق فاستظلمه [2] ومات. وفي هذه السنة ملك بفارس هرمزد سنة واحدة. وفي هذا الزمان عرف ماني الثنويّ. هذا كان أول أمره يظهر النصرانية وصار قسيسا بالأهواز وكان يعلّم ويفسر الكتب ويجادل اليهود والمجوس والوثنيين. ثم مرق من الدين وسمى نفسه مسيحا واتخذ اثني عشر تلميذا وأرسلهم الى بلاد المشرق بأسرها حتى الهند والصين وزرعوا فيها علم الثنوية وهو ان للعالم إلهين أحدهما خير وهو معدن النور   [1-) ] رياضته. درجته ر رياضته. درجة. [2-) ] فاستظلمه ر فاظلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 والآخر شر وهو معدن الظلمة. وانهما تمازجا [1] فانتصر الخير على الشر فانتقل الشر الى جهة الجنوب ليعمل هناك عالما ويتسلط عليه. ولما شرع وعمل بنات نعش حول القطب الجنوبي كهذه التي حول القطب الشمالي أصلحت الملائكة بينهما بأن ألقى الخير شيئا من نوره على الهيولي فوجد عالم قابل للكون والفساد وتسلط عليه الشر. ولأن الخير انما فعل ذلك مكرها ومجبرا خلق في السماء سفينتين كبيرتين هما الشمس والقمر وصار يجمع فيهما انفس الناس ويسترجع نصيبه الذي صار الى الشر ليخلوا الهيولي رويدا رويدا من آثار الخير فيبطل سلطان الشر. وكان يقول بالتناسخ وان في كل شيء روحا مستنسخة. وكان يفرط في تمجيد النار وتعظيم شأنها ويؤهلها للتقديس والتسبيح كل ذلك لنورها واضاءتها وتوسطها في المكان بين الفلكيات والعنصريات. واهّل الأرض للتحقير لكونها مظلمة لا يستضيء باطنها بالفعل ولا بالقوة. وهذا المذهب قد كان قديمان للفرس ولم يبتدعه ماني ولكن شيّده بالحجج الاقناعية. ونعم ما أجاب عنه الشيخ الرئيس ابو علي بن سينا إذ قال: كيف السبيل الى ان يوجد في النار كل معنى واقع في حيّز الخير وفي الأرض كل معنى واقع في حيّز الشر. فان الأرض حيز البقاء والحياة للحيوان والنبات. والنار مفرطة الكيفية مفسدة بتفريق أجزاء المركّب وتشتيتها. وقيل ان سابور ملك الفرس قتل ماني وسلخ جلده وحشاه تبنا وصلبه على سور المدينة لأنه كان يدّعي الدعاوي العظيمة وعجز عن إبراء ابنه من مرض عرض له. (ططقيطوس قيصر) ملك ستة أشهر وقتل في المركب وملك بفارس هرمزد. (فلوريانس [2] قيصر) ملك شهرين وقتل بمدينة طرسوس. (فروبوس قيصر) ملكه سبع سنين. وفي أول سنة من ملكه ملك بفارس ورهران [3] ثلث سنين وبعده ورهران ابنه سبع عشرة سنة. ثم ان فروبوس قيصر قتل في الحرب بمدينة سرمين. (قاروس قيصر) ملك سنتين ومات ما بين النهرين. وقتل نوميروس ابنه في الحرب ببلد افريقية. وقورينوس ابنه الآخر قتل ايضا في حرب الجرامقة وهم قوم بالموصل أصلهم من الفرس. وفي السنة الثانية لملك قاروس قتل قوزما ودومياني الشهيدان. (ذيوقليطيانوس قيصر) ملك عشرين سنة وأشرك معه في الملك ثلثة نفر أخر.   [1-) ] تمازجا ر تهارجا. [2-) ] فلوريانس ر فيلوريانس س [؟] فيليوريانوس. [3-) ] ورهران ر ورهزان س [؟] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أحدهم مكسانطيس ابنه وهو كان مقيما برومية. وقسطنطينوس ببوزنطيا. ومكسيميانوس ختن ذيوقليطيانوس بمصر والشام. وفي هذا الزمان عصى اهل مصر فأرسل إليهم ذيوقليطيانوس جيوشا فأهلكوهم. وفي السنة الحادية عشرة له ملك بفارس نرسي سبع سنين. وملك بعده هرمزد خمس سنين. وفي السنة التاسعة عشرة أمر بهدم كنائس النصارى فهدمت كلها. وضيّق عليهم جدا وقتل منهم خلقا كثيرا واحرق كتبهم. وفي هذه السنة عرض جوع عظيم حتى بلغ المدي [1] اعني القفيز الشامي من الحنطة الفين وخمسمائة [2] درهم. ثم ان ذيوقليطيانوس اعتزل من الملك وخلط نفسه بالعامة الى وقت وفاته. وفعل مكسيميانوس ختنه ايضا كذلك. وبقي في الملك مكسانطيس وقسطنطينوس. ومن أول سنة ملك [3] ذيوقليطيانوس وهي سنة خمسمائة وست وتسعون للإسكندر يبتدئ تاريخ ذيوقليطيانوس الذي يؤرخ به القبط ويسمونه تاريخ الشهداء اي الذين استشهدوا في هذه السنّه [4] . وفي دولة ذيوقليطيانوس هذا اشتهر في علم الفلسفة فرفوريوس الصوري وله النباهة فيه والتقدم. ولما صعب على صديق له يسمى خروساوريوس معرفة كلام أرسطاطاليس شكا اليه ذلك. فقال: كلام الحكيم يحتاج الى مقدمة قصّر عن فهمها طلبة زماننا لفساد أذهانهم. وشرع في تصنيف كتاب ايساغوجي ومعناه المدخل. فأخذ عنه وأضيف الى كتاب أرسطو وجعل أولا لها وسار مسير الشمس الى يومنا هذا. فمن تصانيفه هذا الكتاب وكتاب المدخل الى القياسات الحملية. وكتابان له الى رجل اسمه لبانوا [5] . وكتاب في الرد لمحيوس [6] في العقل والمعقول تسع مقالات توجد سريانيا. وكتاب اخبار الفلاسفة وجد منه المقالة الرابعة بالسرياني. وكتاب الأسطقسات مقالة توجد سريانيا.   [1-) ] المدي ر المدّ. [2-) ] الفين وخمسمائة س مائتين وخمسين. [3-) ] ملك ر من آخر ملك. [4-) ] اعلم ان ذيوقليطيانوس لم يصدر الأمر بالاضطهاد العام الا في السنة التاسعة عشرة لملكه اي سنة 303. اما التاريخ المغرو اليه فيبتدئ في السنة الاولى اي في 29 آب سنة 284 للمسيح. على انه قد غلب الاستعمال ان يكون بدء تاريخ الشهداء بدء ملك ذيوقليطيانوس نفسه. [5-) ] لبانوا وابانو واباتو. [6-) ] ويروى: لحيوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 (قسطنطيس قيصر الكبير) ملك اثنتي عشرة سنة أخرى بعد موت ذيوقليطيانوس [1] . وكان به برص فأشار عليه خدم الأصنام ان يذبح أطفال المدينة ويغتسل بدمائهم فيبرأ من مرضه [2] . فأخذ جماعة من الأطفال ليذبحهم فصارت مناحة عظيمة في المدينة فأحجم عن قتلهم. وفي تلك الليلة رأى في منامه فطروس وفولوس يقولان له: وجه الى سيليبيطريس اسقف رومية فجئ به فهو يبرئ مرضك [3] . فلما أصبح وجه في طلبه. فأتوه به ووعظ الملك وأوضح له سر النصرانية فدعا له. وتعمّد فذهب مرضه وأمر ببناء كنائس النصارى المهدومة. ومع هذا كان تمسكه بالدين واهيا [4] . (قسطنطينوس قيصر القاهر) ملك اثنتين وثلثين سنة. وفي السنة الثانية له ملك على الفرس سابور بن هرمزد تسعا وستين سنة. وفي السنة الثالثة لملكه أمر 1 فبني [5] لبوزنطيا سور فزاد في ساحتها اربعة أميال وسماها قسطنطينية ونقل الملك إليها. وفي السنة السابعة استعد لغز ومكسانطيس ابن بنت ذيوقليطيانوس لأنه عصى ولم يبايعه وغلب على رومية. وكان قسطنطينوس يتفكر الى اي الآلهة يلجئ امره في هذا الغزو. فبينما هو في هذا الفكر رفع رأسه الى السماء نصف النهار فرأى راية الصليب في السماء مثال النور وكان فيه مكتوب ان بهذا الشكل تغلب. فصاغ له صليبا من ذهب وكان يرفعه في حروبه على رأس الرمح. ثم انه غزا رومية فخرج اليه مكسانطيس ووقع في نهر فاختنق. فافتتح قسطنطينوس مدينة رومية. واعتمد في هذا الوقت برومية من اليهود وعبدة الأصنام زهاء اثني عشر ألف خلا النساء والصبيان. ثم تنصرت هيلاني أمه بعد ذلك واعتمدت وشخصت الى أورشليم حاجّة وطلبت صليب المسيح بعناية وأمرت ببناء كنائس المسيح فيها وأخذت الصليب وحملته الى قسطنطينية. ولم يزل دين النصرانية يظهر ويقوى الى ان دخل فيه اكثر الأمم المجاورة للروم من الجلالقة والصقالبة وبرجان والروس واللان والأرمن والكرج وجميع اهل مصر من القبط وغيرهم وجمهور اصناف السودان من الحبشة والنوبة وسواهم. وآمن بعد هؤلاء اصناف من الترك ايضا.   [1-) ] والصواب انه ملك سنتين أخريين بعد ان اعتزل ذيوقليطيانوس الملك. ومات قبله بسبع سنين. [2-) ] مرضه ر برصه. [3-) ] مرضك ر برصك. [4-) ] ان ما رواه المؤلف من مرض قسطنطيس والرؤيا التي رآها في المنام قد وافقه عليه سائر المؤرخين. الا انهم ينسبون ذلك الى ابنه قسطنطينوس القاهر. واعلم ان قسطنطيس لم يتنصر وان كان له عطفة على النصارى. وكان مقامه ببلاد الفرنجة المسماة لذلك العصر «غاليا» لا بمدينة رومية. [5-) ] فبني سور ر فبنى سورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وبنى قسطنطينوس بيعة عظيمة بالقسطنطنية وسماها أجيا سوفيا اي حكمة القدوس. وبيعة أخرى على اسم السلّيحين. وبنى بيعة بمدينة بعلبك وكان أهلها يتشاركون في النساء ولم يخلص لأحدهم نسب فكفّهم عن ذلك فكفّوا. وبنى بأنطاكية هيكلا ذا ثماني زوايا على اسم السيدة. وفي أيامه حاصر سابور ملك الفرس مدينة نصيبين ثلثين يوما. وبدعاء مار يعقوب اسقفها ومار افريم تلميذه رحل عنها خائبا. وفي عودته غزا ما بين النهرين. فنهض قسطنطينوس لمحاربته وعند وصوله الى نيقوموذيا أدركته المنية سنة اثنتين وأربعين وستمائة للإسكندر [1] وذلك يوم الأحد لثمان بقين من أيار وكان عمره خمسا وستين سنة. وفي مرضه قسم الملك على أولاده الثلاثة وملّك الكبير المسمى باسمه قسطنطينوس على قسطنطينية. ورتّب الآخر المسمى قسطنطيس على مصر والشام وما بين النهرين وارمينية. ورتب الصغير المسمى قوسطوس على رومية واسفانيا وما يليها من ناحية المغرب. وفي هذا الزمان ظهر آريوس المبتدع. هذا كان قسيسا خطيبا بالاسكندرية. فعلا ذات يوم مشهود [2] المنبر ليخطب كعادته وابتدأ بخطبته من كلام سليمان بن داود وهو قوله: الرب خلقني في أول خلائقه. وأخذ يقرر انه عنى بذلك كلمة الله فهي مخلوقة مباينة بالجوهر لذات الله لأنها عبارة عن العقل الذي هو المعلول الاول وهو أول ما خلق الله. فكتب الملك كتابا الى جميع الاساقفة وقال فيه: انه لا شيء آثر عندي ولا أزين في عيني من خشية الله ومراقبته. وقد رأيت الآن ان تعزموا على القدوم الى مدينة نيقيا من غير وني لكي تفحصوا عن أمر دينيّ دعت الحاجة الى تحقيقه. فاجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا ونظروا فيما تفوه به آريوس فوجدوه مخالفا لاصل المذهب فزيّفوا علمه الفاسد ورتبوا الامانة المشهورة واجتمعت الفرق المسيحية كلها على صحتها الى يومنا هذا. وكان اجتماعهم سنة ستمائة وست وثلثين للإسكندر. وكان في هذا المجمع اسقف يرى رأي ناباطيس. فقال له الملك: لم لا توافق الجمهور في قبول من تاب عن معاصيه منيبا الى الله. فأجابه الأسقف: انه لا مغفرة لمن فرطت منه كبيرة بعد الايمان والعماد بدليل قول فولوس الرسول حيث يقول: لا يستطيع الذين ذاقوا كلمة الله ان يدّنّسوا بالخطيئة ليطهروا بالتوبة ثانية. فقال له الملك هازئا به: ان كان الأمر كما تزعم فانصب   [1-) ] والصواب سنة ثمان وأربعين وستمائة. [2-) ] مشهود ر مشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 لك سلما لترقى فيه وحدك الى السماء. ونهض بعض الاساقفة فرفع الى الملك كتابا فيه سعاية ببعض الاساقفة. فلما قرأه الملك أمر ان يحرق الكتاب بالنار وقال: لو وجدت أحدا من الكهنة في ريبة لسترته بأرجوانيّتي. (قسطنطينوس وقسطوس وقسطنطيس) بنو القاهر ملكوا خمسا وثلثين سنة [1] . ثم ان قسطنطينوس صار الى نيقوموذيا فأخذ جسد أبيه فحنطه ووضعه في صندوق ذهب وحمله الى قسطنطينية ووضعه في هيكل السليحين. وفي هذه السنة صعد سابور ملك الفرس فغزا نصيبين لما بلغه وفاة قسطنطينوس القاهر فحاصرها ثلثين يوما ورجع عنها الى مملكته خائبا وذلك بدعاء القديس مار افريم. فان الله استجاب دعاءه وأرسل على جيش الفرس بقّا وهمجا هزم فيلتهم وخيلهم. ثم ان سابور اضطهد النصارى الذين في سلطانه جدا. وفي هذه السنة مات مار يعقوب السقف نصيبين وقام مكانه بابويه. وفي هذا الزمان عرف الحكيم الفارسي ووضع كتاب كثيرة في تشييد مذهب النصارى ونقض مذهب المجوس. وفي السنة السادسة لملك هؤلاء عرض بأنطاكية رجفات وزلازل كثيرة ولم تزل الأرض ترتجّ عامّة السنة مع سلامة من الفساد. ثم ان قسطنطينوس صاحب القسطنطينية وهو الأخ الكبير قتل في حرب وقعت بينه وبين أخيه الصغير وهو قسطوس صاحب رومية. وخلف ابنين غالوس ويوليانوس. ثم ان قسطنطيس وهو الأخ الأوسط صاحب مصر والشام نصب غالوس ملكا على القسطنطينية مكان أبيه. فعصى على عمه الذي نصبه. فسيّر عمّه عليه جيشا وقتله ونصب أخاه يوليانوس مكانه. وبعد قليل قتل قسطوس صاحب رومية. ومات ايضا قسطنطيس صاحب مصر والشام. واستقل يوليانوس بجميع الممالك. (يوليانوس قيصر) ملك سنتين بعد موت عمّيه وسمي بارابطيس [2] اي المارق لأنه خلع ربقة النصرانية من عنقه وعبد الأصنام. ولذلك وثب الوثنيون على النصارى ووقع بينهم بلاء عظيم بالاسكندرية وقتل من الجانبين خلق كثير. ثم ان يوليانوس الملك منع النصارى من الاشتغال في شيء من كتب الفلسفة وسلب آنية الكنائس والديورة واستصفى مال من لم يطعه من النصارى في أكل ذبائح الأصنام وأهلك كثيرين منهم. ثم انه عزم على غزو الفرس ودخل على افولون الحبر الخادم للصنم ليستعلم منه هل ينجح في   [1-) ] خمسا وثلاثين س أربع وعشرين.- والصواب خمسا وعشرين سنة. [2-) ] وهي لفظة يونانية [؟] . ابن العبري- 6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 غزوه ام لا. فحكم له انه يقهر أعداءه على نهر دجلة. فاستكبر لذلك يوليانوس وصال جدا وجمع جيوشه وغزا الفرس. فلما وصل الى حرّان وأراد الخروج منها نكّس رأسه ساجدا لآلهة الحرّانيين. فسقط تاجه عن رأسه وصرع فرسه الذي كان تحته. فقال له خادم الصنم: ان النصارى الذين معك هم جلبوا عليك هذه البلايا. فأسقط منهم يومئذ زهاء عشرين ألف رجل. وسار حتى وافى المدائن. ولما نشب الحرب بينه وبين الفرس على دجلة صار يسير في صفوف مقاتليه وينشطهم للحرب. فرماه بعض الفرس بسهم فأصاب جنبه فسقط عن دابته. وبينما هو يتعذب إذ أخذ ملء حفنته دما من دمه فرشّه في الجو نحو السماء وقال: انك غلبتني يا ابن مريم فرث مع ملك السماء ملك الأرض ايضا. فمات وحمل الى مدينته طرسوس ودفن بها. وكان ليوليانوس هذا كاتب اسمه ثامسطيوس فيلسوف مشهور في زمانه فسّر اكثر كتب ارسطوطاليس وصنّف كتابا ليوليانوس في التدبير وسياسة الممالك ورسالة له ايضا تتضمن الكف عن اضطهاد النصارى وذكر فيها ان الله عزّ وجلّ يحب [1] ان يعبد بوجوه مختلفة فان الفلاسفة ايضا متشعبة الى ثلاثمائة مذهب. فأقنعه كلامه فيها وكفه عن أذيتهم فانكف. ومن الفلاسفة القريبة العهد من هذا الزمان نيقولاوس قد تقدم في معرفة الحكمة. وله من التصانيف كتاب من حمل فلسفة ارسطوطاليس ولنا نسخته بالسرياني نقل حنين بن اسحق. وكتاب النبات. وكتاب الرد على جاعل العقل والمعقولات شيئا واحدا. قال ابن بطلان: ان أصله من اللاذقية وبها ولد. ومنهم دوروثيوس وهو رياضي له اليد الطولى في علم الفلك والأحكام النجومية. وتصانيفه مشهورة عند اهل هذا العلم في المواليد والأدوار. ومنهم ديوفنطس وكتابه اب اسمه [2] في الجبر والمقابلة مشهور وإذا تبحر فيه الناظر رأى بحرا في هذا النوع. (يوينيانس قيصر) لما قتل يوليانوس المارق بقي عسكر الروم بغير ملك. فاختاروا صاحب جيشه وهو يوينيانس المؤمن بمشورة سابور ملك الفرس. فامتنع وقال: انني نصراني لا ارضى ان أكون ملكا للوثنيين. فأعلموه انهم ايضا نصارى ومن خوفهم من المارق لم يظهروا أديانهم. فأخرج لهم صليبا من الخزانة ونصبه لهم في العسكر. وجرى الصلح بينهم وبين الفرس فشيعه سابور الى نصيبين ووهبها له. ونقل من كان بها من   [1-) ] يحبّ ر يجب. [2-) ] اسمه ر قسمة ويسميه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الروم الى آمد. ومن هذا اليوم صارت نصيبين للفرس. ثم ان يوينيانس توفي بعد ان ملك سنة واحدة. (اولنطيانس قيصر) ملك ثلاث عشرة سنة. وولّى واليس [1] أخاه على المشرق. وخرج على واليس رجل خارجي بقسطنطينية يسمى فروقرينوس [2] . فلزمه واليس وأمر بشد رجليه بشجرتين أدنيت إحداهما من الاخرى فانفسخ بينهما. وسقط برد بقسطنطينية كالحجارة وعرضت رجفات وزلازل وخسف في مواضع كثيرة وانخسفت مدينة نيقيا ايضا. وظهر قوم يعرفون بالمصلّين وكانوا يقولون: كل من صلّى وصام اثنتي عشرة سنة يأمر الجبل ان ينتقل من مكانه فينتقل كما جاء في الإنجيل المقدس. فكان إذا تعبد أحدهم هذه المدة خرج فقال للجبل: ايّاك آمر انتقل عن مكانك. فإذا لم يكن ذلك يئس من قبول عبادته وأخذ في الأكل والشراب والفساد. وفي السنة الثالثة عشرة لاولنطيانس تجاوز الناموس وتزوّج بامرأة حسنة الصورة في حال حياة زوجته الناموسيّة وأطلق للناس ان يجمعوا بين زوجتين ان أرادوا الجمع بينهما. وفي تلك السنة مات. (واليس قيصر) لما مات اخوه اولنطيانس استقلّ هو وحده بالملك واستعدّ لغزو الفرس. فبينا هو يحاربهم إذ دخل الى قرية كانت الى جانبه مع نفر من أصحابه. فأخبر الأعداء انه هناك فأحاطوا بالقرية وألقوا فيها نارا. فاحترق واليس ومن كان معه من أصحابه بعد ان ملك سنتين بعد أخيه. (غراطيانس قيصر) هو ابن اولنطيانس. ملك سنة واحدة. وفي هذه السنة مات سابور ملك الفرس بعد ان ملك سبعين سنة. وقام بعده أردشير [3] اخوه اربع سنين. ثم غراطيانس أشرك معه في ملكه رجلا يقال له ثاوذوسيوس وكان وثنيا وآمن بالمسيح واعتمد. وتوفي غراطيانس. (ثاوذوسيوس قيصر الكبير) ملك سبع عشرة [4] سنة وأمر ان يلزم كل احد دينه. وفي السنة الخامسة خرج برومية خارجي يسمى مكسيموس. فوجّه اليه ثاوذوسيوس   [1-) ] في اللاتيني والنس. وقال واليس تبعا للسرياني [؟] . [2-) ] فروقرينوس ر فرفونيوس س [؟] .- كذا في الأصل وهو تصحيف فروقوبيوس. [3-) ] وقام بعده أردشير س ان أردشير ملك في السنة العاشرة لاولنطيانس. [4-) ] سبع عشرة س ست عشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 جيوشا فقتل. وفي السنة السادسة ولد له ولد فسماه انوريس. وفي هذه السنة ظهرت في السماء آية كعمود من نار ولبثت شهرا. وفيها عرضت ظلمة شديدة نصف النهار في شهر آذار. ثم ان ثاوذوسيوس مرض فوجّه في طلب انوريس ابنه وبايع له ووجهه الى المغرب. وبايع لارقاذيوس ابنه الآخر ووجّهه الى المشرق. وتوفي وعمره ستون سنة. (ارقاذيوس قيصر) ملك ثلث عشرة سنة. وفي هذه السنة قام يوحنّا فم الذهب بطركا على قسطنطينية ووضع تفسير الإنجيل وهو ابن ثماني وعشرين سنة. ومنع الكهنة من امور كثيرة من الفساد. فتحسدوه وجعلوا يطلبون عليه عثرة. ونهى الملكة اودكسيا امرأة ارقاذيوس عن اختلاسها كرم امرأة ارملة. ولأنها أبت رشقها في بعض خطبه ذات يوم وشبهها بازبيل امرأة احاب ملك يهوذا التي أخذت كرما ايضا من ارملة. فركبت يوما من الأيام وأخذت معها تسعة وعشرين اسقفا ممّن عادى يوحنا فم الذهب واجتمعوا بمدينة خلقيذونيا وحرموه وأسقطوه من مرتبته بحجّة انه لم يدع النظر في كتب اوريغانيس المخالف. فاضطرب اهل القسطنطينية لذلك وهمّوا بإحراق دار الملك. فخافهم الملك وبعث الى فم الذهب وردّه الى مرتبته. فلما رجع رفع تمثالا كان للملكة بالقرب من الكنيسة. وخطب ذات يوم وسمّى الملكة الملكة هيروذيا اي الملكة التي قتلت يحيى بن زكريا المعمدان. فغضبت غضبا شديدا ووجّهت الى افيفانوس اسقف جزيرة قبرس وسائر الاساقفة فجمعتهم كلهم الى قسطنطينية. فحرموه ثانية ونفوه وكان ذلك في السنة الثامنة لارقاذيوس. فنفي الى جزيرة في بحر نيطوس وتوفي هناك. وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة. وثارت الفتن بين الروم والمصريين بسبب عظام يوحنا فم الذهب حتى أتوا بها بعد ثلث وثلثين سنة لموته فدفنوها بقسطنطينية واثبتوا اسمه في سفر الحياة مع باقي الآباء القديسين. وفي السنة الخامسة لارقاذيوس ملك على الفرس يزدجرد ابن سابور احدى وعشرين سنة. ثم ان ارقاذيوس مات وهو ابن ثلثين سنة وخلّف ابنه ثاوذوسيوس ابن ثماني سنين. (ثاوذوسيوس قيصر الصغير) ملك اثنتين وأربعين سنة. وفي هذا الزمان كثر النصارى في سلطان الفرس وظهرت النصرانية جدا على يدي مروثا اسقف ميّافارقين الذي أرسله ثاوذوسيوس الصغير الى الفرس. ثم ان يزدجرد ملك الفرس مات. وملك بعده ورهران ابنه وتشدّد على النصارى. وتواقع الروم والفرس وقتل من الفريقين خلق كثير وكانت الهزيمة على الفرس. وزال التشديد عن النصارى. وفي السنة العاشرة لثاوذوسيوس الصغير عرف شمعون صاحب العمود بأنطاكية وكان يظهر الآيات والعجائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وكان في هذا الزمن من العلماء قوريلوس بطريرك الاسكندرية ونسطوريوس بطريرك القسطنطينية القائل باتّحاد المشيئة دون نفس الكلمة. فاسقط لذلك. ومار اسحق تلميذ مار افريم صاحب الميامر المنظومة. وفي هذا الزمان انبعث اصحاب الكهف من رقدتهم التي رقدوا على عهد ذاقيوس الملك بعد مائتين وأربعين سنة بالتقريب. فخرج ثاوذوسيوس الملك مع اساقفة وقسيسين وبطاركة فنظروا إليهم وكلموهم. فلما انصرفوا من عندهم ماتوا في مواضعهم. وكانت في هذه السنة زلزلة عظيمة بقسطنطينية فهرب عامّة الناس الى خارج المدينة وسقطت بها مواضع كثيرة. وفي سنة ثلث وثلثين لثاوذوسيوس مات ورهران ملك الفرس وملك بعده يزدجرد ثماني سنين [1] . وفي هذا الزمان خطب يهيبا اسقف الرّها ذات يوم خطبة وقال فيها: اني لست احسد المسيح على تألّه لان كل ما صار فيه فانا مثله. فحرم ونفي من كرسيّه. وفي سنة احدى وأربعين لثاوذوسيوس وجد رأس يوحنا المعمدان بحمص. وتوفي ثاوذوسيوس وعمره خمسون سنة. (مرقيانوس قيصر) ملك سبع سنين وتزوّج فوليخريا اخت ثاوذوسيوس الصغير التي كانت راهبة لان جماعة من الاساقفة المرائين أفتوها في أمر الزواج وقد كانت قبل ذلك متهمة بالزناء معه [2] . وفي السنة الثانية لمرقيانوس اجتمع ستمائة وثلثون اسقفا بمدينة خلقيذونيا وحرموا ديوسقوروس [3] بطرك الاسكندرية وقالوا بالطبيعتين والاقنوم الواحد على ما هم عليه الروم والافرنج. ولما ملك مرقيانوس سبع سنين مات وعمره خمس وستون سنة. (لان قيصر) : ملك ثماني عشرة سنة. وفي أول ملكه ملك على الفرس فيروز ابن يزدجرد سبعا وعشرين سنة. وفي هذه السنة التي ملك فيها لاون وهي سنة تسع وسبعين [4] وثمانمائة [5] للإسكندر صارت زلزلة قوية بمدينة انطاكية وخسف بها مواضع   [1-) ] والصواب ثماني عشرة سنة. [2-) ] اعلم ان فولخيريا لم تترهب وانما نذرت التبتل لله فقط. وهي ملكة عظيمة ذات عقل ثاقب وتدبير صائب. وقد ساست المملكة في صغر أخيها سياسة حسنة. ولما توفي أخوها اقترنت بمرقيانوس على شرط ان تبقى بتولا. ولم تتهم بتهمة مطلقا. وهي من القديسات العظام المكرمات في البيعة. وكانت لها اكبر يد في التئام المجمع المسكوني الرابع وهو الخلقيدوني الذي حكم على بدعة اليعاقبة وهي البدعة التي كان عليها المؤلف. [3-) ] ديوسقوروس ر ديسقوروس. [4-) ] سبعين ر ستين. [5-) ] كذا في الأصل. والصواب تسع وستين وسبعمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كثيرة. وفي السنة التاسعة له انكسفت الشمس وظهرت النجوم نهارا. وبعد ذلك بسنة غزا الفرس آمد وخربوها بعد ما حاصروها. ولما مرض لاون بايع لاونطيوس ابن ابنته وعمره ست سنين. (لاونطيوس قيصر) ملك سنة واحدة. هذا لكونه صبيا خدعته أمه قائلة له: إذا حضر زينون أبوك في الخدمة يجب عليك ان تكرمه وتجلسه معك على السرير وتضع تاجك على رأسه. فلما عمل الصبي بقول أمه صار يجلس زينون معه على السرير. وبعد ايام قلائل مرض الصبي ومات. واستراب الناس بأبويه انهما قتلاه مستبدّين بالمملكة. (زينون قيصر) ملك خمس عشرة سنة. وفي آخر أيامه عصى السمرة بنابلس ونصبوا لهم ملكا قتل جمعا كثيرا من النصارى. فسيّر عليه زينون جيشا وقتل الخارجي السامري. ثم مرض زينون ومات وعمره احدى وستون سنة. (انسطس قيصر) ملك سبعا وعشرين سنة. وفي أول ملكه قتل كثيرين من صبيان المكتب لأنهم هجوه. وفي السنة الثالثة له بنيت دارا التي فوق نصيبين. ثم ان انسطس الملك أراد ان يوضع [1] في البيعة قول المؤمنين في صلواتهم انك صلبت من أجلنا. فاضطرب اهل القسطنطينية كلهم وأخذوا الحجارة ليرجموه بها. فهاله أمرهم وجبن عنهم فوضع تاجه عن رأسه قائلا: اني انتهي الى أمركم فيما تريدون. فكفّ الشعب عنه. وفي السنة الحادية عشرة له عرض في بلاد الروم جوع شديد وظهر جراد كثير وأفسد عامّة غلّاتهم. ووضع يعقوب السروجي ميامر على ذلك [2] . وفي هذا الزمان عرف ساويروس [3] بطرك انطاكية ووضع كتاب كثيرة في تصحيح القول بالطبيعة الواحدة من طبيعتي اللاهوت والناسوت بغير امتزاج ولا اختلاط وفساد بل مع بقائهما على ما كانتا عليه ككون طبيعة الإنسان من طبيعتي النفس والبدن وطبيعة الجسم من طبيعتي الهيولي والصورة من غير انقلاب النفس بدنا ولا الهيولي صورة وبالعكس. (يوسطينيانس قيصر [4] ملك تسع سنين. وكان أصله من رومية [5] . هذا   [1-) ] يوضع ر يرفع. [2-) ] اي اشعارا دينية لإرشاد العوام وحثهم على التوبة. [3-) ] ان ساويروس كان من اهل البدع لأنه لم يعتقد في المسيح بعد التجسد الا طبيعة واحدة خلافا لما قرره المجمع الخلقيدوني. [4-) ] ان الملك الذي يسميه المؤلف هنا يوسطينيانوس كان يسمى بالحقيقة يوسطينوس الاول. والمؤلف يسميه مرّتين في تاريخه السرياني يوسطينوس [؟] . ثم خلفه على العرش يوسطينيانوس الاول. وملك بعد هذا يوسطينوس الثاني. الا ان السريان كانوا يطلقون اسم يوسطينيانوس على الثلاثة وكانوا يلقبون الثاني منهم بالصغير ليميزوه. [5-) ] رومية س [؟] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أصلح جميع البيع وردّ كل من نفاه الملوك قبله. وفي السنة السابعة لملكه اقتتل الروم والفرس على شاطئ الفرات وغرق من الروم خلق كثير. وفي هذه السنة سقط ثلج كثير وجليد وأفسد عامّة الأشجار مع الكروم. وبعد سنة قلّت الأمطار وعزت الغلات ونقص الماء في الينابيع ثم تبع ذلك حرّ قوي ووباء شديد ودام ست سنين. وفي هذه السنة وجه يوسطينيانس وفدا الى المنذر ملك العرب ليصالحه لأنه كان غزا الروم وخرب وسبى. وكان سبب الفتنة بين العرب والروم [1] اضطهاد الملك يوسطينيانس الآباء القائلين بالطبيعة الواحدة لان النصارى العرب يومئذ انما كانوا يعتقدون اعتقاد اليعقوبية لا غير [2] . وفي هذا الوقت غزا كسرى ملك الفرس مدينة الرها وقتل فيها خلقا كثيرا. فظهر نجم ذو ذؤابة وثبت أربعين ليلة. وفي السنة التاسعة لملكه أشرك معه في الملك يوسطينيانس الصغير وكان ابن أخته. وبعد ثلثة أشهر مات. (يوسطينيانس قيصر الصغير) ملك ثماني وثلثين سنة وأمر ان يجتمع جميع اساقفة اصحاب ساويروس القائلين بالطبيعة الواحدة الى قسطنطينية. فلما اجتمعوا وعظهم وعظا كثيرا وسألهم ان يوافقوا مجمع خلقيذونيا بالقول بالطبيعتين والاقنوم الواحد. فلما لم يقبلوا قوله صرفهم الى مواضعهم. وفي السنة التاسعة له انكسفت الشمس وثبت كسوفها السنة كلها وزيادة شهرين ولم يكن يظهر من نورها الا شيء يسير. وكان الناس يقولون انه قد دخل عليها عرض لا يزول عنها ابدا. وفي هذه السنة ظهر جراد كثير في عامة الأرض وكان الشتاء صعب البرد غزير الثلج ومات فيه خلق كثير. وبعد سنة ظهرت في السماء آية عجيبة وبردت حرارة الشمس السنة بأسرها ولم تنضج الثمار في تلك السنة. وفي هذا الزمان عرف سرجيس الرأس عينيّ الفيلسوف المترجم الكتب من اليوناني الى السرياني ومصنفها. وكان على مذهب ساوري. وفي السنة الرابعة عشرة ليوسطينيانس غزا كسرى ابن قباذ انطاكية وافتتحها وسبى أهلها وحدرهم الى بابل وبنى لهم مدينة وسمّاها انطاكية وتعرف اليوم بالماحوزى [3] الجديدة. وفتح ايضا فامية والرقّة ودارا وحلب.   [1-) ] سبب الفتنة بين العرب والروم. ان المؤلف يعطي السبب الحقيقي في تاريخه السرياني حيث يقول ان ملك الفرس ... طلب من يوسطينوس ... خمسمائة وخمسين قنطارا من الذهب. فلما لم يحصل على طلبه أرسل العرب محالفيه لغزو بلاد الروم وليفسدوا فيها وينهبوها فهجم المنذر ملك العرب إلخ. [2-) ] ان قول المؤلف هذا في عامة العرب غير سديد وحجتنا عليه ان نصارى نجران لذلك العصر كانوا مستمسكين بعروة الايمان الكاثوليكي منتهى الاستمساك. ومنهم الملك الحرث الذي أثبتت البيعة اسمه في جريدة القديسين. وكان الملك المشار اليه مواليا لملك الحبشة السبان ولملك الروم يوسطينوس الاول الذي استنجد ملك الحبشة للأخذ بثأر شهداء نجران. ومن المسلم ان هذين الملكين كانا على العقيدة الكاثوليكية. [3-) ] بالماحوزى وبالماحوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وكان الروم مشتغلين مع الصقالبة المتاخمين لرومية. فلما فرغوا من مجاهدتهم عطفوا على الفرس وبقيت الحرب بينهم سنتين. وعرض في المشرق جوع شديد ووباء عظيم في الناس والبقر حتى صار الناس يحرثون أرضهم بالحمير والخليل. وفي السنة الثامنة والعشرين ليوسطينيانس اصطلح الروم والفرس. وفي السنة الخامسة والثلثين له كتب الى جميع الاساقفة ان يعملوا عيد الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الاول. والدنح [1] لستة ايام من كانون الأخير. فامتثلوا امره خلا الأرمن فإنهم داموا على العادة الاولي في تعييد العيدين في يوم واحد. وفي هذا الوقت ظهر يولياني [2] القائل ان جسد المسيح غير مخلوق وهو جوهر لطيف روحاني لم يصلب بالحقيقة ولم يمت وانما كان ذلك كله خيالا. ومع هذا كان يقول بالطبيعة الواحدة. (يوسطينيانس قيصر الثالث) ملك ثلث عشرة سنة. وهو ابن اخت الذي قبله. وفي السنة الثانية لملكه ظهر في السماء نار تضطرم من ناحية القطب الشمالي وثبتت السنة كلها. وكانت الظلمة [3] تغشي العالم من تسع ساعات من النهار الى الليل حتى لم يكن احد يبصر شيئا. وكان ينزل من الجو شبه الهشيم والرماد. وفي السنة الثالثة له قلت الأمصار وصار الشتاء كالصيف وصار زلزلة شديدة ووباء عظيم. وفي السنة الرابعة له غزا كسرى دارا وأقام عليها ستة أشهر وافتتحها. واستعد يوسطينيانس لغزو الفرس فمرض مرضا اختلط به عقله فبطل الغزو. ثم تعالج فبرئ وبايع رجلا يونانيا يسمى طيباريوس وكان من خاصته وجعله قيصرا بعده.   [1-) ] دنح لفظة سريانية معناها ظهور. وهو العيد المدعو في الكنائس الشرقية الغطاس وتسميه الكنيسة اللاتينية وهي لفظة يونانية تأويلها الظهور. [2-) ] يولياني ر تولياني. [3-) ] كانت هذه الظلمة مسببة عن انتشار الرماد في الجو وقت حدوث الزلازل وتفجر جبال النار. وقد شوهد مثل هذا الحادث من بضع سنوات في اكثر اصقاع الدنيا ولم تعين له العلماء سببا غير الذي أوردناه. ويؤيد قولنا ما يذكره المؤلف من نزول الهشيم والرماد من الجو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الدولة الثامنة المنتقلة من ملوك الإفرنج إلى ملوك اليونانيين المتنصّرين من عهد اغسطوس قيصر الى ان أقام طيباريوس قيصر والمدة قريبة من ستمائة سنة كان الملوك على القسطنطينية والبطارقة وجلّ الجند روميين اعني افرنجا. غير ان الوزراء والكتّاب والرعايا كافة كانوا يونانيين. ثم صارت المملكة ايضا يونانية. والسبب في ذلك ان يوسطينيانس الأخير لما ابتلي بالمرض الشديد ويئس من حياته لم ير في اهل بيته وخاصته من يفي بسياسة الملك غير وزيره طيباريوس وهو رجل يوناني فبايعه ووضع له التاج بيده. ومن حينئذ صارت مملكة القسطنطينية يونانية. الى ان استعادها الافرنج في سنة ألف وخمسمائة وخمس عشرة للإسكندر وهي سنة ستمائة للهجرة. ثم فتحها اليونانيون في أيامنا سنة ألف وخمسمائة وثماني وستين للإسكندر وهي سنة خمس وخمسون [1] وستمائة للهجرة. (طيباريوس قيصر) ملك اربع سنين. وغزت الفرس رأس العين فوجّه إليهم طيباريوس كبير بطارقته المسمى موريقي. فلقيهم هناك فهزمهم. ثم لحق طيباريوس موريقي مع اجناده فغزا الفرس وسبى منهم زهاء ألف نفس ومضى بهم فأسكنهم جزيرة قبرس. وعرضت في هذه السنة زلزلة عظيمة. وعرض في الصيف امطار كثيرة وبرد شديد وأظلم الجوّ وظهر جراد كثير فأكل عامّة الزروع والعنب والبقول. وفيها عرض   [1-) ] خمس وخمسون. والصواب أربع وخمسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وباء شديد. ووجد أناس يعبدون الأوثان فقتلوا. وفي السنة الرابعة لطيباريوس زوّج ابنته لموريقي عظيم قوّاده وبايع له بالعهد وملّكه وتوفي. (موريقي قيصر) ملك عشرين سنة. وكان حسن السيرة سهل المعاملة كثير الصدقة. وكان في كل سنة يهيئ طعاما للفقراء والمساكين ستّين مرّة ويقوم هو وزوجته من ملكهما فيتولّيان خدمتهم وإطعامهم واسقاءهم. وفي السنة الرابعة لموريقي عرض وباء شديد بقسطنطينية ومات من أهلا زهاء اربعمائة ألف نفس. وفي السنة الثامنة لموريقي وثب الفرس على هرمز ملكهم فسملوا عينيه ثم قتلوه وملّكوا عليهم بهرام المرزبان. وكان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى وهو المعروف بأنوشروان العادل فتنكّر كأنه سائل وشقّ سلطان الفرس حتى جاء نصيبين وصار الى الرها ومنها الى منبج وكتب الى موريقي كتابا نسخته: للأب المبارك والسيّد المقدّم موريقي ملك الروم من كسرى بن هرمز ابنه السلام. اما بعد فاني أعلم الملك ان بهرام ومن معه من عبيد ابي جهلوا قدرهم ونسوا انهم عبيد وانا مولاهم وكفروا نعم آبائي لديهم فاعتدوا عليّ وأرادوا قتلي. فهممت ان أفزع الى مثلك فأعتصم بفضلك وأكون خاضعا لك لانّ الخضوع لملك مثلك وان كان عدوا أيسر من الوقوع في ايدي العبيد المردة ولأن يكون موتي على ايدي الملوك أفضل وأقل عارا من ان يجري على ايدي العبيد. ففزعت إليك ثقة بفضلك ورجاء ان تترأف على مثلي وتمدني بجيوشك لأقوى بهم على محاربة العدو وأصير لك ولدا سامعا ومطيعا ان شاء الله تعالى. فلما قرأ موريقي كتاب كسرى بن هرمز عزم على اجابة مسئلته لأنه لجأ اليه وأنجده بعشرين ألفا وسيّر له من الأموال أربعين قنطارا ذهبا. وكتب اليه كتابا نسخته: من موريقي عبد ايشوع المسيح الى كسرى ملك الفرس ولدي واخي السلام. اما بعد فقرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر العبيد الذين تمرّدوا عليك وكونهم غمطوا أنعم آبائك وأسلافك غمطا وخروجهم عليك ودحضهم ايّاك عن ملكك. فداخلني من ذلك أمر حرّكني على الترأف بك وعليك وامدادك بما سألت. فأما ما ذكرت من ان الاستتار تحت جناح ملك عدوّ والاستظلال بكنفه آثر من الوقوع في ايدي العبيد المردة والموت على ايدي الملوك أفضل من الموت على ايدي العبيد. فانّك اخترت أفضل الخصال ورغبت إلينا في ذلك. فقد صدقنا قولك وقبلنا كلامك وحقّقنا أملك وأتممنا بغيتك وقضينا حاجتك وحمدنا سعيك وشكرنا حسن ظنّك بنا ووجّهنا إليك بما سألت من الجيوش والأموال وصيّرتك لي ولدا وكنت لك أبا. فاقبض الأموال مباركا لك فيها وقد الجيوش وسر على بركة الله وعونه. ولا يعترينّك الضجر والهلع بل تشمّر لعدوّك ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 تقصّر فيما يجب لك إذا تطأطأت من درجتك وانحططت عن مرتبتك. فاني أرجو ان يظفرك الله بعدوّك ويكبّه تحت موطئ قدميك ويردّ كيده في نحره ويعيدك الى مرتبتك برجاء الله تعالى. فلما وردت الجيوش على كسرى وقبض الأموال وتشجّع بقراءة كتاب موريقي سار مع جيوش الروم نحو بهرام فلقيه بين المدائن وواسط. فصارت الهزيمة على بهرام وقتل أصحابه كلّهم. واستباح كسرى عساكر بهرام ورجع الى مملكة فجلس فيها وبايعه الناس كلهم. ودعا بالروم فأحسن جائزتهم وصرفهم الى صاحبهم. وبعث الى موريقي من الألطاف والأموال أضعاف ما كان أخذ منه. وردّ دارا وميّافارقين الى الروم وبنى هيكلين للنصارى بالمدائن وجعل أحدهما باسم السيدة والآخر باسم مار سرجيس الشهيد. وفي السنة السادسة عشرة لموريقي كان مطر شديد غرقت به مدن كثيرة مع أهلها ودوابها ومواشيها. ولأن موريقي بعد مصالحته للفرس قطع أرزاق جنوده فاجتمع عظماء الروم الى مدينة هرقلة وأرادوا تمليك فطري اخي موريقي. فهرب منهم ومضى الى قسطنطينية. وهرب ايضا موريقي الى خلقيذونية. فلحقته الروم فألفوه وعليه خلقان في ذي الفقراء والسؤّال فقتلوه وملّكوا عليهم رجلا من بطارقتهم يقال له فوقا. (فوقا قيصر) . ملك ثماني سنين. ولم يكن من بيت الملك. فلما بلغ كسرى بن هرمز قتل موريقي نقض العهد وغزا دارا فافتتحها وافتتح ايضا آمد وحلب. ثم عطف على قنّسرين ورجع الى الرها. وفي السنة الثامنة لفوقا خرج عليه خارجيّان أحدهما هرقل والآخر غريغور بافريقية ووجّها جيوشا مع ابنيهما وهما هرقل بن هرقل ونقيطا بن غريغور وتقدّما إليهما بقتل فوقا وتعاقدوا بينهما ان الملك للسابق الى قسطنطينية إذا قتل فوقا. فركب هرقل البحر وسار نقيطا في البرّ والفى هرقل البحر هادئا ساكنا فسبق ودخل المدينة وقتل فوقا وملك. (هرقل قيصر) ملك احدى وثلثين سنة وخمسة أشهر. وفي أول سنة من ملكه أرسل وفدا الى ملك الفرس ليصالحه. فلم يجبه الى ذلك بل غزا انطاكية وفامية وحمس وقيسارية وافتتحها. وفي هذه السنة عرض بالروم جوع شديد حتى أكل الناس الجيف وجلود البهائم. وقصد نقيطا بن غريغور مدينة الاسكندرية فاستولى عليها. وفي السنة الرابعة لهرقل ملكت العرب وهي سنة تسعمائة وخمس وثلثين للإسكندر [1] . وفي السنة الخامسة لهرقل افتتح الفرس البيت المقدس. وبعد ثلث سنين افتتحوا الاسكندرية ومصر   [1-) ] والصواب تسعمائة وثلث وثلثين. وهكذا ايضا في س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ووصلوا الى النوبة وغزوا خلقيذونيا فافتتحوها. وفي السنة العاشرة لهرقل تحرّكت العرب بيثرب. وفي السنة الخامسة عشرة لهرقل غزا الفرس جزيرة رودس فافتتحوها. وأمر كسرى ان يؤخذ رخام الكنائس التي في جميع المدن التي فتحها وتحدر الى المدائن. ولقي فيه الناس جهدا جهيدا. وفي هذه السنة غزا اهل هرقل الفرس فافتتحوا مدينة كسرى وسبوا منها خلقا كثيرا وانصرفوا. وفي السنة السابعة عشرة لهرقل انكسف نصف جرم الشمس وثبت كسوفها من تشرين الاول الى حزيران ولم يكن يظهر من نورها الّا شي يسير. وفي هذا الزمان كان الحرث بن كلدة طبيب العرب أصله من ثقيف من اهل الطائف رحل الى ارض فارس وأخذ الطبّ عن أهل جنديسابور وغيرها في الجاهلية قبل الإسلام وطبّب بأرض فارس وحصّل مالا. ثم ان نفسه اشتاقت الى بلاده فرجع الى الطائف واشتهر وأدرك الإسلام. وكان النبيّ عليه السلام يأمر من كان به علّة ان يأتيه فيستوصفه. وكان الحرث يقول: من سرّه البقاء ولا بقاء فليباكر الغذاء وليخفف الرداء وليقلّ من غشيان النساء. يريد بخفة الرداء ان لا يكون عليه دين [1] وقيل مات الحرث في أول الإسلام ولم يصحّ إسلامه. وفي هذا الزمان كان يعرف اهرون القسّ الاسكندري. وكنّاشه في الطبّ موجود عندنا بالسريانية وهو ثلثون مقالة. وزاد عليها مقالتين أخريين.   [1-) ] قال ابن أبي أصيبعة: «سمي الدين رداء لقولهم: هو في عنقي وفي ذمتي. فلما كانت العنق موضع الرداء سمي الدين رداء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الدولة التاسعة المنتقلة من ملوك اليونانييّن المتنصّرين إلى ملوك العرب المسلمين قال القاضي صاعد بن احمد الاندلسي صاحب قضاء مدينة طليطلة: ان العرب فرقتان فرقة بائدة وفرقة باقية. اما الفرقة البائدة فكانت امما ضخمة كعاد وثمود وطسم وجديس. ولتقادم انقراضهم ذهبت عنّا حقيقة اخبارهم وانقطعت عنّا اسباب العلم بآثارهم. واما الفرقة الباقية فهي متفرّعة من جذمين [1] قحطان وعدنان. ويضمّهما حالان حال الجاهلية وحال الإسلام. فأما حال العرب في الجاهلية فحال مشهور عند الأمم من العزّ والمنعة وكان ملكهم في قبائل قحطان وكان بيت الملك الأعظم في بني حمير وكان منهم الملوك السادة الجبابرة التبابعة. واما سائر عرب الجاهلية بعد الملوك فكانوا طبقتين أهل مدر [2] وأهل وبر. فامّا اهل المدر فهم الحواضر وسكّان القرى. وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. واما اهل الوبر فهم قطّان الصحارى. وكانوا يعيشون من ألبان الإبل ولحومها منتجعين بمنابت [3] الكلإ مرتادين لمواقع القطر فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه فلا يزالون في حلّ وترحال كما قال بعضهم عن ناقته: تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه ابدا وديني أكلّ الدهر حلّ وارتحال ... أما يبقي عليّ ولا يقيني   [1-) ] جذمين ر جدّين. [2-) ] مدر. وبر ر مدن. وبرّ. [3-) ] بمنابت ر لمنابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وكان ذلك دأبهم زمان الصيف والربيع. فإذا جاء الشتاء واقشعرّت الأرض انكمشوا الى أرياف العراق وأطراف الشام. فشتّوا هناك مقاسين جهد الزمان ومصطبرين على بؤس العيش. وكانت أديانهم مختلفة. فكانت حمير تعبد الشمس. وكنانة القمر. وميسم الدبران. ولخم وجذام المشتري. وطيّء سهيلا. وقيس الشعرى العبور. واسد عطارد. وثقيف بيتا بأعلى نخلة يقال لها اللّات. وكان فيهم من يقول بالمعاد ويعتقد ان من نحرت ناقته على قبره حشر راكبا ومن لم يفعل ذلك حشر ماشيا. فأما علم العرب الذين كانوا يتفاخرون به فعلم لسانهم واحكام لغتهم ونظم الاشعار وتأليف الخطب. وكان لهم مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم الى معرفة ذلك في اسباب المعيشة لا على طريق تعلّم الحقائق. واما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله شيئا منه ولا هيأ طبائعهم للعناية به. فهذه كانت حالهم في الجاهلية. واما حالهم في الإسلام فعلى ما تذكره بأوجز ما يمكننا وأقصر ان شاء الله. (محمد بن عبد الله عليه السلام) ذكر النسّابون ان نسبته ترتقي الى إسماعيل ابن ابراهيم الخليل الذي ولدت له هاجر امة سارة زوجته. وكان ولاده بمكة سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة للإسكندر [1] . ولما مضى من عمره سنتان بالتقريب مات عبد الله أبوه وكان مع أمّه آمنة بنت وهب ست سنين. فلما توفيت اخذه اليه جدّه عبد المطلب وحنا عليه. فلما حضرته الوفاة اوصى ابنه أبا طالب بحياطته [2] فضمه اليه وكفله. ثم خرج به وهو ابن تسع سنين الى الشام. فلما نزلوا بصرى خرج إليهم راهب عارف اسمه بحيرا من صومعته وجعل بتخلل القوم حتى انتهى اليه فأخذه بيده وقال: سيكون من هذا الصبي أمر عظيم ينتشر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها فانه حيث اشرف اقبل وعليه غمامة تظلله. ولما كمل له من العمر خمس وعشرون سنة عرضت عليه امرأة ذات شرف ويسار اسمها خديجة ان يخرج بمالها تاجرا الى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره. فأجابها الى ذلك وخرج. ثم رغبت فيه وعرضت نفسها عليه فتزوجها وعمرها يومئذ أربعون سنة. وأقامت معه الى ان توفيت بمكة اثنتين وعشرين سنة. ولما كمل له أربعون سنة اظهر الدعوة. ولما مات ابو طالب عمّه وماتت ايضا خديجة زوجته اصابته قريش بعظيم أذى. فهاجر عنهم الى المدينة وهي يثرب. وفي السنة الاولى من هجرته احتفل الناس اليه   [1-) ] والصواب سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة. [2-) ] بحياطته ر بحفاظته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ونصروه على المكيين أعداؤه. وفي السنة الثانية من هجرته الى المدينة خرج بنفسه الى غزاة بدر وهي البطشة الكبرى وهزم بثلاثمائة وثلثة عشر رجلا من المسلمين ألفا من اهل مكة المشركين. وفي هذه السنة صرفت القبلة عن [1] جهة البيت المقدس الى جهة الكعبة. وفيها فرض صيام شهر رمضان. وفي السنة الثالثة خرج الى غزاة أحد. وفيها هزم المشركون المسلمين وشجّ في وجهه وكسرت رباعيته. وفي السنة الرابعة غزا بني النّضير اليهود وأجلاهم الى الشام. وفيها اجتمع احزاب شتى من قبائل العرب مع اهل مكة وساروا جميعا الى المدينة فخرج إليهم. ولأنه هال المسلمين أمرهم أمر بحفر خندق وبقوا بضعة وعشرين يوما لم يكن بينهم حرب. ثم جعل واحد من المشركين يدعو الى البراز. فسعى نحوه عليّ بن ابي طالب وقتله وقتل بعده صاحبا له. وكان قتلهما سبب هزيمة الأحزاب على كثرة عددهم ووفرة عددهم. وفي السنة الخامسة كانت غزاة دومة الجندل وغزاة بني لحيان. وفي السنة السادسة خرج بنفسه الى غزاة بني المصطلق وأصاب منهم سبيا كثيرا. وفي السنة السابعة خرج الى غزاة خيبر مدينة اليهود. وينقل عن عليّ بن ابي طالب انه عالج باب خيبر واقتلعه وجعله مجنا وقاتلهم. وفي الثامنة كانت غزاة الفتح فتح مكة وعهد الى المسلمين ان لا يقتلوا فيها الا من قاتلهم وأمّن من دخل المسجد ومن أغلق على نفسه بابه وكفّ يده ومن تعلّق بأستار الكعبة سوى قوم كانوا يؤذونه. ولما أسلم ابو سفيان وهو عظيم مكة من تحت السيف ورأى جيوش المسلمين قال للعبّاس يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقال له: ويحك انها النبوّة. قال نعم اذن. وفي السنة التاسعة خرج الى غزاة تبوك من بلاد الروم ولم يحتج فيها الى حرب وفي السنة العاشرة حجّ حجّة الوداع. وفيها تنبأ باليمامة مسيلمة الكذّاب وجعل يسجع مضاهيا للقرآن فيقول: لقد أنعم الله على الحبلى اخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا. وفي هذه السنة وعك عليه السلام ومرض وتوفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر. وكان عمره بجملته ثلاثا وستين سنة منها أربعون سنة قبل دعوة النبوّة ومنها بعدها ثلث عشرة سنة مقيما بمكة ومنها بعد الهجرة عشر سنين مقيما بالمدينة. ولما توفي أراد اهل مكة من المهاجرين ردّه إليها لأنها مسقط رأسه. وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته. وأرادت جماعة نقله الى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء. ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة فدفنوه بحجرته حيث قبض. واختلفوا في عدد از واجه. واكثر ما قالوا سبع عشرة امرأة سوى السراري. وولد له سبعة أولاد   [1-) ] عن ر من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ثلثة بنين واربع بنات كلهم من خديجة الّا ابراهيم ابنه فانه من ماريّة القبطية التي بعث بها المقوقس الى الاسكندرية مع أختها شيرين. ولم يمت من نسائه قبله الّا اثنتان. ولم يعش من أولاده بعده الّا ابنة واحدة هي فاطمة زوجة عليّ بن ابي طالب وتوفيت بعد أبيها بثلثة أشهر. وقد وقع في الإسلام اختلافات شتى كما وقع في غيره من الأديان بعضها في الأصول وهي موضوع علم الكلام وبعضها في الفروع وهي موضوع علم الفقه. والخلاف في الأصول فينحصر في اربع قواعد الاولى الصفات والتوحيد. الثانية القضاء والقدر. الثالثة الوعد والوعيد. الرابعة النبوّة والامامة. وكبار فرق الاصوليّين ستّ. المعتزلة ثم الصفاتية وهما متقابلتان تقابل التضادّ. وكذلك القدريّة تضادّ الجبريّة. والمرجئة الوعيديّة. والشيعيّة الخوارج. ويتشعّب عن كل فرقة اصناف فتصل الى ثلث وسبعين فرقة [1] . اما المعتزلة فالذي يعمّهم من الاعتقاد القول بنفي الصفات القديمة عن ذات الباري تعالى هربا من أقانيم النصارى. فمنهم من قال انه تعالى عالم لذاته لا بعلم وكذلك قادر وحيّ. ومنهم من قال انه عالم بعلم وهو ذاته وكذلك قادر وحيّ. فالأول نفى الصفة رأسا والثاني اثبت صفة هي بعينها ذات. واتّفقوا على انّ كلامه تعالى محدث بخلقه [2] في محلّ وهو حرف وصوت وكتب مثاله [3] في المصاحف. وبالجملة نفي الصفات مقتبس من الفلاسفة الذين اعتقدوا ان ذات الله تعالى واحدة لا كثرة فيها بوجه. وبازاء المعتزلة الصفاتيّة وهم يثبتون لله صفات ازلية من العلم والقدرة والحياة وغيرها. وبلغ بعضهم في اثبات الصفات كالسمع والبصر والكلام الى حدّ التجسيم فقال: لا بدّ من اجراء الآيات الدّالّة عليها كالاستواء على العرش والخلق باليد وغيرهما على ظاهرها من غير تعرّض للتأويل. الّا ان قوما منهم كأبي   [1-) ] دونك ما قاله الشهرستاني في الصفحة 2 و 3 من كتابه الملل والنحل: «والمسلمون على ثلث وسبعين فرقة والناجية ابدا من الفرق واحدة إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في واحدة ولا يجوز ان يكون قضيتان متناقضتان متقابلتان على شرائع التقابل الا وان تقتسما الصدق والكذب فيكون الحق في إحديهما دون الاخرى ومن المحال الحكم على المتخاصمين المتضادين في اصول المعقولات بأنهما محقان صادقان وإذا كان الحق في كل مسئلة عقلية واحدا فالحق في جميع المسائل يجب ان يكون مع فرقة واحدة» . [2-) ] بخلقه ر بخلقة. [3-) ] مثاله ر أمثاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الحسن الاشعريّ وغيره لمّا باشروا علم الكلام منعوا التشبيه وصار ذلك مذهبا لأهل السنّة والجماعة وانتقلت سنّة [1] الصفاتيّة الى الاشعريّة. وامّا القدريّة فهم معتزلة ايضا وانما لقّبوا بالقدريّة لنفيهم القدر لا لاثباتهم ايّاه فإنهم يقولون ان العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرّها مستحقّ على ما يفعله ثوابا وعقابا. فالرّب تعالى منزّه عن ان يضاف اليه شرّ وظلم. وسمّوا هذا النمط عدلا. وحدّوه بأنه إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة لمقتضى [2] العقل من الحكمة. وبازاء القدريّة الجبريّة الذين ينفون الفعل والقدرة على الفعل عن العبد ويقولون ان الله تعالى يخلق الفعل ويخلق في الإنسان قدرة متعلّقة بذلك الفعل ولا تأثير لتلك القدرة على ذلك الفعل. ومنهم من يثبت للعبد قدرة ذات اثر ما في الفعل ويقولون ان الله مالك في خلقه يفعل فيهم ما يشاء ولا يسأل عمّا يفعل. فلو ادخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفا. ولو أدخلهم بأجمعهم النار لم يكن جورا بل هو في كل ذلك عادل لأنّ العدل على رأيهم هو التصرّف فيما يملكه المتصرّف. واما المرجئة فهم يقولون بارجاء حكم صاحب الكبيرة من المؤمنين الى القيامة اي بتأخيره إليها. فلا يقضون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه ناجيا او هالكا ويقولون ايضا انه لا يضرّ مع الايمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وبازاء المرجئة الوعيدية القائلون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار وان كان مؤمنا لكن يكون عقابه اخف من عقاب الكفّار. واما الشيعة فهم الذين شايعوا عليّ بن ابي طالب وقالوا بإمامته بعد النبيّ. وان الامامة لا تخرج من أولاده الا بظلم. ويجمعهم القول بثبوت عصمة الأيمّة وجوبا عن الكبائر والصغائر. فان الامامة ركن من اركان الدين لا يجوز للنبي اغفاله ولا تفويضه الى العامّة. ومن غلاة الشيعة النصيريّة القائلون بان الله تعالى ظهر بصورة علي ونطق بلسانه مخبرا عمّا يتعلّق بباطن الأسرار. وقوم منهم غلوا في حق أئمّتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقة وحكموا فيهم بأحكام الاهية. وبازاء الشيعة الخوارج فمنهم من خطّأ عليّ بن ابي طالب فيما تصرّف فيه ومنهم من تخطّى عن تخطئته الى تكفيره ومنهم من جوّز ان لا يكون في العالم امام أصلا وان احتيج اليه فيجوز ان يكون عبدا او حرّا او نبطيّا او قرشيّا إذا كان عادلا. فان عدل عن الحق وجب عزله وقتله. فهذا اقتصاص مذهب الأصوليين على سبيل الاختصار.   [1-) ] سنّة ر سمة. [2-) ] لمقتضى ر يقتضي. ابن العبري- 7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 واما مذاهب الفروعيّين المختلفين في الأحكام الشرعية والمسائل الاجتهادية فالمشهورة منها اربعة: مذهب مالك بن أنس. ومذهب محمد بن إدريس الشافعي. ومذهب احمد ابن حنبل. ومذهب ابي حنيفة النعمان بن ثابت. واركان الاجتهاد ايضا اربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والقياس. وذلك لأنه إذا وقعت لهم حادثة شرعيّة من حلال وحرام فزعوا الى الاجتهاد وابتدأوا بكتاب الله تعالى. فان وجدوا فيه نصّا تمسّكوا به والا فزعوا الى سنّة النبي فان رأوا [1] لهم في ذلك خبرا نزلوا الى حكمه والا فزعوا الى اجماع الصحابة لأنهم راشدون حتى لا يجتمعون على ضلال. فان عثروا بما يناسب مطلوبهم اجروا حكم الحادثة على مقتضاه والا فزعوا الى القياس لان الحوادث والوقائع غير متناهية والنصوص متناهية فلا يتطابقان فعلم قطعا ان القياس واجب الاعتبار ليكون بصدد كل حادثة شرعية اجتهاد قياسيّ. ومن الأئمّة داود الاصفهاني نفى القياس أصلا. وابو حنيفة شديد العناية به وربما يقدّم القياس الجليّ على آحاد الاخبار. ومالك والشافعي وابن حنبل لا يرجعون الى القياس الجليّ ولا الخفيّ ما وجدوا خبرا او امرا. وبينهم اختلاف في الأحكام ولهم فيها تصانيف وعليها مناظرات ولا يلزم بذلك تكفير ولا تضليل. وبالجملة اصول شريعة الإسلام الطهارة في حواشي الإنسان وأطرافه لارسالها وملاقاتها النجاسات. والصلاة وهي خضوع وتواضع لرب العزّة. والزكاة وهي مؤاساة ومعونة وإفضال. والصيام وهو رياضة وتذليل وقمع الشهوة تحصل به رقة القلب وصفاء النفس. والحجّ وهو مثال الخروج عن الدنيا والإقبال على الآخرة واكثر ما فيه من المناسك امتحان وابتلاء العبد بامتثاله ما شرع له وذلك كالسعي والهرولة في الطواف ورمي الجمار. واما الجمعة والأعياد فجعلت مجمعا للأمّة يتلاقون ويتزاورون ويستريحون فيها عن كدّ الكدح. واما الختان فهو سنّة فيه ابتلاء وامتحان وتسليم. واما تحريم الميتة والدم ففي كراهية النفس ونفار الطبع ما يوجب الامتناع منها. (ابو بكر الصديق) أعظم خلاف بين الأيمّة الاسلامية خلاف الامامة وعليه سلّ السيوف. وقد اتفق ذلك في الصدر الاول فاختلف المهاجرون والأنصار فيها. فقالت الأنصار: منا امير ومنكم امير. فاستدركهم ابو بكر وعمر في الحال. وقبل ان يشتغلوا بالكلام مد عمر يده الى ابي بكر فبايعه وبايعه الناس وسكنت الثائرة. وبويع له في شهر ربيع الاول في أول سنة احدى عشرة يوم توفي النبي عليه السلام في سقيفة   [1-) ] راوا ... خبرا ر روي .... خبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بني ساعدة. وقيل لما بلغ ذلك عليّ بن ابي طالب لم ينكره [1] . واكثر ما روي انه قال: ما شاورتني. فقال له ابو بكر: ما اتسع الوقت للمشورة وانا خفنا ان يخرج الأمر منا. ثم صعد المنبر فقال: أقيلوني من هذا الأمر فلست بخيركم. فقال عليّ: لا نقيلك ولا نستقيلك. فأجمع المهاجرون والأنصار على خلافته. ولما ذاع خبر وفاة النبي عليه السلام ارتدّ خلق كثير من العرب ومنعوا الزكاة واشتد رعب المسلمين بالمدينة لاطباقهم على الردة. فأووا الذراري والعيال الى الشعاب. فأمرّ ابو بكر خالد بن الوليد على الناس وبعثه في اربعة آلاف وخمسمائة. فسار حتى وافى المرتدة وناوشهم القتال وسبى ذراريهم وقسم أموالهم. وضجّ ايضا المسلمون الى ابي بكر فقالوا: الا تسمع ما قد انتشر من ذكر هذا الكذاب مسيلمة بأرض اليمامة وادعائه النبوّة. فأمر خالد بن الوليد بالمسير الى محاربته. فسار بالناس حتّى نزل بموضع يسمى عقرباء. وسار مسيلمة في جمع من بني حنيفة فنزل حذاء خالد. وكان بينهما وقعات واشتدت الحرب بين الفريقين واقتحم المسلمون بأجمعهم على مسيلمة وأصحابه فقاتلوهم حتى احمرت الأرض بالدماء. ونظر عبد اسود اسمه وحشي الى مسيلمة فرماه بحربة فوقعت على خاصرته فسقط عن فرسه قتيلا. ومن هناك توجه خالد الى ارض العراق فزحف الى الحيرة ففتحها صلحا. وكان ذلك أول شيء افتتح من العراق. وقد كان ابو بكر وجّه قبل ذلك أبا عبيدة بن الجرّاح في زهاء عشرين ألف رجل الى الشام. وبلغ هرقل ملك الروم ورود العرب الى ارض الشام فوجه إليهم سرجيس البطريق في خمسة آلاف رجل من جنوده ليحاربهم. وكتب ابو بكر الى خالد عند افتتاحه الحيرة يأمره ان يسير الى ابي عبيدة بأرض الشام. ففعل والتقى العرب الروم فانهزم الروم وقتل سرجيس البطريق وذلك انه في هربه سقط من فرسه فركبه غلمانه فسقط فركّبوه ثانيا فهبط ايضا وقال لهم: فوزوا بأنفسكم واتركوني أقتل وحدي. وفي سنة ثلث عشرة للهجرة مرض ابو بكر خمسة عشر يوما ومات رحمه الله يوم الاثنين لثمان خلون [2] من جمادى الآخرة وهو ابن ثلث وستين سنة. وكانت خلافته سنتين واربعة أشهر الا ثمانية ايام. وفيها وهي سنة تسعمائة وستّ وأربعين للإسكندر خالف هرقل الناموس وتزوّج مرطياني ابنة أخيه وولدت منه ابنا غير ناموسيّ وسماه باسمه مصغّرا هريقل. (عمر بن الخطاب) ويكنى أبا حفص. قيل انّ أبا بكر لما دنا أجله قال لعثمان   [1-) ] لما بلغ ... لم ينكره ر لم يبلغ ... وإذا بلغ ينكره. [2-) ] وفي الكامل لابن الأثير «لثمان بقين من جمادى الآخرة» ولعله هو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ابن عفان كاتبه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عمد عبد الله بن ابي قحافة وهو في آخر ساعات الدنيا وبأول ساعات الآخرة. ثم غمي عليه. فكتب عثمان: الى عمر ابن الخطاب. فلما أفاق قال: من كتبت. قال: عمر. قال: قد أصبت ما في نفسي. ولو كتبت نفسك لكنت أهلا له. واجمعوا على ذلك. وكان يدعى خليفة خليفة رسول الله. قالوا: هذا يطول. فسمّي امير المؤمنين. وهو أول من سمّي [1] بذلك. ولما استخلف قام في الناس خطيبا فقال بعد الحمدلة: ايها الناس لولا ما أرجوه من خيركم وقوامكم عليه لما اوليتكم الى غير ذلك. فلما ولي الأمر لم يكن له همة الّا العراق. فعقد لأبي عبيد [2] بن مسعود على زهاء ألف رجل وأمره بالمسير الى العراق ومعه المثنّى بن حارثة وعمرو بن حزم وسليط بن قيس. فساروا حتى نزلوا الثعلبية. فقال سليط: يا أبا عبيد إياك وقطع هذه اللجة فاني ارى للعجم جموعا كثيرة. والرأي ان تعبر بنا الى ناحية البادية وتكتب الى امير المؤمنين عمر فتسأله المدد. فإذا جاءك عبرت إليهم فتناجزهم الحرب. فقال ابو عبيد: جبنت والله يا سليط. فقال المثنى: والله ما جبن ولكن أشار عليك بالرأي فإياك ان تعبر إليهم فلتقي نفسك وأصحابك وسط أرضهم فتنشب بك مخاليبهم [3] . فلم يقبل منهما ابو عبيد وعقد الجسر وعبر بمن معه على كره منهما. فعبرا معه. وعبّى ابو عبيد أصحابه ووقف هو في القلب. فزحف إليهم العجم فرشقوهم بالنشاب حتى كثرت في المسلمين الجراحات. فحمل العرب حملة رجل واحد وكشفوا العجم. ثم ان العجم ثابوا وحملوا على المسلمين. فكان ابو عبيد أول قتيل وقتل من المسلمين عالم. فولّى الباقون ماريّين نحو الجسر والمثنى يقاتل من ورائهم لجميعهم حتى عبروا جميعا وعبر المثني في آخرهم وقطعوا الجسر. وكتب الى عمر بما جرى من المحاربة. وكتب اليه عمر ان يقيم الى ان يأتيه المدد. وكانت هذه الوقعة في شهر رمضان يوم السبت سنة ثلث عشرة من التاريخ. ثم ان عمر أرسل رسله الى قبائل العرب يستنفرهم [4] . فلما اجتمعوا عنده بالمدينة ولّى جرير بن عبد الله البجليّ أمرهم. فسار بهم حتى وافى الثعلبية. وانضم اليه من هناك. ثم سار حتى نزل دير هند. ووجه سراياه للغارة بأرض السواد مما يلي الفرات. فبلغ ذلك ازرميدخت ملكة العجم فأمرت ان ينتدب من مقاتليها اثنا عشر   [1-) ] سمي ر تسمى. [2-) ] عبيد ر عبيدة. [3-) ] مخاليبهم ر مخالبهم. [4-) ] يستنفرهم ر يستفزهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ألف فارس من إبطالهم. فانتدبوا وولت عليهم مهران بن مهرويه عظيم المرازبة. فسار بالجيش حتى وافى الحيرة. ورجعت سرايا العرب واجتمعوا وتهيأ الفريقان للقتال وزحف بعضهم الى بعض وتطاعنوا بالرماح وتضاربوا بالسيوف. وتوسط المثنى العجم يجالدهم بسيفه. ثم رجع منصرفا الى قومه. وصدقهم العجم القتال فثبت بعض العرب وانهزم البعض. فقبض المثنى على لحيته ينتفها. فحملت قبائل العرب وحملت عليهم العجم فاقتتلوا من وقت الزوال الى ان توارت الشمس بالحجاب. ثم حملوا على العجم. وخرج مهران فوقف امام أصحابه. فحمل عليه المثنى. فضربه مهران فنبا السيف عن الضربة. وضربة المثنى على منكبه فخرّ ميتا وانهزم العجم لا حقين بالمدائن. وثاب المسلمون يدفنون موتاهم ويداوون جرحاهم [1] . فلما نظرت العجم الى العرب وقد أخذت أطراف بلادهم وشنّوا الغارة في أرضهم قالوا: انما أوتينا من تمليكنا النساء علينا. فاجتمعوا على خلع ازرميدخت [2] بنت كسرى وتمليك غلام اسمه يزدجرد [3] وقد كان نجم من عقب كسرى بن هرمز. فأجلسوه وبايعوه على السمع والطاعة. فاستجاش يزدجرد جنوده من آفاق مملكته وولى عليهم رجلا عظيما من عظماء مرازبته له سنّ وتجربة يقال له رستم. فوجهه الى الحيرة ليحارب من ورد عليه هناك من العرب. وعقد ايضا لرجل آخر من حرّ سادات العجم يسمى الهرمزان في جنود كثيرة ووجهه الى ناحية الأهواز لمحاربة ابي موسى الاشعري ومن معه. وعند الالتقاء قتل هاذان المرزبانان العظيمان. ومرّت العرب في اثر العجم يقتلون من أدركوا منهم. وفي خلافة عمر فتح ابو عبيدة دمشق بعد حصار سبعة أشهر. وصالح اهل ميسان وطبرية وقيسارية وبعلبك. وفتح حمص بعد حصار شهرين. وفيها كتب عمر الى معاوية بن ابي سفيان بولاية دمشق. وفيها دخل ميسرة بن مسروق العبسي ارض الروم في اربعة آلاف وهو أول جيش دخل الى الروم. وفيها فتح عمرو بن العاص مصر عنوة وفتح الاسكندرية صلحا. وفيها دخل عياض بن غنم سروج والرّها صلحا. وفيها افتتح ايضا الرقة وآمد ونصيبين وطور عبدين وماردين صلحا. وفتح حبيب بن مسلمة قرقيسياء صلحا. وفيها فتح عتبة بن غزوان قرى [4] البصرة ثم سار حتى وافى الأبلّة   [1-) ] جرحاهم ر جراحاتهم. [2-) ] ارزمي دخت ر ازرميدخت س ازريمن دخت. [3-) ] جلس يزدجرد على سرير الملك وعمره 21 سنة. [4-) ] قرى وقرا وفرات وقراة. غزوان ر عرفان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فافتتحها عنوة. ثم صار الى المدائن فحارب مرزبانها وضرب عنقه وقتل من جنوده مقتلة عظيمة. ثم ان عتبة كتب الى عمر يستأذنه في الحج. فاستعمل عمر على عمله المغيرة بن شعبة. ثم عزله واستعمل على ارض ميسان أبا موسى الاشعريّ وأمره ان يبتني بأرض البصرة خططا لمن عنده من العرب ويجعل كل قبيلة في محلّة. وابتنوا لأنفسهم المنازل. وبنى بها مسجدا جامعا متوسطا. وعند فراغه من بناء مدينة البصرة اسكن فيها ذرية من كان بها من العرب وسار في جنوده الى جميع كور الأهواز فافتتحها الّا مدينة تستر فإنهم امتنعوا لحصانتها. وفيها رحل هرقل من انطاكية الى القسطنطينية وهو يقول باليونانية سوزه [1] سورية. وهي كلمة وداع لارض الشام وبلادها. ثم مات هرقل وقام ابنه قسطنطين مكانه وبعد اربعة أشهر قتلته مرطياني امرأة أبيه بالسم وأقامت ابنها هريقل وسمته داود الحديث. فنقم ارباب الدولة أمره وخلعوه وملكوا قسطوس ابن القتيل. وفيها افتتح عبد الله بن بديل [2] أصفهان صلحا. وفيها فتح جرير البجليّ همذان. وفيها كانت وقعة نهاوند. وفيها افتتح معاوية عسقلان بصلح في شهر رمضان. ومات عمر يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي الحجة سنة ثلث وعشرين للهجرة وعمره ثلث وستون سنة. وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وسبعة عشر يوما. قتله ابو لؤلؤة فتى المغيرة بن شعبة في صلاة الفجر. وكان السبب في ذلك ان أبا لؤلؤة جاء اليه يشكو ثقل الخراج وكان عليه كل يوم درهمان. فقال له عمر: ليس بكثير في حقك فاني سمعت عنك انك لو أردت ان تدير الرحى بالريح لقدرت عليه. فقال: لأديرنّ لك رحى لا تسكن الى يوم القيامة. فقال: ان العبد أوعد ولو كنت اقتل أحدا بالتهمة لقتلت هذا. ثم ان الغلام ضربه بالخنجر في خاصرته طعنتين. فدعا عمر طبيبا لينظره فسقاه لبنا فخرج اللبن بيّنا [3] . فقال له: أعهد يا امير المؤمنين. وفي هذا الزمان اشتهر بين الاسلاميين يحيى المعروف عندنا بغرماطيقوس اي النحويّ. وكان اسكندريا يعتقد اعتقاد النصارى اليعقوبية ويشيد عقيدة ساوري. ثم رجع عما يعتقده النصارى في التثليث. فاجتمع اليه الاساقفة بمصر وسألوه الرجوع عما   [1-) ] شوره ر سوره تصحيف سوره. وسوزه كلمة يونانية [؟] [؟] . وتأويله: كوني بسلام يا سوريا. [2-) ] بديل ر نديل. [3-) ] راجع التاريخ الكامل لابن الأثير الجزء الثالث الصفحة الحادية والعشرين السطر الأخير. والطبيب الذي داواه قال ابن الأثير انه من بني الحرث بن كعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 هو عليه. فلم يرجع. فأسقطوه عن منزلته. وعاش الى ان فتح عمرو بن العاص مدينة الاسكندرية [1] . ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها انسة ما هاله ففتن به. وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكان لا يفارقه. ومن الأطباء المشهورين في هذا الزمان بولس الاجانيطي طبيب مذكور في زمانه وكان خيرا خبيرا بعلل النساء كثير المعاناة لهنّ. وكانت القوابل يأتينه ويسألنه عن الأمور التي تحدث للنساء عقيب الولادة فينعم بالجواب لهنّ ويجيبهنّ عن سؤالهنّ بما يفعلنه. فلذلك سمّوه بالقوابلي. وله كتاب في الطب تسع مقالات نقل حنين بن اسحق. وكتاب في علل النساء. ومنهم مغنوس له ذكر بين الأطباء ولم نر له تصنيفا. (عثمان بن عفّان) ويكنى أبا عمرو. بويع له لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلث وعشرين للهجرة. قيل لما ضرب ابو لؤلؤة عمر بالخنجر وشرب اللبن فخرج من جراحته فقالوا له: اعهد الى من تكون الخلافة بعدك. قال: لو كان سالم حيا لم اعدل به. قيل له: هذا عليّ بن ابي طالب وقد تعرف قرابته وتقدمه وفضله. قال: فيه دعابة اي مزاح. قيل: فعثمان بن عفّان. قال: هو كلف بأقاربه. قيل: فهذا الزبير بن العوام حواريّ النبي عليه السلام. قال: بخيل. قيل: فهذا سعد. قال: فارس مقنب. والمقنب ما بين الثلثين الى الأربعين من الخيل. قيل: فهذا طلحة ابن عم ابي بكر الصديق. قال: لولا بأو فيه اي كبر وخيلاء. قيل: فابنك. قال: يكفي ان يسأل واحد من آل الخطاب عن امرة امير المؤمنين. ولكن جعلت هذا الأمر شورى بين ستة نفر وهم عثمان وعليّ وطلحة والزبير وابو عبيدة وسعد بن ابي وقاص الى ثلثة ايام. فلما دفن عمر جاء ابو عبيدة الى عليّ بن ابي طالب فقال له: هل أنت مبايعي على   [1-) ] «وكان مقامهم (المسلمين) على حصار الاسكندرية اربعة عشر شهرا فلما فتحوا الاسكندرية وهرب من هرب من الروم مضى عمرو بن العاص في طلب من هرب من الروم في البر. فرجع من كان هرب منهم في البحر الى الاسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين. فبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا. وقاتلوه قتالا شديدا على الحصن ثم فتحها. وهرب الروم ايضا الى المراكب. فكتب عمرو بن العاص الى عمر ابن الخطاب اني فتحت مدينة لا اصف ما فيها. غير اني أصبت فيها اربعة آلاف مسيد (مسجد) واربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية واربعمائة ملهى للملوك واثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر. واني فتحتها عنوة بغير عهد. ويعلمه ان المسلمين طلبوا قسمتها. فكتب اليه عمر بن الخطاب يقبح رأيه ويأمره ان لا يتجاوزها ولا يقسمها ويترك خرجها فيها للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم. فأقر بها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج» (من نسخة خطية من تاريخ سعيد بن البطريق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 كتاب الله وسنّة نبيه وسنّة الشيخين. قال: اما كتاب الله وسنّة نبيه فنعم. وامّا سنّة الشيخين فأجتهد رأيي. فجاء الى عثمان فقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيه وسنّة الشيخين. قال: اللهمّ نعم. فبايعه ابو عبيدة والجماعة ورضوا به. وأول ما فتح في خلافته ماه البصرة وما كان بقي من حدود أصفهان والريّ على يد ابي موسى الاشعريّ. ثم بعث عثمان عبد الله بن عامر الى اسطخر وبها يزدجرد. فخرج الى دارابجرد [1] . فأرسل عبد الله مجاشع بن مسعود في اثر يزدجرد. فركب المفازة حتى أبي كرمان وأخذ على طريق سجستان يريد الصين. وجاء مجاشع الى سجستان. ثم انصرف لمّا لم يدرك يزدجرد وعاد الى فارس. فاشتد خوف يزدجرد واستمدّ طرخان التركي لنصرته. ولما ورد استخف به وطرده لكلام تكلم به بعض الترك. وعند انصرافهم أرسل ماهويه مرزبان مرو وكان قد خامر على يزدجرد [2] الى طرخان أن: كرّ عليه فاني اظاهرك. فكرّ طرخان على يزدجرد. فولّى يريد المدينة. فاستقبله ماهويه فمزقه كل ممزق. وقيل ان يزدجرد انتهى الى طاحونة بقرية من قرى مرو فقال للطحان: اخفني ولك منطقتي وسواري وخاتمي. فقال الرجل: ان كرى الطاحونة كل يوم اربعة دراهم. فان أعطيتنيها عطلتها والا فلا. فبينا هو في راجعته إذا غشيته الخيل فقتلوه. وانتزع عثمان عمرو بن العاص عن الاسكندرية وأمّر عليها عبد الله بن مسعود أخاه لأمّه. فغزا افريقية وغزا معاوية قبرس وانقرة فافتتحها صلحا. ثم ان الناس نقموا على عثمان أشياء منها كلفه بأقاربه. فآوى الحكم بن العاص بن أميّة طريد النبي عليه السلام. وأعطى عبد الله بن خالد اربعمائة ألف درهم. واعطى الحكم مائة ألف درهم. ولما ولي صعد المنبر فتسنم ذروته حيث كان يقعد النبي عليه السلام. وكان ابو بكر ينزل عنه درجة وعمر درجتين. فتكلم الناس عن ذلك وأظهروا الطعن. فخطب عثمان وقال: هذا مال الله أعطيه من شئت وامنعه ممن شئت. فارغم الله انف من رغم انفه. فقام عمّار [3] بن ياسر فقال: انا أول من رغم انفه. فوثب بنو أمية عليه وضربوه حتى غشي عليه. فحنقت العرب على ذلك وجمعوا الجموع ونزلوا فرسخا من المدينة وبعثوا الى عثمان من يكلمه ويستعتبه ويقول له: إما أن تعدل او تعتزل. وكان أشد الناس على عثمان طلحة والزبير وعائشة. فكتب عثمان إليهم كتابا يقول فيه: اني انزع عن كل شيء أنكرتموه وأتوب الى الله. فلم يقبلوا   [1-) ] دارابجرد ر داربجرد. [2-) ] خامر على يزدجرد ر خامر يزدجرد. [3-) ] عمار ر عماد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 منه وحاصروه عشرين يوما. فكتب الى عليّ: أترضى ان يقتل ابن عمك ويسلب ملكك. قال عليّ: لا والله. وبعث الحسن والحسين الى بابه يحرسانه. فتسوّر محمد ابن ابي بكر مع رجلين حائط عثمان فضربه أحدهم بغتة بمشقص في أوداجه وقتله الآخر والمصحف في حجره وذلك لعشر مضين من ذي الحجة سنة خمس وثلثين وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة بالتقريب وعمره نيّف وثمانون سنة [1] . (عليّ بن ابي طالب) لما قتل عثمان اجتمع الناس من المهاجرين والأنصار فأتوا عليّا وفيهم طلحة والزبير ليبايعوه. فقال عليّ لطلحة والزبير: ان أحببتما ان تبايعاني وان أحببتما بايعتكما. قالا له: لا بل نبايعك. فخرجوا الى المسجد وبايعه الناس يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلثين للهجرة. وكان أول مبايعيه طلحة. وكان في إصبعه شلل فتطيّر منها حبيب بن ذؤيب وقال: يد شلاء لا يتمّ هذا الأمر ما أخلقه ان ينتكث. وتخلّف. عن بيعة عليّ بنو أمية ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد ابن عقبة. ولم يبايعه العثمانية من الصحابة وكانت عائشة تؤلّب [2] على عثمان وتطعن فيه وكان هواها في طلحة. فبينا هي قد أقبلت راجعة من الحج استقبلها راكب. فقالت: ما وراءك. قال: قتل عثمان. قالت: كأني انظر الى الناس يبايعون طلحة. فجاء راكب آخر. فقالت: ما وراءك. قال: بايع الناس عليّا. قالت: وا عثماناه ما قتله الّا عليّ. لاصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم. فقال لها رجل من أحوالها: والله اوّل من أمال حرفه لأنت. ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت: انهم استتابوه ثم قتلوه. ونعثل اسم رجل كان طويل اللحية وكان عثمان إذا نيل منه وعيّب شبّه به لطول لحيته. ثم انصرفت عائشة الى مكة وضربت فسطاطا في المسجد. وأراد عليّ ان ينزع معاوية عن الشام فقال له المغيرة بن شعبة: اقرار معاوية على الشام فانه يرضى بذلك. وسأل طلحة والزبير ان يولّيهما البصرة والكوفة. فأبى وقال: تكونان عندي اتجمّل بكما فاني استوحش لفراقكما. فاستأذناه في العمرة فأذن لهما. فقدما على عائشة وعظّما أمر عثمان. ولما سمع معاوية بقول عائشة في عليّ ونقض طلحة والزبير البيعة ازداد قوة وجراءة وكتب الى الزبير: اني قد بايعتك ولطلحة من بعدك فلا يفوتكما [3] العراق. واعانهما بنو أميّة وغيرهم وخرجوا بعائشة حتى قدموا البصرة فأخذوا ابن حنيف أميرها من قبل   [1-) ] وسمي يوم قتله يوم الدار لأنهم هجموا عليه في داره وقتلوه بها. [2-) ] تؤلّب ر تولّت. [3-) ] يفوتكما ر يفوتنّكما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 عليّ فنالوا من شعره ونتفوا لحيته وخلّوا سبيله فقصد عليّا وقال له: بعثتني ذا لحية وقد جئتك امرد. قال: أصبت اجرا وخيرا. وقتلوا من خزنة بيت المال خمسين رجلا وانتهبوا الأموال. وبلغ ذلك عليّا فخرج من المدينة وسار بتسعمائة رجل. وجاءه من الكوفة ستة آلاف رجل. وكانت الوقعة بالخريبة. فبرز القوم للقتال وأقاموا الجمل وعائشة في هودج ونشبت الحرب بينهم فخرج عليّ ودعا الزبير وطلحة وقال للزبير: ما جاء بك. قال: لا أراك لهذا الأمر أهلا. وقال لطلحة: أجئت بعرس النبي تقاتل بها وخبّيت عرسك في البيت. اما بايعتماني. قالا: بايعناك والسيف على عنقنا. واقبل رجل سعديّ من اصحاب عليّ فقال بأعلى صوته: يا امّ المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون انه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك. ثم اقتتل الناس. وفارق الزبير المعركة فاتبعه عمرو بن جرموز وطعنه في جربّان درعه فقتله. وامّا طلحة فأتاه سهم فأصابه فأردفه غلامه فدخل البصرة وأنزله في دار خربة ومات بها. وقتل تسعون رجلا على زمان الجمل. وجعلت عائشة تنادي: البقيّة البقيّة. ونادى عليّ: اعقروا الجمل. فضربه رجل فسقط. فحمل الهودج موضعا وإذا هو كالقنفذ لما فيه من السهام. وجاء عليّ حتى وقف عليه وقال لمحمد بن ابي بكر: انظر أحيّة هي أم لا. فأدخل محمد رأسه في هودجها. فقالت: من أنت: قال: أخوك البرّ. فقالت: عقق. قال: يا أخيّة هل أصابك شيء. فقالت: ما أنت وذلك. ودخل عليّ البصرة ووبخ أهلها وخرج منها الى الكوفة. ولما بلغ معاوية خبر الجمل دعا اهل الشام الى القتال والمطالبة بدم عثمان. فبايعوه أميرا غير خليفة. وبعث عليّ رسولا الى معاوية يدعوه الى البيعة. فأبى. فخرج عليّ من الكوفة في سبعين ألف رجل. وجاء معاوية في ثمانين ألف رجل فنزل صفّين وهو موضع بين العراق والشام فسبق عليّا على شريعة الفرات. فبعث عليّ الأشتر النخعي فقاتلهم وطردهم وغلبهم على الشريعة. ثم ناوشوا الحرب أربعين صابحا حتى قتل من العراقيين خمسة وعشرون ألفا ومن الشاميّين خمسة وأربعون ألفا. ثم خرج عليّ وقال لمعاوية: علام تقتل [1] الناس بيني وبينك. أحاكمك الى الله عزّ وجلّ فأيّنا قتل صاحبه استقام الأمر له. فقال معاوية لأصحابه: يعلم انه لا يبارزه احد الّا قتله. فأمرهم ان ينشروا المصاحف وينادوا: يا اهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله ندعوكم اليه. قال عليّ: هذا كتاب الله فمن يحكم بيننا. فاختار الشاميّون عمرو بن العاص والعراقيّون أبا موسى الاشعري. فقال الأحنف: ان أبا موسى   [1-) ] تقتل ر نقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 رجل قريب القعر كليل الشفرة اجعلني مكانه آخذ لك بالوثيقة واضعك من هذا الأمر بحيث تحبّ. فلم يرض به اهل اليمن. فكتبوا القضية على ان يحكم الحكمان بكتاب الله والسنّة والجماعة وصيّروا الأجل شهر رمضان. ورحل عليّ الى الكوفة ومعاوية الى الشام. فلما دخل عليّ الكوفة اعتزل اثنا عشر ألفا من القرّاء وهم ينادونه: جزعت من البليّة ورضيت بالقضيّة وحكمت الرجال والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. 