الكتاب: روائع البيان تفسير آيات الأحكام المؤلف: محمد علي الصابوني طبع على نفقة: حسن عباس الشربتلي الناشر: مكتبة الغزالي - دمشق، مؤسسة مناهل العرفان - بيروت الطبعة: الثالثة، 1400 هـ - 1980 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] (تنبيه): في المطبوع تناول المؤلف آيات سورة التوبة قبل آيات سورة الأنفال   أما في هذا الكتاب الإلكتروني فوضعت في ترتيبها مع إبقاء ترقيم الصفحات كما في المطبوع ---------- روائع البيان تفسير آيات الأحكام محمد علي الصابوني الكتاب: روائع البيان تفسير آيات الأحكام المؤلف: محمد علي الصابوني طبع على نفقة: حسن عباس الشربتلي الناشر: مكتبة الغزالي - دمشق، مؤسسة مناهل العرفان - بيروت الطبعة: الثالثة، 1400 هـ - 1980 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] (تنبيه): في المطبوع تناول المؤلف آيات سورة التوبة قبل آيات سورة الأنفال   أما في هذا الكتاب الإلكتروني فوضعت في ترتيبها مع إبقاء ترقيم الصفحات كما في المطبوع سورة الفاتحة التحليل اللفظي {الحمد للَّهِ} : الحمد هو الثناء بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل. قال القرطبي: الحمد في كلام العرب معناه: الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس، فهو - سبحانه - يستحق الحمد بأجمعه، والثناء المطلق. والحمد نقيض الذم. وهو أعم من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف الحمد، تقول: حمدت الرجل على شجاعته، وعلى علمه، وتقول: شكرته على إحسانه. والحمد يكون باللسان، وأمّا الشكر فيكون بالقلب، واللسان، والجوارح. قال الشاعر: أفادتكم النعماء منّي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبّا وذهب الطبري: إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، لأنك تقول: الحمد لله شكراً. قال القرطبي: وما ذهب إليه الطبري ليس بمرضي، لأن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكرُ ثناءٌ على الممدوح بما أولى من الإحسان، وعلى هذا يكون {الحمد} أعمّ من الشكر. {رَبِّ العالمين} : الربّ في اللغة: مصد بمعنى التربية، وهي إصلاح شؤون الغير، ورعاية أمره، قال الهروي: يقال لمن أقام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربّه، ومنه سميّ (الربانيون) لقيامهم بالكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وفي «الصحّاح» : ربّ فلانٌ ولده يربّه تربية أي ربّاه، والمربون: جمع المربّي. والرّب: مشتقٌ من التربية، فهو سبحانه وتعالى مدبّر لخلقه ومربيّهم، ويطلق الربّ على معان وهي: (المَالك، والمصلح، والمعبود، والسيّد المطاع) تقول: هذا ربّ الإبل، وربّ الدار، أي مالكها، ولا يقال في غير الله إلا بالإضافة، ففي الحديث الشريف: «لا يقل أحدُكم: أطعمْ ربّك، وضّيْء ربّك، ولا يقل أحدكم ربيّ، وليقل سيّديّ ومولاي» . والربّ: المعبود، ومنه قول الشاعر: أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب والربّ: السيّد المطاع، ومنه قوله تعالى: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41] أي سيّده. والربّ: المصلح، ومنه قول الشاعر: يربّ الذي يأتي من الخير إنّه ... إذا سئل المعروف زاد وتممّاً {العالمين} : جمع عالَم، والعالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط والأنام. قال أبو السعود: العالَم: اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع تبارك وتعالى من المصنوعات. قال ابن الجوزي: العالم عند أهل العربية: اسم للخلق من مبدئهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 منتهاهم، فأمّا أهل النظر، فالعالَم عندهم: اسمٌ يقع على الكون الكلّي المُحْدَث من فلَك، وسماءٍ، وأرضٍ وما بين ذلك وفي اشتقاق العالَم قولان: أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوّي قول أهل اللغة. والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوّي قول أهل النظر. فكلُ ما في هذا الكون دالّ على وجود الصانع، المدبّر، الحكيم كما قال الشاعر: فيا عجباً كيف يُعْصى الإله ... أم كيف يَجْحده الجاحد؟ ولله في كل تحريكة ... وتسكينةٍ أبداً شاهد وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد قال ابن عباس: (ربّ العالمين أي ربّ الإنس، والجنّ، والملائكة) . وقال الفرّاء وأبو عبيدة: العالَمُ عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: (الإنس، والجنّ، والملائكة، والشياطين) ولا يقال للبهائم: عالَم لأن هذا الجمع جمع من يعقل خاصةً، قال الأعشى: (ما إن سمعت بمثلهم في العالمين) . وقال بعض العلماء: كلّ صنف من أصناف الخلائق عالمٌ، فالإنس عالم، والجنّ عالم، والملائكة عالم، والطير عالم، والنبات عالم، والجماد عالم. . الخ فقيل: ربّ العالمين ليشمل جميع هذه الأصناف من العوالم. {الرحمن الرحيم} : اسمان من أسمائه تعالى مشتقان من الرحمة، ومعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 {الرحمن} : المنعم بجلائل النعم، ومعنى {الرحيم} : المنعم بدقائقها. ولفظ {الرحمن} مبنيّ على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها، لأن بناء (فعلان) في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشبَع: شبعان. قال الخطّابي: ف {الرحمن} ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمّت المؤمن والكافر. و {الرحيم} خاص للمؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43] . ولا يجوز إطلاق اسم (الرحمن) على غير الله تعالى لأنه مختص به جلّ وعلا، بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضاً قال تعالى: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] قال القرطبي: «وأكثرُ العلماء على أن الرحمن مختصّ بالله عَزَّ وَجَلَّ، لا يجوز أن يسمّى به غيره، ألا تراه قال: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] فعادَل الاسم الذي لا يَشْركه فيه غيره: {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] فأخبر الرحمن هو المستحق للعبادة جلّ وعزّ، وقد تجاسر (مسيلمة الكذاب) لعنه الله فتسمى ب (رحمان اليمامة) ولم يتسمّ به حتى قرع مسامَعه نعت الكذّاب، فألزمه الله ذلك حتى صار هذا الوصف لمسيلمة عَلَماً يُعرف به» . {يَوْمِ الدين} : يوم الجزاء والحساب، أي أنه سبحانه المتصرّف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، والدينُ في اللغة: الجزاءُ، ومنه قوله عليه السلام: «إفعل ما شئت كما تدين تدان» أي كما تفعل تجزى. قال في «اللسان» : والدينُ: الجزاء والمكافأة، ويومُ الدين: يوم الجزاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] أي مجزيّون محاسبون، ومنه الديّان في صفة الله عَزَّ وَجَلَّ قال لبيد: حصادك يوماً ما زرعت وإنما ... يُدان الفتى يوماً كما هو دائن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : نعبدُ: نذلّ ونخشع ونستكين، لأن العبودية معناها: الذلّة والاستعانة، مأخوذ من قولهم: طريق معبّد أي مذلّل وطئته الأقدام، وذلّلته بكثرة الوطء، حتى أصبح ممهداً. قال الزمخشري: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه ثوبٌ ذو عَبَدة إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج، ولذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم. فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع. والمعنى: لك اللهمّ نذل ونخضع ونخصك بالعبادة لأنك المستحق لكل تعظيم وإجلال، ولا نعبد أحداً سواك. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : الاستعانة: طلب العون، قال الفراء: أعنتهُ إعانةً، واستعنتهُ واستعنت به، وفي الدعاء: ربّ أعنّي ولا تُعِنْ عليّ، ورجل معوان: كثير الإعانة للناس، وفي حديث ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) والمعنى: إيّاك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك في أمورنا كلها، فلا يملك القدرة على عوننا أحد سواك، وإذا كان من يكفر بك يستعين بسواك، فنحن لا نستعين إلا بك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 {اهدنا} : فعل دعاء ومعناه: دلّنا على الصراط المستقيم، وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنْسك وقُربك. والهداية في اللغة: تأتي بمعنى الدلالة كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] وتأتي بمعنى الإرشاد وتمكين الإيمان في القلب كما قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ... } [القصص: 56] . فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هادٍ بمعنى أنه دالّ على الله {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ولكنه لا يضع الإيمان في قلب الإنسان. وفعل هدى يتعدى ب (إلى) وب (اللام) كقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 23] وقوله: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] وقد يتعدّى بنفسه كما هنا {اهدنا الصراط} . {الصراط المستقيم} : الصّراط: الطريقُ، وأصله بالسين (السّراط) من الاستراط بمعنى الابتلاع، سميّ بذلك لأنّ الطريق كأنه يبتلع السالك. قال «الجوهري» : الصّراط، والسّراط، والزّراط: الطريق قال الشاعر: وأحملهم على وَضِح الصّراط ... أي على وضح الطريق. قال القرطبي: أصلُ الصراط في كلام العرب: الطريق، قال الشاعر: شحنّا أرضهم بالخيل حتّى ... تركناهم أذلّ من الصراط والعرب تستعير (الصراط) لكل قولٍ أو عملٍ وصف باستقامةٍ أو اعوجاج، والمراد به هنا ملّة الإسلام. {المستقيم} : الذي لا عوج فيه ولا انحراف، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه ... } [الأنعام: 153] وكلّ ما ليس فيه اعوجاج يسمّى مستقيماً. ومعنى الآية: ثبّتنا يا ألله على الإيمان، ووفقنا لصالح الأعمال، واجعلنا ممن سلك طريق الإسلام، الموصل إلى جنّات النعيم. {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} : النعمةُ: لينُ العيش ورغده، تقولُ: أنعمتُ عينَه أي سررتها، وأنعمتُ عليه بالغتُ في التفضيل عليه، والأصل فيه أن يتعدّى بنفسه، تقول: (أنعمتُه) أي جعلته صاحب نعمة، إلاّ أنه لمّا ضمنِ معنى التفضل عليه عدّي بعلى {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . قال ابن عباس: هم النبيّون، والصدّيقون، والشهداء، والصالحون، وإلى