6: 57 ثم اجتمع ابو موسى الاشعري وعمرو بن العاص للتحكم بموضع بين مكّة والكوفة والشام بعد صفّين بثمانية أشهر وحضر جماعة من الصحابة والتابعين. فقال ابن عباس لابي موسى: مهما نسيت فلا تنس ان عليّا ليست فيه خلّة واحدة تباعده من الخلافة وليس في معاوية خصلة واحدة تقرّبه من الخلافة. فلما اجتمع ابو موسى وعمرو للحكومة ضربا فسطاطا. وقال عمرو: يجب ان لا نقول شيئا الا كتبناه حتى لا نرجع عنه. فدعا بكاتب وقال له سرا: ابدأ باسمي. فلما أخذ الكاتب الصحيفة وكتب البسملة بدأ باسم عمرو. فقال له عمرو: امحه وابدأ باسم ابي موسى فانه أفضل مني وأولى بأن يقدّم. وكانت منه خديعة. ثم قال: ما تقول يا أبا موسى في قتل عثمان. قال: قتل والله مظلوما. قال: اكتب يا غلام. ثم قال: يا أبا موسى ان إصلاح [1] الأمة وحقن الدماء خير ممّا وقع فيه عليّ ومعاوية. فان رأيت أن تخرجهما وتستخلف على الأمة من يرضى به المسلمون فان هذه امانة عظيمة في رقابنا. قال: لا بأس بذلك. قال عمرو: اكتب يا غلام. ثم ختما على ذلك الكتاب. فلما قعدا من الغد للنظر قال عمرو: يا أبا موسى قد أخرجنا عليّا ومعاوية من هذا الأمر فسمّ له من شئت. فسمّى عدّة لا يرتضيهم عمرو. فعرف ابو موسى انه يتلعّب به. ثم قال عمرو: ان هذا قد خلع صاحبه وانا ايضا خلعته كما خلعت هذا الخاتم من يدي. وافترقا. وعزم عليّ المسير الى معاوية. وبايعه ستون ألفا على الموت. فشغلته الخوارج وقتالهم. وأخذ معاوية في تسريب السرايا الى النواحي التي يليها عمّال [2] عليّ وشنّ الغارات وبعث جيشا الى المدينة ومكّة. فبايعه بقية أهلها. ثم تعاقد ثلثة نفر من الخوارج داود [3] والبرك وابن ملجم ان يقتلوا عمرو بن العاص ومعاوية وعليّا ويريحوا العباد من أيمة الضلال. اما داود فانه أتى الى مصر ودخل المسجد وضرب خارجة   [1-) ] إصلاح ر صلاح. [2-) ] عمال ر اعمال. [3-) ] ويروى زادويه ودادويه. ويروى: عمرو بن بكير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ابن حذافة فقتله وهو يظنه عمرا. وأخذ دادويه فقتل. واما البرك فانه مضى الى الشام ودخل المسجد وضرب معاوية فقطع منه عرقا فانقطع منه النسل. فأخذ البرك فقطعت يداه ورجلاه وخلّي عنه. فقدم البصرة ونكح امرأة فولدت له. فقال له زياد: يولد لك ولا يولد لمعاوية. فضرب عنقه. واما ابن ملجم فانه أتى الى الكوفة وسمّ سيفه وشحذه وجاء فبات بالمسجد. فدخل عليّ المسجد ونبّه النيام فركل ابن ملجم برجله وهو ملتفّ بعباءة وفتح ركعتي الفجر. فأتاه ابن ملجم. فضربه على ضلعه ولم تبلغ الضربة مبلغ القتل ولكن عمل فيه السمّ. فثار الناس اليه وقبضوا عليه. فقال عليّ: لا تقتلوه فان عشت رأيت فيه رأيي وان متّ فشأنكم به. فعاش ثلثة ايام ثم مات يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان [1] . فقتل ابن ملجم. (الحسن بن عليّ بن ابي طالب) ثم بويع الحسن بن عليّ بالكوفة. وبويع معاوية بالشام في مسجد إيليا. فسار الحسن عن الكوفة الى لقاء معاوية. وكان قد نزل مسكن من ارض الكوفة. ووصل الحسن الى المدائن وجعل قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفا. وقدّم معاوية على مقدّمته بشر بن ارطاة. فكانت بينه وبين قيس مناوشة. ثم تحاجزوا ينتظرون الحسن. (قالوا) فنظر الحسن الى ما يسفك من الدماء وينتهك من المحارم فقال: لا حاجة لي في هذا الأمر وقد رأيت ان أسلّمه الى معاوية فيكون في عنقه. تباعته وأوزاره. فقال له الحسين: أنشدك الله ان تكون أول من عاب أباه ورغب عن رأيه. فقال الحسن: لا بدّ من ذلك. وبعث الى معاوية يذكر تسليمه الأمر اليه. فكتب اليه معاويه: اما بعد فأنت أولى مني بهذا الأمر لقرابتك وكذا وكذا. ولو علمت انك اضبط له وأحوط على حريم هذه الأمّة وأكيد للعدو لبايعتك. فاسأل ما شئت. فكتب الحسن أموالا وضياعا وأمانا لشيعة عليّ وأشهد على ذلك شهودا من الصحابة. وكتب في تسليم الأمر كتابا. فالتقى معاوية مع الحسن على منزل من الكوفة ودخلا الكوفة معا. ثم قال: يا أبا محمد جدت بشيء لا تجود بمثله نفوس الرجال فقم وأعلم الناس بذلك. فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ايها الناس ان الله عزّ وجلّ هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا. وان معاوية نازعني حقا لي دونه فرأيت ان امنع الناس الحرب وأسلّمه اليه. وان لهذا الأمر مدة. والدنيا دول. فلما قالها قال له معاوية: اجلس. وحقدها عليه. ثم قام خطيبا فقال: اني كنت شرطت شروطا أردت بها نظام   [1-) ] وكان عمره ثلاثا وستين سنة ومدة خلافته اربع سنين وتسعة أشهر ويوما واحدا. وللناس خلاف في مدة عمره وفي قدر خلافته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الالفة. وقد جمع الله كلمتنا وأزال فرقتنا. فكل شرط شرطته فهو مردود. فقام الحسن وقال: ألا وانا اخترت العار على النار. وسار الى المدينة وأقام بها الى ان مات سنة سبع وأربعين من الهجرة [1] . وكانت خلافته خمسة أشهر. (معاوية بن ابي سفيان) وصار الأمر الى معاوية سنة أربعين من الهجرة. وكان ولي لعمر وعثمان عشرين سنة. ولمّا سلّم الحسن الأمر اليه ولى الكوفة المغيرة بن شعبة وولّى البصرة وخراسان عبد الله بن عامر وولى المدينة مروان بن الحكم. وانصرف معاوية الى الشام فولى عبد الله بن حازم. ومات عمرو بن العاص بمصر يوم عيد الفطر فصلّى عليه ابنه عبد الله ثم صلى بالناس صلاة العيد. وكان معاوية قد اذكى العيون على شيعة عليّ فقتلهم اين أصابهم. وفي سنة ست وأربعين من الهجرة وهي سنة تسعمائة وسبع وثمانين [2] للإسكندر أرسل سابور المتغلب على أرمانيا الى معاوية رسولا اسمه سرجي يطلب منه النجدة على الروم. وأرسل قسطنطين الملك ايضا رسولا الى معاوية لاندراا [3] الخصيّ وهو من اخص خواصه. فأذن معاوية لسرجي ان يدخل أولا فدخل ثم دخل اندراا. فلما رآه سرجي نهض له لأنه كان عظيما. فوبّخ معاوية لسرجي وقال: إذا كان العبد هالك فكيف مولاه. فقال سرجي: خدعت من العادة. ثم سأل معاوية لاندراا: لماذا جئت. فقال: الملك سيّرني لئلّا تصغوا الى كلام هذا المتمرد ولا يكون الملك والمملوك عندك بالسواء. فقال معاوية: كلّكم اعداء لنا. فأيكم زاد لنا من المال راعيناه. فلما سمع ذلك اندراا خرج. ومن الغد حضر وسرجي قد سبقه بالدخول. فلما دخل اندراا لم ينهض له. فشتمه اندراا فقال له: يا يؤوس استخففت بي. فقذفه سرجي قذف المخانيث. قال اندراا: سوف ترى. ثم أعاد كلامه الاول على معاوية فقال له معاوية: ان أعطيتمونا كل خراج بلادكم نبقي لكم اسم المملكة والا ازحناكم عنها. قال اندراا: كأنك تزعم ان العرب هم الجسم والروم الخيال. نستعين بربّ السماء. ثم استأذن للرحيل وسار مجتازا على ملطية. وتقدّم الى مستحفظي الثغور ان يكمنوا لسرجي في الطريق ويلزموه ويحملوه الى ملطية وينزعوا خصيتيه ويعلقوهما في رقبته ثم يسمروه. ففعلوا به كذلك.   [1-) ] قال الدميري: «كانت وفاته سنة تسع وأربعين وقيل سنة خمسين» . وقال ابن الأثير: «في هذه السنة (اي سنة تسع وأربعين) توفي الحسن بن علي سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث الكندي» . [2-) ] والصواب: تسعمائة وتسع وسبعين. س تسعمائة وسبع وسبعين. [3-) ] لاندراا ر لاندر ولاندرا واندراس [؟] اندرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقيل ان معاوية أول من خطب قاعدا لأنه كان بطينا بادنا. وأول من قدّم الخطبة على الصلاة خشية ان يتفرق الناس عنه قبل ان يقول ما بدا له. ثم أخذ بيعة اهل المدينة ومكة ليزيد ابنه بالسيف وبايعه الشاميّون ايضا. ثم مات معاوية بدمشق في رجب سنة ستين وهو ابن ثمانين سنة. وبايع اهل الشام يزيد بن معاوية. (يزيد بن معاوية) لما مات معاوية استدعى الوليد بن عتبة بن ابي سفيان وهو على المدينة الحسين بن عليّ وعبد الله بن الزبير في جوف الليل ونعى إليهما معاوية وأخذهما بالبيعة لابنه يزيد. فقالا: مثلنا لا يبايع سرا ولكن إذ نصبح. وانصرفا من عنده وخرجا من تحت الليل الى مكة وأبيا ان يبايعا. وبلغ اهل الكوفة امتناعهما عن بيعة يزيد فكتبوا الى الحسين في القدوم عليهم. فأرسل الحسين مسلم بن عقيل بن ابي طالب الى الكوفة ليأخذ بيعة أهلها. فجاء واجتمع اليه خلق كثير من الشيعة يبايعون الحسين. وبلغ الخبر عبيد الله بن زياد وهو بالبصرة فتمّ الى الكوفة [1] . فسار اليه الشيعة وقاتلوه حتى دخل القصر واغلق بابه. فلما كان عند المساء وتفرق الناس عن مسلم بعث ابن زياد خيلا في. خفية فقبضوا عليه ورفعوه بين شرف القصر ثم ضربوا عنقه. ولما بلغ الخبر الحسين هم بالرجوع الى المدينة. وبعث اليه ابن زياد الحر بن يزيد التميمي في ألف فارس. فلقي الحسين بزبالة وقال له: لم أومر بقتالك انما أمرت ان أقدمك الكوفة. فإذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الى الكوفة ولا يردك الى المدينة حتى الكتب الى ابن زياد. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية والحرّ يسايره حتى اكتب الى ابن زياد. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية والحرّ يسايره حتى انتهى الى الغاضرية فنزل بها. وقدم عليه عمر بن سعد بن ابي وقاص في اربعة آلاف ومعه شمر ذو الجيوش فنزلوا بين نهري كربلاء وجرت الرسل بينهم وبين الحسين ومنعوه ومن معه الماء ان يشربوا وناهضهم القتال يوم عاشوراء وهو يوم الجمعة ومعه تسعة عشر إنسانا من اهل بيته فقتل الحسين عطشانا وقتل معه سبعة من ولد عليّ بن ابي طالب وثلثة من ولد الحسين. وتركوا عليّ ابن الحسين لأنه كان مريضا. فمنه عقب الحسين الى اليوم. وقتل من أصحابه سبعة وثمانون إنسانا. وساقوا عليّ بن الحسين مع نسائه وبناته الى ابن زياد. فزعموا انه وضع رأس الحسين في طست [2] وجعل ينكت في وجهه بقضيت ويقول: ما رأيت مثل حسن هذا الوجه قط. ثم بعث به وبأولاده الى يزيد بن معاوية. فأمر نساءه وبناته فأقمن   [1-) ] لما بلغ يزيد مراسلة اهل الكوفة الحسين عزل عنها النعمان بن بشير وأمرّ عليها عبيد الله بن زياد امير البصرة سابقا واستخلف على البصرة عثمان بن زياد أخا عبيد الله. [2-) ] طست ر طشت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 بدرجة المسجد حيث توقف الأسارى [1] لينظر الناس إليهم. وقتل الحسين سنة احدى وستين من الهجرة يوم عاشوراء وهو يوم الجمعة. وكان قد بلغ من السن ثمانيا وخمسين سنة. وكان يخضب بالسواد. ثم بعث يزيد بأهله وبناته الى المدينة. وللروافض في هذه القصة زيادات وتهاويل كثيرة. ولما احتضر يزيد بن معاوية بايع ابنه معاوية ومات وهو ابن ثماني وثلثين سنة. وكان ملكه ثلث سنين وثمانية أشهر. (معاوية بن يزيد) ولما مات يزيد صار الأمر الى ولده معاوية وكان قدريّا لان عمر المقصوص كان علمه ذلك فدان به وتحققه. فلما بايعه الناس قال للمقصوص: ما ترى. قال: اما ان تعتدل او تعتزل. فخطب معاوية بن يزيد فقال: ان جدّي معاوية نازع الأمر من كان اولى به وأحق. ثم تقلده ابي. ولقد كان غير خليق به. ولا احبّ ان ألقى الله عزّ وجلّ بتبعاتكم. فشأنكم وأمركم ولّوه من شئتم. ثم نزل واغلق الباب في وجهه وتخلّى بالعبادة حتى مات بالطاعون. وكانت ولايته عشرين يوما [2] . فوثب بنو أميّة على عمر المقصوص وقالوا: أنت أفسدته وعلّمته. فطمروه ودفنوه حيّا. واما ابن الزبير فلما مات يزيد دعا الناس الى البيعة لنفسه وادّعى الخلافة فظفر بالحجاز والعراق وخراسان واليمن ومصر والشام الّا الاردنّ. (مروان بن الحكم) بويع بالأردن سنة اربع وستين للهجرة وهو أول من أخذ الخلافة بالسيف. وسار اليه الضحاك بن قيس فاقتتلوا بمرج راهط من غوطة دمشق. فقتل الضحاك. وخرج سليمان بن صرد الخزاعيّ من الكوفة في اربعة آلاف من الشيعة يطلبون بدم الحسين فبعث اليه مروان بن الحكم عبيد الله بن زياد فالتقوا برأس العين فقتل سليمان وتفرق أصحابه. ومات مروان بدمشق وكانت ولايته سبعة أشهر وأياما [3] . وبايع اهل الشام عبد الملك بن مروان. قال ابن جلجل الاندلسي ان ماسرجويه الطبيب البصري سريانيّ اللغة يهودي   [1-) ] الأسارى ر اليسارى. [2-) ] وقيل كانت ولايته أربعين يوما. وقيل: ثلاثة أشهر. ويروى انه مات مسموما. [3-) ] وقيل تسعة أشهر وبعض شهر. واخبر الفخري عن سبب موته قال: «كان مروان حين بويع قد تزوج أم خالد زوجة يزيد بن معاوية ليصغر بذلك شأن خالد فيسقط عن درجة الخلافة. فدخل خالد يوما على مروان فقال له مروان: يا ابن الرطبة ونسبه الى الحمق ليصغر أمره عند اهل الشام. فخجل خالد ودخل على أمه وأخبرها بما قاله له مروان. فقالت: لا يعلمن احد انك اعلمتني وانا أكفيك. ثم ان مروان نام عندها ليلة فوضعت على وجهه وسادة ولم ترفعها حتى مات. وأراد ابنه عبد الملك ان يقتلها فقيل له: يتحدث الناس ان أباك قتلته امرأة. فتركها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المذهب. وهو الذي تولى في ايام مروان تفسير كناش اهرون القس الى العربي. وحدّث أيوب بن الحكم انه كان جالسا عند ماسرجويه إذ أتاه رجل من الخوز فقال: اني بليت بداء لم يبل احد بمثله. فسأله عن دائه. فقال: أصبح وبصري مظلم عليّ وانا أصيب مثل لحس الكلاب في معدتي فلا تزال هذه حالي الى ان اطعم شيئا فإذا طعمت سكن ما أجد الى وقت انتصاف النهار. ثم يعاودني ما كنت فيه. فإذا عاودت الأكل سكن ما بي الى وقت صلاة العتمة. ثم يعاودني فلا أجد له دواء الا معاودة الأكل. فقال له ماسرجويه: على دائك هذا غضب الله. فانه أساء لنفسه الاختيار حين قرنه بسفلة مثلك ولوددت ان هذا الداء تحوّل اليّ والى صبياني فكنت اعوّضك مما نزل بك مثل نصف ما أملك. فقال له الخوزيّ: ما أفهم عنك. قال ماسرجويه: هذه صحة لا تستحقها أسأل الله نقلها عنك الى من هو احقّ بها منك. (عبد الملك بن مروان) بويع سنة خمس وستين بالشام. واما ابن الزبير فبعث أخاه مصعبا على العراق. فقدم البصرة وأعطاه أهلها الطاعة واستولى مصعب على العراقين. فسار اليه عبد الملك بن مروان فالتقوا بسكن [1] . وقتل مصعب واستقام العراق لعبد الملك. وكان الحجّاج بن يوسف على شرطه. فرأى عبد الملك من نفاذه وجلادته ما أعجب به ورجع الى الشام ولا همّ له دون ابن الزبير. فأتاه الحجّاج فقال: ابعثني اليه فاني ارى في المنام كأني اقتله واسلخ جلده. فبعثه اليه. فقتله وسلخ جلده وحشاه تبنا وصلبه. وكانت فتنة ابن الزبير تسع سنين منذ موت معاوية الى ان مضت ست سنين من ولاية عبد الملك. وولي الحجاج الحجاز واليمامة. وبايع اهل مكة لعبد الملك بن مروان. وزعم قوم ان الحجاج بلاء صبّه الله على اهل العراق. ولما قدم الكوفة دخل المسجد وصعد يوما المنبر وسكت ساعة ثم نهض وقال: والله يا اهل العراق اني ارى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها واني لصاحبها. فكأني انظر الى الدماء من فوق العمائم واللحى. وفي سنة سبعين للهجرة وهي سنة ألف للإسكندر استجاش يوسطينيانوس ملك الروم على من بالشام من المسلمين. فصالحه عبد الملك على ان يؤدّي اليه كل يوم جمعة ألف دينار. وقيل كل يوم ألف دينار وفرسا ومملوكا. وفي سنة ثلث وثمانين بنى الحجّاج مدينة واسط. وفي سنة ست وثمانين توفي عبد الملك بن مروان. وكان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان. فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن وفيه   [1-) ] في الكامل لابن الأثير: مسكن. وفي معجم البلدان: «سكن بفتح اوله وكسر ثانيه موضع بأرض الكوفة عن العمراني قال وفيه نظر. وأخاف ان يكون أراد مسكن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 بايع لي الناس. فمات في النصف من شوال حين أمن الموت على نفسه. وكان ابن ستين سنة وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلث عشرة سنة. واختصّ بخدمة الحجاج بن يوسف تياذوق وثاودون الطبيبان. اما تياذوق فله تلاميذ اجلّاء تقدموا بعده ومنهم من أدرك الدولة العباسية كفرات بن شحناثا في زمن المنصور. واما ثاودون فله كناش كبير عمله لابنه. وقيل دخل الى الحجاج يوما فقال له الحجاج: اي شيء دواء أكل الطين. فقال: عزيمة مثلك ايها الأمير. فرمى الحجاج بالطين ولم يعد الى اكله بعدها. (الوليد بن عبد الملك) لما ولي الأمر أقر العمال على النواحي. وفي ولايته خرج قتيبة بن مسلم الى ما وراء النهر. فجاشت الترك والسغد والشاش وفرغانة واحدقوا به اربعة أشهر. ثم هزمهم وافتتح بخارا. ثم مضى حتى أناخ على سمرقند فافتتحها صلحا. وفي أيامه مات الحجاج. ذكروا انه اخذه السل وهجره النوم والرقاد. فلما احتضر قال لمنجم عنده: هل ترى ملكا يموت. قال: نعم ارى ملكا يموت اسمه كليب. فقال: انا والله كليب بذلك سمتني أمي. قال المنجم: أنت والله تموت كذلك دلّت عليه النجوم. قال له الحجاج: لاقدمنّك امامي. فأمر به فضرب عنقه. ومات الحجاج وقد بلغ من السن ثلثا وخمسين سنة. وولي الحجاز والعراق عشرين سنة. وكان قتل من الاشراف والرؤساء مائة ألف وعشرين ألفا سوى العوام ومن قتل في معارك الحروب. وكان مات في حبسه [1] خمسون ألف رجل وثلثون ألف امرأة. ومات الوليد سنة ست وتسعين وكانت ولايته تسع سنين وثمانية أشهر. وبنى مسجد دمشق وكان فيه كنيسة فهدمها. وبنى مسجد المدينة والمسجد الأقصى. واعطى المجذّمين ومنعهم من السؤال الى الناس. وأعطى كل مقعد خادما وكل ضرير قائدا. ومنع الكتّاب النصارى من ان يكتبوا الدفاتر بالرومية لكن بالعربية. وفتح في ولايته الأندلس وكاشغر والهند. وكان يمرّ بالبقّال فيقف عليه يأخذ منه حزمة بقل فيقول: بكم هذا. فيقول: بفلس. فيقول: زد فيها. وكان صاحب ناء واتّخاذ للمصانع والضياع. وقيل انه كان لحّانا لا يحسن النحو. دخل عليه اعرابيّ فمتّ اليه بصهر له. فقال له الوليد: من ختنك بفتح النون. فقال: بعض الأطباء. فقال سليمان: انما يريد امير المؤمنين من ختنك وضمّ النون. فقال الاعرابي: نعم فلان. وذكر ختنه. وعاتبه أبوه عبد الملك على ذلك وقال له: لا يلي العرب الّا من يحسن كلامهم. فجمع أهل النحو ودخل بيتا ولم يخرج منه ستة   [1-) ] حبسه ر جيشه. ابن العبري- 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أشهر. ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخله. فقال عبد الملك: قد أعذر. (سليمان بن عبد الملك) وفي سنة ستّ وتسعين بويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي فيه مات الوليد اخوه. قالوا انه كان خيّرا فصيحا نشأ بالبادية عند أخواله بني عبس. وردّ المظالم وآوى المشترين وأخرج المحبسين. وفي سنة ثماني وتسعين من الهجرة وهي سنة ألف وسبعة وعشرين للإسكندر جهز سليمان جيشا مع أخيه مسلمة ليسير الى القسطنطينية. وسار حتى بلغها في مائة ألف وعشرين ألفا وعبر الخليج وحاصر المدينة. فلما برّح بأهلها الحصار أرسلوا الى مسلمة يعطونه عن كل رأس دينارا. فأبى ان يفتتحها الّا عنوة. فقالت الروم للاون البطريق: ان صرفت عنّا المسلمين ملّكناك علينا. فاستوثق منهم وأتى مسلمة وطلب الامان لنفسه وذويه ووعده ان يفتح له المدينة غير انه ما يتهيأ ذلك ما لم يتنحّ عنهم ليطمئنوا ثم يكرّ عليهم. فارتحل مسلمة وتنحى الى بعض الرساتيق. ودخل لاون فلبس التاج وقعد على سرير الملك. واعتزل الملك ثاوذوسيوس ولبس الصوف منعكفا في بعض الكنائس. ولأنّ مسلمة لما دنا من القسطنطينية أمر كل فارس ان يحمل معه مدّين من الطعام على عجز فرسه الى القسطنطينية لما دخل لاون المدينة وتنحى مسلمة اعدّ لاون السفن والرجال فنقلوا في ليلة ذلك الطعام ولم يتركوا منه الّا ما لم يذكر وأصبح لاون محاربا وقد خدع مسلمة خديعة لو كانت امرأة لعيّبت بها. وبلغ الخبر لمسلمة فأقبل راجعا ونزل بفناء القسطنطينية ثلثين شهرا فشتا فيها وصاف وزرع الناس. ولقي جنده ما لم يلقه جيش آخر حتى كان الرجل يخاف ان يخرج من العسكر وحده من البلغاريين الذين استجاشهم لاون ومن الافرنج الذين في السفن ومن الروم الذين يحاربونهم من داخل. وأكلوا الدوابّ والجلود واصول الشجر والورق. وسليمان بن عبد الملك مقيم بدابق ونزل الشتاء فلم يقدر ان يمدهم حتى مات لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين. فرحل مسلمة عن القسطنطينية وانصرف وكانت خلافته اعني سليمان سنتين وثمانية أشهر. وكان بايع ابنه أيوب فمات قبله فاستخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم. ولما احتضر سليمان قيل له: أوص. قال: ان بنيّ صبية صغار ... . أفلح من كانت له كبار. (عمر بن عبد العزيز) لما استخلف عمر بن عبد العزيز [1] وبويع له صعد المنبر وأمر بردّ المظالم ووضع اللعنة عن أهل البيت وكانوا يلعنونهم على المنابر وحضّ على   [1-) ] ويلقب بالأشج لشجة كانت في وجهه من رمح دابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 التقوى والتواصل وقال: والله ما أصبحت ولي [1] على أحد من أهل القبلة موجدة الّا على إسراف ومظلمة. ثم تصدّق بثوبه ونزل. وتوفي عمر بن عبد العزيز في رجب لخمس بقين منه سنة احدى ومائة. وكانت شكواه عشرين يوما [2] . ولما مرض قيل له: لو تداويت. فقال: لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها نعم المذهوب اليه ربي. وكان موته بدير سمعان ودفن به. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر. وكان عمره تسعا وثلثين سنة. قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر أعوده فإذا هو على فراش من ليف وتحته وسادة من أديم مسجى بشملة ذابل الشفة كاسف اللون وعليه قميص وسخ. فقلت لاختي فاطمة وهي امرأته: اغسلوا ثياب امير المؤمنين. فقالت: نفعل. ثم عدت فإذن القميص على حاله. فقلت: ألم آمركم ان تغسلوا قميصه. فقالت: والله ما له غيره. فسبّحت لله وبكيت وقلت: يرحمك الله لقد خوّفتنا بالله عزّ وجلّ وأبقيت لنا ذكرا في الصالحين. قيل وكانت نفقته كل يوم درهمين. وفي أيامه تحركت دولة بني هاشم. (يزيد بن عبد الملك) يكنى أبا خالد. عاشر بني مروان. ولما ولي الأمر استعمل على العراقين وخراسان عمر بن هبيرة الفزاريّ وبعث مسلمة بن عبد الملك لقتال يزيد ابن المهلّب. فقتله وبعث برأس يزيد الى يزيد وكان يزيد بن عبد الملك صاحب لهو وقصف وشغف بحبّابة المغنية واشتهر بذكرها. وقيل كان يزيد قد حجّ ايام سليمان أخيه فاشترى حبابة باربعة آلاف دينار فقال سليمان: لقد هممت ان أحجر على يزيد. فلما سمع يزيد ردّها فاشتراها رجل من اهل مصر. فلما أفضلت الخلافة اليه قالت له امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه. فقال: نعم حبّابة. فأرسلت فاشترتها وصنعتها وأتت بها يزيد وأجلستها من وراء الستر فقالت: يا امير المؤمنين أبقي من الدنيا شيء تتمناه. قال: قد أعلمتك. فرفعت الستر وقالت: هذه حبّابة. وقامت وتركتها عنده. فحظيت سعدة عنده وأكرمها. وقال يوما وقد طرب بغناء حبّابة: دعوني أطير. وأهوى ليطير. فقالت: يا امير المؤمنين ان لنا فيك حاجة. فقال: والله لأطيرنّ. فقالت: فعلى من تدع الأمّة والملك. قال لها: عليك والله. وقبّل يدها. فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك ما اسخفك. وخرجت معه الى ناحية الأردن يتنزهان. فرماها   [1-) ] ولي ر وبي. [2-) ] قال ابو الفداء: «كان موته بالسم عند اكثر اهل التاريخ. فان بني أمية علموا انه إذا امتدت أيامه اخرج الأمر من أيديهم وانه لا يعهده بعده الا لمن يصلح للامر فعالجوه وما أمهلوه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بحبة عنب فاستقبلتها بفيها فدخلت حلقها فشرقت ومرضت بها وماتت. فتركها ثلثة ايام لا يدفنها حتى نتنت وهو يشمّها ويقبّلها وينظر إليها ويبكي. فلما دفنت بقي بعدها خمسة عشر يوما ومات ودفن الى جانبها سنة خمس ومائة. وكانت ولايته اربع سنين وشهرا وله أربعون سنة. (هشام بن عبد الملك) وفي هذه السنة استخلف هشام بن عبد الملك لليال بقين من شعبان. وكان عمره يومئذ أربعا وثلثين سنة. أتاه البريد بالخاتم والقضيب وسلّم عليه بالخلافة وهو بالرصافة. فركب منها حتى أتى دمشق. وفي أيامه خرج زيد بن عليّ ابن الحسين بن عليّ بن ابي طالب فقدم الكوفة وأسرعت [1] اليه الشيعة وقالوا: لنرجو ان يكون هذا الزمان الذي تهلك فيه بنو أميّة. وجعلوا يبايعونه سرا. وبايعه اربعة عشر ألفا على جهاد الظالمين والرفع عن المستضعفين. وبلغ الخبر يوسف بن عمر وهو امير البصرة فجدّ في طلب زيد. وتواعدت الشيعة بالخروج وجاءوا الى زيد فقالوا: ما تقول في ابي بكر وعمر. قال: ما أقول فيهما الا خيرا. فتبرأوا منه ونكثوا بيعته وسعوا به الى يوسف. فبعث في طلبه قوما. فخرج زيد ولم يخرج معه الا اربعة عشر رجلا. فقال: جعلتموها حسينية. ثم ناوشهم القتال. فأصابه سهم بلغ دماغه فحمل من المعركة ومات تلك الليلة ودفن. فلما أصبحوا استخرجوه من قبره فصلبوه. فأرسل هشام الى يوسف: احرق عجل العراق. فأحرقه. وهرب ابنه يحيي حتى أتى بلخ. قيل كان هشام محشوّا عقلا. وتفقد هشام بعض ولده فلم يحضر الجمعة. فقال: ما منعك من الصلاة. قال: نفقت دابتي. قال: أفعجزت عن المشي. فمنعه الدابة سنة. وأتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط. فقال: اكسروا الطنبور على رأسه. فبكى الرجل لما ضربه. فقيل: عليك بالصبر. فقال: أتراني ابكي للضرب بل انما ابكي لاحتقاره البربط إذ سمّاه طنبورا. وقيل: وكتب اليه بعض عماله: قد بعثت الى امير المؤمنين بسلة دراقن. فكتب اليه: قد وصل الدراقن فأعجبنا فزد منه واستوثق من الوعاء. وكتب الى عامل آخر قد بعث بكمأة: قد وصلت الكمأة وهي أربعون وقد نغير بعضها. فإذا بعثت شيئا فأجد حشوها في الظرف بالرمل حتى لا يضطرب ولا يصيب بعضها بعضا. وقيل له: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان. قال: ولم لا أطمع فيها وانا حليم عفيف. ومات   [1-) ] وأسرعت ر واهرعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 هشام بالرصافة سنة خمس وعشرين ومائة. وكانت ولايته عشرين سنة وعمره خمسا وخمسين سنة وكان مرضه الذبحة. قيل أول من قدم خراسان من دعاة بني العبّاس سنة تسع ومائة زياد في ولاية أسد بعثه محمد الامام ابن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب وقال له: الطف بمضر. ونهاه عن رجل من نيسابور يقال له غالب لأنه كان مفرطا في حب بني فاطمة. فلما قدم زياد دعا الى بني العباس وذكر سيرة بني أميّة وظلمهم. وقدم عليه غالب وتناظرا في تفضيل آل علي وآل العباس وافترقا. وأقام زياد بمرو. ورفع أمره الى أسد وخوّف من جانبه فأحضره وقتله وقتل معه عشرة من اهل الكوفة. وفي سنة ثماني عشرة ومائة توجه عمّار [1] ابن يزيد الى خراسان ودعا الى محمد بن عليّ بن عبد الله ابن عبّاس. فأطاعه الناس وتسمى بخداش وأظهر دين الخرّميّة [2] ورخّص لبعضهم في نساء بعض وقال لهم: انه لا صوم ولا صلاة ولا حج. وان تأويل الصوم ان يصام عن ذكر الامام فلا يباح باسمه. والصلاة فالدعاء له والحجّ فالقصد اليه. (الوليد بن يزيد بن عبد الملك) كان يزيد أبوه عقد ولاية العهد له بعد أخيه هشام ابن عبد الملك. فلما ولي هشام أخو يزيد أكرم الوليد بن يزيد حتى ظهر من الوليد مجون وشرب الشراب وتهاون بالدين واستخف به. فتنكّر له هشام وأضرّ به وكان يعتبه ويتنقصه ويقصر به. فخرج الوليد ومعه ناس من خاصته ومواليه فنزل بالأزرق. وكان يقول لأصحابه: هذا المشؤوم قدّمه ابي على أهل بيته فصيّره ولي عهده ثم يصنع بي ما ترون لا يعلم ان لي في احد هوى الّا عبث به. ولم يزل الوليد مقيما في تلك البرّية حتى مات هشام. وأتاه رجلان على البريد فسلما عليه بالخلافة. فوجم ثم قال: أمات هشام. فقالا: نعم. فأرسل الى الخزّان فقال: احتفظوا بما في أيديكم. فأفاق هشام فطلب شيئا. فمنعوه. فقال: انّا لله كأنّا كنّا خزّانا للوليد. ومات في ساعته. وخرج عياض كاتب الوليد من السجن فختم أبواب الخزائن وأنزل هشاما عن فراشه. وما وجدوا له قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه. ولا وجدوا كفنا من الخزائن. فكفّنه غالب مولاه. وضيّق الوليد على اهل هشام وأصحابه وكان يقول: كلناه بالصاع الذي كاله وما ظلمناه به إصبعا. فلما ولي الوليد أجرى على زمنى اهل الشام وعميانهم وكساهم وأخرج   [1-) ] عمار ر عمان. [2-) ] الخرّمية ر الحرامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 لعيالات الناس الطيب والكسوة وزاد الناس في العطاء عشرات ولم يقل في شيء يسأله: لا. ثم عقد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده وجعلهما وليّي عهده أحدهما بعد الآخر. وفي هذه السنة اعني سنة خمس وعشرين ومائة قتل يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين ابن عليّ ابن ابي طالب بجرجان وصلب ثم أنزل وأحرق ثم رضّ وحمل في سفينة وذرّ في الفرات. وفيها قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك قتله ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك وكان سبب قتله ما تقدم من خلاعته ومجانته. فلما ولي الخلافة ولم يزدد من الذي كان فيه من اللهو والركوب للصيد وشرب الخمر ومنادمة الفساق الا تماديا ثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا امره. ولما حاصروه في قصره دنا من الباب وقال لهم: ألم أزد في اعطياتكم [1] ألم ارفع المؤن عنكم. ألم أعط فقراءكم. فقالوا: انّا ما ننقم عليك في أنفسنا انما ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك. قال: حسبكم فلعمري لقد أكثرتم واغرقتم والله لا يرتق فتقكم ولا يلمّ شعثكم ولا تجمع كلمتكم. فنزل من الحائط اليه عشرة رجال فاحتزّوا رأسه وسيّروه الى يزيد. فنصبه على رمح وطاف به بدمشق. وسجن ابنيه الحكم وعثمان. وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة. وكانت مدة خلافته سنة وثلثة أشهر. وكان عمره اثنتين وأربعين سنة. وفي هذه السنة وجّه ابراهيم بن محمد الامام أبا الهاشم بكير الى خراسان. فقدم مرو وجمع النقباء والدعاة فنعى لهم محمد الامام ودعاهم الى ابنه ابراهيم الامام. فقبلوه ودفعوا اليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة شيعة بني العباس. (يزيد بن الوليد بن عبد الملك) سمّي الناقص لأنه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في عطيّات الجند. وكان محمود السيرة مرضيّ الطريقة. أمر بالبيعة لأخيه ابراهيم ومن بعده لعبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك. وتوفي بدمشق لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة. وكانت خلافته ستة أشهر. وكان عمره ستا وأربعين سنة. وكانت أمّه أمّ ولد اسمها شاه فرند [2] ابنة فيروز ابن يزدجرد بن شهريار بن كسرى وهو القائل: انا ابن كسرى وابي مروان ... وقيصر جدّي وجدّي خاقان   [1-) ] اعطياتكم ر عطياتكم. [2-) ] فرند ر فريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وانما جعل قيصر وخاقان جدّيه لأن امّ فيروز ابنة كسرى وامّها ابنة قيصر وام كسرى ابنة خاقان ملك الترك. (ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك) فلما مات يزيد بن الوليد قام بالأمر اخوه ابراهيم بعده غير انه لم يتم له الأمر وكان يسلّم عليه تارة بالخلافة وتارة بالامارة وتارة لا يسلّم عليه بواحدة منهما. فمكث سبعين يوما ثم سار اليه مروان بن محمد فخلعه. ثم لم يزل حيّا حتى أصيب سنة اثنتين وثلثين ومائة. (مروان بن محمد بن مروان بن الحكم) [1] لما مات يزيد بن الوليد بن عبد الملك سار مروان في جنود الجزيرة الى الشام لمحاربة ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك. ولما دخل دمشق اتى بالغلامين الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك مقتولين فدفنهما وبايعه الناس. فلما استقرّ له الأمر رجع الى منزله بحرّان فطلب منه الامان لإبراهيم ابن الوليد وسليمان بن هشام بن عبد الملك فأمّنهما. وفي هذه السنة اعني سنة سبع وعشرين ومائة حارب سليمان بن هشام بن عبد الملك مروان بن محمد وانهزم اصحاب سليمان وقتل منهم نحو ستة آلاف. وفيها توجه سليمان بن كثير ولاهز بن قريط وقحطبة الى مكة فلقوا ابراهيم بن محمد الامام بها وأوصلوا الى مولى له عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكا ومتاعا كثيرا. وكان معهم ابو مسلم [2] . فقال سليمان لإبراهيم الامام: هذا مولاك. فأمرّ ابراهيم أبا مسلم على خراسان. وفي سنة تسع وعشرين ومائة بعث ابراهيم الامام الى ابي مسلم بلواء يدعى الظل وراية تدعى السحاب فعقدهما على رمحين واظهر الدعوة العباسية بخراسان وتأوّل الظل والسحاب ان السحاب يطبق الأرض وكما ان الأرض لا تخلو من الظل كذلك لا تخلو من خليفة عباسي آخر الدهر. وفي سنة احدى وثلثين ومائة حجّ ابراهيم بن محمد الامام ومعه أخواه ابو العبّاس وابو جعفر وولده وعمّه ومواليه على ثلثين نجيبا عليهم، الثياب الفاخرة والرحال والأثقال. فشهره اهل الشام واهل البوادي والحرمين معما انتشر في الدنيا من ظهور أمرهم. وبلغ مروان خبر حجّهم فكتب الى عامله بدمشق يأمره بتوجيه خيل اليه. وكان مروان بأرض الشام. ووجه العامل خيلا   [1-) ] ويقال له الجعدي: ويقال له الحمار. وقيل لقب بالجمار لأنه آخر الخلفاء الأمويين لان الحمار يراد به الآخر. وفي التاريخ السرياني انه لقب بهذا اللقب لكلفه بزهر الزعفران لان هذا الزهر يسمى الحمار. قيل لقب بالحمار لصبره في الحرب. [2-) ] قيل ان أبا مسلم حر من ولد بزرجمهر وانه ولد بأصبهان ونشأ بالكوفة. فانصل بإبراهيم الامام فقير اسمه وكناه بابي مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فهجموا على ابراهيم فأخذوه وحملوه الى سجن حران فأثقلوه بالحديد وضيقوا عليه الحلقة حتى مات [1] . ولما احس ابراهيم بالطلب أوصى الى أخيه ابي العبّاس ونعى نفسه اليه وأمره بالمسير الى الكوفة بأهل بيته. فسار معه اخوه ابو جعفر وعمه ستة رجال حتى قدموا الكوفة مستخفين. (ابو العباس السفاح) وفي سنة اثنتين وثلثين ومائة خرج ابو العباس بن محمد الامام بن عليّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ليلة الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الاول من دار ابي مسلمة [2] بالكوفة فصلى المغرب في مسجد بني أيوب ودخل منزله. فلما أصبح غدا عليه القواد في التعبية والهيئة وقد اعدوا له السواد والمركب والسيف. فخرج ابو العباس فيمن معه الى القصر الذي للامارة. ثم خرج الى المقصورة وصعد المنبر وبايعه الناس. ثم وجه عمه عبد الله الى مروان وهو نازل بالزاب. فواقع عبد الله مروان فهزمه. فمرّ مروان على وجهه ومضى فعبر جسر الفرات فوق حران وجمع جمعا عظيما بنهر فطرس من ارض فلسطين. وعبر ايضا عبد الله الفرات وحاصر دمشق حتى افتتحها وقتل من بها من بني أمية وهدم سورها حجرا حجرا ونبش عن قبور بني أميّة واحرق عظامهم بالنار. ثم ارتحل نحو مروان فهزمه واستباح عسكره. وهرب مروان الى ارض مصر فاتّبعه جيش عبد الله واستدلّوا عليه وهو في كنيسة في بوصير فطعنه رجل فصرعه واحتز آخر رأسه وبعث به الى ابي العباس السفّاح. وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة اثنتين وثلثين ومائة. وفي سنة ست وثلثين ومائة مات السفاح بالأنبار مدينته التي بناها واستوطنها لثلث عشرة سنة مضت من ذي الحجة بالجدري. وكان له يوم مات ثلث وثلثون سنة. وكانت ولايته من لدن قتل مروان اربع سنين. وكان ابو العباس رجلا طويلا [3] ابيض اللون حسن الوجه يكره الدماء ويحامي [4] على اهل البيت (ابو جعفر المنصور) هو عبد الله بن محمد الامام بن عليّ بن عبد الله بن العباس بويع له سنة سبع وثلثين ومائة. وفي هذه السنة قتل ابو مسلم الخراساني قتله المنصور بسبب انهما حجّا معا في ايام السفاح. وكان ابو مسلم يكسو الاعراب ويصلح الآبار والطرق. وكان الذكر له. فحقد ابو جعفر ذلك عليه. ولما صدر الناس عن الموسم تقدم ابو مسلم في الطريق على ابي جعفر فأتاه خبر وفاة السفاح فكتب الى ابي جعفر يعزيه   [1-) ] وقيل انه مات مسموما. [2-) ] مسلمة ر سلمة. [3-) ] طويلا ر طوالا. [4-) ] يحامي ر يحابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 عن أخيه ولم يهنه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع اليه. فخافه ابو جعفر المنصور واجمع الرأي وعمل المكايد وهجر النوم الى ان اقتنصه. وكان ابو مسلم استشار رجلا من أصحابه بالريّ في رجوعه الى المنصور فقال: لا أرى ان تأتيه وارى ان تمتدّ الى خراسان. فلما لم يقبل منه وسار نحو المنصور قيل له: تركت الرأي بالرايّ فذهب مثلا. فلما دنا ابو مسلم من المنصور امر الناس بتلقيه وإكرامه غاية الكرامة. ثم قدم فدخل على المنصور وقبل يده. فأمره أن ينصرف ويروّح نفسه ليلته ويدخل الحمّام. فانصرف. فلما كان من الغد أعد المنصور من اصحاب الحرس اربعة نفر واكمنهم خلف الرواق وقال لهم: إذا انا صفّقت بيديّ فشأنكم. وأرسل الى ابي مسلم يستدعيه ودخل على المنصور فأقبل عليه يعاتبه ويذكر عثراته. فما عدّ عليه ان قال: ألست الكاتب اليّ تبدأ بنفسك. ودخلت إلينا وقلت: اين ابن الحارثيّة. ويأتيك كتابي فتقرأه استهزاء ثم تلقيه الى مالك ابن الهيثم ويقرأه وتضحكان. فجعل ابو مسلم يعتذر اليه ويقبّل الأرض بين يديه. فقال المنصور: قتلني الله ان لم أقتلك. وصفّق بيديه فخرج الحرس يضربونه بسيوفهم وهو يصرخ ويستأمن ويقول: استبقني لعدوّك يا امير المؤمنين. فقال له المنصور: وايّ عدوّ لي أعدى منك. وقيل كانت عند ابي مسلم ثلث نسوة وكان لا يطأ المرأة منهن في السنة الا مرة واحدة. وكان من أغير الناس لا يدخل قصره احد غيره وفيه كوى يطرح منها لنسائه ما يحتجن اليه. قالوا ليلة زفّت اليه امرأته أمر بالبرذون الذي ركبته فذبح وأحرق سرجه لئلا يركبه ذكر بعدها. قالوا وكان من أشد الناس طمعا وأكثرهم طعاما يخبز كل يوم في مطبخه ثلثة آلاف قرف ويطبخ مائة شاة سوى البقر والطير. وكان له ألف طبّاخ وآلة المطبخ تحمل على ألف ومائتي رأس من الدوابّ. وقيل كان ابو مسلم شجاعا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة. وقيل بل كان فاتكا قليل الرحمة قاسي القلب سوطه سيفه قتل ستمائة ألف ممن يعرف صبرا سوى من لا يعرف ومن قتل في الحروب والهيجات. وسئل بعضهم: ابو مسلم كان خيرا او الحجّاج. قال: لا أقول ان أبا مسلم خير من احد ولكن الحجاج كان شرا منه. وزعم قوم ان أبا مسلم كان من قرية من قرى مرو. ويقال: بل كان من العرب سمع الحديث وروى الاشعار. وقيل كان عبدا. وقد نسبه بعض الشعراء الى الأكراد حين هجاه. وفي سنة أربعين ومائة سيّر المنصور عبد الوهاب ابن أخيه ابراهيم بن محمد الامام في سبعين ألف مقاتل الى ملطية. فنزلوا عليها وعمروا ما كان خرّبه الروم منها. ففرغوا من العمارة في ستة أشهر. وأسكنها المنصور اربعة آلاف من الجند واكثر فيها من السلاح والذخائر وبنى حصن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قلوذية. وفي هذه السنة خرج الراونديّة على المنصور بمدينة الهاشمية وهم قوم من اهل خراسان يقولون بتناسخ الأرواح ويزعمون ان ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور. وجعلوا يطوفون بقصره ويقولون: هذا قصر ربنا. فأنكر ذلك المنصور وخرج إليهم ماشيا إذ لم يكن في القصر دابة. ونودي في اهل السوق فاجتمعوا وحملوا عليهم وقاتلوهم فقتلوا اعني الراوندية جميعا وهم يومئذ ستمائة رجل. وفي السنة الرابعة والأربعين أخذ المنصور من أولاد الحسين بن علي بن ابي طالب اثني عشر إنسانا ورحّلهم من المدينة الى الكوفة وحبسهم في بيت ضيّق لا يمكّن احد من مقعده يبول بعضهم على بعض ويتغوط ولا يدخل عليهم روح الهواء ولا تخرج عنهم رائحة القذارة حتى ماتوا عن آخرهم. فخرج محمد [1] بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن ابي طالب بالمدينة وجمع الجموع وتسمى بالمهدي. وخرج ابراهيم اخوه بالبصرة في ثلثين ألفا. وقتلا ولم ينجحا. وفي سنة خمس وأربعين ومائة ابتدأ المنصور في بناء عمارة مدينة بغداد. وسبب ذلك انه كان قد ابتنى الهاشمية بنواحي الكوفة. فلما ثارت الراوندية به فيها كره سكناها لذلك والجوار اهل الكوفة ايضا فانه كان لا يأمن أهلها على نفسه وكانوا قد أفسدوا جنده. فخرج بنفسه يرتاد موضعا يسكنه هو وجنده. فقال له اهل الحذق: انّا نرى يا امير المؤمنين ان يكون على الصراة [2] وبين انهار لا يصل إليك عدوك الا على جسر فإذا قطعته لم يصل إليك. وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد. ودجلة والفرات والصراة خنادق مدينتك. وتجيئك الميرة فيها من البر والبحر. فازداد المنصور حرصا على النزول في ذلك الموضع. ولما عزم على بناء بغداد أمر بنقض المدائن وايوان كسرى. فنقضه ونقله الى بغداد. فنقضت ناحية من القصر الأبيض وحمل نقضه. فنظر وكان مقدار ما يلزمهم له اكثر من ثمن الجديد فأعرض عن الهدم. وجعل المدينة مدورة لئلّا يكون بعض الناس اقرب الى السلطان من بعض. وعمل لها سورين الداخل أعلى من الخارج. وبنى قصره في وسطها والمسجد الجامع بجانب القصر وقبلته غير   [1-) ] وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه. [2-) ] قال ياقوت في معجم البلدان: «صراة نهران بغداد الصراة الكبرى والصراة الصغرى ولا اعرف انا الا واحدة وهو نهر يأخذ من نهر عيسى من عند بلدة يقال لها المحوّل بينها وبين بغداد فرسخ ويسقي ضياع بادوريا ويتفرع منه انهار الى ان يصل الى بغداد فيمر بقنطرة العباس ثم قنطرة الصبيبات ثم قنطرة رحا البطريق ثم القنطرة العتيقة ثم القنطرة الجديدة ويصب في دجلة ولم يبق عليه الآن الا القنطرة العتيقة والجديدة يحمل من الصراة نهر يقال له خندق طاهر بن الحسين اوله أسفل من فوهة الصراة يدور حول مدينة السلام مما يلي الحربية وعليه قنطرة باب الحرب ويصير في دجلة امام باب البصرة من مدينة المنصور. واما أهل الأثر فيقولون: الصراة العظمى حفرها بنو ساسان بعد ما ابادوا النبط» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 مستقيمة يحتاج المصلّي ان ينحرف الى باب البصرة. وكانت الأسواق في مدينته فجاءه رسول لملك الروم. فأمر الربيع فطاف به في المدينة. فقال: كيف رأيت. قال: رأيت بناء حسنا الا اني رأيت أعدائك معك وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم الى ناحية الكرخ وأمران يجعل في كل ربع من مدينته بقّال يبيع البقل والخل حسب. في سنة خمسين ومائة مات ابو حنيفة النعمان بن ثابت الامام. وفي سنة ثماني وخمسين ومائة سار المنصور من بغداد ليحجّ فنزل قصر عبدويه فانقضّ في مقامه هنالك كوكب بعد اضاءة الفجر وبقي اثره بيّنا الى طلوع الشمس. فأحضر المهدي ابنة وكان قد صحبه ليودّعه فوصله بالمال والسلطان. وقال له ايضا: أوصيك بأهل بيتك ان تظهر كرامتهم فانّ عزّك عزّهم وذكرهم لك وما اظنّك تفعل. وانظر مواليك وأحسن إليهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدّة ان نزلت بك وما أظنك تفعل. وانظر هذه المدينة وإياك ان تبني المدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها وأظنك ستفعل. وإياك ان تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم ودّعه وبكى كل منهما الى صاحبه. ثم سار الى الكوفة وكلما سار منزلا اشتد وجعه الذي مات به وهو القيام. فلما وصل الى بئر ميمون مات بها مع السحر لستّ خلون من ذي الحجة سنة ثماني وخمسين ومائة. وحمل الى مكة وحفروا له مائة قبر ليعمّوا على الناس ودفن في غيرها مكشوف الرأس لإحرامه وكان عمره ثلثا وستين سنة وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة. وقيل في صفته وسيرته انه كان أسمر نحيفا خفيف العارضين وكان من احسن الناس خلقا ما لم يخرج الى الناس واشدّهم احتمالا لما يكون من عبث الصبيان. فإذا لبس ثيابه وخرج هابه الأكابر فضلا عن الأصاغر. ولم ير في داره لهو ولا شيء من اللعب والعبث. قال حماد التركي: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة فقال: انظر ما هذا. فذهبت فإذا خادم له قد جلس وحوله الجواري وهو يضرب لهن بالطنبور وهنّ يضحكن فأخبرته فقال: واي شيء الطنبور. فوصفته له. فقال: ما يدريك أنت ما الطنبور. قلت: رأيته بخراسان. فقام ومشى اليهنّ. فلما رأينه تفرّقن. فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسّر الطنبور وأخرجه فباعه. ولما افضى اليه الأمر أمر بتغيير الزي وتطويل القلانس. فجعلوا يحتالون لها بالقصب من داخل. وأمر بعدّ دور اهل الكوفة وقسمة خمسة دراهم على كل دار. فلما عرف عددهم جباهم أربعين درهما أربعين درهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وكان المنصور في صدر امره عند ما بنى بغداد أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة. وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه. فقيل له عن جيورجيس بن بختيشوع [1] الجنديسابوريّ انه أفضل الأطباء. فتقدم بإحضاره. فأنفذه العامل بجنديسابور بعد ما أكرمه. فخرج ووصّى ولده بختيشوع بالبيمارستان واستصحب معه تلميذه عيسى ابن شهلاثا ولما وصل الى بغداد أمر المنصور بإحضاره. فلما وصل الى الحضرة دعا له بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره وأمره بالجلوس وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون. وخبّره بمرضه. فقال له جيورجيس: انا ادبّرك بمشيّة الله وعونه. فأمر له في الوقت بخلعة جليلة وتقدم الى الربيع بإنزاله في أجمل موضع من دوره وإكرامه كما يكرم اخص الأهل. ولم يزل جيورجيس يتلطف له في تدبيره حتى برى من مرضه وفرح به فرحا شديدا. وقال له يوما: من يخدمك ههنا. قال: تلامذتي. فقال له الخليفة: سمعت انه ليست لك امرأة. فقال: لي زوجة كبيرة ضعيفة لا تقدر على النهوض من موضعها. وانصرف من الحضرة ومضى الى البيعة. فأمر المنصور خادمه سالما ان يحمل من الجواري الروميّات الحسان ثلاثا الى جيورجيس مع ثلثة آلاف دينار. ففعل ذلك. فلما انصرف جيورجيس الى منزله عرّفه عيسى بن شهلاثا تلميذه بما جرى وأراه الجواري. فأنكر أمرهن وقال لعيسى: يا تلميذ الشيطان لم ادخلت هؤلاء الى منزلي. أردت ان تنجسني. امض وردّهنّ على أصحابهنّ. فمضى الى دار الخليفة وردهنّ على الخادم. فلما اتصل الخبر الى المنصور أحضره وقال له: لم رددت الجواري. قال: لا يجوز لنا معشر النصارى ان نتزوّج بأكثر من امرأة واحدة وما دامت المرأة حية لا نأخذ غيرها. فحسن موقع هذا من الخليفة وزاد موضعه عنده. وهذا ثمرة العفة. ولما كان في سنة اثنتين وخمسين ومائة مرض جيورجيس مرضا صعبا. ولما اشتد مرضه أمر المنصور بحمله الى دار العامة وخرج ماشيا اليه وتعرّف خبره. فخبّره وقال له: ان رأى امير المؤمنين ان يأذن لي في الانصراف الى بلدي لأنظر اهلي وولدي وان متّ قبرت مع آبائي. فقال له: يا حكيم اتق الله وأسلم وانا اضمن لك الجنة. قال جيورجيس قد رضيت حيث آبائي في الجنة او في النار. فضحك المنصور من قوله ثم قال: انني منذ رأيتك وجدت راحة من الأمراض التي كانت تعتادني. فقال جيورجيس: انا اخلف بين يدي امير المؤمنين عيسى تلميذي فهو ماهر. فأمر لجيورجيس بعشرة آلاف دينار واذن له بالانصراف وانفذ معه خادما وقال: ان مات في الطريق فاحمله   [1-) ] يريد جيورجيس بن جبريل بن بختيشوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الى منزله ليدفن هناك كما أحب. فوصل الى بلده حيا. ثم أمر المنصور بإحضار عيسى ابن شهلاثا. فلما مثل بين يديه سأله عن أشياء فوجده ماهرا فاتخذه طبيبا. ولما استصحبه [1] المنصور بدأ في التشاور والأذية خاصة على المطارنة والاساقفة ومطالبتهم بالرشى. ولما خرج المنصور في بعض أسفاره وصل الى قريب نصيبين. فكتب عيسى الى قوفريان مطران نصيبين يتهدده ويتوعده ان منع عنه ما التمسه منه. وكان عيسى قد التمس ان ينفذ له من آلات البيعة أشياء جليلة ثمينة لها قدر. وكتب في كتابه الى المطران: ألست تعلم أن أمر الخليفة في يدي ان أردت أمرضته وان أردت شفتيه. فلما وقف المطران على الكتاب احتال في التوصل الى الربيع وشرح له صورة الحال فأقرأه الكتاب وأوصله الربيع الى الخليفة ووقفه على حقيقة الأمر. فأمر المنصور بأخذ جميع ما يملكه عيسى الطبيب وتأديبه ونفيه. ففعل به ذلك ونفي أقبح نفي. وهذا ثمرة الشره. وكان نوبخت المنجم الفارسي يصحب المنصور وكان فاضلا حاذقا خبيرا باقتران الكواكب وحوادثها. ولما ضعف عن الصحة قال له المنصور: أحضر ولدك ليقوم مقامك. فسير ولده أبا سهل. قال ابو سهل: فلما دخلت على المنصور ومثلت بين يديه قيل لي: تسمّ لأمير المؤمنين. فقلت: اسمي خرشاذماه طيماذاه [2] ماباذار خسرو ابهمشاذ [3] . فقال لي المنصور: كل ما ذكرت فهو اسمك. (قال) قلت: نعم. فتبسم المنصور ثم قال: ما صنع أبوك شيئا فاختر مني احدى خلتين اما ان اقتصر بك من كل ما ذكرت على طيماذ واما ان تجعل لك كنية تقوم مقام الاسم وهي ابو سهل. قال ابو سهل: قد رضيت بالكنية. فبقيت كنيته وبطل اسمه. (المهدي بن المنصور) لما مات المنصور ببئر ميمون لم يحضره عند وفاته الا خدمه والربيع مولاه. فكتم الربيع موته وألبسه وسنده وجعل على وجهه كلّة خفيفة يرى شخصه منها ولا يفهم أمره وأدنى اهله منه. ثم قرب منه الربيع كأنه يخاطبه. ثم رجع إليهم وأمرهم عنه بالبيعة للمهدي بن المنصور بن محمد الامام ولابن عمه عيسى بن موسى بن محمد الامام بعده. فبايعوا. ثم أخرجهم. وبعد ذلك خرج إليهم باكيا مشقوق الجيب لاطما رأسه. ثم وجه الى المهدي بخبر وفاة المنصور وبالبيعة له ولابن عمه عيسى بن موسى بعده. فأبى عيسى بن موسى من البيعة للمهدي وامتنع بالكوفة وأراد ان يتحصن بها.   [1-) ] استصحبه ر استخصّه. [2-) ] ر وطيماذاه. [3-) ] ر خسير وأبهشاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فبعث المهدي أبا هريرة في ألف فارس فأخذه الى المهدي. ولم يزل يراوضه ويراوده حتى أجاب الى خلع نفسه. فعوضه عنها عشرة آلاف دينار وبايع للمهدي ولابنه موسى الهادي. وفي ايام المهدي خرج بخراسان [1] رجل يقال له يوسف البرم واستغوى خلقا فبعث اليه المهدي جيوشا ففضوا جموعه وأسروه وحملوه الى المهدي. فأمر به فصلب. وخرج المقنّع وادعى النبوة وقال بتناسخ الأرواح واتّبعه أناس كثيرون. وكان هذا رجلا قصيرا اعور من قرية بمرو يقال لها كره. وكان لا يسفر عن وجهه لأصحابه فلذلك قيل له المقنع. وكان يحسن شيئا من الشعبذة وأبواب النيرنجيات فاستغوى اهل العقول الضعيفة واستمالهم، فبعث المهدي في طلبه فصار الى ما وراء النهر وتحصن في قلعة نكس [2] وجمع فيها من الطعام والعلوفة وبثّ الدعاة في الناس وادعى احياء الموتى وعلم الغيب. وألح المهدي في طلبه فحوصر. فلما اشتد الحصار عليه وأيقن بالهلاك جمع نساءه واهله كلهم وسقاهم السم فماتوا عن آخرهم. واحرق كلما في القلعة من دابة وثوب وطعام. وألقى نفسه في النار لئلا يلقى جسده العدوّ. ودخل العسكر القلعة ووجدوها خالية خاوية. وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه بما وراء النهر. وكان وعدهم ان تتحول روحه الى قالب رجل اشمط على برذون اشهب وانه يعود إليهم بعد كذا سنة ويملكهم الأرض. فهم بعد ينتظرونه ويسمّون المبيضة. وفي سنة خمس وستين ومائة سير المهدي ابنه الرشيد لغزو الروم. فسار حتى بلغ خليج القسطنطينية. وصاحب الروم يومئذ ايريني امرأة لاون الملك. وذلك ان ابنها كان صغيرا قد هلك أبوه وهو في حجرها. فجزعت المرأة من المسلمين وطلبت الصلح من الرشيد. فجرى الصلح بينهم على الفدية وان تقيم له الادلّاء والأسواق في طريقه. وذلك انه دخل مدخلا ضيقا مخوفا من احد جانبيه جبل وعر ومن جانبه الآخر نهر ساغريس. فأجابته الى ذلك ومقدار الفدية سبعون ألف دينار لكل سنة. ورجع عنها. ولو كانت ذات همة لامكنها منع المسلمين من الخروج والفتك بهم. وفي سنة تسع وستين ومائة عزم المهدي على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد. فبعث اليه وهو بجرجان في المعنى. فلم يفعل وامتنع من القدوم ايضا. فسار المهدي يريده. فلما بلغ ماسبذان عمدت حسنة جاريته الى كمثرى فأهدته الى جارية أخرى كان المهدي يتحظاها وسمّت منه   [1-) ] خرج بخراسان إلخ ر خرج رجل يقال له يوسف الزم (ر اليزم) واستغوى خلقا وخرج بوسا (ر بوشا) وادعى النبوءة فبعث إلخ. [2-) ] نكس وتكش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 كمثراة هي احسن الكمثرى. فاجتاز الخادم بالمهدي وكان يعجبه الكمثرى فأخذ تلك الكمثراة المسمومة فأكلها. فلما وصلت الى جوفه صاح: جوفي جوفي. فسمعت حسنة بموته فجاءت تبكي وتلطم وجهها وتقول: أردت ان انفرد بك فقتلتك. فمات من يومه وكان موته في المحرم لثمان بقين منه سنة تسع وستين ومائة وكانت خلافته عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلث وأربعين سنة ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتها. حكي انه لما همّ المهدي بالخروج الى ماسبذان تقدم الى حسنة حظيّته ان تخرج معه. فأرسلت الى توفيل بن توما النصراني المنجّم الرهاوي وهو رئيس منجمي المهدي قائلة له: انك أشرت على امير المؤمنين بهذا السفر فجشمتنا سفرا لم يكن في الحساب. فعجل الله موتك وأراحنا منك. فلما بلّغته رسالتها قال للجارية التي أتته بها: ارجعي إليها وقولي لها ان هذه الاشارة ليست مني. واما دعاؤك عليّ بتعجيل الموت فهذا شيء قد قضى الله به وموتي سريع فلا تتوهمي ان دعوتك استجيبت. ولكن اعدّي لنفسك ترابا كثيرا. فإذا انا متّ فاجعليه على رأسك. فما زالت متوقعة تأويل قوله منذ توفي حتى توفي المهدي بعد عشرين يوما. وكان توفيل هذا على مذهب الموارنة الذين في جبل لبنان من مذاهب النصارى. وله كتاب تاريخ حسن ونقل كتابي اوميروس الشاعر على فتح مدينة ايليون في قديم الدهر من اليونانية الى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة. وفي هذا الزمان اشتهر في الطب ابو قريش طبيب المهدي وهو المعروف بعيسى الصيدلاني. ولم يذكر هذا في جملة الأطباء لأنه كان ماهرا بالصناعة وانما يذكر لظريف خبره وما فيه من العبرة وحسن الاتفاق. وهو ان هذا الرجل كان صيدلانيا ضعيف الحال جدا. فتشكّت الخيزران حظية المهدي وكانت من مولدات المدينة. وتقدمت الى جاريتها بأن تخرج القارورة الى طبيب غريب لا يعرفها. وكان ابو قريش بالقرب من القصر الذي للمهدي. فلما وقع نظر الجارية عليه أرته القارورة. فقال لها: لمن هذا الماء. فقالت: لامرأة ضعيفة. فقال: بل لملكة جليلة عظيمة الشأن وهي حبلى بملك. وكان هذا القول منه على سبيل الرزق. فانصرفت الجارية من عنده وأخبرت الخيزران بما سمعت منه. ففرحت بذلك فرحا شديدا وقالت: ينبغي ان تضعي علامة على دكانه حتى إذا صحّ قوله اتخذناه طبيبا لنا. وبعد مدة ظهر الحبل وفرح به المهدي فرحا شديدا. فأنفذت الخيزران الى ابي قريش خلعتين فاخرتين وثلاثمائة دينار وقالت: استعن بهذه على أمرك. فان صحّ ما قلته استصحبناك. فعجب ابو قريش من ذلك وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 هذا من عند الله جلّ وعزّ لانني ما قلته للجارية الا وقد كان هاجسا من غير اصل. ولما ولدت الخيزران موسى الهادئ سر المهدي سرورا عظيما. وحدثته الخيزران الحديث فاستدعى أبا قريش وخاطبه. فلم يجد عنده علما بالصناعة الا شيئا يسيرا من علم الصيدلة. الا انه اتخذه طبيبا لما جرى منه واستصحبه وأكرمه الإكرام التام وحظي عنده [1] . (الهادي بن المهدي) لما توفي المهدي كان الرشيد معه في ماسبذان. فكتب الى الآفاق بوفاة المهدي والبيعة لموسى الهادي. وسار نصير الوصيف الى الهادي بجرجان يعلمه بوفاة المهدي والبيعة له. فنادى بالرحيل. ولما قدم بغداد استوزر الربيع. وفي هذه السنة وهي سنة تسع وستين ومائة تتبع الهادي الزنادقة وقتل منهم جماعة كانوا إذا نظروا الى الناس في الطواف يهزلون ويقولون: ما أشبههم ببقر تدوس البيدر. وقتل ايضا يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب. وفي سنة سبعين ومائة توفي الهادي. وسبب وفاته انه لما ولي الخلافة كانت أمه الخيزران تستبد بالأمور دونه. وكلمته يوما في أمر لم يجد الى إجابتها سبيلا. فقالت: لا بد من الاجابة اليه. فغضب الهادي وقال: والله لا قضيتها لك. قالت: إذا والله لا اسألك حاجة ابدا. قال: لا أبالي. فقامت مغضبة. فقال: مكانك. والله لئن بلغني انه وقف في بابك احد من قوادي لأضربنّ عنقه. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح الى بابك. اما لك مغزل يشغلك او مصحف يذكرك او بيت يصونك. فانصرفت وهي لا تعقل. ووضعت جواريها عليه لما مرض فقتلنه بالغم وبالجلوس على وجهه. فمات ليلة الجمعة للنصف من ربيع الاول. وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر وكان عمره ستا وعشرين سنة. (هرون الرشيد بن المهدي) لما توفي الهادي بويع الرشيد هرون بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي. وكان عمره حين ولي اثنتين وعشرين سنة. وأمه الخيزران. ولما مات الهادي خرج الرشيد فصلى عليه بعيساباذ. ولما عاد الرشيد الى بغداد وبلغ الجسر دعا الغوّاصين وقال: كان ابي قد وهب لي خاتما شراؤه مائة ألف دينار. فأتاني رسول   [1-) ] قال ابن ابي اصيبعة: «فوجه المهدي الى ابي قريش فأحضره وأقيم بين يديه. فلم يزل يطرح عليه الخلع وبدر الدنانير والدراهم حتى علت رأسه وصير هرون وموسى في حجره وكناه أبا قريش اي أبا العرب ... فصار ابو قريش نظير جيورجيس ابن جبريل بل اكبر منه حتى تقدمه في المرتبة. وتوفي المهدي واستخلفه هرون الرشيد وتوفي جيورجيس وصار ابنه تبع ابي قريش في خدمة الرشيد. ومات ابو قريش وخلف اثنين وعشرين ألف دينار مع نعمة سنية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الهادي اخي يطلب الخاتم وانا ههنا فألقيته في الماء. فغاصوا عليه وأخرجوه فسرّ به. ولما مات الهادي هجم خزيمة بن خازم تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه وقال له لتخلعنها او لأضربنّ عنقك. فأجاب الى الخلع. وأشهد الناس عليه. فحظي بها خزيمة. وقيل لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد البرمكيّ الى الرشيد فأعلمه بموته. فبينا هو يكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشره بمولود. فسماه عبد الله وهو المأمون. فقيل: في ليلة مات خليفة وقام خليفة وولد خليفة. وفي هذه السنة ولد الأمين واسمه محمد في شوال وكان المأمون اكبر منه. ولما ولي الرشيد استوزر يحيى البرمكي. وفي سنة اثنتين وثمانين ومائة بايع الرشيد لعبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين وولّاه خراسان وما يتصل بها الى همذان ولقبه المأمون وسلمه الى جعفر بن يحيى البرمكيّ. وفيها حملت بنت خاقان الخزر الى الفضل بن يحيي البرمكيّ. فماتت ببرذعة فرجع من معها الى أبيها فأخبروه انها قتلت غيلة فتجهز الى بلاد الإسلام. وفيها سلمت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن لاون وأقرّوا أمه ايريني. وغزا المسلمون الصائفة فبلغوا أفسوس مدينة اصحاب الكهف. وفي سنة ثلث وثمانين ومائة خرج الخزر بسبب ابنة خاقان من باب الأبواب فأوقعوا بالمسلمين واهل الذمة وسبوا اكثر من مائة ألف رأس وانتهكوا أمرا عظيما لم يسمع بمثله في الأرض. وفي سنة ست وثمانين ومائة أخذ الرشيد البيعة للقاسم ابنه بولاية العهد بعد المأمون وسمّاه المؤتمن. وفي سنة سبع وثمانين ومائة خلعت الروم ايريني الملكة وملكت نيقيفور وهو من أولاد جبلة. فكتب الى الرشيد: من نيقيفور ملك الروم الى هرون ملك العرب. اما بعد فان الملكة ايريني حملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أضعافه إليها. لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن [1] . فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما أخذت والّا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزّه الغضب وكتب في ظهر الكتاب: من هرون امير المؤمنين الى نيقيفور زعيم الروم. قد قرأت كتابك والجواب ما تراه دون ما تسمعه. ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة فأحرق وخرّب ورجع. وفي هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى البرمكي وحبس أخاه الفضل وأباه يحيى بالرقة حتى ماتا. وكتب الى العمال في جميع النواحي بالقبض على البرامكة واستصفى   [1-) ] حمقهن ر عجزهن. ابن العبري- 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أموالهم [1] . وفي سنة تسعين ومائة ظهر رافع بن الليث بما وراء النهر مخالفا للرشيد بسمرقند. وفي سنة اثنتين وتسعين ومائة سار الرشيد من الرقة الى بغداد يريد خراسان لحرب رافع. ولما صار ببعض الطريق ابتدأت به العلة. ولما بلغ جرجان في صفر اشتد مرضه. وكان معه ابنه المأمون. فسيره الى مرو ومعه جماعة من القواد. وسار الرشيد الى طوس. واشتد به المرض حتى ضعف عن الحركة. ووصل اليه هناك بشير بن الليث أخو رافع أسيرا فقال له الرشيد: والله لو لم يبق من اجلي الا ان أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصّاب فأمر به ففصل أعضاءه. فلما فرغ منه أغمي عليه ثم مات ودفن بطوس سنة ثلث وتسعين ومائة. وكانت خلافته ثلثا وعشرين سنة. وكان عمره سبعا وأربعين سنة. وكان جميلا وسيما ابيض جعدا قد وخطبه الشيب. وكان بعهده ثلثة الأمين وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور ثم المأمون وأمّه ام ولد اسمها مراجل ثم المؤتمن وأمه ام ولد. قيل: وكان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة الى ان فارق الدنيا الّا من مرض. وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته. قيل ان الرشيد في بدء خلافته سنة احدى وسبعين ومائة مرض من صداع لحقه. فقال ليحيي بن خالد بن برمك: هؤلاء الأطباء ليسوا يفهمون شيئا وينبغي ان تطلب لي طبيبا ماهرا. فقال له عن بختيشوع بن جيورجيس [2] . فأرسل البريد في طلبه الى جنديسابور [3] . ولما كان بعد ايام ورد ودخل على الرشيد. فأكرمه وخلع عليه خلعة سنية ووهب له مالا وافرا وجعله رئيس الأطباء. ولما كان في سنة خمس وسبعين ومائة مرض جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك. فتقدم الرشيد الى بختيشوع ان يخدمه. ولما أفاق جعفر من مرضه قال لبختيشوع: أريد ان تختار لي طبيبا ماهرا أكرمه واحسن   [1-) ] وقد اختلف العلماء في سبب نكبة الرشيد للبرامكة. والأرجح ان سبب ذلك ما كان من امر جعفر مع العباسة بنت المهدي وهذا هو رأي المؤرخ. وقد أورد الاتليدي هذا الخبر مطولا في الصفحة 165 من كتابه اعلام الناس. واخبر عن عظم النكبة فقال: «ثم اظهر وجهه لقصور جعفر ودوره وقبض على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة ومواليهم وغلمانهم واستباح ما فيها ووجه مسرورا الى العسكر فأخذ جميع ما فيه من مضارب وخيام وسلاح وغير ذلك. فلما أصبح يوم السبت فإذا هو قد قتل من البرامكة وحاشيتهم نحو ألف انسان وترك من بقي منهم لا يرجع الى وطنه وشتت شملهم في البلاد ولم يقدر واحد منهم على كسرة خبز» (174) . [2-) ] بختيشوع ثلاثة أطباء وهم بختيشوع بن جيورجيس وبختيشوع بن جبريل وبختيشوع بن يوحنا وسيأتي ذكر هذا في الكلام على خلافة المقتدر. قال ابن ابي اصيبعة: «معنى بختيشوع عبد المسيح لان في اللغة السريانية البخت العبد» . وعندي ان البخت لفظة فارسية معناها الحظ والسعد. [3-) ] طلبه الى جنديسابور ر حمله من نيسابور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 اليه. قال له بختيشوع: لست اعرف في هؤلاء الأطباء احذق من ابني جبريل. فقال له جعفر: أحضرنيه. فلما أحضره شكا اليه مرضا كان يخفيه. فدبّره في مدة ثلثة ايام وبرئ. فأحبه جعفر مثل نفسه. وفي بعض الأيام تمطّت حظيّة الرشيد ورفعت يدها فبقيت مبسوطة لا يمكنها ردّها والأطباء يعالجونها بالتمريخ والادهان فلا ينفع ذلك شيئا. فقال له جعفر عن جبريل ومهارته. فأحضره وشرح له حال الصبية. فقال جبريل: ان لم يسخط امير المؤمنين عليّ فلها عندي حيلة. قال له الرشيد: ما هي. قال: تخرج الجارية الى هاهنا بحضرة الجمع حتى اعمل ما أريد وتتمهّل عليّ ولا تسخط عاجلا. فأمر الرشيد فخرجت وحين رآها جبريل اسرع إليها ونكس رأسها وأمسك ذيلها فانزعجت الجارية ومن شدة الحياء والانزعاج استرسلت اعضاؤها وبسطت يدها الى أسفل وأمسكت ذيلها. فقال جبريل: لقد برئت يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد للجارية ابسطي يدك يمنة ويسرة. ففعلت. فعجب الرشيد وكل من حضر وأمر لجبريل في الوقت بخمسمائة ألف درهم واجبه. ولما سئل عن سبب العلة قال: هذه الصبية النصبّ الى اعضائها وقت الغشيان خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة ولأجل ان سكون حركة الغشيان تكون بغتة جمدت الفضلة في بطون الاعصاب وما كان يحلّها الّا حركة مثلها فاحتلّت حتى انبسطت حرارتها وحلّت الفضلة فبرئت. ومن أطباء الرشيد يوحنا بن ماسويه النصراني السرياني ولّاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة. وخدم الرشيد ومن بعده الى ايام المتوكل وكان معظما ببغداد جليل القدر وله تصانيف جميلة. وكان يعقد مجلسا للنظر ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة. وكان يدرّس ويجتمع اليه تلاميذ كثيرون. وكان في يوحنا دعابة شديدة يحضره من يحضره لأجلها في الأكثر. وكان من ضيق الصدر وشدّة الحدّة على اكثر مما كان عليه جبريل بن بختيشوع. وكانت الحدة تخرج من يوحنا ألفاظا مضحكة. فمما حفظ من نوادره ان رجلا شكا اليه علة كان شفاه منها الفصد فأشار عليه به. فقال له: لم اعتد الفصد. قال له يوحنا: ولا احسبك اعتدتّ العلة من بطن أمّك. وصار اليه قسيس وقال: قد فسدت عليّ معدتي. فقال له يوحنا: استعمل جوارشن الخوزي. فقال له: قد فعلت. قال: فاستعمل الكموني. قال: قد استعملت منه أرطالا. فأمره باستعمال البنداذيقون. فقال: قد شربت منه جرة. قال: استعمل المروسيا. فقال له: قد فعلت وأكثرت. فغضب يوحنا وقال له: ان أردت ان تبرأ فأسلم فان الإسلام يصلح المعدة. وكان بختيشوع بن جبريل يداعب يوحنا كثيرا. فقال له في مجلس ابراهيم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المهدي وهم في معسكر المعتصم بالمدائن سنة عشرين ومائتين: أنت أبا زكريا اخي ابن ابي. فقال يوحنا لإبراهيم: اشهد على إقراره فو الله لأقاسمنّه ميراثه من أبيه. فقال له بختيشوع: ان أولاد الزنا لا يرثون. فانقطع يوحنا ولم يحر جوابا. ومن الأطباء في ايام الرشيد صالح بن بهلة [1] الهندي. ومن عجيب ما جرى له ان الرشيد في بعض الأيام قدّمت له الموائد. فطلب جبريل بن بختيشوع يحضر اكله على عادته في ذلك فلم يوجد فلعنه الرشيد. فبينما هو في لعنته إذ دخل عليه. فقال له: اين كنت وطفق يذكره بشرّ. فقال: ان اشتغل امير المؤمنين بالبكاء على ابن عمه ابراهيم بن صالح وترك تناولي بالسب كان أشبه. فسأله عن خبر ابرهيم. فأعلمه انه خلّفه وبه رمق ينقضي آخره وقت صلاة العتمة. فاشتد جزع الرشيد من ذلك وأمر برفع الموائد وكثر بكاؤه. فأشار جعفر ابن يحيى البرمكي ان يمضي صالح الطبيب الهندي اليه ويعاينه ويجس نبضه. فمضى وتأمله ورجع الى جعفر قائلا: ان مات هذا من هذه العلة كل امرأة في طالق ثلاثا بتاتا. فلما كان وقت العتمة ورد كتاب صاحب البريد بوفاة ابراهيم على الرشيد فأقبل يلعن الهند وطبهم. فحضر صالح بين يدي الرشيد فقال: الله الله ان تدفن ابن عمك حيا فو الله ما مات. قم حتى أريك عجبا. فدخل اليه الرشيد ومعه جماعة من خواصه. فأخرج صالح ابرة كانت معه وأدخلها بين ظفر إبهام يده اليسرى ولحمه. فجذب ابراهيم يده وردها الى بدنه. فقال صالح: يا امير المؤمنين هل يحس الميت بالوجع. ثم نفخ شيئا من الكندس في أنفه. فمكث مقدار سدس ساعة ثم اضطرب بدنه وعطس وجلس وكلّم الرشيد وقبّل يده. وسأله الرشيد عن قضيته. فذكر انه كان نائما نوما لا يذكر انه نام مثله قط طيّبا الا انه رأى في منامه كلبا قد أهوى اليه فتوقّاه بيده فعض إبهام يده اليسرى عضة انتبه بها وهو يحسّ بوجعها وأراه موضع الابرة. وعاش ابراهيم بعد ذلك دهرا وولي مصر وتوفي بها وهناك قبره. (الأمين بن الرشيد) انتهى الأمر اليه بعد أبيه باثني عشر يوما. بويع له في عسكر الرشيد وكان المأمون حينئذ بمرو. وفي سنة اربع وتسعين ومائة قدم الفضل ابن الربيع العراق من طوس ونكث عهد المأمون وسعى في إغراء الأمين وحثه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد. فأمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى ونهى عن الدعاء للمأمون. وأمر بابطال ما ضرب المأمون من الدراهم والدنانير بخراسان. وندب الأمين عليّ بن عيسى بن ماهان للقاء المأمون. ولما عزم على المسير من بغداد   [1-) ] بهلة ر نهلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ركب الى باب زبيدة ام الأمين ليودّعها. فقالت له: يا عليّ اعرف لعبد الله المأمون حق ولادته ولا تقتسره اقتسار العبيد إذا ظفرت به ولا تعنف عليه في السير وان شتمك فاحتمله. ثم دفعت اليه قيدا من فضة وقالت: قيده بهذا القيد. ثم خرج عليّ في عشرة آلاف فارس. وبلغ الخبر المأمون فتسمى بأمير المؤمنين وانهض هرثمة بن أعين في اقل من اربعة آلاف فارس وعلى مقدمته طاهر بن الحسين. ثم خرج طاهر في أصحابه من الري على خمسة فراسخ. وسار اليه عليّ وزحف الناس بعضهم الى بعض وحملت ميمنة عليّ وميسرته على ميسرة طاهر وميمنته فأزالتاهما عن موضعيهما. وحمل قلب طاهر على قلب عليّ فهزموه. ورجع المنهزمون من معسكر طاهر على من بازائهم فهزموهم. ورمى رجل اسمه داود شاه عليّا بسهم فقتله. وحمل رأسه الى طاهر وأنفذه الى المأمون. وكان عليّ قليل الاحتياط من طاهر. وكان يقول لأصحابه: ما بينكم وبين ان ينقصف طاهر انقصاف الشجر من الريح الا ان نعبر [1] عقبة همذان. ولما قتل عليّ بعث المأمون الى طاهر بالهدايا وأمره ان يمضي الى العراق. فأخذ طاهر على طريق الأهواز وأخذ هرثمة على طريق حلوان. فشغب الجند على محمد الأمين ووثبوا عليه وخلعوه وحبسوه مع أمه زبيدة وولده. ثم أخرجوه وبايعوه وكان حبسه يومين. ثم حاصر طاهر وهرثمة محمدا الأمين وجعلا يحاربان أصحابه سنة ببغداد فقل أصحابه وخفت يده من المال وضعف أمره. فوجه الى هرثمة يسأله الامان. فأمنه وضمن له الوفاء من المأمون. فلما علم ذلك طاهر اشتد عليه وأبي ان يدعه يخرج الى هرثمة وقال: هو في حيّزي والجانب الذي انا فيه وانا أخرجته بالحصار حتى طلب الامان فلا ارضى ان يخرج الى هرثمة فيكون له الفتح دوني. وكان الأمين يكره الخروج الى طاهر لمنام رآه. فلما كان ليلة الأحد لخمس بقين من محرم سنة ثماني وتسعين ومائة خرج بعد العشاء الآخرة الى صحن الدار ودعا بابنيه وضمهما اليه وقبلهما وقال: استودعكما الله عز وجل. ثم جاء راكبا الى الشط. فإذا حراقة هرثمة فصعد إليها وأمر هرثمة الحراقة ان تدفع. فأدركهم اصحاب طاهر في الزواريق وحملوا على الحراقة بالنفط والحجارة فانكفأت بمن فيها وسقط هرثمة الى الماء فتعلّق الملاح بشعره فأخرجه. واما الأمين فانه لما سقط الى الماء شق ثيابه وسبح حتى خرج بشط البصرة. فأخذه اصحاب طاهر وجاءوا الى بيت وهو عريان عليه سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة خلقة فحبسوه هناك. فلما انتصف الليل دخل عليه قوم من العجم معهم   [1-) ] نعبر ر يعبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 السيوف مسلولة. فلما رآهم جعل يقول: ويحكم انا ابن عمّ رسول الله انا ابن هرون انا أخو المأمون. الله الله في دمي. فضربه رجل منهم بالسيف في مقدم رأسه ونخسه آخر في خاصرته وركبوه فذبحوه ذبحا وأخذوا رأسه ومضوا به الى طاهر. فبعث به الى المأمون. وكانت خلافة الأمين اربع سنين وثمانية أشهر وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة. وقيل: لما ملك الأمين وكاتبه المأمون وأعطاه بيعته طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره وأمره ونهيه ووجّه الى جميع البلدان في طلب اصحاب اللهو وضمّهم اليه وأجرى عليهم الأرزاق وقسم ما في بيوت الأموال من الجواهر في خصيانه ونسائه الأحرار وعمل خمس حراقات في دجلة على سورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس. فقال ابو نواس في ذلك: عجب الناس إذ رأوك على صو ... رة ليث يمرّ مرّ السحاب سبّحوا إذ رأوك سرت عليه ... كيف لو أبصروك فوق العقاب واحتجب عن اخوته واهل بيته واستخف بهم وبقواده وأمر ببناء مجالس لمنتزهاته ولهوه وأحبته. وأمر قيّمة جواريه ان تهي له مائة جارية صانعة فتصعد اليه عشر عشر بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد. وقيل انه لما أتاه نعي عليّ بن عيسى كان يصطاد السمك. فقال للذي أخبره بذلك: دعني فان كوثرا قد اصطاد سمكتين وانا ما اصطدت شيئا بعد. وبالجملة لم يوجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حكمة ومعدلة او تجربة حتى تذكر. (المأمون بن الرشيد) لما خلص الأمر للمأمون بعث الى عليّ بن موسى بن جعفر ابن محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن ابي طالب فأقدمه خراسان وجعله ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده وزوجه ابنته ام حبيبة ولقبه الرضا من آل محمد. وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة وكتب بذلك الى الآفاق انه نظر في بني العباس وبني عليّ فلم يجد أحدا أفضل ولا أروع ولا اعلم من غضب عليّ بن موسى فلذلك عقد له العهد من بعده. فشق ذلك على بني هاشم وغضب بنو العباس فقالوا: لا تخرج [1] الخلافة منّا الى أعدائنا. فخلعوا المأمون وبايعوا ابراهيم بن المهدي بن المنصور بن محمد الامام ابن عليّ بن عبد الله بن عباس وسموه المبارك. وفي سنة ثلث ومائتين مات علي بن موسى الرضا وكان سبب موته انه أكل عنبا فأكثر منه فمات فجأة في آخر صفر بمدينة طوس فدفنه المأمون عند قبر أبيه الرشيد. وفي هذه السنة خلع أهل بغداد ابراهيم بن المهدي فاختفي   [1-) ] تخرج ر تخرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ليلة الأربعاء لثلث عشرة بقيت من ذي الحجة ولم يزل متواريا. وقدم المأمون بغداد وانقطعت الفتن. وفي هذه السنة وهي سنة اربع ومائتين مات الامام محمد بن إدريس الشافعي. وفي سنة عشر ومائتين في ربيع الآخر أخذ ابراهيم بن المهدي وهو متنقّب مع امرأتين وهو في زيّ امرأة أخذه حارس اسود ليلا فقال: من انتنّ واين تردن هذا الوقت. ولما استراب بهنّ رفعهنّ الى صاحب المسلحة. فأمرهنّ ان يسفرن. فامتنع ابراهيم. فجذبه فبدت لحيته فرفعه الى باب المأمون واحتفظ به الى بكرة. فلما كان الغد أقعد ابراهيم في دار المأمون والمقنعة في عنقه والملحفة على صدره ليراه بنو هاشم. ثم عفا عنه وامّنه ونادمه. وفي سنة سبع عشرة ومائتين سار المأمون الى بلد الروم فأناخ على لؤلؤة مائة يوم. ثم رحل عنها وترك عليها عجيفا. فخدعه أهلها وأسروه فبقي عندهم ثمانية ايام ثم أخرجوه. وفي سنة ثماني عشرة ومائتين كتب المأمون الى اسحق بن ابراهيم في امتحان القضاة والمحدّثين بالقرآن فمن أقر انه مخلوق محدث خلّى سبيله ومن أبى أعلمه به ليأمر فيه برأيه. وفي هذه السنة مرض المأمون مرضه الذي مات به لثلث عشرة خلت من جمادى الآخرة. وكان سبب مرضه انه كان جالسا على شاطئ البدندون واخوه ابو اسحق المعتصم عن يمينه وهما قد دلّيا أرجلهما في الماء. فبينما هو متعجب من عذوبته وصفائه وشدة برده إذ جاءته الألطاف من العراق وكان فيها رطب ازاذ كأنما جني تلك الساعة. فأكل منه وشرب من ذلك الماء فما قام الا وهو محموم وكانت منيته من تلك العلة. فلما انه مرض خلع أخاه القاسم المؤتمن وأخذ البيعة لأخيه ابي اسحق المعتصم وأمر ان يكتب الى البلاد الكتب من عبد الله المأمون امير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده ابي اسحق المعتصم بن هرون الرشيد. ولما حضره الموت كان عنده ابن ماسويه الطبيب. وكان عنده من يلقّنه فعرض عليه الشهادة. فأراد الكلام فعجز عنه. ثم انه تكلم فقال: يا من لا يموت ارحم من يموت. ثم توفي من ساعته. فحمله ابنه العباس واخوه المعتصم الى طرسوس [1] فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد. وكانت خلافته عشرين سنة. وكان ربعة ابيض جميلا طويل اللحية رقيقها قد وخطه الشيب وقيل كان أسمر تعلوه صفرة. وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة. قال القاضي صاعد بن احمد الاندلسي ان العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيء من العلوم الا بلغتها ومعرفة احكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند   [1-) ] طرسوس ر طرطوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 افراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها. فهذه كانت حال العرب في الدولة الاموية. فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم ثابت الهمم من غفلتها وهبّت الفطن من ميتتها. وكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني ابو جعفر المنصور. وكان مع براعته في الفقه كلفا في علم الفلسفة وخاصة في علم النجوم. ثم لما أفضت الخلافة فيهم الى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هرون الرشيد تمّم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة. فبعثوا اليه منها ما حضرهم فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم احكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن. ثم حرّض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها [1] فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظراتهم ويلتذ بمذاكرتهم علما منه بان اهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده لأنهم صرفوا عنايتهم الى نيل فضائل النفس الناطقة وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصنائع العملية والتباهي بأخلاق النفس الغضبية والتفاخر بالقوى الشهوانية إذ علموا ان البهائم تشركهم فيها وتفضلهم في كثير منها. اما في احكام الصنعة فكالنحل المحكمة لتسديس مخازن قوتها. واما في الجرأة والشجاعة فكالأسد وغيره من السباع التي لا يتعاطى الإنسان أقدامها ولا يدّعي بسالتها. واما في الشبق فكالخنزير وغيره مما لا حاجة الى ابانته. فلهذا السبب كان اهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر وأوحشت الدنيا لفقدهم. فمن المنجمين في ايام المأمون حبش الحاسب المروزي الأصل البغدادي الدار. وله ثلثة ازياج. أولها المؤلف على مذهب السند هند. والثاني الممتحن وهو اشهرها ألّفه بعد ان رجع الى معاناة الرصد وأوجبه الامتحان في زمانه. والثالث الزيج الصغير المعروف بالشاة [2] . وله كتب غير هذه. وبلغ من عمره مائة سنة. ومنهم احمد بن كثير الفرغاني صاحب المدخل الى علم هيئة الأفلاك يحتوي على جوامع كتاب بطليموس [3] بأعذب لفظ وأبين عبارة. ومنهم عبد الله بن سهل بن نوبخت كبير القدر في علم النجوم. ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي. كان الناس قبل الرصد وبعده يعولون على زيجه الاول والثاني ويعرف بالسند هند. ومنهم ما شاء الله اليهودي. كان في زمن المنصور وعاش الى ايام المأمون وكان فاضلا أوحد زمانه له حظّ قويّ في سهم الغيب. ومنهم يحيى   [1-) ] تعليمها ر تعلمها. [2-) ] بالشاة ر بالشاه. [3-) ] بطليموس ر بطلميوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ابن ابي المنصور رجل فاضل كبير القدر إذ ذاك مكين المكان. ولما عزم المأمون على رصد الكواكب تقدم اليه والى جماعة من العلماء بالرصد وإصلاح آلاته. ففعلوا ذلك بالشماسية ببغداد وجبل قاسيون بدمشق. قال ابو معشر: اخبرني محمد بن موسى المنجم الجليس وليس بالخوارزمي قال: حدثني يحيى بن منصور قال: دخلت الى المأمون وعنده جماعة من المنجمين وعنده رجل يدّعي النبوّة وقد دعا له المأمون بالعاصمي [1] ولم يحضر بعد ونحن لا نعلم. فقال لي ولمن حضر من المنجمين: اذهبوا وخذوا الطالع لدعوى الرجل في شيء يدّعيه وعرّفوني ما يدل عليه الفلك من صدقه وكذبه. ولم يعلمنا المأمون انه متنبئ. (قال) فحملنا [2] الى بعض تلك الصحون فأحكمنا أمر الطالع وصورنا موضع الشمس والقمر في دقيقة واحدة وسهم السعادة منهم وسهم الغيب في دقيقة واحدة مع دقيقة الطالع والطالع الجدي والمشتري في السنبلة ينظر اليه والزهرة وعطارد في العقرب ينظران اليه. فقال كل من حضر من القوم: ما يدعيه صحيح. وانا ساكت. فقال لي المأمون: ما قلت أنت. فقلت: هو في طلب تصحيحه وله حجة زهرية عطاردية. وتصحيح الذي يدّعيه لا يتمّ له ولا ينتظم. فقال لي: من اين قلت هذا. قلت: لان صحة الدعاوي من المشتري ومن تثليث الشمس وتسديسها إذا كانت الشمس غير منحوسة وهذا الطالع يخالفه لأنه هبوط المشتري والمشتري ينظر اليه نظر موافقة الا انه كاره لهذا البرج والبرج كاره له فلا يتم التصديق والتصحيح. والذي قال من حجة زهرية وعطاردية. انما هو ضرب من التخمين والتزويق والخداع يتعجب منه ويستحبّ. فقال لي المأمون: أنت لله درّك. ثم قال: أتدرون من الرجل. قلنا له: لا. قال: هذا يدّعي النبوّة. فقلت: يا امير المؤمنين أمعه شيء يحتج به. فسأله. فقال: نعم معي خاتم ذو فصّين ألبسه فلا يتعين منه شيء يحتج به ويلبسه غيري فيضحك ولا يتمالك من الضحك حتى ينزعه. ومعي قلم شامي آخذه فأكتب به ويأخذه غيري فلا ينطلق إصبعه. فقلت: يا سيدي هذه الزهرة وعطارد قد عملا عملهما. فأمره المأمون بعمل ما ادّعاه. فقلنا له: هذا ضرب من الطلسمات. فما زال به المأمون أياما كثيرة حتى اقرّ وتبرّأ من دعوة النبوّة ووصف الحيلة التي احتالها في الخاتم والقلم. فوهب له ألف دينار. فتلقيناه بعد ذلك فإذا هو اعلم الناس بعلم التنجيم. قال ابو معشر: وهو الذي عمل طلسم الخنافس في دور كثيرة من دور بغداد. قال ابو معشر: لو كنت مكان القوم لقلت أشياء ذهبت   [1-) ] بالعاصمي ر بالعصي وبالعصمي. [2-) ] فحملنا ر فجئنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 عليهم كنت أقول: الدعوى باطلة لان البرج منقلب والمشتري في الوبال والقمر في المحاق والكوكبان الناظران في برج كذاب وهو العقرب. ومن الحكماء يوحنا بن البطريق الترجمان مولى المأمون كان أمينا على ترجمة الكتب الحكمية حسن التأدية للمعاني ألكن اللسان في العربية وكانت الفلسفة اغلب عليه من الطبّ. ومن الأطباء سهل بن سابور ويعرف بالكوسج. كان بالأهواز وفي لسانه لكنة خوزية وتقدّم بالطب في ايام المأمون. وكان إذا اجتمع مع يوحنا ابن ماسويه وجيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطيفوري قصر عنهم في العبارة ولم يقصر عنهم في العلاج. ومن دعاباته انه تمارض واحضر شهودا يشهدهم على وصيته وكتب كتابا اثبت فيه أولاده فأثبت في اوله جيورجيس ابن بختيشوع والثاني يوحنا بن ماسويه وذكر انه أصاب أمّيهما زنا فأحبلهما. فعرض لجيورجيس زمع من الغيظ وكان كثير الالتفات. فصاح سهل: صري وهكّ المسيه اخرؤا في أذنه آية خرسي. أراد بالعجمة التي فيه: صرع وحق المسيح اقرؤا في أذنه آية الكرسي. ومن دعاباته انه خرج في يوم الشعانين يريد المواضع التي تخرج إليها النصارى فرأى يوحنا بن ماسويه في هيئة احسن من هيئة. فحسده على ذلك فصار الى صاحب مسلحة الناحية فقال له: ان ابني يعقّني وان أنت ضربته عشرين درّة موجعة أعطيتك عشرين دينارا. ثم اخرج الدنانير فدفعها الى من وثق به صاحب المسلحة ثم اعتزل ناحية الى ان بلغ يوحنا الموضع الذي هو فيه فقدمه الى صاحب المسلحة وقال: هذا ابني يعقّني ويستخف بي. فجحد ان يكون ابنه. فقال: يهذي هذا. قال سهل: انظر يا سيدي. فغضب صاحب المسلحة ورمى يوحنا من دابته وضربه عشرين مقرعة ضربا موجعا مبرّحا. ومن أطباء المأمون جبريل الكحّال. كانت وظيفته في كل شهر ألف درهم وكان أول من يدخل اليه في كل يوم. ثم سقطت منزلته بعد ذلك. فسئل عن سبب ذلك فقال: اني خرجت يوما من عند المأمون فسألني بعض مواليه عن خبره فأخبرته انه قد اغفى. فبلغه ذلك فأحضرني ثم قال: يا جبريل اتخذتك كحّالا او عاملا للأخبار عليّ. اخرج من داري. فأذكرته حرمتي فقال: ان له لحرمة فليقتصر به على اجراء مائة وخمسين درهما في الشهر ولا يؤذن له في الدخول. (المعتصم بن الرشيد) هو ابو اسحق محمد بن هرون الرشيد. بويع له بعد موت المأمون فشغب الجند ونادوا باسم العباس بن المأمون. فخرج إليهم العباس فقال: ما هذا الحب البارد وقد بايعت عمي. فسكنوا. ودخل كثير من اهل الجبال وهمذان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وأصفهان وماسبذان وغيرهم في دين الخرّميّة [1] وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان. فوجّه إليهم المعتصم العساكر فأوقعوا بهم فقتل منهم ستون ألفا وهرب الباقون الى بلد الروم. وفي سنة تسع عشرة ومائتين احضر والمعتصم احمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن. فلما لم يجب بكونه مخلوقا أمر به فجلد جلدا شديدا حتى غاب عقله وتقطع جلده. وكان ابو هرون بن البكاء من العلماء المنكرين لخلق القرآن يقر بكونه مجعولا لقول الله: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا. 43: 3 ويسلم ان كل مجعول مخلوق ويحجم عن النتيجة ويقول: لا أقول مخلوق ولكنه مجعول. وهذا عجب عاجب. وفي سنة عشرين ومائتين عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال ووجّهه لحرب بابك فسار اليه. وكان ابتداء خروج بابك سنة احدى ومائتين وهزم من جيوش السلطان عدّة وقتل من قواده جماعة ودخل الناس رعب شديد وهول عظيم واستعظموه واحتوى [2] اليه القطاع واصحاب الفتن وتكاثفت جموعه حتى بلغ فرسانه عشرين ألفا سوى الرجالة وأخذ يمثل [3] بالناس. وكان أصحابه لا يدعون رجلا ولا امرأة ولا صبيّا ولا طفلا مسلما او ذميا الّا قطعوه وقتلوه وأحصي عدد القتلى بأيديهم فكان مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة انسان. فلما انتدب الافشين لحرب بابك قاومه الافشين سنة وانهزم من بين يديه غير مرة وعاوده. وآل الأمر الى ان انتحى [4] بابك الى البذ [5] مدينة فلما ضاق أمره خرج هاربا ومعه اهله الى بلاد الروم في زي التجار. فعرفه سهل بن سنباط [6] الارمني البطريق فأسره. فافتدى نفسه منه بمال عظيم. فلم يقبل منه وبعثه الى الافشين بعد ما ركب الأرمن من أمه وأخته وامرأته الفاحشة بين يديه. وكذا كان يفعل الملعون بالناس إذا اسرهم مع حرمهم. وحمل الافشين بابك الى المعتصم وهو بسر من رأى. فأمر بإحضار سياف بابك فحضر فأمره ان يقطع يديه ورجليه فقطعها فسقط. فأمر بذبحه وشق بطنه. وأنفذ رأسه الى خراسان وصلب بدنه بسامرّا. وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم الى بلاد الإسلام فبلغ ز بطرة فقتل من بها من الرجال وسبى الذرّية والنساء. وأغار على ملطية وغيرها وسبى المسلمات ومثّل بمن صار في يده من المسلمين   [1-) ] الحرميّة ر الحرامية. [2-) ] واحتوى ر واجتوى وانطوى. [3-) ] يمثل ر يميل. [4-) ] انتحى ر التجأ. [5-) ] البذّ ر النبل والنبذ او البند. [6-) ] سنباط ر شباط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فسمل أعينهم وقطع آنافهم وآذانهم. فلما بلغ الخبر المعتصم استعظمه وتوجه الى بلاد الروم وفتح عمورية وقتل ثلثين ألفا وأسر ثلثين ألفا. وفي سنة خمس وعشرين ومائتين تغير المعتصم على الفشين لأنه كاتب مازيار أصبهبذ [1] طبرستان وحسّن له الخلاف والمعصية وأراد ان ينقل الملك الى العجم فقتله وصلبه بازاء بابك. ووجده بقلفته لم يختن. واخرجوا من منزله أصناما فأحرقوه بها. وفي سنة سبع وعشرين ومائتين توفي المعتصم ابو اسحق يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الاول عن ثمانية بنين وثماني بنات وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وكان عمره سبعا وأربعين سنة. وحكي ان المعتصم بينما هو يسير وحده قد انقطع عن أصحابه في يوم مطر إذ رأى شيخا معه حمار عليه شوك وقد زلق الحمار وسقط في [2] الأرض والشيخ قائم. فنزل عن دابته ليخلص الحمار. فقال له الشيخ: بأبي أنت وأمي لا تهلك ثيابك. فقال له: لا عليك. ثم انه خلّص الحمار وجعل الشوك عليه وغسل يده ثم ركب. فقال له الشيخ: غفر الله لك يا شابّ. ثم لحقه أصحابه فأمر له باربعة آلاف درهم. وهذا دليل على غاية ما يمكن ان يكون من طيب أعراق الملوك وسعة أخلاقهم. قال حنين: ان سلموية كان عالما بصناعة الطبّ فاضلا في وقته. ولما مرض عاده المعتصم وبكى عنده وقال له: أشر عليّ بعدك بمن يصلحني. فقال: عليك بهذا الفضولي يوحنا بن ماسويه. وإذا وصف شيئا خذ أقلّه اخلاطا. ولما مات سلموية قال المعتصم: سألحق به لأنه كان يمسك حياتي ويدبّر جسمي. وامتنع عن الأكل في ذلك اليوم وأمر بإحضار جنازته الى الدار وان يصلّى عليها بالشمع والبخور على رأي النصارى. ففعل ذلك وهو يراهم. وكان سلموية يفصد المعتصم في السنة مرتين ويسقيه عقيب كل فصد دواء. فلما باشره يوحنا أراد عكس ما كان يفعله سلموية فسقاه الدواء قبل الفصد. فلما شربه حمي دمه وحمّ وما زال جسمه ينقص حتى مات وذلك بعد عشرين شهرا من وفاة سلموية. وخدم الافشين زكريا الطيفوريّ وذكر: اني كنت مع الافشين في معسكره وهو في محاربة بابك. فجرى ذكر الصيادلة فقلت: اعزّ الله الأمير ان الصيدلاني لا يطلب منه شيء كان عنده او لم يكن الا اخبر بأنه عنده. فدعا الافشين   [1-) ] اصبهبذ ر اصهيد واصبهيد. [2-) ] وسقط في ر ووقع الى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بدفتر من دفاتر الاسروشنية [1] فأخرج منه نحوا من عشرين اسما ووجّه الى الصيادلة من يطلب منهم ادوية مسماة بتلك الأسماء. فبعض أنكرها وبعض ادّعى معرفتها وأخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئا من حانوته. فأمر الافشين بإحضار جميع الصيادلة فمن أنكر معرفة تلك الأسماء اذن له بالمقام في معسكره ونفى الباقين. (الواثق بالله هرون بن المعتصم) بويع له في اليوم الذي مات فيه أبوه. وفي هذه السنة مات توفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وملكت بعده امرأته ثاودورا وابنها ميخائيل بن توفيل وهو صبيّ. وفي سنة ثماني وعشرين ومائتين غزا المسلمون في البحر جزيرة صقلية وفتحوا مدينة مسيني. وفي سنة احدى وثلثين ومائتين كان الفداء بين المسلمين والروم على يد خاقان خادم الرشيد واجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يوم من طرسوس وأمر الواثق خاقان خادم الرشيد ان يمتحن أسارى المسلمين فمن قال القرآن مخلوق وان الله لا يرى في الآخرة فودي به واعطي دينارا ومن لم يقل ذلك ترك في ايدي الروم. فلما كان في يوم عاشوراء أتت الروم ومن معهم من الأسارى وكان الأمر بين الطائفتين فكان المسلمون يطلقون الأسير فيطلق الروم أسيرا فيلتقيان في وسط الجسر فإذا وصل الأسير الى المسلمين كبروا وإذا وصل الرومي الى الروم صاحوا: كرياليسون حتى فرغوا. فكان عدة أسارى المسلمين اربعة آلاف واربعمائة وستين نفسا والنساء والصبيان ثمانمائة. واهل ذمة المسلمين مائة نفس. ولما فرغوا من الفدية غزا المسلمون شاتين فأصابهم ثلج ومطر فمات منهم مائتا نفس وأسر نحوهم وغرق بالبدندون خلق كثير. وفي سنة اثنتين وثلثين ومائتين مات الواثق في ذي الحجة لست بقين منه وكانت علته الاستسقاء فعولج بالإقعاد في تنّور مسخن فوجد بذلك خفّة فأمرهم من الغد بالزيادة في اسخانه ففعل ذلك وقعد فيه اكثر من اليوم الاول فحمي عليه فأخرج منه في محفّة فمات فيها ولم يشعر بموته حتى ضرب وجهه [2] المحفة. ولما اشتدّ مرضه احضر المنجمين منهم الحسن بن سهل بن نوبخت فنظروا في مولده فقدروا له ان يعيش خمسين سنة مستأنفة من ذلك اليوم فلم يعش بعد قولهم الا عشرة ايام وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وكان عمره اثنتين وثلثين سنة. لهذا حسن المذكور تصنيف وهو كتاب الأنواء. فآل نوبخت كلهم فضلاء ولهم   [1-) ] الاسروشنية ر الاسروسفية والاسروشينة. [2-) ] وجهه ر بوجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فكره صالحة ومشاركة في علوم الأوائل ولا مثل هذا. حدث احمد بن هرون الشرابيّ بمصر ان المتوكل على الله حدثه في خلافة الواثق ان يوحنا بن ماسويه كان مع الواثق على دكان في دجلة وكان مع الواثق قصبة فيها شصّ وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك فحرم الصيد فالتفت الى يوحنا وكان على يمينه وقال: قم يا مشؤوم عن يميني. فقال يوحنا: يا امير المؤمنين لا تتكلم بمحال يوحنا أبوه ماسويه الخوزي وأمه رسالة الصقلبية المبتاعة بثمانمائة درهم وأقبلت به السعادة الى ان صار نديم الخلفاء وسميرهم وعشيرهم حتى غمرته الدنيا فنال منها ما لم يبلغه أمله فمن أعظم المحال ان يكون هذا مشؤوما ولكن ان احبّ امير المؤمنين بأن أخبره بالمشئوم من هو أخبرته. فقال: من هو. فقال: من ولده اربع خلفاء ثم ساق الله اليه الخلافة فترك خلافته وقصورها وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعا في مثلها في وسط دجلة لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه ثم تشبه بأفقر قوم في الدنيا وشرّهم صيادو السمك. قال المتوكل: فرأيت الكلام قد نجع فيه الا انه امسك لمكاني. (المتوكل على الله جعفر بن المعتصم) بويع له بعد موت أخيه الواثق وكان عمره يوم بويع ستا وعشرين سنة. وفي سنة ثلث وثلثين ومائتين وثب ميخائيل بن توفيل بأمه ثاودورا فألزمها الدير وقتل القتيط [1] لأنه اتهمها به وكان ملكها ست سنين. وفي سنة خمس وثلثين ومائتين عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة بولاية العهد وهم المنتصر والمعتزّ والمؤيّد وعقد لكل واحد منهم لواء وولّى المنتصر العراق والحجاز واليمن والمعتزّ خراسان والريّ والمؤيّد الشام. وفي سنة ست وثلثين ومائتين أمر المتوكل يهدم قبر الحسين بن عليّ وان يبذر ويسقى موضعه وان يمنع الناس من إتيانه. وفي سنة سبع وثلثين ومائتين ولّى المتوكل يوسف بن محمد ارمينية واذربيجان ولما صار الى اخلاط أتى بقراط بن اشوط [2] البطريق فأمر بأخذه وتقييده وحمله الى المتوكل فاجتمع بطارقة ارمينية مع ابن اخي بقراط وتحالفوا على قتل يوسف ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة وهو صهر بقراط [3] على ابنته فوثبوا بيوسف واجتمعوا عليه في قلعة موش في النصف من شهر رمضان وذلك في شدة من البرد وكلب من الشتاء فخرج إليهم يوسف وقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه. واما من لم يقاتل فقالوا له: انزع ثيابك وانج بنفسك عريانا ففعلوا ومشوا عراة حفاة   [1-) ] القتيط ر القنبط وللقنبظ. [2-) ] اشوط ر اسوط. [3-) ] بقراط ر ابي بقراط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فهلك أكثرهم من البرد. فلما بلغ المتوكل الخبر وجه بغا الكبير إليهم طالبا بدم يوسف فسار وأباح [1] على قتلة يوسف فقتل منهم زهاء ثلثين ألفا وسبى خلقا كثيرا ثم سار الى مدينة تفليس وحاصرها ودعا النفّاطين فضربوا المدينة بالنار فأحرقوها وهي من خشب الصنوبر فاحترق بها نحو خمسين ألف انسان. وفي سنة ثماني وثلثين ومائتين جاءت ثلاثمائة مركب للروم مع ثلثة رؤساء فأناخ أحدهم في مائة مركب بدمياط وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون ماؤها الى صدر الرجل فمن جازها الى الأرض أمن من مراكب البحر فجازه قوم من المسلمين فسلموا وغرق كثير من نساء وصبيان. ومن كان به قوة سار الى مصر. واتفق وصول الروم وهي فارغة من الجند فنهبوا واحرقوا وسبوا واحرقوا جامعها وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحو ستمائة امرأة وساروا الى مصر ونهبوا ورجعوا ولم يعرض لهم احد. وفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين كانت زلازل هائلة وأصوات منكرة بقومس ورساتيقها في شعبان فتهدمت الدور وهلك تحت الهدم بشر كثير قيل كانت عدتهم خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا. وكان اكثر ذلك [2] بالدامغان. وكان بالشام وفارس وخراسان وباليمن مع خسف. وتقطع الجبل الأقرع وسقط في البحر فمات اهل اللاذقية من تلك الهدّة. وفي سنة سبع وأربعين ومائتين قتل المتوكل وهو ثمل بسرّ مرّأى ليلة الأربعاء ثالث [3] يوم من شوال قتله غلام تركي اسمه باغر وكانت خلافته اربع عشرة سنة وتسعة [4] أشهر وعمره أربعين سنة وقتل معه الفتح ابن خاقان لأنه رمى بنفسه على المتوكل وقال: ويلكم تقتلون امير المؤمنين فبعجوه بسيوفهم فقتلوه. ويقال ان ابنه المنتصر دسّ لقتله فعاش بعده ستة أشهر. وفي سنة الزلازل اخرج المتوكل احمد ابن حنبل من الحبس ووصله وصرفه الى بغداد وأمر بترك الجدل في القرآن وان الذمة بريئة ممن يقول بخلق او غير خلق. قال بعض الرواة: دخل بختيشوع بن جبريل الطبيب يوما الى المتوكل وهو جالس على سدّة في وسط داره الخاصة فجلس بختيشوع على عادته معه فوق [5] السدة وكان عليه درّاعة ديباج رومي وكان قد انشقّ ذيلها قليلا. فجعل المتوكل يحادث بختيشوع ويعبث   [1-) ] وأباح ر وناح وأناخ على قتل. [2-) ] ذلك ر من ذلك. [3-) ] ثالث ر أول. [4-) ] وتسعة ر وسعة. [5-) ] فوق ر على. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 بذلك الفتق حتى بلغ الى حد النّيفق ودار بينهما الكلام يقتضي [1] ان سأل المتوكل بختيشوع بماذا تعلمون ان الموسوس يحتاج الى الشدّ. قال بختيشوع: إذا بلغ الى فتق درّاعة طبيبه الى حد النيفق شددناه. فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره وأمر له بخلعة حسنة ومال جزيل. وهذا يدل على لطف منزلة بختيشوع عند المتوكل وانبساطه معه. وقال المتوكل يوما لبختيشوع: ادعني. قال: نعم وكرامة. فاضافه واظهر من التجمّل والثروة ما اعجب المتوكل والحاضرين. واستكثر المتوكل لبختيشوع ما رآه من نعمته وكمال مروءته فحقد عليه ونكبه بعد ايام يسيرة فأخذ له مالا كثيرا وحضر الحسين ابن مخلد فختم على خزائنه وباع شيئا كثيرا وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ وأمثال هذه فاشتراه الحسين بستة آلاف دينار وذكر انه باع من جملته باثني عشر ألف دينار وكان هذا في سنة اربع وأربعين ومائتين وتوفي بختيشوع سنة ستّ وخمسين ومائتين. وفي ايام المتوكل اشتهر حنين بن اسحق الطبيب النصراني العباديّ ونسبته الى العباد وهم قوم من نصارى العرب من قبائل شتى اجتمعوا وانفردوا عن الناس في قصور ابتنوها بظاهر الحيرة وتسّموا بالعباد لأنه لا يضاف الّا الى الخالق واما العبيد فيضاف الى المخلوق والخالق. وكان اسحق والد حنين صيدلانيا بالحيرة فلما نشأ حنين أحب العلم فدخل بغداد وحضر مجلس يوحنا بن ماسويه وجعل يخدمه ويقرأ عليه. وكان حنين صاحب سؤال وكان يصعب على يوحنا فسأله حنين في بعض الأيام مسألة مستفهم فحرد يوحنا وقال: ما لأهل الحيرة والطب عليك ببيع الفلوس في الطريق. وأمر به فأخرج من داره. فخرج حنين باكيا وتوجه الى بلاد الروم واقام بها سنتين حتى احكم اللغة اليونانية وتوصل في تحصيل كتب الحكمة غاية إمكانه وعاد الى بغداد بعد سنتين ونهض من بغداد الى ارض فارس ودخل البصرة ولزم الخليل بن احمد حتى برع في اللسان العربي ثم رجع الى بغداد. قال يوسف الطبيب: دخلت يوما على جبريل بن بختيشوع فوجدت عنده حنينا وقد ترجم له بعض التشريح وجبريل يخاطبه بالتبجيل ويسميه الربان فأعظمت ما رأيت وتبين ذلك جبريل مني فقال: لا تستكثر هذا مني في أمر هذا الفتى فو الله لئن مدّ له في العمر ليفضحنّ سرجيس. وسرجيس هذا هو الرأس عينيّ اليعقوبي ناقل علوم اليونانيين الى السرياني. ولم يزل أمر حنين يقوى وعلمه يتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير حتى صار ينبوعا للعلوم ومعدنا للفضائل واتصل خبره بالخليفة المتوكل فأمر بإحضاره. ولما حضر اقطع اقطاعا سنيا وقرّر له جار جيد. واحبّ امتحانه ليزول عنه   [1-) ] يقتضي ر اقتضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ما في نفسه عليه إذ ظن ان ملك الروم ربما كان عمل شيئا من الحيلة فاستدعاه وأمر ان يخلع عليه وأخرج له توقيعا فيه اقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم فشكر حنين هذا الفعل. ثم قال له بعد أشياء جرت: أريد ان تصف لي دواء يقتل عدوا نريد قتله وليس يمكن إشهار هذا ونريده سرا. فقال حنين: ما تعلمت غير الادوية النافعة ولا علمت ان امير المؤمنين يطلب مني غيرها فان احبّ ان امضي وأتعلم فعلت. فقال: هذا شيء يطول بنا. ثم رغبّه وهدّده وحبسه في بعض القلاع سنة ثم أحضره وأعاد عليه القول واحضر سيفا ونطعا. فقال حنين: قد قلت لأمير المؤمنين ما فيه الكفاية. قال الخليفة: فانني أقتلك. قال حنين: لي رب يأخذ لي حقي غدا في الموقف الأعظم. فتبسم المتوكل وقال له: طب نفسا فاننا أردنا امتحانك والطمأنينة إليك. فقبّل حنين الأرض وشكر له. فقال الخليفة: ما الذي منعك من الاجابة مع ما رأيته من صدق الأمر منّا في الحالين. قال حنين: شيئان هما الدين والصناعة. اما الدين فانه يأمرنا باصطناع الجميل مع أعدائنا فكيف ظنّك بالاصدقاء. واما الصناعة فإنها موضوعة لنفع أبناء الجنس ومقصورة على معالجاتهم ومع هذا فقد جعل في رقاب الأطباء عهد مؤكد بإيمان مغلظ ان لا يعطوا دواء قتالا لأحد. فقال الخليفة: انهما شرعان جليلان. وأمر بالخلع فافيضت [1] عليه وحمل المال معه فخرج وهو احسن الناس حالا وجاها. وكان الطيفوري النصراني الكاتب يحسد حنينا ويعاديه. واجتمعا يوما في دار بعض النصارى ببغداد وهناك صورة المسيح والتلاميذ وقنديل يشتعل بين يدي الصورة. فقال حنين لصاحب البيت: لم تضيع الزيت فليس هذا المسيح ولا هؤلاء التلاميذ وانما هي صور. فقال الطيفوري: ان لم يستحقوا الإكرام فأبصق عليهم فبصق فأشهد عليه الطيفوري ورفعه الى المتوكل فسأله اباحة الحكم عليه لديانة النصرانية فبعث الى الجاثليق والاساقفة وسئلوا عن ذلك فأوجبوا حرم حنين فحرم وقطع زناره وانصرف حنين الى داره ومات من ليلته فجأة وقيل انه سقى نفسه سما. وكان لحنين ولدان داود واسحق. فاما اسحق فخدم على الترجمة وتولاها وأتقنها وأحسن فيها وكانت نفسه أميل الى الفلسفة. واما داود فكان طبيبا للعامة وكان له ابن اخت يقال له حبيش بن الاعسم احد الناقلين من اليوناني والسرياني الى العربي. وكان يقدمه على تلاميذه ويصفه ويرضى نقله. وقيل من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له فان اكثر ما نقله حبيش نسب الى حنين. وكثيرا   [1-) ] فافيضت ر فانصبّت. ابن العبري- 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ما يرى الجهال شيئا من الكتب القديمة مترجما بنقل حبيش فيظن الغرّ منهم انه حنين وقد صحّف فيكشطه ويجعله حنين. (المنتصر بن المتوكل) بايع له [1] قتلة أبيه تلك الليلة التي قتلوا المتوكل. فلما أصبح يوم الأربعاء حضر القوّاد والكتّاب والجند والوجوه الجعفرية فقرأ عليهم احمد بن الخصيب [2] كتابا يخبر فيه عن المنتصر ان الفتح بن خاقان قتل المتوكل فقتله به فبايع الناس وانصرفوا. وفي سنة ثماني وأربعين ومائتين جدّ وصيف وبغا وباقي الأتراك في خلع المعتزّ والمؤيّد وألحّوا على المنتصر وقالوا: نخلعهما ونبايع لابنك عبد الوهاب. فلم يزالوا به حتى أجابهم وخلعهما بالكره منه ومنهما. ثم دعاهما وقال لهما: أترياني خلعتكما طمعا في ان اعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له والله ما طمعت في ذلك ساعة قط ولكن هؤلاء (وأومأ الى سائر الموالي الأتراك ممن هو قائم وقاعد) ألحوا عليّ في خلعكما. وفي هذه السنة وهي سنة ثماني وأربعين ومائتين مات المنتصر يوم الأحد لخمس ليال خلون من ربيع الآخر بالذبحة وكانت علته ثلثة ايام. قيل وكان كثير من الناس حين أفضت الخلافة اليه الى ان مات يقولون: انما مدة حياته ستة أشهر مدة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه تقوله العامة والخاصة. وكان عمره خمسا وعشرين سنة وستة أشهر وخلافته ستة أشهر. (المستعين احمد بن محمد بن المعتصم) لما توفي المنتصر اجتمع الموالي في الهاروني من الغد وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش وتشاوروا وكرهوا ان يتولى الخلافة واحد من ولد المتوكل لئلا يغتالهم فاجمعوا على المستعين احمد بن محمد بن المعتصم وبايعوه. وفي سنة تسع وأربعين ومائتين شغب الجند والشاكرية ببغداد لما رأوا من استيلاء الترك على الدولة يقتلون من يريدون من الخلفاء ويستخلفون من احبوه من غير ديانة ولا نظر للمسلمين. فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء والنفير وفتحوا السجون وأخرجوا من فيها واحرقوا احد الجسرين وقطعوا الآخر وانتهبوا دور اهل اليسار واخرجوا أموالا كثيرة ففرقوها فيمن نهض الى حفظ الثغور واخرجوا المعتزّ من الحبس وأخذوا من شعره وكان قد كثر وبايعوا له بالخلافة وخلعوا المستعين وكانت أيامه سنتين وتسعة أشهر. فسار المستعين الى بغداد سنة احدى وخمسين ومائتين وحوصر بها. ثم في سنة اثنتين وخمسين ومائتين خلع نفسه من الخلافة فبايع للمعتزّ بن المتوكل وخطب للمعتزّ ببغداد. فلما بايع المستعين للمعتز وجهه الى البصرة ومنها الى أواسط وتقدم بقتله فقتل وحمل رأسه الى المعتزّ   [1-) ] بايع له إلخ ر بويع له ليلة قتل أبوه المتوكل. [2-) ] الخصيب ر الخطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فقال: ضعوه حتى افرغ من الدست. فلما فرغ نظر اليه وأمر بدفنه. وفي هذه السنة حبس المعتزّ المؤيد أخاه ثم أخرجه ميتا لا اثر فيه ولا جرح فقيل انه أدرج في لحاف سمّور وأمسك طرفاه حتى مات. وفي سنة اربع وخمسين ومائتين ولّى الأتراك احمد بن طولون مصر وكان طولون مملوكا تركيا للمأمون وولد له ولده احمد في سنة عشرين ومائتين ببغداد. وكان احمد عالي الهمّة يستقلّ بعقول الأتراك وأديانهم يثقون به في العظائم وتشاغل بالخير والصلاح فتمكنت في القلوب محبته وآل أمره الى ان استولى على مصر وجميع مدن الشام. وفي سنة خمس وخمسين ومائتين صار الأتراك الى المعتزّ يطلبون أرزاقهم فماطلهم بحقهم. فلما رأوا انه لا يحصل منه شيء دخل اليه جماعة منهم فجروا برجله الى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس في الدار وكان يرفع رجلا ويضع رجلا لشدّة الحرّ. ثم سلّموه الى من يعذبه فمنعه الطعام والشراب ثلثة ايام ثم أدخلوه سردابا وجصوا عليه فمات. وكانت خلافته من لدن بويع بسامرّا الى ان خلع اربع سنين وسبعة أشهر [1] . وفي هذه السنة مات سابور بن سهل صاحب بيمارستان جنديسابور وكان فاضلا في وقته وله تصانيف مشهورة منها كتاب الأقرباذين المعوّل عليه في البيمارستانات ودكاكين الصيادلة اثنان وعشرون بابا. وتوفي نصرانيا في يوم الاثنين لتسع [2] بقين من ذي الحجة (المهتدي بن الواثق) بويع له لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين [3] ولم تقبل بيعته حتى أتى المعتزّ فخلع نفسه وأقر بالعجز عما أسند اليه وبالرغبة في تسليمها الى محمد بن الواثق فبايعه الخاصة والعامة. وبعد قتل المعتزّ طلبت أمه الامان لنفسها فأمنوها وظفروا لها بخزائن في دار تحت الأرض ووجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وقدر ملوك زمرّد ومقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ومقدار كيلجة من الياقوت الأحمر. وكان طلب منها ابنها المعتزّ مالا يعطي الأتراك فقالت: ما عندي شيء. فسبّوها وقالوا: عرضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها هذا المال جميعه. وفي منتصف رجب خلع المهتدي وتوفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه سنة ست وخمسين ومائتين وكانت خلافته احد عشر شهرا وعمره ثمانيا وثلثين سنة. (المعتمد بن المتوكل) ولما أخذ المهتدي وحبس احضر ابو العباس احمد بن المتوكل   [1-) ] وكان عمره أربعا وعشرين سنة. [2-) ] لتسع ر لسبع. [3-) ] خمس وخمسين ر خمسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وكان محبوسا بالجوسق فبايعه الأتراك وغيرهم ولقّب المعتمد على الله. ثم ان المهتدي مات ثاني يوم بيعة المعتمد. وفي سنة احدى وستين ومائتين ولّى المعتمد ابنه جعفر العهد ولقبه المفوّض الى الله وولّى أخاه أبا احمد العهد بعد جعفر ولقبه الموفّق بالله. وفي سنة اربع وستين ومائتين دخل عبد الله بن رشيد بن كاووس بلد الروم في اربعة آلاف فارس فغنم وقتل. فلما رحل عن البدندون خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق خرشنة وأصحابها واحدقوا بالمسلمين. فنزل المسلمون فعرقبوا دوابّهم وقاتلوا فقتلوا الّا خمسمائة فإنهم حملوا حملة رجل واحد ونجوا على دوابهم وقتل الروم من قتلوا وأسر عبد الله بن رشيد وحمل الى ملك الروم. وفي سنة خمس وستين ومائتين وقع خلاف بين المعتمد واحمد بن طولون فسار الى سيما والي حلب وبقية العواصم فوجده بأنطاكية فحاصره بها وفتحها فظفر بسيما وقتله وجاء الى حلب وملكها وملك دمشق وحمص وحماة وقنسرين الى الرقة. وأمر المعتمد بلعن ابن طولون على المنابر فلعن ببغداد وسائر العراق ولعن ابن طولون المعتمد على المنابر في جميع اعماله بمصر وغيرها. وفي سنة سبعين ومائتين مات ابن طولون في ذي القعدة [1] وخلف سبعة عشر ابنا أحدهم خمارويه وسبع عشرة بنا وترك أموالا جمة ومماليك كثيرة. وكان كثير الصدقات والخيرات. وقام ولده خمارويه بعده بالملك احسن قيام ودبّر احسن تدبير. وفي سنة ثماني وسبعين ومائتين عرض للموفق وجع النقرس واشتدّ به فلم يقدر على الركوب. فعمل له سرير عليه قبّة وكان يقعد عليه هو وخادم له يبرد رجله بالثلج ثم صارت علّة رجله داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلا بالنوبة. فقال لهم يوما: قد ضجرتم من حملي بودّي لو كنت كواحد منكم احمل على رأسي وآكل وانا في عافية. فوصل الى داره لليلتين خلتا من صفر وشاع موته. وعلى يديه جرى اكثر الحروب مع الزنج وباقي الخوارج. ولما مات الموفق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوّض ولقب المعتضد بالله. وفي سنة تسع وسبعين ومائتين توفي المعتمد ليلة الاثنين لإحدى عشرة بقيت من رجب وكان قد شرب على الشط في الحسنيّ يوم الأحد شرابا كثيرا وتعشى فأكثر فمات ليلا. وكانت خلافته ثلثا وعشرين سنة [2] . وكان في خلافته محكوما عليه قد تحكم [3] عليه ابو احمد الموفق اخوه وضيّق عليه   [1-) ] القعدة ر الحجة- كانت امارته نحو ست وعشرين سنة. [2-) ] وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر وكان أسن من الموفق بستة أشهر. وهو أول الخلفاء انتقل من سر من رأى مذ بنيت ثم لم يعد إليها احد منهم. [3-) ] تحكّم ر يحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 حتى انه احتاج في بعض الأوقات الى ثلاثمائة دينار فلم يجدها. وكان استخصّ الموفق أخو المعتمد جعفر بن محمد المعروف بابي معشر البلخي واتخذه منجما له وكان معه في محاصرته للزنج بالبصرة. وقيل ان أبا معشر كان في أول امره من اصحاب الحديث ببغداد وكان يضاغن أبا يوسف يعقوب بن اسحق الكندي ويغري به العامة ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة. فدسّ عليه الكندي من حسّن له النظر في علم الحساب والهندسة فدخل في ذلك فلم يكمل له فعدل الى علم احكام النجوم وانقطع شرّه عن الكندي. ويقال انه تعلم النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره. وكان فاضلا حسن القريحة صنف كتبا عدة في هذا الفن. فضربه المستعين أسواطا لأنه أصاب في شيء أخبر به قبل وقته. وكان يقول: أصبت فعوقبت. وجاوز ابو معشر المائة من عمرة ومات بواسط. وقيل كان ابو معشر مدمنا على شرب الخمر مشتهرا [1] بمعاقرتها وكان يعتريه صرع عند اوقات الامتلاءات القمرية. واما يعقوب الكندي فكان شريف الأصل بصريا وكان أبوه اسحق أميرا على الكوفة للمهدي والرشيد. وكان يعقوب عالما بالطب والفلسفة والحساب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة والهيئة وله في اكثر هذه العلوم تآليف مشهورة من المصنفات الطوال. ولم. يكن في الإسلام من اشتهر عند الناس بمعاناة علم الفلسفة حتى سمّوه فيلسوفا غير يعقوب هذا وعاصر قسطا بن لوقا البعلبكي وقسطا هذا الفيلسوف نصراني في الدولة الاسلامية دخل الى بلاد الروم وحصّل من تصانيفهم الكثيرة وعاد الى الشام واستدعي الى العراق ليترجم الكتب وله تصانيف مختصرة بارعة. وقيل اجتذبه سنحاريب الى ارمينية واقام بها الى ان مات هناك وبنى على قبره قبة إكراما له كاكرام قبور الملوك ورؤساء الشرائع. قال المؤرخ: لو قلت حقا قلت انه أفضل من صنّف كتابا بما احتوى عليه من العلوم والفضائل وما رزق من الاختصار للألفاظ وجمع المعاني. وفي آخر دولة المعتمد تحرّك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة وكان ابتداء أمرهم ان رجلا فقيرا قدم من ناحية خوزستان الى سواد الكوفة وكان يظهر الزهد والتقشف ويسفّ [2] الخوص ويأكل من كسبه فأقام على ذلك مدة. وكان إذا قعد اليه رجل ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيا واعلمه انه يدعو الى امام من اهل بيت النبيّ عليه السلام.   [1-) ] مشتهرا ر مستهترا. [2-) ] ويسف ر ويتعانى نسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير واتخذ منهم اثني عشر نقيبا على عدد الحواريين وأمرهم ان يدعوا الناس الى مذهبهم. فبلغ خبره عامل تلك الناحية فأخذه وحبسه وحلف انه يقتله واغلق باب البيت عليه وجعل المفتاح تحت وسادته واشتغل بالشرب. فسمعت جارية له بيمينه فرقّت للرجل. فلما نام العامل أخذت المفتاح وفتحت الباب وأخرجته ثم أعادت المفتاح الى مكانه. فلما أصبح العامل فتح الباب ليقتله فلم يره وشاع ذلك في الناس وافتتن به اهل تلك الناحية وقالوا رفع. ثم ظهر في ناحية اخرى ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم وقال لهم: لا يمكن ان ينالني احد بسوء. فعظم في أعينهم. ثم خاف على نفسه فخرج الى ناحية الشام ولم يوقف له على خبر وسمّي باسم رجل كان ينزل عنده وهو كرمتية [1] ثم خفّف فقيل قرمطة. وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم انهم جاءوا بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. يقول الفرج بن عثمان وهو من قرية يقال لها نصرانة ان المسيح تصوّر له في جسم انسان وقال له: انك الداعية وانك الحجة وانك الناقة وانك الدابة وانك يحيى بن زكريا وانك روح القدس وعرّفه ان الصلاة اربع ركعات ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل [2] غروبها والصوم يومان في السنة وهما المهرجان والنيروز. وان النبيذ حرام والخمر [3] حلال ولا يؤكل كل ذي ناب ولا كل ذي مخلب. (المعتضد بن الموفق) بويع في صبيحة الليلة التي مات فيها عمّه المعتمد. ولما ولي المعتضد بعث خمارويه بن اخمد بن طولون له هدايا والطافا شريفة ورسولا وسأله ان يزوج ابنة خمارويه المسماة قطر الندى بعليّ بن المعتضد. فقال المعتضد: انا أتزوجها. فسرّ خمارويه بذلك. وفي سنة احدى وثمانين ومائتين خرج المعتضد الى الموصل قاصدا للأعراب والأكراد فسار إليهم فأوقع بهم وقتل منهم وغرق منهم في الزاب خلق كبير. وسار المعتضد الى الموصل يريد قلعة ماردين وكانت لحمدان فهرب حمدان منها وخلف ابنه بها فنازلها المعتضد وقاتل من فيها يومه ذلك. فلما كان الغد ركب المعتضد فصعد الى باب القلعة وصاح: يا ابن حمدان. فأجابه. فقال: افتح الباب. ففتحه فقعد المعتضد في الباب وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها. ثم ظفر بحمدان بعد عوده الى بغداد جاءه مستأمنا اليه. وفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين جهز خمارويه ابنته احسن جهاز وبعث   [1-) ] كرمتية ر كرمينة. [2-) ] قبل. روى ابن الأثير «بعد» . [3-) ] والخمر ر الشراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بها الى المعتضد في المحرّم. وفي هذه السنة لثلث خلون من ذي الحجة قتل خمارويه بدمشق ذبحه على فراشه بعض خاصته. ولما قتل اقعدوا مكانه ابنه هرون والتزم انه يحمل من مصر الى خزانة المعتضد في كل سنة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار. وفي سنة ثلث وثمانين ومائتين سارت الصقالبة الى الروم فحاصروا القسطنطينية وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وخربوا البلاد. فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصا جمع من عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم السلاح وسألهم معونته على الصقالبة ففعلوا وكشفوهم وازاحوهم عن القسطنطينية. فلما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه فأخذ سلاحهم وفرقهم في البلدان حذرا من جنايتهم عليه. وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم وكان جملة من فودي به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان الفين وخمسمائة واربعة انفس. وفي هذه السنة وهي سنة اربع وثمانين ومائتين كان المنجمون يوعدون بغرق اكثر الأقاليم الا إقليم بابل فانه يسلم منه اليسير وإذ ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة المياه في الأنهار والعيون. فقحط الناس وقلت الأمطار وغارت المياه حتى استسقى الناس ببغداد مرات. وفي سنة خمس وثمانين ومائتين ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد بالبحرين واجتمع اليه جماعته من الاعراب والقرامطة وقوي أمره فقاتل ما حوله من القوى ثم صار الى القطيف واظهر انه يريد البصرة. فأمر المعتضد ببناء سور على البصرة فعمل وكان مبلغ الخرج عليه اربعة عشر ألف دينار. وفي سنة ثماني وثمانين ومائتين وقع الوباء باذربيجان فمات منه خلق كثير الى ان فقد الناس ما يكفنون به الموتى وكانوا يطرحونهم في الطريق. وفيها سارت الروم الى كيسوم فنهبوها وغنموا اموال أهلها وأسروا منها نحو خمسة عشر ألف انسان من رجل وصبي وامرأة. وفي سنة تسع وثمانين ومائتين انتشر القرامطة بسواد الكوفة فأخذ رئيسهم وسيّر الى المعتضد وأحضره وقال له: اخبرني هل تزعمون ان روح الله تحل في أجسادكم. فقال له الرجل: يا هذا ان حلت روح الله فينا فما يضرك وان حلت روح إبليس فما ينفعك فلا تسأل عمّا لا يعنيك وسلّ عما يخصك. فقال: ما تقول فيما يخصني. فقال: أقول ان النبي عليه السلام مات وأبوكم العباس حيّ فهل طلب الخلافة ام هل بايعه احد من الصحابة على ذلك. ثم مات ابو بكر واستخلف عمر وهو يرى موضع العباس ولم يوص اليه. ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة انفس ولم يوص الى العباس ولا ادخله فيهم فبماذا تستحقون أنتم الخلافة وقد اتفق الصحابة على دفع جدك عنها. فأمر به المعتضد فعذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وخلعت عظامه ثم قطعت يداه ورجلاه ثم قتل. وبعد قليل في هذه السنة في ربيع الآخر لثمان بقين منه توفي المعتضد فاجتمع القواد وجددوا البيعة لابنه المكتفي وكانت خلافة المعتضد تسع [1] سنين وتسعة أشهر وعمره سبع وأربعين سنة. وقيل كان المعتضد أسمر نحيفا شهما شجاعا وكان فيه شحّ وكان عفيفا مهيبا عند أصحابه يتقون سطوته ومع ذلك جاوز الحد في الحلم. قال الوزير عبد الله بن سليمان بن وهب: كنت عند المعتضد يوما وخادم بيده المذبة إذ ضربت [2] قلنسوة المعتضد فسقطت فكدت اختلط إعظاما للحال ولم يتغير المعتضد وقال: هذا الغلام قد نعس. ولم ينكر عليه. فقبّلت الأرض وقلت: والله يا امير المؤمنين ما سمعت بمثل هذا ولا ظننت ان حلما يسعه. قال: وهل يجوز غير هذا انا اعلم انّ هذا الصبي البائس لو دار في خلده ما جرى لذهب عقله وتلف والإنكار لا يكون الا على المعتمد دون الساهي الخاطئ. وفي ايام المعتضد علت منزلة بني موسى بن شاكر وهم ثلثة محمد واحمد والحسن. وكان موسى بن شاكر يصحب المأمون ولم يكن موسى من اهل العلم بل كان في حداثته حراميّا يقطع الطريق ثم انه تاب ومات وخلّف هؤلاء الأولاد الثلاثة صغارا فوصى بهم المأمون اسحق بن ابرهيم المصعبي واثبتهم مع يحيى بن ابي منصور في بيت الحكمة وكانت حالهم رثة رقيقة. على ان أرزاق اصحاب المأمون كلهم كانت قليلة. فخرج بنو موسى ابن شاكر نهاية في علومهم وكان أكبرهم واجلّهم ابو جعفر محمد وكان وافر الحظ من الهندسة والنجوم ثم خدم وصار من وجوه القوّاد الى ان غلب الأتراك على الدولة. وكان احمد دونه في العلم الّا صناعة الحيل فانه فتح له فيها ما لم يفتح مثله لأحد. وكان الحسن وهو الثالث منفردا بالهندسة وله طبع عجيب فيها لا يدانيه احد علم كل ما علم بطبعه ولم يقرأ من كتب الهندسة الا ست مقالات من كتاب اوقليذس في الأصول فقط وهي اقل من نصف الكتاب ولكن ذكره كان عجيبا وتخيله كان قويا. وحكي ان المروزي قال عنه يوما للمأمون انه لم يقرأ من كتاب اوقليذس الا ست مقالات. أراد بذلك كسره. فقال الحسن: يا امير المؤمنين لم يكن يسألني عن شكل من أشكال المقالات التي لم اقرأها الا استخرجته بفكري وأتيته به [3] ولم يكن يضرّني انني لم اقرأها   [1-) ] تسع. روى ابن الأثير «سبعا» س تسع سنين وتسعة أشهر. [2-) ] ضربت ر ضرب. [3-) ] وأتيته به ر واثبتّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ولا تنفعه قراءته لها إذ كان من الضعف فيها بحيث لم تغنه قراءته في أصغر مسئلة من الهندسة فانه لا يحسن ان يستخرجها. فقال له المأمون: ما ادفع قولك ولكني ما أعذرك ومحلّك من الهندسة محلّك ان يبلغ بك الكسل ان لا تقرأه كله وهو للهندسة كحروف اب ت ث للكلام والكتابة. وفي دار محمد بن موسى تعلّم ثابت بن قرّة بن مروان الصابئ الحرّاني نزيل بغداد فوجب على محمد حقّه فوصله بالمعتضد وادخله في جملة المنجمين. وبلغ ثابت هذا مع المعتضد اجلّ المراتب وأعلى المنازل حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلا ويضاحكه ويقبل عليه دون وزرائه وخاصّته. وله مصنّفات كثيرة في التعليمات الرياضيّة والطبّ والمنطق وله تصانيف بالسريانية فيما يتعلق بمذهب الصابئة في الرسوم والفروض والسنن وتكفين الموتى ودفنهم وفي الطهارة والنجاسة وما يصلح من الحيوان للضحايا وما لا يصلح وفي اوقات العبادات وترتيب القراءة في الصلاة. والذي تحققنا من مذهب الصابئة ان دعوتهم هي دعوة الكلدانيين القدماء بعينها وقبلتهم القطب الشماليّ ولزموا فضائل النفس الأربع. والمفترض عليهم ثلث صلوات أولها قبل طلوع الشمس بنصف ساعة او اقلّ لتنقضي مع الطلوع ثماني ركعات في كل ركعة ثلث سجدات. والثانية انقضاؤها مع نصف النهار والزوال خمس ركعات في كل ركعة ثلث سجدات. والثالثة مثل الثانية تنقضي مع الغروب. والصيام المفروض عليهم ثلثون يوما أولها الثامن من اجتماع آذار. وتسعة ايام أولها التاسع من اجتماع كانون الاول. وسبعة ايام أولها ثامن شباط. ويدعون الكواكب. وقرابينهم كثيرة لا يأكلون منها بل يحرقونها. ولا يأكلون الباقلى والثوم وبعضهم اللوبياء والقنّبيط والكرنب والعدس. وأقوالهم قريبة من اقوال الحكماء ومقالاتهم في التوحيد على غاية من التقانة ويزعمون ان نفس الفاسق تعذّب تسعة آلاف دور ثم تصير الى رحمة الله تعالى. وكان في دولة المعتضد احمد بن محمد بن مروان بن الطيب السرخسي احد فلاسفة الإسلام وله تآليف جليلة في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب وكان حسن المعرفة جيّد القريحة بليغ اللسان مليح التصنيف وكان أولا معلّما للمعتضد ثم نادمه وخصّ به وكان يفضي اليه بأسراره كلها ويستشيره في امور مملكته وكان الغالب على احمد هذا علمه لا عقله واتفق ان افضى اليه بسر فاذاعه فأمر المعتضد بقتله فقتل. (المكتفي بن المعتضد) لما توفي المعتضد كتب الوزير الى ابي محمد عليّ بن المعتضد وهو المكتفي وعرّفه أخذ البيعة له وكان بالرقّة فأخذ له البيعة على من عنده من الأجناد وسار الى بغداد فدخلها لثمان خلون من جمادى الاولى سنة تسع وثمانين ومائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وفيها ظهر بالشام رجل من القرامطة وجمع جموعا من الاعراب وأتى دمشق وبها طغج ابن جف [1] من قبل هرون بن خمارويه بن اخمد بن طولون وكانت بينهم وقعات. وفي سنة احدى وتسعين ومائتين خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون الى ما وراء النهر وكان في عسكرهم سبعمائة قبّة تركية ولا تكون الا للرؤساء منهم. فسار إليهم جيش المسلمين وكبسوهم مع الصبح فقتلوا منهم خلقا عظيما وانهزم الباقون. وفيها خرج الروم في عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف الى الثغور فأغاروا وسبوا وأحرقوا. وفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين جهّز المكتفي الى هرون بن خمارويه جيشا في البرّ والبحر فحاصروه بمصر وجرى بينهم قتال شديد وو قطعات كثيرة آخرها ان بعض الرماة من اصحاب المكتفي رمى هرون بمزراق معه فقتله وانهزم المصريون وكان هو آخر أمراء آل طولون وانقرضت الدولة الطولونيّة في هذه السنة. وفي سنة ثلث وتسعين ومائتين أغارت الروم على قورس ودخلوها فأحرقوا جامعها وساقوا من بقي من أهلها لأنهم قتلوا أكثرهم. وفي سنة خمس وتسعين ومائتين في ذي القعدة توفي المكتفي بالله وكانت خلافته ستّ سنين وستة أشهر وكان عمره ثلثا وثلثين سنة. وفي ايام المكتفي اشتهر يوسف الساهر الطبيب ويعرف ايضا بالقسّ وكان مشهور الذكر مكبّا على الطبّ كثير الاجتهاد في تحصيل الفوائد وسمّي الساهر لأنه كان لا ينام في الليل الّا ربعه او أزيد ثم يسهر في طلب العلم. وقيل انما سمّي الساهر لان سرطانا كان في مقدّم رأسه وكان يمنعه النوم. وإذا تأمل متأمل كنّاشه رأى فيه أشياء تدلّ على انه كان به هذا المرض. (المقتدر بن المعتضد) لما ثقل المكتفي في مرضه استشار الوزير وهو حينئذ العباس ابن الحسن أصحابه فيمن يصلح للخلافة. فقالوا له: اتّق الله ولا تولّ من قد لقي الناس ولقوه وعاملهم وعاملوه وتحنّك [2] وحسب حساب نعم الناس وعرف وجوه دخلهم وخرجهم. فقال الوزير: صدقتم ونصحتم. فبمن تشيرون. قالوا: أصلح الموجودين جعفر بن المعتضد. قال: ويحكم هو صبيّ. قال ابن الفرات: الا انه ابن المعتضد ولا نأتي برجل كامل يباشر الأمور بنفسه غير محتاج إلينا [3] . فركن الوزير الى قولهم. فلما مات المكتفي   [1-) ] جف ر خف. [2-) ] وتحنّك ر وتحييل. [3-) ] إلينا ر الى مشاور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 نصب جعفرا للخلافة وأخذ له البيعة ولقبه المقتدر بالله. فلما بويع المقتدر استصغره الوزير وكان عمره إذ ذاك ثلث عشرة سنة. وكثر كلام الناس فيه فعزم على خلعه. ثم في سنة ستّ وتسعين ومائتين اجتمع القوّاد والقضاة مع الوزير على خلع المقتدر بالله والبيعة لابن المعتزّ. ثم ان الوزير رأى امره صالحا مع المقتدر فبدا له في ذلك. فوثب به الحسين بن حمدان فقتله وخلع المقتدر وبايع الناس ابن المعتزّ ولقب المرتضي بالله ووجّه الى المقتدر يأمره بالانتقال الى الدار التي كان مقيما فيها لينتقل هو الى دار الخلافة فأجابه بالسمع والطاعة وسأل الامهال الى الليل. وعاد الحسين بن حمدان بكرة غد الى دار الخلافة فقاتله الخدم والغلمان والرجالة من وراء الستور عامّة النهار فانصرف عنهم آخر النهار. فلما جنّه الليل سار عن بغداد بأهله وماله الى الموصل لا يدرى لم فعل ذلك ولم يكن بقي مع المقتدر من القوّاد غير مؤنس الخادم ومؤنس الخازن. ولما رأى ابن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمد بن داود وغلام له وساروا نحو الصحراء ظنا منهم ان من بايعه من الجند يتبعونه. فلما لم يلحقهم احد رجعوا واختفوا ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد وثار العيّارون والسفل ينهبون الدور وخرج المقتدر بالعسكر وقبض على جماعة وقتلهم وكتب الى ابي الهيجاء بن حمدان يأمره بطلب أخيه الحسين فانهزم الحسين وأرسل أخاه ابراهيم يطلب له الامان فأجيب الى ذلك ودخل بغداد وخلع عليه وعقد له على قمّ وقاشان فسار إليها. وفي هذه السنة سقط ببغداد ثلج كثير من بكرة الى العصر فصار على الأرض اربع أصابع وكان معه برد شديد وجمد الماء والخلّ والبيض وهلك النخل وكثير من الشجر. وفي سنة ثلث وثلاثمائة خرج الحسين بن حمدان بالجزيرة عن طاعة المقتدر فجهّز الوزير رائق [1] الكبير في جيش وسيّره اليه فالتقيا واقتتلا قتالا شديدا فانهزم رائق وغنم الحسين سواده. فسمع ذلك مؤنس الخادم وجدّ بالسير نحو الحسين فرحل الحسين نحو ارمينية مع ثقله وأولاده وتفرق عسكره عنه فأدركه جيش مؤنس وأسروه ومعه ابنه عبد الوهّاب. وعاد مؤنس الى بغداد على الموصل ومعه الحسين فأركب على جمل هو وابنه وعليهما البرانس واللبود الطوال وقمصان من شعر احمر وحبسا. وفي هذه السنة خرج مليح الارمني الى مرعش فعاث في بلدها وأسر جماعة ممن [2] حولها وعاد. وفي سنة خمس وثلاثمائة وصل رسولان من ملك الروم الى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء فأكرما إكراما تاما كثيرا ودخلا على الوزير وهو في أكمل هيئة وأديا الرسالة اليه.   [1-) ] ويروى: راتق. [2-) ] ممن ر من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ثم انهما دخلا على المقتدر وقد جلس لهما واصطفّت الأجناد بالسلاح والزينة التامة وأدّيا الرسالة. فأجابهما المقتدر الى ما طلب ملك الروم من الفداء وسيّر مؤنسا الخادم ليحضر الفداء وانفذ معه مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسارى المسلمين. وفيها أطلق ابو الهيجاء بن حمدان واخوته واهل بيته من الحبس. وفي سنة تسع وثلاثمائة قتل الحسين الحلاج بن منصور. وكان ابتداء حاله انه كان يظهر الزهد ويظهر الكرامات وقيل انه حرّك يوما يده فانتثر على قوم دراهم. فقال بعض من تفهّم أمره ممن حضر: ارى دراهم معروفة ولكني او من بك وخلق معي ان اعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك. فقال: وكيف وهذا لا يصنع. فقال له: من حضر ما ليس بحاضر صنع ما ليس بمصنوع. وكان قدم من خراسان الى العراق وسار الى مكة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظلّ تحت سقف شتاء ولا صيفا ورئي في جبل ابي قبيس على صخرة حافيا مكشوف الرأس والعرق يجري منه الى الأرض. وعاد الحلاج الى بغداد فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول والربوبيّة. ثم نقل عنه الى الوزير حامد انه أحيا جماعة من الموتى. فلما سأله الوزير عن ذلك أنكره وقال: أعوذ بالله ان ادّعي النبوة او [1] الربوبية وانما انا رجل اعبد الله. فلم يتمكن الوزير من قتله حتى رأى له كتابا فيه: ان الإنسان إذا أراد الحجّ ولم يمكنه أفرد من داره بيتا طاهرا فإذا حضرت ايام الحجّ طاف حوله وفعل ما يفعل الحجاج بمكة ثم يطعم ثلاثين يتيما ويكسوهم ويعطي كلّ واحد منهم سبعة دراهم. فأحضر الوزير القضاة ووجوه الفقهاء واستفتاهم. فكتبوا باباحة دمه فسلمه الوزير الى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط فما تأوّه لها ثم قطع يده ثم رجله ثم رجله الاخرى ثم يده ثم قتل وأحرق وألقي رماده في دجلة ونصب [2] الرأس ببغداد. واختلف في بلدة الحلاج ومنشإه فقيل من خراسان وقيل من نيسابور وقيل من مرو وقيل من الطالقان وقيل من الريّ. وقيل كان رجلا محتالا مشعبذا يتعاطى مذاهب الصوفيّة ويدّعي ان الالهية قد حلّت فيه وانه هو هو. وقيل له وهو مصلوب: قل لا إله الّا الله. فقال: ان بيتا أنت ساكنه غير محتاج الى السرج. وامتحنه ابو الحسين عليّ ابن عيسى وناظره فوجده صفرا من العلوم فقال له: تعلّمك طهورك وفروضك اجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها. لم تكتب الى الناس بقولك: تبارك ذو النور الشعشعاني الذي يلمع بعد شعشعته. ما أحوجك الى الأدب. وقال ابو الحسن بن الجندي انه رأى الحلاج وشاهد   [1-) ] او ر مع. [2-) ] ونصب ر وصلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 من شعابيذه أشياء منها تصويره بين يديه بستانا فيه زروع وماء. وفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة استشعر مؤنس الخادم خوفا من المقتدر فامتنع من دخول دار المقتدر. فاجتمع اليه جميع الأجناد وقالوا له: لا تخف نحن نقاتل بين يديك الى ان ينبت لك لحية. فوجّه اليه المقتدر رقعة بخطه يحلف له على بطلان ما قد بلغه. فقصد دار المقتدر في جمع من القوّاد ودخل اليه وقبّل يده. وحلف له المقتدر على صفاء نيته له. وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة خلع المقتدر بالله من الخلافة وبويع اخوه القاهر [1] بالله محمد بن المعتضد فبقي يومين ثم أعيد المقتدر. وكان السبب في ذلك استيحاش مؤنس الخادم. وفي سنة عشرين وثلاثمائة سار مؤنس الخادم الى الموصل مغاضبا ووجّه خادمه بشرى برسالة الى المقتدر. فسأله الوزير الحسين عن الرسالة. فقال: لا اذكرها الّا للمقتدر كما امرني صاحبي. فشتمه الوزير وشتم صاحبه وأمر بضربه وصادره بثلاثمائة ألف دينار. فلما بلغ مؤنسا ما جرى على خادمه وهو بحربى ينتظر ان يطيب المقتدر قلبه ويعيده سار نحو الموصل ومعه جميع القواد فاجتمع بنو حمدان على محاربته. ولما قرب مؤنس من الموصل كان في ثمانمائة فارس واجتمع بنو حمدان في ثلثين ألفا فالتقوا واقتتلوا فانهزم بنو حمدان واستولى مؤنس على أموالهم وديارهم فخرج اليه كثير من العساكر من بغداد والشام ومصر لإحسانه إليهم وأقام بالموصل تسعة أشهر ثم انحدر الى بغداد ونزل بباب الشّماسية. وأشار على المقتدر أصحابه بحضور الحرب فان القوم متى رأوه عادوا جميعهم اليه فخرج وهو كاره وبين يديه الفقهاء والقراء ومعهم المصاحف منشورة وعليه البردة والناس حوله. فوقف على تلّ عال بعيد عن المعركة. فأرسل قوّاده يسألونه التقدّم. فلما تقدّم من موضعه انهزم أصحابه قبل وصوله إليهم. فأراد الرجوع فلحقه قوم من المغاربة وشهروا عليه سيوفهم. فقال: ويحكم انا الخليفة. قالوا: قد عرفناك يا سفلة. وضربه واحد بسيفه على عاتقه فسقط الى الأرض وذبحه بعضهم ورفعوا رأسه على خشبة وهم يكبّرون ويلعنونه وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله وتركوه مكشوف العورة الى ان مرّ به رجل من الاكرة فستره بحشيش ثم حفر له في موضعه ودفن وعفا [2] قبره. ولما حمل رأس المقتدر الى مؤنس بكى ولطم وجهه ورأسه وأنفذ الى دار الخليفة من منعها من النهب. وكانت خلافة المقتدر خمسا وعشرين سنة وعمره ثماني وثلثين سنة.   [1-) ] القاهر. ر القادر وهو تصحيف س واخرج من الحبس محمد بن المعتضد وحلف له (وبايعه) وسماه القاهر. [2-) ] وعفا ر وخفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة مات محمد بن جابر بن سنان ابو عبد الله الحرّاني المعروف بالبتّاني احد المشهورين برصد الكواكب ولا يعلم احد من الإسلام بلغ مبلغه في تصحيح ارصاد الكواكب وامتحان حركاتها. وكان أصله من حرّان صابئا. وفي سنة عشرين وثلاثمائة توفي محمد بن زكريا الرازيّ وكان في ابتداء امره يضرب بالعود ثم ترك ذلك واقبل على تعلم الفلسفة فنال منها كثيرا وألّف كتبا كثيرة أكثرها في صناعة الطبّ وسائرها في المعارف الطبيعيّة ودبّر بيمارستان الريّ [1] ثم بيمارستان بغداد زمانا. وكان في بصره رطوبة لكثرة أكله الباقلّى ثم عمي في آخر عمره بماء نزل في عينيه. وجاءه كحال ليقدحهما فسأله عن العين كم طبقة هي. فقال: لا اعلم. فقال له: لا يقدح عينيّ من لا يعلم ذلك. فقيل له: لو قدحت لكنت أبصرت. قال: لا قد أبصرت في الدنيا حتى مللت. وقيل ان أبا بكر محمد بن زكريا الرازي أوحد دهره وفريد عصره جمع المعرفة بعلوم القدماء لا سيما الطبّ وكان شيخا كبير الرأس مسفّطا. ولم يكن يفارق النسخ اما يسودّ [2] او يبيّض. وألّف في الكيمياء اثني عشر كتابا وذكر انها اقرب الى الممكن منها الى الممتنع. وكان كريما متفضلا بارّا بالناس حسن الرأفة بالفقراء والاعلّاء حتى كان يجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرّضهم. وحكي عن الكعبي انه قال لابن زكريا: رأيتك تدّعي ثلثة اصناف من العلوم وأنت أجهل الناس بها تدّعي الكيمياء وقد حبستك زوجتك على عشرة دراهم فلو ملكت يوما قدر مهرها ما رافعتك الى الحاكم فحضرت معها وحلفت لها عليه. وتدّعي الطبّ وتركت عينك حتى ذهبت. وتدعي النجوم والعلم بالكائنات وقد وقعت في نوايب ولم تشعر بها حتى أحاطت بك. أقول الطعن الاول مباين لما نقل من حسن رأفته بالفقراء ولا يبعد ان الأخر [3] قول حاسد. ومن الأطباء الذين للمقتدر بختيشوع بن يحيى [4] وسنان بن ثابت بن قرة الصابئ والد ثابت بن سنان صاحب التاريخ. ولم يكن في اطبائه اخص من هذين. وسيأتي قصة سنان في باب خلافة القاهر. (القاهر بن المعتضد) لما قتل المقتدر عظم قتله على مؤنس وقال: الرأي ان ننصب ولده أبا العباس فانه تربيتي وهو صبي عاقل فيه دين وكرم ووفاء بما يقول. فاعترض   [1-) ] الري ر جنديسابور. [2-) ] النسخ اما يسوّد إلخ ر الشيخ اما تسويد او تبييض. [3-) ] الاخر ر الثلاثة. [4-) ] يحيى ر عيسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 عليه اسحق النوبختي وقال: بعد الكد استرحنا من خليفة له أم وخالة وخدم يدبّرونه فنعود الى تلك الحال لا والله لا نرضى الا برجل كامل يدبّر نفسه ويدبّرنا. وما زال حتى ردّ مؤنسا عن رأيه وذكر له ابو منصور محمد بن المعتضد فأجابه مونس الى ذلك. وكان النوبختي في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه فا القاهر قتله كما سيأتي ذكره. وأمر مونس بإحضار محمد ابن المعتضد فبايعوه بالخلافة لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة ولقبوه القاهر بالله. وكان مؤنس كارها لخلافته ويقول: انني عارف بشره وشؤمه. ولما بويع استحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق ولعليّ بن بليق. واستحجب القاهر عليّ بن بليق وتشاغل القاهر بالبحث عمن استتر من أولاد المقتدر وحرمه ثم احضر القاهر ام المقتدر عنده وكانت مريضة قد ابتدأ بها استسقاء فسألها عن مالها فاعترفت له بما عندها من المتاع والثياب ولم تعترف بشيء من المال والجواهر. فضربها اشدّ ما يكون من الضرب وعلقها برجلها وضرب المواضع الغامضة من بدنها. فحلفت انها لا تملك غير ما اطلعته عليه. وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه ووكل على بيع املاك أمّ المقتدر وحلّ وقوفها فبيع جميع ذلك. وفي سنة احدى وعشرين وثلاثمائة استوحش مؤنس وبليق الحاجب وولده عليّ الوزير وابو عليّ بن مقلة من القاهر وضيّقوا عليه ووكلوا على دار الخليفة احمد بن زيرك وأمروه بتفتيش كل من يدخل الدار ويخرج منها وان يكشف وجوه النساء المنقّبات. ففعل ذلك وزاد عليه حتى انه حمل الى دار القاهر لبن فأدخل يده فيه لئلا يكون فيه رقعة. فعلم القاهر ان العتاب لا يفيد فأخذ في الحيلة والتدبير عليهم وأرسل الى الساجيّة اصحاب يوسف بن ابي الساج يغريهم بمؤنس وبليق ويحلف لهم على الوفاء فتغيرت قلوبهم. فبلغ ابن مقلة ان القاهر يجتهد في التدبير عليهم فذكر ذلك لمؤنس وبليق وابنه فاتفق رأيهم على خلع القاهر الا مؤنس فانه قال لهم: لست أشك في شر القاهر وخبثه ولقد كنت كارها لخلافته وأشرت بابن المقتدر فخالفتموني وقد بالغتم الآن في الاستهانة به وما صبر على الهوان الا من خبث طويته ليدبر عليكم فلا تعجلوا حتى تؤنسوه وينبسط إليكم ثم اعملوا على ذلك. فقال عليّ ابن بليق وابن مقلة: ما يحتاج الى هذا التطويل فان الحجبة لنا والدار في أيدينا وما يحتاج ان نستعين في القبض عليه بأحد لأنه بمنزلة طائر في قفص. واتفقوا على ان يدخل عليّ بن بليق على القاهر ويكون قد أمر جماعة من عسكره بالركوب الى أبواب دار الخليفة فيقبض عليه. فهم في هذا ان حضرت ظريف السكّريّ في زي امرأة فاجتمع بالقاهر فذكر له جميع ما قد عزموا عليه فأخذ حذره وانفذ الى الساجية أحضرهم متفرقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وأكمنهم في الدهليز والممرات والرواقات. وحضر عليّ بن بليق بعد العصر وفي رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف وطلب الأذن فلم يؤذن له فغضب وأساء أدبه. فخرج اليه الساجية وشتموه وأباه. فألقى نفسه الى طيارة وعبر الى الجانب الغربي واختفى من ساعته [1] . وبلغ الخبر ابن مقلة فاستتر. وأنكر بليق ما جرى على ابنه وسبّ الساجية وحضر دار الخليفة ليعاتب على ذلك فلم يوصله القاهر اليه وأمر بالقبض عليه وعلى ابن زيرك. وراسل القاهر مؤنسا يسأله الحضور عنده وقال: أنت عندي بمنزلة الوالد وما أحب ان اعمل شيئا الّا عن رأيك. فاعتذر مؤنس عن الحركة وانه قد استولى عليه الكبر والضعف. فأظهر له الرسول النصح وقال: ان تأخرت طمع ولو رآك نائما ما تجاسر على ان يوقظك. فسار مؤنس اليه فلمّا دخل الدار قبض عليه القاهر وحبسه. قيل لما عليم القاهر بمجيء مؤنس هابه وهاله أمره وارتعد وتغيّرت أحواله وزحف من صدر فراشه ثم ربط جأشه. ولما قبض على مؤنس شغب أصحابه وثاروا وتبعهم سائر الجند. وكان القاهر قد ظفر بعليّ بن يليق فدخل القاهر اليه وأمر به فذبح وأخذوا رأسه فوضعوه في طشت ثم مضى القاهر والطشت يحمل بين يديه حتى دخل على بليق فوضع الطشت بين يديه وفيه رأس ابنه. فلما رآه بكى وأخذ يقبّله ويترشّفه. فأمر القاهر فذبح ايضا وجعل رأسه في الطشت وحمل بين يدي القاهر ومضى حتى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه. فلما. رأى الرأسين تشهّد ولعن قاتلهما. فقال القاهر: جرّوا برجل الكلب الملعون فجرّوه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت وأمر فطيف بالرؤوس في جانبي بغداد ونودي عليها: هذا جزاء من يخون الامام ويسعى في فساد دولته. وفي ايام القاهر كان ابتداء دولة بني بويه وهم ثلثة عماد الدولة عليّ وركن الدولة الحسن ومعزّ الدولة احمد أولاد ابي شجاع بويه بن فناخسرو ومن ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس. وهذا نسب عريق في الفرس ولا شك انهم نسبوا الى الديلم حيث طال مقامهم ببلادهم. وقيل ان أبا شجاع بويه كان متوسط الحال ورأى في منامه كأنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة استطالت وعلت حتى كادت تبلغ السماء ثم انفرجت فصارت ثلث شعب وتولد من تلك الشعب عدة شعب فأضاءت الدنيا بتلك النيران ورأى البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران. فمضى بويه الى رجل يقول عن نفسه انه منجم ومعزّم ومعبّر المنامات ويكتب الرقى والطلسمات وقصّ عليه منامه. فقال المنجم:   [1-) ] ساعته ر الساجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 هذا منام عظيم لا أفسره الّا بخلعة وفرس. فقال بويه: والله ما املك الّا الثياب التي على جسدي فان أخذتها بقيت عريانا. قال المنجم: فعشرة دنانير. قال: والله ما املك دينارين فكيف عشرة. فأعطاه شيئا. فقال المنجم: اعلم انه يكون لك ثلثة أولاد يملكون الأرض ويعلو ذكرهم في الآفاق ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشّعب. فقال ابو شجاع بويه: اما تستحي تسخر منا انا رجل فقير واولادي هؤلاء مساكين كيف يصيرون ملوكا. قال المنجم: اذكروا لي هذا إذا قصدتكم وأنتم ملوك. فاغتاظ منه بويه وقال لأولاده: اصفعوا هذا الحكيم فقد أفرط في السخرية بنا. فصفعوه وأخرجوه. ثم خرج أولاد بويه من الديلم وصاروا الى مرداويج [1] بطبرستان فقبلهم احسن قبول وخلع عليهم وقلّد عماد الدولة عليّ بن بويه كرج. فاستمال أهلها بالصلات والهبات فأحبوه وملّكوه وقوي جنابه واستولى على أصفهان وعظم في عيون الناس وملك أرّجان ايضا. وانفذ أخاه ركن الدولة الحسن الى كازرون وغيرها من اعمال فارس. فاستخرج منها أموالا جليلة وعاد الى أخيه غانما سالما. وفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة استولى عماد الدولة عليّ بن بويه على شيراز وملكها. وفي هذه السنة خلع القاهر في جمادى الاولى وذلك ان ابن مقلة كان مستترا والقاهر يتطلبه وكان يراسل قوّاد الساجيّة والحجرية ويخوّفهم من شر القاهر ويذكر لهم غدره ونكثه مرة بعد اخرى كقتل مؤنس وبليق وابنه بعد الايمان لهم الى غير ذلك. وكان ابن مقلة يجتمع بسيما زعيم الساجية تارة في زيّ أعمى وتارة في زيّ مكدّ وتارة في زيّ امرأة ويغريه بالقاهر. ثم ان ابن مقلة اعطى منجما كان لسيما مائتي دينار [2] . وكان يذكر ان طالعه يقتضي ان ينكبه القاهر. واعطى ايضا شيئا لمعبّر كان لسيما يعبّر له المنامات وكان يحذره من القاهر. فازداد نفورا. فاتفق مع أصحابه ومع الحجرية على خلع القاهر. وبلغ ذلك الوزير فأرسل الحاجب سلاما وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك فوجداه نائما قد شرب اكثر ليلته فلم يقدرا على اعلامه بذلك. فزحف الحجرية والساجيّة الى الدار. ولما سمع القاهر الأصوات والغلبة استيقظ وهو مخمور وطلب بابا يهرب منه فقيل له: ان الأبواب جميعها مشحونة بالرجال. فهرب الى سطح حمام. فأخذوه من هناك وحبسوه وكانت خلافته عاما واحدا وسبعة أشهر. ثم عاش خاملا الى ان مات سنة ثمان وثلثين وثلاثمائة.   [1-) ] مرداويج ر مرداونج. [2-) ] مائتي ر مائة. ابن العبري- 11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 عيسى الطبيب المذكور ههنا هو ابن يوسف المعروف بابن العطّار كان متطبب القاهر وثقته ومشيره وسفيره بينه وبين وزرائه وتقدم في وقته تقدّما كثيرا. وشاركه سنان ابن ثابت بن قرّة في الطبّ وكان خصيصا بالقاهر وكان عيسى اشدّ تقدّما منه. ولكثرة اغتباط القاهر بسنان اراده على الإسلام فامتنع امتناعا شديدا كثيرا. فتهدّده القاهر فخافه لشدة سطوته فأسلم واقام مدّة. ثم رأى من القاهر انه إذا أمره بشيء أخافه فانهزم الى خراسان وعاد توفي ببغداد في سنة احدى وثلثين وثلاثمائة. ومن ظريف ما جرى لسنان في امتحان الاطبّاء [1] عند تقدّم الخليفة اليه بذلك انه أحضر اليه رجل مليح البشرة والهيئة ذو هيبة ووقار فأكرمه سنان على موجب منظره ورفعته. ثم التفت اليه سنان فقال: قد اشتهيت ان اسمع من الشيخ شيئا احفظه عنه وان يذكر شيخه في الصناعة. فأخرج الشيخ من كمه قرطاسا فيه دنانير صالحة ووضعها بين يدي سنان وقال: والله ما أحسن اكتب ولا اقرأ شيئا جملة ولي عيال ومعاشي دار دائره واسألك ان لا تقطعه عنّي. فضحك سنان وقال: على شريطة انك لا تهجم على مريض بما لا تعلم ولا تشير بفصد ولا بدواء مسهل الّا بما قرب من الأمراض. قال الشيخ: هذا مذهبي مذ كنت ما تعديت السكنجبين والجلّاب. وانصرف. ولما كان من الغد حضر اليه غلام شابّ حسن البزّة مليح الوجه ذكيّ. فنظر اليه سنان فقال له: على من قرأت. قال: على ابي. قال: ومن يكون أبوك. قال: الشيخ الذي كان عندك بالأمس. قال: نعم الشيخ. وأنت على مذهبه. قال: نعم. قال: لا تتجاوزه وانصرف مصاحبا. ولسنان تصانيف جيّدة وكان قويّا في علم الهيئة وله في ذلك أشياء ظاهرة تغني عن الاطالة بذكرها. (الراضي بن المقتدر) لما قبضوا القاهر سألوا عن المكان الذي فيه ابو العباس احمد بن المقتدر فدلّوهم عليه فقصدوه وفتحوا عليه ودخلوا فسلّموا بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على السرير ولقبوه الراضي بالله يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الاولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وبايعه القواد والناس. وأرادوا عليّ بن عيسى على الوزارة فقال الراضي: ان الوقت لا يحتمل أخلاق عليّ وابن مقلة أليق بالوقت. فأحضره واستوزره. فلما استوزر احسن الى كل من أساء اليه واحسن سيرته. وفي سنة ثلث وعشرين وثلاثمائة عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون دور القوّاد والعامة   [1-) ] كان سبب هذا الامتحان ان غلطا جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل فأمر الخليفة بمنع سائر المتطببين من التصرف الا من امتحنه سنان بن ثابت فصاروا اليه وامتحنهم واطلق الى كل واحد منهم ما يصلح كان يتصرف فيه. وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجل ونيف وستين رجلا سوى من استغنى عن محنته باشتهاره في التقدم في صناعته وسوى من كان في خدمة السلطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وان وجدوا نبيذا أراقوه وان وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء فارهجوا بغداد. وركب صاحب الشرطة ونادى في جانبي بغداد الّا يجتمع من الحنابلة اثنان ولا يصلي منهم إمام الا إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشائين. فلم يفد فيهم. فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم على اعتقاد التشبيه وغيره. فمنه: انكم تارة تزعمون ان صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين الذهب والشعر القطط والنزول الى الدنيا. فلعن الله شيطانا زيّن لكم هذه المنكرات ما أغواه. وامير المؤمنين يقسم بالله جهدا اليّه يلزمه الوفاء بها لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقكم هذه ليوسعنّكم ضربا وتشديدا وتبديدا وقتلا وليستعملنّ السيف في رقابكم والنار في منازلكم ومحالّكم. وفي سنة اربع وعشرين وثلاثمائة ألجأت الضرورة الراضي الى ان قلد أبا بكر محمد بن رائق امارة الجيش وجعله امير الأمراء وولّاه الخراج والمعاون والدواوين في جميع البلاد وأمر ان يخطب له على جميع المنابر وبطلت الوزارة من ذلك الوقت فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور انما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمور جميعا وكذلك كل من تولى امرة الأمراء بعده وصارت الأموال تحمل الى خزائنهم فيتصرفون فيها كما يريدون ويطلقون للخليفة ما يريدون. وفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة استولى معزّ الدولة ابو الحسن احمد بن بويه على الأهواز. وفيها كتب ابو علي بن مقلة الى الراضي يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن انه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف ألف دينار [1] وأشار عليه باقامة بجكم [2] مقام ابن رائق وطلب ابن مقلة من الراضي ان ينتقل ويقيم عنده بدار الخليفة فأذن له في ذلك. فلما حصل بدار الخليفة اعتقله في حجرة وعرض على ابن رائق خط ابن مقلة. فشكر الراضي. وما زال ابن رائق يلح في طلب ابن مقلة حتى أخرج من محبسه وقطعت يده. ثم عولج فبرأ فعاد يكاتب الراضي ويخطب الوزارة ويذكر ان قطع يده لم يمنعه عن عمله وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب ويهدّد ابن رائق. فأمر الراضي بقطع لسانه. ثم نقل الى محبس ضيّق ولم يكن عنده من يخدمه فآل به الحال الى انه كان يستقي الماء بيده اليسرى ويمسك الحبل بفمه. ولحقه شقاء شديد الى ان مات. وفيها دخل بجكم بغداد ولقي الراضي وقلده امرة الأمراء مكان ابن رائق. وفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة مات الراضي بالله بالاستسقاء في   [1-) ] ويروى: ثلاثة آلاف ألف دينار. [2-) ] ويروى: يحكم. ويروى: بحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 منتصف ربيع الاول وكانت خلافته ستّ سنين وعشرة أشهر وكان أديبا شاعرا سمحا سخيا يحبّ محادثة الأدباء والفضلاء والجلوس معهم [1] . وكان ببغداد في خلافة الراضي بعد سنة عشرين وثلاثمائة وقبل سنة ثلثين متّى ابن يونس المنطقّي النصرانيّ عالم بالمنطق شارح له مكثر وطيّ الكلام قصده التعليم والتفهيم وهو من اهل دير قنى ممّن نشأ في اسكول [2] مار ماري قرأ على روفيل وبنيامين الراهبين اليعقوبيّين. ومتّى نسطوريّ النحلة ذكره محمد بن اسحق النديم في كتابه وقال: اليه انتهت رئاسة المنطقيّين في عصره ومصره. (المتّقي بن المقتدر) لما مات الراضي كان بجكم بالكوفة [3] فورد كتابه مع الكوفيّ كاتبه يأمر فيه ان يجتمع مع ابي القاسم سليمان وزير الراضي العلويّون والقضاة والعباسيّون ووجوه البلد ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة. فاتفقوا كلهم على ابراهيم ابن المقتدر وبايعوه ولقبوه المتقي لله وسيّر الخلع واللواء الى بجكم الى واسط وأقر سليمان على وزارته وليس له منها الا اسمها وانما التدبير كله الى الكوفي كاتب بجكم. وفي هذه السنة وهي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة قتل بجكم قتله الأكراد وهو يتصيد في نهر جور. ولما قتل بجكم دخل ابو عبد الله البريدي بغداد فنزل بالشفيعي ولقيه الوزير والقضاة والكتّاب واعيان الناس فأنفذ اليه المتقي يهنئه بسلامته وأنفذ له طعاما عدة ليال ثم انفذ البريديّ الى المتقي يطلب خمسمائة ألف دينار ليفرقها في الجند. فامتنع عليه. فأرسل اليه يتهدده ويذكّره ما جرى على المعتزّ والمستعين والمهتدي. فأنفذ اليه تمام خمسمائة ألف دينار ولم يلق البريديّ المتقي مدة مقامه ببغداد. فلما حصل المال في يد البريدي لم يؤثر الجند من المال بطائل فشغبوا عليه وحاربوه فهرب منهم هو واخوه وابنه وأصحابه وانحدروا في الماء الى واسط واستولى كورتكين الديلمي على الأمور ببغداد ودخل الى   [1-) ] وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وشهورا. قال ابن الأثير في الكامل: «وختم الخلفاء في امور عدة فمنها انه آخر خليفة له شعر يدون وآخر خليفة خطب كثيرا وان كان غيره قد خطب نادرا لا اعتبار به. وكان آخر خليفة جالس الجلساء ووصل اليه الندماء. وآخر خليفة كانت له نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره على ترتيب الخلفاء المتقدمين. ومن شعره يرثي أباه المقتدر: ولو ان حيا كان قبرا لميت ... ليصرت احشائي لأعظمه قبرا ولو ان عمري كان طوع مشيئتي ... وساعدني التقدير قاسمته العمرا بنفسي ثرّى ضاجعت في تربة البلاد ... لقد ضم منك الغيث والليث والبرا [2-) ] هي كلمة يونانية [؟] ومعناها مدرسة. [3-) ] ويروى انه كان بواسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 المتقي فقلده امارة الأمراء وخلع عليه. وبعد قليل عاد محمد بن رائق من الشام الى بغداد وصار امير الأمراء. وفي سنة ثلثين وثلاثمائة قتل ابن رائق وقلد ناصر الدولة ابن حمدان أمرة الأمراء وخلع على أخيه ابي الحسن عليّ ولقبه سيف الدولة. وبعد قليل ثار الأتراك بسيف الدولة فكبسوه ليلا فهرب من معسكره فلما بلغ الخبر أخاه ناصر الدولة سار الى الموصل وكانت امارته ثلثة عشر شهرا وتولى توزون [1] امارة الأمراء. وفي سنة احدى وثلثين وثلاثمائة توفي السعيد نصر بن حمدان [2] بن اسماعيل صاحب خراسان وما وراء النهر وكان حليما كريما عاقلا. وحكي عنه انه مرضه فبقي به ثلثة عشر شهرا فبنى له في قصره بيتا وسماه بيت العبادة فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشي اليه حافيا ويصلّي فيه ويدعو ويتضرع وتجنّب المنكرات والآثام الى ان مات. وتولى بعده خراسان وما وراء النهر ابنه نوح ولقب الأمير الحميد. وفيها خلع المتقي على توزون الأمير التركي وجعله امير الأمراء. وفيها أرسل ملك الروم الى المتقي يطلب منه منديلا مسح بها المسيح وجهه فصارت صورة وجهه فيها وانها في بيعة الرها وذكر انه ان أرسلها اليه اطلق عددا كثيرا من أسارى المسلمين. فاستفتى المتقي القضاة والفقهاء فأنكر بعضهم تسليمها وأجاب بعضهم قائلا: ان خلاص المسلمين من الأسر والضر والضنك الذي هم فيه أوجب. فأمر المتقي بتسليم المنديل الى الرسل وأرسل معهم من يتسلم الأسارى. وفي سنة اثنتين وثلثين وثلاثمائة ظهر ببغداد لصّ [3] فأعجز الناس فأنّه ابن شير زاد وهو من أكابر قواد توزون وخلع عليه وشرط عليه ان يوصل اليه كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه وكان يستوفيها منه بالرواتب وهذا ما لم يسمع بمثله من شرّه. وفيها ازداد خوف المتقي من توزون امير الأمراء وكان توزون بواسط فأنفذ المتقي يطلب من ناصر الدولة ابن حمدان إنفاذ جيش ليصحبوه الى الموصل فأنفذهم مع ابن عمه. فخرج المتقي إليهم في حرمه واهله ووزيره وساروا الى الموصل وأقام المتقي بها عند ابن حمدان ثم سار منها الى الرقة وأنفذ رسلا الى توزون في الصلح. فحلف توزون للخليفة والوزير وانحدر المتقي من الرقة في الفرات فلما وصل الى هيت اقام بها وأنفذ من يجدد اليمين على توزون. فعاد وحلف وسار عن بغداد ليلتقي المتقي فالتقاه بالسنديّة ونزل وقبّل الأرض وقال: ها انا قد وفيت بيميني والطاعة لك. ثم وكل به وبالوزير وبالجماعة وأنزلهم في   [1-) ] ويروى: تورون. [2-) ] حمدان ر في احدى نسختي اكسفرد ابن احمد. ويروى كذلك في الكامل: ابن احمد. [3-) ] ويعرف بابن حمدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 مضرب نفسه مع حرم المتقي ثم كحله فأذهب عينيه وعمي المتقي. وانحدر توزون من الغد الى بغداد والجماعة في قبضته. فكانت خلافة المتقي ثلث سنين وستة أشهر. (المستكفي بن المكتفي) لما قبض توزون على المتقي احضر المستكفي بالله وهو ابو القاسم عبد الله بن المكتفي اليه الى السنديّة وبايعه هو وعامّة الناس في سنة ثلث وثلثين وثلاثمائة. وكان سبب البيعة له ما حكاه بعض خواص توزون قال: انني دعاني صديق لي فمضيت اليه فذكر لي انه تزوج الى قوم وان امرأة منهم قالت له ان هذا المتقي قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم ولا يصفو قلبه لكم وههنا رجل من أولاد الخلافة وذكرت عقله ودينه تنصبونه للخلافة فيكون صنيعكم وغرسكم ويدلكم على اموال جليلة لا يعرفها غيره وتستريحون من الخوف والحراسة. فقلت له: أريد ان اسمع كلام المرأة. فجاءني بها ورأيت امرأة عاقلة جزلة. فذكرت لي نحوا من ذلك وأحضرت الرجل ايضا عندي في زي امرأة فعرّفني نفسه وضمن اظهار ثمانمائة ألف دينار وخاطبني خطاب رجل البيت فهم. فأتيت توزون فأخبرته فوقع الكلام في قلبه وجرى ما جرى. وصارت تلك المرأة قهرمانة المستكفي وسمت نفسها علم وغلبت على أمره كله. وفيها سار سيف الدولة الى حلب فملكها وكان مع المتقي بالرقة فلما عاد المتقي الى بغداد قصد سيف الدولة الى واستولى عليها ثم سار منها الى حمص فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج صاحب مصر والشام مع مولاه كافور فاقتتلوا فانهزم عسكر الإخشيد وكافور وملك سيف الدولة مدينة حمص. وسار الى دمشق فحاصرها فلم يفتحها أهلها له فرجع عنها. وفي سنة اربع وثلثين وثلاثمائة في المحرّم مات توزون في داره ببغداد. فاجتمع الأجناد وعقدوا الرئاسة عليهم لزيرك بن شيرزاد وحلفوا له وحلف له المستكفي ودخل اليه ابن شير زاد وعاد مكرّما يخاطب بأمير الأمراء. وبعد مدّة يسيرة قدم معزّ الدولة بن بويه الى بغداد واختفي المستكفي وابن شير زاد. فلما استتر سار الأتراك الذين في خدمته الى الموصل. فلما بعدوا ظهر المتسكفي وعاد الى دار الخلافة واظهر السرور بقدوم معز الدولة ودخل اليه معزّ الدولة بن بويه وبايعه وحلف له المستكفي. وظهر ابن شير زاد ايضا ولقي معزّ الدولة فولاه أمر الخراج وجباية الأموال. وكانت امارة ابن شير زاد ثلثة أشهر وعشرين يوما. وخلع المستكفي على معزّ الدولة ولقّبه ذلك اليوم معزّ الدولة ولقب أخاه عليّا عماد الدولة ولقب أخاه الحسن ركن الدولة وأمر ان يضرب القابهم وكناهم على الدراهم والدنانير. وفي هذه السنة بلغ معزّ الدولة ان علم قهرمانة المستكفي عازمة على إزالته فحضر معزّ الدولة والناس عند الخليفة في اثنين وعشرين من جمادى الآخرة ثم حضر رجلان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 نقباء الديلم فتناولا يد المستكفي فظن انهما يريدان تقبيلها فمدها إليهما فجذباه عن سريره وجعلا عمامته في حلقه وساقاه ماشيا الى دار معزّ الدولة فاعتقل بها. وأخذت علم القهرمانة فقطع لسانها. وكانت مدة خلافة المستكفي سنة واحدة واربعة أشهر وما زال مغلوبا على أمره مع توزون وابن شير زاد. ولما بويع المطيع سلّم اليه المستكفي فسمله وأعماه وبقي محبوسا الى ان مات [1] . وكان في هذا الزمان من الأطباء المشهورين هلال بن ابراهيم ابن زهرون [2] الصابي الحرّاني الطبيب نزيل بغداد وكان حاذقا عاقلا صالح العلاج متفننا تقدّم عند اجلّاء بغداد وخالطهم بصناعته وخدم امير الأمراء توزون. وحكى عنه ولده ابراهيم قال: رأيت والدي في يوم من ايام خدمته لتوزون وقد خلع عليه وحمله على بغل حسن بمركب ثقيل ووصله بخمسة آلاف درهم وهو مع ذلك مشغول القلب متقسم الفكر. فقلت له: ما لي أراك يا سيدي مهموما ويجب ان تكون في مثل هذا اليوم مسرورا. فقال: يا ابني هذا الرجل يعني توزون جاهل يضع الأشياء في غير موضعها ولست افرح بما يأتيني منه من جميلة عن غير معرفة. أتدري ما سبب هذه الخلعة. قلت: لا. قال: سقيته دواء مسهلا فحاف عليه فأسحجه فقام عدة مرار مجالس دما عبيطا حتى تداركته بما أزال ذلك عنه وكفي المحذور فيه فاعتقده بجهله ان في خروج ذلك الدم صلاحا له فأنعم عليّ بما تراه ولست آمن ان يستشعر في السوء من غير استحقاق فتلحقني منه الأذية. (المطيع بن المقتدر) هو ابو القاسم الفضل بن المقتدر. بويع له يوم الخميس ثاني عشر [3] جمادى الآخرة سنة اربع وثلثين وثلاثمائة وازداد أمر الخلافة إدبارا ولم يبق للخليفة وزير انما كان له كاتب يدبّر اقطاعه واخراجاته [4] وبالجملة لم يبق بيد المطيع الّا ما اقطعه معزّ الدولة مما يقوم ببعض حاجاته. وفي هذه السنة في ذي الحجة مات الإخشيد صاحب ديار مصر بدمشق وولي الأمر بعده ابنه ابو جور واستولى على الأمر كافور الخادم الأسود. فسار كافور الى مصر. فقصد سيف الدولة دمشق فملكها. ثم جاء كافور من مصر فأخرج اهل دمشق سيف الدولة عنهم. وفي سنة سبع وثلثين سار سيف الدولة بن حمدان الى بلد الروم فلقيه الروم واقتتلوا فانهزم سيف الدولة وأخذ   [1-) ] كانت وفاته في ربيع الاول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. [2-) ] زهرون ر هارون. [3-) ] ثاني عشر ر ثاني عشرين. [4-) ] اخراجاته ر خراجاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس. وفي سنة ثماني وثلثين وثلاثمائة توالت على عماد الدولة عليّ بن بويه الأسقام بمدينة شيراز فلما احس بالموت ولم يكن له ولد أنفذ الى أخيه ركن الدولة يطلب منه ان ينفذ اليه ابنه عضد الدولة فناخسروا ليجعله وليّ عهده. فوصل اليه فأجلسه في داره على السرير ووقف هو بين يديه وأمر الناس بالانقياد له وكان يوما عظيما مشهودا. وفي سنة تسع وثلثين وثلاثمائة دخل سيف الدولة بن حمدان الى بلاد الروم فغزا وأوغل فيها وسبى وغنم. فلما أراد الخروج أخذوا عليه المضايق فهلك من كان معه من المسلمين اسرا وقتلا واستردّ الروم الغنائم والسبي وغنموا أثقال المسلمين وأموالهم ونجا سيف الدولة في عدد يسير. وفي سنة ثلث وأربعين وثلاثمائة مات الأمير نوح بن نصر الساماني في ربيع الآخر وملك خراسان بعده ابنه عبد الملك. وفيها غزا سيف الدولة ابن حمدان بلاد الروم وقتل ابن نيقيفور الدمستق فعظم الأمر عليه. فجمع عساكر كثيرة من الروم والروس والبلغار وقصد الثغور فسار اليه سيف الدولة فالتقوا واشتدّ القتال بينهم وصبر الفريقان. ثم انتصر المسلمون وانهزم الروم واستوسر صهر الدمستق وابن ابنة. وفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة غزا ايضا سيف الدولة بلاد الروم وسبى وغنم وأسر وبلغ الى خرشنة. ثم ان الروم أخذوا عليه المضايق فلما أراد الرجوع قال له من معه من اهل طرسوس: الرأي ان لا تعود في الدرب الذي دخلت منه ولكن ترجع معنا في مسالك نعرفها. فلم يقبل منهم وكان معجبا برأيه يحبّ ان يستبدّ ولا يشاور أحدا لئلّا يقال انه أصاب برأي غيره وعاد في الدرب الذي دخل منه. فظهر الروم عليه واستردوا ما معه من الغنائم ووضعوا السيف في أصحابه فأتوا عليهم قتلا واسرا وتخلّص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهد ومشقة. وفي سنة خمسين وثلاثمائة سقط الفرس تحت عبد الملك بن نوح صاحب خراسان فمات من سقطته. وولي بعده اخوه منصور ابن نوح. وفي سنة احدى وخمسين وثلاثمائة في المحرّم نزل الروم مع الدمستق على عين زربة وفتحوها بالأمان فدخلها ونادى في البلد اوّل الليل بان يخرج جميع أهلها الى المسجد ومن تأخر في منزله قتل. فخرج من امكنه الخروج. فلما أصبح انفذ رجاله وكانوا ستين ألفا فقتلوا خلقا كثيرا من الرجال والنساء والصبيان ممن وجدوه خارج المسجد. وأمر من في المسجد بان يخرجوا من البلد حيث شاءوا يومهم ذلك ومن أمسى قتل. فخرجوا مزدحمين فمات بالزحمة جماعة ومرّوا على وجوههم لا يدرون اين يتوجهون فماتوا في الطرقات وقتل الروم من وجدوه بالمدينة آخر النهار. فلما أدرك [1] الصوم انصرف   [1-) ] أدرك ر أدركهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الروم الى القيسارية على ان يعودوا بعد العيد. وفيها استولى الروم على مدينة حلب وعادوا عنها بغير سبب. وفيها ملّك الروم عليهم نيقيفور الدمستق وجعلوا شخصا يسمّى شوموشقيق دمستقا له [1] . وفي سنة اربع وخمسين وثلاثمائة فتح الروم مصّيصة وطرسوس. وفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة مات معز الدولة بن بويه ببغداد وجلس ابنه بختيار في الامارة ولقب عزّ [2] الدولة. وكانت احدى يدي عز الدولة [3] . مقطوعة قطعت في بعض الحروب. وفيها قبض ابو تغلب على أبيه ناصر الدولة بن حمدان وحبسه في القلعة لأنه كان قد كبر فساءت أخلاقه وضيّق على أولاده وخالفهم في أغراضهم للمصلحة فضجروا منه. وفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ملك الروم مدينة انطاكية. وفي سنة احدى وستين وثلاثمائة سار المعزّ لدين الله العلوي صاحب بلاد المغرب من افريقية يريد الديار المصرية فأقام قريبا من مدينة قيروان ولحقه رجاله وعماله [4] واهل بيته وجميع ما كان له في قصره من الأموال والامتعة حتى ان الدنانير سبكت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل ثم سار حتى وصل الى الاسكندرية. وأتاه أهل مصر وأعيانها فلقيهم وأكرمهم واحسن إليهم وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وملك الديار المصرية بلا ضرب ولا طعن. وفي سنة اثنتين وستين وثلاثمائة سار الدمستق الى آمد وبها هزارمرد غلام ابي الهيجاء بن حمدان. فكتب الى ابي تغلب يستصرخه ويستنجده. فسيّر اليه أخاه هبة الله بن ناصر الدولة فاجتمعا على حرب الدمستق وسارا اليه فالتقياه سلخ رمضان وكان الدمستق في كثيرة ولقياه في مضيق لا تجول فيه الخليل. والروم على غير أهبة الحرب فانهزموا. وأخذ المسلمون الدمستق أسيرا ولم يزل محبوسا الى ان مرض سنة ثلث وستين وثلاثمائة فبالغ ابو تغلب في علاجه وجمع الأطباء فلم ينفعه ذلك ومات. وفي سنة ثلث وستين في منتصف ذي القعدة خلع المطيع نفسه من الخلافة وسلمها الى ولده الطائع لله فكانت مدة خلافته تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر.   [1-) ] شوموشقيق او شمشقيق لقب ليوحنا الاول ملك الروم وهي كلمة ارمنية ومعناها قصير القامة. اما دمستق فهي كلمة لاتينية وهو لقب قائد جيش الروم. ويوحنا هذا قتل نيقيفور واستبد بالملك بعده وكان مظفرا في الحروب. وهو أول من ضرب السكك بهذا الرسم: يسوع المسيح ملك الملوك. [2-) ] عزّ ر في احدى نسختي اكسفرد «معزّ» . [3-) ] كذا في الأصل والصواب معز الدولة. اطلب الصفحة 170 السطر 12. [4-) ] عماله ر اعماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وفي سنة تسع وثلثين وثلاثمائة توفي محمد بن محمد بن طرخان ابو نصر الفارابي بمدينة دمشق. وفاراب هي احدى مدن الترك فيما وراء النهر. ودخل ابو نصر العراق واستوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكميّ على يوحنا بن حيلان [1] المتوفي في ايام المقتدر واستفاد منه وبرز في ذلك على اقرانه واربى عليهم في التحقيق وأظهر الغوامض المنطقيّة وكشف سرها وقرّب متناولها وجمع ما يحتاج اليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الاشارة منبّهة على ما اغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم فجاءت كتبه المنطقية والطبيعية والالهية والسياسية الغاية الكافية والنهاية الفاضلة. وكان ابو نصر الفارابي معاصرا لأبي بشر متى بن يونس الّا انه كان دونه في السّن وفوقه في العلم. وقدم ابو نصر الفارابيّ على سيف الدولة ابي الحسن عليّ بن ابي الهيجاء بن حمدان الى حلب وأقام في كنفه مدة بزيّ اهل التصوّف وقدّمه سيف الدولة وأكرمه وعرف موضعه من العلم ومنزلته من الفهم ورحل في صحبته الى دمشق فأدركه اجله بها. وكان في ايام المطيع لله وفي امارة الأقطع معزّ الدولة احمد بن بويه ثابت بن سنان ابن ثابت بن قرة وكان بارعا في الطب عالما بأصوله فكاكا للمشكلات من الكتب. وكان يتولّى تدبير البيمارستان ببغداد في وقته. وعمل ثابت هذا كتاب التاريخ المشهور في الآفاق الذي ما كتب كتاب في التاريخ اكثر مما كتبه وهو من سنة نيّف وتسعين ومائتين الى حين وفاته في شهور سنة ثلث وستين وثلاثمائة. وعليه ذيل ابن أخته هلال ولولاهما لجهل شيء كثير من التاريخ في المدّتين. وفي هذا الزمان اشتهر يحيى بن عدي بن حميد ابن زكريا التكريتي المنطقي نزيل بغداد. اليه انتهت رئاسة اهل المنطق في زمانه. قرأ على ابي نصر الفارابي. وكان نصرانيا يعقوبيّ النحلة وكان ملازما للنسخ بيده كتب كثيرا من الكتب وكان يكتب خطا قاعدا بيّنا في اليوم والليلة مائة ورقة واكثر. وله تصانيف وتفاسير ونقول عدّة. ومات ثالث عشر آب سنة ألف ومائتين وخمس وثمانين للإسكندر ودفن في بيعة القطيعة ببغداد وكان عمره احدى وثمانين سنة شمسيّة [2] . (الطائع بن المطيع) واسمه ابو الفضل عبد الكريم وسبب خلافته ان أباه المطيع لحقه فالج ثقل لسانه منه وتعذّرت الحركة عليه وهو يستر ذلك. فانكشف حاله لسبكتكين فدعاه الى ان يخلع نفسه ويسلّم الخلافة الى ولده الطائع لله ففعل ذلك في سنة ثلث وستين وثلاثمائة. وفيها خطب للمعزّ لدين الله العلويّ صاحب مصر بمكة والمدينة في   [1-) ] حيلان ر جبلاد وجيلاد. [2-) ] ر سنة بدون «شمسية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الموسم. وفيها وصل عضد الدولة واستولى على العراق وقبض على بختيار ثم عاد فأخرجه وعاد بختيار الى مكة كما كان امير الأمراء. وفي سنة خمس وستين وثلاثمائة مات المعزّ العلويّ بمصر وهو اوّل الخلفاء العلويّين ملك مصر واستخلف عليها ابنه العزيز. وفي سنة ست وستين وثلاثمائة في المحرّم توفّي ركن الدولة ابو عليّ الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة. وفيها مات منصور بن نوح صاحب خراسان ببخارا [1] وولي الأمر بعده ابنه نوح [2] . وفي سنة سبع وستين سار عضد الدولة الى بغداد وأرسل الى بختيار يدعوه الى طاعته وان يسير عن العراق الى ايّ جهة أراد الّا الموصل. فخرج بختيار عن بغداد عازما على قصد الشام. ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له فيها بخلاف العادة وضرب على بابه ثلث نوب ولم تجر بذلك عادة من تقدّمه. واما بختيار لما سار عن بغداد الى الحديثة أتاه ابو تغلب في عشرين ألف مقاتل وسارا جميعا نحو العراق. فبلغ ذلك عضد الدولة فسار عن بغداد نحوهما. فالتقوا بنواحي تكريت فهزمهما وأسر بختيار وقتله. وسار نحو الموصل واستولى على ملك بني حمدان. وسار ابو تغلب ابن ناصر الدولة بن حمدان الى الشام فوصل الى دمشق وقتل بها. وفي سنة تسع وستين وثلاثمائة راسل عضد الدولة أخويه فخر الدولة ومؤيّدالدولة يدعوهما الى طاعته وموافقته. اما مؤيّد الدولة فأجاب جواب المناظر المناوي فنقم عليه اما مؤيّدالدولة الدولة فأجاب راغبا واما فخر الدولة فأجاب جواب المناظر المناوي فنقم عليه عضد الدولة ذلك وسار نحو همذان وبها فخر الدولة فخافه ذاكرا قتل ابن عمّه بختيار فخرج هاربا وقصد جرجان فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير [3] والتجأ اليه فأمّنه وآواه وحمل اليه فوق ما حدثته به نفسه. وفي هذه السفرة حدث لعضد الدولة صرع وكان هذا قد اخذه بالموصل فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء الّا بعد جهد وكتم ذلك ايضا. وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد. وفيها شرع عضد الدولة في عمارة بغداد وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها وعمّر مساجدها وأسواقها وأدرّ الأموال على الأئمّة والعلماء والقرّاء والغرباء والضعفاء الذين يأوون الى المساجد. وجدّد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها [4] . وفيها تجددت وصلة بين الطائع لله وبين عضد الدولة فتزوّج الطائع ابنته وكان غرض عضد الدولة ان تلد ابنته ولدا ذكرا فيجعله وليّ عهده فتكون الخلافة   [1-) ] ببخارا ر بخارا. [2-) ] وكان عمره حين ولي الأمر ثلاث عشرة سنة ويكنى أبا القاسم. [3-) ] وشمكير ر وشكمير. [4-) ] قال ابن الأثير في الكامل ما نصه: «واذن لوزيره نصر بن هرون وكان نصرانيا في عمارة البيع والديرة واطلاق الأموال لفقرائهم.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 في ولد [1] لهم فيه نسب وكان الصداق مائة ألف دينار. وفيها كانت فتنة عظيمة بين عامّة شيراز من المسلمين والمجوس ونهبت فيها دور المجوس وضربوا وقتل منهم جماعة فسيّر إليهم عضد الدولة من جمع له كل من له في ذلك اثر وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم. وفي سنة احدى وسبعين وثلاثمائة فتح البيمارستان العضديّ غربي بغداد ونقل اليه جميع ما يحتاج اليه من الادوية. وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر المعروف بابن الباقلاني رسولا الى ملك الروم فلما وصل قيل له ليقبّل الأرض بين يديه فامتنع. فعمل الملك بابا صغيرا ليدخل منه القاضي منحنيا. فلما رأى القاضي الباب علم ذلك فاستدبره ودخل منه. فلما دخل وجازه استقبل الملك قائما. وفي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة اشتدّ الصرع الذي كان يعتاده عضد الدولة فخنقه فمات منه ثامن شوّال ببغداد. وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفا. وجلس ابنه صمصام الدولة ابو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزّيا. وكان عمر عضد الدولة سبعا وأربعين سنة. وكان قد سيّر ولده شرف الدولة أبا الفوارس الى كرمان مالكا لها. وكان عضد الدولة عاقلا فاضلا حسن السياسة كثير الاصابة شديد الهيبة بعيد الهمّة ثاقب الرأي محبا للفضائل وأهلها باذلا في مواطن العطاء ومانعا في أماكن الحرم ناظرا في عواقب الأمور. ولما توفي عضد الدولة ولي الأمر بعده ولده صمصام الدولة ابو كاليجار وخلع على أخويه ابي الحسين احمد وابي طاهر فيروز شاه فاقطعهما فارس. وكان أخوهم الآخر شرف الدولة بكرمان فسبقهما الى شيراز فملكها. وفي سنة ثلث وسبعين وثلاثمائة مات مؤيد الدولة بجرجان وكانت علّته الخوانيق. وعاد فخر الدولة اخوه الى مملكته واتفق مع صمصام الدولة وصارا يدا واحدة. وفيها دخل باد [2] الكردي الحميديّ الى الموصل واستولى عليها وقويت شوكته وحدّث نفسه بالتغلّب على بغداد وازالة الديلم عنها. فخافه صمصام الدولة وأهمّه أمره وشغله عن غيره وجمع العسكر فساروا الى باد فخرج إليهم ولقيهم في صفر سنة اربع وسبعين فأجلت [3] الوقعة عن هزيمة باد وأصحابه وملك الديلم الموصل. وفي سنة سبع وسبعين سار شرف الدولة ابو الفوارس بن عضد الدولة من الأهواز الى واسط فملكها. فخافه اخوه صمصام الدولة وسار في طيّار اليه في خواصه فلقيه وطيّب قلبه فلما خرج من عنده قبض عليه وسار فوصل الى بغداد في شهر رمضان واخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقال وكانت امارته بالعراق اربع سنين. وفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة اعتلّ شرف الدولة فلما اشتدّت علّته   [1-) ] ولد لهم ر ولدهم. [2-) ] باد ر بادي. [3-) ] فأجلت ر فانجلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قيل له: الدولة مع صمصام الدولة على خطر فان لم تقتله فأسمله. فسمله وحبسه مع أخيه ابي طاهر في بعض القلاع التي بفارس وفيها في مستهلّ جمادى الآخرة مات الملك شرف الدولة ابو الفوارس شير زيل بن عضد الدولة مستسقيا وكانت امارته بالعراق سنتين. وثمانية أشهر وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة. وولي الأمر بعده اخوه بهاء الدولة ابو نصر. واما ابنه ابو عليّ فكان سيّره الى بلاد فارس واصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك. ثم ان المرتّبين في القلعة التي فيها صمصام الدولة واخوه ابو طاهر لما بلغهم الخبر بموت شرف الدولة اطلقوهما ومعهما فولاذ [1] فساروا الى شيراز واجتمع على صمصام الدولة وهو أعمى كثير من الديلم واستولى على فارس وملكها. واما ابو عليّ بن شرف الدولة فأرسل اليه عمّه بهاء الدولة وطيّب قلبه ووعده فسار اليه فقبض عليه ثم قتله بعد ذلك بيسير. وفيها ملك ابو طاهر ابرهيم وابو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان الموصل. وفي سنة ثمانين وثلاثمائة جمع باد الأكراد وصار نحو الموصل فخرج اليه ابو طاهر والحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فناوشاه القتال. وأراد باد الانتقال من فرس الى آخر فسقط فأراده أصحابه على الركوب فلم يقدروا فتركوه وانصرفوا فعرفه بعض العرب فقتله وصلبت جثته على دار الامارة فثار العامة وقالوا: رجل غاز ولا يحلّ فعل هذا به فأنزلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه وظهر منهم محبّة كثيرة له. ولما قتل باد الكرديّ سار ابن أخته ابو عليّ بن مروان في طائفة من الجيش الى حصن كيفا وهو على دجلة فملكه ونزل فقصد حصنا حصنا حتى ملك ما كان لخاله. وبعد مدّة يسيرة قتل بآمد قتله انسان يقال له ابن دمنة وقف له في الدركاه وضربه بالسكين في مقاتله. وملك ميّافارقين بعده اخوه ممهد الدولة بن مروان واستولى على آمد عبد البرّ شيخ البلد وزوّج ابن دمنة قاتل ابي علي ابنة. فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله وملك آمد وعمّر البلد وأصلح أمره مع ممهد الدولة وهادي [2] ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره. وفي سنة احدى وثمانين وثلاثمائة قبض بهاء الدولة على الطائع بن المطيع. وحمل الى دار بهاء الدولة فحبس بها واشهد عليه بالخلع وأخذ بهاء الدولة ما في دار الخلافة من الذخائر فمشى به الحال وكانت مدة خلافة الطائع سبع عشرة سنة وثمانية أشهر ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدلّ به على سيرته. وفي سنة تسع وستين وثلاثمائة توفّي ثابت بن ابرهيم بن زهرون [3] الحرّاني الصابئ   [1-) ] فولاذ ر قوّاد. [2-) ] وهادي ر وهادن. [3-) ] زهرون ر هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ببغداد وكان طبيبا حاذقا مصيبا. حكى عنه ابو الفرج ابن ابي الحسن بن سنان قال: كنت وابرهيم الحرّاني يوما في دار ابي محمد المهلّبي الوزير فتقدم ابو عبد الله بن الحجاج الشاعر الى الحراني فأعطاه مجسّه. فقال له: قلت لك غلظ غذاك وأظنك أسرفت وذلك حتى أكلت مضيرة بلحم عجل. فقال: كذلك والله كان. وعجب هو والجماعة منه. ومدّ اليه ابو العباس المنجم يده فأخذ مجسّه فقال: فأنت يا سيدي أسرفت في التبريد ايضا وأظنّك قد أكلت احدى عشرة رمّانة. فقال ابو العباس المنجم: هذه نبوّة لا طبّ. وزاد العجب والتفاوض في ذلك. وكنت انا ايضا أكثرهم استطرافا وتعجبا. فلما خرجنا قلت له: يا سيدي أبا الحسن صناعة الطب معروفة بيننا لا يخفى عني شيء منها فبيّن لي من اين ذلك النصّ على ان المضيرة كانت بلحم عجل لا بقرة ولا ثور ومن اين لك الدليل على ان عدد الرمّان احدى عشرة. فقال: هو شيء يخطر ببالي فينطق به لساني. فقلت: صدقتني والله إذا ارني مولدك. وجئت معه الى الدار ونظرت في مولده فرأيت سهم الغيب في درجة الطالع مع درجة المشتري وسهم السعادة فقلت له: يا عزيزي هذا يتكلم لا أنت وكلما تصيب في الطبّ من مثل هذا الحدس والقول فهذا سببه وأصله. وحكي ان عضد الدولة فناخسرو شاهنشاه بن بويه كان إذا افتخر بالعلم والمعلّمين يقول: معلمي في الكواكب الثابتة وأماكنها عبد الرحمن الصوفيّ وفي حلّ الزيج الشريف ابن الأعلم وفي النحو ابو علي الفارسي. وكان عبد الرحمن بن عمر بن سهل ابو الحسين الصوفي الرازيّ فاضلا نبيها نبيلا ومن تصانيفه كتاب الصور السمائيّة مصورّ والارجوزة وكتاب مطارح الشعاعات. وتوفيّ في سنة ست وسبعين وثلاثمائة وكان عمره خمسا وثمانين سنة. واما ابن الأعلم فاسمه عليّ بن الحسين رجل علويّ شريف عالم بعلم الهيئة وصناعة التسيير مذكور مشهور في وقته وكان قد تقدّم عند عضد الدولة. ولما توفّي عضد الدولة نقصت حاله وتأخر أمره عند صمصام الدولة ابنه فانقطع عنهم واقام منقطعا وحجّ في شهور سنة اربع وسبعين وثلاثمائة وفي عودته مات بمنزلة تعرف بالعسيلة. وكان في هذه المدة جماعة صالحة من مشاهير الحكماء منهم التميميّ المقدسيّ الطبيب كان بمصر في حدود سبعين وثلاثمائة أحكم ما علمه من علم الطبّ غاية الأحكام وكان له غرام وعناية تامّة في تركيب الادوية وعنده غوص واستغراق في طلب غوامض هذا النوع وكان منصفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 في مذاكراته غير رادّ على احد الّا بطريق الحقيقة. ومنهم عليّ بن العبّاس المجوسيّ فاضل كامل فارسيّ الأصل قرأ على شيخ فارسيّ يعرف بأبي ماهر وطالع هو اجتهد وصنف للملك عضد الدولة بن بويه كتابه [1] المسمّى بالملكيّ وهو كتاب جليل وكنّاش نبيل مال الناس اليه في وقته ولزموا درسه الى ان ظهر كتاب القانون لابن سينا فمالوا اليه وتركوا الملكيّ بعض الترك. والملكيّ في العمل ابلغ والقانون في العلم اثبت. ومنهم نظيف القسّ [2] الرومي كان طبيبا عالما بالنقل من اليوناني الى العربي ولم يكن سعيد المباشرة ولا منجح المعالجة وكان الناس يتطيرون به ويولعون [3] به إذا دخل الى مريض حتى انه حكى في بعض أوقاته ان عضد الدولة أنفذه الى بعض القوّاد ليعوده في مرض كان عرض له. فلما خرج من عند القائد استدعى القائد ثقته وأنفذه الى حاجب عضد الدولة يستعلم منه نيّة الملك فيه. ويقول: ان كان ثمّ تغيّر نيّة فليأخذ له الأذن في الانصراف والبعد فقد قلق لما جرى. وسأله الحاجب عن السبب. فقال: ما اعرف اكثر من انه جاء نظيف الطبيب وقال له: مولانا الملك انفذني لعيادتك. فمضى الحاجب وأعاد بحضرة عضد الدولة هذا القول. فضحك وأمره باعلامه حسن نيّة الملك فيه وحملت اليه خلع سنيّة سكنت نفسه بها. ومنهم عبيد [4] الله بن الحسن ابو القاسم المعروف بغلام زحل المنجم مقيم ببغداد من أفاضل الحسّاب والمنجمين اصحاب الحجج والبراهين وله يد طولى فيما يعانيه من هذا الشأن. ذكر انه اجتمع يوما عند ابي سليمان المنطقيّ جماعة من سادة علماء الأوائل وأخذوا في المذاكرة فذكروا في علم النجامة وقالوا: هي من العلوم التي لا تجدي فائدة ولا يصحّ لها حكم. فأطالوا القول في ذلك. فقال بعضهم: ايها القوم اختصروا الكلام وقربوا البغية هل تصح الأحكام. فقال غلام زحل: عن هذا جواب يستثبت على كل وجه. فقيل: لم بيّن. قال لان صحتها وبطلانها يتعلقان بآثار الفلك وقد يقتضي شكل الفلك في زمان ان لا يصحّ منها شيء وان غيص [5] على دقائقها وبلغ الى أعماقها. وقد يزول ذلك الشكل فيجيء زمان لا يبطل منها شيء فيه وان قورب في الاستدلال. وقد يتحول هذا الشكل في وقت آخر الى ان يكثر الصواب فيها والخطأ. ومتى وقف الأمر على هذا الحدّ فلا يثبت على قول قضاء ولا يوثق بجواب. فقال ابو   [1-) ] كتابه ر كنّاشه. [2-) ] القس ر النفس. [3-) ] يولعون ر يعلون ويولون. [4-) ] عبيد ر عبد. [5-) ] غيص ر غيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 سليمان المنطقيّ: هذا احسن ما يمكن ان يقال في هذا الباب. ومنهم مسكويه ابو عليّ الخازن [1] من كبار فضلاء العجم واجلّاء فارس له مشاركة حسنة في العلوم الادبيّة والعلوم القديمة كان خازنا للملك عضد الدولة بن بويه مأمونا لديه أثيرا عنده. وله تصانيف في العلوم ومناظرات ومحاضرات. وقال ابو عليّ بن سينا في بعض كتبه وقد ذكر مسألة فقال: وهذه المسألة حاضرت بها أبا عليّ مسكويه فاستعادها كرّات وكان عسر الفهم فتركه ولم يفهمها على الوجه. وعاش زمانا طويلا الى ان قارب سنة عشرين واربعمائة. وحكي ان عضد الدولة لما قدم الى بغداد قيل له عن ابي الفضل جعفر بن المكتفي بالله انه من أولاد الخلفاء وانه فاضل كبير القدر عالم بعلوم متعددة من علوم الأوائل متحقق بذلك اتمّ تحقيق. فاشتاقت نفسه اليه فسيّر اليه سرا وكان يجتمع به خفية ويأتيه في خفّ وازار فإذا حصل في داره أقعده في موضع خال بغير إزار. فإذا خلا عضد الدولة استدعاه فإذا شاهده تطاول له في القيام وأكرمه وخلا به وسأله عن فنّه في علم احكام النجوم واخبار الحدثان فيخبره من ذلك بما يعجب منه ولا يبعد وقوعه. وتوفّي جعفر هذا سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. ومن جملة من اختص بشرف الدولة بن عضد الدولة من الحكماء احمد بن محمد الصاغاني ابو حامد كان فاضلا في الهندسة وعلم الهيئة وكان ببغداد يحكم الآلات الرصديّة غاية الأحكام. ولما بنى شرف الدولة بيت الرصد في طرف بستان دار المملكة وتقدّم برصد الكواكب السبعة واعتمد في ذلك على ويجن [2] الكوهي ورصد وكتب مختصرين بصورة الرصد كان ممن شاهد ذلك وكتب خطّه بتصحيح نزول الشمس في برجين احمد بن محمد المنطقي الصاغاني. ومات احمد هذا سنة تسع وسبعين وثلاثمائة ببغداد. واما ويجن بن وشم [3] ابو سهل الكوهي فكان حسن المعرفة بالهندسة وعلم الهيئة متقدما فيهما الى الغاية المتناهية. وكان رصده لحلول الشمس برجي السرطان والميزان سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين للإسكندر. وكان من جملة من حضر هذين الرصدين من العلماء ابرهيم بن هلال بن ابرهيم بن زهرون [4] الصابئ صاحب الرسائل اصل سلفه من حرّان ونشأ ببغداد وتأدّب بها وكان بليغا في صناعتي النظم والنثر وله يد طولى في علم الرياضية وخصوصا في الهندسة والهيئة وله فيهما مصنفات. وديوان رسائله مجموع. وخدم   [1-) ] الخازن ر الحرث. [2-) ] ويجن ر ويجي ر يحيى. [3-) ] ويجن بن وشم ر ويحيى بن وسم. [4-) ] زهرون ر هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ملوك العراق من بني بويه واختلفت به الأيام ما بين رفع ووضع وتقديم وتأخير واعتقال واطلاق. وتوفي سنة اربع وثمانين وثلاثمائة. قال ابو حيّان التوحيديّ: سألني وزير صمصام الدولة بن عضد الدولة عن زيد بن رفاعة في حدود سنة ثلث وسبعين وثلاثمائة وقال: لا أزال اسمع من زيد بن رفاعة قولا يريبني ومذهبا لا عهد لي به. وقد بلغني انك تغشاه وتجلس اليه وتكثر عنده. ومن طالت عشرته لإنسان أمكن اطلاعه على مستكنّ رأيه. فقلت: ايها الوزير هناك ذكاء غالب وذهن وقّاد. قال: فعلى هذا ما مذهبه. قلت: لا ينسب الى شيء لكنه قد اقام بالبصرة زمانا طويلا وصادف بها جماعة لاصناف العلم فصحبهم وخدمهم وكانت هذه العصابة قد تألّفت بالعشرة وتصافت بالصداقة واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة فوضعوا بينهم مذهبا زعموا انهم قرّبوا به الطريق الى الفوز برضوان الله وذلك انهم قالوا: ان الشريعة قد تدنّست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها الّا بالفلسفة وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال وصنفوا خمسين رسالة في خمسين نوعا من الحكمة ومقالة حادية وخمسين جامعة لانواع المقالات على طريق الاختصار والإيجاز وسمّوها رسائل اخوان الصفا وكتموا فيها أسماءهم وبثّوها في الورّاقين ووهبوها للناس وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والأمثال الشرعية والحروف المجتمعة [1] والطرق المموهة [1] وهي مبثوثة [2] من كل فنّ بلاد إشباع ولا كفاية وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات فتعبوا وما أغنوا وغنّوا وما اطربوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا وبالجملة فهي مقالات مشوّقات غير مستقصاة ولا ظاهرة الادلّة والاحتجاج. ولما كتم مصنّفوها أسماءهم اختلف الناس في الذي وضعها فكل قوم قالوا قولا بطريق الحدس والتخمين. فقوم قالوا: هي من كلام بعض الأئمّة العلويّين. وقال آخرون: هي تصنيف بعض متكلّمي المعتزلة في العصر الاول. (القادر بن اسحق بن المقتدر) لما قبض الطائع ذكر بهاء الدولة من يصلح للخلافة واتفقوا على القادر بالله ابي العباس احمد بن اسحق المقتدر وكان بالبطيحة. ولما وصل الرسل اليه كان تلك الساعة يحكي مناما رآه تلك الليلة يدلّ على خلافته. فبويع له يوم حادي عشر من شهر رمضان سنة احدى وثمانين وثلاثمائة. وفيها مات سعد الدولة ابن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب بالقولنج وولي بعده ابنه ابو الفضائل ووصّى   [1-) ] المجتمعة ر المجملة. المموهة ر الموهمة. [2-) ] مبثوثة ر مثبوتة. ابن العبري- 12 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الى لؤلؤة به وبسائر اهله. وفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة نزل ملك الروم بارمينية وحصر خلاط وملازكرد [1] وأرجيش فضعفت نفوس الناس عنه ثم هادنه ابو عليّ الحسن ابن مروان مدة عشر سنين وعاد ملك الروم. وفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة توفّي العزيز العلوي صاحب مصر وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر بمدينة بلبيس [2] وولي بعده ابنه ابو عليّ المنصور ولقّب الحاكم بأمر الله. وكان العزيز يحبّ العفو ويستعمله فمن حلمه انه كان بمصر شاعر كثير الهجاء فهجاء يعقوب بن كلس الوزير وأبا نصر كاتب الإنشاء فقال: قل لابي نصر كاتب القصر ... والمتأني لنقض ذا الأمر انقض عرى الملك للوزير تفز ... منه بحسن الثنا والذكر وأعط وأمنع ولا تخف أحدا ... فصاحب القصر ليس بالقصر وليس يدري ماذا يراد به ... وهو إذا ما درى فما يدري فشكاه الوزير الى العزيز وأنشده الشعر. فقال له: هذا شيء اشتركنا في الهجاء به فشاركني في العفو عنه. وفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة توفّي الأمير نوح بن منصور صاحب بخارا وولي الأمر بعده ابنه منصور. وفيها مات سبكتكين [3] وملك بعده إسماعيل. ثم أرسل اليه وهو بغزنة [4] اخوه يمين الدولة محمود من نيسابور يعرّفه [5] ان أباه انما عهد اليه لبعده عنه ويذكّره ما يتعيّن من تقديم الكبير. فلم يجبه الى ذلك. فسار اليه وقاتله وقبض عليه ثم أعلى منزلته وشركه في الملك [6] . وفيها مات فخر الدولة ابن ركن الدولة بن بويه وقام بملكه بعده ولده مجد الدولة ابو طالب رستم وعمره اربع سنين وكان المرجع الى امّه في تدبير الملك وعن رأيها يصدرون. وفيها توفّي مأمون ابن محمد صاحب خوارزم وولي الأمر بعده ولده عليّ. وفي سنة احدى واربعمائة خطب قرواش بن المقلد امير بني عقيل للحاكم العلويّ صاحب مصر بأعماله كلّها وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها. وفي سنة ثلث واربعمائة قتل شمس المعالي   [1-) ] ملازكرد ر ملاسكرد. [2-) ] وكانت خلافته احدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا ومولده بالمهدية من افريقية. [3-) ] وكانت مدة ملكه عشرين سنة ودام ملك بيته مدة طويلة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية وغيرهم. [4-) ] وهو بغزنة ر يعزّيه. [5-) ] يعرفه ر وذكر. [6-) ] كان يمين الدولة محمود أول من لقّب بالسلطان ولم يلقب به احد قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قابوس بن وشمكير [1] وكان سبب قتله انه كان مع كثرة فضائله ومناقبه عظيم السياسة شديد الأخذ قليل العفو يقتل على الذنب اليسير. فضجر أصحابه منه ومضوا اليه الى الدار التي هو فيها وقد دخل الى الطهارة متخففا فأخذوا ما عليه من كسوة وكان الزمان شتاء وكان يستغيث: اعطوني ولو جلّ فرس. فلم يفعلوا فمات من شدّة البرد. وولي بلاده ابنه منوجهر ولقب فلك [2] المعالي. وكان قابوس عزيز [3] الأدب وافر العلم له رسائل وشعر حسن [4] وكان عالما بالنجوم وغيرها من العلوم. وفيها توفّي بهاء الدولة ابن عضد الدولة بن بويه وهو الملك حينئذ بالعراق [5] وولي الملك بعده ابنه سلطان الدولة ابو شجاع. وفي سنة سبع واربعمائة قتل [6] خوارزمشاه ابو العبّاس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم. وفي سنة ثماني واربعمائة خرج الترك من الصين في عدد كثير يزيدون على ثلاثمائة ألف خركاه وملكوا بعض البلاد وغنموا وسبوا وبقي بينهم وبين بلاساغون [7] ثمانية ايام. ولما سمعوا بجمع عساكر طغان خان عادوا الى بلادهم. فسار خلفهم نحو ثلثة أشهر حتى أدركهم وهم آمنون لبعد المسافة فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل وغنم من الدوابّ واواني الذهب والفضة ومعمول الصين ما لا عهد لأحد بمثله. وفي سنة احدى عشرة واربعمائة عظم امر ابي عليّ مشرّف الدولة ابن بهاء الدولة ثم ملك العراق وأزال عنه أخاه سلطان الدولة. وفيها فقد الحاكم بن العزيز ابن المعزّ العلويّ صاحب مصر بها ولم يعرف له خبر. وقيل انه خرج يطوف ليلته على رسمه وعادته وأصبح عند قبر الفقاعيّ وتوجه الى شرقيّ حلوان ومعه ركابيّان فأعادهما فعادا وذكرا انهما خلّفاه عند العين وبقي الناس على رسومهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه. فلما أبطأ خرج جماعة من خواصّه فبلغوا حلوان [8] ودخلوا في الجبل فبصروا بالحمار   [1-) ] وشمكير ر وشكمير. [2-) ] فلك ر ملك. [3-) ] عزيز ر غزير. وهي الرواية الصحيحة. [4-) ] ومن جيد شعره ما قاله في المصائب وصروف الدهر: قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر الّا من له خطر اما ترى البحر يطفو فوقه جيف ... وتستقرّ بأقصى قعره الدرر فان تكن نشبت ايدي الخطوب بنا ... ومسّنا من توالي صرفها ضرر ففي السماء نجوم لا عداد لها ... وليس يكسف الّا الشمس والقمر [5-) ] وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر ونصفا وملكه أربعا وعشرين سنة. [6-) ] قتله غيلة أمراء دولته بعد ان نهوه عن الخطبة ليمين الدولة على منابر بلاده. [7-) ] بلاساغون بلد عظيم في ثغور الترك وراء نهر سيحون قريب من كاشغر. [8-) ] حلوان ر عسفان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الذي كان عليه وقد ضربت يداه بسيف وعليه سرجه ولجامه. فاتبعوا الاثر فانتهى بهم الى البركة فرأوا ثيابه وهي سبع قطع صوف وهي مزرّرة بحالها لم تحلّ وفيها اثر السكاكين فعادوا ولم يشكّوا في قتله. وكان عمره سبعا وثلثين سنة وولايته خمسا وعشرين سنة. وكان جوادا بالمال سفّاكا للدماء وكانت سيرته عجيبة أمر بسبّ الصحابة وكتب الى سائر عمّاله بذلك. ثم أمر بعد ذلك بمدّة بالكفّ عن السبّ وهدم بيعة القيامة ببيت المقدس ثم عاد بناها. وحمل اهل الذمّة على الإسلام او المسير الى مأمنهم او لبس الغيار فأسلم كثير منهم. ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقاه فيقول له: أريد العود الى ديني فيأذن له. ومنع النساء عن الخروج من بيوتهنّ وقتل من خرج منهنّ. فشكا اليه من لا قيّم لها يقوم بأمرها فأمر الناس ان يحملوا كلّما يباع في الأسواق الى الدروب ويبيعوه على النساء وأمر من يبيع ان يكون معه شبه المغرفة بساعد طويل يمدّه الى المرأة وهي من وراء الباب وفيه ما تشتريه فإذا رضيته وضعت الثمن في المغرفة وأخذت ما فيها لئلّا يراها. فنال الناس من ذلك شدّة عظيمة. ولما عدم الحاكم بويع ابنه ابو الحسن عليّ وهو صبيّ ولقّب الظاهر لاعزاز دين الله وباشرت ستّ الملك اخت الحاكم الأمور بنفسها وقامت هيبتها عند الناس واستقامت الأمور. وعاشت بعد الحاكم اربع سنين وماتت. وفي سنة اربع عشرة واربعمائة استولى علاء الدولة ابو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها. وفيها توفّي عليّ بن هلال المعروف بابن البوّاب الكاتب المشهور واليه انتهى الخطّ. وفي سنة خمس عشرة في شوّال توفّي الملك سلطان الدولة بشيراز [1] وملك بعده ابنه ابو كاليجار. وفي سنة ستّ عشرة واربعمائة توفّي الملك مشرّف الدولة ابو عليّ بن بهاء الدولة [2] وخطب ببغداد لأخيه ابي طاهر جلال الدولة. وفيها ملك نصير الدولة [3] بن مروان صاحب ديار بكر مدينة الرها وكانت لرجل من بني نمير يسمّى عطيرا وفيه شرّ وجهل فكتب الرهاويّون ليسلّموا اليه البلد فسيّر إليهم نائبا كان بآمد يسمّى زنكي فتسلّمها وقتل عطيرا. وفي سنة عشرين واربعمائة أوقع يمين الدولة بالاتراك الغزّيّة أصحاب ارسلان بن سلجوق وكانوا يفسدون بخراسان وينهبون فيها فأرسل إليهم جيشا فسبوهم واجلوهم عن خراسان فسار منهم اهل ألفي خركاه فلحقوا باصفهان. واما طغرلبك وداود وأخوهما بيغو وهم بنو ميكائيل بن سلجوق بن تقاق فإنهم كانوا بما وراء النهر وطائفة من الغزّ الذين كانوا بخراسان وصلوا الى اذربيجان وساروا   [1-) ] كان عمره اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر. [2-) ] وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يوما. [3-) ] يروي في الكامل نصر الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الى مراغة فدخلوها وأحرقوا جامعها وقتلوا من عوامّها مقتلة عظيمة ومن الأكراد الهذبانية [1] ثم سار طائفة منهم الى الريّ وطائفة الى همذان فملكوها. وفيها ملك الغزّ الموصل ووثب بهم اهل الموصل. وفي سنة احدى وعشرين واربعمائة مات يمين الدولة [2] محمود بن سبكتكين وملك ولده محمد [3] ثم خلعه اخوه مسعود وولي مكانه. وفي سنة اثنتين وعشرين واربعمائة في ذي الحجة توفّي الامام القادر بالله وعمره ستّ وثمانون سنة وعشرة أشهر وخلافته احدى وأربعون وسنة. وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك فلما وليها ألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه احسن طاعة. وكان حليما كريما ديّنا وكان يخرج من داره في زيّ العامّة ويزور قبور الصالحين كقبر معروف وغيره. وفي سنة ثماني وأربعين وثلاثمائة انتقل الى العراق محمد بن محمد بن يحيى بن الوفاء [4] البوزجاني من بلد نيسابور قرأ عليه الناس واستفادوا وصنف كتبا جمّة في العلوم العدديّة والحسابيّة وله كتاب مجسطي وفسّر كتاب ديوفنطوس في الجبر والمقابلة. وفي سنة ثماني وتسعين وثلاثمائة توفّي ابو عليّ عيسى بن زرعة النصرانيّ اليعقوبيّ المنطقيّ ببغداد وهو احد المتقدمين في علم المنطق والفلسفة وأحد النقلة المجودين وله تصانيف مذكورة ونقول من السرياني الى العربي. ومن الأطباء المتقدمين بالديار المصريّة منصور بن مقشر ابو الفتح المصريّ النصرانيّ وله منزلة سامية من اصحاب القصر ولا سيما في ايام العزيز منهم. واعتلّ منصور هذا في ايام العزيز في سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وتأخر عن الركوب فلما تماثل منصور ابن مقشر كتب اليه العزيز بخطه: بسم الله الرحمن الرحيم طبيبنا سلّمه الله سلام الله الطيّب وأتمّ النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه. والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة واعادك الى أفضل ما عوّدك من صحة الجسم وطيبة النفس وخفض العيش بحوله وقوته. وخدم منصور هذا بعد العزيز الحاكم ابنه ايضا. واتفق ان عرض لرجل الحاكم عقد   [1-) ] الهذبانية ر الهرائيّة. [2-) ] كان مولده سنة ستين وثلاثمائة. [3-) ] كان لقبه جلال الدولة. [4-) ] ويروى: ابو البقاء. والصواب ابو الوفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 زمن ولم يبرأ. فكان ابن مقشّر وغيره من أطباء الخاص المشاركين له يتولّون علاجه فلا يؤثر ذلك الا شرّا في العقد. فأحضر له جرائحيّ يهوديّ كان يرتزق بصناعة مداواة الجراح في غاية الخمول. فلما رأى العقد طرح عليه دواء يابسا فشقّه وشفاه في ثلثة ايام. فأطلق له الحاكم ألف دينار وخلع عليه ولقبّه بالحقير النافع وجعله من أطباء الخاصّ. ولما ولي الحاكم الأمر بمصر وكان يميل الى الحكمة بلغه خبر ابي عليّ بن الحسين بن الهيثم المهندس البصريّ انه صاحب تصانيف في علم الهندسة عالم بهذا الشأن متقن له متفنّن فيه قائم بغوامضه ومعانيه. فتاقت نفسه الى رؤيته. ثم نقل له عنه انه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص. فازداد الحاكم اليه شوقا وسيّر اليه سرا جملة من مال فارغبه في الحضور. فسار نحو مصر ولما وصلها خرج الحاكم للقائه والتقيا بقرية على باب القاهرة المعزّيّة تعرف بالخندق وأمر بإنزاله وإكرامه واقام ريثما استراح وطالبه بما وعد به من أمر النيل فسار معه جماعة من الصنّاع ليستعين بهم على هندسة كانت خطرت له. ولما سار الى الإقليم بطوله ورأى آثار من تقدّم من ساكنيه من الأمم الخالية وهي على غاية من احكام الصنعة وجودة الهندسة وما اشتملت عليه من أشكال سماوية ومثالات هندسية وتصوير معجز تحقّق ان الذي يقصده ليس بممكن فان من تقدّمه لم يعزب عنهم علم ما علمه ولو أمكن لفعلوا. فانكسرت همّته ووقف خاطره. ووصل الى الموضع المعروف بالجنادل قبليّ مدينة أسوان وهو موضع مرتفع ينحدر فيه ماء النيل فعاينه وباشره واختبره من جانبيه فوجد أمره لا يمشي على موافقة مراده وتحقق الخطأ عمّا وعد به وعاد منخجلا منخذلا واعتذر بما قبل الحاكم ظاهره ووافقه عليه. ثم ان الحاكم ولّاه بعض الدواوين فتولّاها رهبة لا رغبة. وتحقق الغلط في الولاية لكثرة استحالة الحاكم وإراقته الدماء بغير سبب او بأضعف سبب من خيال مخيلة. فأجال ابو الحسن بن الهيثم فكرته في أمر يتخلّص به فلم يجد طريقا الى ذلك الا إظهار الجنون والخيال فاعتمد ذلك وشاع. فأحيط على موجودة بيد الحاكم ونوّابه. وجعل برسمه من يخدمه ويقوم بمصالحه وقيّد وترك في موضع من منزله. ولم يزل على ذلك الى ان مات الحاكم. وبعد ذلك بيسير أظهر العقل وعاد الى ما كان عليه وأقام متنسكا منقبعا [1] واشتغل بالتصنيف والنسخ والافادة وكان له خطّ قاعد في غاية الصحة. وحكي عنه انه كان ينسخ في مدّة سنة ثلثة كتب في ضمن أشغاله وهي اقليذس والمتوسطات والمجسطي ويشكلها فإذا شرع   [1-) ] منقبعا ر مقبعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 في نسخها جاءه من يعطيه فيها مائة وخمسين دينارا مصريّة. وصار ذلك كالرسم الذي لا يحتاج الى مواكسة ولا معاودة قول فيجعلها مؤنته لسنته. ولم يزل على ذلك الى ان مات بالقاهرة بعد سنة ثلثين واربعمائة. واما تصانيفه فهي كثيرة مشهورة. (القائم بن القادر) ولما توفي القادر بالله جدّدت البيعة لابنه القائم بأمر الله سنة اثنتين وعشرين واربعمائة وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة احدى وعشرين. وفيها اعني سنة اثنتين وعشرين ملك الروم مدينة الرها وكانت بيد نصير [1] الدولة بن مروان. وفيها سارت عساكر السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب خراسان الى كرمان فملكوها. وفي سنة خمس وعشرين واربعمائة كانت حرب شديدة بين نور الدولة دبيس وأخيه ابي قوام ثابت ثم اصطلحا وتحالفا.. وسار البساسيري نجدة لثابت فلما سمع بصلحهم عاد الى بغداد. وهؤلاء أمراء عرب من بني اسد وخفاجة. وفيها توفّي رومانوس ملك الروم وملك بعده رجل صيرفيّ ليس من بيت الملك وانما ابنة قسطنطين اختارته وتزوجته. وفي سنة سبع وعشرين واربعمائة توفّي الظاهر لاعزاز دين الله الخليفة العلويّ بمصر [2] وكان له مصر والشام والخطبة له بافريقية. وولي بعده ابنه ابو تميم ولقب المستنصر [3] بالله. وفي سنة تسع وعشرين واربعمائة دخل ركن الدين ابو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق مدينة نيسابور مالكا لها. وفي سنة ثلثين واربعمائة وصل الملك مسعود [4] من غزنة الى بلخ واجلى السلجوقية عن خراسان. وفيها خطب شبيب بن وثاب النميريّ صاحب حرّان والرقّة للإمام القائم بأمر الله وقطع خطبة المستنصر بالله العلويّ المصريّ. وفي سنة اثنتين وثلثين واربعمائة اتفق انوستكين [5] الخصيّ البلخيّ في جماعة من الغلمان الدارية وثاروا بالملك مسعود وقبضوا عليه وأقاموا أخاه محمدا وسلّموا عليه بالامارة. فأحضر أخاه الملك مسعودا وقال له: لا قابلتك على فعلك بي. وذلك لأنه كان سملة وأعماه. فانظر اين تريد ان تقيم حتى أحملك اليه ومعك أولادك وحرمك. فاختار قلعة كرى [6] فأنفذه إليها. ثم ان احمد   [1-) ] نصير ر نصر. وكذلك في الكامل لابن الأثير. [2-) ] وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة وكانت خلافته ست عشرة سنة. [3-) ] المستنصر. في احدى نسختي اكسفورد «المنتصر» . [4-) ] كان السلطان مسعود شجاعا كريما محبا للعلماء. كثير الصدقة والإحسان الى اهل الحاجة وكان ملكه عظيما فسيحا ملك أصبهان والري وهمذان وما يليها من البلاد وملك طبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الراون وكرمان وسجستان والسند والرخج وغزنة وبلاد الغور والهند وأطاعه اهل البر والبحر. [5-) ] في الكامل انوشتكين. [6-) ] وفي نسخة كبرى. ويروى في الكامل كيكي. وروى ابن خلدون كيدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ابن محمد [1] دخل الى أبيه فطلب خاتمه ليختم به بعض الخزائن فأعطاه. فسار به غلمانه الى القلعة وأعطوا الخاتم لمستحفظيها وقالوا: معنا رسالة الى مسعود فأدخلوهم اليه فقتلوه. فلما وصل الخبر الى مودود بن مسعود وهو بخراسان عاد مجدّا بعساكره الى غزنة فتصافّ هو وعمّه محمد فانهزم محمد وقبض عليه وعلى ولده احمد وانوستكين الخصيّ البلخيّ فقتلهم وقتل أولاد عمّه جميعهم وقتل كل من كان له في القبض على والده صنع. وفي سنة ثلث وثلثين واربعمائة ملك السلطان طغرلبك جرجان وطبرستان. وفيها توفّي ميخائيل ملك الروم وملك بعده ابن أخيه ميخائيل ايضا [2] . وفي سنة خمس وثلثين توفي الملك جلال الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ببغداد [3] وملك ابو كاليجار ابن سلطان الدولة بن بهاء الدولة. وفي سنة تسع وثلثين وقع الصلح بين الملك كاليجار والسلطان طغرلبك. وفي سنة أربعين واربعمائة مات الملك ابو كاليجار ببغداد [4] وملك ابنه الملك الرحيم. وفي سنة احدى وأربعين ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه. وفيها مات مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة [5] وملك عمّه عبد الرشيد [6] . وفي سنة اثنتين وأربعين ملك السلطان طغرلبك أصفهان. وفي سنة ستّ وأربعين استولى طغرلبك على اذربيجان. وفي سنة سبع وأربعين وصل طغرلبك الى بغداد وخطب له بها. وفي سنة خمسين واربعمائة سار طغرلبك في اثر البساسيري ودبيس ومعهما أهلهما فأوقع بهم الأتراك وقتلوا البساسيري ودخلوا في الظعن فساقوه جميعه. وكان البساسيري مملوكا تركيا من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة وهو منسوب الى بساسير مدينته [7] . وفي سنة احدى وخمسين اصّلح دبيس بن مزيد واحضر الى خدمة السلطان طغرلبك فأحسن اليه. وفي سنة خمس وخمسين سار السلطان طغرلبك من بغداد الى بلد الجبل فوصل الى الريّ فمرض بها وتوفي وكان عمره سبعين سنة تقريبا [8] وكان   [1-) ] ان احمد بن محمد ر ان ابن محمد أخيه. [2-) ] هما ميخائيل الرابع والخامس. [3-) ] كان مولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وملك ببغداد اثني عشرة سنة. [4-) ] كان عمره أربعين سنة وشهورا. [5-) ] وكان عمره تسعا وعشرين سنة وملكه تسع سنين وعشرة أشهر. [6-) ] ولقب شمس دين الله سيف الدولة وقيل جمال الدولة. [7-) ] اسمه ارسلان وكنيته ابو الحارث. وجاء في معجم البلدان ما نصه «بسا بالفتح ويعربونها فيقولون فسا مدينة بفارس. وذكر ابو العباس احمد بن علي بن بابه القاشي ان ارسلان البساسيري منسوب إليها. قال: هكذا ينسب اهل فارس الى بسا بساسيري» . [8-) ] وكانت مملكته بحضرة الخلافة ثمان سنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 عقيما لم يلد ولدا. وملك بعده ألب ارسلان بن داود جعفري [1] اخي السلطان طغرلبك. وفي سنة ثمان وخمسين ولدت صبية بباب الأزج ولدا برأسين ورقبتين ووجهين واربع أيد على بدن واحد. وفي سنة احدى وستين احترق جامع دمشق فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة. وكان سبب ذلك حرب وقعت بين المغاربة اصحاب المصريّين والمشارقة فضربوا دارا مجاورة للجامع بالنار فاحترقت واتصلت النار بالجامع. وفي سنة ثلث وستين واربعمائة خرج رومانوس [2] ملك الروم الملقب ديوجانيس وهو اسم من اسماء الحكماء في مائة ألف ووافي بتجمّل [3] كثير وزيّ عظيم فوصل الى ملازكرد من اعمال خلاط [4] وكان السلطان ألب ارسلان بمدينة خونج من اذربيجان فسار اليه في خمسة عشر ألف فارس إذ لم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدوّ. فجدّ في السير فلما قرب العسكران أرسل السلطان الى رومانوس الملك يطلب منه المهادنة. فقال: لا أهادنه الّا بالريّ. فانزعج السلطان لذلك. فلما كان يوم الجمعة بعد الزوال صلّى وبكى فبكى الناس لبكائه. وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف فما ههنا سلطان يأمر وينهى. وألقى القوس والنشّاب وأخذ السيف والدبّوس وعقد ذنب فرسه بيده وفعل عسكره مثله ولبس البياض وتحنّط وقال: ان قتلت فهذا كفني. وزحف الى الروم وزحفوا اليه واشتدّ القتال فانهزم الروم وقتل منهم خلق وأسر الملك اسره بعض المماليك اسمه شادي وكان قد حضر عنده مع رسول فعرفه فلما رآه نزل وسجد له وقصد به السلطان. فضربه ثلث مقارع بيده وقال له: ألم أرسل إليك في المهادنة فأبيت. فقال: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد. فقال السلطان: ما عزمت ان تفعل بي ان أسرتني. فقال: القبيح. قال له: فما تظنّ انني افعل بك. قال: امّا ان تقتلني وامّا ان تشهرني في بلادك. والاخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبا عنك. قال: ما عزمت على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وان يطلق كل أسير عنده من المسلمين. واستقرّ الأمر على ذلك وأجلسه معه على سريره وأنزله في خيمة وأرسل اليه عشرة آلاف دينار يتجهّز بها واطلق جماعة من البطارقة وخلع عليه وعليهم وسيّر معه عسكرا يوصلوه الى مأمنه وشيّعه فرسخا. واما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب   [1-) ] ويروى: جعدى. [2-) ] هو رومانوس الرابع. [3-) ] بتجمل ر بخيل. [4-) ] يقال خلاط واخلاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ميخائيل [1] على المملكة فملك البلاد. فلما وصل رومانوس الملك الى قلعة دوقية بلغه الخبر فلبس الصوف وأظهر الزهد وأرسل الى ميخائيل يعرّفه ما تقرّر مع السلطان. وجمع رومانوس ما عنده من المال وكان مائتي ألف دينار فأرسله الى السلطان وحلف له انه لا يقدر على غير ذلك. وفي أول سنة خمس وستين واربعمائة قصد السلطان ألب ارسلان محمد بن داود جغريبك ما وراء النهر فعقد على جيحون جسرا وعبر عليه في نيّف وعشرين يوما وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة اسمه يوسف الخوارزميّ وحمل الى قرب سريره مع غلامين. فتقدّم ان يضرب له اربعة أوتاد ويشدّ أطرافه إليها. فقال له يوسف: يا مخنّث مثلي يقتل هذه القتلة. فغضب السلطان وأخذ القوس والنشاب وقال للغلامين: خلّياه. فخليّاه. ورماه السلطان بسهم فأخطأه. فوثب يوسف يريده. فقام السلطان عن السرير ونزل عنه فعثر فوقع على وجهه. فبرك [2] عليه يوسف وضربه بسكين كانت معه في خاصرته. ونهض السلطان فدخل الى خيمة أخرى. وضرب بعض الفرّاشين يوسف بمرزبّة على رأسه فقتله. ولما جرح السلطان ألب ارسلان اوصى بالسلطنة لابنه ملكشاه وقام بوزارته نظام الملك [3] . وفي سنة سبع وستين واربعمائة ليلة الخميس ثالث عشر شعبان توفي القائم بأمر الله. ولما أيقن بالموت احضر النقيبين وقاضي القضاة والوزير ابن جهير [4] واشهدهم على نفسه انه جعل ابن ابنه أبا القاسم عبد الله بن محمد بن القائم وليّ عهده. وكان عمر القائم ستا وسبعين سنة وثلثة أشهر وخلافته أربعا وأربعين سنة وتسعة أشهر. وفي هذه السنين اشتهر بعلوم الأوائل ابو الريحان [5] محمد بن احمد البيروني متبحر في فنون الحكمة اليونانية والهندية وتخصّص بأنواع الرياضيات وصنّف فيها الكتب الجليلة ودخل الى بلاد الهند واقام بها عدّة سنين وتعلّم من حكمائها فنونهم وعلّمهم طرق اليونانيين في فلسفتهم. ومصنفاته كثيرة متقنة محكمة غاية الأحكام. وبالجملة لم يكن في نظرائه في زمانه وبعده الى هذه الغاية احذق منه بعلم الفلك ولا اعرف بدقيقه   [1-) ] هو ميخائيل السابع. [2-) ] فبرك ر فركب. [3-) ] كان ألب ارسلان بلغ من العمر أربعين سنة وشهورا وكانت مدة ملكه منذ خطب له بالسلطنة الى ان قتل تسع سنين وستة أشهر. [4-) ] ويروى: جهين. [5-) ] ر الحكيم الفارسي ابو الريحان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وجليله. وعرف ايضا بالعلوم الحكمية ابو عليّ الحسين بن عبد الله بن سينا الشيخ الرئيس. وحكى عن نفسه قال: ان ابي كان رجلا من اهل بلخ وانتقل منها الى بخارا في ايام نوح بن منصور واشتغل بالتصرّف بقرية خرميثن وتزوج أمّي من قرية يقال لها أفشنة وولدت منها بها وولد اخي ثم انتقلنا الى بخارا وأحضرت معلّم القرآن والأدب وكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب. حتى كان يقضى مني العجب. وأخذ والدي يوجهني الى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى اتعلمه منه. ثم جاء الى بخارا ابو عبد الله الناتلي [1] وكان يدّعي الفلسفة وأنزله ابي دارنا رجاء تعلّمي منه. فقرأت ظواهر المنطق عليه واما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة. ثم أخذت اقرأ الكتب على نفسي واطالع الشروح وكذلك كتاب اقليذس فقرأت من اوّله خمسة أشكال او ستة عليه ثم تولّيت حلّ الكتاب بأسره. ثم انتقلت الى المجسطي. وفارقني الناتلي. ثم رغبت ف 0 علم الطبّ وصرت اقرأ الكتب المصنفة فيه وتعهدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف وانا في هذا الوقت من أبناء ستّ عشرة سنة. ثم توفّرت على القراءة سنة ونصفا وكلّما كنت اتحيّر في مسألة ولم [2] أكن اظفر بالحدّ الأوسط في قياس تردّدت الى الجامع وصلّيت وابتهلت الى مبدع الكلّ حتى فتح لي المغلق منه والمتعسر. وكنت ارجع بالليل الى داري وأضع السراج بين يدي واشتغل بالقراءة والكتابة فمهما غلبني النوم او شعرت بضعف عدلت الى شرب قدح من الشراب ريثما تعود اليّ قوّتي ثم ارجع الى القراءة ومتى اخذني ادنى نوم احلم بتلك المسائل بأعيانها حتى ان كثيرا منها انفتح لي وجوهها في المنام. ولم أزل كذلك حتى أحكمت علم المنطق والطبيعيّ والرياضيّ. ثم عدت الى العلم الالهيّ وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت افهم ما فيه والتبس عليّ غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا وانا مع ذلك لا افهمه وأيست من نفسي وقلت: هذا كتاب لا سبيل الى فهمه. وإذا انا يوما حضرت وقت العصر في الورّاقين وبيد دلال مجلّد ينادي عليه فعرضه عليّ فرددته ردّ متبرّم معتقد ان لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا فانه رخيص أبيعكه بثلثة دراهم وصاحبه محتاج الى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لابي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. فرجعت الى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح عليّ في الوقت أغراض ذلك   [1-) ] ويروى: البابلي والنابلي. [2-) ] ولم ر او لم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الكتاب بسبب انه قد صار لي على ظهر القلب وفرحت بذلك وتصدّقت بشيء على الفقراء شكرا لله تعالى. فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها وكنت إذ ذاك للعلم احفظ ولكنه اليوم معي انضج والا فالعلم واحد لم يتجدّد لي. بعده شيء. ثم مات والدي وتصرفت بي الأحوال وتقلدت شيئا من اعمال السلطان. ودعتني الضرورة الى الارتحال من بخارا والانتقال عنها الى جرجان وكان قصدي الأمير قابوس فاتفق في اثناء هذا أخذ قابوس وحبسه وموته. ثم مضيت الى دهستان ومرضت بها مرضا صعبا وعدت الى جرجان وأنشأت في حالي قصيدة فيها بيت القائل: لما عظمت فليس مصر واسعي ... لما غلا ثمني عدمت المشتري قال ابو عبيدة الجوزجاني [1] : الى ههنا انتهى ما حكاه الشيخ عن نفسه. وفي هذا الموضع اذكر انا بعض ما شاهدت من أحواله في حال صحبتي له والى حين انقضاء مدّته. قال: في مدة مقامه بجرجان صنّف اوّل القانون ومختصر المجسطيّ وغير ذلك. ثم انتقل الى الريّ واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة. ثم خرج الى قزوين ومنها الى همذان فاتصل بخدمة كدبانويه [2] وتولّى النظر في أسبابها. ثم سألوه تقلّد الوزارة فتقلّدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه وإشفاقهم منه على أنفسهم فكبسوا داره وأخذوه الى الحبس وأخذوا جميع ما كان يملكه وساموا الأمير شمس الدولة قتله فامتنع منه وعدل الى نفيه عن الدولة طلبا لمرضاتهم. فتوارى الشيخ في دار بعض اصدقائه أربعين يوما. فعاد الأمير طلبه وقلّده الوزارة ثانيا. ولما توفّي شمس الدولة وبويع ابنه طلبوا ان يستوزر الشيخ فأبى عليهم وتوارى في دار ابي غالب العطّار وهناك اتى على جميع الطبيعيات والإلهيات ما خلا كتابي الحيوان والنبات من كتاب الشفاء. وكاتب علاء الدولة سرا يطلب المسير اليه فاتّهمه تاج الملك بمكاتبته وأنكر عليه ذلك وحثّ في طلبه. فدلّ عليه بعض أعدائه فأخذوه وأدّوه الى قلعة يقال لها بردجان [3] وأنشأ هناك قصيدة فيها: دخولي باليقين [4] كما تراه ... وكلّ الشكّ في امر الخروج وبقي فيها اربعة أشهر. ثم أخرجوه وحملوه الى همذان ثم خرج منها متنكرا وانا   [1-) ] الجوزجاني ر الجورجاني. [2-) ] ويروى: كربانويه وكذبانويه. [3-) ] بردجان ر بردوان. [4-) ] دخولي باليقين ر في احدى نسختي اكسفرد: دخول النفس فيك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 واخوه وغلامان معه في زيّ الصوفيّة الى ان وصلنا الى أصفهان فصادف في مجلس علاء الدولة الإكرام والإعزاز الذي يستحقه مثله. وصنّف هناك كتبا كثيرة. (قال) وكان الشيخ قويّ القوى كلها وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانيّة أقوى واغلب وكان كثيرا ما يشتغل به فأثّر في مزاجه. وكان سبب موته قولنج عرض له ولحرصه على برئه حقن نفسه في يوم واحد ثماني مرّات فتقرّح بعض امعائه وظهر به سحج وعرض له الصرع الذي قد يتبع القولنج وصار من الضعف بحيث لا يقدر على القيام. فلم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي لكنه مع ذلك لا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المعالجة ولم يبرأ من العلّة كل البرء وكان ينتكس ويبرأ كل وقت. ثم قصد علاء الدولة همذان وسار معه الشيخ فعاودته في الطريق تلك العلّة الى ان وصل الى همذان وعلم ان قوّته قد سقطت وانها لا تفي بدفع المرض فأهمل مداواة نفسه وأخذ يقول: المدبّر الذي كان يدبّرني قد عجز عن التدبير والآن فلا تنفع المعالجة. وبقي على هذا أياما ثم انتقل الى جوار ربّه ودفن بهمذان وكان عمره ثمانيا وخمسين سنة وكان موته في سنة ثمان وعشرين واربعمائة. وفيه قال بعضهم: ما نفع الرئيس من حكمه الطبّ ... م ولا حكمه على النيّرات ما شفاه الشفاء [1] من ألم المو ... ت ولا نجّاه كتاب النّجاة وقيل أول حكيم توسّم بخدمة الملوك ارسطوطاليس وكان الحكماء قبله مثل فيثاغوروس وسقراطيس وأفلاطون يترفّعون عن ذلك ولا يقربون أبواب السلاطين. والدليل على ذلك ان بعض ملوك اليونانيين كان مجتازا بمكان كان فيه سقراطيس جالسا فلما دنا بقربه وهو لم ينهض ولم يتحرّك من مكانه ولا يلتفت فأقبل اليه بعض الغلمان فركله برجله. فقال له: لم تركلني. قال له: اما تبصر الملك كيف لا تنهض وتقوم له. اجابه سقراطيس قائلا: كيف أقوم لعبد عبدي. فالتفت الملك الى مشاجرتهما فاستدعى به فحمل اليه فقال له: اي شيء قلت:. قال: قلت لا أقوم لعبد عبدي. قال الملك: وانا عبد عبدك. قال: نعم ايها الملك أنت استعبدتك الدنيا وأنت خادمها وانا زهدتها واستعبدتها فهي عبدي وأنت عبدها. فالملك استحسن له ذلك وتقدّم بالإحسان اليه فلم يقبل. قيل وأول حكيم شغف بشرب الخمر واستفراغ القوى الشهوانية الشيخ الرئيس ابو عليّ بن سينا. ثم اقتدى به في الانهماك من كان بعده فهذان غيّرا السنّة الفلسفية. وقيل ان شيخ الشيخ ابي عليّ في الطبّ ابو سهل المسيحيّ وكان طبيبا فاضلا منطقيا   [1-) ] الشفاء كتاب جليل من تأليف ابن سينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عالما بعلوم الأوائل مذكورا في بلد خراسان له كنّاش يعرف بالمائة كتاب مشهور. مات وعمره أربعون سنة. وفي سنة خمس وثلثين واربعمائة توفّي ابو الفرج عبد الله بن الطيّب وهو عراقي فيلسوف فاضل مطّلع على كتب الأوائل وأقاويلهم وعني بشروح الكتب القديمة في المنطق وانواع الحكمة من تآليف ارسطوطاليس ومن الطبّ كتب جالينوس وبسط القول في الشروح بسطا شافيا قصد به التعليم والتفهيم. قال القاضي الأكرم جمال الدين القفطي رحمه الله: لقد رأيت بعض من ينتحل هذه الصناعة يذمّ أبا الفرج بن الطيّب بالتطويل وكان هذا العائب يهوديا ضيّق الفطن قد وقف مع عبارة ابن سينا. فامّا انا وكل مصنّف فلا يقول الا ان أبا الفرج بن الطيّب قد أحيا من هذه العلوم ما دثر وابان منها ما خفي. وقد تلمذ له جماعة سادوا وافادوا منهم المختار بن الحسن بن عبدون المعروف بابن بطلان. قال ابن بطلان: ان شيخنا ابو الفرج ابن الطيّب بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضة كان [1] تلفّظ نفسه فيها وهذا يدلّك على شدّة حرصه واجتهاده وطلب العلم لعينه [2] . وابن بطلان هذا فهو طبيب نصرانيّ بغداديّ وكان مشوّه الخلقة غير صبيحها كما شاء الله منه وفضل في علم الأوائل وكان يرتزق بصناعة الطب وخرج عن بغداد الى الموصل وديار بكر ودخل حلب وأقام بها مدّة وما حمدها وخرج عنها الى مصر فأقام بها مدّة قريبة واجتمع بابن رضوان المصريّ الفيلسوف في وقته وجرت بينهما منافرة احدثتها المغالبة في المناظرة. وخرج ابن بطلان عن مصر مغضبا على ابن رضوان وورد انطاكية وأقام بها وقد سئم كثرة الاسفار وضاق عطنه عن معاشرة الأغمار فغلب على خاطره الانقطاع فنزل بعض الاديرة [3] بأنطاكية وترهّب وانقطع الى العبادة الى ان توفي سنة اربع وأربعين واربعمائة. ومن مشاهير تصانيف ابن بطلان كتاب تقويم الصحة مجدول [4] وكتاب دعوة الأطباء مقامة ظريفة. ورسالة اشتراء الرقيق. ولمّا جرى لابن بطلان بمصر مع ابن رضوان ما جرى كتب اليه ابن بطلان رسالة يقطعه فيها ويذكر معايبه ويشير الى جهله بما يدّعيه من علم الأوائل ورتّبها على سبعة فصول الاول فضل من لقي الرجال على من درس في   [1-) ] كان ر كاد. [2-) ] لعينه ر بعينه. [3-) ] الاديرة ر الديرة. [4-) ] مجدول ر بجدول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الكتب. الثاني في ان الذي علم المطالب من الكتب علما رديئا شكوكه بحسب علمه يعسر حلّها. الثالث في ان اثبات الحق في عقل لم يثبت فيه المحال أسهل من إثباته عند من ثبت في عقله المحال. الرابع في ان من عادات الفضلاء عند قراءاتهم كتب القدماء ان لا يقطعوا في مصنّفها بطعن إذا رأوا في المطالب تباينا وتناقضا لكن يخلدوا الى البحث والتطلّب. الخامس في مسائل مختلفة صادرة عن براهين صحيحة من مقدمات صادقة يلتمس أجوبتها بالطريقة البرهانية. السادس في تصفّح مقالته في المباهلة التي ضمن فيها: انني اسأله ألف مسئلة ويسألني مسألة واحدة. السابع في تتبّع مقالته في النقطة الطبيعية والتعيين على موضع الشبهة في هذه التسمية. وختم الرسالة بقوله: وليتحقق ان اللذة بمضغ الكلام لا تفي بغصّة الجواب. فان لنا موقف حساب. ومجمع ثواب وعقاب. يتظلم فيه المرضى الى خالقهم. ويطالبون الأطباء بالاغلاط القاضية في هلاكهم. وانهم لا يسامحون الشيخ كما سامحته بسبّي ولا يغضون عنه كما اغضيت عن ثلب عرضي. فليكن من لقائهم على يقين. ويتحقق انهم لا يرضون منه الا بالحق المبين. والله يوفقنا وإياه للعمل بطاعته والتقرّب اليه بابتغاء مرضاته وهو حسبي ونعم الوكيل. وذكر ابن بطلان في الفصل الرابع من رسالته الى ابن [1] رضوان حكاية ظريفة وجب إيرادها ههنا قال: انني حضرت مع تلميذ من تلامذة الشيخ يعني الشيخ ابن رضوان ظاهر التجمّل بادي الذكاء ان صدقت الفراسة فيه بحضرة الأمير ابي عليّ ابن جلال الدولة بن عضد الدولة فناخسرو في حمّى نائبة أخذت اربعة ايام ولا تبدو ببرد وتقشع بنداوة وقد سقاه ذلك الطبيب دواء مسهلا وهو عازم على فصده من بعد على عادة المصريّين في تأخير الفصد بعد الدواء واطعام المريض القطائف بجلّاب في نوب الحمّى. فسألت الطبيب مستخبرا عن الحمّى. فقال بلفظة المصريين: نعم سيدي حمّى يوم مركبة من دم وصفراء نائبة اربعة ايام فلما سقيناه الدواء تحلّل الدم وبقيت الصفراء ونحن على فصده لنأمن الصفراء بمشيئة الله. فذهبت لا اعلم مما اعجب أمن كون حمّى يوم تنوب في اربعة ايام بعلامات المواظبة أم من كونها من أخلاط مركبّة أم من الدواء الذي حلّل الدم الغليظ وترك الصفراء اللطيفة. وما اشبّه ذلك من حكايته الا بما سمعت بأنطاكية ان طبيبا روميّا شارط مريضا به غبّ خالصة على برئه دراهم معلومة وأخذ في تدبيره بما غلظ المادة فصارت شطر غب بعد ما كانت خالصة. فأنكروا ذلك عليه وراموا صرفه فقال: انني استحق نصف الكراء لان الحمّى ذهب   [1-) ] الى ابن ر عن ابن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 نصفها. وظنّ من جهة التسمية ان الشطر قد ذهب من الحمّى. وما زال يسألهم عمّا كانت فيقولون غبّا. وعمّا هي الآن فيقولون شطرا فيتظلم ويقول: فلم منعتموني نصف القبالة. وحكي ان ابن رضوان هذا كان في أول أمره منجما يقعد على الطريق ويرتزق ثم قرأ شيئا من الطب والمنطق وكان من المفلفلين لا المحققين ولم يكن حسن المنظر ولا الهيئة ومع هذا تتلمذ له جماعة من الطلبة بمصر وأخذوا عنه وسار ذكره وصنّف كتبا مختطفة ملتقطة مستنبطة من غيره وكان تلاميذه ينقلون عنه من التعاليل الطبيّة والألفاظ المنطقيّة ما يضحك منه ان صدق النقلة. ولم يزل ابن رضوان بمصر متصدّرا للافادة الى ان مات في حدود سنة ستين [1] واربعمائة. وكان من مشاهير الأطباء في هذه الأيام طبيب نصراني من اهل بغداد يقال له كتيفات خدم البساسيري معروف بالعمل غير موصوف بعلم ارتفع بصائب معالجته. (المقتدي بن محمد بن القائم) لما توفي القائم بأمر الله [2] بويع عبد الله بن محمد ابن القائم بالخلافة ولقّب المقتدي بأمر الله سنة سبع وستين واربعمائة. ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه فان الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي في ايام أبيه ولم يكن له غيره وكان المقتدي حملا في بطن امّه فولد بعد موت أبيه محمد بستة أشهر. وفي سنة ثماني وستين سار اقسيس الخوارزمي وهو احد الأمراء من عسكر السلطان ملكشاه الى دمشق فحصرها فغلت [3] الأسعار فبيعت الغرارة بأكثر من عشرين دينارا فسلموها اليه بالأمان وخطب بها للمقتدي الخليفة العباسي وكان آخر ما خطب فيها للعلويّين المصريين. وتغلّب اقسيس على اكثر الشام. وفي سنة اربع وسبعين توفي نور الدولة دبيس الاسدي وكان عمره ثمانين سنة وامارته سبعا وخمسين سنة وكان مذكورا بالفضل والإحسان. وولي بعده ما كان اليه ابنه منصور ولقّب بهاء الدولة فأحسن السيرة وسار الى السلطان ملكشاه فاستقرّ له الأمر وخلع الخليفة ايضا عليه ثم مات في سنة تسع وسبعين وولي الحلّة والنيل وجميع ما كان له ابنه سيف الدولة صدقة. وفي سنة خمس وثمانين قتل نظام الملك الوزير بالقرب من نهاوند قتله صبي ديلمي من الباطنية أتاه في صورة مستمنح او مستغيث فضربه بسكين كانت معه فقضي عليه. وبقي نظام الملك وزيرا للسلاطين ثلثين سنة سوى ما وزر لالب ارسلان وهو صاحب خراسان ايام عمّه   [1-) ] ستين ر ست وستين. [2-) ] كان عمره ستا وسبعين سنة وشهورا وخلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر. [3-) ] فغلت ر فعلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 طغرلبك قبل ان يتولّى السلطنة. وكان عمره سبعا وسبعين سنة. وكان سبب قتله ان عثمان ابن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولّاه جدّه رئاسة مرو وأرسل السلطان إليها شحنة اسمه قودن وهو من خواصّه فنازع عثمان في شيء فحملت عثمان حدائة سنّه وطمعه بجدّه على ان قبض عليه وأخرق به ثم أطلقه فقصد السلطان مستغيثا شاكيا فأرسل السلطان الى نظام الملك رسالة يقول له: ان كنت شريكي في الملك فلذلك [1] حكم. وان كنت نائبي فيجب ان تلزم حدّ التبعية والنيابة وهؤلاء أولادك قد جاوزوا حدّ امر السياسة وطمعوا الى ان فعلوا كذا وكذا. فحضر المرسلون عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة فقال: قولوا للسلطان ان كنت ما علمت اني شريكك في الملك فاعلم. فإنك ما نلت هذا الأمر الا بتدبيري ورأيي اما تذكر حين قتل أبوك فقمت بتدبير أمرك وقمعت الخوارج عليك من أهلك وغيرهم. وأنت ذلك الوقت كنت تتمسك بي فلما قدت [2] الأمور إليك وأطاعك القاصي والداني أقبلت تتجنى لي الذنوب وتسمع في السعايات. وقولوا له عني ان ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة وان اتفاقهما سبب كل غنيمة ومتى أطبقت هذه الدواة زالت تلك. وأطال فيما هذا سبيله. ثم قال: قولوا للسلطان عني مهما أردتم فقد أهمّني [3] ما لحقني من توبيخه وفتّ في عضدي. فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان فقالوا له ما مضمونه العبودية والاعتذار. ثم ان واحدا منهم اعلم السلطان بما جرى فوقع التدبير عليه حتى قتل ومات السلطان بعده بخمس وثلثين يوما وانحلّت الدولة ووقع السيف وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له. وقيل ان ابتداء امر نظام الملك انه كان من أبناء الدهاقين بطوس وتعلّم العربية وكان كاتبا الأمير تاجر [4] صاحب بلخ وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة ويأخذ ما معه ويقول له: قد سمنت يا حسن. وهرب الى جغريبك داود وهو بمرو فدخل اليه. فلما رآه أخذ بيده وسلمه الى ولده آلب ارسبلان وقال له: هذا حسن الطوسي فتسلمه واتخذه والدا ولا تخالفه. وكان نظام الملك إذا دخل عليه الائمّة الأكابر يقوم لهم ويجلس في مسنده وكان له شيخ فقير إذا دخل اليه يقوم له ويجلسه في مكانه ويجلس بين يديه. فقيل له في ذلك فقال: ان أولئك إذا دخلوا عليّ يثنون عليّ بما ليس في   [1-) ] فلذلك ر فاقد لك وفامدّ لك. [2-) ] قدت ر قرّت. [3-) ] اهمني ر دهمني. [4-) ] ويروى: باجر. ويروى: باخر. ابن العبري- 13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فيزيدني كلامهم عجبا وتيها. وهذا يذكرني عيوب نفسي وما انا فيه من الظلم فتنكسر نفسي لذلك فأرجع عن كثير مما انا فيه. وكان مجلسه عامرا بالعلماء واهل الخير والصلاح. واكثر الشعراء مراثيه فمن جيّد ما قيل قول شبل الدولة: كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة [1] صاغها الرحمن من شرف بدت [2] فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردّها غيرة منه الى الصدف ثم سار السلطان ملكشاه بعد قتل نظام الملك الى بغداد ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان. واتفق ان خرج الى الصيد وعاد ثالث شوّال مريضا وكان سبب مرضه انه أكل لحم صيد فحمّ فافتصد ولم يستوف إخراج الدم فثقل في مرضه وكانت حمّى محرقة فتوفي ليلة الجمعة النصف من شوال فسترت زوجته تركان خاتون موته وكتمته وسارت من بغداد والسلطان معها محمولا وبذلت الأموال للامراء واستحلفتهم لابنها محمود وكان تاج الملك وزيرها يتولّى ذلك لها وأرسلت الى الخليفة المقتدي في الخطبة فأجابها وخطب لمحمود وعمره اربع سنين [3] . وسارت تركان خاتون من بغداد الى أصفهان وبها بركيارق [4] وهو اكبر أولاد السلطان فخرج منها هو ومن معه من الأمراء النظامية وساروا نحو الريّ. فسيّرت خاتون العساكر الى قتال بركيارق فانحاز جماعة منهم الى بركيارق فقوي بهم وعاد الى أصفهان وحاصرها. وكان تاج الملك مع عسكر خاتون فأخذ وحمل الى بركيارق فهجم النظامية عليه فقتلوه. وكان كثير الفضائل جمّ المناقب وانما غطّى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك. وفي سنة سبع وثمانين قدم بركيارق بغداد وخطب له بالسلطنة ولقّب ركن الدين. وفي سنة سبع وثمانين واربعمائة خامس عشر محرّم توفي الامام المقتدي بأمر الله فجأة وكان قد احضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلّم فيه فقرأه وتدبره وعلّم فيه. ثم قدّم اليه طعام فأكل منه وغسل يديه وعنده قهرمانته شمس النهار. فقال لها: ما هذه الأشخاص التي دخلت عليّ بغير اذن. (قالت) فالتفتّ فلم ار شيئا ورأيته قد تغيّرت حالته وانحلّت قوته وسقط الى الأرض ميتا. وقلت لجارية عندي: ان صحت قتلتك. وأحضرت الوزير فأعلمته الحال. فشرعوا في البيعة لوليّ العهد وجهّزوا المقتدي ودفنوه وكان عمره ثمانيا وثلثين سنة وثمانية   [1-) ] ويروى: ثمينة. وروى ابن خلكان: نفيسة. [2-) ] ويروى: عزت. [3-) ] ولقب ناصر الدنيا والدين. [4-) ] ويروى: تركيارق س تركيارق وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أشهر وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر [1] وامّه امّ ولد ارمنيّة تسمّى أرجوان أدركت خلافته وخلافة ابنه المستظهر وخلافة ابن ابنه المسترشد. وفي سنة ثلث وسبعين واربعمائة مات يحيى بن عيسى بن جزلة الطبيب البغداديّ وكان رجلا نصرانيا قد قرأ الطبّ على نصارى الكرخ [2] الذين كانوا في زمانه وأراد قراءة المنطق فلم يكن في النصارى المذكورين في ذلك الوقت من يقوم بهذا الشأن وذكر له ابو عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة في ذلك الوقت ووصف بانه عالم بعلم [3] الكلام ومعرفة الألفاظ المنطقية فلازمه لقراءة المنطق. فلم يزل ابن الوليد يحسّن له الإسلام حتى استجاب وأسلم فسرّ بإسلامه ابو عبد الله الدامغاني قاضي القضاة يومئذ وقرّبه وأدناه ورفع محلّه بان استخدمه في كتابة السجلّات بين يديه وكان مع اشتغاله بذلك يطبّ اهل محلّته وسائر معارفه بغير اجرة ولا جعالة بل احتسابا [4] ومروءة ويحمل إليهم الادوية بغير عوض. ولما مرض مرض موته وقف كتبه لمشهد الامام ابي حنيفة. ومن مشاهير تصانيفه كتاب المنهاج وكتاب تقويم الأبدان مجدول. (المستظهر بن المقتدي) لما توفي المقتدي بأمر الله أحضر ولده ابو العباس احمد فبويع له ولقب المستظهر بالله وذلك في سنة سبع [5] وثمانين واربعمائة. (وفيها قتل السلطان بركيارق عمّه تكش وغرّقه وقتل ولده معه) [6] . وفي سنة ثمان [7] وثمانين قتل تتش [8] ابن ألب ارسلان واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق. وفيها في ذي الحجة توفي المستنصر بالله بن الظاهر لاعزاز دين الله العلويّ صاحب مصر والشام وكانت خلافته ستين سنة وعمره سبعا وستين سنة وولي بعده ابنه ابو القاسم احمد ولقّب المستعلي بالله [9] . وفي   [1-) ] ويروى في كتابي الكامل والدولة الاتابكية لابن الأثير: خمسة أشهر س خمسة أشهر. [2-) ] ويروى الكرج. [3-) ] ويروى بسلّم الكلام. [4-) ] ويروى إحسانا. [5-) ] سبع ر ثماني. [6-) ] ما طوقناه بهلالين نظنه زيادة من النساخ لان عم بركيارق هو تتش. [7-) ] وفي سنة ثمان وثمانين ر وفيها. [8-) ] تتش ر بقش. [9-) ] كان المستنصر قد عهد بالخلافة لابنه نزار فخلعه الأفضل وبايع المستعلي بالله فهرب نزار الى الاسكندرية فبايعه اهل الاسكندرية وسموه المصطفى لدين الله فخطب الناس ولعن الأفضل فسار اليه الأفضل فحصره وتسلم المستعلي نزارا فبنى عليه حائطا فمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 سنة تسع وثمانين حكم المنجمون بطوفان يكون في الناس يقارب طوفان نوح. فأحضر الخليفة ابن عيسون المنجم فسأله. فقال: ان في طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت والآن فقد اجتمع ستة منها وليس فيها زحل فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح ولكن أقول ان مدينة او بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة فيغرقون. فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها من البلاد فأحكمت المسنّيات والمواضع التي يخشى منها الانفجار. فاتفق ان الحجّاج نزلوا في وادي المناقب فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم ونجا من تعلّق بالجبال وذهب المال والدوابّ والأزواد. فخلع الخليفة على المنجم. وفي سنة تسعين واربعمائة قتل ملك خراسان ارسلان ارغون بن ألب ارسلان أخو السلطان ملكشاه قتله غلام له. فقيل له: لم فعلت هذا. فقال: لا ريح الناس من ظلمه. ثم ملك بركيارق خراسان وسلمها الى أخيه الملك سنجر. وفي سنة احدى وتسعين جمع بردويل ملك الافرنج [1] جمعا كثيرا وخرج الى بلاد الشام وملك انطاكية. وكان الافرنج قبل هذا قد ملكوا مدينة طليطلة من بلاد الأندلس وغيرها ثم قصدوا جزيرة سقليّة فملكوها وتطرقوا الى أطراف افريقية فملكوا منها شيئا. فلما سمع قوام الدولة كربوقا [2] بحال الافرنج وملكهم انطاكية جمع العساكر وسار الى الشام ونزل على انطاكية وحاصرها وفيها من الملوك بردويل وسنجال وكندفري والقومص صاحب الرها وبيموند صاحب انطاكية. وقلّت الأقوات عندهم فأرسلوا الى كربوقا يطلبون منه الامان ليخرجوا من البلد فلم يعطهم وقال: لا تخرجون الا بالسيف. وكان مع الافرنج راهب مطاع فيهم وكان داهية من الرجال فقال لهم: ان فطروس السليح كان له عكازة ذات زجّ مدفونة بكنيسة القسيان [3] فان وجدتموها فإنكم تظفرون والا فالهلاك متحقق. وأمرهم بالصوم والتوبة ففعلوا ذلك ثلثة ايام. فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم ومعهم عامّتهم وحفروا عليها في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر. فقال لهم: أبشروا بالظفر. فقويت عزيمتهم وخرجوا اليوم الخامس من الباب متفرّقين من خمسة وستة ونحو ذلك. فقال المسلمون لكربوقا [2] : ينبغي ان تقف على الباب فتقتل كلّ من خرج. فقال: لا تفعلوا لكن امهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. فلما تكاملوا ولم يبق بأنطاكية احد منهم ضربوا مصافّا عظيما فولّى المسلمون منهزمون وآخر من انهزم   [1-) ] لم يكن ملك الفرنج بل من امرائهم والذي أوهم المؤلف هو انه ملك على أورشليم. [2-) ] كربوقا ر كدبوقا. [3-) ] هي الحربة التي طعن بها جنب المسيح وكانت مدفونة في كنيسة القديس بطرس الرسول بالقرب من المذبح. وقد روى هذا الخبر ثقات من المؤرخين كريموند دي اجيل وكان ممن شهدوا المعجزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 سقمان [1] بن ارتق فقتل الافرنج منهم الوفا وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والدواب والاسلحة فصلحت حالهم وعادت إليهم قوّتهم وساروا الى معرّة النعمان فملكوها. وفي سنة اثنتين وتسعين واربعمائة لما رأى المصريّون ضعف الأتراك صاروا الى البيت المقدس وحصروه وبه الأمير سقمان وايلغازي ابنا ارتق التركماني وابن عمهما سونج ونصبوا عليه نيّفا وأربعين منجنيقا وملكوه [2] بالأمان وخرج عنه سقمان وأصحابه واستناب المصريّون فيه رجلا يعرف بافتخار الدولة. فقصده الافرنج ونصبوا عليه برجين وملكوه من الجانب الشمالي وركب الناس السيف ولبث الافرنج في البلد أسبوعا يقتلون فيه المسلمين. وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا [3] وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء. وفي سنة ثلث وتسعين جرى حرب بين السلطان بركيارق وبين أخيه السلطان محمد وانهزم بركيارق وتنقّل في البلاد الى أصفهان. ولم يدخلها وسار الى خوزستان. وفي سنة اربع وتسعين كان المصاف الثاني بينهما وكان مع بركيارق خمسون ألفا ومع أخيه محمد خمسة عشر ألفا فالتقوا واقتتلوا فانهزم السلطان محمد وسار طالبا خراسان الى أخيه الملك سنجر وهما لامّ واحدة فأقام بجرجان وأتاه الملك سنجر في عساكره الى الدامغان وخرب العسكر البلاد وعمّ الغلاء تلك الأصقاع حتى أكل الناس بعضهم بعضا بعد فراغهم من أكل الميتة والكلاب. وفي سنة خمس وتسعين توفي المستعلي بالله الخليفة العلويّ المصريّ وكانت خلافته سبع سنين [4] وولي بعده ابنه ابو عليّ المنصور وعمره خمس سنين ولقّب الآمر بأحكام الله ولم يقدر يركب وحده على الفرس الصغر سنّه وقام بتدبير دولته الأفضل [5] بن امير الجيوش احسن قيام. وفي سنة سبع وتسعين وقع الصلح بين السلطانين بركيارق وأخيه محمد ابني ملكشاه وتقرّرت القاعدة ان بركيارق لا يعترض أخاه محمدا في الطبل وان لا يذكر معه على منابر البلاد التي صارت له وهي ديار بكر والجزيرة والموصل والشام. وفي سنة ثماني وتسعين توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه وكان قد مرض باصفهان بالسلّ والبواسير فلما ايس من نفسه خلع على ولده ملكشاه وعمره حينئذ اربع سنين وثمانية أشهر واحضر جماعة الأمراء وأعلمهم   [1-) ] يقال سقمان وسكمان. كربوقا وكربوغا. [2-) ] تملك المصريون على البيت المقدس سنة تسع وثمانين واربعمائة ثلاث سنين قبل تملك الفرنج عليه. [3-) ] هذا غلو فلا يدخل تحت التصديق وان غد فريد تسارع الى كف الجيش عن القتل. [4-) ] وكان مولده سنة سبع وستين واربعمائة. [5-) ] ويروى الايصل وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 انه قد جعل ابنه وليّ عهده في السلطنة وجعل الأمير أياز اتابكه [1] فأجابوه كلهم بالسمع والطاعة وخطب لملكشاه بالجوامع ببغداد. وفي سنة تسع وتسعين [2] واربعمائة سار السلطان محمد من اذربيجان الى الموصل ليأخذها من جكرميش صاحبها وحصرها. فقاتل اهل البلد اشدّ قتال وكانت الرجالة تخرج ويكثرون القتل في العسكر ودام القتال من صفر الى جمادى الاولى. فوصل الخبر الى جكرميش بوفاة السلطان بركيارق فأرسل الى محمد يبذل له الطاعة. ودخل اليه وزير محمد وقال له: المصلحة ان تحضر الساعة عند السلطان فانه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه منه. وأخذ بيده وقام فسار معه جكرميش فلما رآه اهل الموصل قد توجّه الى السلطان جعلوا يبكون ويضجّون ويحثون التراب على رؤوسهم. فلما دخل على السلطان محمد اقبل عليه وأكرمه وعانقه ولم يمكنه من الجلوس وقال: ارجع الى رعيتك فان قلوبهم إليك وهم متطلعون الى عودتك. فقبّل الأرض وعاد وعمل من الغد سماطا بظاهر الموصل عظيما وحمل الى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار. وفي سنة خمسمائة سار الجاولي سقاوو الى الموصل محاربا في ألف فارس وخرج اليه جكرميش صاحبها في الفي فارس. فلما اصطفوا للحرب حمل الجاولي من القلب على قلب جكرميش فانهزم من فيه وبقي جكرميش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان به فهو لا يقدر يركب وانما يحمل في محفّة فأسر وأحضر عند الجاولي فأمر بحفظه وحراسته. ولما وصل الخبر الى الموصل اقعدوا في الأمر زنكي بن جكرميش. ثم ان الجاولي حصر الموصل وامر ان يحمل جكرميش كل يوم على بغل وينادى أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه ويأمرهم هو بذلك فلا يسمعون منه وكان يسجنه في جبّ فأخرج يوما ميتا [3] . فكتب أصحابه الى الملك قلج ارسلان بن سليمان بن قتلميش السلجوقي صاحب مدينة قونية واقسرة يستدعونه إليهم ليسلموا البلد اليه. فسار في عساكره. فلما سمع جاولي بوصوله رحل عن الموصل فتوجه قلج ارسلان الى الموصل وملكها ونزل بالمغرقة [4] وخرج اليه زنكي ولد جكرميش   [1-) ] أتابك مركبة من بك وهي معروفة واتا ومعناها اب. كان هذا اللقب أولا يعطى لمن يفوضه السلطان تربية احد أولاده الصغار. وكان الاتابك يدبر باسم الولد المدينة التي كانت العادة ان يوليها السلطان لابنه. ثم توسعوا في معنى هذا القلب ومنحوه لاول المتوظفين لأمير الجيوش. ثم صار السلطان يعطيه للعظماء كلقب شرف. [2-) ] ويروى هذا الخبر في الكامل لسنة ثمان وتسعين. [3-) ] كان عمره نحو ستين سنة. [4-) ] ويروى في الكامل: بالمعروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وأصحابه وخلع عليهم وجلس على التخت وأسقط خطبة السلطان محمد وخطب لنفسه واحسن الى العسكر ورفع الرسوم المحدثة في الظلم ثم سار عنها الى جاولي وهو بالرحبة والتقيا على نهر الخابور فهزم اصحاب جاولي اصحاب قلج ارسلان وألقى قلج ارسلان نفسه في الخابور وحمى نفسه من اصحاب جاولي بالنشاب فانحدر به الفرس الى ماء عميق فغرق. وظهر بعد ايام فدفن بالشمسانية. وسار جاولي الى الموصل وملكها. وفي سنة اثنتين وخمسمائة استولى مودود وعسكر السلطان محمد على الموصل وأخذوها من اصحاب جاولي. وفي سنة ثلث وخمسمائة سار تنكري الفرنجي صاحب انطاكية الى الثغور الشامية فملك طرسوس واذنة ونزل على حصن الأكراد فسلّمه اهله اليه. وملك الفرنج مدينة بيروت وكانت بيدّ نوّاب الخليفة العلوي. وفي سنة ستّ في المحرّم سار الأمير مودود صاحب الموصل الى الرها فنزل عليها ورعى عسكره زروعها ورحل عنها الى سروج وفعل بها كذلك ولم يحترز من الفرنج بل اهملهم فلم يشعر الا وجوسلين صاحب تلّ باشر قد دهمهم وكبسهم وكانت دوابّ العسكر منتشرة في المرعى فأخذ كثيرا منها وقتل كثيرا من العسكر وعاد الى تلّ باشر. وفيها مات باسيل الارمني صاحب دروب بلاد ابن لاون وهو المسمّى كوغ باسيل اي اللص باسيل لأنه سرق عدّة قلاع من الثغور فتملكها الأرمن الى الآن. وفي سنة سبع وخمسمائة اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التون تكش [1] صاحب الموصل ودخلوا بلاد الفرنج والتقوا عند طبرية واشتدّ القتال وصبر الفريقان. ثم ان الفرنج انهزموا فأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع. ودخل دمشق ليقيم بها عند طغدكين [2] صاحبها الى الربيع فدخل الجامع ليصلّي فيه فوثب عليه باطنيّ كأنه يدعو له ويتصدّق منه فضربه بسكين فجرحه اربع جراحات فمات من يومه. وقتل الباطنيّ وأخذ رأسه فلم يعرفه احد فأحرق. وفي سنة احدى عشرة في ذي الحجة مرض السلطان محمد بن ملكشاه ابن ألب ارسلان فلما أيس من نفسه احضر ولده محمودا وقبّله وبكى كل واحد منهما وامره ان يخرج ويجلس على تخت السلطنة وعمره إذ ذاك قد زاد على اربع عشرة سنة. فقال لوالده انه يوم غير مبارك يعني من طريق النجوم. فقال: صدقت ولكن على أبيك واما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين. وكان   [1-) ] س التونطاش. [2-) ] ويروى طغتكين. ويروى: طغركين بالراء بدل الدال وهو تصحيف.- س ظغتكين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 السلطان محمد عظيم الهيبة عادلا حسن السيرة شجاعا [1] . وفي سنة اثنتي عشرة وخمسمائة سادس عشر ربيع الآخر توفي الامام المستظهر بالله وكان عمره احدى وأربعين [2] سنة وستة أشهر وخلافته أربعا وعشرين سنة. ومضى في أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم تاج الدولة تتش بن ألب ارسلان والسلطان بركيارق والسلطان محمد ابنا ملكشاه. قال ابو الصلت أميّة المغربي: لما دخلت الى مصر في حدود سنة عشر وخمسمائة أدركت بها طبيبا انطاكيا يسمّى جرجيس ويلقّب بالفيلسوف على نحو ما قيل للغراب ابو البيضاء وللّديغ سليم. وقد تفرّغ للتولّع بأبي الخير سلامة بن رحمون اليهودي الطبيب المصري والإزراء عليه وكان يزوّر فصولا طبيّة وفلسفية يبرزها في معارض ألفاظ القوم وهي محال لا معنى لها فارغة لا فائدة فيها ثم ينفذها الى من يسأله عن معانيها ويستوضحه أغراضها فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظ ولا تحفظ باسترسال واستعجال وقلّة اكتراث وإهمال فيوجد فيها عنه ما يضحك منه. (قال) وأنشدت لجرجيس هذا في ابي الخير سلامة بن رحمون وهو من احسن ما سمعت في هجو طبيب مشؤوم: ان أبا الخير على جهله ... يخفّ في كفّته الفاضل عليله المسكين من شؤمه ... في بحر هلك ما له ساحل ثلثة تدخل في دفعة ... طلعته والنعش والغاسل (قال) وكان ابو الخير هذا يهوديا مصريا قد نصب نفسه لتدريس كتب المنطق جميعها وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والالهية وشرح بزعمه وفسّر ولخّص ولم يكن في تحصيله وتحقيقه هنالك بل كان يكثر كلامه فيضلّ. ويسرع جوابه فيزلّ. وكان مثله في عظيم ادعائه وقصوره عن أيسر ما هو متعاطيه كقول الشاعر: يشمّر للج عن ساقه ... ويغمره الموج في الساحل (قال) ورأيت بمصر ايضا رزق الله المنجم المعروف بالنخاس [3] وكان شيخ اكثر المنجمين بمصر وكبيرهم وكان شيخا مطبوعا متطايبا. ومن حكاياته الظريفة عن نفسه   [1-) ] كان عمره سبعا (وروى ابو الفداء ستا) وثلاثين سنة واربعة أشهر. وأول ما دعي له بالسلطنة ببغداد سنة اثنتين وتسعين وقطعت خطبته عدة دفعات. فلما توفي اخوه بركيارق اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة. [2-) ] س خمسا وعشرين سنة وخمسة أشهر. [3-) ] بالنخاس ر بالنخاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قال: سألتني امرأة مصرية ان انظر لها في مسئلة تخصّها. فأخذت ارتفاع الشمس للوقت وحققت درجة الطالع والبيوت الاثني عشر ومراكز الكواكب ورسمت ذلك كلّه بين يديّ في تخت الحساب وجعلت اتكلّم على بيت بيت منها على العادة وهي ساكتة فوجمت لذلك وادركتني فترة وكانت قد القت اليّ درهما. (قال) فعاودت الكلام وقلت: ارى عليك قطعا [1] في بيت المال فاحتفظي واحترسي. قالت: الآن أصبت وصدقت قد كان والله ما ذكرت. قلت: وهل ضاع لك شيء. قالت: نعم الدرهم الذي ألقيت إليك. وتركتني وانصرفت. ولما ذكر ابو الصلت منجمي مصر وعابهم قال: لا تتعلق أمثلتهم من علم النجوم بأكثر من زايجة يرسمها ومراكز يقومها واما التبحّر ومعرفة الأسباب والعلل والمبادي الاول فليس منهم من يرقى الى هذه الدرجة ويسمو الى هذه المنزلة ويحلّق في هذا الجوّ ويستضيء بهذا الضوء ما خلا القاضي أبا الحسن عليّ ابن النصير المعروف بالاديب فانه كان من الأفاضل الأعيان المعدودين من حسنات الزمان وله في سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى والمرتبة الاولى. (المسترشد بن المستظهر) لما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله ابو منصور وذلك في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة فكان وليّ عهد قد خطب له ثلثا وعشرين سنة. وفيها توفي بغدوين ملك القدس وكان قد سار الى ديار مصر في جمع من الفرنج قاصدا ملكها وبلغ مقابل تنيس [2] وسبح في النيل فانتقض جرح كان به فلما احسّ بالموت عاد الى القدس فمات به [3] ووصى ببلاده للقمص [4] صاحب الرها وهو الذي كان اسره جكرميش وأطلقه سقاوو جاولي. وفي سنة ثلث عشرة وخمسمائة كانت حرب شديدة بين السلطان سنجر وابن أخيه السلطان محمود. وفي سنة اربع عشرة خرج الكرج وهم الخزر [5] الى بلاد الإسلام ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم فاجتمع الأمير ايلغازي ودبيس بن صدقة والملك طغرل وكان له ارّان ونخجوان وساروا الى الكرج   [1-) ] قطعا ر قطوعا. المال ر مالك. [2-) ] تنيس ر بلبيس. [3-) ] ان بغدوين توفي وهو في الطريق الى البيت المقدس فحمل اليه ميتا. [4-) ] للقمص ر القمص. [5-) ] ليس هذا بثبت وما من علاقة بين الكرج والخزر. الكرج هم جيل من الناس نصارى كانوا يسكنون في جبال القبق وبلد السرير وقويت شوكتهم حتى ملكوا مدينة تفليس. قال المسعودي: ويقال لملكهم برزينان. والخزر بلادهم خلف باب الأبواب المعروف بالدربند على السواحل الشمالية الغربية من بحر الخزر المعروف في زماننا ببحر قزوين وملكهم يقال له خاقان وكان له مدينة عظيمة تسمى إتل على جانبي نهر إتل Volga وهذا النهر يجري الى الخزر من الروس والبلغار ويصب في بحر الخزر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 حتى قاربوا تفليس وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلثين ألفا فالتقوا واصطف الطائفتان للقتال فخرج من القفجاق مائتا رجل فظنّ المسلمون انهم مستأمنون فلم يحترزوا منهم. فدخلوا بينهم ورموا بالنشاب فاضطرب جيش صفّ المسلمين وظنّ من وراءهم انها هزيمة فانهزموا ولشدّة الزحام صدم بعضهم بعضا فقتل منهم عالم عظيم وتبعهم الكرج عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون فقتل أكثرهم وأسر اربعة آلاف رجل ونجا الملك طغرل وايلغازي ودبيس. وعاد الكرج وحاصروا مدينة تفليس واشتدّ قتالهم لمن بها وعظم الأمر وتفاقم الخطب على أهلها ودام الحصار الى سنة خمس عشرة فملكوها عنوة. وفي سنة خمس عشرة عصى سليمان بن ايلغازي بن ارتق على أبيه بحلب وقد جاوز عمره عشرين سنة. فسمع والده الخبر فسار اليه مجدّا لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج اليه معتذرا فأمسك عنه وقبض على من كان أشار عليه بذلك منهم امير كان قد التقطه ارتق وربّاه اسمه ناصر فقلع عينيه وقطع لسانه. ومنهم انسان حمويّ كان قد قدّمه ايلغازي على اهل حلب وجعل اليه الرئاسة فجازاه عن ذلك فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فمات. واحضر ولده وهو سكران وأراد قتله فمنعه رقّة الوالد فاستبقاه فهرب الى دمشق. واستناب ايلغازي بحلب سليمان بن أخيه عبد الجبّار بن ارتق ولقّبه بدر الدولة وعاد الى ماردين. وفيها اقطع السلطان مدينة ميّافارقين للأمير ايلغازي ابن ارتق ومدينة الموصل والجزيرة وسنجار للأمير اقسنقر البرسقيّ. وفي سنة ستّ عشرة في شهر رمضان توفي الأمير ايلغازي بن ارتق بميّافارقين وملك ابنه حسام الدين [1] تمرتاش قلعة ماردين وملك ابنه سليمان ميّافارقين. وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبّار بن ارتق فبقي بها الى ان أخذها منه ابن عمه. وفي سنة سبع عشرة لما رأى بلك بن بهرام بن ارتق ضعف بدر الدولة سليمان ابن عمه عن حوط بلاده من الفرنج سار اليه الى حلب وضيّق على من بها فتسلمها بالأمان. وفي سنة ثماني عشرة سار بلك بن بهرام الى منبج وملكها وحصر القلعة فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهم فقتله واضطرب عسكره وتفرقوا وملك اقسنقر البرسقيّ حلب وقلعتها وملك الفرنج مدينة صور. وفي سنة عشرين وخمسمائة في ذي القعدة قتل قسيم الدولة اقسنقر البرسقي صاحب الموصل بمدينة الموصل قتله الباطنيّة يوم الجمعة بالجامع وملك ابنه عزّ الدين مسعود الموصل ولم يختلف عليه احد. قال المؤرّخ: ومن العجب ان صاحب انطاكية أرسل الى عزّ الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل ان يصل اليه الخبر وكان قد سمعه الفرنج قبل   [1-) ] الدين ر الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 لشدّة عنايتهم بمعرفة الأحوال الاسلاميّة. وفي سنة احدى وعشرين تولّى أتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر شحنكية بغداد أسندها اليه السلطان محمود. وفيها توفي عزّ الدين مسعود بن اقسنقر وتولّى اخوه عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها. وفي سنة اثنتين وعشرين ملك عماد الدين زنكي بن اقسنقر مدينة حلب وقلعتها وبعد سنة ملك مدينة حماة. وفي سنة اربع [1] وعشرين وخمسمائة ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله ابو عليّ بن المستعلي العلويّ صاحب مصر [2] خرج الى منتزه له فلما عاد وثب عليه الباطنيّة فقتلوه ولم يكن له ولد فولي بعده ابن عمّه ابو الميمون عبد المجيد بن ابي القاسم ابن المستنصر العلويّ صاحب مصر ولقّب الحافظ لدين الله ولم يبايع له بالخلافة وانما بويع له لينظر في الأمر نيابة حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون الخلافة فيه ويكون هو نائبا عنه [3] . وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين فنال الناس منها خوف شديد وأذى عظيم. وفي سنة خمس وعشرين في شوّال توفي السلطان محمود ابن السلطان محمد بهمذان وكان عمره نحو سبع وعشرين سنة وولايته ثلث عشرة سنة وكان حليما كريما عاقلا يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في اموال الرعايا عفيفا عنها كافّا لأصحابه عن التطرّق الى شيء منها. وملك ابنه داود بعده. وفي سنة ستّ وعشرين كاتب السلطان سنجر عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة وأمرهما بقصد العراق فسارا ونزلا بالمنارية من دجيل وعبر الخليفة المسترشد الى الجانب الغربي فنزل بالعبّاسيّة والتقى العسكران بحضرا [4] البرامكة فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة اقبال فانهزموا منه. وحمل نصر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس وحمل الخليفة بنفسه واشتدّ القتال فانهزم دبيس وعماد الدين وقتل من عسكرهما جماعة وأسر جماعة. وفي سنة سبع وعشرين أرسل المسترشد الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح [5] الاسفرايني الواعظ الى عماد الدين زنكي برسالة فيها خشونة وزادها ابو الفتوح زيادة في الجبة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة. فقبض عليه زنكي   [1-) ] اربع ر ثلاث. [2-) ] كانت ولايته تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعمره أربعا وثلاثين سنة. وهو ايضا العاشر من ولد المهدي عبيد الله الذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بافريقية. وهو ايضا العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي. [3-) ] ولما ولي استوزر أبا علي احمد بن الأفضل فاستبد بالأمر وتغلب على الحافظ وحجر عليه وادخله في خزانة وبقي الحافظ له اسم لا معنى تحته الى ان قتل ابو علي سنة ست وعشرين فاستقامت امور الحافظ. [4-) ] ويروى بحضران. ولعلها بحصن. [5-) ] الفتوح ر الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 واهانه ولقيه بما يكره. فسمع الخليفة فسار عن بغداد في ثلثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين ونازلها الخليفة في رمضان وقاتلها وضيّق عليها. فتواطأ جماعة من الجصّاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فصلبوا. وبقي الحصار على الموصل نحو ثلثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمّن بها وهن ولا قلّة ميرة وقوت فرحل عنها عائدا الى بغداد. وفي سنة ثماني وعشرين تقرّر الصلح بين الخليفة المسترشد وأتابك زنكي. وفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة سار الخليفة المسترشد الى حرب السلطان مسعود ومعه جماعة من أمراء الأكابر فواقعهم السلطان مسعود عاشر رمضان فانحازت ميسرة الخليفة مخامرة عليه الى السلطان واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالا ضعيفا ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتغير من مكانه وانهزم عسكره وأخذ أسيرا فأنزله السلطان مسعود في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من الخدمة وتردّدت الرسل بينهما بالصلح وتقرير القواعد على مال يؤديه الخليفة وان لا يعود يجمع العساكر ولا يخرج من داره وأجاب السلطان الى ذلك واركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق الا ان يعود الى بغداد فوصل الخبر بقدوم رسول من السلطان سنجر وخرج الناس والسلطان مسعود الى لقائه وفارق الخليفة بعض من كان موكلا به وكانت خيمته منفردة عن العسكر فقصده اربعة وعشرون رجلا من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة ومثّلوا به وجدعوا انفه وأذنيه وتركوه عريانا وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة وبقي حتى دفنه اهل مراغة وكان عمره لما قتل ثلثا وأربعين سنة وخلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر. (الرشيد بن المسترشد) لما قتل المسترشد بويع ولده ابو جعفر المنصور ولقّب الراشد بالله. وكان المسترشد بايع له بولاية العهد في حياته وجدّدت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين سلخ ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وفيها قتل دبيس بن صدقة صاحب الحلّة على باب سرادقه بظاهر خونج امر السلطان غلاما ارمنيا بقتله فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه فضرب رقبته وهو لا يدري. ومثل هذه الحادثة تقع كثيرا وهو قرب موت المتعاديين فان دبيسا كان يعادي المسترشد ويكره خلافته ولم يكن يعلم ان السلاطين انما كانوا يبقون عليه ليجعلوه عدّة لمقاومة المسترشد فلما زال السبب زال المسبّب. وفي سنة ثلثين وخمسمائة اجتمع الملوك واصحاب الأطراف ببغداد وخرجوا عن طاعة السلطان مسعود وسار الملك داود بن السلطان محمود في عسكر اذربيجان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الى بغداد ووصل أتابك عماد الدين زنكي بعده من الموصل وخطب للملك داود ببغداد. فلما بلغ السلطان الخبر جمع العساكر وسار الى بغداد وحصرها نيفا وخمسين يوما فلم يظفر بهم فعزم على العود الى همذان فوصله طرنطاي صاحب واسط ومعه سفن كثيرة فعاد إليها فاختلفت كلمة الأمراء المجتمعين ببغداد فعاد الملك داود الى بلاده وتفرّق الأمراء وكان عماد الدين زنكي بالجانب الغربي فعبر اليه الخليفة الراشد وسار معه الى الموصل في نفر يسير من أصحابه ودخل السلطان مسعود الى بغداد واستقرّ بها وجمع القضاة والشهود والفقهاء وعرض عليهم اليمين التي حلف بها الراشد له وفيها بخطّ يده: انني متى جنّدت او خرجت او لقيت أحدا من اصحاب السلطان مسعود بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر. فأفتوا وخلع وقطعت خطبته من بغداد وسائر البلاد وكانت خلافته احد عشر شهرا وثمانية عشر يوما. وفي سنة ثلثين وخمسمائة كان ابو عليّ المهندس المصريّ موجودا بمصر قيّما بعلم الهندسة وكان فاضلا فيه وفي الأدب وله شعر يلوح عليه الهندسة فمن شعره: تقسّم قلبي في محبة معشر ... بكل فتى منهم هواي منوط كأنّ فؤادي مركز وهم له ... محيط واهواي لديه خطوط وله ايضا: اقليذس العلم الذي هو يحتوي [1] ... ما في السماء معا وفي الآفاق هو سلّم وكأنما اشكاله ... درج الى العلياء للطرّاق تزكو فوائده على إنفاقه ... يا حبّذا زاك على الإنفاق ترقى به النفس الشريفة مرتقى ... أكرم بذاك المرتقي والراقي (المقتفي بن المستظهر) لما قطعت خطبة الراشد بالله تقدّم السلطان مسعود بعمل محضر يذكر فيه ما ارتكبه الراشد من أخذ الأموال وأشياء تقدح في الامامة ثم كتبوا فتوى: ما تقول العلماء في هذه صفته هل يصلح للامامة ام لا. فأفتوا أن من هذه صفته لا يصلح ان يكون إماما. فاستشار السلطان جماعة من اعيان بغداد فيمن يصلح ان يلي الخلافة فذكر الوزير محمد بن المستظهر ودينه وعقله ولين جانبه وعفته فأحضر المذكور وأجلس في الميمنة ودخل السلطان والوزير وتحالفا وقررّ الوزير القواعد بينهما   [1-) ] هو يحتوي. في احدى نسختي اكسفورد «يحوى به» وهو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وخرج السلطان من عنده وحضر الأمراء والقضاة والفقهاء وبايعوه ثاني عشر ذي الحجة سنة ثلثين وخمسمائة ولقّب المقتفي لأمر الله. وفي سنة احدى وثلثين فارق الراشد المخلوع أتابك زنكي من الموصل وسار الى همذان وبها الملك داود. وفيها رحل الى أصفهان. فلما كان آخر رمضان وثب عليه نفر من الخراسانيّة الذين كانوا في خدمته فقتلوه وهو يريد القيلولة وكان في أعقاب مرض قد برأ منه ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان وكان عمره أربعين سنة. وفي سنة اثنتين وثلثين وصل أتابك زنكي الى حماة وأرسل الى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب اليه امّه ليتزوجها واسمها زمرّد خاتون ابنة جاولي وهي التي بنت المدرسة بظاهر دمشق على نهر بردى. فتزوجها وتسلّم حمص مع قلعتها وانما حمله على التزوّج بها ما رآه من تحكمها في دمشق فظنّ انه يملك البلد بالاتصال إليها فلما تزوّجها خاب أمله ولم يحصل على شيء فأعرض عنها. وفيها ملك حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي صاحب ماردين قلعة الهتّاخ أخذها من بعض بني مروان وهو آخر من بقي منهم له ولاية. وفي سنة ثلث وثلثين ملك أتابك زنكي بن اقسنقر بعلبكّ. وفي سنة اربع ملك زنكي شهرزور وأعمالها. وفي سنة سبع وثلثين وخمسمائة توفي محمد بن دانشمند صاحب ملطية والثغر واستولى على بلاده الملك مسعود بن قلج ارسلان صاحب قونية وهو من السلجوقية. وفي سنة تسع وثلثين فتح أتابك عماد الدين زنكي مدينة الرها من الفرنج وحاصر قلعة البيرة وهي للفرنج بعد ملك الرها وهي من امنع الحصون وضيّق عليها وقارب ان يفتحها فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل فسار عنها. فخاف من بالبيرة من الفرنج ان يعود إليها فأرسلوا الى نجم الدين صاحب ماردين وسلّموها اليه فملكها المسلمون. وفي سنة أربعين وخمسمائة لخمس مضين من ربيع الآخر قتل أتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل والشام وهو يحاصر قلعة جعبر قتله جماعة من مماليكه ليلا غيلة وهربوا الى قلعة جعبر. فصاح من بها من أهلها الى العسكر يعلمونهم بقتله فأظهروا الفرح. فدخل أصحابه اليه فأدركوه وبه رمق وفاضت نفسه لوقته وكان قد زاد عمره على ستين سنة قد وخطه الشيب وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته عظيم السياسة وكانت الموصل قبل ان يملكها أكثرها خراب بحيث يقف الإنسان قريب محلّة الطبّالين ويرى الجامع العتيق والعرصة ودار السلطان ليس بين ذلك عمارة. وكان الإنسان لا يقدر على المشي في الجامع العتيق الا ومعه من يحميه وهو الآن في وسط العمارة. وكانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الموصل من اقلّ بلاد الله فاكهة فصارت في أيامه وما بعدها من اكثر البلاد فواكه ورياحين. ولما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده وكان حاضرا معه وسار الى حلب وملكها. وكان سيف الدين غازي اخوه بمدينة شهر زور وهي اقطاعه فأرسل اليه زين الدين عليّ كوجك نائب أبيه عماد الدين زنكي بالموصل يستدعيه الى الموصل فحضر واستقرّ ملك سيف الدين على البلاد وبقي اخوه نور الدين بحلب وهي له. وفي سنة اربع وأربعين وخمسمائة توفّي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل بها من مرض حادّ. فلما اشتدّ مرضه أرسل الى بغداد واستدعى أوحد الزمان أبا البركات فحضر عنده ورأى شدّة مرضه فعالجه فلم ينجع الدواء وتوفّي آخر جمادى الآخرة وكانت ولايته ثلث سنين. وولي امر الموصل والجزيرة بعده اخوه قطب الدين مودود. وكان اخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام وله حلب وحماة فسار الى سنجار وملكها ولم يحاققه اخوه قطب الدين ثم اصطلحا وأعاد نور الدين سنجار الى قطب الدين وتسلّم هو مدينة حمص والرحبة فبقي الشام له وديار الجزيرة لأخيه. وفيها غزا نور الدين محمود بن زنكي بلد الافرنج من ناحية انطاكية فاجتمعت الفرنج مع البرنس فلقيهم نور الدين واقتتلوا قتالا عظيما فانهزم الفرنج وقتل البرنس [1] . وملك بعده ابنه بيمند وهو طفل فتزوّجت امّه ببرنس [2] آخر ليدبّر البلد الى ان يكبر ابنها. وفيها توفّي الحافظ لدين الله عبد المجيد [3] وولي الخلافة بمصر ابنه الظافر بأمر الله ابو المنصور اسماعيل. وفي سنة ستّ وأربعين جمع نور الدين محمود عسكره وسار الى بلاد جوسلين الفرنجي وهي شمالي حلب. وكان جوسلين فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي فسار في عسكره نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير وكان في جملتهم سلاح دار نور الدين فأخذه جوسلين ومعه سلاح نور الدين فسيّره الى الملك مسعود بن قلج ارسلان صاحب قونية واقصرا [4] وقال له: هذا سلاح دار زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه.   [1-) ] هو ريموند الاول. [2-) ] ببرنس ر بابرنس. [3-) ] كانت خلافته عشرين سنة الّا خمسة أشهر وعمره نحوا من سبع وسبعين سنة ولم يزل في جميعها محكوما عليه يحكم عليه وزراؤه. [4-) ] اقصرا ويقال اقسرا واكسرا مدينة بالروم ذات قلعة كبيرة حصينة وهي على ثلاث مراحل من قونية قيل ان أصلها اق سراي ومعنى اق ابيض وسراي بمعناه المعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فلما علم نور الدين الحال عظم ذلك عليه واعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ ثأره واحضر جماعة من الأمراء التركمان وبذل لهم الرغائب ان هم ظفروا بجوسلين وسلّموه اليه لأنه علم عجزه عنه في القتال. فجعل التركمان عليه العيون. فخرج متصيدا فظفر به طائفة منهم وحملوه الى نور الدين أسيرا. فسار نور الدين الى قلاع جوسلين فملكها وهي عين تاب وعزاز [1] وقورس والراوندان وبرج الرصاص ودلوك ومرعش ونهر الجوز وغير ذلك من اعماله. وفي سنة سبع وأربعين توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان وكان عهده الى ملكشاه ابن أخيه السلطان محمود فخطب له الأمير خاصبك بالسلطنة ورتّب الأمور وقرّرها بين يديه. ثم قبض عليه وأرسل الى أخيه الملك محمد وهو بخوزستان يستدعيه وكان قصده ان يحضر عنده فيقبضه ويخطب لنفسه بالسلطنة. فسار اليه محمد فأجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة. ثم شعر محمد بخبث خاصبك فثاني يوم وصوله لما دخل اليه قتله ومعه زنكي الجاندار والقى رأسيهما وبقيا حتى أكلتهما الكلاب واستقرّ محمد في السلطنة. وفيها توفي حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميّافارقين وكانت ولايته نيّفا وثلثين سنة وولي بعده ابنه نجم الدين البي. وفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان وكانت من جملة مملكة العلويّين المصريّين. وفي سنة تسع وأربعين في المحرّم قتل الظافر بن الحافظ العلوي صاحب مصر وولي ابنه الفائز بنصر الله ثاني يوم قتل أبوه وله من العمر خمس سنين فحمله الوزير عبّاس على كتفه وأجلسه على التخت سرير [2] الملك. وفيها في صفر ملك نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر مدينة دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين ابق بن محمد بن بوري [3] بن طغدكين أتابك. وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في رجب كان بالشام زلازل كثيرة قويّة خرّبت كثيرا من البلاد فخرب منها حمص وحماة وشيزر وكفرطاب والمعرّة وافامية وحصن الأكراد وعرقة واللاذقيّة وطرابلس وانطاكية. واما كثيرة القتلى فيكفي فيها ان معلما كان بمدينة حماة وذكر انه فارق المكتب لمهمّ عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد وسقط المكتب على الصبيان جميعهم. (قال المعلم) فلم يأت احد يسأل عن صبيّ كان له.   [1-) ] عزاز (وربما قبلت الالف في أولها) بليدة فيها قلعة شمالي حلب بينهما يوم واحد. [2-) ] على التخت سرير على سرير. [3-) ] بوري ر بوزى س [؟] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وفيها في ربيع الاوّل توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن ألب ارسلان اصابه قولنج ثم بعده اسهال [1] . وفي سنة اربع وخمسين ثامن ربيع الآخر كثرت الزيادة في دجلة وخرج القورج فوق بغداد فامتلأت الصحارى وخندق البلد ووقع بعض السور فغرق بعض القطيعة وباب الأزج والمأمونية ودبّ الماء تحت الأرض الى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون الى الجانب الغربي فبلغت المعبرة عدّة دنانير ولم يكن يقدر عليها. ثم نقص الماء فكثر الخراب وبقيت المحالّ لا تعرف وانما هي تلول فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين. وفيها في ذي الحجة توفّي السلطان محمد بن محمود بن محمد ابن ملكشاه وملك عمّه سليمان شاه بن محمد. وفي سنة خمس وخمسين وخمسمائة ثاني ربيع الاوّل توفّي الخليفة المقتفي لأمر الله وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وعمره ستا وستين سنة. وهو اوّل من استبدّ بالعراق منفردا عن سلطان وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء ومن عهد المستنصر [2] الى الآن. كان في وسط المائة السادسة من الأطباء المشار إليهم في الآفاق ثلثة أفاضل معا من ثلث ملل كل منهم هبة الله اسما ومعنى من النصارى واليهود والمسلمين هبة الله ابن صاعد بن التلميذ وهبة الله بن ملكا ابو البركات أوحد الزمان وهبة الله بن الحسين الاصفهاني. اما ابن التلميذ الطبيب النصراني البغدادي ففاضل زمانه وعالم أوانه خدم الخلفاء من بني العباس وتقدّم في خدمتهم وارتفعت مكانته لديهم وكان موفقا في المباشرة والمعالجة عالما بقوانين هذه الصناعة عمّر طويلا وعاش نبيلا جليلا وكان شيخا بهيّ المنظر حسن الرواء عذب المجتنى والمجتبى لطيف الروح ظريف الشخص بعيد الهمّ عالي الهمّة ذكيّ الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي. وله في نظم الشعر كلمات راقية رائقة شافية شائقة تعرب عن لطافة طبعه. ومن شعره: كانت بلهنية الشبيبة سكرة ... فصحوت واستأنفت سيرة محمل وقعدت ارتقب الفناء كراكب ... عرف المحلّ فبات دون المنزل وكان ابو الحسن بن التلميذ يحضر عند المقتفي كل أسبوع مرّة فيجلسه لكبر سنّة. وتوفّي في صفر سنة ستين وخمسمائة وقد قارب المائة وذهنه بحاله. وسأله ابنه قبل ان   [1-) ] كان مولده سنة تسع وسبعين واربعمائة وخطب له على اكثر منابر الإسلام بالسلطنة نحو أربعين سنة وكان قبلها يخاطب بالملك عشرين سنة. [2-) ] كذا في الأصل. ولعل الصواب المنتصر. ابن العبري- 14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يموت بساعة: ما تشتهي. قال: ان اشتهي. واما هبة الله بن ملكا ابو البركات اليهوديّ في اكثر عمره المسلم في آخر امره فكان طبيبا فاضلا عالما بعلوم الأوائل وكان حسن العبارة لطيف الاشارة صنّف كتابا سمّاه المعتبر أخلاه من النوع الرياضيّ وأتى فيه بالمنطق والطبيعيّ والالهيّ فجاءت عبارته فصيحة ومقاصده في ذلك الطريق صحيحة. ولما مرض احد السلاطين السلجوقية استدعاه من بغداد فتوجه نحوه ولاطفه الى ان برأ وأعطاه العطايا الجمّة من الأموال والمراكب والملابس والتحف وعاد الى العراق على غاية ما يكون من التجمّل والغنى. وسمع ان ابن أفلح قد هجاه بقوله: لنا طبيب يهوديّ حماقته ... إذا تكلّم تبدو فيه من فيه يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه ولما سمع ذلك علم انه لا يبجّل بالنعمة التي أنعمت عليه الّا بالإسلام فقوي عزمه على ذلك. وتحقق ان له بنات كبارا وانهنّ لا يدخلن معه في الإسلام وانه متى مات لا يرثنه فتضرّع الى الخليفة في الانعام عليهنّ من مال يخلفه وان كنّ على دينهنّ فوقّع له بذلك. ولما تحققه اظهر إسلامه وجلس للتعليم والمعالجة ولم يزل سعيدا الى ان قلب له الدهر ظهر المجنّ. ووضع من شأنه بعد ان اسنّ. فأدركته اعلال قصّر عن معاناتها طبّه. واستولت عليه الآلام ممّا لم يطق حملها جسمه ولا قلبه. وذلك انه عمي وطرش وبرص وجذم. فنعوذ بالله من استحالة الأحوال وضيق المحال وسوء المآل. ولما احسّ بالموت اوصى الى من يتولاه ان يكتب على قبره ما مثاله: هذا قبر أوحد الزمان ابي البركات ذي العبر صاحب المعتبر. وفي كبر ابي البركات أوحد الزمان فتواضع أمين الدولة بن التلميذ يقول البديع هبة الله الاصطرلابيّ. ابو الحسن الطبيب ومقتفيه ... ابو البركات في طرفي نقيض فذاك من التواضع في الثريّا ... وهذا بالتكبّر في الحضيض واما هبة الله بن الحسين بن عليّ الحكيم الطبيب الاصفهانيّ فكان من محاسن الدهر وأفاضل العصر وفيه قيل ان عند طبّه لا يشترى بقراط بقيراط ولا يستقيم سقراط على الصراط ولحق حق ابن بطلان بالبطلان. وتوفّي سنة نيّف وثلثين [1] وخمسمائة بسكتة اصابته ودفن في سرداب داره وهو مسكت فلما فتح بابه بعد أشهر لينقل وجد جالسا عند الدرجة وهو ميت. وله شعر حلو منه ما قاله يصف حمّاما في دار صديق له:   [1-) ] سنة نيف وثلاثين ر سنة ثلاثين إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ودخلت جنّته وزرت جحيمه ... وشكرت رضوانا ورأفة مالك والبشر في وجه الغلام نتيجه ... لمقدّمات ضياء وجه المالك وفي الأيام المقتفية دخل ابو الحكم المغربيّ الاندلسيّ الحكيم المرسيّ [1] العراق وهو مجهول لا يعرف ورأى في بعض تطوافه بأزقّة بغداد رجلا جالسا على باب دار يشعر بالرئاسة لساكنها وبين يديه شاب يقرأ عليه شيئا من كتاب اوقليذس فقرب منهما ابو الحكم [2] ليسمع فإذا المعلّم يهذي ما لا يعلم فردّ عليه خطأه وبيّن غلطه. وعلم الشاب الحقيقة في الردّ فاستوقف أبا الحكم الى ان يعود ودخل الدار وخرج يستدعي أبا الحكم دون المعلم فدخل الى دار سريّة فلقي والد الشاب وهو احد أمراء الدولة فأحسن ملتقاه ثم سأله ملازمة ولده فأجاب. فاشتهر ذكر ابي الحكم فتطلبه الطلبة وارتفع قدره. وكان كثير الهزل والمزاح. شديد المجون والارتياح. ثم كره العراق وفارق على نيّة قصد المغرب. فلما حلّ بظاهر دمشق سيّر غلاما له ليبتاع منها ما يأكلانه في يومهما واصحبه نزرا يكفي رجلين. فعاد الغلام ومعه شواء وفاكهة وحلواء وفقّاع وثلج. فنظر ابو الحكم الى ما جاء به وقال له عند استكثاره: أوجدت أحدا من معارفنا. فقال: لا وانما ابتعت هذا بما كان معي وبقيت منه هذه البقيّة. فقال ابو الحكم: هذا بلد لا يحلّ لذي عقل ان يتعدّاه. ودخل وارتاد منزلا وسكنه وفتح دكان عطار يبيع به المعطر ويطبّ وأقام على ذلك الى ان اتى اجله. (المستنجد بن المقتفي) لما اشتدّ مرض المقتفي وكان وليّ عهده ابنه يوسف وكانت للمقتفي حظيّة هي أمّ ولده ابي عليّ فأرادت الخلافة لابنها وأحضرت عدّة من الجواري واعطتهنّ السكاكين وأمرتهنّ بقتل وليّ العهد يوسف إذا دخل على والده. وكان ليوسف خصيّ صغير يرسله كل وقت يتعرّف اخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين فعاد الى يوسف وأخبره فاستدعى أستاذ الدار وأخذه معه وجماعة من الفرّاشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف. فلما دخل ثار به الجواري فضرب واحدة منهنّ فجرحها وكذلك اخرى وصاح فدخل أستاذ الدار ومعه الفرّاشون فهرب الجواري وأخذه أخاه أبا عليّ وأمّه فسجنهما وأخذ الجواري وقتل منهنّ وغرّق منهنّ. فلما توفّي المقتفي جلس يوسف ابنه للبيعة فبويع له ولقب المستنجد بالله وخطب له في ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة.   [1-) ] المرسي ر الموسي. وروى ابن ابي أصيبعة «المريي» . [2-) ] الحكم ر هنا وفي ما بعد «الحلم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وفي سنة ستّ وخمسين في صفر توفّي الفائز عيسى بن الظافر اسماعيل صاحب مصر وكانت خلافته ستّ سنين وولي الأمر بعده بمصر عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولقب العاضد لدين الله وهو آخر الخلفاء العلويّين بالديار المصريّة. وفي سنة تسع وخمسين وخمسمائة هرب شاور وزير العاضد صاحب مصر من ضرغام الذي نازعه في الوزارة الى الشام ملتجئا الى نور الدين ومستجيرا به وطلب منه إرسال العساكر معه الى مصر ليعود الى منصبه ويكون له ثلث دخل البلاد. فتقدّم نور الدين بتجهيز الجيوش وقدم عليها اسد الدين شير كوه فتجهز وساروا جميعا وشاور في صحبتهم ووصل اسد الدين والعساكر الى مدينة بلبيس. فخرج إليهم أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم. وخرج ضرغام من القاهرة فقتل وقتل اخوه ايضا. وخلع على شاور وأعيد الى الوزارة. وأقام اسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد عمّا كان قرّره لنور الدين وأرسل الى الفرنج يستمدّهم فسارعوا الى تلبية دعوته ونصرته وتجهزوا وساروا. فلما قارب الفرنج مصر فارقها اسد الدين وقصد مدينة بلبيس وجعلها ظهرا يتحصن به فحصره بها العساكر المصرية والفرنج ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا. فراسل الفرنج اسد الدين في الصلح والعود الى الشام فأجابهم الى ذلك وصار الى الشام. وفي سنة ثلث وستين وخمسمائة فارق زين الدين عليّ بن سبكتكين النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة صاحبه بالموصل وسار الى إربل وكان هو الحاكم في الدولة واكثر البلاد بيده. فلما عزم على مفارقة الموصل الى بيته باربل سلّم جميع ما كان بيده من البلاد الى قطب الدين مودود وبقي معه اربل حسب. وكان شجاعا عادلا حسن السيرة سليم القلب كثير العطاء للجند وغيرهم مدحه الحيص بيص بقصيدة فلما أراد ان ينشده قال: انا لا اعرف ما تقول ولكني اعلم انك تريد شيئا. وأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة سنيّة وثياب مجموع ذلك ألف دينار ولم يزل باربل الى ان مات بها هذه السنة. وفي سنة اربع وستين وخمسمائة ملك نور الدين قلعة جعبر. وملك اسد الدين شير كوه مصر وقتل شاور الوزير. ولما ثبت قدم اسد الدين وظنّ ان لم يبق له منازع أتاه اجله فتوفّي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وكانت ولايته شهرين. واما ابتداء امره فانه كان هو واخوه نجم الدين أيوب ابنا شاذي من بلد دوين [1]   [1-) ] دوين بلدة من نواحي أران في آخر حدود اذربيجان بالقرب من تفليس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وأصلهما من الأكراد الروّاديّة [1] فقدما العراق وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد. فرأى من نجم الدين أيوب عقلا ورأيا وكان اكبر من شير كوه فجعله مستحفظا لقلعة تكريت. فسار إليها ومعه اخوه شير كوه. ثم ان شير كوه قتل كاتبا نصرانيا بتكريت لملاحاة جرت بينهما فأخرجهما بهروز من قلعة تكريت فسارا الى زنكي. ولما ملك بعلبك جعل أيوب مستحفظا لها فلما قتل زنكي وتسلّم عسكر دمشق بعلبك صار هو اكبر الأمراء بدمشق واتصل اخوه شير كوه بنور الدين فاقطعه حمص والرحبة وجعله مقدم عسكره. فلما أراد ان يرسل العسكر الى مصر لم ير هناك من يصلح لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره فأرسله فملكها. ولما توفّي اسد الدين شير كوه طلب جماعة من الأمراء النوريّة ولاية الوزارة للعاضد العلويّ صاحب مصر فأرسل العاضد الى صلاح الدين بن أيوب بن شاذي أحضره عنده وخلع عليه وولّاه الوزارة بعد عمّه ولقبه الملك الناصر وكان اسمه يوسف. فكان الذي حمله على ذلك ان أصحابه قالوا له: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سنا من يوسف فإذا ولي لا يرفع علينا رأسا مثل غيره. فثبت قدم صلاح الدين ومع هذا فهو نائب عن نور الدين وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيما عن ان يكتب اسمه وكان لا يفرده بكتاب بل يكتبه: الأمير الاسفهسلار صلاح الدين وكافة [2] الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال فمالوا اليه واحبّوه وضعف امر العاضد. ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين ان يرسل اليه اخوته واهله فأرسلهم اليه وشرط عليهم طاعته. وفي سنة خمس وستين وخمسمائة في شوّال مات قطب الدين مودود بن زنكي ابن اقسنقر صاحب الموصل [3] . ولما اشتدّ مرضه اوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه الى ابنه الآخر وهو سيف الدين غازي وانما فعل ذلك لان القيّم بأمور دولته كان خادما له يقال له فخر الدين عبد المسيح وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمّه نور الدين وكان نور الدين يبغض عبد المسيح فاتفق عبد المسيح وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي وهي والدة سيف الدين عليّ صرف الملك   [1-) ] الروادية ر الراوديّة. [2-) ] وكافة ر وكان. [3-) ] توفي قطب الدين وعمره نحو أربعين سنة وكان ملكه احدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصف شهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 عن عماد الدين الى سيف الدين. ورحل عماد الدين الى عمّه نور الدين مستنصرا به ليعينه على أخذ الملك لنفسه. وفي سنة ستّ وستين وخمسمائة تاسع ربيع الآخر توفّي الامام المستنجد بالله ابو المظفر يوسف بن المقتفي وكانت خلافته احدى عشرة سنة وعمره ستا وخمسين سنة. وكان من احسن الخلفاء سيرة مع الرعية عادلا قبض على انسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه فشفع فيه بعض أصحابه المختصّين بخدمته وبذل عنه عشرة آلاف دينار. فقال: انا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنسانا آخر مثله احبسه فأكفّ شرّه عن الناس. ولم يطلقه. وكان سبب موته انه كتب الى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين قايماز وصلبهما وكان قد اشتدّ مرضه. فاجتمع الطبيب بهما واوقفهما على الخطّ. فقالا له: عد اليه وقل له: انني أوصلت الخطّ الى الوزير وفعل ذلك. ثم دخل المذكوران على المستنجد ومعهما أصحابهما فحملوه وهو يستغيث الى الحمّام وألقوه وأغلقوا الباب عليه وهو يصيح الى ان مات. (المستضي بن المستنجد) ولما أظهروا موت المستنجد أحضر ابنه ابو محمد الحسن وبايعه اهل بيته البيعة الخاصّة يوم توفّي أبوه اي تاسع ربيع الآخر سنة ستّ وستين وخمسمائة وبايعه الناس من الغد في التاج بيعة عامّة ولقّب المستضيء بأمر الله وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه وفرّق أموالا جليلة المقدار. ولما بلغ نور الدين محمود ابن زنكي وفاة أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وملك ولده سيف الدين غازي الموصل وتحكم فخر الدين عبد المسيح عليه انف لذلك وسار بجريدة في قلّة من العسكر وعبر الفرات عند قلعة جعبر وملك الرقّة والخابور ونصيبين وحاصر سنجار وملكها وسلّمها الى عماد الدين ابن أخيه وأتى مدينة بلد [1] وعبر دجلة عندها مخاضة الى الجانب الشرقيّ ونزل على حصن نينوى. ومن العجب انه يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة فأرسل فخر الدين عبد المسيح الى نور الدين في تسليم البلد اليه على ان يقرّه بيد سيف الدين ويطلب لنفسه الامان ولماله واهله فأجيب الى ذلك وشرط ان فخر الدين يأخذه معه الى الشام ويعطيه عنده اقطاعا مرضية. فتسلّم البلد ودخل القلعة وأمر بعمارة الجامع النوريّ وسلم الموصل الى سيف الدين وسنجار لعماد الدين وعاد الى الشام واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح وكان مقامه بالموصل اربعة وعشرين   [1-) ] بلد وربما قيل لها بلط واسمها بالفارسية شهراباذ مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل بينهما سبعة فراسخ وبينها وبين نصيبين ثلاثة وعشرون فرسخا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 يوما. وفي سنة سبع وستين وخمسمائة لما ثبت قدم صلاح الدين بمصر وضعف امر الخليفة العاضد بها وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش وهو خصيّ من اعيان الأمراء الاسديّة كلهم يرجعون اليه عزم على قطع خطبة العاضد وكان يخاف المصريين. وكان قد دخل الى مصر رجل أعمى [1] يعرف بالأمير العالم فلما رأى ما هو فيه من الاحجام وان أحدا لا يتجاسر يخطب للعباسيين قال: انا ابتدئ بالخطبة للمستضيء. فلما كان اوّل جمعة من المحرّم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء فلم ينكر احد ذلك فقطع الخطباء كلهم بمصر خطبة العاضد وخطبوا للمستضيء ولم ينتطح فيها عنزان. وتوفّي العاضد يوم عاشوراء ولم يعلموه بقطع خطبته. وفيها عبر الخطا [2] نهر جيحون يريدون خوارزم. فسار صاحبها خوارزم شاه ارسلان بن اقسز [3] في عساكره الى أموّية [4] ليقاتلهم ويصدّهم فمرض فأقام بها وسيّر جيشه مع امير كبير إليهم فلقيهم فانهزم الخوارزميّون وأسر مقدّمهم ورجع به الخطا الى ما وراء النهر. وعاد خوارزم شاه الى خوارزم مريضا وتوفّي بها وملك بعده ابنه سلطان شاه محمود. وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما في جنده [5] فقصد ملك الخطا واستمدّه على أخيه. فسيّر معه جيشا كثيفا مقدّمهم فوما [6] وساروا حتى قاربوا خوارزم فخرج سلطان شاه منها ومعه امّه وقصد خراسان وملك تكش خوارزم. وفي سنة تسع وستين وخمسمائة توفّي نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر يوم الأربعاء حادي عشر شوّال [7] ولم يكن في سير   [1-) ] يروى في الكامل «اعجمي» بدل أعمى ولعلها الصواب. [2-) ] الخطا ويروى الخطاي قوم من التتر الشرقيين تملكوا بلاد الصين الشمالية وجزءا من بلاد التتر. ثم ان الصينيين استنصروا التتر الساكنين في شمالي كوريا والمسمين (نيوتشي) وهم أجداد (المندشو) على الخطا. فنصروهم وغصبوا الملك وكانت منهم الأسرة الملكية المعروفة بآل كين اي آل الذهب. فانتقل قسم عظيم من الخطا نحو الغرب واستوطنوا بلاد كاشغر وهي التي تسمى قرا خطا ومعنى قرا الأسود. [3-) ] اقسز واقسيس هو اللفظ الذي أدرجته العامة على اسم اتسز وأصله في التركية ادسز ومعناه غير مسمى. [4-) ] اموية وتسمى ايضا آمو وآمل مدينة مشهورة في غربي جيحون على طريق القاصد الى بخارا من مرو. ويقابلها في شرقي جيحون فربر وبينها وبين شاطئ جيحون نحو ميل ويقال لهذه آمل زم وآمل جيحون وآمل الشط وآمل المفازة لان بينها وبين مرو رمالا صعبة المسلك ومفازة أشبه بالمهلك. وبين آمل هذه وبخارا سبعة عشر فرسخا. وبخارا في شرقي جيحون. [5-) ] جند مدينة عظيمة في بلاد تركستان بينها وبين خوارزم عشرة ايام تلقاء بلاد الترك من ما وراء النهر قريب من نهر سيحون. [6-) ] ويروى قوما. وروى ابن الأثير قرما. وفوما لفظة صينية معناها صهر. [7-) ] كان مولده سنة احدى عشرة وخمسمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الملوك أحسن من سيرته ولا اكثر تحرّيا للعدل منه وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرّف في الذي يخصّه الا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة. ولقد شكت اليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو العشرين دينارا. فلما استقلّتها قال: ليس لي الا هذا وجميع ما بيدي انا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا اخوض نار جهنّم لأجلك. ولما مات ملك بعده ابنه الملك الصالح اسماعيل وكان عمره احدى عشرة سنة وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له بها وضرب السكة باسمه. وفي سنة سبعين وخمسمائة لما ملك سيف الدين غازي الديار الجزرية خاف الأمراء الذين في دمشق وحلب لئلا يعبر إليهم سيف الدين فسيّروا الملك الصالح ومعه العساكر الى حلب ليصدّ سيف الدين عن العبور الى الشام. فلما خلت دمشق عن السلطان والعساكر سار إليها صلاح الدين فملكها وملك بعدها حمص وحماة وبعلبكّ وسار الى حلب فحصرها. فركب الملك الصالح وهو صبيّ عمره اثنتا عشرة سنة وجمع اهل حلب وقال لهم: قد عرفتم احسان ابي إليكم ومحبّته لكم وسيرته فيكم وانا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد احسان والدي اليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله ولا الخلق. وقال من هذا كثيرا وبكى فأبكى الناس واتفقوا على القتال دونه فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل جوشن [1] ولا يقدر على القرب من البلد فرحل عنه. وفيها ملك البهلوان مدينة تبريز. وفي سنة احدى وسبعين ملك صلاح الدين قلعة عزاز ونازل حلب وبها الملك الصالح وقد قام العامّة في حفظ البلد المقام المرضيّ وتردّدت الرسل بينهم في الصلح فوقعت الاجابة اليه من الجانبين ورحل صلاح الدين عن حلب بعد ان أعاد قلعة عزاز الى الملك الصالح فانه اخرج الى صلاح الدين أختا له صغيرة طفلة. فأكرمها صلاح الدين وقال لها: ما تريدين. قالت: أريد قلعة عزاز. وكانوا قد علّموها ذلك. فسلّمها إليهم ورحل. وفي سنة ثلث وسبعين قتل عضد الدين وزير الخليفة المستضيء ووزر ظهير الدين المعروف بابن العطّار وكان خيرا حسن السيرة كثير العطاء وتمكن تمكنا كثيرا. وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة ثاني ذي القعدة توفّي الامام المستضيء بأمر الله وكانت خلافته نحو تسع سنين وعمره تسع وثلثون سنة وكان عادلا حسن السيرة في الرعية قليل المعاقبة على الذنوب محبا للعفو فعاش حميدا ومات سعيدا.   [1-) ] جوشن بالجيم المعجمة جبل مطل على حلب في غربيها ومنه كان يحمل النحاس الأحمر وهو معدنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وكان في هذا الزمان من الحكماء المشهورين بالمشرق السموءل بن ايهوذا المغربيّ الاندلسيّ الحكيم اليهوديّ قدم هو وأبوه الى المشرق وكان أبوه يشدو شيئا من الحكمة وكان ولده السموءل قد قرأ فنون الحكمة وقام بالعلوم الرياضيّة وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وله في ذلك مصنّفات وصنّف كتبا في الطبّ وارتحل الى اذربيجان وخدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم وأقام بمدينة مراغة وأولد أولادا هناك سلكوا طريقته في الطبّ ثم أسلم وصنّف كتابا في اظهار معايب اليهود ومواضع الدليل على تبديلهم التوراة ومات بالمراغة قريبا من سنة سبعين وخمسمائة. وكان في هذا الأوان ايضا الرحبي الطبيب نزيل دمشق من اهل الرحبة أصله كان من الرحبة حسن المعالجة لطيف المباشرة نزه النفس يعاني التجارة ورزق بها مالا جما وأولادا مرضيّي الطريقة لهم اشتغال جيد في هذا الفنّ وكان كثير التنعّم [1] حسن المركب والملبس والمأكل والمنزل يلزم في أموره قوانين حفظ الصحة الموجودة. وقيل له: ما ثمرة هذا. قال: ان يعيش الإنسان العمر الطبيعيّ. فقيل له: أنت قد بلغت من السنّ ما لم يبق بينك وبين العمر الطبيعيّ الا القليل فأيّ حاجة الى هذا التكلّف. فقال: لأبقى ذلك القليل فوق الأرض واستنشق الهواء واتجرّع الماء ولا أكون تحت التراب بسوء التدبير. ولم يزل على حالته الى ان أتاه أجله في أوائل سنة اثنتين وثلثين وستمائة وخلف ثلثة بنين اثنان منهم طبيبان فاضلان وسيأتي ذكرهما. قال الرحبي هذا: استدعاني نور الدين محمود في مرضه الذي توفّي فيه مع غيري من الأطباء فدخلنا اليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق وقد تمكنّت منه الخوانيق وقارب الهلاك فلا يكاد يسمع صوته وكان يخلو فيه للتعبّد فابتدأ به المرض فلم ينتقل عنه. فلما دخلنا ورأينا ما به قلت له: كان ينبغي ان لا تؤخّر احضارنا الى ان يشتدّ بك المرض. الآن ينبغي ان تعجل الانتقال من هذا الموضع الى مكان فسيح مضيء فله اثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه وأشرنا بالفصد فقال: ابن ستين سنة لا يفتصد. وامتنع عنه فعالجناه بغيره فلم ينجع فيه الدواء. (الناصر بن المستضيء) : ولما مات المستضيء قام ظهير الدين ابن العطّار في أخذ البيعة لولده الناصر لدين الله ابي العباس احمد. فلما تمّت البيعة صار الحاكم في الدولة مجد الدين ابو الفضل بن الصاحب. وفي سابع ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة قبض على ابن العطار ووكل عليه في داره ثم نقل الى التاج وقيّد وطلبت ودائعه وأمواله ثم أخرج ميتا على رأس حمّال سرا فغمز به بعض العامة فثار به العامة فألقوه عن رأس   [1-) ] التنعم ر الدرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الحمّال وكشفوا سوءته وشدّوا في ذكره حبلا وسحبوه في البلد وكانوا يضعون بيده مغرفة ويقولون: وقّع لنا يا مولانا. الى غير ذلك من الأفعال الشنيعة. ثم خلّص من أيديهم ودفن. هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفّه عن أموالهم واعراضهم. وفي سنة ستّ وسبعين ثالث صفر توفّي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل [1] وولي اخوه عزّ الدين الموصل واعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده معزّ الدين سنجر شاه [2] واعطى قلعة شوش [3] وبلد [؟] لابنه الصغير ناصر الدين كبك [4] وكان المدبّر لدولة عزّ الدين مجاهد الدين قيماز واستقرّت الأمور ولم يختلف اثنان. وفيها توفيّ شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالاسكندرية. وفي سنة سبع وسبعين في رجب توفّي الملك الصالح اسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها وعمره نحو تسع عشرة سنة. فلما ايس من نفسه احضر الأمراء ووصاهم بتسليم البلد الى ابن عمّه عزّ الدين مسعود بن مودود بن زنكي فتسلّم حلب ثم سلّمها لأخيه عماد الدين وأخذ عوضا عنها مدينة سنجار. وفي سنة ثماني وسبعين سيّر صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين الى اليمن فتملكها وتغلّب عليها. وفيها عبر صلاح الدين الفرات الى الديار الجزرية وملك الرها وحرّان والرقّة وقرقيسياء وماكسين [5] وعربان [6] ونصيبين وسار الى الموصل وبها عزّ الدين صاحبها ونائبه مجاهد الدين قد جمعا بها العساكر الكثيرة من فارس وراجل واظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار. فلما قرب صلاح الدين من البلد رأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه ومع هذا نزل عليها وانشب القتال. وخرج اليه يوما بعض العامّة فنال منه وأخذ لالكة من رجله فيها المسامير الكثيرة ورمى بها أميرا يقال له جاولي الاسديّ وهو مقدّم الاسديّة وكبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك ألما شديدا وأخذ اللالكة وعاد عن القتال الى صلاح الدين وقال: قد قابلنا اهل الموصل بحماقات ما رأينا مثلها بعد.   [1-) ] وكان عمره حينئذ نحو ثلاثين سنة وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر. [2-) ] كان أراد سيف الدين ان يعهد بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه وكان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة فخاف على الدولة من ذلك لان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكن بالشام وقوي امره. [3-) ] هي قلعة عظيمة عالية جدا قرب عقر الحميدية من اعمال الموصل. قيل هي أعلى من العقر واكبر ولكنها في القدر دونها. [4-) ] يروى في الكامل كسك بدل كبك. [5-) ] مدينة بالجزيرة. [6-) ] عربان بليدة بالخابور من ارض الجزيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وألقى اللاكة وحلف انه لا يعود يقاتل عليها انفة حيث ضرب بها. فلما رأى صلاح الدين انه لا ينال من الموصل غرضا ولا يحصل على غير العناء والتعب سار عنها الى سنجار وملكها. وفي سنة تسع وسبعين ملك صلاح الدين مدينة آمد وسلّمها الى نور الدين محمد بن قرا ارسلان صاحب الحصن وكان صلاح الدين قد نزل بحرزم [1] وطمع ان يملك ماردين فلم ير لطمعه وجها فسار عنها الى آمد على طريق البارعية. وفيها سار صلاح الدين الى حلب فنزل بجبل جوشن وأظهر انه يريد يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره. فمال عماد الدين زنكي الى تسليم حلب وأخذ العوض عنها فتقرّر الصلح على ان يسلّم حلب الى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقّة وسروج. وجرت اليمين على ذلك فباعها باوكس الأثمان أعطى حصنا مثل حلب وأخذ عوضها قرى ومزارع فقبّح الناس كلهم ما اتى. وفي سنة ثمانين وخمسمائة مات قطب الدين بن ايلغازي بن نجم الدين البي بن تمرتاش ابن ايلغازي بن ارتق صاحب ماردين وملك بعده ابنه حسام الدين يولق [2] ارسلان وهو طفل وكان شاه ارمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته بعد موته فرتّب نظام الدين التقش [3] مع ولده وقام بتربيته وتدبير مملكته وكان ديّنا خيّرا فأحسن تربية الولد وتزوّج امّه فلما كبر الولد لم يمكّنه النظام من مملكته لخبط وهوج كان فيه. ولم يزل الأمر على ذلك الى ان مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتّبه النظام في الملك وليس له منه الا الاسم والحكم الى النظام والى مملوك له اسمه لؤلؤ فبقي كذلك الى سنة احدى وستمائة. فمرض التقش النظام فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه قطب الدين بسكين معه فقتله. ثم دخل الى النظام فقتله ايضا وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين الى الأجناد فأذعنوا له بالطاعة واستولى على قلعة ماردين وقلعة البارعيّة والصّور وحكم فيها وحزم في أفعاله. وفي سنة احدى وثمانين وخمسمائة حصر صلاح الدين الموصل مرّة ثانية فسيّر أتابك عزّ الدين صاحبها والدته اليه ومعها ابنة عمّه نور الدين محمود وغيرهما من النساء وجماعة من اعيان الدولة يطلبون المصالحة. وكلّ من عنده ظنّوا انهنّ إذا طلبن منه الشام اجابهنّ الى ذلك لا سيما ومعهنّ ابنة مخدومه ووليّ نعمته نور الدين. فلما وصلن   [1-) ] حرزم بليدة في واد ذات نهر جار وبساتين بين ماردين ودنيسر من اعمال الجزيرة. [2-) ] يولق ر بولق س [؟] . [3-) ] كذا في الأصل. والصواب البقش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 اليه انزلهنّ واعتذر بأعذار غير مقبولة واعادهنّ خائبات. فبذل العامّة نفوسهم غيظا وحنقا لردّه النساء. فندم صلاح الدين على ردّ النساء وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره يقبّحون فعله وينكرونه. وكان عامّة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون. فعزم صلاح الدين على قطع دجلة عن الموصل الى ناحية نينوى ليعطش اهل الموصل فيملكها بغير قتال ثم علم انه لا يمكن قطعه بالكلية وان المدّة تطول والتعب يكثر فأعرض عنه ورحل الى ميّافارقين لأنه سمع ان شاه ارمن صاحب خلاط توفّي ولم يخلف ولدا وقد استولى على بلاده مملوك له اسمه بكتمر. فسيّر صلاح الدين في مقدّمته ابن عمّه ناصر الدين محمد [1] بن شير كوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما فساروا الى خلاط فنزلوا بطوانة. وسار صلاح الدين الى ميّافارقين وسار البهلوان بن ايلدكر صاحب اذربيجان فنزل قريبا من خلاط وتردّدت رسل اهل بينهم وبين البهلوان وصلاح الدين. ثم انهم أصلحوا [2] أمرهم مع البهلوان وصاروا من حزبه وخطبوا له. وفي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة توفّي البهلوان محمد بن ايلدكر صاحب بلاد الجبل والريّ وأصفهان واذربيجان وارّان وملك بعده اخوه قزل ارسلان واسمه عثمان. وفي سنة ثلث وثمانين ملك صلاح الدين مدينة طبريّة وقلعتها وسار عنها ونزل على عكة. ولما صمّم على الزحف الى البلد خرج الأعيان من أهلها اليه يطلبون الامان فأجابهم الى ذلك وامّنهم على نفوسهم وأموالهم وخيّرهم بين الاقامة والطعن فاختاروا الرحيل وساروا منها متفرّقين وحملوا ما أمكنهم من أموالهم وتركوا الباقي على حاله. وسلّم صلاح الدين البلد الى ولده الأفضل وغنم المسلمون ما بقي ممّا لم يطق الفرنج حمله. وفيها ملك صلاح الدين قيسارية وحيفا وصفّورية والشّقيف والفولة ويافا وتبنين وصيدا وبيروت وجبيل وعسقلان. ولما فرغ صلاح الدين من امر هذه الأماكن سار الى البيت المقدّس فلما نزل عليه المسلمون رأوا على سوره من الرجال ماها لهم وبقي صلاح الدين خمسة ايام يطوف حول المدينة لينظر من اين يقاتل لأنه في غاية الحاصنة والامتناع فلم يجد عليه موضع قتال الا من جهة الشمال نحو باب عمود او كنيسة [3] صهيون [4] فانتقل الى هذه [5]   [1-) ] محمد ر محمود. [2-) ] أصلحوا ر اصطلحوا وأصلحوا. [3-) ] عمودا او كنيسة ر عمودا وكنيسته. [4-) ] ان في هذه العبارة غلطا بينا لان كنيسة صهيون كانت في جهة الجنوب. قال العلامة الادريسي في ذكر بيت المقدس «ولها من جهة الجنوب باب يسمى باب صهيون ومن جهة الشمال باب عمود الغراب» . [5-) ] هذه ر تلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الناحية في العشرين من رجب فنزلها ونصب تلك الليلة المنجنيقات ونصب الفرنج على سور البلد المنجنيقات وتقاتل الفريقان اشدّ قتال كلّ منهما يرى ذلك دينا وحتما واجبا فلا يحتاج فيه الى باعث سلطانيّ بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون. فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين وتحكّم المنجنيقات بالرمي المتدارك وتمكّن النقّابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة الى صلاح الدين يطلب الامان. فأبى السلطان وقال: لا افعل بكم الا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة احدى وتسعين واربعمائة من القتل والسبي. فقال له باليان: ايها السلطان اعلم اننا في هذه المدينة في خلق كثير وانما يفترون عن القتال رجاء الامان. فإذا رأينا ان الموت لا بد منه فو الله لنقتلنّ أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منّا دينارا ولا درهما ولا تسبون وتأسرون رجلا او امرأة. فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ولا نترك لنا دابّة ولا حيوانا الّا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلّنا وحينئذ لا يقتل الرجل منّا حتى يقتل أمثاله ونموت اعزّاء او نظفر كرماء فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على اجابتهم الى الامان وان لا يحرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن اي شيء ينجلي. فأجاب صلاح الدين حينئذ الى بذل الامان للفرنج واستقرّ ان يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير وتزن المرأة خمسة دنانير ويزن الطفل من الذكور والإناث دينارين فمن ادّى ذلك الى أربعين يوما فقد نجا والا صار مملوكا. فبذل باليان عن الفقراء ثلثين ألف دينار فأجيب الى ذلك وسلّمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب. ولما فرغ صلاح الدين من امر بيت المقدس سار الى مدينة صور وقد خرج إليها المركيس وصار صاحبها وقد ساسها احسن سياسة. فقسم صلاح الدين القتال على العسكر كل جمع لهم وقت معلوم يقاتلون فيه بحيث يتصل القتال على اهل البلد على ان الموضع الذي يقاتلون فيه قريب المسافة تكفيه الجماعة اليسيرة من اهل البلد تحفظه وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر الى البحر فلا يكاد الطائر يطير عليها لان المدينة كالكفّ في البحر والساعد متصل بالبرّ والبحر في جانبي الساعد والقتال انما هو في الساعد فلذلك لم يتمكن منها صلاح الدين ورحل عنها. وكان للمسلمين خمس قطع من الشواني مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول اليه فنازلتهم شواني الفرنج وقت السحر وضايقتهم وأوقعت بهم فقتلوا من أرادوا وأخذوا الباقين بمراكبهم وأدخلوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ميناء صور والمسلمون من البرّ ينظرون إليهم. ورمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني فمنهم من سبح ونجا منهم من غرق. وفي سنة اربع وثمانين فتح صلاح الدين جبلة واللاذقيّة وصهيون وشغر بكاس ودر بساك وبغراس والكرك وصفد. وهادون صلاح الدين البرنس بيموند [1] صاحب انطاكية وطرابلس ثمانية أشهر. وفي سنة سبع وثمانين وصلت أمداد الفرنج في البحر الى الفرنج النازلين على عكّة يحاصرونها. وكان أول من وصل منهم فيليب ملك افرنسيس وهو من اشرف ملوكهم نسبا وان كان ملكه ليس باكثير فقويت به نفوسهم اي الذين كانوا على عكة ولجّوا في قتال المسلمين الذين فيها. وكان صلاح الدين على شفرعمّ فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال على مزاحفة البلد وكان فيه الأمير سيف الدين الهكاري المعروف بالمشطوب فلما رأى ان صلاح الدين لا يقدر لهم على نفع ولا يدفع عنهم ضرا خرج الى الفرنج وقرّر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين واعادة صليب الصلبوت [2] واربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه الى ذلك وان تكون مدة تحصيل المال والاسراء الى شهرين. فلما حلفوا له سلّم البلد إليهم فدخله الفرنج سلما واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم الى حين ما يصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم. فشرعوا في جمع المال وكان هو لا مال له انما يخرج ما يصل اليه من دخل البلاد أولا بأول فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار أشار الأمراء بان لا يرسل شيئا حتى يعاود يستحلفهم على الإطلاق من أصحابه. فقال ملوك الفرنج: نحن لا نحلف انما ترسل إلينا المائة الالف دينارا التي حصلت والأسارى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فنطلق الباقين منهم. فلم يجبهم [3] السلطان الى ذلك. فلما كان يوم الثلثاء السابع والعشرون من رجب ركب الفرنج وخرجوا ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن موقفهم وإذا اكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له. فلما رأى صلاح الدين ذلك رحل الى   [1-) ] بيموند ر فيموند. [2-) ] الصلبوت ر المصلوب. [3-) ] فلم يجبهم ر فأجابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ناحية عسقلان واخربها. وفي سنة ثمان وثمانين رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها. وفيها عقدت الهدنة بين صلاح الدين والانكتار ملك الفرنج لمدة ثلث سنين وثمانية أشهر اوّلها يوم اوّل أيلول. وفيها منتصف شعبان توفّي السلطان قلج ارسلان بن مسعود بن قلج ارسلان ابن سليمان بن قتلميش بن سلجوق بمدينة قونية [1] وكان ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة الى بلاد الروم. فلما كبر فرّق بلاده على أولاده فاستضعفوه ولم يلتفتوا اليه وحجر عليه ولده قطب الدين. ثم اخذه وسار به الى قيسارية ليأخذها من أخيه فحصرها مدة فهرب منه والده ودخل الى قيسارية. ولم يزل قلج ارسلان يتحول من ولد الى ولد وكل منهم يتبرّم به حتى مضى الى ولده غياث الدين كيخسرو فسار معه في عساكره الى قونية فملكها وبها توفّي قلج ارسلان وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكا لها حتى أخذها منه اخوه ركن الدين. وفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة توفّي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بدمشق وعمره سبع وخمسون سنة [2] وكان حليما كريما حسن الأخلاق متواضعا صبورا على ما يكره كثير التغافل عن ذنوب أصحابه. وحكي انه كان يوما جالسا وعنده جماعة فرمى بعض المماليك بعضا بسرموزة فاخطأته ووصلت الى صلاح الدين فوقعت بالقرب منه. فالتفت الى الجهة الاخرى يكلّم جليسه هناك ليتغافل عنها. وطلب مرّة الماء فلم يحضر فعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرّات فلم يحضر فقال: يا أصحابنا والله قد قتلني العطش. واما كرمه فانه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه. ويكفي دليلا على كرمه انه لما مات لم يخلف في خزانته غير دينار واحد صوري وأربعين درهما ناصرية. ولما توفّي صلاح الدين ملك بعده ولده الأكبر الأفضل نور الدين دمشق والساحل والبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين الى الداروم. وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها. وكان ولده الملك الظاهر غازي بحلب فملكها وأعمالها مثل حارم وتلّ باشر واعزاز ودر بساك ومنبج. وكان بحماة محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فأطاع الملك الظاهر. وكان بحمص شير كوه ابن محمد بن شير كوه فأطاع الملك الأفضل. وكان الملك العادل أخو صلاح الدين بالكرك فسار الى دمشق. فجهز الأفضل معه عسكرا وسار الى البلاد الجزرية وهي له   [1-) ] وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة. [2-) ] وكان ملكه مصر سنة اربع وستين وخمسمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ليمنعها من عزّ الدين صاحب الموصل. وفيها أول جمادى الاولى قتل سيف الدين بكتمر صاحب خلاط وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران. فانه أسرف في اظهار الشماتة بموت صلاح الدين وفرح فرحا كثيرا فلم يمهله الله تعالى. وملك بعده ظهير الدين هزار ديناري خلاط وهو ايضا من مماليك شاه ارمن. وفيها سلخ شعبان توفّي أتابك عزّ الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل بالموصل وملك بعده ابنه نور الدين ارسلان شاه. وكان عزّ الدين خيّرا محسنا حليما قليل المعاقبة حييّا كثير الحياء لم يكلّم جليسا له الا وهو مطرق وما قال في شيء سئله حبّا وكرم طبع. وفي سنة احدى وتسعين وخمسمائة كتب ألفنش ملك الفرنج ومقرّ ملكه طليطلة الى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كتابا يقول فيه: انك امير المسلمين ولا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات وانا اسومهم الخسف وأخلي الديار وأسبي الذراريّ وأمثّل بالكهول واقتل الشّبّان ولا عذر لك في التخلّف عن نصرتهم وأنت تعتقد ان الله فرض عليكم قتال عشرة منّا بواحد منكم. والآن نخفف عنكم فنحن نقاتل عددا منكم بواحد منّا. ثم بلغني عنك انك أخذت في الاحتفال وتمطل نفسك عاما بعد عام تقدم رجلا وتؤخر اخرى ولا ادري ألجبن ابطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك. وانا أقول لك ما فيه المصلحة ان تتوجّه بجملة من عندك في الشواني والمراكب واجوز إليك بجملتي وأبارزك في اعزّ الأماكن عندك فان كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك وهديّة مثّلث بين يديك وان كانت لي كانت يدي العليا عليك واستحققت ملك الملّتين والتقدم على الفئتين [1] . فلما قرأ يعقوب كتابه جمع العساكر وعبر المجاز الى الأندلس واقتتلوا قتالا شديدا فكانت الدائرة أولا على المسلمين ثم عادت على الفرنج فانهزموا أقبح هزيمة وغنم المسلمون منهم شيئا عظيما. فلا يفخرن ثروان بثروته ولا جبّار بجبروته ومن يفتخر فبالله تعالى فليفتخر كما جاء في الكتاب الالهي. ثم ان الفنش عاد الى بلاده وركب بغلا وأقسم انه لا يركب فرسا حتى تنصره ملوك فرنجة فجمعوا الجموع العظيمة وجرت لهم مع المسلمين وقائع كثيرة الى ان ملكوا الآن اكثر مدن الأندلس. وفي سنة اثنتين وتسعين سار الملك العزيز من مصر الى دمشق وحصرها وأرسل الى أخيه الأفضل ان يفارق القلعة ويسلّم البلد على قاعدة ان تعطى قلعة صرخد له ويسلّم   [1-) ] الفئتين ر القبلتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 جميع اعمال دمشق. فخرج وتسلّم العزيز القلعة ودخلها وأقام بها أياما ثم سلّمها الى عمّه الملك العادل وعاد الى مصر فسار الأفضل الى صرخد. وفي سنة ثلث وتسعين ملك العادل يافا من الفرنج وملك الفرنج بيروت من المسلمين. وفي سنة اربع وتسعين توفّي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب سنجار ونصيبين والخابور والرقّة وملك بعده ابنه قطب الدين محمد وملك نور الدين مدينة نصيبين. وفيها قصد خوارزمشاه بخارا وكان قد ملكها الخطا فنازلها وحصرها وامتنع أهلها منه وقاتلوه مع الخطا لما رأوا من حسن سيرتهم معهم حتى انهم أخذوا كلبا اعور وألبسوه قباء وقلنسوة وقالوا: هذا خوارزمشاه. لأنه كان اعور. وطافوا به على السور ثم القوه في منجنيق الى العسكر وقالوا: هذا سلطانكم. فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزمشاه البلد بعد ايام يسيرة عنوة وعفا عن اهله واحسن إليهم. وفيها حصر الملك العادل ابو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان وكان صاحبها حسام الدين يولق ارسلان صبيّا فسلّم بعض أهلها الربض بمخامرة فنهب العسكر أهلها نهبا قبيحا فلما تسلّم العادل الربض تمكّن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها وبقي عليها الى ان رحل عنها سنة خمس وتسعين. وفي سنة خمس وتسعين في العشرين من المحرّم توفّي الملك العزيز صاحب مصر وأرسل الأمراء من مصر الى الأفضل أخيه يدعونه إليهم ليملّكونه لأنه كان محبوبا الى الناس يريدونه فدخل الى مصر وملكها. وفي سنة ستّ وتسعين سار العادل فنزل على القاهرة وحصرها فأرسل الأفضل اليه في الصلح فتقرّر ان يسلّم الديار المصرية الى عمّه ويأخذ العوض عنها ميّافارقين وحاني وجبل جور [1] وتحالفوا على ذلك. وخرج الأفضل من مصر وسار الى صرخد وأرسل من يتسلّم ميّافارقين وحاني وجبل جور فامتنع نجم الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميّافارقين وسلّم ما عداها. فردّدت الرسل في ذلك والعادل يزعم ان ابنه عصاه. فامسك الأفضل عن المراسلة في ذلك لعلمه ان هذا فعله بأمر العادل. وفيها في شهر رمضان توفّي خوارزمشاه تكش بن ارسلان وولي ملك خوارزم بعده ابنه قطب الدين محمد ولقّب علاء الدين لقب أبيه. وفي سنة سبع وتسعين في شهر رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قلج ارسلان مدينة ملطية وكانت لأخيه معزّ الدين قيصر شاه فسار اليه وحصره أياما وملكها وسار منها الى ارزن الروم وكانت لولد الملك   [1-) ] حاني مدينة بديار بكر والنسبة إليها حنوي. وجبل جور اسم لكورة كبيرة متصلة بديار بكر من. نواحي ارمينية. ابن العبري- 15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 محمد بن صلتق [1] وهم بيت قديم قد ملكوا ارزن الروم. فلما قاربها ركن الدين خرج صاحبها اليه ثقة به ليقرّر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد وهذا كان آخر اهل بيته الذين ملكوا. وفيها حصر الملك الظاهر واخوه الملك الأفضل ابنا صلاح الدين مدينة دمشق وهي لعمّهم الملك العادل وعادوا الى تجديد الصلح على ان يكون للظاهر منبج وافامية وكفر طاب والمعرّة ويكون للأفضل سميساط وقلعة نجم وسروج ورأس عين وجملين [2] . وسار الظاهر الى حلب والأفضل الى سميساط ووصل العادل الى دمشق. وفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة في المحرّم سيّر الملك العادل عسكرا مع ولده الملك الأشرف موسى الى ماردين فحصروها وشحنوا على أعمالها وأقام الأشرف ولم يحصل له غرض. فدخل الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب في الصلح بينهم وأرسل الى عمّه العادل في ذلك فأجاب اليه على قاعدة ان يحمل له صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار فجاء صرف الدينار احد عشر قيراطا من اميري ويضرب اسمه على السكة ويكون عسكره في خدمته ايّ وقت طلبه. وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة واربع عشرة للإسكندر كان ابتداء دولة المغول وذلك ان في هذا الزمان كان المستولي على قبائل الترك المشارقة اونك خان وهو المسمّى ملك يوحنا من القبيلة التي يقال لها كريت وهي طائفة تدين بدين النصرانية وكان رجل مؤيّة من غير هذه القبيلة يقال له تموجين ملازما لخدمة اونك خان من سنّ الطفولية الى ان بلغ حدّ الرجولية وكان ذا بأس في قهر الأعداء فحسده الأقران وسعوا به الى اونك خان وما زالوا يغتابونه عنده حتى اتهمه بتغيّر النية وهمّ باعتقاله والقبض عليه. فانضمّ اليه غلامان من خدم اونك خان فأعلماه القضية وعيّنا له الليلة التي فيها يريد اونك كبسه وفي الحال امر تموجين اهله باخلاء البيوت عن الرجال وتركها على حالها منصوبة وكمن هو مع الرجال بالقرب من البيوت. وفي وقت السحر لما هجم اونك وأصحابه على بيوت تموجين لقيها خالية من الرجال وكرّ عليه تموجين وأصحابه من الكمين وأوقعوا بهم وناوشوهم القتال واثخنوا فيهم وهزموهم وحاربوهم مرّتين حتى قتلوه وإبطاله وسبوا ذراريّة. وفي اثناء هذا الأمر ظهر بين المغول امير معتبر كان يسيح في الصحارى والجبال في وسط الشتاء عريانا حافيا ويغيب أياما ثم يأتي ويقول: كلّمني الله وقال لي ان الأرض   [1-) ] ويروى: صيق وهو تصحيف. ويروى صليق. [2-) ] ويروى: حملين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بأسرها قد أعطيتها لتموجين وولده وسمّيته جنكزخان فسمّاه جنكزخان تبت تنكري [1] وكان يرجع الى قوله ولا يعدل عن رأيه. ولما علا شأن جنكزخان أرسل الرسل الى جميع شعوب الترك فمن أطاعه وتبعه سعد ومن خالفه خذل وأنعم على ذينك الغلامين وذرّيتهم بان جعلهم ترخانيّة والترخان هو الحرّ الذي لا يكلف بشيء من الحقوق السلطانية ويكون ما يغنم من الغزاوات له مطلقا لا يؤخذ منه نصيب للملك وزاد لهؤلاء ان يدخلوا على الملوك بغير اذن ولا يعاقبوا على ذنب الى تسعة ذنوب وكان لجنكزخان من الأولاد الذكور والإناث جماعة وكانت الخاتون الكبيرة زوجته تسمّى اويسونجين [2] بيكي. وفي رسم المغول اعتبار أبناء الأب الواحد بالشرف انما يكون بالنسبة الى الأمهات. وكان لهذه خاتون اربعة بنين ولّاهم جنكزخان الأمور العظام في مملكته. الاول توشى ولي امر الصيد والطرد وهو احبّ الأمور إليهم. والثاني جغاتاي ولي امر الحكومات والسياسة اي الناموس والقضاء. والثالث اوكتاي ولي تدبير الممالك لغزارة عقله واصابة رأيه. والرابع تولي ولي امر الجيوش وتجهيز الجنود والنظر في مصالح العساكر. وكان لجنكزخان أخ يقال له اوتكين فعيّن له ولكلّ واحد من الأولاد بلادا يقيمون بها. اما اوتكين فأقام بحدود الخطا. وتوشي اقام بحدود قباليغ [3] وخوارزم الى أقصى سقسين وبلغار. وجغاتاي بحدود بلاد الايغور بالقرب من المايغ الى سمرقند وبخارا. واقام اوكتاي وهو وليّ العهد بحدود ايميل وقوتاق [4] وجاوره تولي ايضا في تلك النواحي وهي وسط مملكتهم كالمركز بالنسبة الى الدائرة. وفي سنة ستمائة ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم [5] . اقام الفرنج بظاهرها محاصرين للروم من شعبان الى جمادى الاولى وكان بالمدينة كثير من الفرنج مقيمين نحو   [1-) ] ويروى: ثبت. وتنكري (ويلفظ طنري) اسم الله تعالى في اللغة التركية وجنكزخان معناه الملك الأعظم. [2-) ] ويروى: اويسولوجين. [3-) ] ويروى: قياليغ. [4-) ] ويروى: يميل وقوناق. [5-) ] كان الكسيس الثالث نزع الملك من أخيه إسحاق الثاني وسملة وطرحه في السجن فالتجأ الكسيس الرابع ابن إسحاق الى اصليبين ووعدهم الوعود الحسنة منها انه يسعى بضم الكنيستين الشرقية والغربية وانه يمدهم بالجيوش والنفقة. فأجابوه الى سؤله وفتحوا القسطنطينية بعد حصار ستة ايام. فتسارع الكسيس الثالث الى الهرب ورجع الملك الى إسحاق ونودي في كنيسة اغيا صوفيا باتحاد الكنيستين واقر البطريرك بان البابا خليفة بطرس الرسول ونائب المسيح وكان البابا وقتئذ انوشنسيوس الثالث. ثم ان احد الخوارج دوقاس الملقب مورزفلس ومعناه الأقرن اي المقرون الحاجبين هيج الشعب وغصب الملك وتسمى الكسيس الخامس واغتال الكسيس الرابع وأمات أباه إسحاق كمدا عليه. فأوغرت هذه الفظائع قلوب الصليبين فثاروا للانتقام من الغاصب الخارجي ففتحوا القسطنطينية ثانية. الّا ان أبا الفرج غالي في وصف هذا الفتح ما شاءت أغراضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ثلثين ألفا ولعظم البلد لا يظهر أمرهم فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد ووثبوا فيه وألقوا النار فاحترق نحو ربع البلد. فاشتغل الروم بذلك ففتح الفرنج الأبواب ودخلوها ووضعوا السيف ثلثة ايام وقتلوا حتى الاساقفة والرهبان والقسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة اييّا سوفيّا العظمى وبأيديهم الأناجيل والصلبان يتوسّلون بها ليبقوا عليهم. فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. وكان الفرنج ثلثة ملوك ذوقس البنادقة وفي مراكبة ركبوا الى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب يقاد فرسه. والثاني المركيس مقدم الافرنسيس. والثالث كندافلند [1] وهو أكثرهم عددا. فلما استولوا اقترعوا على الملك فخرجت القرعة على كندافلند فملّكوه عليها وتكون لذوقس البنادقة الجزائر مثل اقريطش ورودس وغيرهما ويكون لمركيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل نيقية ولاذيق وفيلادلف ولم تدم له فإنها تغلّب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري [2] . وفيها في ذي القعدة توفّي السلطان ركن الدين صاحب الروم [3] وملك ابنه قلج ارسلان وكان صغيرا. وكان غياث الدين كيخسرو أخو ركن الدين يومئذ بقلعة من قلاع القسطنطينية ولما سمع بموت أخيه سار الى قونية وقبض على الصبيّ وملكها وجمع الله له البلاد جميعها وعظم شأنه وقوي امره وكان ذلك في رجب سنة احدى وستمائة. وفيها أغارت الكرج على اذربيجان وأكثروا النهب والسبي ثم أغاروا على خلاط وارجيش فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد ولم يخرج إليهم من المسلمين احد يمنعهم فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون. وفي سنة ثلث وستمائة قبض عسكر خلاط على صاحبها محمد بن بكتمر وملكها بلبان مملوك شاه ارمن بن سكمان. وفي سنة اربع وستمائة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل مدينة خلاط. ولما سار عنها الى ملازكرد ليقرّر قواعدها وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم وعصوا ونادوا بشعار شاه ارمن وان كان ميتا يعنون بذلك ردّ الملك الى أصحابه ومماليكه. فعاد إليهم الأوحد وقتل بها خلقا كثيرا من اعيان أهلها فذلّ اهل خلاط وتفرّقت كلمة الفتيان وكان   [1-) ] كندافلند هو بودوين) بغدوين او بغدويل) التاسع الذي اختاره الصليبيون ليكون أول ملك للمملكة التي أنشأها الافرنج في القسطنطينية وتسمّى بودوين الاول. والمركيس هو بونيفاس الثاني مركيس دي مونتفرات ولم يكن فرنسيا انما كان مقدّم جيوش فرنسا وفلاندرا. [2-) ] وتسميه ايضا العرب الاشكري وهو. [3-) ] يريد سلطان قونية صاحب ديار الروم وهذه البلاد يحيط بها من جهة الغرب بحر الروم وتمامه الخليج القسطنطيني وبحر القرم. ومن جهة الجنوب بلاد الشام والجزيرة. ومن جهة الشرق ارمينية. ومن جهة الشمال بلاد الكرج وبحر القرم. وتعرف بلاد الروم الآن بآسيا الصغرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الحكم إليهم وكفي الناس شرّهم فإنهم كانوا يقيمون ملكا ويقتلون آخر والسلطنة عندهم لا حكم لها وانما الحكم لهم وإليهم. وفي سنة ستّ وستمائة ملك العادل ابو بكر بن أيوب بلد الخابور ومدينة نصيبين وحصر سنجار ثم عاد عنها. وفيها استولى جنكزخان على بلاد قراخطا وكان امير بلاد الايغور وهم طائفة كثيرة من الترك في طاعة ملك الخطا فلما صار الصيت لجنكزخان وشاع ذكره في البلاد أرسل اليه امير الايغور وهو الذي يسمونه ايدي قوب [1] اي صاحب الدولة يطلب الامان لنفسه ورعيته والدخول في زمرته. فأكرم جنكز خان رسله وتقدم بوصوله اليه. فبادر ايدي قوب الى الحضور في خدمته من غير توقّف. فأقبل عليه جنكزخان وأحسن قبوله واعاده الى بلاده مكرّما. وفي سنة سبع وستمائة أواخر. رجب توفّي نور الدين ارسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل وكانت مدة ملكه ثماني عشرة سنة وكان شهما شجاعا ذا سياسة للرعايا شديدا على أصحابه أعاد ناموس البيت الاتابكي وجاهه وحرمته بعد ان كانت قد ذهبت. ولما حضره الموت رتّب في الملك ولده الملك القاهر عزّ الدين مسعود وأمر ان يتولّى تدبير مملكته ويقوم بحفظها وينظر في مصالحها مملوكه بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله وسداد رأيه وحسن سياسته وكمال السيادة فيه. وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة العقر الحميدية وقلعة شوش وسيّره الى العقر. وفي سنة تسع وستمائة قصد ثلثة نفر تجّار من البخاريّين ديار التاتار ومعهم البضائع من الثياب المذهبة والكرباس وغيرهما مما يليق بالمغول بما سمعوا ان للمتاع عندهم قيمة وافرة وان الطرق قد اقام بها جنكزخان جماعة يسمّونهم قراقجية اي مستحفظين يخفرون المتردّدين إليهم فقوي عزمهم على ذلك فساروا نحوهم. ولما وصلوا الى نواحيهم وافاهم المستحفظون ووقفوا على ما معهم من السلع فرأوا قماش واحد منهم اسمه احمد لائقا للخازن فسيّروه مع صاحبيه اليه. فعرض احمد متاعه على الحجّاب وطلب في ثمن كل ثوب كان مشتراه عليه عشرة دنانير الى عشرين دينارا ثلثة بواليش. فغضب لذلك جنكزخان وقال: هذا الغافل كأنه يظنّ اننا ما رأينا ثيابا قط وامر الخازن فأراه من الاقمشة التي هداها اليه ملوك الخطا أشياء نفيسة وتقدّم ان يكتب ما معه وأنهبه لمن حضر من الحاشية واعتقل احمد. وطلب صاحبيه فعرضا عليه متاعهما برمّته وقالا: هذا   [1-) ] قال دي كوين: ان ملك الايغور لقبه ايدي قوت وتفسيره المرسل من الله. . (275 ... بن.. بن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 كله انما أتيناه به لنقدمه خدمة للخان لا لنبيعه عليه. فألحّوا عليهما ان يثمّناه فلم يفعلا. فأمر جنكزخان ان يعطيا لكل ثوب مذهّب باليش من ذهب ولكل كرباسين باليش من فضّة وعوّض لأحمد ايضا مثل ما أعطاهما وتقدّم الى الأولاد والخواتين والأمراء ان ينفذوا معهم جماعة من أصحابهم ومعهم بواليش الذهب والفضة ليجلبوا لهم من ظرائف البلاد ونفائسها ما يصلح لهم فامتثلوا ما أمرهم به فاجتمع معهم مائة وخمسون تاجرا من مسلم ونصرانيّ وتركيّ وأرسل معهم رسولا الى السلطان محمد يقول له: ان التجار وصلوا إلينا وقد اعدناهم الى مأمنهم سالمين غانمين وقد سيّرنا معهم جماعة من غلماننا ليحصلوا من ظرائف تلك الأطراف فينبغي ان يعودوا إلينا آمنين ليتأكد الوفاق بين الجانبين وتنحسم موادّ النفاق من ذات البين. فلما وصل التجار الى مدينة أترار طمع أميرها غاير خان فيما معهم من الأموال فطالع السلطان محمد في أمرهم وحسّن له ابادتهم واغتنام ما لهم فأذن له في ذلك فقتلهم طرّا الا واحدا منهم فانه هرب من السجن. ولما رأى ما جرى على أصحابه لحق بديار التاتار وأعلمهم بالمصيبة. فعظم ذلك عند جنكزخان وتأثّر منه الى الغاية وهجر النوم وصار يحدّث نفسه ويفتكر فيما يفعله. وقيل انه صعد الى رأس تلّ عال وكشف رأسه وتضرّع الى الباري تعالى طالبا نصره على من باداه بالظلم وبقي هناك ثلثة ايام بلياليها صائما. وفي الليلة الثالثة رأى في منامه راهبا عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم على بابه يقول له: لا تخف افعل ما شئت فانّك مؤيّد. فانتبه مذعورا ذعرا مشوبا بالفرح وعاد الى منزله وحكى حلمه لزوجته وهي ابنة اونك خان. فقالت له: هذا زيّ اسقف كان يتردّد الى ابي ويدعو له ومجيئه إليك دليل انتقال السعادة إليك. فسأل جنكزخان من في خدمته من نصارى الايغور. هل ههنا احد من الاساقفة. فقيل له عن مار دنحا. فلما طلبه ودخل عليه بالبيرون الأسود قال: هذا زيّ من رأيت في منامي لكن شخصه ليس ذاك. فقال الأسقف: يكون الخان قد رأى بعض قديسينا. ومن ذلك الوقت صار يميل الى النصارى ويحسن الظنّ بهم ويكرمهم. وفي سنة عشر وستمائة قصد جنكزخان بلاد السلطان محمد ولما وصل الى نواحي تركستان أتاه الأمير ارسلان خان من غياليغ [1] والأمير ايدي قوب من بيش باليغ والأمير سفتاق من الماليغ وساروا في عساكرهم. ولما اجتمعت العساكر جميعها بقصبة مدينة أترار سيّر جنكزخان ابنه الكبير في تومانين عسكر الى جانب خجند وتوجّه هو بنفسه الى بخارا ورتّب على محاصرة اترار ولديه جغاتاي واوكتاي فدام القتال   [1-) ] غيالغ ر غياليق س قياليغ [؟] (انظر السطر 14 من الصفحة 227 من كتابنا هذا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عليها مدة خمسة أشهر لان السلطان محمدا كان قد سيّر إليها غاير خان في خمسة آلاف فارس وقراجا خاص حاجب في عشرة آلاف وكانوا كلهم بها. ولما ضاقت الحيلة بمن في المدينة وعجزوا عن المقاومة شاور قراجا لغاير خان في الصلح وتسليم البلد. فأبي غاير خان الا المجاهدة حتى الموت لعلمه ان المغول لا يبقون عليه فلم ير في المصالحة مصلحة. فتوقّف قراجا الى هجوم الليل وخرج في اكثر عسكره الى خارج من باب دروازه الصوفي. فعوقوه الى الصبح ثم حمل الى ابني جنكزخان فاستنطقاه واستعلما منه كنه احوال البلد وأمرا بقتله وقتل كلّ من معه قائلين: إذا كنت ما أبقيت على مخدومك ووليّ نعمتك فلا تبقي ولا علينا. وزحف العسكر الى المدينة فدخلوها واخرجوا أهلها جميعهم الى ظاهرها وأغاروا على ما فيها. وبقي غاير خان في عشرين ألفا من عسكره متفرقين في دروب المدينة لم يتمكن منهم المغول وكانوا يخرجون خمسين خمسين يكاوحون ويطعنون في عسكر المغول ويقتلون ثم يقتلون. وكان هذا دأبهم شهرا الى ان بقي غاير خان ومعه نفران يجالدون في سطح دار السلطنة وكان قد برز مرسوم الخان ان لا يقتل غاير خان في الحرب لكن يحمل اليه حيّا. فلذلك كثر التعب معه وقتل صاحباه وبقي وحده يقاتل بالآجرّ الذي كان الجواري يناولنه من الجدار. فلما عجز عن المناولة أحاط به المغول وقبضوه وحملوه الى جنكزخان بعد عوده من بخارا الى سمرقند وقتل هناك في كوك سراي. وفي سنة اثنتي عشرة في شعبان ملك السلطان محمد مدينة غزنة وكان استولى قبل ذلك على عامّة خراسان وملك باميان. وفي سنة ثلث عشرة في العشرين من جمادى الآخرة توفّي الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو صاحب مدينة حلب وخلف أولادا ذكورا من جملتهم الملك العزيز محمد بن ابنة عمه الملك العادل وكان عمر ولده هذا سنتين وشهورا ووصّى به الى مملوكه شهاب الدين طغرل الخادم فصار اتابكه وقام بتربيته احسن قيام. وفي سنة خمس عشرة وستمائة توفّي الملك القاهر عزّ الدين مسعود بن ارسلان شاه ابن مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل ليلة الاثنين لثلث بقين من ربيع الاول وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر واوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين ارسلان شاه وعمره حينئذ نحو عشر سنين وجعل الوصيّ عليه والمدبّر لدولته بدر الدين لؤلؤا. وكان عمّه عماد الدين زنكي بن ارسلان شاه صاحب العقر يحدّث نفسه بالملك. فرقع بدر الدين ذلك الخرق ورتق ذلك الفتق وأحسن السيرة مع الخاصّ والعامّ وخلع على كافة الناس وغيّر ثياب الحداد عنهم فلم يخصّ بذلك شريفا دون مشروف ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كبيرا دون صغير. وبعد ايام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في امور دولته والتشريفات لهما ايضا. وكان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين صاحب اربل قام في نصر عماد الدين زنكي فملّكه قلعة العمادية وباقي قلاع الهكارية والزّوزان. فراسله بدر الدين يذكره الايمان والعهود ويطالبه بالوفاء بها ثم نزل عن هذا ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم. فلم يفعل وأظهر معاضدة زنكي. فأرسل بدر الدين الى الملك الأشرف موسى بن الملك العادل وهو صاحب ديار الجزيرة وخلاط وانتمى اليه وصار في طاعته وطلب منه المعاضدة. فأجابه بالقبول وبذل له المساعدة وأرسل الى مظفر الدين يقبّح هذه الحالة ويقول له ان يرجع الى الحق والا قصده هو بنفسه وعسكره. فلم تحصل الاجابة منه الى شيء من ذلك الى ان حضرت الرسل من الخليفة الناصر ومن الملك الأشرف في الصلح فأطاعوا واصطلحوا وتحالفوا بحضور الرسل. ولما تقرّر الصلح توفّي نور الدين ارسلان شاه بن الملك القاهر صاحب الموصل ورتّب في الملك بعده اخوه ناصر الدين محمود وله من العمر نحو ثلث سنين وحلف له الجند وركّبه بدر الدين فطابت نفوس الناس إذا علموا ان لهم سلطانا من البيت الاتابكيّ. وفيها توفي الملك العادل ابو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة وكان عمره ثلثا وسبعين سنة وكانت مدة مملكته ثماني عشرة سنة. وخلف ولده الملك الكامل صاحب مصر. والملك المعظّم صاحب دمشق. والملك الأشرف صاحب حرّان والرها وخلاط. والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميّافارقين. والملك الحافظ صاحب قلعة جعبر. والملك العزيز صاحب بانياس. والملك الصالح اسماعيل صاحب بصرى. والملك الفائز يعقوب والملك الأمجد عباس والملك الأفضل والملك القاهر. ولما مات نور الدين الملك القاهر صاحب الموصل وملك اخوه ناصر الدين تجدد لعماد الدين ومظفر الدين الطمع لصغر سنّ ناصر الدين فجمعا الرجال وتجهزا للحركة. فلما بلغ ذلك بدر الدين لؤلؤا أرسل الى عزّ الدين ايبك مقدّم عسكر الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم فساروا الى الموصل رابع رجب سنة خمس عشرة واستراحوا أياما ثم عبروا دجلة ونزلوا شرقيها على فرسخ من الموصل. وجمع مظفر الدين عسكره وسار إليهم ومعه زنكي فعبر الزاب وسبق خبره. وعند انتصاف الليل سار ايبك ولم يصبر الى الصبح فتقطعوا في الليل والظلمة والتقوا هم والخصم على ثلثة فراسخ من الموصل. فامّا عزّ الدين فحمل على ميسرة مظفر الدين فهزمها وبها زنكي. وميمنة مظفر الدين حملت على ميسيرة بدر الدين وهزمتها. وبقي بدر الدين في النفر الذي معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 في القلب وتقدّم اليه مظفر الدين في من معه في القلب إذ لم يتفرقوا فلم يمكنه الوقوف فعاد الى الموصل هاربا وعبر دجلة الى القلعة وتبعه مظفر الدين واقام وراء تلّ حصن نينوى ثلثة ايام ورحل ليلا من غير ان يضربوا كوسا وبوقا. ثم ملك عماد الدين قلعة الكواشي وملك بدر الدين تلّ اعفر وملك الأشرف سنجار وسار يريد الموصل ليجتاز منها الى اربل. فقدم بين يديه عسكره ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلثاء تاسع عشر جمادى الاولى سنة ستّ عشرة وستمائة وكان يوم وصوله مشهودا ترجّل له بدر الدين وحمل الغاشية بين يديه. وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها الى بدر الدين ما عدا قلعة العماديّة وطال الحديث في ذلك نحو شهرين. ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين فوصل قرية السّلاميّة بالقرب من الزاب وكان مظفر الدين نازلا عليه من جانب اربل فأعاد الرسل الى الأشرف في طلب الصلح وكان عسكر الأشرف قد طال بيكاره والناس قد ضجروا فوقعت الاجابة الى الصلح وعاد الأشرف الى سنجار وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة. وفي سنة ستّ عشرة وستمائة توفّي السلطان عزّ الدين كيكاوس بن كيخسرو ابن قلج ارسلان صاحب بلاد الروم ولم يخلف ولدا يصلح للملك لصغر سنّهم. واخرج الجند أخاه علاء الدين كيقباذ من قلعة المنشار التي على الفرات بقرب ملطية وكان مسجونا بها فملّكوه وحلف الناس له فأحسن تدبيره لملكه وكان شديدا على أصحابه ذا عزم وحزم وهيبة عظيمة. وفي سنة سبع عشرة وستمائة في أوائل المحرّم نزل جنكز خان في عساكره على مدينة بخارا وأحاط بها العساكر من جميع جوانبها. وكان بها من عسكر السلطان محمد عشرون ألفا مقدّمهم كوك خان وسونج وكشلي خان [1] . ولما تحققوا عجزهم عن مقاومة المغول خرجوا من الحصار بعد غروب الشمس فأدركهم المحافظون من عسكر المغول على نهر جيحون فاوقعوا فيهم وقتلوهم كافة ولم يبقوا منهم أثرا. فلما فارق المقاتلون المدينة لم يبق لأهلها حيلة الّا التسليم والخروج وطلب الامان فخرج الايمّة والأعيان الى خدمة جنكزخان يتضرّعون اليه ويطلبون حقن دمائهم حسب. فتقدّم بإخراج كل من بالمدينة الى ظاهرها فخرجوا ودخل هو وولده تولي الى المدينة فوقف على باب مسجد الجامع وقال: هذا دار السلطان. فقالوا: لا بل خانة يزدان اي بيت الله. فنزل ودخل الجامع وصعد الى المنبر وقال لاكابر بخارا: ان الصحراء خالية عن العطف فأنتم اشبعوا الخليل   [1-) ] ويروى: كشكي خان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 مما عندكم في الأنبار. ففتحوها وصاروا ينقلون ما فيها من الغلّات ورموا ما في الصناديق من الكتب وجعلوا اواريّ للخيل واحضروا الطعام والشراب هناك وأكلوا وشربوا وطربوا. ثم خرج جنكزخان الى منزله وجمع الايمّة والمشايخ والسادات والعلماء وقال لهم: ان الله ملك الكلّ وضابط الكلّ أرسلني لا طهّر الأرض من بغي الملوك الجائرة الفسقة الفجرة وذكر لهم ما فعله امير اترار باذن سلطانه بالتجار الى غير ذلك ثم أمرهم ان يعتزلوا الأغنياء واصحاب الثروة بمعزل عن الفقراء فعزلوهم وكانوا مائتي ألف وثمانين ألفا. فقال لهم: ان الأموال التي فوق الأرض لا حاجة بنا الى استعلامها منكم وانما نريد ان تظهروا لنا الدفائن التي تحت الأرض. فقبلوا بالسمع والطاعة. ووكلوا مع كل قوم باسقاها يستخرج المال وأشار سرّا الى المستخرجين ان لا يكلفوهم ما لا يطيقونه ويرفقوا بهم وذلك لما رأى من حسن اجابتهم الى ما أمروا به. ولأن جماعة من عسكر السلطان كانوا مختفين بالمدينة امر فرموا في محالها النار فاحترقت المدينة بأسرها لان جلّ عمائرها من خشب فبقيت عرصة بخارا قاعا صفصفا وتفرّق أهلها منتزحين الى خراسان. وفيها في ربيع الاول نزل جنكزخان على مدينة سمرقند وكان قد رتّب السلطان محمد فيها مائة ألف وعشرة آلاف فارس يقومون بحراستها. فلما نازلها منع أصحابه عن المقاتلة وانفذ سنتاي نوين ومعه ثلثون ألف محارب في اثر السلطان محمد. وغلاق نوين وبسور [1] نوين الى جانب طالقان. وأحاط باقي العسكر بالمدينة وقت سحر فبرز إليهم مبارزو الخوارزمية ونازعوهم القتال وجرحوا جماعة كثيرة من التاتار وأسروا جماعة وأدخلوهم المدينة. فلما كان من الغد ركب جنكزخان بنفسه ودار على العسكر وحثهم على القتال فاشتدّ القتال ذلك اليوم بينهم ودام النهار كله من اوله الى أول الليل ووقف الابطال من المغول على أبواب المدينة ولم يمكّنوا أحدا من المجاهدين من الخروج فحصل عند الخوارزمية فتور كثير ووقع الخلف بين أكابر المدينة وتلوّنت الآراء فبعض مال الى المصالحة والتسليم وبعض لم يأمن على نفسه وان أومن خوفا من غدر التاتار فقوي عزم القاضي وشيخ الإسلام على الخروج فخرجا الى خدمة جنكزخان وطلبا الامان لهما ولأهل المدينة فلم يجبهما الّا الى أمان أنفسهما ومن يلوذ بهما. فدخلا الى المدينة وفتحا أبوابها فدخل المغول واشتغلوا ذلك اليوم بتخريب مواضع من السور وهدم بعض الابرجة ولم يتعرضوا الى احد الى ان هجم الليل فدخلوا الى المدينة وصاروا يخرجون من الرجال والنساء مائة [2]   [1-) ] بسور ر يسورس [؟] (انظر السطر 5 من الصفحة 255 من هذا الكتاب) . [2-) ] من الرجال والنساء مائة ر الرجال من النساء من مائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 مائة بالعدد الى الصحراء ولم ينكفّوا الّا عن القاضي وشيخ الإسلام وعمّن التجأ إليهما فاحتمى بهما نيّف وخمسون ألفا من الخلق. ولما أصبح الصباح شرع المغول في نهب المدينة وقتل كل من لحقوه مختبئا في المغائر ومتواريا بالستائر وقتلوا تلك الليلة نحو ثلثين ألف تركيّ وقنقليّ وقسموا بالنهار ثلثين ألفا على الأولاد والأمراء وأطلقوا الباقي ليرجعوا الى المدينة ويجمعوا من بينهم مائتي ألف دينار ثمن أرواحهم وكان المحصّل لهذا المال ثقة الملك والأمير عميد وهما من أكابر سمرقند والشحنة طايفور [1] . ومن هناك توجّه جنكزخان بعساكره الى نواحي خوارزم وانفذ الرسل إليهم يدعوهم الى الايلية [2] والدخول في طاعته وشغلهم أياما بالوعد والوعيد والتأميل والتهديد الى ان اجتمعت العساكر ورتّب آلات الحرب من منجنيق وما يرمى بها. ولأن صقع خوارزم لم يكن فيه حجر كان المغول يقطعون من أشجار التوت قطعا كالحجارة ويرمون بها وملأوا الخندق بالتراب والخشب والهشيم وانشبوا الحرب والقتال على المدينة من جميع جوانبها حتى عجز من فيها عن المقاومة فملكوا سورها واضرموا النار في محالهّا فأتت على اكثر دورها وما فيها فأيس المغول من الانتفاع بشيء من غنائمها فاعرضوا عن الحريق وصاروا يملكون محلّة محلّة لان أهلها كانوا يمتنعون فيها اشدّ امتناع. ولم يزالوا كذلك الى ان ملك المغول كل المحالّ واخرجوا الخلائق كافة الى الصحراء وفرزوا الصنّاع والمحترفين الى الناحية وكانوا مائة ألف وأسروا البنين والبنات والنساء اللواتي ينتفع بهنّ وقسموا الباقي من الرجال والنساء العجائز على العسكر ليقتلوهم فقتل كل واحد منهم أربعا وعشرين شخصا. وفي أوائل سنة ثماني عشرة وستمائة عبر جنكزخان نهر جيحون وقصد مدينة بلخ فخرج اليه أعيانها وبذلوا الطاعة وحملوا الهدايا وأنواعا من الترغو اي المأكل والمشرب. فلم يقبل عليهم بسبب ان السلطان جلال الدين بن السلطان محمد كان في تلك النواحي يهيّي اسباب الحرب ويستعدّ للقتال فأمر بخروج اهل بلخ الى الصحراء ليعدّوهم كالعادة فلما خرجوا بأسرهم رمى فيهم السيف. ومن هناك توجه نحو الطالقان وقتل اكثر أهلها وأسر من صلح للاسر وأبقى البعض. وسار الى الباميان فعصى أهلها وقاتلوا قتالا شديدا واتفق ان أصيب بعض أولاد جغاتاي بسهم جرح فقضى نحبه وكان من احبّ أحفاد جنكزخان اليه فعظمت المصيبة بذلك واضطرمت النيران في قلوب المغول وجدّوا في القتال الى ان فتحوها وقتلوا كل من فيها حتى الدوابّ والبقر والاجنّة التي في بطون   [1-) ] ويروى: كايفور. [2-) ] كذا في الأصل. والصواب الأليّة اي القسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الحبالى ايضا ولم يأسروا منها أحدا قط وتركوها أرضا قفرا ولم يسكنها احد الى اليوم وسمّوها ما وباليغ اي قرية بؤس. ولما فرغ جنكزخان من تخريب بلاد خراسان سمع ان السلطان جلال الدين قد استظهر بالعراق فسار نحوه ليلا ونهارا بحيث ان المغول لم يتمكنوا من طبخ لحم إذا نزلوا. فحين وصلوا الى غزنة أخبروا بان جلال الدين من خمسة عشر يوما رحل عنها وهو عازم على ان يعبر نهر السند. فلم يستقرّ جنكزخان ورحل في الحال وحمل على نفسه بالسير حتى لحقه في أطراف السند فطاف به العسكر من قدامه ومن خلفه وداروا عليه دائرة وراء دائرة كالقوس الموتورة ونهر السند كالوتر وهو في وسط. وبالغ المغول في المكاوحة وتقدم جنكزخان ان يقبض حيا ووصل جغاتاي واوكتاي ايضا من جانب خوارزم. فلما رأى جلال الدين انه يوم عمل شهم وضرغم إبطال المغول وتطلّب اطلابهم وحمل عليهم حملات وشقّ صفوفهم مرّة بعد مرّة وطال الأمر بمثل ذلك لامتناع المغول عن رميه بالنشّاب ليحضروه غير مؤوف بين يديّ جنكزخان امتثالا لمرسومه فكانوا يتقدمون اليه قليلا قليلا. فلما عاين تضييق الحلقة عليه نزل فودّع أولاده بل اكباده من نسائه وخواصّه باكيا كئيبا ثم رمى عنه الجوشن وركب جنيبه وهو كالأسد الغيور وهمّ بالعبور وافحم فرسه النهر فانقحم وعام وخلص الى الساحل وجنكزخان وأصحابه ينظرون اليه ويتأملونه حيارى. ولما شاهد ذلك جنكزخان وضع يده على فمه متعجبا والتفت الى ولديه وقال لهما: من اب [1] مثل هذا الابن ينبغي ان يولد. إذا نجا من هذه الوقعة فوقائع كثيرة تجري على يديه. ومن خطبه لا يغفل من يعقل. وأراد جماعة من البهادوريّة ان يتبعوه في الماء فمنعهم جنكزخان قائلا: انكم لستم من رجاله لأنه كان يرامي المغول بالسهام وهو في وسط الشط. فلما فاتهم أخذوا امر الخان بإحضار حرمه وأولاده وتقدم بقتل جميع الذكور حتى الرضّع. ولأن جلال الدين عند ما أراد الخوض في النهر القى جميع ما كان صحبته من آنية الذهب والفضة والنقرة فيه امر الغوّاصين فاخرجوا منها ما أمكن إخراجه. وكان هذا الأمر الذي هو من عجائب الأنام ودواهي الأيام في رجب فقيل في المثل: عش رجبا تر عجبا. وفيها اعني سنة ثماني عشرة وستمائة كان اجتماع الملك المعظم والملك الأشرف مع نجدة صاحب ماردين وعسكر حلب والملك الناصر صاحب حماة والملك المجاهد صاحب حمص واتصال الجميع بالملك الكامل على عزم قصد الفرنج وردّ دمياط منهم. فأحاطوا   [1-) ] من اب ر من الأب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بهم وضيقوا السبيل عليهم فأجابوا الى الصلح على تسليم دمياط واطلاق ما بأيديهم من أسراء المسلمين واطلاق ما بأيدي المسلمين من أسراهم وقرّر الصلح عاما مع الدكاد نائب البابا وملك عكا وملوك فرنجة ومقدمي الداوية والاسبتارية [1] . وتسلّم الكامل دمياط يوم الأربعاء تاسع عشر رجب. وكانت مدة مقام الفرنج بها سنة كاملة واحد عشر شهرا. وفي سنة احدى وعشرين وستمائة توفي الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين وقد نزل عن ملك مصر والشام وقنع بسميساط كرها [2] . وكان عنده علم وفطنة لكنة كان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عمّا يجب للدول وتدبير الممالك. ولما أخذت منه البلاد كتب الى الخليفة الناصر كتابا ضمّنه شكاية عمّه العادل وأخيه العزيز حيث أخذا منه البلاد ونكثا عهد أبيه له بها. وكتب في أول الكتاب بيتين من الشعر عملهما واحسن فيهما وهما: مولاي انّ أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد أخذا بالسيف حقّ علي فانظر الى حرف هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الاول يريد بأبي بكر عمه وبعثمان أخاه وبعلي نفسه. فأجابه الناصر عن كتابه بكتاب كتب فيه: وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالصدق يخبر ان أصلك طاهر غصبوا عليا حقه ان لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر فاصبر فانّ غدا عليه حسابهم ... وابشر فناصرك الامام الناصر وكان الملك الأفضل قد شغله أبوه في صباه بشيء من العلم فحصل منه طرفا من العربية والشعر وكان ينظمه ويعتني به بالنسبة الى حاله. وفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة توفي الخليفة الناصر لدين الله ابو العباس احمد في ليلة عيد الفطر وكان عمره سبعين سنة ومدّة خلافته ستا وأربعين سنة واحد عشر شهرا. وكان في الأيام الامامية الناصريّة الحكيم عبد السلام بن جنكي دوست الجبلي   [1-) ] . [2-) ] كان الملك الا فضل بعد وفاة والده سنة (589) ملك مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام فأخذ منه كل هذه المدن سنة اثنتين وتسعين. وكان ملك سنة خمس وتسعين ديار مصر فأخذت منه سنة ست وتسعين فانتقل الى سميساط واقام بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 البغدادي قد قرأ علوم الأوائل واجادها واشتهر بهذا الشان شهرة تامة وحصل له بتقدمه حسد من ارباب الشرّ فثلبه أحدهم بانه معطّل فأوقعت الحفظة عليه وعلى كتبه فوجد فيها الكثير من علوم الفلاسفة وبرزت الأوامر الناصريّة بإخراجها الى موضع ببغداد يعرف بالرحبة وان يحرق الجمّ منها بحضور الجمع ففعل ذلك وأحضر لها عبيد الله التيمي المعروف بابن المارستانية وجعل له منبر وصعد عليه وخطب خطبة لعن بها الفلاسفة ومن يقول بقولهم وذكر الركن هذا بشرّ وكان يخرج الكتب التي له كتابا كتابا يتكلم عليه ويبالغ في ذمّه وذمّ مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار. قال القاضي الأكرم الوزير. جمال الدين بن القفطي رحمه الله: اخبرني الحكيم يوسف السبتي الاسرائيلي قال: كنت ببغداد يومئذ تاجرا وحضرت المحفل وسمعت كلام ابن المارستانية وشاهدت في يده كتاب الهيئة لابن الهيثم وهو يقول: وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصمّاء والمصيبة العمياء. وبعد إتمام كلامه خرقها وألقاها في النار. فاستدللت على جهله وتعصبه إذ لم يكن في الهيئة كفر وانما هي طريق الى الايمان ومعرفة قدر الله جلّ وعزّ فيما أحكمه ودبّره. واستمرّ الركن عبد السلام في السجن معاقبة على ذلك الى ان أفرج عنه سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وفي هذه السنة توفي يحيى بن سعيد بن ماري الطبيب النصراني صاحب المقامات الستين صنفها واحسن فيها وكان فاضلا في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطبّ. ومن شعره في الشيب: نفرت هند من طلائع شيبي ... واعترتها سآمة من وجومي هكذا عادة الشياطين ينفر ... ن إذا ما بدت نجوم الرجوم ومن أطباء الدار الامامية الناصريّة صاعد بن هبة الله بن المؤمل ابو الحسن النصرانيّ الحظيري المتطبّب واخوه ابو الخير الاركيذياقون وهما اخوا الجاثليق المعروف بابن المسيحي. اما صاعد فخدم الخليفة الناصر وتقرّب قربا كثيرا وكانت له المعرفة التامة بالطبّ والمنطق وصنّف كتابا صغير الحجم سمّاه الصفوة جمع فيه أجزاء الطبّ علميّها وعمليّها وألحق في آخر الفنّ الاول من الجزء الثاني ثلثة فصول في الختانة لكونها منوطة بالاطبّاء ببغداد وان كان لا يسمع لأحد من المتقدمين ولا المتأخرين فيها قولا بل فيما يطول القلفة. وكان ينسخ بخطه كتب الحكمة. ومات في آخر سنة احدى وتسعين وخمسمائة. واما الاركيذياقون وكان ايضا فاضلا صنّف كتابا مختصرا لخص فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 مباحث كتاب الكليات من القانون سمّاه الاقتضاب ثم اختصره وسمّى المختصر انتخاب [1] الاقتضاب. وحكى لي بعض الاطبّاء ببغداد ان أباه حمله وهو مترعرع الى ابن التلميذ ليشغله فقال: هذا ابنك صغير جدا. فقال: غرضي التبرّك منك. فأقرأه المسئلة الاولى من مسائل حنين. وفي سنة اربع وتسعين وخمسمائة توفي محمد بن عبد السلام المقدسيّ ثم الماردينيّ كان أبوه قاضي ماردين وجدّه قاضي دنيسر قرأ الطبّ على ابن التلميذ فبلغ منه الغاية حتى ان الملوك كانت تخطبه من النواحي والأقطار وكان على علوّ السنّ يكرّر على كتب كبار. وقرأ عليه الشهاب السهرورديّ شيئا من الحكمة. ولم يصنّف كتابا مع غزارة علمه وتمكنه وحسن تصرّفه فيه الّا انه شرح أبيات ابن سينا التي أولها: هبطت إليك. وكان ابو الخير بن المسيحي يفخم امره ويعظم شأنه. وفي سنة خمس وستمائة مات موسى بن ميمون اليهوديّ الاندلسيّ وكان قد قرأ علم الأوائل بالأندلس وأحكم الرياضيات وقرأ الطبّ هناك فاجاده علما ولم يكن له جسارة على العمل. وأكره على الإسلام فأظهره وأسرّ اليهودية. ولما التزم بجزيات الإسلام من القراءة والصلاة فعل ذلك الى ان أمكنته الفرصة في الرحلة بعد ضمّ أطرافه فخرج عن الأندلس الى مصر ومعه اهله ونزل مدينة الفسطاط بين يهودها فأظهر دينه وارتزق بالتجارة في الجوهر وما يجري مجراه. ولما ملك العزيز [2] مصر وانقضت الدولة العلوية اشتمل عليه القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني ونظر اليه وقرّر له رزقا وكان يشارك الأطباء ولا ينفرد برأيه لقلّة مشاركته ولم يكن وقفا في المعالجة والتدبير. وكان عالما بشريعة اليهود وصنّف كتابا في مذهب اليهود سمّاه بالدلالة وبعضهم يستجيده وبعضهم يذمّه ويسمّيه الضلالة. وغلب عليه النحلة الفلسفية وصنّف رسالة في المعاد الجسماني وأنكر عليه مقدمو اليهود فأخفاها الّا عمّن يرى رأيه. ورأيت جماعة من يهود بلاد الفرنج الغتم بأنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمّونه كافرا. وله تصنيفات حسنة في الرياضيات ومقاربة في الطبّ. وابتلي في آخر زمانه برجل من الأندلس فقيه يعرف بابي العرب وصل الى مصر وحاققه على إسلامه ورام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له: رجل يكره لا يصحّ إسلامه شرعا. ولما قرب وفاته تقدّم الى مخلفيه ان يحملوه   [1-) ] انتخاب ر انتخاب. [2-) ] العزيز ر الغز.- ويروى: الغز والمعز وكلاهما غلط. والملك العزيز هو عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 إذا انقطعت رائحته الى بحيرة طبرية فيدفنوه هناك لما فيها من قبور صالحيهم ففعل به ذلك. وفي سنة ست وستمائة في ذي الحجة توفي بهراة الامام الفخر الرازيّ محمد بن عمر المعروف بابن الخطيب بالريّ. وكان من أفاضل اهل زمانه بزّ القدماء في الفقه وعلم الأصول والكلام والحكمة وردّ على ابي عليّ بن سينا واستدرك عليه. وكان يركب وحوله السيوف المجذبة وله المماليك الكثيرة والمرتبة العالية والمنزلة الرفيعة عند السلاطين الخوارزمشاهية. وعنّ له ان تهوّس بعمل الكيمياء وضيّع في ذلك مالا كثيرا ولم يحصل على طائل. وسارت مصنفاته في الأقطار واشتغل بها الفقهاء. ورحل الى ما وراء النهر لقصد بني مارة ببخارا ولم يلق منهم خيرا وكان فقيرا يومئذ لا جدة له فخرج من بخارا وقصد خراسان واتفق اجتماعه بخوارزمشاه محمد بن تكش فقرّبه وأدناه ورفع محلّه وأسنى رزقه. واستوطن مدينة هراة وتملك بها ملكا وأولد أولادا واقام بها حتى مات ودفن في داره. وكان يخشى ان العوام يمثلون بجثة لما كان يظنّ به من الانحلال. وفي مسيرة الى ما وراء النهر يقصد بخارا في حدود سنة ثمانين وخمسمائة اجتاز بعبد الرحمن بن عبد الكريم [1] السرخسيّ الطبيب ونزل عليه فأكرمه وقام بحقه مدّة مقامه بسرخس فأراد ان يفيده مما لديه فشرع له في الكلام على كليات القانون وشرح المستغلق من ألفاظ هذا الكتاب ورسمه باسمه وذكره في مقدمته ووصفه واثنى عليه. وفي سنة ثماني وستمائة توفي المسيحي ابن ابي البقاء النيلي نزيل بغداد وكنيته ابو الخير ويعرف بابن العطار وكان خبيرا بالعلاج قيّما به له ذكر وقرب من دار الخليفة يطبّ النساء والحواظي عاش عمرا طويلا وحصل مالا جزيلا وخلف ولدا طبيبا لم يكن رشيدا يكنى أبا عليّ. ولما مات أبوه اتفق ان كان على بعض مسرّاته إذ كبس في ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الاول من سنة سبع عشرة وستمائة وعنده امرأة مسلمة تعرف بستّ شرف. فلما قبض عليه اقرّ على جماعة من المسلمات كنّ يأتينه لأجل دنياه من جملتهنّ زوجة ابن البخاري صاحب المخزن اسمها اشتياق. فخرج الأمر بسجن المرأتين بسجن الطرّارات وفدى ابو عليّ نفسه بستة آلاف دينار. وفي سنة تسع عشرة وستمائة في المحرّم توفي عليّ بن احمد ابو الحسن الطبيب المعروف بابن هبل وكان من اهل بغداد عالما بالطبّ والأدب ولد ببغداد ونشأ بها ثم جاز الى الموصل وخرج الى اذربيجان واقام بخلاط عند صاحبها شاه ارمن يطبّه وقرأ   [1-) ] الكريم ر الرحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الناس عليه. وفارق تلك الديار لسبب وهو ان بعض الطشتدراية قال له يوما وقد نظر قارورة الملك في بعض امراضه: يا حكيم لم لا تذوقها. فسكت عنه. فلما انفصل المجلس قال له في خلوة: قولك هذا اليوم عن اصل أم من قول غيرك او هو شيء خطر لك. فقال: انما خطر لي لأني سمعت ان شرط اختبار القارورة ذوقها. فقال: الأمر كذلك ولكن لا في كل الأمراض وقد اسأت اليّ بهذا القول لان الملك إذا سمع هذا ظنّ اني قد أخللت بشرط واجب من شروط خدمته. ثم انه عمل على الخروج لأجل هذه الحركة والخوف من عاقبتها بعد ان رشا الطشت دار حتى لا يعود الى مثلها. وخرج وعاد الى الموصل وقد تموّل فأقام بها الى حين وفاته. وعمّر حتى عجز عن الحركة وعدم بصره فلزم منزله قبل وفاته بسنتين ومات وعمره خمس وتسعون سنة. وكان الناس يترددون ويقرأون عليه. وصنّف كتابا حسنا في الطبّ سماه المختار يجيء في اربع مجلدات. وفي سنة عشرين وستمائة ثامن وعشرين جمادى الاولى ليلة الخميس قتل ابو الكرم صاعد بن توما النصرانيّ الطبيب البغداديّ ويلقب بأمين الدولة. كان فاضلا حسن العلاج كثير الاصابة وكان من ذوي المروآت تقدّم في ايام الامام الناصر الى ان صار في منزلة الوزراء واستوثقه على حفظ أمواله وخواصّه وكان يودعها عنده ويرسله في امور خفيّة الى الوزير ويظهر له كلّ وقت. وكان حسن الوساطة جميل المحضر تقضى على يده حاجات الناس. وكان الامام الناصر في آخر أيامه قد ضعف بصره وأدركه سهو في اكثر أوقاته. ولما عجز عن النظر في القصص استحضر امرأة من النساء البغداديات تعرف بستّ نسيم وقرّبها وكانت تكتب خطا قريبا من خطه وجعلها بين يديه تكتب الاجوبة [1] وشاركها في ذلك خادم اسمه تاج الدين رشيق فصارت المرأة تكتب في الاجوبة ما تريد فمرّة تصيب ومرارا تخطئ. واتفق ان كتب الوزير القمّيّ المدعو بالمؤيّد مطالعة وعاد جوابها وفيه إخلال بيّن فتوقف الوزير وأنكر ثم استدعى الحكيم صاعد بن توما وسأله عن ذلك سرا. فعرّفه ما الخليفة عليه من عدم البصر والسهو الطارئ في اكثر الأوقات وما يعتمده المرأة والخادم من الاجوبة. فتوقّف الوزير عن العمل بأكثر الأمور الواردة عليه. وتحقّق الخادم والمرأة ذلك وحدسا ان الحكيم هو الذي دلّه على ذلك. فقرّر رشيق مع رجلين من الجند ان يغتالا الحكيم ويقتلاه وهما رجلان يعرفان بولدي قمر الدين من الأجناد الواسطية. فرصدا الحكيم في بعض الليالي الى ان خرج   [1-) ] الاجوبة. يروى بعدها «ما تريد» . ابن العربي- 16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 من دار الوزير عائدا الى دار الخليفة فتبعاه الى باب الغلّة والمظلمة ووثبا عليه بسكينيهما وجرحاه وانهزما. فبصر بهما وصاح: خذوهما. فعادا اليه وقتلاه وجرحا النفّاط الذي بين يديه. وحمل الحكيم ابن توما الى منزله ودفن بداره في ليلة. وبعد تسعة أشهر نقل الى تربة آبائه في البيعة بباب المحوّل. وبحث الخليفة والوزير عن القاتلين فعرفا وامر بالقبض عليهما وفي بكرة تلك الليلة أخرجا الى موضع القتل وشقّ بطناهما وصلبا على باب المذبح المحاذي لباب الغلة التي جرح في بابها. (الظاهر بن الناصر) : ولما توفي الناصر الدين الله بويع ابنه الامام الظاهر بأمر الله عدّة الدين ابو نصر محمد في ثاني شوّال من سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وكان والده قد بايع له بولاية العهد وكتب بها الى الآفاق وخطب له بها مع أبيه على سائر المنابر. ومضت على ذلك مدّة ثم نفر عنه بعد ذلك وخافه على نفسه فانه كان شديدا قويا ايّدا عالي الهمة فأسقط اسمه من ولاية العهد في الخطبة واعتقله وضيّق عليه ومال الى أخيه الصغير الأمير عليّ الّا انه لم يعهد اليه. فاتفقت وفاة الأمير عليّ الصغير في حياة والده وخلف أولادا طفالا فبعث بهم الى ششتر. فعلم الامام الناصر انه لم يبق له ولد تصير الخلافة اليه بعده غيره. فعهد اليه وبايع له الناس وهو في الحبس مضبوط عليه وكانت عامّة اهل بغداد يميلون اليه. فلما توفي الناصر أخرجه ارباب الدولة وبايعوه بالخلافة. وقال لما بويع: كيف يليق ان يفتح الإنسان دكانا بعد العصر. قد نيّفت على الخمسين سنة وأتقلّد الخلافة. ثم أظهر من العدل والأمن ما لم يمكن وصفه وأزال الظلم وردّ على الناس أموالا جزيلة واملاكا جليلة كانت قد أخذت منهم وأزال مكوسا كثيرة وكانت قد جدّدت. وارتفع عن الناس ما كانوا ألفوه من الخوف في زمان والده فأظهروا نعمتهم وامتنع المفسدون من السعايات. وعقد لبغداد جسرا ثانيا عظيما جديدا وأنفق عليه مالا كثيرا فصار في بغداد على دجلتها جسران. وما زالت دولته كذلك عادلة آمنة منذ ولي الى ان توفي في رابع عشر شهر رجب سنة ثلث وعشرين وستمائة بعد تسعة أشهر من ولايته. وفيها مات يوسف بن يحي بن اسحق السبتيّ المغربيّ. هذا كان طبيبا من اهل قادس وقرأ الحكمة بجلادة فشدا فيها وعانى شيئا من علوم الرياضة فأجادها وكانت حاضرة على ذهنه عند المحاضرة. ولما ألزم اليهود في تلك البلاد بالإسلام او الجلاء كتم دينه وارتحل الى مصر بماله واجتمع بموسى بن ميمون القرطبيّ رئيس اليهود بمصر وقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 عليه شيئا وسأله إصلاح هيئة ابن أفلح الاندلسيّ فإنها صحبته من سبتة فاجتمع هو وموسى على إصلاحها وتحرّرها. وخرج من مصر الى الشام ونزل كحلب وأقام بها واشترى ملكا قريبا وتزوّج وخدم اطبّاء الخاص في الدولة الظاهرية بحلب وكان ذكيا. حادّ الخاطر. قال القاضي الأكرم رحمه الله: كان بيني وبين يوسف هذا مودّة طالت مدّتها فقلت له يوما: ان كان للنفس بقاء وتعقل به حال الموجودات من خارج بعد الموت فعاهدني على ان تأتيني ان متّ قبلي وآتيك ان متّ قبلك. فقال: نعم. ووصيته ان لا يغفل. ومات واقام سنتين ثم رأيته في النوم وهو قاعد في عرصة مسجد من خارجه في حضيرة له وعليه ثياب جدد بيض من النصفي فقلت له: يا حكيم ألست قرّرت معك ان تأتيني لتخبرني بما ألفيت. فضحك وأدار وجهه فأمسكته بيدي وقلت: لا بدّ ان تقول لي كيف الحال بعد الموت. فقال لي: الكلّيّ لحق بالكلّ وبقي الجزئي في الجزء. ففهمت عنه في حاله كأنه أشار الى النفس الكلية عادت الى عالم الكلّ والجسد الجزئي بقي في الجزء وهو المركب الارضي [1] . فتعجبت بعد الاستيقاظ من لطيف إشارته. نسأل الله العفو عند العود اليه بعد الموت. (المستنصر بن الظاهر) ولما توفّي الامام الظاهر بأمر الله بويع ابنه جعفر المنصور ولقب المستنصر بالله بويع يوم مات والده. ولما بويع البيعة العامّة ركب للناس ركوبا ظاهرا واستمرّ على هذه الحالة مدّة طويلة لا يختفي في ركوبه من الناس وأظهر من العدل وحسن السيرة أضعاف ما أظهره والده وأفاض من الصدقات ما أربى على من تقدّمه وتقدّم بإنشاء مدرسته المعروفة بالمستنصرية التي لم يعمّر في الدنيا مثلها فعمّرت على أعظم وصف في صورتها وآلاتها واتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها ووقوفها. ووقفها على المذاهب الاربعة ورتّب فيها اربعة من المدرّسين في كل مذهب مدرّسا وثلاثمائة فقيه. لكلّ مذهب خمسة وسبعون فقيها. ورتّب لهم من المشاهرات والخبز. والطعام في كل يوم ما يكفي كل فقيه ويفضل عنه وبنى لهم داخل المدرسة حمّاما خاصا للفقهاء وطبيبا خاصا يتردّد إليهم في بكرة كل يوم يفتقدهم ومخزنا فيه كل ما يحتاج اليه من انواع ما يطبخ من الاطعمة ومخزنا آخر فيه انواع الاشربة والادوية. وفي سنة اربع وعشرين وستمائة توفي الملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق في سلخ ذي القعدة وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة [2] . وكانت همته عالية وصار   [1-) ] ويروى: المركز الارضي. [2-) ] كان ملكه لمدينة دمشق من حين وفاة والده الملك العادل عشر سنين وستة أشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ملكه بدمشق والقدس والسواحل الى ولده الملك الناصر صلاح الدين داود فاستقرّ ملكه بها وحمل عمّه الملك العزيز وعمه الملك الصالح الغاشية بين يديه. وفيها قفل جنكزخان من الممالك الغربية الى منازله القديمة الشرقية ثم رحل من هناك الى بلاد تنكوت [1] وهنالك عرض له مرض من عفونة ذلك الهواء الوخيم ولما قوي مرضه استدعى أولاده جغاتاي واوكتاي والغ نوين وكلكان وجورختاي واوردجار [2] وقال لهم: انني قد أيقنت مفارقة الدنيا لعجز قوتي عن حمل ما بي من الآلام ولا بدّ من شخص يقوم بحفظ المملكة على حالها والذّبّ عنها. وقد أعلمتكم غير مرّة ان ابني اوكتاي يصلح لهذا الشأن لما رأيت من مزيّة رأيه المتين وعقله المبين والآن فقد جعلته وليّ عهدي وقلّدته ما بيدي من جميع الممالك فما قولكم في هذا الذي استصوبته. فجثا الأولاد والنوينية المذكورون على ركبهم وقالوا: جنكزخان هو المالك للرقاب ونحن العبيد السامعون المطيعون في جميع ما يتقدّم به على وفق مراده ومرسومه. وعند فراغه من الوصية اشتد وجعه وتوفّي لا ربع مضين من شهر رمضان سنة اربع وعشرين وستمائة وكان مدّة ملكه نحو خمس وعشرين سنة [3] . فأرسل الولدان والأمراء الرسل الى باقي الأولاد والأمراء ليجتمعوا في القوريلتاي [4] اي في المجمع الكبير. وفي سنة خمس وعشرين وستمائة تردّدت الرسل بين الفرنج والملك الكامل في طلب الصلح فاتفق على تسليم البيت المقدّس الى الفرنج فتسلّموه ومواضع كثيرة أخر من بلاد الساحل. وانما أجابهم الكامل لما رأى من كثرة عساكرهم وأمداد البحر لهم بالرجال والأموال فخاف على بلاده ان تؤخذ منه عنوة فأرضاهم بذلك. وفي سنة ستّ وعشرين وستمائة تمّ اجتماع الأولاد وأمراء المغول فوصل من طرف القفجاق الأولاد توشي [5] هر دو باتوا سيبان تنكوت بركه بركجار بغاتيمور اقناس جغاتاي. ومن طرف اتميل اوكتاي. ومن طرف المشرق عمهم اوتكين وبلكتاي نوين والجتاي نوين والغ نوين. واما الأولاد الصغار فكانوا في اردو [6] جنكزخان. وفي   [1-) ] تنكوت بلاد شرقي التبت وغربي نهر الصين المسمى «هو» النهر الأصفر. [2-) ] اوردجار ر اوردجان.