هذا ذهب جمهور المفسّرين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] . {المغضوب عَلَيْهِم} : هم اليهود لقوله تعالى فيهم: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 112] وقوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير ... } [المائدة: 60] . {الضآلين} : الضلاّل في كلام العرب هو الذهاب عن سَنَن القصد، وطريق الحق، والانحراف عن النهج القويم، ومنه قولهم: ضلّ اللبن في الماء أي غاب، قال تعالى: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ... } [السجدة: 10] أي غبنا بالموت فيها وصرنا تراباً، وقال الشاعر: ألم تسأل فتخبرْك الدّيارُ ... عن الحيّ المضلّل أين ساروا والمراد بالضالين (النّصارى) لقوله تعالى فيهم: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 77] . وقال بعض المفسّرين: الأولى أن يُحمل {المغضوب عَلَيْهِم} على كلّ من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفُساق، ويُحمل {الضالّون} على كل من أخطأ في الاعتقاد، لأنّ اللفظ عامٌ، والتقييد خلاف الأصل، والمنكرون للصانع والمشركون أخبثُ ديناً من اليهود والنّصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أولى، وهذا اختيار الإمام الفخر. وقد ردّه الألوسي لأن تفسير المغضوب عليهم والضالين ب (اليهود والنصارى) جاء في الحديث الصحيح المأثور فلا يُعتد بخلافه. وقال القرطبي: «جمهور المفسّرين أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسّراً عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث (عديّ بن حاتم) وقصة إسلامه» . وقال أبو حيان: وإذا صحّ هذا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجب المصير إليه. أقول: ما ذكره الفخر الرازي ليس فيه ردّ للمأثور، بل إنّه عمّم الحكم فجعله شاملاً لليهود والنصارى ولجميع من انحراف عن دين الله، وضلّ عن شرعه القويم، حيث يدخل في اللفظ جميع الكفّار والمنافقين، وإليك نصّ كلام الإمام «الفخر» . قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفّار، والضّالون هم المنافقون، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آياتٍ من أوّل البقرة، ثم أتبعه بذكر الكفار، ثمّ أتبعه بذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المنافقين، فكذا هنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ثم أعقبه بذكر الكفار وهو قوله {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} ثمّ أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله: {وَلاَ الضآلين} . آمين: كلمة دعاء وليست من القرآن الكريم إجماعاً، بدليل أنها لا تكتب في المصحف الشريف، ومعناها: استجب دعاءنا يا رب. قال الألوسي: ويُسنّ بعد الختام أن يقول القارئ (آمين) لحديث أبي ميسرة» أنّ جبريل أقرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاتحة الكتاب، فلما قال: {وَلاَ الضآلين} قال له: قل: آمين فقال آمين «. قال ابن الأنباري: وأمّا (آمين) فدعاء، وليس من القرآن، وهو اسم من أسماء الأفعال ومعناه: اللهمّ استجب، وفيه لغتان: القصرُ (أمين) والمدّ (آمين) فالأول على وزن (فعيل) والثاني على وزن (فاعِل) . قال الشاعر: يا ربّ لا تسلُبَنّي حبها أبدَاً ... ويرحمُ اللهُ عبداً قال آميناً وقال ابن زيدون: غيظ العِدَى من تساقينا الهَوَى فَدَعَوْا ... بأن نَغَصَّ فقال الدهر: آمِنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المعنى الإجمالي علّمنا الله - تقدّست أسماؤه - كيف ينبغي أن نحمده ونقدّسه، ونثني عليه بما هو أهله، فقال ما معناه: يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي فقولوا: الحمد لله رب العالمين، اشكروني على إحساني وجميلي إليكم، فأنا الله ذو العظمة والمجد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإيجاد، ربّ الإنس والجن والملائكة، وربّ السماوات والأرضين، وأنا الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمّ فضله جميع الأنام، فالثناء والشكر لله رب العالمين، دون ما يعبد من دونه، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح، وهداية الخلق إلى سعادة الدنيا والآخرة، فهو السّيّد الذي لا يبلغ سؤدده أحد، والمصلح أمر عباده بما أودع في هذا العالم من نظام، يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الإنسان والنبات والحيوان، فمن شمسٍ لولاها ما وجدت حياة ولا موت، ومن غذاءٍ به قوام البشر، ومياه بها حياة النبات والحيوان، وأنا المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين، تصرّف المالك في ملكه، فخصوني بالعبادة دون سواي، وقولوا لك اللهمّ نذلّ ونخضع، ونستكين ونخشع، ونخصّك بالعبادة، ولا نعبد أحداً سواك، وإيّاك ربّنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإنك المستحقّ لكل إجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عوننا أحد سواك. فثبتنا يا ألله على الإسلام دينك الحق، الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، وثبتنا على الإيمان، واجعلنا ممّن سلك طريق المقربين، طريق النبيّين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. ولا تجعلنا يا ألله من الحائرين عن قصد السبيل، السالكين غير المنهج القويم، من الذين ضلّوا عن شريعتك القدسية، وكفروا بآياتك ورسلك وأنبيائك، فاستحقوا اللعنة والغضب إلى يوم الدين. . اللهمّ آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 معاني الفاتحة في «ظلال القرآن» يقول سيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسيره «الظلال» ما نصه: (يردّد المسلم هذه السورة القصيرة، ذات الأيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن، ولا تصح صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجهات ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة. تبدأ السورة ب (بسم الله الرحمن الرحيم) والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ} [العلق: 1] وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أنّ الله (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن) فهو سبحانه الموجود الحق الذي يستمد منه كل موجودٍ وجودَه، ويبدأ منه كل مبدوءٍ بدأه، فباسمه إذن يكون كل ابتداء، وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه. وإذا كان البدء باسم الله، وما ينطوي عليه من توحيد لله، وأدبٍ معه، يمثّل الكلّية الأولى في التصور الإسلامي، فإن استغراق معاني الرحمة في صفتي (الرحمن الرحيم) يمثّل الكليّة الثانية في هذا التصور، ويقرّر حقيقة العلاقة بين الله والعباد وعقب البدء ب {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ} يجيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 التوجه إلى الله بالحمد، ووصفُه بالربوبية المطلقة، يمثّل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله، والحمد هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن، فإن وجوده ابتداءً ليس إلا فيضاً من فيوضات النعمة الإلهية، وفي كل لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله، وتغمر الخلائق كلها، وبخاصة هذا الإنسان. والربوبية المطلقة: هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغَبَش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة، وشمولُ هذه الربوبية للعالمين جميعاً، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة، لتتّجه العوالم كلها إلى ربّ واحد، تقرّ له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة. وتبدوا العقيدة الإسلامية: في كمالها وتناسقها رحمة. . رحمةً حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقربٍ وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق. ثم تأتي هذه الصفة {الرحمن الرَّحِيمِ} التي تستغرق كلّ معاني الرحمة، وحالاتها ومجالاتها، تتكرر هنا في صلب السورة في آية مستقلة لتؤكد تلك الربوبية الشاملة، ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الربّ ومربوبيه، وبين الخالق ومخلوقاته. . إنها صلة الرحمة والرعاية، التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة النديّة. والتعبير بقوله: {مالك يَوْمِ الدين} يمثّل الكليّة الضخمة، العميقة التأثير، كلية الاعتقاد بالآخرة. والاعتقادُ بيوم الدين كلية من كليّات العقيدة الإسلامية ذات قيمة هامة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالَم آخر، وهو مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا، والصور المشوّهة المنحرفة التي لم يُقدّر لها الكمال، وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع، ما لم تتحقّق هذه الكلية في تصور البشر، وما لم يثق الفرد المحدود بأنّ له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها وأن يضحّي في سبيلها. وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعورٍ، ولا خُلُق، ولا سلوك، ولا عمل، فهما صنفان مختلفان من الخَلْق، وطبيعتان متميّزتان، لا تلتقيان في الأرض في عمل، ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء. . وهذا هو مفرق الطريق. وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة، فلا عبادة إلاّ لله، ولا استعان إلاّ بالله. وهنا كذلك مفرق طريق. . مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد، وهي تعلن ميلاد التحرر البشري، الكامل الشامل. ولقد درج (الغربيون) على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: «قهر الطبيعة» ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية، المقطوعة الصلة بالله، وبروح الكون المستجيب لله، فأمّا المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبّحة لله رب العالمين، فيؤمن بأن هناك علاقة أخرى، غير علاقة القهر والجفوة، إنه يعتقد بأن الله هو مبدع هذه القُوى جميعاًِ، خلقها كلها وفق ناموس واحد، وسخّرها للإنسان ابتداءً، ويسّر له كشف أسرارها، ومعرفة قوانينها، وأنّ على الإنسان أن يشكر الله كلّما هيأ لَه أن يظفر بمعونة من إحداها، فالله هو الذي يسخّرها وليس هو الذي يقهرها {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13] . وبعد تقرير تلك