- ويروى: اروجان. ويروى في نسخة خطية: اردوجار. [3-) ] قال دي كوين في تاريخه انه ملك اثنتين وعشرين سنة وعمر ستا وستين سنة. [4-) ] ويروى: القعريلياي. [5-) ] يريد توشي وأولاده كما سيرد في الصفحة 248 من هذا الكتاب. وهناك يروى سيبقان بدل سيبان. وفي نسخة خطية: سبقان بدون ياء. ومعنى توشي: الضيف. [6-) ] اردو معناها بالتركية المعسكر والمحلة. وقد تستعملها العامة في وقتنا فتقول: اوردي وعرضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 زمن الربيع حضروا كلهم في عساكرهم وثلثة ايام متوالية فرحوا جميعا ثم شرعوا فيما تقدّم به جنكزخان من الوصية والعهد بالمملكة الى اوكتاي فامتثلوا كلهم الأوامر الجنكزخانية واعترفوا بأهليته لذلك. فاستقالهم اوكتاي الولاية قائلا: ان امر الوالد وان كان لا اعتراض عليه لكن ههنا أخ اكبر مني وأعمام هم اولى مني بها. فلم يقيلوه ايّاها واصرّوا على انه لا بدّ من امتثال مرسوم الوالد وداموا على إصرارهم أربعين يوما وما زالوا يتضرعون اليه ويلحّون عليه بالمسألة حتى أجاب الى ذلك فكشفوا رؤوسهم ورموا مناطقهم على أكتافهم وأخذ جغاتاي اخوه الكبير بيده اليمنى واوتكين عمّه بيده اليسرى فأجلساه على سرير المملكة ولقّباه قاان ولزم له الغ نوين كأس شراب فسقاه وجثا كل من كان حاضرا داخل الخزكاه وخارجها على ركبتيه تسع مرّات ودعوا له ثم برزوا كلهم الى خارج وجثوا ثلث مرّات حيال الشمس. وانما اختصّ الغ نوين بلزوم الكاس لأنه أصغر أولاد جنكزخان وفي عادة المغول ان الابن الصغير لا يقتسم ولا يخرج عن بيت أبيه وإذا مات الأب فهو يتولّى تدبير المنزل. ففي تلك الأربعين يوما كان يقول اوكتاي: ان الغ نوين هو صاحب البيت واكثر مواظبة لخدمته وابلغ مني تعلّما لسياسته فالمصلحة تفويض هذا الأمر اليه. فلذلك سبق الجميع بتصريح الطاعة. واما الأمراء فانتخبوا من بناتهم الأبكار الصالحة لخدمة قاان أربعين بنتا وحملوهنّ مزيّنات بالحليّ الفاخرة والخيول الرائعة الى خدمته. ولما فرغ من هذه الأمور صرف همته الى ضبط الممالك وجهّز جورماغون في ثلثين ألف فارس وسيّرهم الى ناحية خراسان وأنفذ سنتاي بهادر [1] في مثل ذلك العسكر الى جانب قفجاق وسقسين وبلغار وجماعة اخرى الى التبّت وقصد هو بنفسه بلاد الخطا. وفي سنة سبع وعشرين وستمائة في اوائلها نزل السلطان جلال الدين خوارزمشاه على خلاط وحاصرها اشدّ حصار وشتّى عليها ونصب عليها عشرين منجنيقا على ناحية البحر وفيها أخو الملك الأشرف تقي الدين عباس ومجير الدين يعقوب والأمير حسام الدين القيمريّ وعزّ الدين ايبك مملوك الأشرف. فدام الحصار على اهل خلاط واشتدّ حتى أكلوا لحوم الكلاب وبلغ الخبز كل رطل بالشاميّ بدينار مصريّ فتسلّم خوارزمشاه المدينة والقلعة وانهزم حسام الدين القيمري وأفلت على فرس وحده ومضى الى قلعة قيمر ثم تجهّز الى خدمة الملك الأشرف الى الرقّة واقام عزّ الدين ايبك وتقيّ الدين ومجير الدين مع خوارزمشاه يركبون معه ويلعبون بالكرة. ولما طارت الاخبار   [1-) ] ويروى: سيتاي بهادر. ومعنى بهادر البطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الى الملك الأشرف بذلك انزعج وأسار [1] جريدة الى أبلستين. فتلقّاه صاحب الروم علاء الدين كيقباذ من فراسخ واجتمعا ولحقت الملك الأشرف عساكره وخرج علاء الدين بعساكره الى اق شهر هو والملك الأشرف وخرج الخوارزميّ من خلاط للقائهم وكان في أربعين ألفا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا في يوم الجمعة وكان الغلبة فيه للملك الأشرف والروميّ وباتوا ليلة السبت على تعبيتهم الى الفجر من يوم السبت فالتقوا واقتتلوا فانكسر الخوارزميّ كسرة عظيمة وانهزم وقتل من أصحابه خلق لا يحصي عددهم الّا الله وانهزم مثلهم وأسر مثلهم وبلغت هزيمتهم الى جبال طرابيزون فوقع منهم في سقيف هناك ألف وخمسمائة رجل. وساق خوارزمشاه الى صوب خرتبرت فوصلها في يوم وليلة ونجا بنفسه ومضى الى بلاد العجم فأقام في خوى. وكان قد بعث تقيّ الدين عبّاس أخا الأشرف أسيرا مقيدا الى بغداد هدية فأعاده الخليفة المستنصر مكرّما الى الأشرف فوصل الأشرف الى خلاط وأصلح أحوالها ورمّمها ثم بعث رسولا الى خوارزمشاه يسأله الإحسان الى من معه من الأسارى فأجابه بأنّ عندي منكم ملوكا وعندكم منّا مماليك فان أجبتم الى الصلح فانا موافق عليه. فأجابه الملك الأشرف: انك فعلت ببلادنا ما فعلته وما أبقيت من سوء المعاملة والمقابحة شيئا الّا وقد عملته خربت البلاد وسفكت الدماء فان أردت الصلح فانزل عن البلاد التي تغلّبت عليها ولم تكن لأبيك لنعمّر منها ما خرّبت. وامّا قولك بان عندك منّا ملوكا فالذي عندك اخي مجير الدين يعقوب نحن نقدّر انه مات فاخوتي عوضه ونحن بحمد الله في جماعة اهل بيت وأولاد وأقارب نزيد على الفيء فارس وأنت ابتر ما لك احد وخلفك اعداء كثيرة. فمضى الرسول بهذا الجواب فلم يجبه الخوارزميّ الى ما طلبه ولا استقرّ بينهما امر. وكان عزّ الدين ايبك قد سجنه خوارزمشاه في قلعة اختمار فأحضر وقتل. ثم وصله خبر عبور جورماغون نوين نهر امويه في طلبه فتوجّه الى تبريز وأرسل رسولا الى الخليفة وآخر الى الملك الأشرف وصحبته زوجة الأمير حسام الدين القيمريّ التي كان قد أسرها من خلاط ورسولا الى السلطان علاء الدين صاحب الروم يستجيشهم ويعلمهم كثرة عساكر التاتار وحدّة شوكتهم وشدّة نكايتهم وانه إذا ارتفع هو من البين يعجزون عن مقاومتهم وانه كسدّ الإسكندر يمنعهم عنهم فالرأي ان يساعده كلّ منهم بفوج من عسكره ليرتبط بذلك جأش أصحابه ويحجم بهم العدوّ عن البلاد فيحجم. قال من هذا النوع واكثر واستصرخهم فلم يصرخوه واستغاثهم فلم يغيثوه فشتى بأرمية واشتوا. وفي الربيع توجّه   [1-) ] واسار ر وسار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الى نواحي ديار بكر وصار يزجي أوقاته بالتمتّع واللهو والشراب والطرب كأنه يودّع الدنيا وملكها الفاني. وبينما هو في ذلك يسرّ لا بل يغرّ فجئه هجوم بايماس نوين في عسكره ليلا فتكلّف للانتباه وعاين نيران المغول بالقرب من مكانه فتقدّم الى الأمير اورخان ان يلمّ به الجماعة ويشغل المغول عند الصبح بالاقدام تارة والاحجام أخرى وفرّ هو مع ثلاثة نفر من مماليكه تائها في جبال ديار بكر. فلما أصبحوا ظنّ المغول ان جلال الدين خوارزمشاه فيهم فجدّوا في طلبهم طاردين في أعقابهم وهم منهزمون بين أيديهم ولما تحققوا انه ليس معهم رجعوا عنهم. فاما جلال الدين خوارزمشاه فأوقع به قوم من الأكراد ببعض جبال آمد ولم يعرفوه وقدّروه من بعض جند الخوارزميّة فقتلوه والمملوكين طمعا في ثيابهم وخيلهم وسلاحهم. استنبط ذلك من جهة ان بعد مديدة يسيرة دخل بعض أولئك الأكراد الى آمد وعليه من سلاح جلال الدين. فعرفه مملوك له كان قد لجأ الى صاحب آمد فقبض الكرديّ وقرّر فأقرّ بما افتعله هو وأصحابه فأحضرهم وقتلهم حنقا عليهم. وقال قوم ان المقتول لم يكن جلال الدين وانما كان سلاحداره لأنه يومئذ لم يحمل سلاحا ولا كان يلبس ثياب العادة وانما كان بزيّ الصوفيّة مع أصحابه ولذلك دائما كان يرجف الناس ان جلال الدين خوارزمشاه قد رأوه بالبلد الفلاني وبالمدينة الفلانية حتى انه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة اتفق جماعة من التجار عابرين على نهر جيحون وهناك القراغول وهم مستحفظو الطرق فأنكروا على فقير كان صحبة التجار مجهول فلما قرّروه أقرّ انه جلال الدين خوارزمشاه فقبضوه وكرّروا عليه العذاب والسؤال فلم يغيّر كلامه الى ان مات تحت العقوبة. فان لم يكن هو واعتمد ذلك الى هذه الغاية فلا شكّ ان الجنون فنون. ولما استقرّ قاان في الملك وانقاد له القاصي والداني من جيوش المغول عزم على فتح بلاد الخطا وسيّر في مقدمته أخويه جغاتاي والغ نوين وباقي الأولاد في عساكر عظيمة. فساروا ونازلوا أولا مدينة يقال لها حرجا [1] بنو يقسين وهي على شط قراموران [2] فأحاطوا بها وحصروها مدّة أربعين يوما وكان فيها عشرة آلاف من فرسان الخطا فلما عاينوا العجز عن مقاومة المغول ركبوا السفن التي كانوا اعدّوها هاربين. وطلب اهل البلد الامان فأومنوا ورتّب المغول عندهم الشحاني وقصدوا باقي المواضع. وجهز قاان أخاه الغ نوين وولده كيوك وسيّرهم في عشرة آلاف فارس في المقدّمة وسار هو بعقبهم   [1-) ] ويروى: خواجا. [2-) ] معنى قراموران بلغة التتر النهر الأسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فتمهل ومعه العسكر الكبير. فجيّش التون خان ملك الخطا [1] مائة ألف من شجعانه وقدّم عليهم أميرا [2] من أمرائه وأنفذهم للقاء المغول. فلما وصلوا إليهم استحقروهم لقلّتهم بالنسبة إليهم وتهاونوا في أمرهم وأرادوا ان يسوقوهم كما هم الى ملكهم التون خان ليفرجوا بهم عنه غمّه إذا هو ضرب عليهم حلقة وصادهم صيدا. فشغلهم المغول بفتور المكافحة واطمعوهم الى ان وصلت الأفواج التي مع قاان فأوقعوا بعسكر الخطا ولم يفلت منهم الّا النزر. وكان التون خان بمدينة تسمّى نامكينك [3] فلما بلغه الخبر بما جرى على أصحابه ارتاع وأيس من حياة الدنيا وجمع أولاده ونساءه وكل من يعزّ عليه ودخلوا بيتا من بيوت الخشب وأمر بضرب النار فيه فاحترق هو ومن معه أنفة من الوقوع في أسر المغول. ودخلت عساكر المغول الى المدينة ونهبوا وأسروا البنين والبنات وأمّنوا الباقي. وفتحوا غيرها من المدن المشهورة ورتّب بها قاان الشحاني وقفل الى مواضعه القديمة وبنى بها مدينة سمّاها اردوباليق وهي مدينة قراقورم وأسكنها خلقا من اهل الخطا وتركستان والفرس والمستعربين. وبينما هم مسرورون بفتح بلاد الخطا توفّي تولي خان وكان احبّ الاخوة الى قاان فاغتمّ لذلك كثيرا وأمر ان زوجته المسمّاة سرقوتنى بيكي وهي ابنة اخي اونك خان تتولّى تدبير عساكره وكان لها من الأولاد اربعة بنين مونككا قوبلاي هولاكو اريغبوكا. فأحسنت تربية الأولاد وضبط الاصحاب وكانت لبيبة مؤمنة تدين بدين النصرانية تعظم محلّ المطارنة والرهبان وتقتبس صلواتهم وبركتهم وفي مثلها قال الشاعر: فلو كان النساء كمثل هذه ... لفضّلت النساء على الرجال وبعد قليل مات ايضا الأخ الكبير وهو المسمّى توشي وخلف سبعة بنين وهم تمسل هر دو باتوا سيبقان تنكوت بركه بركجار. ومن بين هؤلاء لباتوا سلّم قاان البلاد الشمالية وهي بلاد الصقالبة واللّان والروس والبلغار وجعل مخيمه على شاطئ نهر اتل وغزا هذه النواحي فقتل فيها خلائق بلغ عددهم مائتي ألف وسبعين ألفا علم ذلك من آذان القتلى التي قطعوها امتثالا لمرسوم قاان لأنه تقدّم بقطع الاذن اليمنى من كل قتيل. وبعد فراغ باتوا من امر الصقالبة تجهز للدخول الى نواحي القسطنطينية فبلغ   [1-) ] التون او الطون معناه الذهب وخان هو الملك بلغتهم. والطون خان لقب ملوك الخطا من آل كين ومعنى كين ايضا الذهب. [2-) ] أميرا ر أميرين. [3-) ] ويروى: نامليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ذلك ملوك الفرنج فجاؤوا حافلين حاشدين والتقوا المغول في أطراف بلد البلغار وجرت بينهم حروب كثيرة انجلت عن كسرة المغول وهزيمتهم وهربهم فقفلوا من غزاتهم هذه ولم يعودوا يتعرضون الى بلاد يونان وفرنجة الى يومنا هذا. وفي سنة ثلثين وستمائة أرسل السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم رسولا الى قاان وبذل الطاعة. فقال قاان للرسول: اننا قد سمعنا برزانة عقل علاء الدين واصابة رأيه فإذا حضر بنفسه عندنا يرى منا القبول والإكرام ونولّيه الاختاجية في حضرتنا وتكون بلاده جارية عليه. فلما عاد الرسول بهذا الكلام تعجب منه كل من سمعه واستدلّ على ما عليه قاان من العظمة. وفيها أخذ علاء الدين خلاط وسرمارى [1] من الملك الأشرف وغزا الأشرف مدينة حصن منصور وأغار عليها وأخذ الكامل مدينة آمد من صاحبها وعوّضه عنها قرى بالشام. وفيها توفّي مظفّر الدين كوكبري بن زين الدين عليّ كوجك صاحب اربل في رمضان وحمل الى مكة فدفن بها وولي اربل انسان شريف يقال له ابو المعالي محمد بن نصر بن صلايا من قبل الخليفة المستنصر. وفي سنة احدى وثلثين وستمائة مات ناصر الدين محمود بن القاهر بن نور الدين صاحب الموصل ووصل التقليد من الخليفة لبدر الدين لؤلؤ بالولاية فخطب له على المنابر بالسلطنة. وفي سنة اثنتين وثلثين حصر السلطان علاء الدين مدينة الرها وملكها عنوة فدخلها الروميّون ووضعوا السيف بها ثلثة ايام وقتلوا النصارى والمسلمين فتكا ونهبا فأصبح الرهاويّون فقراء لا يملكون شيئا ونهبت البيع وأخذ ما فيها من الكتب والصلبان وآلات الذهب والنقرة وحمل اهل حرّان مفاتيح قلعتها فملكوها هدنة وملكوا الرقّة والبيرة ايضا. فلما عاد عنها عسكر الروم قصد الملك الكامل الرها وحاصرها اربعة أشهر ثم ملكها وهدم برجا كبيرا من ابرجة قلعتها وحمل من وجد بها من الروميين كل اثنين على جمل وبعث بهم الى مصر مقيّدين. وفي سنة ثلث وثلثين وستمائة غزا التاتار بلد اربل وعبروا الى بلد نينوى ونزلوا على ساقية قرية ترجلى [2] وكرمليس فهرب اهل كرمليس ودخلوا بيعتها وكان لها بابان فدخلها المغول وقعد أميران منهم كل واحد على باب وأذنوا للناس في الخروج عن البيعة فمن خرج من احد بابيها قتلوه ومن خرج من الباب الآخر أطلقه الأمير الذي على ذلك الباب وأبقاه فتعجب الناس لذلك.   [1-) ] سرمارى بضم اوله وسكون ثانيه قلعة عظيمة وولاية واسعة بين تفليس وخلاط. [2-) ] هي ترجلّه. ويروى: على ساقية قرية كرمليس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وفي سنة اربع وثلثين وستمائة توفّي السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم بغتة لأنه كان قد صنع دعوة عظيمة حضر بها الأمراء الأكابر واتباعهم واكثر الجند. فبينما هو يظهر السرور والفرح ويتباهى بما أعطي من الملك إذ حسّ بوجع في احشائه وأخذته خلفة فاختلف الى المتوضإ فانسهل برارا دمويا صرفا كثير المقدار وسقطت قوته في الحال. وفي اليوم الثاني من هذا العرض مات وكان ملكه ثماني عشرة سنة وكان عاقلا عفيفا ذا بأس شديد على حاشيته وأمرائه وكانت الدولة السلجوقية قبله محلولة بسبب الخلف الواقع بين أولاد قلج ارسلان فلما وليها علاء الدين أعاد جدّتها وجدّد ناموسها وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه واتسع ملكه جدا ودان له العالم وبحقّ قيل له سلطان العالم وحضر عنده الملوك وأذعنوا له بالطاعة وكان قاسي القلب. ولما توفّي احضر الأمراء ولده غياث الدين كيخسروا فبايعوه وحلفوا له. وفيها توفّي الملك العزيز بن الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب وولي بعده ابنه الملك الناصر صلاح الدين وهو آخر الملوك من بيت أيوب قتله هولاكو في سنة ثماني وخمسين وستمائة. وفيها اعني سنة اربع وثلثين في شهر شوّال غزا التاتار بلد اربل وهرب اهل المدينة الى قلعتها. فحاصروها أربعين يوما ثم أعطوا مالا فرحلوا عنها. ولما ولي السلطان غياث الدين كيخسرو السلطنة ببلد الروم قبض على غاير خان امير الخوارزمية فهرب باقي الخوارزمية وامراؤهم ولما اجتازوا بملطية وكاختين [1] وخرتبرت [2] أسروا سيف الدولة السوباشي [3] وقتلوا ببرمير [4] سوباشي خرتبرت وأغاروا على بلد سميساط وعبروا الى السويداء فأقطعهم الملك الناصر صاحب حلب ما بين النهرين الرها وحرّان وغيرهما فكفّوا عن الفساد والغارات. وفي سنة خمس وثلثين وستمائة توفّي الملك الأشرف بن الملك العادلى بن أيوب بدمشق وكان عمره ستين سنة وكان كريما سخيا مقبلا على التمتع بالدنيا ولذاتها يزجي أوقاته برفاغية من العيش. وفيها مات ايضا الملك الكامل بن الملك العادل بن أيوب صاحب مصر بدمشق ودفن بها وكان عمره سبعين سنة وكان عاقلا فاضلا حسن السياسة كثير الاصابة سديد الرأي شديد الهيبة عظيم الهمّة محبا للفضائل وأهلها.   [1-) ] لعلها كاختا. قال ابو الفداء: كاختا قلعة عالية البناء لا ترام حصانة بينها وبين ملطية مسيرة يومين وملطية عنها في جهة الغرب. [2-) ] خرتبرت هو الحسن المعروف بحصن زياد في أقصى ديار بكر من بلاد الروم بينه وبين ملطية مسيرة يومين وبينهما الفرات. [3-) ] ويروى: الزوباشي. [4-) ] ويروى: تبرمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وفيها غزا التاتار العراق ووصلوا الى تخوم بغداد الى موضع يسمّى زنكاباذ والى سرّمرّأى [1] . فخرج إليهم مجاهد الدين الدويدار وشرف الدين إقبال الشرابيّ في عساكرهما فلقوا المغول وهزموهم وخافوا من عودهم فنصبوا المنجنيقات على سور بغداد. وفي آخر هذه السنة عاد التاتار الى بلد بغداد ووصلوا الى خانقين فلقيهم جيوش بغداد فانكسروا وعادوا منهزمين الى بغداد بعد ان قتل منهم خلق كثير وغنم المغول غنيمة عظيمة وعادوا. وفيها حدث ببغداد مدّ دجلتها مدا عظيما هائلا وغرق دور كثيرة وغرق سفينتان فهلك فيهما نحو خمسين نسمة. وفي سنة سبع وثلثين وستمائة جهز السلطان غياث الدين جيوشا الى ارمينية فامتنع المغول من الدخول الى بلد الروم. وفي سنة ثماني وثلثين وستمائة ظهر ببلد اماسيا من اعمال الروم رجل تركمانيّ ادّعى النبوّة وسمّى نفسه بابا فاستغوى جماعة من الغاغة بما كان يخيل إليهم من الحيل والمخاريق. وكان له مريد اسمه اسحق يتزيّا بزيّ المشايخ فأنفذه الى أطراف الروم ليدعو التركمانيين الى المصير اليه. فوافى اسحق هذا بلد سميساط واظهر الدعوة لبابا فاتبعه خلق كثير من التركمان خصوصا وكثف جمعه وبلغ عدد من معه ستة آلاف فارس غير الرجالة فحاربوا من خالفهم ولم يقل كما يقولون لا إله الّا الله بابا رسول الله فقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين والنصارى من اهل حصن منصور وكاختين وكركر [2] وسميساط وبلد ملطية ممن لم يتبعهم وكانوا يهزمون كلّ من لقيهم من العسكر حتى وصلوا الى اماسيا. فانفذ إليهم السلطان غياث الدين جيشا فيه جماعة من الفرنج الذين في خدمته فحاربوهم وكان الجند المسلمون لم يتجرءوا عليهم ويحجموا عنهم لما توهموا منهم. فأخّر الفرنج المسلمين وتولّوا بأنفسهم محاربة الخوارج فكشفوهم ورموا فيهم السيف وقتلوهم طرّا وأسروا الشيخين بابا واسحق فضرب عنقاهما وكفوا الناس شرهم. وفي سنة تسع وثلثين حاصر جرماغون نوين مدينة ارزن الروم وملكها عنوة وقتل فيها خلائق من أهلها وسبى الذراريّ وشنّ الغارة عليها وقتل سنان سوباشها. وفي سنة أربعين وستمائة سار السلطان غياث الدين كيخسروا الى ارمينية في جمع كثيف وجهاز لم يتجهز احد مثله في عساكره وعساكر اليونانيين والفرنج والكرج والأرمن والعرب   [1-) ] ويروى: سرّ من رأى. [2-) ] قال ابو الفداء: كركر قلعة حصينة شاهقة وترى الفرات منها كالجدول الصغير وهي على جانب الفرات الغربي. وهي بالقرب من كختا من شرقيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 لمحاربة التاتار فالتقى العسكران بنواحي ارزنكان [1] بموضع يسمّى كوساذاغ واوّل وهلة باشر المسلمون ومن معهم الجيوش النصرانية الحرب وهلوا وأدبروا وولوا هاربين فانهزم السلطان مبهوتا فأخذ نساءه وأولاده من قيساريّة وسار الى مدينة انقورة فتحصن بها. واقام المغول يومهم ذلك مكانهم ولم يقدموا على التقدم فظنوا ان هناك كمينا إذ لم يروا قتالا يوجب هزيمتهم وهم في تلك الكثرة من الأمم المختلفة. فلما تحققوا الأمر انتشروا في بلاد الروم فنازلوا أولا مدينة سيواس فملكوها بالأمان وأخذوا اموال أهلها عوضا عن أرواحهم واحرقوا ما وجدوا بها من آلات الحرب وهدموا سورها. ثم قصدوا مدينة قيسارية فقاتل أهلها أياما ثم عجزوا ففتحوها عنوة ورموا فيها السيف وابادوا أكابرها واغنياءها معاقبين على اظهار الأموال وسبوا النساء والأولاد وخربوا الأسوار وعادوا ولم يتوغّلوا في باقي بلاد السلطان. ولما سمع اهل ملطية ما فعل التاتار بقيساريّة هلعوا وجزعوا افحش الجزع. فاجفل رشيد الدين الخويني [2] أميرها ومعه أصحابه طالبين حلب وكذلك من امكنه الهرب من أماثلها. وكان من جملة من يريد الخروج بأهله والدي فأحضر الدوابّ وكان لنا فيها بغل للسرج فلما أرادوا شدّ الاكاف عليه ليحمّلوه شمص وتفلّت. فبينما هم يتبعونه في الزقاق ليلزموه قالوا لهم: ان الفتيان من العامّة وثبوا في باب المدينة وينهبون كل من رأوه يخرج. فأمسك والدي عن الخروج واجتمع بالمطران دينوسيوس وتشاوروا في مرابطة المدينة وجمعا المسلمين والنصارى في البيعة الكبيرة وتحالفوا ان لا يخون بعضهم بعضا ولا يخالفوا المطران في جميع ما يتقدم إليهم من مداراة التاتار والقيام بحفظ المدينة والبيتوتة على اسوارها وكفّ اهل الشرّ عن الفساد. فنظر الله الى حسن نيّاتهم ودفع العدو عنهم ووصلوا بالقرب من ملطية ولم يتعرّضوا إليها. واما الذين خرجوا من المدينة مجفلين فأدركهم المغول عند قرية يقال لها باجوزة على عشر فراسخ من المدينة فقتلوا الرجال وسبوا النساء والأولاد ومن سلم منهم في المغائر والشعاب والاودية الغائرة من النساء والرجال عاد الى ملطية عريانا حافيا وكان ذلك في شهر تموز سنة ألف وخمسمائة واربع وخمسين للإسكندر. وكرّ المغول على مدينة ارزنكان وملكوها عنوة وقتلوا رجالها وسبوا الذراريّ ونهبوها وخربوا سورها ومضوا. ولما رأى السلطان العجز عن مقاومة التاتار أرسل إليهم رسلا يطلب الصلح فصالحوه على مال وخيل وأثواب وغيرها يعطيهم كل سنة مبلغا معينا مقاطعة.   [1-) ] أرزنجان وأهلها يقولون ارزنكان بالكاف بلدة من بلاد ارمينية بين بلاد الروم وخلاط قريبة من ارزن الروم. [2-) ] ويروى: الجويني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وفيها توفّي الامام المستنصر بالله الخليفة ببغداد وكان عاقلا عادلا لبيبا كريما كثير الصدقات عمّر المدارس والمساجد والرباطات القديمة وكان قد تهدّم معظمها ومن شدّة غرامه بمدرسته المعروفة بالمستنصريّة اعمر لصقها بستانا خاصا له فقلّ ما يمضي يوم الّا ويركب في السيارة ويأتي البستان يتنزه فيه ويقرب من شباك مفتح في ايوان المدرسة ينظر الى البستان وعليه ستر فيجلس وراء الستر وينظر الى المدرسة ويشاهد أحوالها واحوال الفقهاء ويشرف عليهم ويتفقد أحوالهم. وكانت مدة خلافته نحو ثماني عشرة سنة. وفي سنة خمس وعشرين وستمائة توفّي حسنون الطبيب الرهاويّ وكان فاضلا في فنّه علما وعملا ميمون المعالجة حسن المذاكرة بما شاهده من البلاد. وكان اكثر مطالعته في كتاب اللوكري في الحكمة. وكان شيخا بدينا بهيا دخل الى مملكة قلج ارسلان وخدم أمراء دولته كأمير اخور سيف الدين واختيار الدين حسن واشتهر ذكره. ثم خرج الى ديار بكر وخدم من حصل هناك من بيت شاه ارمن وهزار ديناري ثم الداخلين على تلك الديار من بيت أيوب ورجع الى الرها. ولما تحقق ان طغرل الخادم تولّى اتابكية حلب وله به معرفة من دار أستاذه اختيار الدين حسن في الديار الرومية جاء اليه الى حلب ولم يجد عنده كثير خير وخاب مسعاه فانه كان منكسرا عند اجتماعه به وانفصاله عنه. فلما عوتب الخادم على ذلك من احد خواصّه قال: انا مقصّر بحقه لأجل النصرانية. ولما عزم على الارتحال الى بلده أدركته حمّى أوجبت له اسهالا سحجيا ثم شاركت الكبد في ذلك فقضى نحبه ودفن في بيعة اليعاقبة بحلب. وفي سنة ستّ وعشرين وستمائة توفّي يعقوب بن صقلان الطبيب النصراني الملكي المقدسي وكان مولده بالقدس الشريف وبه قرأ شيئا من الحكمة على تاذوري الفيلسوف الانطاكي وسيأتي ذكره بعد هذا التاريخ. واقام يعقوب هذا بالقدس على حالته في مباشرة البيمارستان الى ان ملكه الملك الأعظم [1] بن الملك العادل بن أيوب فاختصّ به ولم يكن عالما وانما كان حسن المعالجة بالتجربة البيمارستانية ولسعادة كانت له. ثم نقله الملك المعظم الى دمشق وارتفعت عنده حاله وكثر ماله وأدركه نقرس ووجع مفاصل أقعده عن الحركة حتى قيل ان الملك المعظم كان إذا احتاج اليه في امراضه استدعاه   [1-) ] الأعظم ر المعظم وهو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بمحفَّة تحمل بين الرجال. ولم يزل على ذلك الى ان مات المعظم صاحبه ومات هو بعده بقليل. ومن الأطباء المشهورين في هذا الزمان الحكيم ابو سالم النصرانيّ اليعقوبيّ الملطيّ المعروف بابن كرابا [1] خدم السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم وتقدّم عنده وكان قليل العلم بالطبّ الّا انه كان أهلا لمجلسه لفصاحة لهجته في اللسان الروميّ ومعرفته بأيام الناس وسير السلاطين. وفي سنة اثنتين وثلثين ولما سار علاء الدين من ملطية الى خرتبرت ليملكها تخلّف عنه ابو سالم هذا ولم يسر في ركابه وكان السلطان لا يصبر عنه ساعة. ولما بات السلطان على الفرات ولم يأته الحكيم امر الشحنة الذي على الزواريق ان نهار غد ان جاء ابو سالم قبل الزوال فليعبر وان جاء بعده لا تمكنه من العبور. فلما كان من الغد تأخّر مجيئه الى العصر فأخبره الشحنة بمرسوم السلطان فأحسّ بتغيّر فعاد الى منزله وشرب سما ومات. ومنهم الحكيم شمعون الخرتبرتي وكان ايضا ضعيف العلم لكنه كان خيّرا ديّنا كثير الصوم والصلاة. وانتشى له ولد حسن محصّل وأجاد الخطّ العربيّ وصار فيه طبقة ومات في حداثة سنة ففجعت مصيبته أباه. وفي هذا الزمان كان جماعة من تلامذة الامام فخر الدين الرازي سادات فضلاء اصحاب تصانيف جليلة في المنطق والحكمة كزين الدين الكشي وقطب الدين المصري بخراسان وأفضل الدين الخونجي بمصر وشمس الدين الخسروشاهي بدمشق واثير الدين الابهري بالروم وتاج الدين الارموي وسراج الدين الارموي بقونية. حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق عن الملك الناصر داود بن الملك المعظم بن الملك العادل ابن أيوب صاحب الكرك انه كان يتردّد الى شمس الدين الخسروشاهي يقرأ عليه كتاب عيون الحكمة للشيخ ابي عليّ بن سينا وكان إذا وصل الى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ الى من معه من الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم ويترجل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفا بمنديل ويجيء الى باب الحكيم ويقرعه فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عمّا خطر له ثم يقوم ولم يمكّن الشيخ من القيام له. (المستعصم بن المستنصر) : وفي سنة أربعين وستمائة بويع المستعصم يوم مات أبوه المستنصر وكان صاحب لهو وقصف شغف بلعب الطيور واستولت عليه النساء وكان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول وكان إذا نبّه علي ما ينبغي ان يفعله في امر التاتار اما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم او تجيّش   [1-) ] ويروى: كرايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق فكان يقول: انا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ولا ايضا يهجمون عليّ وانا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله. وفي سنة احدى وأربعين غزا يساور نوين [1] الشام ووصل الى موضع يسمّى حيلان على باب حلب وعاد عنها لحفي أصاب خيول المغول واجتاز بملطية وخرّب بلدها ورعى غلّاتها وبساتينها وكرومها وأخذ منها أموالا عظيمة حتى خشل النساء وصلبان البيع ووجوه الأناجيل وآنية القداس المصوغة من الذهب والفضة ثم رحل عنها. وطلب طبيبا يداويه في سحج عرض له فأخرج اليه والدي وسار معه الى خرتبرت فدبّره حتى برأ. ثم جاء ولم يطل المقام بملطية ورحل بنا الى انطاكية فسكنّاها. وأقحطت البلاد بعد ترحال التاتار ووبئت الأرض فهلك عالم وباع الناس أولادهم باقراص الخبز. وفي سنة اثنتين وأربعين أغار التاتار على بلد بغداد ولم يتمكنوا من منازلتها. وفيها سيّر السلطان غياث الدين جيشا عظيما الى مدينة طرسوس فحاصروها مدة وضيّقوا عليها وكادوا يفتحونها عنوة فاتفق ان مات السلطان غياث الدين في تلك الأيام. فلما بلغهم موت السلطان رحلوا عنها خائبين وكان الوقت خريفا وتواترت على الروميّين الأمطار وتوحّلت خيولهم فنال منهم رجّالة الأرمن وغنموا اثقالهم. وكان السلطان غياث الدين مقبلا على المجون وشرب الشراب غير مرضيّ الطريقة منغمسا في الشهوات الموبقة تزوّج ابنة ملك الكرج فشغفه حبّها وهام بها الى حدّ ان أراد تصويرها على الدراهم فأشير عليه ان يصوّر صورة اسد عليه شمس لينسب الى طالعه ويحصل به الغرض. وخلّف غياث الدين ثلثة بنين عزّ الدين وأمّه روميّة ابنة قسيس وركن الدين وأمّه ايضا روميّة وعلاء الدين وأمّه الكرجية. فولي السلطنة عزّ الدين وهو الكبير وحلف له الأمراء وخطب له على المنابر وكان مدبّره والاتابك له الأمير جلال الدين قرطاي [2] رجل خيّر ديّن صائم الدهر ممتنع عن أكل اللحم ومباشرة النساء لم ينم في فراش وطيء وانما كان نومه على الصناديق في الخزانة [3] أصله روميّ وهو من مماليك السلطان علاء الدين وتربيته وكان له الحرمة الوافرة عند الخاصّ والعامّ. وفي سنة ثلث وأربعين تردّدت   [1-) ] ويروى: نساور. ويروى: في نسخة تاريخ مخطوط: بساور. [2-) ] ويروى: قراطي وقراطاي. [3-) ] في الخزانة ر والخزانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 رسل المغول في طلب السلطان عزّ الدين ليحضر بنفسه في خدمة قاان. فتعلّل محتجّا بمعاداة من يحاوره من ملوك اليونانيّين والأرمن ايّاه وانه متى فارق بلاده ملكها هؤلاء وكان يرضي الرسل بالهدايا وبذل الأموال ويدافعهم من وقت الى وقت. ثم سيّر أخاه ركن الدين وفوّض تدبيره الى بهاء الدين الترجمان وجعله اتابكه وأرسله صحبته واستوزر عزّ الدين لنفسه رجلا اصفهانيّا وهو صاحب علم وفضل يلقّب. بشمس الدين فتمكّن من الدولة الى حدّ أن تهيّأ له التزوّج بأمّ السلطان عزّ الدين فثقل ذلك على الأمراء طرّا. وفيها مرض قاان ولما اشتدّ مرضه سيّر رسولا في طلب ابنه كيوك فاهرع اليه من غير توقّف فلم يمهل القضاء ليجتمع بالوالد فأقام بالمكان الذي بلغه فيه وفاته وكانت والدته توراكينا خاتون ذات دهاء كافية فطنة فاتّفق جغاتا وباقي الأولاد على انها تنصرّف في تدبير الممالك الى وقت القوريلتاي لأنها أمّ الأولاد الذين لهم استحقاق الخانيّة. وفي سنة اربع وأربعين وستمائة تمّ اجتماع الأولاد والأحفاد وأمراء المغول في وقت الربيع وحضر في المجمع من غير المغول ايضا ممّا وراء النهر وتركستان الأمير مسعود بيك ومن خراسان الأمير ارغون اغا [1] وصحبته أكابر العراق واللور واذربيجان وشروان. ومن الروم السلطان ركن الدين [2] . ومن الأرمن الكندسطبل أخو التكفور [3] حاتم. ومن كرجستان الداودان الكبير والصغير. ومن الشام أخو الملك الناصر صاحب حلب. ومن بغداد فخر الدين قاضي القضاة ومن علاء الدين صاحب الالموت محتشمو قهستان. فإذ تمّ هذا المجمع العظيم [4] الذي لم يعهد مثله وقع الاتفاق على كيوك. وكان له اخوان آخران أحدهما يسمّى كوبان والآخر طفل يسمّى سيرامون. وانما اختير هو من دونهما لكونه مشهورا بالغلبة والشطط والاقتحام والتسلط وكان هو اكبر الاخوة فأهل للولاية وأجليس على سرير الملك وخدموه ودعوا له كالعادة وأطاعوه وكيوك خان سمّوه. وفي سنة خمس وأربعين وستمائة ولّى كيوك خان على بلاد الروم والموصل والشام والكرج [5]   [1-) ] اغا ر اقا. [2-) ] هو أخو سلطان قونية. [3-) ] الكندسطبل بن كانت تعني أولا وظيفة امير الاخور ثم عنوا بها امير الجيوش. وتكفور لفظة ارمنية [؟] معناها ملك. [4-) ] فات المؤلف ان يذكر فيمن حضر في هذا المجمع العظيم الراهب يوحنا دي بلان كاربين سفير الباب اينوشنسيوس الرابع وكان من رهبنة مار فرنسيس. [5-) ] وفي رواية: والكرج والأرمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 نوينا اسمه ايلجيكتاي. وعلى ممالك الخطا الصاحب يلواج. وعلى ما وراء النهر وتركستان الأمير مسعود. وعلى بلاد خراسان والعراق واذربيجان وشروان واللور وكرمان وفارس وطرف الهند الأمير ارغون اغا. وقلّد سلطنة بلد الروم السلطان ركن الدين. وامر بعزل السلطان عزّ الدين. وجعل داود الصغير المعروف بابن قيز ملكا محكوما لداود الكبير صاحب تفليس. واما رسول الخليفة فخاطبه خطاب واعد وموعد بل واعظ ومنذر. واما رسل الملاحدة [1] فصرفهم مذلّين مهانين. وكتب يراليغ عهد وأمان للتكفور والملك الناصر صاحب حلب. وكان بمقام الاتابكية لكيوك خان امير كبير اسمه قداق وكان معمّدا مؤمنا بالمسيح وشاركه في ذلك امير آخر اسمه جينقاي [2] فهذان أحسنا النظر الى النصارى وحسّنا يقين كيوك خان ووالدته واهل بيته بالمطارنة والاساقفة والرهابين فصارت الدولة مسيحية وارتفع شأن الطوائف المنتمية الى هذا المذهب من الفرنج والروس والسريان والأرمن. والتزم الخاص والعام من المغول وغيرهم ممن هو بينهم ان يقولوا في السلام برخمر [3] وهو لفظ مركب سرياني معناه بارك مالكى. وفي سنة ستّ وأربعين وستمائة وصل السلطان ركن الدين وبهاء الدين الترجمان الى بلد الروم ومعهما ألفا فارس من المغول. فهمّ الوزير شمس الدين الاصفهانيّ ان يأخذ السلطان عزّ الدين ويصعد الى بعض القلاع التي على البحر ويقيما هناك عاصيين الى ان يفعل الله ما يشاء. فعلم بذلك جلال الدين قرطاي [4] الرجل الصالح فقبض على الوزير الاصفهانيّ وسيّر فاعلم بهاء الدين الترجمان بذلك فانفذ جماعة من أمراء المغول فأتوا الى قونية وقرّروا الوزير على الأموال والخزائن ثم قتلوه. واجتمع بهاء الدين الترجمان بجلال الدين قرطاي واتفقا على ان توزّع البلاد على الأخوين فتكون قونية واقسرا وانقرة وانطاكية وباقي الولايات الغربية لعزّ الدين. وقيسارية وسيواس وملطية وارزنكان وارزن   [1-) ] الملاحدة ويقال لهم الاسماعيلية والباطنية ايضا هم من بقايا القرامطة الخوارج واصحاب حسن بن صبّاح ويعرفون عند الاوروبيين بهذا الاسم. فبعد موت السلطان ملكشاه قويت شوكتهم وتغلّبوا على عدة حصون وخصوصا حصن الالموت بالقرب من مدينة قزوين. وبث حسن أصحابه الى الجهات فأتى قوم منهم سورية وتحصنوا في الجبال المجاورة لطرسوس وعليهم امير اسمه ابو طاهر ويعرف بشيخ الجبل يطيع للأمير الكبير الذي في بلاد فارس. ودامت سلطة الاسماعيلية من السنة 483 الى سنة 653 هـ (1090- 1255 م) . [2-) ] ويروى: جنبقاي. [3-) ] برخمر ر يارخ مار. [4-) ] قرطاي ر قراطاي وقراطي س [؟] قراطاي. ابن العبري- 17 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الروم وغيرها من الولايات الشرقية لركن الدين. واقطعا لعلاء الدين الأخ الصغير من الاملاك الخاصّة ما يكفيه وضربوا السكة باسم الثلاثة وكتبوا السلاطين الأعاظم عزّ وركن وعلاء. وفي سنة سبع وأربعين وستمائة توفيت توراكينا خاتون امّ كيوك خان فتشاءم [1] كيوك خان بذلك المقام ورحل عنه متوجها الى البلاد الغربية. ولما وصل الى ناحية قمستكي وبينها وبين مدينة بيش بالغ خمس مراحل أدركه اجله في تاسع ربيع الآخر فأرسلت زوجته المسمّاة اغول غانميش رسولا الى باتوا وأعلمته بالقضية وتوجهت هي الى جانب قوتاق وايميل وأقامت بالمكان الذي كان يقيم به كيوك خان أولا. فسيّرت سرقوتني بيكي زوجة تولي خان وهي اكبر الخواتين يومئذ إليها رسولا تعزّيها وحمل إليها ثيابا وبوقتاقا [2] . وفيها سار باتوا من بلاده الشمالية متوجها الى المشرق ليجتمع بكيوك خان لأنه كان يلجّ اليه بالمسير اليه فلما وصل الى موضع يقال له الاقماق وبينه وبين مدينة قياليق [3] ثماني مراحل بلغه وفاة كيوك خان فأقام هناك وسيّر رسولا الى اغول غانميش زوجة كيوك خان واذن لها بالتصرّف في الممالك الى ان يقع الاتفاق على من يصلح ان يلي الأمر وأرسل ايضا الى الجوانب ليجتمع الأولاد والعشائر والأمراء. وفيها خرج ريدافرنس [4] ملك فرنجة قاصدا للديار المصرية فجمع عساكره فأرسلها وراجلها جموعا عظيمة وأزاح عليهم فسار عن بلاده بأموال جزيلة وأهبة جميلة وأرسى بعكّا وانبثّ أصحابه في جميع بلاد الساحل. فلمّا استراحوا جاءوه حاشدين حافلين وساروا في البحر الى دمياط وملكوها بغير تعب ولا قتال لان أهلها لم بلغهم ما هم عليه الفرنج من القوة والكثرة والعدّة الكاملة هالهم أمرهم فرحلوا عنها مخفّين. فوصل إليها الفرنج ولقوها خالية عن المقاتلين غير خاوية من الأرزاق فدخلوا وغنموا ما فيها من الأموال. وكان الملك الصالح بن الملك الكامل صاحب مصر يومئذ بالشام يحاصر مدينة حمص. فلما سمع بذلك بأنّ الفرنج قد ملكوا دمياط رحل عن حمص وسار مسرعا الى الديار المصرية ومرض في الطريق وعند وصوله الى المنصورة عرض له في فخذه الداء الذي يسمونه   [1-) ] ويروى: فسئم. [2-) ] ويروى: بوقتايا. [3-) ] قياليق س قياليغ [؟] . [4-) ] ريدافرنس لفظة مركّبة معناها عند الفرنج ملك فرنسا وقد أراد بها الملك لويس التاسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الأطباء غانغرانا ثم استحكم الفساد فيها حتى آل أمرها الى سفاقلس وهو موت العضو أصلا فقطعوها وهو حيّ. وبينما هو يكابد الشدائد في هذه الحالة وافاه مقدّمو دمياط الذين اخلوها منهزمين فلما قيل له ما صنعوا لأنهم فرّوا عنها من غير ان يباشروا حربا وقتالا عظم ذلك عليه فأمر بصلبهم وكانوا اربعة وخمسين أميرا فصلبوا كما هم بثيابهم ومناطقهم وخفافهم. ثم مات من غد ذلك اليوم. وتولّى تدبير المملكة الأمير عزّ الدين المعروف بالتركمانيّ وهو اكبر المماليك الترك. وكان مرجوعه في جميع ذلك ممّا يعتمده من الأمور الى حظيّة الملك الصالح المتوفّي المسّماة شجر الدرّ وكانت تركية داهية الدهر لا نظير لها في النساء حسنا وفي الرجال حزما. فاتفقا على تمليك الملك المعظم بن الملك الصالح. وكان يومئذ مقامه بحصن كيفا من ديار بكر فأرسلا رسولا في طلبه وحثّاه على المصير إليهم. فسار الى الديار المصرية من غير توقف فبايعوه وحلفوا له وسلموا اليه ملك أبيه. وفي سنة ثماني وأربعين وستمائة سيّر ريدافرنس عسكرا نحو الفي فارس نحو المنصورة ليجسّ بهم ما هم عليه المصريون من القوة. فلقيهم طرف من عسكر المسلمين فاقتتلوا قتالا ضعيفا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنج المنصورة ولم ينالوا منها نيلا طائلا لأنهم حصلوا في مضايق ازقّتها وكان العامة يقاتلونهم بالحجارة والاجرّ والتراب وخيولهم الضخمة لم تتمكن من الجولان بين الدروب. وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن السيف احد الأمراء المصريين شيخ كبير أحاط به الفرنج وهو في الحمام يصبغ لحيته فقتلوه هناك. وعادوا الى ريدافرنس واعلموه بما تمّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمع من معه من البطارقة ظانّين انه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبّى جيوشه وسار بهم طالبا ارض مصر. فصبر المصريون الى ان عبر الفرنج الخليج من النيل المسمى اشمون وهو بين البرّين برّ دمياط وبرّ المنصورة. فتوجهوا نحوهم والتقى العسكران واقتتل الفريقان قتالا شديدا. وانجلت الحرب عن كسرة الفرنج وهزموا افحش هزيمة ومنعهم الخليج المذكور من ان يفوزوا وينجوا بأرواحهم فغرق منهم خلق كثير وقتل آخرون وأسر الملك ريدافرنس ومعه جماعة من خواصّه واكابره. فلما حصل ملك الفرنج في قبضة الملك المعظم قال له المماليك الصغار اقرانه: اننا نرى الأمر كله الى شجر الدرّ والأمراء وليس لك من السلطنة الّا اسمها فلو كنت في الحصن كنت ارفه خاطرا منك وأنت صاحب مصر والحكم لغيرك والسبب في هذا ليس الّا حاجتك إليهم في مقاومة الفرنج وليس لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عدوّ سواهم فالرأي ان تصالح هذا الملك ومن معه من أمرائه الى ايّ مدّة شئت فانه لا يخالفك في جميع ما تريد منه إذا اصطنعته ووهبت له روحه وتأخذ منه الأموال والجواهر التي له في دمياط ويسلّم إليك دمياط ويذهب في حال سبيله وتأمن شرّه وشرّ اهل ملّته وتستريح من الأمراء واستخدام الجند وتبقي في ملكك من اخترت وتزيل من كرهت. فصغا المعظم الى قولهم واستصوب رأيهم ودبّر الأمر مع ريدافرنس وحلّفه كما أراد من غير ان يشاور الأمراء الكبار في شيء من ذلك. فاحسّوا بالقضية وتحققوا تغيّر المعظم عليهم وما قد نوى ان يفعل بهم فنقموا عليه ووثبوا به فهرب منهم وصعد الى برج من خشب كان هناك فضربوا فيه النار فلما وصلت اليه وشاطته رمى نفسه الى الخليج النيلي. فجاؤوا اليه ورموه بالنشاب وهو في الماء فمات غريقا جريحا. واتفق الأمراء الترك وقدموا عليهم أميرا منهم يلقب بعزّ الدين التركماني ونهضوا الى ريدافرنس وجددوا معه اليمين وافتدي منهم بألف ألف دينار وتسليم دمياط فاطلقوه ثم سار التركماني من المنصورة الى مصر واقطع الاسكندرية لأمير من الترك يقال له فارس اقطاي وتزوّج شجر الدرّ وصار ملك مصر في قبضتهما. واما ريدافرنس لما وصل الى دمياط أخذ اهله ومن تخلف من أصحابه وخرج عنها وسلمها الى المسلمين واقام هو بعكا وبنى مدينة قيسارية وأصلحها وأسكنها جماعة ثم سار الى بلده. ولما ولي التركماني الديار المصرية كان الأمر كله الى شجر الدرّ لا تمكّنه التصرّف الّا فيما يصدر عن رأيها فكره ذلك ولم يطق احتماله وهمّ بإهلاكها. فشعرت بذلك وسبقته. ففعلت به ما أراد ان يعمل بها وأشلت عليه المماليك الصغار. وفي بعض الأيام لمّا دخل الحمام وكانوا يسكبون على رأسه الماء ليغتسل جرحوه بالسكاكين فقتلوه. وقيل مقلوا رأسه في الماء داخل الخزانة الى ان اختنق مغطوطا. وأمرت شجر الدرّ ان يخرج ويدفن فأخرجوه ودفنوه في الدار. ولما بلغ ذلك الأمراء الكبار عظيم عليهم فعلها فوثبوا بها وقتلوها ورموها في الخندق فأكلتها الكلاب. وقدموا عليهم واحدا منهم اسمه قوتوز فحلفوا له وملكوه ولقبوه الملك المظفر. ولما استولى المماليك على الديار المصرية سار الملك الناصر صاحب حلب بجريدة الى دمشق فسلمها اليه أهلها فملكها واقام بها وصارت دار مملكته. ثم راسله بعض المماليك من مصر ليسير إليهم فيسلموا له مصر فعبّى عسكره وسار الى نحو الديار المصرية ليملكها كما ملك دمشق. فلما بلغ أمراء الترك ذلك بادروا اليه في عساكرهم والتقوا الشاميين بناحية غزّة وكسروهم وهزموهم فعاد الملك الناصر فيمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 معه خائبا خاسرا. وفيها ملك بدر الدين لؤلؤ جزيرة ابن عمر [1] وأسر صاحبها الملك مسعود بن الملك المعظم من بيت أتابك زنكي وسيّره في ركوة الى الموصل وتقدّم الى من وكل به ليرميه ليلة في دجلة فغرقوه وأخبروا انه رمى نفسه وهم نيام ولم يحسّوا بما فعل. وفيها اجتمع أولاد الملوك وأمراء المغول فوصل من حدود قراقورم مونككا [2] بن تولي خان. واما سيرامون وباقي أحفاد وخواتين قاان فسيّروا قنقورتقاي وكتبوا خطهم انه قائم مقامهم وان باتوا هو اكبر الأولاد وهو الحاكم وهو راضون بما يرضاه. واما اغول غانميش خاتون زوجة كيوك خان ومن معها من أولاد الملوك فوصلوا الى خدمة باتوا ولم يقيموا عنده اكثر من يوم بل رجعوا الى أوردوهم واستنابوا أميرا منهم يقال له تيمور نوين وأذنوا له ان يوافق ما يتفق عليه الجمع كله وان اختلفت الأهواء لا يطيع أحدا حتى يعلمهم كيفية الحال. فبقى جغاتاي ومونككا وسائر من كان حاضرا من الأولاد والأحفاد والأمراء يتشاورون أياما في هذا الأمر وفوضوا الأمر الى باتوا لأنه اكبر الجماعة واشدّهم رأيا. فبعد ثلثة ايام من يوم التفويض قال: ان مثل هذا الخطب الخطير ليس فينا من يفي بحق القيام به غير مونككا فوافقوه كلهم على ذلك وأجلسوه على سرير المملكة وباتوا مع باقي الأولاد والأكابر خدموه جاثين على ركبهم كالعادة. وانصرف كل واحد الى مقامه على بناء انهم يجتمعون في السنة المقبلة ويعملون مجمعا كبيرا ليحضره من الأولاد والأكابر من لم يحضر الآن. وفي سنة تسع وأربعين وستمائة في وقت الربيع حضر اكثر الأولاد مثل بركة اغول واخوه بغاتيمور وعمهم الجتاي الكبير والأمراء المعتبرين من اردو جنكزخان. وفي اليوم التاسع من ربيع الآخر كشفوا رؤوسهم ورموا مناطقهم على أكتافهم ورفعوا مونككا على سرير المملكة ومونككا قاان سمّوه وجثوا على ركبهم تسع مرات. وكان له حينئذ سبعة من الاخوة: قبلاي، هولاكو، اريغبوكا، موكا، بوجك، سبكو، سونتاي، فترتبوا جالسين على يمينه والخواتين على يساره وعملوا الفرحة سبعة ايام. وبينما هم يحسرون ويسرّون إذ وصل قدغان اغول وابن أخته [3] ملك اغول وقراهولاكو وقاموا بمراسم التهنئة وشرائط الخدمة. وكان الجماعة بانتظار اغول غانميش زوجة كيوك خان وولدها خواجة اغول وامرائهم ولم يصل بعد احد منهم. وفي سنة   [1-) ] هي بلدة فوق الموصل بينهما ثلاثة ايام يحيط بها دجلة الّا من ناحية واحدة فعمل هناك خندق اجرى فيه الماء فأحاط بها الماء من جميع جوانبها. [2-) ] مونككا ر مونككان س [؟] مونكا خان. [3-) ] أخته ر أخيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 خمسين وستمائة توجهت اغول غانميش وجماعتها في عساكرهم نحو اردو مونككا خان. وكان المقدّم على جيوشهم سيرامون وناقوا. ولما قربوا اتفق ان رجلا من اردو مونككا قاان من الذين يربّون السباع لأولاد الملك هرب منه اسد فخرج في طلبه دائرا عليه بالجبال والصحاري فاجتاز بطرف من عسكر سيرامون ولقي صبيا منهم قد انكسرت عجلته وهو جالس عندها. فلما رأى السبّاع المذكور مجتازا استدعاه ليستعين به في ترميم عجلته فأجابه السبّاع الى ذلك ونزل من فرسه وأخذ يصلح معه العجلة. فوقع بصره على اسلحة مستورة في باطن العجلة فسأل الغلام عنها. فقال له: ما أغفلك كأنك لست منا كيف لم تعرف ان كل العجل التي معنا كهذه مشحونة بآلات الحرب. فلما تحقق ذلك ترك طلب الأسد الآبق وسار مسيرة ثلثة ايام في يوم واحد عائدا الى أصحابه وأعلمهم بما رأى وسمع. فأمر مونككا قاان ان يمضي إليهم منكسار في الفي فارس ويستكشف حالهم. فمضى وذكر لهم ما نقل عنهم فلم يتمالكوا وداخلهم الرعب ولم يسعهم الّا التسليم لما يقضى عليهم. ولما حضر الكبير منهم والصغير وقع السؤال وثبتت الجريمة عليهم فجوزوا بما استوجبوا من الهلاك وتقسيم عساكرهم على الأولاد والأمراء. ولما فرغ خاطر مونككا قاان من امر المخالفين شرع في ترتيب العساكر وضبط الممالك فأقطع بلاد الخطا من حدّ الميري الى سليكاي وتنكوت وتبّت لقبلاي اغول أخيه. والبلاد الغربية لهولاكو أخيه الآخر ومن جهة تحصيل الأموال. وولّى على البلاد الشرقية من شاطئ جيحون الى منتهى بلاد الخطا الصاحب المعظم يلواج وولده مسعود بيك. وعلى ممالك خراسان ومازندران وهندوستان والعراق وفارس وكرمان ولور وارّان واذربيجان وكرجستان والموصل والشام الأمير ارغون اغا. وامر ان المتموّل الكبير ببلاد الخطا يؤدي في السنة خمسة عشر دينارا والوضيع دينارا واحدا. وببلاد خراسان يزن المتموّل في السنة عشرة دنانير والفقير دينارا واحدا. ومن مراعي ذوات الأربع الذي يسمّونه قويجور يؤخذ من كل من له مائة رأس من جنس واحد رأس واحد ومن ليس له مائة لا يؤخذ منه شيء. واطلق العباد وارباب الدين من الوثنيين والنصارى والمسلمين من جميع المؤونات والأوزان والتكليفات. وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة وثلث وستين للإسكندر توجّه حاتم ملك الأرمن الى خدمة مونككا قاان أخذ قربان خميس الفصح ورحل عن مدينة سيس يوم الجمعة [1] الصلبوت وخرج متنكرا مع رسول له بزيّ بعض الغلمان وأخذ على يده جنيبا يجذبه خلف   [1-) ] الجمعة ر جمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الرسول لأنه كان خائفا من السلطان صاحب الروم. وذكر الرسول اين ما جاء واجتاز من بلد الروم انه قد أرسله الملك حاتم ليأخذ له الامان من مونككا قاان فإذا امّنه توجّه هو بنفسه الى حضرته. حدثني الملك حاتم عند اجتماعي به بمدينة طرسوس بعد سنين [1] من عودته من خدمة مونككا قاان قال: عبرت بقيسارية وسيواس مع الرسول ولم يعرفني احد من أهلها قط الّا لما دخلنا مدينة ارزنكان عرفني رجل من السوقية كان قد سكن عندنا فقال: ان كانتا هاتان عينيّ فهذا ملك سيس. فلما سمع الرسول كلامه التفت اليّ ولطمني على خدي وقال: يا نذل صرت تتشبّه بالملوك. فاحتملت اللطمة لازيل بها ظنّ من كان ظنّه يقينا. وفي سنة احدى وخمسين وستمائة توجّه هولاكو ايلخان من نواحي قراقورم الى البلاد الغربية. وسيّر معه مونككا قاان الجيوش من كل عشرة اثنين وصحبه اخوه [2] الصغير سنتاي اغول ومن جانب باتوا بلغاي [3] بن سبقان وقوتار اغول وقولي [4] في عساكر باتوا. ومن قبل جغاتاي تكودار [5] اغول بن بوخي اغول. ومن جانب جيحكان بيكي بوقا تيمور في عسكر الاويرات [6] . ومن ناحية الخطا ألف بيت من صنّاع المنجنيقات واصحاب الحيل في إصلاح آلات الحرب. فكان امير الترك كيدبوقا [7] الباورجي. وكان القائم مقام هولاكو بأردو مونككا قاان ولده جومغار بسبب ان امه اكبر خواتين هولاكو أبيه. وأخذ صحبته ابنه الكبير اباقا وابنه الآخر يسمون [8] ومن الخواتين الكبار دوقوز [9] خاتون المؤمنة المسيحية والجاي خاتون. وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة تواترت الايلجية في طلب السلطان عز الدين صاحب الروم ليحضر هو بنفسه في خدمة مونككا قاان. فتجهز وسار حتى وصل الى مدينة سيواس. ولما سمع ان الأمراء قد مالوا الى ركن الدين أخيه ويرومون تمليكه عاد مسرعا الى قونية وأرسل   [1-) ] سنين ر سنتين. [2-) ] اخوه ر أخاه. سنتاي س سبتاي [؟] [3-) ] بلغاي س بولغاي [؟] . [4-) ] ويروى: يلغاي عوض بلغاي وتولا عوض قولي. [5-) ] ويروى: توكدار. [6-) ] الاويرات ر الاويزات. [7-) ] كيدبوقا س [؟] . [8-) ] يسمون س [؟] اشموط. لعل الصواب «يشموت» انظر الصفحة 277.- ويروى: تسمرون. [9-) ] ويروى: طقز. ويروى: قوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أخاه علاء الدين وكتب معه كتاب يذكر فيها: انني قد سيّرت اخي علاء الدين وهو سلطان مثلي وانا لم يمكنني المجيء بسبب ان اتابكي ومدبري جلال الدين قرطاي قد مات وظهر لي [1] اعداء من ناحية المغرب فإذا كفيت شرّهم جئت المرّة الاخرى. فلما سار علاء الدين توفي في الطريق ولم يصل الى الاردو. وأراد عزّ الدين ان يقتل ركن الدين أخاه الآخر ويأمن غائلته فأحسّ الأمراء بذلك وهرّبوه بأن ألبسوه ثياب بعض غلمان الطباخين ووضعوا على رأسه خوانجه فيها طعام وأخرجوه من الدار والقلعة في جماعة من الصبيان قد حملوا طعاما الى بعض الدور. فلما خرج اركبوه فرسا وساروا به حتى اوصلوه الى قيسارية وانضم اليه هناك جماعة من الأمراء وجيشوا وتوجهوا نحو قونية ليحاربوا عزّ الدين. فبرز إليهم عزّ الدين بمن معه من العسكر فكسرهم وهزمهم وأسر ركن الدين أخاه واعتقله بقلعة دوالوا. وفي سنة ثلث وخمسين وستمائة وصل رسول بايجو نوين الى السلطان عزّ الدين يطلب منه مكانا يشتي به لان بلد موغان الذي كان يشتو به صار مشتى لهولاكو. فأبى السلطان ان يجيبه الى ذلك وطمع فيه وظنّه منهزما بين يدي هولاكو وجيّش وحاربه عند خان السلطان بين قونية واقسروا وانكسر عزّ الدين وهرب متوغلا في بلاده الداخلة. فأخرج بايجو أخاه ركن الدين من الحبس وملكه على جميع بلاد الروم. وفيها وصل الملك حاتم ودخل بلده أول أيلول وكان مجيئه صحبة بايجو نوين. وفيها في شهر شعبان نزل هولاكو بمروج مدينة سمرقند واقام بها أربعين يوما. وهناك أدرك أخاه سنتاي اغول اجله وأخبر بوفاة أخيه الآخر في طرف بالدر فتكدر خاطره لهاتين الوقعتين فوصل اليه الأمير ارغون واكثر أكابر خراسان وقوّوا عزمهم فعبروا ماء جيحون وكان الوقت شتاء شديد البرد لا يقشع الغيم ولا ينقطع وقوع الثلج من تلك البقاع الى وقت حلول الشمس برج الحمل. فأمر الأمراء ان يقصدوا في عساكرهم قلاع الملاحدة وكان مقدم الإسماعيلية يومئذ ركن الدين خوزشاه بن علاء الدين فأخرب خمس قلاع من قلاعه التي لم يكن فيها ذخائر للحصار. واقبل رسول هولاكو الى حدّ قصران. وكان كيدبوقا قد سبق ففتح قلعة شاهديز [2] وثلثا أخر من قلاعهم. ولما وصل ايلخان الى عباساباذ سيّر ركن الدين الى العبودية صبيا عمره نحو سبع او ثماني سنين وذكر انه ولده. فلم يخف صنيعه على هولاكو ولكن لم يكاشفه في ذلك بل اعزّ الصبي وأكرمه   [1-) ] ويروى: وظهري. [2-) ] شاهديز ر شاهدين س [؟] شاهدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ثم اعاده اليه. وبعد وصول هذا الابن المزوّر الى ركن الدين سيّر أخاه شيران شاه في ثلاثمائة رجل على سبيل الحشر. فسيّر هولاكو الثلاثمائة الى جمالاباذ من بلد قزوين وأعاد أخاه محملا رسالة اليه وهي انه الى خمسة ايام ان لم يصل بنفسه الى الخدمة يحكم قلعته ويستعد للحرب. فأرسل رسول يقول: انه لا يتجاسر على الخروج خوفا من حشمه الذين معه داخل القلعة لئلا يثبوا به فإذا وجد فرصة جاء. فعرف هولاكو انه مماطل مدافع من وقت الى آخر فرحل رابع عشر شوال من سنة اربع وخمسين وستمائة من بيشكام [1] ونزل على القلعة المحاذية لميمون دره وتقدم بقتل الثلاثمائة رجل من الملاحدة الذين كانوا بجمالاباذ قزوين سرّا وصار اهل قزوين يضربون بذلك مثلا لمن يقتل فيقولون: انبعث الى جمالاباذ. ولما عاين ركن الدين نزول هولاكو بالقرب سيّر رسولا يقول: ان سبب تماطلي لم يكن غير انني ما كنت احقق وصوله المبارك والآن انا نازل اليوم او غدا. وكان تلك الليلة ليلة الميلاد. فلما عزم على الخروج ثاوره العلاة [2] من الملاحدة وواثبه الفدائيون ولم يمكّنوه من الخروج. فسيّر الى هولاكو واعلمه ما هم عليه من التمرّد. فأمره ان يداري الوقت معهم محافظا نفسه منهم وكيف ما كان يحتال للنزول ولو متنكرا. وتقدم الى الأمراء ليحتفّوا بالقلعة وينصبوا المنجنيقات ويقاتل كل منهم من يقاتله من الإسماعيلية. فلما اشتغل الملاحدة بقتال المغول نزل ركن الدين ومعه ولده وخواصه الى عبودية هولاكو واظهر الخجلة بل الندامة معترفا بما اقترفه في الأيام الماضية من الجرائم والآثام. فشملته لطائف عواطف ايلخان وبدل ما عند ركن الدين من الاستيحاش والاستنفار بالاستيناس والاستبشار. ولما تحقق من بالقلعة ما نال صاحبهم من الطمأنينة والكرامة سلموا القلعة ونزلوا عنها فحاول المغول هدمها وفتحوا ايضا جميع القلاع التي في ذلك الوادي. وتوجّه ايلجي الى متولّي قلعة ألموت ليتبع مولاه ركن الدين في توخي الايلية وتسليم القلعة. فأبى الّا العصيان الى ان نازله بلغاي اغول في عساكر جمة فطلب الامان وسلمها وخرج عنها في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة. وفي تلك الأيام وصل شمس الدين محتشم قلاع قهستان وأخذ يرليغا وسار معه اصحاب ركن الدين الى قهستان ليخرب جميع القلاع التي هناك وهي تزيد على خمسين حصنا حصينا وتسلموها وفتحوها الّا قلعتين منها هما كرذكوه وكمشير [3] فإنهم   [1-) ] ويروى: بنسكله. [2-) ] العلاة لعل الصواب «الغلاة» . [3-) ] ويروى: كردكوه ويروى لمشير وكمسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لم يطيقوا فتحها في الحال الّا بعد سنتين. ووصل أكابر الديلم وصالحوا المغول على تخريب قلاعهم. وفي أواسط ذي الحجة عاد هولاكو الى الاردو بناحية همذان وسيّر ركن الدين وبنيه وبناته وأزواجه الى قزوين. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة التمس ركن الدين خوزشاه من هولاكو ان يسيّره الى عبودية مونككا قاان. فأعجبه ذلك وأرسله ومعه تسعة نفر من أصحابه صحبة الايلجية. فلما وصلوا الى مدينة بخارا خاصم الايلجية وتسافه عليهم فحقدوا عليه. فلما وصلوا الى قراقورم لم يؤذن لركن الدين ان يحضر وبرز مرسوم مونككا قاان اليه ان: يجب عليك العود الى بلدك والتقدم الى نوابك ليسلموا قلعتي كرذكوه وكمشير فإذا سلموهما واخربتهما تحضر مرة اخرى ويكون لك التليشميشي اي الإكرام والقبول. فنكص ركن الدين بهذا الرجاء على عقبه. وفي الطريق أهلك مع من كان معه من أصحابه. ووصل يرليغ مونككا قاان الى هولاكو ليقتل الملاحدة باسرهم ولا يبقى منهم اثر. فأرسل قراقاي اليبتكتجي الى قزوين وقتل بني ركن الدين وبناته واخوته وأخواته مع جميع عساكر الملاحدة واوتكوحنا نوين [1] ايضا أخرج من رعايا الإسماعيلية بحجة الحشر اثني عشر ألف رجل وقتلهم كلهم واخلى الأرض من كل من ألحد في دينه. وفيها سيّر السلطان عزّ الدين رسولا الى خدمة هولاكو شاكيا على بايجو نوين انه ازاحه عن ملكه. فأمر هولاكو ان يتقاسما الممالك هو واخوه ركن الدين. فظهر عزّ الدين فأتى الى قونية ومضى ركن الدين مع بايجو نوين الى مخيّمه. ولخوف عزّ الدين من بايجو نوين وجّه مملوكه طفلا [2] الى نواحي ملطية وخرتبرت ليستخدم له عسكرا من الأكراد والتركمان والعرب. فوصل هذا المملوك وسيّر في طلب شرف الدين احمد ابن بلاس من بلد الهكار وشرف الدين محمد بن الشيخ عدي من بلد الموصل الكرديّين فاتياه. فاقطع ابن بلاس ملطية وابن الشيخ عدي خرتبرت. اما ابن بلاس فلم يقبله اهل ملطية لأنهم كانوا مستحلفين لركن الدين فكان يضطهدهم ويجور عليهم. فما احتملوه وآل أمرهم معه الى ان وثبوا بأصحابه وقتلوا منهم نحو ثلاثمائة رجل وهرب هو مع من تبعه من أصحابه واجتازوا ببلد قلوذيا واحرقوا دير ماذيق [3] يوم الشعانين وعبروا الى بلد آمد وهناك أدركهم صاحب ميافارقين وقتل ابن بلاس وأسر أصحابه. واما ابن   [1-) ] ويروى: وايكوجبا ويروى يوحنا. [2-) ] ويروى: طغربلابا. س [؟] . ويروى: مملوكه الى نواحي. [3-) ] ماذيق س [؟] ويروى: دير ماريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الشيخ عدي فرحل من خرتبرت ليتصل بالسلطان عزّ الدين فأدركه انكورك نوين وقتله ومن معه. ثم ولّى السلطان عزّ الدين ملطية رجلا بطلا شجاعا يقال له عليّ بهادر فقبله اهل ملطية خوفا من صرامته. وهذا عليّ حارب الاعجزية [1] وهم قوم مفسدون من التركمان كانوا يغيرون على البلاد ويقتلون أهلها ويسبون الذراري فأسر مقدمهم المسمى جوتي بك وسجنه بقلعة المنشار وهزم جيوشهم. فأمن الناس شرّهم وانفتحت السبل وامتار الناس الطعام وفرج الله عنهم غمهم قليلا. وبينما هم فرحون بذلك إذ وافاهم بايجو نوين في عساكره وصاروا يقاتلون متسلمي القلاع ليسلموها الى ركن الدين. ونزلوا على مدينة ابلستين وقتلوا من أهلها نحو ستة آلاف رجل وأسروا النساء والبنين والبنات. وجاءوا الى ملطية فهرب عليّ بهادر الى كاختة. وخرج اهل ملطية الى خدمة بايجو نوين بأنواع بالترغو [2] والتحف. وكان ذلك في منتصف أيلول سنة ألف وخمسمائة وثماني وستين للإسكندر. فحلّفهم لركن الدين ورحل عنهم بعد ان أخذ أموالا وولّى ركن الدين على ملطية مملوكا له اسمه فخر الدين أياز [3] . ولما خرج بايجو من حدود الروم طالبا للعراق عاد عليّ بهادر الى ملطية فأغلق أهلها الأبواب ولم يمكنوه من الدخول خوفا من بايجو. فحصرها أياما واشتد الغلاء بها وبلغ المكوك من الملح الى أربعين [4] درهما والحنطة المكوك بسبعين درهما. فضجر الناس وضاقت بهم الحيلة ففتح العامة الحاكة وغيرهم بابا من أبواب المدينة في بعض الليالي فدخلها عليّ بهادر وأصحابه التركمانيون عنوة واصعد الى المنابر [5] جماعة ينادون ويقولون: ان الأمير قد امّن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحد الى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام. فلما أصبحوا قبض على فخر الدين أياز مملوك السلطان ركن الدين وسجنه واركب شهاب الدين العارض على بهيم حقير وطوّفه بملطية ثم قتله وشدّ احد طرفي رسن في رقبة المعين الايكد بشاسي [6] والطرف الآخر في رقبة كلب ومشّاه بالأسواق ثم ضرب عنقه. وعاقب المستوفي الروميّ القسيس قالويان وولده كيريوري [7] وأخويه   [1-) ] الاعجرية س [؟] . [2-) ] الترغو ر الهدايا. [3-) ] أياز س [؟] . [4-) ] أربعين ص اربعمائة س اربعمائة. [5-) ] منابر ر مناير. [6-) ] الايكد بشاسي س [؟] .- ويروى: بشباسي. [7-) ] ويروى: كنويري س [؟] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 باسيل ومانويل واستصفى أموالهم ثم قتلهم. وقتل ايضا الأمراء الثلاثة أولاد الأمير شهاب الدين ايسو [1] الكردي. واشتد الجوع بملطية وبلدها حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وكانوا ينقعون الجلود اليابسة التي لدم بها النعال فيأكلونها مطبوخة. واجتاز جماعة من أصحابنا بقرية اسمها با عبدون ببلد جوباس من اعمال ملطية فرأوا جماعة من النساء قد اجتمعن في بيت وقدامهنّ ميت ممدود وبأيديهنّ السكاكين وهنّ يشرحن لحمه ويشوينه ويأكلن. وامرأة اخرى شوت ابنها الصغير في تنور لها ولما كبسها مجاوروها حلفت انها لم تقتله وانما مات ففعلت به ذلك زاعمة انها به اولى من الديدان. وبعد ما فعل عليّ بهادر تلك الرزايا بأعيان ملطية ومثّل بأماثلها لم يهنأ له بها عيش لما كان أهلها عليه من البلاء والجلاء والجدب. فخرج عنها ملمّا بالسلطان عزّ الدين. وفيها مرض ثاوذوروس ملك الروم بمدينة نيقية [2] وكان في خدمته بطريق يقال له ميخائيل ويلقب بباليولوغس اي الكلام المتقدم [3] . وذلك ان العلماء من الروم بعد تغلب الافرنج على القسطنطينية تقدموا فقالوا ان ملكا في اسمه الميم والخاء من حروف اليونانيين ينزع الفرنج عنها ويعيدها الى الروم. فكان الملك ثاوذوروس يخاف هذا ميخائيل لئلّا يتغلب على الملك. ولما اشتدّ خوفه منه سجنه واعتقله ببعض قلاع بلد تسالونيقي ولم يمكنه إهلاكه بغير جريمة تظهر منه. وفي مرضه هذا أرسل بطريقا يقال له غاذينوس ليأتيه به. فلما وصل غاذينوس هذا الى ميخائيل قال له سرا: أنت الملك فكن لبيبا وأسلم نفسك اليّ ولا تظهر كراهية أصلا ورأسا ليزول بذلك ما حصل عند الملك من الخيالات في شأنك. فأجاب ميخائيل الى ذلك وحمله مقيدا الى الملك. ولما مثل بين يديه بكى واظهر الكآبة العظيمة. فرقّ له الملك وحنّ اليه واقبل عليه واوصى اليه في تربية قالويان ابنه وتدبيره وكان الابن وقتئذ طفلا وأشرك معه في ذلك البطريرك ارسانيوس. وبعد مدة مديدة توفي ثاوذوروس ودفن في دير مغنيسيا. وكان له اخت تسمّى كيرايلونيا ولها ختن على ابنتها يقال له موزالون فخرجت معه الى الدير بحجة زيارة قبر الملك وأقاما به أياما يتشاوران في امر الملك واتفقا على ان يقبضا على ميخائيل ومن يرى رأيه ويتولّى تدبير الطفل موزالون. فشعر ميخائيل بدسيستهما وسيّر عليهما جماعة من جند الفرنج الذين كانوا في خدمته وأمرهم ان يقتلوهما معا حيث وجدوهما. فدخل الفرنج   [1-) ] ايسو س [؟] .- ويروى: انسو. [2-) ] نيقية ر نيقي س [؟] نيفي. [3-) ] ان المؤلف ترجم هذا الاسم حرفيا. وباليولوغوس عيلة قديمة شريفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الدير ولقوهما في البيعة وقت صلاة العشاء فقطعوهما موضعهما ونادوا بشعار ميخائيل بمدينة نيقيا قائلين: ميخائيل يا منصور ميخائيل ملك يونان باليولوغس اوطوقراطور رومانيا. ومن هناك سار ميخائيل الى مدينة نيقية وخطب له بالمملكة بجميع تلك البلاد واعتقل الطفل قالويان ابن الملك ببعض القلاع ونفى البطريرك ارسانيوس الذي وبخه على فعله هذا. ولما تمكن من الملك لم يكن له اهتمام الّا بأخذ قسطنطينية فسار إليها مرة ولم يقدر على فتحها فصبر الى ان ثارت الفتنة بين البنادقة والجنوية بمدينة عكا فسار البنادقة أجمعين عن القسطنطينية الى عكا لنصرة أصحابهم وكانوا هم الحفظة لها. واحتال حيلة اخرى بأن أشار الى متوّلي بعض قلاع الروم ليكاتب بغدوين الفرنجي صاحب القسطنطينية ويقول له: ان هذا ميخائيل قد تغلب على مملكة الروم بغير استحقاق وهو ظالم معتدّ على بيت أستاذه وانا كاره له وأنت اولى بهذه القلعة منه لأنك ملك ابن ملك وميخائيل خارجيّ. فابعث لي عسكرا وانا أسلمها إليهم ولا بدّ من منجنيقات تكون معهم فينصبونها ويظهرون القتال والزحف ليكون لي عذر عند الناس إذا سلّمتها. فاغترّ بغدوين الفرنجي بكلامه وقدره صادقا بما قال فأرسل من كان عنده من المقاتلين الى تلك القلعة ونازلوها واشتغلوا بنصب المنجنيقات والاستعداد للقتال. وحينئذ عبر ميخائيل في عساكره خليج القسطنطينية ونزل عليها وهي خالية عن رجال الحرب وحال بينها وبين العسكر الذي كان على القلعة المذكورة. فدلّه بعض الرعاة على باب عتيق للمدينة قد عفا اثره ولم يفتح من عهد قسطنطينوس فنبشوه ودخلوا المدينة وملكوها ليلا وتغافلوا عن بغدوين صاحبها عمدا حتى خرج في اهل بيته وصار الى بلاد الفرنج في البحر. وكان مدة بقاء القسطنطينية بيد الفرنج نحو ثلث وخمسين سنة ثم عادت الى الروم كما كانت أولا. وفيها في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد. وكان في ايام محاصرته قلاع الملاحدة قد سيّر رسولا الى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة فأراد ان يسيّر ولم يقدر ولم يمكّنه الوزراء والأمراء وقالوا: ان هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجا الى نجدتنا وانما غرضه أخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة. فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولا آخر الى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة. فشاوروا [1] الوزير فيما يجب ان يفعلوه فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له   [1-) ] فشاوروا ر فشاور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ولخواصّه. وعند ما أخذوا في تجهيز ما يسيّرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه: ان الوزير انما يدبّر شأن نفسه مع التاتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شيء نزر لا قدر له. فغضب هولاكو وقال: لا بدّ من مجيئه هو بنفسه او يسيّر احد ثلثة نفر اما الوزير واما الدويدار واما سليمانشاه. فتقدم الخليفة إليهم بالمضيّ فلم يركنوا الى قوله فسيّر غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين فلم يجديا عنه. وأمر هولاكو بايجو نوين وسونجاق نوين ليتوجّها في مقدمته على طريق اربل وتوجه هو على طريق حلوان. وخرج الدويدار من بغداد ونزل بجانب يا عقوبا [1] . ولما بلغه ان بايجو نوين عبر دجلة ونزل بالجانب الغربي ظن ان هولاكو قد نزل هناك فرحل عن يا عقوبا ونزل بحيال بايجو ولقي يزك [2] المغول أميرا من أمراء الخليفة يقال له ايبك الحلبي فحملوه الى هولاكو فأمّنه ان تكلّم بالصحيح وطيّب قلبه فصار يسير امام العسكر ويهديهم. وكتب كتابا الى بعض أصحابه يقول لهم: ارحموا أرواحكم واطلبوا الامان لان لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة. فأجابوه بكتاب يقولون فيه: من يكون هولاكو وما قدرته ببيت عباس من الله ملكهم ولا يفلح من يعاندهم ولو أراد هولاكو الصلح لما داس ارض الخليفة ولما أفسد فيها. والآن ان كان يختار المصالحة فليعد الى همذان ونحن نتوسل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشعا في هذا الأمر لعلّه يعفو عن هفوة هولاكو. فلما عرض ايبك الكتاب على هولاكو ضحك واستدلّ به على غباوتهم. ثم سمع الدويدار ان التاتار قد توجهوا نحو الأنبار. فسار إليهم ولقي عسكر سونجاق نوين وكسرهم وهزمهم وفي هزيمتهم التقاهم بايجو نوين فردّهم وهجموا جميعا على عسكر الدويدار فاقتتلوا قتالا شديدا وانجلت الحرب عن كسرة الدويدار فقتل اكثر عسكره ونجا هو في نفر قليل من أصحابه ودخل بغداد. وفي منتصف شهر المحرّم من سنة ست وخمسين وستمائة نزل هولاكو بنفسه على باب بغداد وفي يوم وليلة بنى المغول بالجانب الشرقي سيبا اعني سوريا عاليا وبنى بوقا تيمور وسونجاق نوين وبايجو نوين بالجانب الغربي كذلك وحفروا خندقا عميقا   [1-) ] كذا في الأصل. والصواب باعقوبا ويقال لها بعقوبا ايضا وهي قرية كبيرة على عشرة فراسخ من بغداد. [2-) ] ويروى: بركا وهو تصحيف. واليزك رئيس العسس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 داخل السيبا [1] ونصبوا المنجنيقات بازاء سور بغداد من جميع الجوانب ورتبوا العرّادات وآلات النفط. وكان بدء القتال ثاني وعشرين محرّم. فلما عاين الخليفة العجز في نفسه والخذلان من أصحابه أرسل صاحب ديوانه وابن درنوش [2] الى خدمة هولاكو ومعهم تحف نزرة. قالوا: ان سيّرنا الكثير يقول: قد هلعوا وجزعوا كثيرا. فقال هولاكو: لم ما جاء الدويدار وسليمانشاه. فسيّر الخليفة الوزير العلقمي وقال: أنت طلبت احد الثلاثة وها انا قد سيّرت إليك الوزير وهو أكبرهم. فأجاب هولاكو: انني لما كنت مقيما بنواحي همذان طلبت احد الثلاثة والآن لم اقنع بواحد. وجدّ المغول بالقتال بازاء برج المعجمي وبوقا تيمور من الجانب الغربي حيث المبقلة وسونجاق نوين وبايجو نوين من جانب البيمارستان العضدي. وامر هولاكو البتيكتجية ليكتبوا على السهام بالعربية: ان الاركاونية [3] والعلويين والداذنشمدية [4] وبالجملة كل من ليس يقاتل فهو آمن على نفسه وحريمه وأمواله. وكانوا يرمونها الى المدينة. واشتدّ القتال على بغداد من جميع الجوانب الى اليوم السادس والعشرين من محرم. ثم ملك المغول الأسوار وكان الابتداء من برج العجمي. واحتفظ المغول الشط ليلا ونهارا مستيقظين لئلا ينحدر فيه احد. وامر هولاكو ان يخرج اليه الدويدار وسليمانشاه واما الخليفة ان اختار الخروج فليخرج والّا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمانشاه ومعهما جماعة من الأكابر. ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة انه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والازقّة لئلا يقتلوا أحدا من المغول فرجع وخرج من الغد وقتل. وعامة اهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين الزنكاني ليأخذ لهم الامان. ولما رأى الخليفة ان لا بد من الخروج أراد او لم يرد استأذن هولاكو بأن يحضر بين يديه فأذن له وخرج رابع صفر ومعه أولاده واهله. فتقدم هولاكو ان ينزلوه بباب كلواذ [5] وشرع العساكر في نهب بغداد ودخل بنفسه الى بغداد ليشاهد دار الخليفة وتقدّم بإحضار الخليفة فاحضروه ومثل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآلئ ودررا معبّاة في أطباق ففرّق هولاكو جميعها على الأمراء وعند المساء خرج الى منزله وامر الخليفة ان يفرز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهنّ عن غيرهنّ ففعل فكنّ سبعمائة امرأة فاخرجهن ومعهنّ ثلاثمائة خادم   [1-) ] ويروى: عميقا ونصبوا إلخ. [2-) ] درنوش س [؟] .- ويروى: دونوس ودرنوس. [3-) ] اي تباع اركون ومعناه الدهقان العظيم وهي كلمة يونانية [؟] . [4-) ] والداذنشمدية ر والدانشمدية. [5-) ] لعلّه باب كلواذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 خصيّ. وبقي النهب يعمل الى سبعة ايام ثم رفعوا السيف وبطلوا السبي. وفي رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد وفي أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم [1] وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان بالليل وقتل ابنه الكبير ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذ وفوّض عمارة بغداد الى صاحب الديوان والوزير وابن درنوش. وأرسل بوقا تيمور الى الحلّة ليمتحن أهلها هل هم على الطاعة ام لا. فتوجّه نحوها ورحل عنها الى مدينة واسط وقتل بها خلقا كثيرا أسبوعا. ثم عاد الى هولاكو وهو بمقام سياكوه [2] . وكان من الفضلاء المعتبرين في هذه السنين القاضي الأكرم جمال الدين بن القفطي مصنف كتاب تاريخ الحكماء مولده بقفط من اعمال صعيد مصر سنة ثماني وستين وخمسمائة رحل به أبوه طفلا واسكنه القاهرة المعزّية وبها قرأ وكتب وشدا شيئا من الأدب. ثم خرج الى الشام فأقام بحلب وصحب بها الأمير المعروف بالميمون القصري. واجتمع في هذه المدة بجماعة من العلماء واستفاد بمحاضرتهم وفقه بمناظرتهم. ثم لازم منزله بعد وفاة الأمير المذكور الى ان ألزم بالخدمة في امور الديوان في ايام الملك الظاهر فتولّى ذلك وهو كاره للولاية متبرّم بها. فلما مات الملك الظاهر عاد فانقطع في منزله مستريحا من معاناة الديوان مجتمع الخاطر على شأنه من المطالعة والفكرة منقبضا عن الناس محبا للتفرد والخلوة لا يكاد يظهر لمخلوق حتى قلّده الملك العزيز وزارته سنة ثلث وثلاثين وستمائة. فلم يزل في هذا المنصب مدة ايام الملك العزيز والملك الناصر ابنه حتى توفي ثالث عشر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة. ومن حكماء هذا الزمان نجم الدين النخجواني كان ذا يد قويّة في الفضائل وعارضة عريضة في علوم الأوائل تفلسف ببلاده وسار في الآفاق وطوّف ودخل الروم وولي المناصب الكبار ثم كره كدر الولاية ونصبها فارتحل الى الشام واقام بحلب منقطعا في دار اتخذها لسكناه لا يمشي الى مخلوق ولكن يمشى اليه الى ان مات بها. وكان شديد الميل الى مذهب التناسخ وله مؤاخذات على منطق الإشارات وشرحها ايضا وتناول [3]   [1-) ] كانت مدة خلافته نحو ست عشرة سنة تقريبا وهو آخر الخلفاء العباسيين. وكانت مدة ملكهم خمسمائة سنة وأربعا وعشرين سنة هجرية. وعدة خلفائهم سبعة وثلاثون خليفة. [2-) ] ويروى: سياكوا ولعلّها سياه كوه. [3-) ] ويروى: وتناوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الأفضل الخونجي بالاستنقاص وزيّف أقواله في كتاب الكشف فيما يتعلق بعكس النقيض والموضوع الخارجي والحقيقي ومنعه انتاج الصغرى الممكنة في الشكل الاول وانعكاس السالبة الكلية الضرورية كنفسها الى غير ذلك. ومنهم الحكيم ثاذري الانطاكي اليعقوبي النحلة احكم اللغة السريانية واللاطينية بأنطاكية وشدا بها شيئا من علوم الأوائل. ثم هاجر الى الموصل وقرأ على كمال الدين ابن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحلّ اوقليذس والمجسطي. ثم عاد الى انطاكية ولم يطل المكث بها لما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية الى ابن يونس وانضج ما استنهأ من علمه وانحدر الى بغداد واتقن علم الطب وقيّد أوابده وتصيّد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه [1] ولم يقبل عليه فرحل الى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للامبرور ملك الفرنج [2] فنال منه إفضالا ووجد له به نوالا واقطعه بمدينة كما هي باعمالها. فلما صلح حاله وكثر ماله اشتاق الى بلده واهله ولم يؤذن له بالتوجه فأقام الى ان أمكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته الى بلاد المغرب فضمّ أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد اعدّها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون برّ عكا. فبينما هم سائرون. ذهبت عليهم ريح رمت بهم الى مدينة كان الملك قد ارسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئا من سمّ كان معه ومات خجلا لا وجلا لان الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله. ومن الأطباء المشاهير في هذا الزمان الحكيم مسعود البغدادي المعروف بابن القسّ طبيب حاذق نبيل خدم الخليفة المستعصم واختصّ به وطبّ حرمه وأولاده وخواصه وارتفعت منزلته لديه. ولما جرى ببغداد ما جرى انقطع عن الناس ولزم منزله الى ان مات. وخلف ولده غرس النعمة أبا نصر [3] وكان ابو نصر فاضلا عاقلا ذا فنون خبيرا بأصول الهندسة فاكّا مشكلاتها وكان ضئيلا مسقاما لا يقطع استعمال ماء الشعير صيفا وشتاء وكان غذاؤه دوائيا نزرا ومات كهلا. ومنهم الحكيم عيسى البغدادي المعروف بابن القسيس الحظيري [4] كان أبوه طبيبا   [1-) ] وفي رواية: فاستعربه. وفي أخرى: فاستشعر به [2-) ] كان هذا الملك فريدريكوس الثاني. [3-) ] نصر ر ناصر. [4-) ] الحظيري ر الخطيري. ابن العبري- 18 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فاضلا يقرأ عليه ويؤخذ منه. وكان حادّ المزاج يسرع اليه الغضب. جرى لي معه مفاوضة في امر تقديم السريان الليل على النهار مستدلّين التوراة وهو قوله تعالى: وصار مساء وصار صباح يوما واحدا. قلت: هذه الحجة عليهم لا لهم لأنها تنبئ عن تقدّم نهار آخره مساء وتأخّر ليل آخره صباح ليتمّ بمجموعهما يوم واحد لانّ الحاصل من المساء الى الصباح انما هو ليلة واحدة وهي نصف يوم لا يوم تام. فلم ينصفني في هذا ولا أجاب عنه بشيء اكثر من قوله: هذا مذهب اهل ملّتك فكيف يسعك تكذيبهم. فقلت: انا تابع فيه لليونانيين وأقيم عذر السريانيين وهو ان شهورهم قمريّة والقمر انما يرى استهلاله مساء لا صباحا فجعلوا مبادئ تواريخهم أوائل الليل ومثلهم العبرانيون والعرب لان الليل مقدّم على النهار في نفس الأمر. ومما يستدلّ به على علوّ همّته الحكيم عيسى ابن القسيس انه نسخ كتاب القانون بخطّه في شبيبته ثم خرجت النسخة عن ملكه بحكم شرعيّ وحصلت في خزانة المدرسة المستنصرية. فلما اسنّ طلب النسخة وقابلها وصححها وأعادها الى مكانها. فنسبه باغضوه الى فضول ومحبّوه الى مثوبة يتوخّاها. فقال: كلا الفريقين مخطئ وانما فعلت ذلك لئلا يزرى عليّ بعد موتي. وعمّر طويلا ومات شيخا كبيرا. ومنهم تقيّ الدين الرأس عينيّ [1] المعروف بابن الخطّاب [2] طبيب مشهور الذكر متقن لصناعة الطب علمها وعملها غاية الإتقان خدم السلطان غياث الدين وبعده ابنه عزّ الدين وصار له منزلة عظيمة منهما ورفعاه من حدّ الطب الى المعاشرة والمسامرة واقطعاه إقطاعات جزيلة وكان في خدمتهما بزيّ جميل وامر صالح وغلمان وخدم وصادف من دولتهما كل ما سرّه. ومنهم شرف الدين بن الرحبي واخوه جمال الدين الدمشقيّان. اما شرف الدين فكان بارعا بالجزء النظري من الطب له معرفة تامة به واطلاع على أصوله تصدّر لافادة هذا الشأن وأخذ عنه جماعة من الطلبة وكان قليل التعرّض لمباشرة المرضى. وسمعت وقت تحصيلي بدمشق ان له تعاليق وحواشي على القانون ولم ارها. واما جمال الدين اخوه فكان له عناية تامة في الحزء العمليّ من الطبّ وتجارب فاضلة فيه ونفوذ مشهور في المعالجة. صحبته مدة أباشر معه المرضى بالبيمارستان النوري بدمشق وكان حسن الأخلاق لم ار في الجماعات احسن منه زيا وصمتا ونطقا ومبسما.   [1-) ] قال في معجم البلدان في كلامه عن مدينة رأس عين «والمشهور في النسبة إليها راسعني. وقد نسب إليها الراسي» . [2-) ] الخطاب ر الحطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ومنهم بدر الدين المعروف بابن قاضي بعلبك كان فاضلا خبيرا بالمباشرة والمعالجة جميل التحيّل للبرء وصنّف كتابا لطيف الحجم سمّاه مفرّح النفس جمع فيه جملة ما يتعلّق بالحواسّ الخمسة من المفرحات وأضاف اليه [1] الادوية المفردة القلبية ومركبات ايضا حارّة وباردة ومعتدلة للملوك والفقراء واوساط الناس وأخذ فيه على الرئيس في جعله الكسفرة عديدة المفرحات. ومنهم نفيس الدولة الدمشقي النصراني الملكي المعروف بابن طليب وسيأتي ذكره في جملة أطباء هولاكو إذ هو أكبرهم. ومنهم الموفق يعقوب الدمشقيّ السامريّ كان طبيبا حاذقا مصيبا في علاجه مستحضرا للشروح وكان ضنينا بما يحسنه يشارط من قصده من سائر البلاد للاستفادة على إسماعه اي كتاب أراد قراءته دراهم معلومة. وهذه خساسة مباينة للأنفس الفاضلة. ومن فضلاء هذا الزمان في علوم الأوائل وجميع الفضائل نجم الدين الدمشقي المعروف بابن اللبودي تولّى امور الديوان وقلّد الوزارة والغالب عليه الهندسة والعدد. ومنهم عزّ الدين الضرير كان من الأفاضل والأعيان المعدودين من حسنات الزمان. وله مشاركة حسنة في سائر الأنواع الفلسفية والآداب العربية. وكان قويّ الذكر والتخيّل بحيث انه كان يقرأ عليه وهو مكفوف ستّ مقالات من كتاب اوقليذس وكان يحفظ الأشكال بحروفها ويتكلم في حلّها.   [1-) ] اليه ... ومركبات ر الى ... مركبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الدولة العاشرة المنتقلة من ملوك العرب المسلمين الى ملوك المغول (هولاكو بن تولي خان [1] ولما ملك هولاكو بغداد ورتّب بها الشحاني والولاة انفذ بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل اليه ابنه الملك الصالح اسماعيل ومعه جماعة من عسكره نجدة له. فأظهر له هولاكو عبسة وقال: أنتم بعد في شكّ من أمرنا ومطلتم نفوسكم يوما بعد يوم وقدّمتم رجلا واخّرتم اخرى لتنظروا من الظافر بصاحبه فلو انتصر الخليفة وخذلنا لكان مجيئكم اليه لا إلينا. قل لأبيك: لقد عجبنا منك تعجبا كيف ذهب عليك الصواب وعدل بك ذهنك عن سواء السبيل واتخذت اليقين ظنا وقد لاح لك الصبح فلم تستصبح. فلما عاد الصالح الى الموصل وبلّغ أباه ما حمل من الرسالة الزاجرة أيقن بدر الدين ان المنايا قد كثّرت له عن أنيابها وذلّت نفسه وهلع هلعا شديدا وكاد يخسف بدره ويكسف نوره. فانتبه من غفلته واخرج جميع ما في خزائنه من الأموال واللآلي والجواهر والمحرمات من الثياب وصادر ذوي الثروة من رعاياه وأخذ حتى حليّ حظاياه والدرر من حلق أولاده وسار الى طاعة هولاكو بجبال همذان. فأحسن هولاكو قبوله واحترمه لكبر سنّه ورقّ له وجبر قلبه بالمواعيد   [1-) ] ان هولاكو لم يكن مستقلا بالملك بل كان تحت رئاسة اخية مونككا الخان الأعظم الذي بعثه مع قسم من الجيوش لفتح البلاد التي غربي الفرات. والدليل على ذلك انه لم يكن يضرب اسمه على السكك بل اسم الخان الكبير. وارغون خان هو أول من ابتدأ ان يضرب في السكك اسمه مع اسم الخان العظيم. (طالع الصفحة 75 من الكتاب المعنون () . والذي حمل أبا الفرج وغيره من مؤرخي العرب ان يذكروا هولاكو كأنه خان عظيم ورأس دولة المغول انما هو لأنه أول من ملك على بلاد المسلمين بعد فتح بغداد وزوال الدولة العباسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الجميلة واستأمن اليه وداعبه وقدّمه الى ان أصعده اليه على التخت واذن له ان يضع بيده في أذنيه حلقتين كانتا معه فيهما درّتان يتيمتان [1] . واقام في خدمته أياما ثم عاد الى الموصل مسرورا مبرورا بل مذعورا مما شاهد من عظمة هولاكو وهيبته ودهائه. وفيها توجه الأشرف بن الملك الغازي بن الملك العادل صاحب ميافارقين الى الملك الناصر صاحب حلب يطلب منه نجدة ليمنع المغول من الدخول الى الشام. فاستخف برأيه ولم يسمع مشورته بل سوّفه بكلام وسرّحه من عنده بالأمان. ولما وصل الى ميافارقين مدينته طرد شحاني المغول منها وصلب رجلا قسيسا كان قد وصل اليه من خدمة قاان باليراليغ والبوايز [2] . وبينما هو كذلك أدركته عساكر المغول وأحاطت بمدينته وفي رأس العسكر يشموت [3] بن هولاكو. وفي يوم وليلة بنى المغول حول مدينته سورا وحفروا خندقا عميقا ثم نصبوا عليها المنجنيقات وابتدأوا بالقتال وقاتلوا قتالا شديدا من الجانبين. ولما رأى المغول ان المدينة لم يمكنهم أخذها بالقتال أبطلوا القتال وحاصروها ومنعوا الناس من الدخول إليها والخروج عنها. وفي سنة سبع وخمسين وستمائة أرسل هولاكو ايلجية الى الملك الناصر صاحب حلب برسالة يقول فيها: يعلم الملك الناصر اننا نزلنا بغداد في سنة ستّ [4] وخمسين وستمائة وفتحناها بسيف الله تعالى وأحضرنا مالكها وسألناه مسئلتين فلم يجب لسؤالنا فلذلك استوجب منّا العذاب كما قال في قرآنكم إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. 13: 11 وصان المال. فآل الدهر به الى ما آل. واستبدل النفوس النفيسة. ينقوش معدنية خسيسة. وكان ذلك ظاهر قوله تعالى: وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً. 18: 49 لاننا قد بلغنا بقوة الله الارادة. ونحن بمعونة الله تعالى في الزيادة. ولا شك ان نحن جند الله في ارضه خلقنا وسلّطنا على من حلّ عليه غضبه. فليكن لكم في ما مضى معتبر. وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. فالحصون بين أيدينا لا تمنع. والعساكر للقائنا لا تضرّ ولا تنفع. ودعاؤكم علينا لا يستجاب ولا يسمع. فاتّعظوا بغيركم. وسلّموا إلينا أموركم. قبل ان ينكشف الغطا. ويحلّ عليكم الخطا. فنحن لا نرحم من شكا. ولا نرقّ لمن   [1-) ] يتيمتان ر ثمينتان. [2-) ] ويروى: والبواير. [3-) ] يشموت س [؟] .- ويروى: بشموت وهو تصحيف. [4-) ] ست وخمسين (انظر السطر 6 من الصفحة 14 من كتابنا هذا) .- ويروى: خمس. وليس بصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بكا قد اخربنا البلاد. وأفنينا العباد. وايتمنا الأولاد. وتركنا [1] في الأرض الفساد. فعليكم بالهرب. وعلينا بالطلب. فما لكم من سيوفنا خلاص. ولا من سهامنا مناص. فخيولنا سوابق. وسهامنا خوارق. وسيوفنا صواعق [2] . وعقولنا كالجبال. وعددنا كالرمال. فمن طلب منّا الامان سلم.. ومن طلب الحرب ندم. فان أنتم أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا. وان أنتم خالفتم أمرنا وفي غيكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم. فالله عليكم يا ظالمين فهيئوا للبلايا جلبابا. وللرزايا اترابا. فقد اعذر من انذر. وأنصف من حذّر. لأنكم أكلتم الحرام وخنتم بالايمان. وأظهرتم البدع واستحسنتم الفسق بالصبيان. فابشروا بالذلّ والهوان. فاليوم تجدون ما كنتم تعلمون. سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. 26: 227 فقد ثبت عندكم اننا كفرة. وثبت عندنا انكم فجرة. وسلّطنا عليكم من بيده الأمور مقدّرة. والأحكام مدبّرة. فعزيزكم عندنا ذليل. وغنيكم لدينا فقير. ونحن مالكون الأرض شرقا وغربا. واصحاب الأموال نهبا وسلبا. وأخذنا كل سفينة غصبا. فميزوا بعقولكم طرق الصواب قبل ان تضرم الكفرة نارها. وترمي بشرارها. فلا تبقي منكم باقية. وتبقى الأرض منكم خالية. فقد ايقظناكم. حين راسلناكم. فسارعوا إلينا بردّ الجواب بتّة. قبل ان يأتيكم العذاب بغتة. وأنتم تعلمون. فطلبه ليحضر عنده. ولما شاور الأمراء لم يمكّنوه من المشي الى هولاكو وبقي متحيرا خائفا مذعورا لم يدر ما يصنع. غير انه استجار [3] الله وسيّر ولده الملك العزيز وصحبته الأموال الكثيرة والهدايا والتحف. وبقي هناك من أوائل الشتاء الى الربيع ثم عاد الى أبيه قائلا: قد قال ملك الأرض: نحن للملك الناصر طلبنا لا لولده فالآن ان كان قلبه صحيحا معنا يجيء إلينا والّا فنحن نمشي اليه. فلما سمع الملك الناصر ذلك بقي مترددا في رأيه لان الأمراء لم يمكّنوه من المشي اليه وهو فقد وقع عنده الخوف والجزع ولم يطمئن على القعود. ثم سيّر هولاكو في طلب سلطان الروم عزّ الدين وأخيه ركن الدين فأطاعاه ومشيا اليه واحسن قبولهما والتقاهما مرحّبا بهما فرحانا وتقدّم إليهما بان عزّ الدين يتملّك على قيسارية الى تخوم ارمينية الكبرى وركن الدين يتملّك من اقسرا والى ساحل البحر حدود الافرنج. ثم انه بعد ذلك توجه الى الشام وتوجّها في خدمته الى قريب الفرات وعادا الى بلادهما مسرورين مغبوطين.   [1-) ] وتركنا ر وأوقعنا. [2-) ] ويروى: مراحق وهي تصحيف مواحق. [3-) ] استجار الله ر استجار اليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وفي هذه السنة توفي السلطان الملك الرحيم بدر الدين ابو الفضائل لؤلؤ صاحب الموصل في عشرين يوما مضت من شهر تموز وتولّى ولده الملك الصالح إسماعيل الموصل وولده علاء الدين سنجار وولده سيف الدين الجزيرة. وفي سنة ثماني وخمسين وستمائة دخل هولاكو ايلخان الشام ومعه من العساكر اربعمائة ألف ونزل بنفسه على حرّان وتسلمها بالأمان وكذلك الرها ولم يدن لأحد فيهما سوء. واما اهل سروج فإنهم أهملوا امر المغول فقتلوا عن أقصاهم. وتقدم هولاكو فنصب جسرا على الفرات قريبا من مدينة ملطية وآخر عند قلعة الروم وآخر عند قرقيسياء وعبرت العساكر جملتها وقتلوا عند منبج مقتلة عظيمة. ثم تفرّقت العساكر على القلاع والمدن. ونفر قليل من العسكر طلب حلب فخرج إليهم الملك المعظم ابن صلاح الدين الكبير فالتقاهم وانكسر قدّام المغول ودخل المدينة منهزما. وطرف منهم وصل الى المعرّة وخربوها. وتسلّموا حماة بالأمان وحمص ايضا. فلما بلغ ذلك الملك الناصر أخذ أولاده ونساءه وجميع ما يعزّ عليه وتوجه منهزما الى بريّة الكرك والشوبك. وعند ما وصلت المغول الى دمشق خرج أعيانها إليهم وسلموها لهم بالأمان ولم يلحق بأحد منهم أذى. واما هولاكو فانه بنفسه نزل على حلب وبنى عليها سيبا ونصب المنجنيقات واستضعف في سورها موضعا عند باب العراق واكثر القتال والزحف عليه. وفي ايام قلائل ملكوها ودخلوها يوم الأحد الثالث والعشرين [1] من كانون الثاني من هذه السنة وقتل فيها اكثر من الذي قتل ببغداد. وبعد ذلك أخذوا القلعة في اسرع ما يكون وقتا. ثم ان هولاكو رحل عنها وأحاط بقلعة الحارم [2] واختار ان يسلموها اليه ويؤمّنهم على أنفسهم فلم يطمئنوا الى قوله وانما طلبوا منه رجلا مسلما يحلف لهم ويكون صاحب شريعة يطمأن اليه حيث يحلف لهم بالطلاق والمصحف ان لا يدنو لأحد منهم سوء وينزلوا ويسلّموا إليهم القلعة. فسألهم هولاكو: من تريدون ان يحلف لكم. قالوا: فخر الدين الوالي بقلعة حلب فانه رجل صادق مؤمن خيّر. فتقدّم هولاكو اليه فدخل إليهم وحلف لهم على جميع ما يريدون. فحينئذ فتحوا الأبواب ونزل الناس خلائق كثيرة وتسلّم المغول القلعة. ثم ان هولاكو تقدم بقتل فخر الدين الوالي أولا ثم بقتل جميع من كان في القلعة من الصغار والكبار الرجال منهم والنساء حتى الطفل الصغير في المهد. ورحل هولاكو من هناك عائدا الى البلاد الشرقية. ورتّب في الشام أميرا   [1-) ] الثالث والعشرين س الثالث. [2-) ] ويروى: حازم وهو تصحيف. وحارم حصن وكورة جليلة تجاه انطاكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 كبيرا يسمّى كتبوغا ومعه عشرة آلاف فارس من العسكر. ولما وصل الى تلّ باشر وصلت العساكر التي حاصرت ميّافارقين ومعهم الأشرف صاحبها وأنهوا انهم أخذوها وقتلوا كل من فيها ولم يتخلّف فيها الّا انفار قليلة لأنهم هلكوا جوعا وماتوا. ولولا ذلك لم يتمكن المغول من أخذها. وقتل الأشرف صاحبها وبعد ذلك ندم هولاكو على قتله. ثم انه ولّى عليها رجلا أميرا من أمراء الأشرف يسمّى عبد الله. ولما وصل هولاكو قريب ماردين سيّر يطلب صاحب ماردين اليه. فأبى ولم ينزل اليه [1] . بل سيّر ولده مظفّر الدين لأنه كان في خدمة هولاكو هو والملك الصالح ابن السلطان بدر الدين لما كان بالشام. قال له هولاكو: تصعد الى أبيك وتقول له ينزل إلينا ولا يعصي وان عصى لم يصب خيرا. ولما صعد الى أبيه وخاطبه لم يقنع بانه لم يسمع مشورته بل قيّده وحبسه عنده. فعند ذلك أحاطت المغول بماردين وابتدأوا بالقتال ولولا ان وقع فيها الوباء والموت ومات السلطان واكثر أهلها لما أخذوها لا في سنتين ولا في ثلثة. ولما مات السلطان. نزل ابنه الملك المظفر وسلّم إليهم القلعة والخزائن والأموال. وتحقق عند ملك الأرض هولاكو ما جرى عليه من أبيه فلأجل ذلك أكرمه واحسن اليه وملّكه موضع أبيه. وكتبوغا كبير عسكر المغول الذي نزل بالشام لم يزل يستفحص عن اخبار الملك الناصر المنهزم في البراري حتى عرف موضعه وسيّر عليه بعض العسكر فلزموه وسيّروه الى هولاكو. ولما مثل بين يديه فرح به ووعده بكل خير وجميل وانه يعيده الى ملكه وهو يومئذ نازل بجبال الطاق. فبينما هم في ذلك وصل خبر ان قوتوز التركماني الذي تولّى مصر لما بلغه ان هولاكو رجع الى المشرق وكتبوغا بعشرة آلاف فارس في الشام استضعفه وجمع عسكرا كثيرا وخرج التقى به وكسره وقتله واستأسر أولاده وكان ذلك في السابع والعشرين من رمضان من سنة ثماني وخمسين وستمائة. فغضب هولاكو لذلك وتقدّم بقتل الملك الناصر وقتل أخيه الملك الظاهر وجميع من معهم. ولم يخلص منهم غير محيي الدين المغربيّ بسبب انه كان يقول انني رجل اعرف بعلم السماء والكواكب والتنجيم ولي كلام أقوله لملك الأرض. قال محيي الدين المذكور لما اجتمعنا به في مدينة مراغة: انني لما قلت لهم هذا الكلام أخذوني وأحضروني بين يدي هولاكو فتقدّم ان يسلّموني الى خواجا نصير الدين. وحكى لنا صورة ما جرى للملك الناصر قال: كنت في خدمته يوم الأربعاء عشرين شوّال وهو يسألني عن مولده إذ وصل امير   [1-) ] ولم ينزل اليه بل س انما عن هولاكو يقال انه سيّر. وهذه الرواية توافق معنى العبارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 من المغول ومعه نحو خمسين فارسا. فخرج الملك الناصر من الخيمة والتقاه وعرض عليه النزول. فامتنع قائلا: ان هولاكو سيّرني ويقول: هذا اليوم لنا فرحة وقد عملنا دعوة وحضر الأمراء كلّهم فتحضر أنت وأخوك وأولادك للامر الذي لك عندنا. فجمع الملك الناصر جماعته مقاربة عشرين نفرا وركبوا وساروا صحبة ذلك الأمير. وبعد ساعة وصل ايضا عشرون فارسا آخر وقالوا: يحضر الجماعة كلهم ولا يبقى في الخيم غير الفراشين والمماليك الصغار والطباخين والغلمان. وباقي الجماعة الخيّالة والكتّاب يحضرون في الدعوة. (قال) فاخذونا الى مواضع اودية عميقة بين حجارة عالية ونزلنا عن الخيل فاحتاط كل واحد منهم بواحد منّا وكتفونا. فلما عاينت ذلك بقيت أقول بصوت عال: انني رجل منجّم واعرف بحركات الكواكب ومعي كلام أقوله في خدمة السلطان ملك الأرض. فأخذوني وأقعدوني وراءهم مع جملة اتباعهم وشرعوا بقتل الجماعة ولم يخلص منهم غير ولدي الملك الناصر فاستأسروهما. ثم ركبوا وعادوا الى البيوت التي للملك الناصر ونهبوها وقتلوا باقي الجماعة التي تخلّفت هناك. ثم عرضوا الأمر على هولاكو وانا صرت في خدمة خواجا نصير الدين في الرصد بمراغة وابنا الملك الناصر في خدمته. (جلوس قوبلاي قاان على كرسي المملكة) : فمن [1] هذا التاريخ بعض ملوك الخطا تمرّد وعصى على المغول لكونه قويّ البأس متمكنا في امره كثير العساكر يحكم على اربعمائة مدينة. وأوجب ذلك ان مونككا قاان بنفسه تهيّر لملتقى هذا المتمرّد فترك أخاه الصغير وهو اريغبوكا مكانه واستصحب أخاه قوبلاي ودخل الى بلاد الصين. وأول الملتقى اتفق ان اصابه نشابة ومات. فأخذ اخوه قوبلاي العساكر وخرج من بلاد الخطا. ثم وصل الى خان باليق وأقام هناك. واتفق عظماؤه والأكثرون من المغول ان يكون هو موضع أخيه قاان. واما الأخ الصغير وهو اريغبوكا فقال: ان عند توجّه قاان الى الخطا سلّم اليه الملك فهو الأولى ان يكون موضع أخيه بمقتضى الياسا الذي لهم. وحصلت المنازعة والمقاومة بين الأخوين لأجل ذلك مدّة سبع عشرة سنة الى ان عجز الأخ الصغير وبطل عزمه وقوي امر قوبلاي قاان وظهر منه العدل الحسن والدراية والتدبير والكفاية. وانه كان يحبّ الحكماء والعلماء والمتديّنين من سائر المذاهب والأمم. وقيل عنه انه كان قليل المباشرة للنساء بل باعتدال ومتوسط التدبير بالشهوات والشراب واللذّات واللهو ولم يتناول من اللحوم الّا ألطفها بخلاف باقي الطوائف من المغول. واما قوتوز التركماني صاحب مصر بعد ما كسر كتبوغا وتمكّن من الشام أقام   [1-) ] فمن ر في. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الشحاني والنّواب في حلب ودمشق وسائر بلاد الشام وعاد الى ديار مصر بحيث ان هناك يجمع العساكر ويشتدّ ويقوى على ملتقى المغول. ولما وصل قريبا من غزّة نهض عليه بيبرز [1] المعروف بالبندقدار الصغير وهو مملوك البندقدار الكبير وقتله وأخذ جماعة ودخل الى مصر وتسلمها وتمكّن وقوي ولقّبوه ركن الدين الملك الظاهر واشتدّ بأسه وتسلّط على جميع المدن والقلاع التي على ساحل البحر للافرنج. وفي سنة تسع وخمسين وستمائة عاد دخل المغول الى الشام وفي رأس العسكر امير يسمّى كوكالكي ودخلوا الى قريب حمص ونهبوا وسبوا وقتلوا خلقا كثيرا وعادوا الى حلب وكان قد انهزم جميع اهل القرايا الى حلب فتقدّم كوكالكي ان يخرج اهل القرايا والمدن الى ظاهر البلد وينعزل اهل كل مدينة وقرية بمعزل بحيث يعدّونهم ويسيّرون كل قوم الى مكانهم ووطنهم. وتسلّمهم المغول كأنهم يسيّرونهم الى ضياعهم وعند ما يبعدون يقولون: أنتم لو كانت قلوبكم معنا صافية لما انهزمتم من قدّامنا. فقتلوهم عن أقصاهم ولم يفلت منهم غير اهل حلب بحيث انهم لم ينتقلوا عن حلب. وعاد المغول خرجوا من الشام ثم عاد المصريّون تملكوا الشام. وفيها هرب علاء الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب سنجار الى مصر. ولما اقام هناك مدّة يسيرة كتب الى أخيه الملك الصالح إسماعيل صاحب الموصل يعرّفه قوّة البندقدار وعظمته وأشار عليه بترك الموصل وقصده خدمة البندقدار بحيث انه إذا استولى البندقدار على قهر المغول وأخذ البلاد منهم يكون له اليد البيضاء عنده ويملكه مع الموصل بلادا اخرى من المشرق. ولما وصل الكتاب الى الملك الصالح ووقف عليه وضعه تحت طراحته وكان عنده في ذلك الوقت من الأمراء شمس الدين محمد بن يونس الباعشيقي من جملة أمراء أبيه النوّاب ببلد نينوى. فغافله وأخذ الكتاب من تحت الطرّاحة وخرج من عنده ولم يلبث حتى وصل الى قريته باعشيقا. بعد ذلك مدّ يده ليأخذ الكتاب فلم يجده فوقع عنده ان شمس الدين بن يونس قد أخذ الكتاب وصار عنده القلق العظيم لأجل ذلك وسيّر القصّاد في الحال في طلبه وقد عزم على قتله. وعند ما وصل المماليك اليه اشغلهم بالأكل والشرب وقال لهم: ان هذه الليلة كلوا واشربوا وعند الصباح نركب الى خدمة السلطان. وأوصى غلمانه فأكثروا عليهم الشراب واسكروهم وناموا. فأخذ شمس الدين بن يونس أولاده وما يعزّ عليه وركب من أول الليل وتوجه يقصد اربل وكان له مشورة مع الرؤساء النصارى بناحية برطلي فعبر عليهم وعرّفهم   [1-) ] بيبرز ر بايبرز وبيبرس س [؟] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ان الملك الصالح قد عزم على قتل جميع أكابر النصارى ببلد نينوى وانه بعد ذلك يتوجه الى الشام. وكان قد حصل لهم الشعور بذلك من قبل فصدقوه وتهيّروا هم وما يعزّ عليهم من أولادهم. وشاع الخبر في جميع النصارى ببلد نينوى فكل من امكنه العبور الى اربل سارع بالعبور فعبر اكثر اهل البلد من النصارى وكان ذلك ليلة يوم الخميس. اما المماليك الذين كانوا قد وصلوا الى شمس الدين بن يونس فلما أصبحوا وصحوا من سكرهم فلم يجدوه فظنّوا انه قد سبقهم بالدخول الى الموصل الى الملك الصالح. ولما دخلوا وعرّفوا الملك الصالح بما جرى وقع في الجزع والخوف وقال: لا نأمن ان ابن يونس يمشي يعرّف بالقضية المغول ويجيب علينا العساكر ويجيء. فتهيّر هو وجماعة من الأمراء والأولاد وأخذوا ما يقدرون عليه مما يمكنهم حمله وخرج من المدينة يوم الجمعة ثاني يوم عبور ابن يونس والنصارى الى اربل صلّى الجمعة وخرج متوجها الى الشام وبطلت عزيمته انه يخرج هو والعسكر الى بلد نينوى ويلزم أكابر النصارى ويأخذ أموالهم ويقتلهم ثم يمشي الى الشام. ثم انه لما خرج من الموصل وقع الخلف بين أمرائه فمنهم من تبعه ومنهم من عاد الى الموصل. والذين عادوا الى الموصل كان كبيرهم الأمير علم الدين سنجر. فلما وصلوا الى الموصل وكانت زوجة الملك الصالح تركان الخوارزميّة في المدينة لم تتوجه معه ولا تبعته وكان في الموصل سحنة اسمه ياسان فاتفقوا هم واتباعهم وغلّقوا أبواب الموصل في وجوههم ولم يمكنوهم من الدخول. فنزلوا خارج المدينة وشرعوا يقاتلون أياما يسيرة. فعند ذلك كان في المدينة رجل اسمه محي الدين بن زبلاق من كتّاب الإنشاء الذين كانوا للسلطان بدر الدين فاتفق هو وجماعة من اهل المدينة وخامروا على تركان خاتون وعلى الشحاني وفتحوا الأبواب. ولما دخل علم الدين وجماعته هرب الشحنة ياسان وتركان واتباعهم وتحصنوا في قلعة الموصل. وثار اهل الموصل على النصارى من الأعوام ونهبوهم وقتلوا كل من وقع بأيديهم وسلم من دخل في دين الإسلام. واما أكراد الجبال فكان قد قرّر معهم الملك الصالح ان يتهيّروا ويجمعوا جموعهم وينزلوا الى نينوى. ويوم السبت ثاني الجمعة التي خرج الملك الصالح من المدينة نزلوا الى بلد نينوى ونهبوا النصارى المتخلّفين وسبوا وقتلوا. وبينما هم كذلك وذلك في ايام يسيرة من أيار تلك السنة وقع الخبر ان عسكر المغول قد اقبل من صوب الجزيرة فخرج الأمير علم الدين سنجر وجماعته من الموصل واجتمع اليه أمراء الأكراد. فلما صادف العسكر قاتلوهم وقاتلوه. وكان في رأس العسكر تورين [1] شحنة الموصل فأحاطوا بعلم الدين سنجر   [1-) ] تورين س نورين [؟] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وجميع من معه وقتلوهم عن أقصاهم ولم يفلت منهم الّا الطويل العمر. وبعد ذلك بقي امر بلد الموصل والموصل مدّة مديدة في حيرة. وعند أواخر الصيف تواترت الاخبار بوصول عساكر المغول. وقريب من كانون الاول وصل العسكر وأحاط بالموصل وفي رأس العسكر امير كبير اسمه سمدغو [1] محبّ للنصارى. وبينما هم قد نزلوا على الموصل وصل الخبر برجوع الملك الصالح من الشام. ولما سمع المغول ذلك تأخروا عن المدينة الى حين ما دخل إليها ثم عاد المغول أحاطوا بها وبنوا السيبا حولها في ليلة واحدة وابتدأوا بالقتال من داخل ومن خارج وكان ذلك من كانون الاول الى الربيع وقلّ القوت على اهل المدينة. وسيّر الأمير سمدغو يخدع الملك الصالح ويعده بالمواعيد الحسنة وبطل القتال وقعدوا قعدوا. وكان في وسط هذه المدّة المذكورة وصل عسكر من الشام ومقدّمهم امير اسمه برلوا نجدة للملك الصالح الذي وعد به. فسارع المغول والتقوه عند سنجار وأحاطوا بهم وقتلوهم جميعهم وكسبوا ما معهم من الخليل والسلاح وغير ذلك. بعد ذاك لما صار الأمير سمدغو يخاطب الملك الصالح ويطايبه انخدع وفتح أبواب المدينة وخرج إليهم بالمطربين والاغاني والماخرة بين يديه. وحينما مثل بين يدي سمدغو احتاط المغول به ودخل العسكر الموصل وسبوا ونهبوا وقتلوا مدّة ثمانية ايام وقتل فيها عالم لا يحصي عددهم الّا الله تعالى. وبعد ذلك قرّر الأمير سمدغو في الموصل حاكما الأمير شمس الدين بن يونس ورحل عنها. وكان قد قتل ولد الملك الصالح علاء الملك [2] صبي حدث اسقوه خمرا كثيرا ثم شدّوه وقطعوه وترين في المدينة عند القلعة وصحبوا الملك الصالح الى هولاكو وقتل هناك. وفي سنة احدى وستين وستمائة شخص اسمه زكي الاربلي مناد في سوق البهائم قد كان من اجناد الموصل سعى في الأمير شمس الدين بن يونس وقال انه قد جمع الأموال والجواهر من خزائن بيت بدر الدين. وذكر عنه انه سقاه سما ليموت وانه استعان بحكيم نصراني اسمه الموفق النصيبي حتى داواه. ولما سألوا لابن يونس ذلك أنكره فضربوه اشدّ ضرب ليقرّ. وبينما هم في ذلك وقع من ثيابه ورقة فيها آية من القرآن. فالساعي فيه وهو الزكي الاربلي قال انها سحر لأجل المغول. فرسم بقتله. وتولّى الموصل الزكي الاربلي موضعه. وفي سنة اربع وستين وستمائة توفي هولاكو وكان حكيما حليما   [1-) ] سمدغو ر صمدغو س [؟] . [2-) ] علاء الملك ر علاء الدين س [؟] علاء الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ذا فهم ومعرفة يحبّ الحكماء والعلماء. وبعده بقليل اندرجت طقز خاتون زوجته وكانت ايضا عظيمة في رأيها وخبرتها. (اباقا ايلخان) بعد ذلك اجتمعت الأولاد والأمراء والخواتين واتفقوا على ان اباقا ابن هولاكو يقعد على كرسي المملكة لان عنده العقل والكفاية والعلم والداراية. ولما جلس وتمكن كان سعيدا منصورا في جميع حركاته وسكناته محبوبا من جميع الخلق. وكان قد سيّر هولاكو طلب ابنة ملك القسطنطينية خطبها لنفسه. فلما أخذها الرسل وخرجوا بها ووصلوا الى القيساريّة بلغهم الخبر بموت هولاكو ولم تتمكن من الرجوع الى بلادها فوصلت اليه ودخل عليها. وفيها وصل اليراليغ من اباقا الى بغداد ان علاء الدين صاحب الديوان يكون حاكما مطلقا لا يكون فوق يده يد. وكان شحنة بغداد قرابوغا ونائبه اسحق الارمنيّ يرومان اذيّته فانكفئا عنه وصارا يتحيّلان له بأذى فحصّلا شخصا أعرابيا وعلّماه ان يقول عنه انه سيّر جاء به من البادية بحيث يكون له دليلا عند ما يريد ان يأخذ ماله وأولاده وما يتعلّق به ويمشي الى الشام. وأوثقا مع البدويّ هذا الكلام. حينئذ سيّرا احتاطا بدار صاحب الديوان والبدويّ يحملانه الى الاردو. وعند ما ضرب البدويّ وقرّر اقرّ ان اسحق الارمني علّمه ذلك فقتل البدويّ واسحق. وفيها سيّر البندقدار صاحب مصر الى حاتم ملك الأرمن بحيث يدخل في طاعته ويحمل الجزية ويمكّن الناس من مشترى الخيل والبغال والحنطة والشعير والحديد من بلده وهم ايضا يخرجون الى الشام ويتاجرون ويبيعون ويشترون. وملك الأرمن خوفا من المغول لم يجب الى ذلك. فلم يتأخر البندقدار عن إنفاذ العسكر والركب الى بلد الأرمن. وحاتم الذي هو ملك الأرمن لما تحقق ذلك خرج الى بلد الروم يطلب النجدة من امير المغول هناك يسمّى نفجي. فقال له: نحن بلا امير السلطان اباقا لا يمكن ان نفعل ذلك. وهجم المصريون على بلد الأرمن. ولما لم يكن ملكهم حاضرا اجتمعت اخوته وأولاده وامراؤه وجمعوا اتباعهم [1] وخرجوا ليمنعوا المصريّين من الدخول الى البلد. ولما التقوهم عند موضع يقال له حجر سروند انكسرت الأرمن واستؤسر ولد الملك حاتم وقتل ولده توروس وانهزم الأمراء والعسكر. ونهبوا واخربوا بيعة سيس الكبيرة وكان الخراب العظيم في سيس وإياس وأقاموا هناك مدّة عشرين يوما ينهبون ويحرقون ويسبون. وبعد خروجهم من البلد وصل الملك حاتم وقد صحب معه عسكرا من المغول والروم فما وجدوا أحدا بل البلد خرابا واشتغلوا بالأكل والشرب ومدّوا أيديهم وجمعوا جميع ما كان   [1-) ] ويروى: وامرأته وجمعوا العساكر اتباعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قد تخلّف من المصريّين تمموه هم والملك مشتغل بالهمّ والغمّ على ما جرى على ولديه وأصحابه وبلده. وكانت المضرّة منهم اشدّ وأصعب. واما حاتم ملك الأرمن فانه شرع يخاطب البندقدار في خلاص ولده ويعده بالأموال والمدن والقلاع الى غير ذلك. فجاويه: ان نحن ما لنا رغبة في الأموال والمدن وغيرها. وانما لنا شخص صديق أسير عند المغول يسمّى سنقر الأشقر تخلّصه وتسيّره وتأخذ ولدك. ففعل ذلك وخلّص ولده. وذلك انه في سنة ثماني وستين وستمائة قصد الملك حاتم خدمة ملك الأرض اباقا وبكى لديه وطلب منه سنقر الأشقر ليخلّص به ولده. فرحمه ورقّ لبكائه وقاله له: تمشي الى بلدك تستريح ونحن نطلب هذا سنقر من ايّ مكان هو فيه ونسيّره إليك. فعاد حاتم من خدمة اباقا. وكان امير من أمرائه سبقه الى بلده في مهمّ له فاجتاز به بروانة فاستشار به انه يريد يخطب لنفسه ابنة الملك حاتم. فأجابه بان الملك حاتم واصل عقيبنا إليكم فأنتم التقوه وأحسنوا اليه وهو يجيبكم الى ذلك. ولما وصل الملك حاتم الى بروانة وقد جمع بروانة اكابره والتقاه احسن ملتقى وأكرمه وقدّمه له تقدمات نفيسة الى ان خجل الملك حاتم بحيث لم يعلم ما الذي أوجب هذا الإسراف في خدمته. فلما اظهر بروانة ما في قلبه اجابه بالسمع والطاعة واظهر له الفرح والبشاشة والغبطة وقرّر معه انه لا يمكن التعريس قبل خلاص اخي البنت فإذا خلّص نفعل ذلك ان شاء الله تعالى. وفي سنة تسع وستين وستمائة وصل سنقر الأشقر من بلاد سمرقند الى الملك حاتم وهو سيّره الى البندقدار مكرّما وأوهبه وأعطاه. ثم ان البندقدار سيّر له ولده ايضا بحرمة عظيمة وخيّالة كثيرة. وفي هذه السنة حاصر البندقدار مدينة انطاكية وأخذها وقتل فيها وسبى واحرق كنائسها المشهورة في العالم. وفيها توجه الملك حاتم الى اباقا وشكر ودعا له على خلاص ولده من الأسر واستقال من السلطنة وطلب ان يكون ولده موضعه وانه شيخ عاجز. فقال له: انه إذا حضر عندنا نحن نملّكه. فتوجّه الى بلده وسيّر ولده الى عبودية اباقا. وفي سنة سبعين وستمائة في شهر نيسان تزلزلت الأرض في بلاد الأرمن وخربت قلاع كثيرة ومات فيها مائة ألف نفر من الناس غير الدوابّ. وفي سنة خمس وسبعين وستمائة نزل اباقا الى بغداد ليشتّي بها وصار غلاء عظيم ومجاعة وعزّت الأسعار. وفي هذا التاريخ توفي خواجا نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب الرصد بمدينة مراغة حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة. واجتمع اليه في الرصد جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 من الفضلاء المهندسين. وكان تحت حكمه جميع الأوقاف في جميع البلاد التي تحت حكم المغول. وله تصانيف كثيرة منطقيّات وطبيعيّات والاهيّات واوقليدس ومجسطى. وله كتاب أخلاق فارسيّ في غاية ما يكون من الحسن جمع فيه جميع نصوص أفلاطون وأرسطو في الحكمة العمليّة. وكان يقوّي آراء المتقدّمين ويحلّ شكوك المتأخرين والمؤاخذات التي قد أوردوا في مصنفاتهم. وكان من الفضلاء في زمانه نجم الدين القزوينيّ [1] منطقيّ عظيم صاحب كتاب العين. ومؤيّد الدين العرضيّ وفخر الدين المراغيّ وقطب الدين الشيرازيّ ومحيي الدين المغربيّ. ومن الأطباء المشهورين فخر الدين الاخلاطيّ وتقيّ الدين الحشائشيّ. واشتهر هذا في عمل الترياق شهرة عظيمة وان لم يكن من الأطباء المشتغلين المشهورين وبسفاهته استظهر على باقي الأطباء في هذا الزمان. ومنهم نفيس الدين بن طليب [2]- الدمشقيّ وولده صفيّ الدين النصرانيّ الملكيّ. وفي هذا التاريخ وهو سنة خمس وسبعين وستمائة وهي سنة سبع وثمانين وخمسمائة وألف للإسكندر عزم بندقدار ان يدخل بنفسه الى بلد الروم لان كان عنده أقوام قد هربوا من بلد الروم الذين هربوا الى الشام قد قوّوا عزمه على ذلك. ولما احسّ الملك لاون ابن ملك الأرمن سيّر الى أمراء المغول الذين في بلد الروم وعرّفهم ذلك وحذّرهم. واما بروانة فانه بوجهين كان يكذّب ملك الأرمن في هذا قوله الاول انه كان يختار ورود البندقدار إذ له معه وعد. والثاني لأنه كان يبغض ملك الأرمن وكان يختار ان يزيّف قوله. ولما ان الأمراء المغول أهملوا الأمر إذ هاجمهم المصريون وهم سكارى فلم يلحق أحدهم ان يركب فرسه. وان الياسا الذي لهم انهم لا يهربون قبل ان يلتقوا العدوّ. ولما التقوا وقعت الكسرة فيهم وقتل جميع أكابر المغول أحدهم طوغو والآخر توذان بهادر. وكان مع المغول ثلثة ألف كرج فوقفوا وبذلوا المجهود فقتل منهم الفان وتخلف ألف واحد. وقتل ايضا من عسكر المصريّين خلق كثير. ولما حقّق بروانة كسرة المغول هرب وتحصّن في بعض القلاع. واما البندقدار فانه نزل عند القيسارية في موضع سمّي كيقوباد وبقي هناك خمسة عشر يوما ودخل الى القيسارية مرّة واحدة ولم يدن منه لأحد من الرعايا شرّ ولا كلّفهم شيئا أصلا وانما جميع ما يحتاجون اليه كانوا يشترونه مشترى. وكان يقول: اني ما جئت الى ههنا لأخرب البلد لكن لافكّ صاحبه من الأسر. واما اباقا ايلخان فحين وصلت اليه الاخبار بذلك غضب غضبا شديدا وجمع العساكر   [1-) ] القزويني ر النقجواني. [2-) ] طليب ر الطبيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقصد بنفسه الروم. ولما عرف البندقدار انه لا يمكنه مقاومته رحل عن بلد الروم وتوجه الى الشام. ولما وصل اباقا الى بلد الروم لم يجد أحدا من المصريّين وفي الحال نزل البروانة اليه ولم يره اباقا شيئا من الغضب وانما احسن اليه وأكرمه واخذه صحبته الى الطاق لما عاد حيث يستشيره كم يقدّر ان يكون في الروم عسكر يقاوم المصريّين. وعمل دعوة عظيمة وسقاه من لبن الخيل شيئا كثيرا لأنه ما كان يشرب خمرا. وفيما هو قد خرج البروانة ليريق ماءه أشار اباقا الى أناس من حوله ليقتلوه فقتلوه وقطعوه قطعا قطعا وكان ذلك في ثاني يوم من شهر آب لتلك السنة. واما البندقدار فلما قرب من حمص أدركه اجله ومات يقولون اصابه في الحرب مع المغول نشابة في وركه ولم يمكن إخراج النصل منه وبقي أياما كثيرة ولما اذن للجرائحي ان يخرجه وجاهد في إخراجه مع خروج النصل فارق الدنيا. وآخرون قالوا ان أناسا من جماعته سقوه في لبن الخيل سمّا ولما احسّ عاد سقى لمن أسقاه منه فماتا اثناهما. وفي سنة تسع وسبعين وستمائة لما قام الالفي ليتملك على الديار المصرية والشام لم يوافق في ذلك سنقر الأشقر. ولما تمكن الالفي وقوي جانبه هرب منه سنقر الأشقر ووصل الى الرحبة واتفق هو وامير بدويّ اسمه عيسى بن مهنا وسيّرا رسولا الى اباقا ايلخان يستدعيانه ليركب الى الشام ويسلّما اليه البلاد الشامية والديار المصرية. ولما وصلت عساكر المغول الى الشام خاف سنقر الأشقر منهم على نفسه ولم يلتق بهم بل هرب وتحصن في قلعة صهيون. فوصل المغول الى حلب واي موضع صادفوه خرّبوه. وكان وصولهم الى الشام في وقت الشتاء من سنة ثمانين وستمائة وكان مقدّمهم قونغرتاي أخو اباقا الصغير وعاد المغول الى البلاد. وفي سنة احدى وثمانين وستمائة دخل المغول الى الشام في خمسين ألفا وفي رأسهم مونكاتمور الأخ الأصغر لاباقا وأخذوا معهم ملك الأرمن بعساكره. واجتمع عسكر الشام وفي رأسهم الالفي وسنقر الأشقر فإنهما اصطلحا في ذلك الوقت على محاربة المغول. والتقى العسكران بين حماة وحمص في يوم الخميس سلخ تشرين الاول لتلك السنة وقوي جانب المغول على جانب الشاميّين. ولما قاربوا لينتصروا عليهم نصرة ويهزموهم إذ خرج على المغول كمين العرب من بني تغلب من ميسرتهم فتوهّم المغول ان عساكر كثيرة قد أحاطت بهم من قدّامهم ومن خلفهم ولم يلحق الهرب [1] اصحاب الميسرة مع اهل القلب. واصحاب الميمنة وفيهم ملك الأرمن   [1-) ] يريد انهم انهزموا ولكن لم يفوزوا بالنجاة في هزيمتهم ويؤكد هذا المعنى قول ابي الفداء ونصه: «وانزل الله نصرته على القلب والميمنة فهزموا من كان قبالتهم من التتر وركبوا قفاهم يقتلونهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 مع خمسة آلاف كرج لم يشعروا بالكمين وانما كسروا المصريّين الذين في مقابلتهم وساقوا خلفهم الى باب مدينة حمص وقتلوا فيهم خلقا كثيرا ولم يزالوا الى ان وصل إليهم الخبر بهرب أصحابهم. فعند ذلك رجعوا وفي الرجعة صادفوا جماعة من عسكر المصريّين الذين ساقوا خلف أصحابهم الهاربين وعاد بينهم القتال وقتل من الجانبين خلق كثير. ورجعوا وقد حملوا شيئا كثيرا من الأموال والخيل والسلاح الذي نهبوا. ولما وصل مونكاتمور الى الجزيرة وهو قد خرج يومئذ من الحمّام عملوا سرّا مع بعض الشرابداريّة وسقوه سمّا. ولما احسّ بتغيّر مزاجه توجّه نحو نصيبين وقضى نحبه. واما اهل الجزيرة فإنهم لما شعروا بذلك أدركهم الخوف العظيم ولزموا للصفيّ القرقوبيّ وكتفوه وداروا به في أسواق الجزيرة ثم قتلوه. واما اباقا ايلخان فانه توجه نحو بغداد ومنها الى همذان. وفي يوم عيد النصارى الكبير لتلك السنة دخل الى البيعة في تلك المدينة وعيّد مع النصارى. ويوم الاثنين ثاني العيد عمل له شخص فارسي اسمه بهنام دعوة عظيمة في داره. وليلة الثلثاء تغيّر مزاجه وصار يرى خيالات في الهواء. ويوم الأربعاء وهو اوّل يوم من نيسان لتلك السنة وهو العشرون في ذي القعدة انتقل من هذا العالم. ومونكاتمور انتقل يوم الأحد سادس عشر المحرّم في بلد الجزيرة. (السلطان احمد) ولما توفي اباقا ايلخان اجتمع الأولاد والأمراء وحصل الاتفاق بينهم ان احمد بن هولاكو من قوتاي خاتون يصلح للتدبير والمملكة وانه مستحقّ لهذا الملك وهو اولى به والطريق له بعد اباقا. ولما جلس على كرسي المملكة يوم الأحد الحادي والعشرين من حزيران لتلك السنة سنة احدى وثمانين وستمائة وعنده الكفاية والدراية والكرم أخرج من الخزائن والأموال شيئا كثيرا وقسم على الأولاد والأمراء والعساكر واظهر الإحسان والشفقة الى جميع المغول والى الأمم الباقية وخصوصا الى أكابر النصارى. وأرسل الرسل الى سلطان مصر بسبب الصلح وكتب اليه رسالة هذه نسختها: بقوة الله تعالى بإقبال قاان فرمان احمد. اما بعد فان الله تعالى بسابق عنايته وبنور هدايته قد كان أرشدنا في عنفوان الصبا وريعان الحداثة الى الإقرار بربويّته والاعتراف بوحدانيّته. والشهادة لمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام بصدق نبوّته. وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين من عباده في بريّته. فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام. فلم نزل نميل الى إعلاء كلمة الدين. وإصلاح امور الإسلام والمسلمين. الى ان افضى بعد أبينا الجيّد وأخينا الكبير نوبة الملك إلينا فأفاض علينا من جلابيب ألطافه ولطائفه. ابن العبري- 19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ما تحقق به آمالنا في جزيل آلائه وعوارفه. وجلا هذه المملكة علينا. واهدى عقيلتها إلينا. فاجتمع عندنا في قوريلتاي المبارك وهو المجمع الذي ينقدح فيه آراء جميع الاخوان والاخوة والأولاد والأمراء الكبار ومقدّمي العساكر وزعماء البلاد واتفقت كلمتهم على ان ينفذ ما سبق به حكم أخينا الكبير في إنفاذ الجمّ الغفير من عساكرنا التي ضاقت الأرض برحبها من كثرتهم وامتلأت القلوب رعبا لعظم صولتهم وشديد بطشهم الى تلك الجهة بهمّة تخضع لها شمّ الأطواد. وعزيمة تلين لها الصمّ الصلاد. ففكرنا فيما مخضت زبدة عزائمهم عنه واجتمعت اهواؤهم وآراؤهم عليه فوجدناه مخالفا لما كان في ضميرنا من إنشاء الخير العامّ. الذي يقوم بقوّته شعار الإسلام. وان لا يصدر عن أوامرنا ما أمكننا الّا ما يوجب حقن الدماء. وتسكين الدهماء. ويجري به في الأقطار رخاء نسائم الأمن والامان. ويستريح المسلمون في سائر الأمصار في مهاد الشفقة والإحسان. تعظيما لأمر الله وشفقة على خلق الله. فألهمنا الله إطفاء تلك النائرة. وتسكين الفتن الثائرة. وإعلام من أشار بذلك الرأي ما أرشدنا الله اليه من تقديم ما يرجى به شفاء العالم من الأدواء. وتأخير ما يجب ان يكون آخر الدواء. واننا لا نحبّ المسارعة الى هزّ النصال للنضال الّا بعد إيضاح المحجة. ولا نأذن لها الّا بعد تبيين الحقّ وتركيب الحجّة. وقوّى عزمنا على ما رأيناه من دواعي الصلاح. وتنفيذ ما ظهر لنا به وجه الإصلاح. اذكار شيخ الإسلام قدوة العارفين كمال الدين عبد الرحمن فهو نعم العون في امور الدين. فأصدرناه رحمة من الله لمن دعاه. ونقمة على من اعرض عنه وعصاه. وأنفذنا اقضى القضاة قطب الدين والاتابك بهاء الدين وهما من ثقات هذه الدولة القاهرة ليعرّفاهم طريقتنا. ويتحقق عندهم ما ينطوي عليه لعموم المسلمين جميل سنّتنا. وبيّنّا لهم اننا من الله على بصيرة وان الإسلام يجبّ ما قبله. وانه تعالى القى في قلبنا ان نتبع الحقّ واهله. ويشاهدون عظيم نعم الله على الكافة بما دعانا اليه من تقديم اسباب الإحسان. ولا يحرمونها بالنظر الى سالف الأحوال. وكُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ. 55: 29 فان تطلّعت نفوسهم الى دليل يستحكم به دواعي الاعتماد. وحجّة يثقون بها من بلوغ المراد. فلينظر الى ما قد ظهر من مآثرنا مما اشتهر خبره وعمّ اثره [1] . فانّا ابتدأنا بتوفيق الله تعالى بإعلاء أعلام الدين وإظهاره في إيراد كل امر وإصداره تقديما. واقامة نواميس الشرع المحمديّ على قانون العدل الاحمديّ إجلالا وتعظيما. وأدخلنا السرور على قلوب الجمهور وعفونا عن كل من اخترع سيّئة واقترف. وقابلناه بالصفح   [1-) ] ويروى: خيره واثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وقلنا عَفَا الله عَمَّا سَلَفَ. 5: 95 وتقدمنا بإصلاح امور أوقاف المسلمين من المساجد والمشاهد والمدارس. وعمارة بقاع البرّ والربط الدوارس. وإيصال حاصلها بموجب عوائدها القديمة الى مستحقها بشروط واقفها. ومنعنا ان يلتمس شيء مما استحدث عليها وان لا يغيّر احد شيئا مما قرّر [1] أولا فيها. وأمرنا بتعظيم امر الحجّ وتجهيز وفدها وتأسيس سبيلها وتسيير قوافلها. وأطلقنا سبيل التجار والمتردّدين الى البلاد وليسافروا بحسب اختيارهم على احسن قواعدهم. وحرمنا على العساكر والشحاني في الأطراف التعرّض لهم في مصادرهم ومواردهم. وقد كان صادف قراغولنا جاسوسا في زيّ الفقراء كان سبيل مثله ان يهلك فلم نر اهراق دمه صيانة لحرمة ما حرّمه الله تعالى وانفذناه إليهم. ولا يخفى عليهم ما كان في إنفاذ الجواسيس من الضرر العام للمسلمين. فان عساكرنا طال ما رأوهم في زيّ الفقراء والنسّاك واهل الصلاح فساءت ظنونهم في تلك الطوائف فقتلوا منهم من قتلوا. وفعلوا بهم ما فعلوا. ورفعت الحاجة بحمد الله تعالى الى ذلك بما صدر اذننا به من فتح الطريق وتردّد التجّار وغيرهم. فإذا أمعنوا الفكر في هذه الأمور وأمثالها فلا يخفى عنهم انها أخلاق جبلّيّة طبيعية وعن شوائب التكلّف والتصنّع عريّة. وإذا كانت الحال على ذلك فقد ارتفعت دواعي النفرة التي كانت موجبة للمخالفة. فإنها ان كانت بطريق الدين. والذبّ عن حوذة المسلمين. فقد ظهر بفضل الله ويمن دولتنا النور المبين. وان كان لما سبق من الأسباب. فمن يجري الآن طريق الصواب. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. 38: 40 وقد رفعنا الحجاب بفصل الخطاب وعرّفناكم ما عزمنا عليه من نيّة خالصة لله تعالى وأتينا باستيفائها [2] . وحرّمنا على جميع عساكرنا العمل بخلافها. ليرضى الله والرسول. وتلوح على صفائحها آثار الإقبال والقبول. وتستريح من اختلاف الكلمة هذه الامّة. وتنجلي بنور الائتلاف واللمّة ظلمة الاختلاف والغمّة. فيسكن في سابغ ظلّها البوادي والحواضر. وتقوى القلوب التي بلغت من الجهد الى الحناجر. ويعفى عن سائر الهفوات والجرائر. فان وفّق الله تعالى سلطان مصر لما فيه صلاح العالم. وانتظام امور بني آدم. فقد وجب عليه التمسّك بالعروة الوثقى. وسلوك الطريقة المثلى. بفتح أبواب الطاعة والاتحاد [3] . وبذل الإخلاص بحيث تعمر تلك الممالك والبلاد. وتسكن الفتن الثائرة. وتغمد السيوف   [1-) ] ويروى: قدّر. [2-) ] ويروى: استئنافا. ولعل الصواب باستئنافها. [3-) ] وفي نسخة: والإيجاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الباترة. وتحلّ الكافّة ارض الهوينا وروض الهدون. وتخلص ارقاب المسلمين من اغلال [1] الذلّ والهون. وان غلب سوء الظنّ بما تفضّل به واهب الرحمة. ومنع عن معرفة قدر هذه النعمة. شكر الله مساعينا وأبلى عذرنا [2] وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. 17: 15 والله الموفّق للرشاد والسداد. وهو المهيمن على جميع البلاد والعباد. وحسبنا الله وحده. وكتب في أواسط جمادى الاولى سنة احدى [3] وثمانين وستمائة بمقام الطاق. ثم ان ملك مصر كتب الى السلطان احمد جواب هذه الرسالة: من سلطان مصر سيف الدين ابي مظفر قلاوون. اما بعد حمد الله الذي أوضح لنا نبأ [4] الحق منهاجا. وجاء بنا فجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا. والصلاة على سيّدنا ونبيّنا محمد الذي فضله على كل شيء نحي أسّه وكل نبيّ ناجي. وعلى آله وصحبه صلاة تثير ما دحي وتنير من داجي [5] . والرضى عن الامام الحاكم بأمر الله امير المؤمنين وسليل الخلفاء المهتدين [6] . وابن عمّ سيّد المرسلين الخليفة الذي تتمسّك ببيعته اهل هذا الدين. انه ورد الكتاب الكريم. الملتقى بالتكريم. والمشتمل على النبإ العظيم. من دخوله في الدين. وخروجه عمّن خالف من العشيرة والأقربين. ولما فتح هذا الكتاب فاتح بهذا الخبر المعلم. والحديث الذي صحّ [7] عند اهل الإسلام إسلامه واصحّ الحديث ما روي عن مسلم. وتوجهت الوجوه بالدعاء الى الله سبحانه وتعالى في ان يثبته على ذلك بالقول والعمل الثابت. وان ينبت حبّ حبّ هذا الدين في قلبه كما أنبته في احسن المنابت. وحصل التأمل للفضل المبتدإ بذكره من حديث إخلاصه النيّة في اوّل العمر وعنفوان الصبا والإقرار بالوحدانية. ودخوله في الملّة المحمديّة بالقول والعمل والنية. والحمد لله على ان شرح صدره للإسلام. وألهمه شريف هذا الإلهام. فحمدنا الله على ان يجعلنا [8] من السابقين الأولين الى هذا والمقال المقام. ويثبت أقدامنا في كل موقف اجتهاد [9] وجهاد تتزلزل دونه الاقدام. واما إفضاء النوبة في الملك   [1-) ] ويروى: انحلال. [2-) ] ويروى: فيعفو الله عن مساعينا واتلى عذرنا. [3-) ] ويروى: اثنتين. [4-) ] ويروى: لنا وبنا. [5-) ] وفي رواية: الذي فضّله الله على كل شيء نجا. وعلى اهله وصحبه صلاة تشير (والصواب: تنير) ما دجا. [6-) ] ويروى: المهيدين تصحيف المهديين. [7-) ] ويروى: بهذا الخبر المعلم العلم والحديث الذي صحح عند اهل الإسلام إسلامه وتوجهت إلخ. [8-) ] ويروى: جعلنا. [9-) ] ويروى: فاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وميراثه بعد والده وأخيه الكبير اليه. وافاضة هذه المواهب العظيمة عليه. وتوقّله الاسرّة التي طهّرها [1] إيمانه وأظهرها سلطانه فقد أورثه الله من اصطفاه من عباده [2] . وصدق المبشرات له من كرامة أوليائه وعبّاده. واما حكاية اجتماع الاخوان والأولاد والأمراء الكبار في قوريلتاي الذي ينقدح فيه زند الآراء وان كلمتهم اتفقت على ما سبق به حكم أخيه الكبير في إنفاذ العساكر الى هذا الجانب وانه فكر فيما اجتمعت عليه آراؤهم وانتهت اليه اهواؤهم فوجده مخالفا لما في ضميره إذا قصده الصلاح ودأبه [3] الإصلاح. وانه اطفأ تلك النائرة. وسكّن تلك الثائرة. فهذا فعل الملك التقيّ المشفق على قومه. ومن يفي الفكر في العواقب. بالرأي الثاقب. وإلّا فلو تركوا آراءهم حتى يحملهم الهوى لكانت تكون هذه الكرّة هي الكرّة [4] . لكن هو كمن خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى. ولم يوافق قول من ضلّ ولا فعل من غوى. واما القول انه لا يحبّ المسارعة للمقارعة الّا بعد إيضاح المحجّة وتركيب الحجّة. فانتظامه [5] في سلك [6] الايمان صارت حجّتنا وحجّته المتركبة على من عدت طواغيه عن سلوك هذه المحجة مسكتة. وان الله سبحانه والناس كافة قد عملوا ان قيامنا انما هو لنصر هذه الملّة وجهادنا واجتهادنا انما هو لله. وحيث قد دخل معنا في الدين هذا الدخول. فقد ذهبت الأحقاد وزالت الذحول. وبارتفاع المنافرة. تحصل المناصرة. فالايمان كالبنيان يشدّ [7] بعضه من بعض. ومن اقام مناره فله اهل بأهل في كل مكان وجيران بجيران في كل ارض. واما تركيب هذه الفوائد الجمّة على اذكار شيخ الإسلام قدوة العارفين كمال الدين عبد الرحمن أعاد الله من بركاته فلم ير وليّ من قبل كرامة كهذه الكرامة. والرجاء ببركة الصالحين ان تصبح كل دار للإسلام دار اقامة [8] حتى تتمّ شرائط الايمان. ويعود شمل الإسلام كأحسن ما كان. ولا ينكر بمن بكرامته ابتدأ هذا التمكن في الوجود. ان كل حقّ ببركته الى مصابه [9] يعود. واما إنفاذ   [1-) ] ويروى: ظهرها. [2-) ] ويروى: أورثه الله من عباده ومصطفيه وصدق إلخ. [3-) ] ويروى: آدابه. [4-) ] ويروى: «الفكرة» . ولا وجه لها. [5-) ] كذا في نسختين ولعل الصواب: فبانتظامه. [6-) ] ويروى: مسلك. [7-) ] ويروى: يشيد. [8-) ] ويروى: دارا قائمة. [9-) ] ويروى: إذ كان كل حق ببركته الى قضائه يعود. ولعل الصواب «الى نصابه» اي أصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 اقضى القضاة قطب الدين والاتابك شهاب الدين [1] الموثوق بنقلهما في ابداع رسائل هذه البلاغة. فقد حضرا وأعادا كل قول حسن من حوال أحواله وخطرات خاطره ومناظرات منظره. ومن كل ما يشكر ويحمد. ويفيض حديثهما فيه عن مسند احمد. واما الاشارة الى ان النفوس كانت تتطلع الى اقامة دليل تستحكم بسببه دواعي الأمر ومصادره من العدل والإحسان. بالقلب واللسان. والتقدّم بإصلاح الأوقاف فهذه صفات من يريد لملكه دواما. فلما ملك عدل. ولم يلتفت الى لوم من عذل [2] . على انها لو كانت من الأفعال الحسنة. والمثوبات التي تستنطق بالدعاء الالسنة. فهي واجبات كليّة تؤدّى وهي اكبر من انه يأجر اجر [3] غيره يفتخر او عليه يقتصر او له يدّخر. وانما يفتخر الملك العظيم بان يعطي ممالك وأقاليم وحصونا [4] . وان يبذل في تشييد ملكه عن مصون. واما تحريمه على العساكر والقراغولات والشحاني بالاطراف التعرّض الى احد بالاذى. واصفاء موارد الواردين والصادرين من شوائب القذى. فمن حين بلغنا تقدّمه بذلك تقدّمنا [5] مثله ايضا الى سائر النوّاب بالرحبة والبيرة وحلب وعين تاب وتقدّمنا الى مقدّمي العساكر بأطراف تلك الممالك بمثل ذلك. وإذا اتخذ الامان وانعقد الايمان بختم هذه الأحكام ترتّبت عليه جميع الحكّام [6] . واما الجاسوس الفقير الذي أمسك ثم أطلق وان بسبب من يتزيّا من الجواسيس بزي الفقراء قتلت جماعة من الفقراء الصلحاء رجما بالظن فهذا باب من تلك الأبواب [7] كان فتحه. وزند منه كان قدحه. وكم متزيّ بالفقر من ذلك الجانب سيّروه. والى الاطّلاع على الأمور سوّروه. وظفر النوّاب منهم بجماعة فرفع عنهم السيف. ولم يكشف ما غطّته خرقة الفقر [8] بلم ولا كيف. واما الاشارة الى ان في اتفاق [9]   [1-) ] وفي رواية: والاتابك وشهاب الدين. ولعلها الرواية الصحيحة لأنه قد مر في الصفحة (290) ان اسم الاتابك بهاء الدين. [2-) ] ويروى: الى لوم من عدا ولا من عذل. [3-) ] وفي نسخة: ياخر اخر. ويروى: وهو اكبر من انه يأجر اجرا غيره ويفتخروا عليه وانما يفتخر إلخ. ولعل الصوب: يأجر اجرا غيره به يفتخر او عليه يقتصر إلخ. [4-) ] لفظة «حصون» توجد في نسخة باريز فقط. [5-) ] ويروى: قدمنا. [6-) ] ويروى: إذا اتحد الايمان وانعقد تختم هذه الأحكام وترتبت (ويروى: وترتيب) عليه جميع الأحكام. وروايتنا احسن. [7-) ] وفي نسخة: من ذلك الجانب. [8-) ] ويروى: حرفة الفقير. والرواية التي أثبتناها افصح. [9-) ] ويروى: شفاق. ويروى: نفاق. وكلا الروايتين تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الكلمة يكون صلاح العالم. وينتظم شمل بني آدم. فلا ريب لمن طرق باب الاتحاد ومن جنح السلم فما حاد [1] . ومن ثنى عنانه عن المكافحة. كمن مدّ يد المصالحة للمصافحة. والصلح وان كان سيّد الأحكام فلا بدّ من امور تبنى عليها قواعده. ويعلم من مدلولها فوائده. فان الأمور المسطورة في كتابه كليّات لازمة يفهم [2] بها كل معنى ويعلم ان يتهيأ صلح او لم [3] . وثمّ امور لا بدّ وان يحكم في سلكها عقودا لعهود تنظم قد يحملها لسان المشافهة التي إذا أفردت أقبلت ان شاء الله عليها النفوس. واحرزتها [4] صدور الرسل كأحسن ما تحرزه سطور الطروس. واما الاستشهاد بقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. 17: 15 فما على السبق من الودّ بنسج ولا على السبيل بنهج [5] . بل الفضل لمن تقدّم. في الدين حقوق ترعى. وافادات تستدعى. وعند الانتهاء الى جواب ما لعلّه يجب عنه [6] الجواب من فصول الكتاب. وسمعنا المشافهة التي على لسان اقضى القضاة قطب الملّة والدين. وانتظام عقده بسلك المؤمنين. وما بسطه من عدل واحسان. وسيرة مشكورة يكلّ عن وصفها اللسان. فقد انزل الله على رسوله في حقّ من امتنّ بإسلامه: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ. 49: 17 ومن المشافهة انه قد أعطاه الله من العطايا ما أغناه عن امتداد الطرف الى ما في يد غيره من ارض وماء. فان حصلت الرغبة في الاتفاق على ذلك فالأمر حاصل. فالجواب ان ثمّ أمورا متى حصلت عليها الموافقة. تمّت المصادقة. ورأى الله تعالى والناس كيف يكون مصافينا. وإدلال معارفينا عند تصافينا [7] . وكم من صاحب وجد حيث لا يوجد [8] الأب والأخ والقرابة. وما تمّ امر الدين المحمديّ واستحكم في صدور الإسلام الّا بمظاهرة أصحابه [9] . فان كانت   [1-) ] وفي نسخة باريز: فلا راد لمن طرق باب الإيجاب ومن جنح السلم فما حاد ولا جاد. ولا معنى للروايتين. ونظن انه يلزم تصحيح العبارة كما يأتي: فلا ريب ان من طرق باب الاتحاد. كمن جنح للسلم فما حاد. [2-) ] ويروى: ينعم. وهو تصحيف. [3-) ] ويروى: الم. [4-) ] وفي نسخة باريز: افرزتها. ويروى: احررتها وتحرره. وكلا الروايتين تصحيف. [5-) ] ويروى: «فما على السيف الود بنسخ» . فلا ريب ان كلمة «نسخ» مصحفة. ولعل الرواية الصحيحة هي: فما على السبق (او السيف) الود ينسج. ولا على السبيل ينهج. [6-) ] ويروى: ما لعلة. ويروى: «عنها» بدل عنه. [7-) ] وفي نسخة باريز: كيف تكون مضافينا وإذلال معالينا واعزاز مصافينا. ولعل القراءة الصحيحة هي: كيف يكون تصافينا وإذلال معادينا (او معالينا) واعزاز مصافينا. [8-) ] لفظة «يوجد» ناقصة في نسخة باريز. [9-) ] وفي النسخة نفسها يروى: بظاهره الصحابة. ونظن الصواب «بمظاهرة الصحابة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 له رغبة مصروفة الى الاتحاد. وحسن الوداد. وجميل الاعتقاد. وكبت الأعداء والاضداد. والاستناد الى من يشتدّ به الازرعن [1] الاستناد. فقد فهم المراد. ومن المشافهة إذ [2] كانت عزيمتنا غير ممتدّة الى ما في يده من ارض وماء فلا حاجة الى إنفاذ المفترين الذين يؤذون المسلمين بغير فائدة تعود. فالجواب لو كفّ كفّ العدوان من هنالك. وخلا للملوك المسلمين ما لهم من ممالك. سكنت الدهماء. وحقنت الدماء. وما حقّه ان ينهى عن خلق ويأتي بمثله. ولا يأمر بشيء وينسى فعله. وقونغرتاي [3] بالروم الآن وهي بلاد في أيديكم. وخراجها يجبى [4] إليكم. قد سفك فيها الدماء وقتل وسبى وهتك وباع الأحرار. وأبى الّا التمادي على ذلك الإضرار [5] . ومن المشافهة انه حصل التصميم على ان يبطل [6] هذه الاغارات. ولا يفتر عن هذه الاثارات [7] . فيعيّن مكانا يكون فيه اللقاء. ويعطي الله النصر لمن يشاء. فالجواب عن ذلك الآن الأماكن التي اتفق فيها ملتقى الجمعين مرّة ومرّة ومرّة قد عاف [8] مواردها من سلم من أولئك القوم. وخاف ان لا يعاودها [9] فيغادره مصرع ذلك اليوم. ووقت اللقاء علمه عند الله لا يقدّر. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا من عِنْدِ الله 3: 126 لمن اقدر لا لمن قدّر [10] . وما نحن ممن ينتظر فلتة. ولا له الى غير ذلك لفتة [11] . وما امر ساعة النصر الّا كالساعة التي لا تأتي الّا بغتة. والله الموفّق لما فيه صلاح هذه الامّة. والقادر على إتمام كل خير ونعمة. ان شاء الله تعالى. كتب في مستهلّ شهر رمضان المعظم سنة احدى [12] وثمانين وستمائة.   [1-) ] كذا في الأصل. ولعل الصواب: عند الاستناد. او: عند الاشتداد. وفي نسخة باريز: الى من يستند به الأزر. والأصح يستد. وروايتنا احسن. [2-) ] ويروى: إذا. [3-) ] وتروى العبارة في نسخة باريز هكذا: وقد تغزينا بالروم الآن وقوتغرناي وهي بلاد إلخ. ونسختنا احسن. ويروى: قوتغرناي وقرتغزناي وقوتغزناي. وكله تصحيف. [4-) ] ويروى: يجيء. [5-) ] ويروى في النسخة المشار إليها: الإصرار. وهو تصحيف. [6-) ] ويروى: انه ان حصل التصميم على ان يبطل. ولعل الصواب: انه ان حصل التصميم على ان لا يبطل إلخ. وهذه القراءة يطلبها سياق المعنى. [7-) ] ويروى: الإشارات. وهو تصحيف. [8-) ] وفي نسخة باريز: عاد. وهو تصحيف. [9-) ] ونظن الصواب: وخاف ان يعاودها فيغادره. [10-) ] وفي نسخة باريز: علمه عند الله لمن اقدر لا لمن اقدر. [11-) ] وفي النسخة نفسها يروى: «علته» بدل فلتة «ولغته» بدل لفتة. وهذه الرواية مصحفة. [12-) ] ويروى: اثنتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وفي هذا التاريخ نقل الى السلطان احمد ان أخاه قونغرتاي له كلام مع ارغون ابن اباقا وانهم يريدون قتله فخاف وسارع الى قونغرتاي وقتله [1] . ولما بلغ الخبر الى ارغون بقتل عمّه حزن لذلك وصعب عليه واظهر تغيير قلبه على احمد [2] . فلما شعر احمد بتغيير قلب ارغون عليه سيّر عسكرا عظيما وكبيرهم امير من المغول اسمه اليناخ فتوجهوا اليه وهو بخراسان [3] . فلما وصل العسكر اليه انهزم ارغون من قدّامه. فأهمل اليناخ امره واشتغل بالأكل والشرب والسكر. وفي بعض الليالي هجم ارغون على عسكر اليناخ وبعض العسكر معه. ولما سمع السلطان احمد بذلك غضب وانزعج عظيما ثم سيّر الى جميع البلاد وجمع العساكر العظيمة وقصد ارغون. فلما رأى ارغون انه عاجز عن مقاومته صعد الى حصن هناك ومعه ثلاثمائة نفر من الفرسان البهادورية اتباعه وتحصّن هناك من غير ان يحبس نفسه في مكان لكنه منتقل من موضع الى موضع لأنه كان يفكر بقوله: كل محاصر مأخوذ ولم تطعه نفسه بالرجوع الى طاعة السلطان احمد. فبينما هو في هذه الأفكار وامير واحد [4] من أمراء أبيه اباقا كان محبوبا عند والده اسمه بوغا تقدّم الى السلطان احمد قائلا له: ان اعطيتني عهدا بأن لا تؤذي ارغون ولا يدّنيه السوء فاني امضي اليه وأحضره بين يديك. فسمع كلامه واستصوب مشورته ووقع الاتفاق على هذا. وحينئذ صعد بوغا في الحال الى ارغون وخاطبه وجاء به الى احمد وفرح السلطان احمد بذلك وعمل الدعوات والأفراح ثلاثة ايام. وفي اليوم الثالث تغيّر قلب السلطان احمد على ارغون وجالت الأفكار في خاطره طالبا قتله. فدعى الأمير اليناخ وجماعة اخرى معه ووكل على ارغون وأوصاهم على الاحتياط به لئلّا يهرب وانه [5] متوجّه الى بلاد اذربيجان الى امّه قوتاي خاتون وأمرهم ان يصحبوه اليه. ولما جاء الليل عزم على الرحيل وكشف سرّه الى بعض الأكابر حيث يقول: ان لم   [1-) ] وفي نسخة باريز: يرومون قتله. فخاف واضطرب وسارع الى لزم أخاه قوتغزناي (قونغرتاي) وقتله. [2-) ] ويروى: وتغير قلبه على السلطان احمد. [3-) ] وفي نسخة اختلاف في ما يلي لفظة خراسان وهاك النص بحروفه: ولما علم ارغون بقدوم العسكر اليه كبسهم على غفلة وقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزم اينخا (اليناخ) والبعض من عسكره. ولما علم السلطان احمد بذلك غضب غضبا عظيما وجمع العساكر الكثيرة وقصد ارغون بنفسه. فتحصن ارغون في حصن كان هناك ومعه ثلاثمائة نفر من الفرسان. فأرسل اليه السلطان احمد الامام (الامان) وحلف له ان لا يؤذيه. فأمن ارغون وسلم الى السلطان احمد وبقي ثلاث (ثلاثة) ايام في الأفراح ثم تغير قلب السلطان إلخ. [4-) ] في الأصل: وأميرا واحدا. [5-) ] ويروى: واظهر انه متوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أهلك ارغون وسائر الأولاد لم استرح ولا تنتظم السلطنة لي. وعند الصباح رحل واوصى ان يصحبوا اليه ارغون قليلا قليلا. فاما الأمير بوغا فلما تحقّق هذا الأمر وعرف ما في ضمير احمد ما تبعه وابطأ معتاقا الى الليل. وفي الليل دار على جميع الأولاد وعرّفهم ضمير احمد وما قد عوّل عليه ان يفعله بهم. فأخذتهم الغيرة ونهضوا في تلك الليلة بأجمعهم وقصدوا ارغون مكان كان موكل عليه وأخرجوه وألبسوه السلاح واركبوه الفرس وركبوا جميعهم في خدمته الى الموضع الذي كان فيه اليناخ وهجموا عليه ودخلوا قتلوه وقتلوه معه جميع الأكابر أصحابه في الخيمة ونادوا في العسكر انّ أبناء الملوك قد قتلوا اليناخ وأصحابه فكل من هو في موضع يلزم مكانه ولا يتحرّك ولا يخف. وعند الصباح سيّروا في طلب عسكر ارغون احضروهم وركبوا في جمع عظيم وساقوا في أعقاب احمد وأدركوه عند امّه فلزموه وكتفوه واستحفظوا به ونهبوا الاردو الذي له جميعها. ولما وصل ارغون وجماعة الأولاد اتفقوا على ان يملكوا عليهم ارغون ويكون الملك له موضع والده اباقا واحمد ينعزل لأنه ما يصلح ان يدبّرهم. وانتهت سلطنة احمد الى هذه الحالة وذلك يوم الأربعاء حادي عشر من جمادى الاولى سنة ثلث وثمانين وستمائة. (ارغون ايلخان) ولما جلس ارغون على كرسي المملكة اتّفق الأكثرون من أمراء المغول وأكابرهم ان يقتلوا احمد. فكان يقول ارغون: لا اوافق على قتله بل امّ قونغرتاي وأولادها هم يعرفون به والذي يختارون ان يفعلوا به فليفعلوا. حينئذ بقي تحت التوكّل أياما وبعد ذلك قتله أولاد قونغرتاي وانتقموا منه وأخذوا دم والدهم. وكان ذلك يوم الأربعاء ثاني جمادى الآخرة. ثم ان ارغون لما استقام له الأمر [1] رتّب كل واحد من الأولاد في رأس عسكر من عساكر مملكته. ثم قيل لارغون ان صاحب الديوان هو قتل اباقا والدك بسمّ سقاه. ولما كان يسيّر يطلبه من السلطان احمد فما كان يسمح له به ولا كان يسلّمه اليه. فتحقق ارغون ان احمد اختار موت والده. فلما استقرّ ارغون في الملك هرب شمس الدين صاحب الديوان الى الجبال التي في الأهواز [2] واحتمى بطائفة من الأكراد يسمّون باللور وكان كبيرهم شخص اسمه يوسف شاه. ولما وصل الى طاعة ارغون قبله قبولا حسنا وأكرمه لأنه قبل عليه ان يلزم صاحب الديوان ويحمله الى عبوديته. وفعل ذلك ولزمه وحمله الى ارغون. ولما قدم قدّم أموالا كثيرة نحو مائة   [1-) ] ويروى: الملك. [2-) ] وفي نسخة «التي في الأهواز اعني الجبال التي بين الأهواز وبين العجم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 تومان من ذهب. ثم انهم عرضوا عليه. ان يشتري نفسه بحيث لا يهرق دمه فطلب المهلة ليبيع املاكه وما تخلّف له ويقرض ويوصل ذلك. [1] . حينئذ حصّل بطريق القرض من أصحابه واهله وانسبائه وأحبائه واصدقائه قريبا من أربعين تومانا آخر من الذهب وقال: هذا الذي قد حصل ولا يمكن ان يحصل غيره فأنتم الذي تختارون فعله فافعلوه. فبرز الأمر من الملك ارغون بقتله وقتل يوم الثلثاء خامس شهر شعبان لهذه السنة وافق ذلك سابع [1] شهر تشرين الاول سنة ستّ وتسعين وخمسمائة وألف للإسكندر. وكانت هذه آخرة مثل ذلك الرجل العظيم الهيوب الحكيم الذي كانت الدولة بأسرها معلقة بخنصره. وكان عنده العقل والخبرة وكان كاملا بجميع السياسات والتدابير والتواضع الحسن. ويقولون عنه انه ما سبقه احد بالسلام بل هو كان يبتدئ من تقدّم اليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299