الكليّات الأساسية في التصور الإسلامي، يبدأ في التطبيق العملي {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} . فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته، وهو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الأمر أعظم ما يطلبه المؤمن من ربه، فالهداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله، الذي ينسّق بين حركة الإنسان، وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب الله عليهم. . إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين. ولعلَّ ذلك يكشف لنا عن سرّ من أسرار اختيار السورة ليردّدها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصلاة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98] . قال جعفر الصادق: «إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة، والنميمة، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً، فيقرأ بلسان طاهر، كلاماً أنزل من رب طيب طاهر» . اللطيفة الثانية: المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وقد اشتهر هذا في الشعر والنثر، قال الشاعر: لقد بسملَتْ ليلَى غداةَ لقيتُها ... فيها حبّذَا ذاك الحبيبُ المبسملُ وفي افتتاح القرآن الكريم بهذه الآية إرشادٌ لنا أن نستفتح بها كلّ أفعالنا وأقوالنا، وقد جاء في الحديث الشريف: «كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» أي ناقص. فإن قيل: لماذا نقول بسم الله، ولا نقول بالله؟ فالجواب كما قال العلامة أبو السعود: هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك، فقول القائل: بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك. فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى، ويقطع احتمال إرادة القسم. اللطيفة الثالثة: يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى، فقول القائل: (بسم الله) كقوله: (بالله) وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة: إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر أي ثمّ السلام عليكما، وقد ردّ هذا شيخ المفسرين ابن الطبري. قال ابن جرير الطبري: لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 لجاز أن يُقال: رأيت اسم زيد، وأكلتُ اسم الطعام، وشربت اسم الدواء، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله، ويقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يُقال: أكلتُ اسم العسل، يعني أكلتُ العسل؟ أقول: الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك. قال العلامة أبو السعود: وإنما قال (بسم الله) ولم يقل (بالله) وذلك للتفريق بين اليمين والتيمن، يعني (التبرك) ، أو لتحقيق ما هو المقصود بالاستعانة، فذكر الاسم لينقطع احتمال إرادة المسمّى، ويتعيّن حمل الباء على الاستعانة أو التبرك. اللطيفة الرابعة: الفرق بين لفظ (الله) ولفظ (الإله) أن الأول اسم علم للذات المقدسّة لا يشاركه فيه غيره، ومعناه المعبود بحق، والثاني يطلق على الله تعالى وعلى غيره، وهو مشتق من (ألَهَ) ومعناه المعبود، سواءً كان بحق أو غير حق، فالأصنام التي كان يعبدها العرب تسمّى (آلهة) جمع (إله) لأنها عُبدت بباطل من دون الله، وما كان أحد يسمى الصنم (الله) بل كان العربي في الجاهلية إذا سئل: من خلقك؟ أو من خلق السماوات والأرض؟ يقول: الله، وفيهم يقول القرآن الكريم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ... } [لقمان: 25] . اللطيفة الخامسة: في قولنا (بسم الله الرحمن الرحيم) فوائد جليلة، منها التبرك بذكر اسم الله تعالى، والتعظيم لله عَزَّ وَجَلَّ، وطرد للشيطان لأنه يهرب من ذكر اسم الله، وفيها إظهار لمخالفة المشركين، الذين يفتتحون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين الذين كانوا يعبدونهم، وفيها أمان للخائف ودلالة على انقطاع قائلها إلى الله تعالى، وفيها إقرار بالألوهية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله تعالى، وفيها اسمان من أسمائه تعالى المخصوصة به وهما (الله) و (الرحمن) . اللطيفة السادسة: الألف واللام في (الحمد) لاستغراق الجنس، والمعنى لا يستحق الثناء الكامل، والحمد التام الوافي، إلاّ الله ربّ العالمين، فهو الإله المنعوت بصفات الكمال، المستحق لكل تمجيد وتعظيم وتقديس، والصيغة وردت معرّفة (الحمدُ لله) للإشارة إلى أنّ الحمد له تعالى أمر دائم مستمر، لا حادث متجدّد، فتدبره فإنه دقيق. اللطيفة السابعة: فائدةٌ ذكر {الرحمن الرَّحِيمِ} : عقب لفظ {رَبِّ العالمين} هي أن لفظ (الربّ) ينبئ عن معنى الكبرياء، والسيادة، والقهر، فربمّا توهّم السامع أن هذا الربّ قهّار جبّار لا يرحم العباد فدخل إلى نفسه الفزع، واليأس، والقنوط، لذلك جاءت هذه الجملة لتؤكد أن هذا الرب - جلّ وعلا - رحمن رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء. قال أبو حيّان: بدأ أولاً بالوصف بالربوبيّة، فإن كان الرب بمعنى السيّد، أو بمعنى المالك، أو بمعنى المعبود، كان صفة فعل للموصوف، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية، لينبسط أمل العبد في العفو إن زلّ، ويقوى رجاؤه إن هفا. قال ابن القيم: «وأما الجميع بين (الرحمن الرحيم) ففيه معنى بديع، وهو أنّ (الرحمن) دالّ على الصفة القائمة به سبحانه، و (الرحيم) دالّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنّ الأول الوصفُ، والثاني الفعلُ، فالأول: دالّ على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه، والثاني: دال على أنه يرحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه، فإذا أردتّ فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43] {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117] ولم يجيء قط رحمن بهم فعلمت أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته» . ثم قال رَحِمَهُ اللَّهُ: وهذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب. ومجمل القول: أنَّ معنى (الرحمن) المنعم بجلائل النعم، ومعنى (الرحيم) المنعم بدقائقها. وقيل: إنهما بمعنى واحد، والثاني لتأكيد الأول وهو رأي الصبّان والجلال، وهو ضعيف فقد قال ابن جرير الطبري: لا توجد في القرآن كلمة زائدة لغير معنى مقصود. والراجح: ما ذهب إليه ابن القيم وهو أن الوصف الأول دال على الرحمة الثابتة له سبحانه، والثاني يدل على تجدّد الأفعال المتعلقة بهذه الصفة والله أعلم. اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التفنن في الكلام، لأنه أدخلُ في استمالة النفوس، واستجلاب القلوب، وهذا (الإلتفات) ضرب من ضروب البلاغة، ولو جرى الكلام على الأصل لقال (إيّاه نعبد) فعدل عن ضمير الغائب إلى المخاطب لنكتة (الإلتفات) ومثله قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] ثم قال: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} [الإنسان: 22] وقد يكون الإلتفات من (الخطاب) إلى (الغيبة) كما في قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] فقد كان الكلام مع المخاطبين، ثم جاء بضمير الغيبة على طريق الإلتفات. قال أبو حيان في «البحر» : «ونظير هذا أن تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة، مخبراً عنه إخبار الغائب، ويكونذلك الشخص حاضراً معك، فتقول له: إيّاك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المقصود، ما لا يكون في لفظ (إيّاه) » . اللطيفة التاسعة: وردت الصيغة بلفظ الجمع في الجملتين {نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ} ولم يقل: (إياّاك أعبد وإيّاك أستعين) وذلك لنكتةٍ لطيفة، هي اعتراف العبد بقصوره عن الوقوف في باب ملك الملوك جلّ وعلا، وطلبه الاستعانة والهداية مفرداً دون سائر العرب، فكأنه يقول: يا رب أنا عبد حقير، ذليل، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي، بل أنا أنضم إلى سلك الموحّدين، وأدعوك معهم، فتقبّل دعائي معهم، فنحن جميعاً نعبدك ونستعين بك. وتقديم المفعول على الفعل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يفيد القصر والتخصيص كما في قوله: {وإياي فارهبون} [البقرة: 40] كما يفيد التعظيم والاهتمام به. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرك. قال القرطبي: إن قيل: لم قدَّم المفعول {إِيَّاكَ} على الفعل {نَعْبُدُ} ؟ قيل له: اهتماماً، وشأنُ العرب تقديم الأهم، يُذكر أنْ أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ: إيّاك عني، فقال له الآخر: وعنك أُعرض، فقدّما الأهم، وأيضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز نعبدك، ونستعين، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك، وإنما يتبع لفظ القرآن، قال العجّاج: إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي ... واغفر خطايايَ وكثّر ورقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وكرّر الاسم لئلا يتوهم إيّاك نعبد ونستعين غيرك. اللطيفة العاشرة: نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل: (غضبت عليهم) وأضللتهم، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل، حيث لا ينسب الشرّ إليه (أدباً) وإن كان منه (تقديراً) كما قال بعضهم: الخير كله بيديك، والشرّ ليس إليك. فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78 - 80] فلم يقل: (وإذا أمرضني) أدباً. وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] فلم يقولوا: أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق. الدقائق البيانية في سورة الفاتحة قال أبو حيان في تفسيره «البحر المحيط» : «وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب، وكان عالماً بافتتان الكلام، قادراص على إنشاء النثار البديع والنظام، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع: النوع الأول: حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع، وناهيك حسناً أن يكون مطلعها مفتتحاً باسم الله، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة. النوع الثاني: المبالغة في الثناء وذلك العموم (أل) في الحمد المفيد للاستغراق. النوع الثالث: تلوين الخطاب في قوله: {الحمد للَّهِ} إذ صيغته الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ومعناه الأمر أي قولوا: الحمد لله. النوع الرابع: الاختصاص باللاّم التي في (لله) إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا. النوع الخامس: الحذف وذلك كحذف (صراط) من قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} التقدير: غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين. النوع السادس: التقديم والتأخير في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وكذلك في قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} وقد تقدم الكلام على ذلك. النوع السابع: التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} حيث فسّر الصراط. النوع الثامن: الإلتفات وذلك في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم} . النوع التاسع: طلب الشيء وليس المراد حصوله بل دوامه واستمراره وذلك في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} أي ثبتنا عليه. النوع العاشر: التسجيع المتوازي وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرّوي وذلك في قوله تعالى: {الرحمن الرحيم ... الصراط المستقيم} وقوله {نَسْتَعِينُ ... وَلاَ الضآلين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وجوه القراءات أولاً: قرأ الجمهور {الحمد للَّهِ} بضمّ دال الحمد، وقرأ سفيانُ بن عُيَيّنة (الحمدَ الله) بالنصب، قال ابن الأنباري: ويجوز نصبه على المصدر بتقدير أحمد الله. قال أبو حيان: وقراءة الرفع أمكنُ في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعة، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأنّ الحمد مستقرّ لله تعالى أي حمدُه وحمدُ غيره. ثانياً: قرأ الجمهور {ربّ العالمين} بكسر الباء وقرأ زيد بن عليّ {ربَّ العالمين} بالنصب على المدح أي أمدح ربّ العالمين، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها كما نبّه عليه أبو حيّان وغيره. قال القرطبي: يجوز الرفع والنصب في {ربّ} فالنصبُ على المدح، والرفع على القطع أي هو ربّ العالمين. ثالثاً: قرأ الجمهور {مَالِك يومِ الدّينِ} على وزن فاعل مالك وقرأ ابن كثير وابن عمر وأبو الدرداء {مَلِك} بفتح الميم مع كسر اللام. قال ابن الجوزي: وقراءة (مَلِك) أظهر في المدح لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكاً. وقال ابن الأنباري: وفي مالك خمسُ قراءات وهي: مالك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومَلِك، ومَلْك، ومليك، ومَلاَك. رابعاً: قرأ الجمهور {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بضم الباء، وقرأ زيد بن علي {نعبِد} بكسر النون، وقرأ الحسن وأبو المتوكل {إيّاك يُعبد} بضم الياء وفتح الباء. خامساً: قرأ الجمهور {اهدنا الصراط المستقيم} بالصّاد وهي لغة قريش، وقرأ مجاهد وابن محيصن (السّراط) بالسّين على الأصل. قال الفرّاء: اللغة الجيّدة بالصاد وهي اللغة الفصحى، وعامة العرب يجعلونها سيناً، فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصّاد فلأنها أخفّ على اللّسان. وجوه الإعراب أولاً: {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ} الجار والمجرور في {بِسمِ الله} اختلف فيه النحويون على وجهين: أ - مذهب البصريين: أنه في موضع رفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: ابتدائي بسم الله. ب - مذهب الكوفيين: أنه في موضع نصب بفعل مقدّر وتقديره: ابتدأتُ بسم الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ثانياً: قوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} الحمدُ مبتدأ ولفظ الجلالة خبره تقديره: الحمد مستحق لله، و {رَبِّ العالمين} صفة، ومثله {الرحمن الرحيم} و {مالك يَوْمِ الدين} كلها صفات لاسم الجلالة. ثالثاً: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} اختلف المفسّرون في {إِيَّاكَ} فذهب المحققون إلى أنه ضمير منفصل منصوب بالفعل بعده وأصله (نعبدك) و (نستعينك) فلما قُدّم الضمير المتصل أصبح ضميراً منفصلاً، والكاف للخطاب ولا موضع لها من الإعراب. وذهب آخرون إلى أنه ضمير مضاف إلى ما بعده، ولا يعلم ضمير أضيف إلى غيره. قال أبو السعود: وما ادّعاه الخليل من الإضافة، محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإيّاه وإيّا الشوابّ، فممّا لا يعوّل عليه. وذكر ابن الأنباري وجوهاً عديدة ثمّ قال: والذي اختاره الأول، وقد بيّنا ذلك مستوفى في كتابنا الموسوم ب «الانصاف في مسائل الخلاف» . رابعاً: قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... } {اهدنا} فعل دعاء وهو يتعدى إلى مفعولين المفعول الأول هو ضمير الجماعة (ن) في إهدنا، و {الصراط} هو المفعول الثاني، و {المستقيم} صفة للصراط، و {صِرَاطَ} بدل من الصراط الأول. خامساً: آمين: اسم فعل أمر بمعنى استجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل البسملة آية من القرآن؟ أجمع العلماء على أن البسملة الواردة في سورة النمل [30] هي جزء من آية في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} ولكنهم اختلفوا هل هي آية من الفاتحة، ومن أول كل سورة أم لا؟ على أقوال عديدة: الأول: هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة، وهو مذهب الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ. الثاني: ليست آية لا من الفاتحة، ولا من شيء من سور القرآن، وهو مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ. الثالث: هي آية تامة من القرآن أُنزلت للفصل بين السور، وليست آية من الفاتحة وهو مذهب أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ. دليل الشافعية: استدل الشافعية على مذهبهم بعدة أدلة نوجزها فيما يلي: أولاً - حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبعُ المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم أحدُ آياتها» . ثانياً - حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثالثاً - حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه سئل عن قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: كانت قراءته مدّاً. . ثمّ قرأ {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين ... } . رابعاً: حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: (بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاؤة، ثمّ رفع رأسه متبسّماً، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ: {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الكوثر: 1 - 3] . قالوا: فهذا الحديث يدل على أن البسملة آية من كل سورة من سور القرآن أيضاً، بدليل أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأها في سورة الكوثر. خامساً: واستدلوا أيضاً بدليل معقول، وهو أن المصحف الإمام كُتبت فيه البسملة في أول الفاتحة، وفي أول كل سورة من سور القرآن، ما عدا سورة (براءة) ، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه، وتواتر ذلك مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن، وكانوا يتشدّدون في ذلك، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير، ومن أسماء السّور، ومن الإعجام، وما وُجِد من ذلك أخيراً فقد كتب بغير خطّ المصحف، وبمداد غير المداد، حفظاً للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه، فلما وجدت البسملة في سورة الفاتحة، وفي أوائل السور دلّ على أنه آية من كل سورة من سور القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 دليل المالكية: واستدل المالكية على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا من القرآن وإنما هي للتبرك بأدلة نوجزها فيما يلي: أولاً: حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين» ثانياً: حديث أنس كما في «الصحيحين» قال: «صلّيتُ خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين» . وفي رواية لمسلم: (لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) لا في أول قراءة ولا في آخرها) . ثالثاً: ومن الدليل أنها ليست آية من الفاتحة حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: قال الله عزّ وجل: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} . قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال العبد: {الرحمن الرحيم} . قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال العبد: {مالك يَوْمِ الدين} . قال الله تعالى: مجدّني عبدي - وقال مرة فوّض إليّ عبدي -. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} . قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» . قالوا: فقوله سبحانه: «قسمت الصلاة» يريد الفاتحة، وسمّاها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فلو كانت البسملة آية من الفاتحة لذكرت في الحديث القدسي. رابعاً: لو كانت البسملة من الفاتحة لكان هناك تكرار في {الرحمن الرحيم} في وصفين وأصبحت السورة كالآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم) وذلك مخلّ ببلاغة النظم الجليل. خامساً: كتابتها في أوائل السور إنما هو للتبرك، ولامتثال الأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور، وهي وإن تواتر كتبُها في أوائل السور، فلم يتواتر كونها قرآناً فيها. قال القرطبي: «الصحيحُ من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقهُ التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي: ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه. والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن (البسملة) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلاَّ في النمل وحدها. ثم قال: إنّ مذهبنا يترجّح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول، وذلك أن مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرّت عليه الأزمنة، والدهور من لدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قطّ (بسم الله الرحمن الرحيم) اتّباعاً للسُنّة، وهذا يردّ ما ذكرتموه، بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل، وعليه تُحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 السعة في ذلك «. دليل الحنفية: وأما الحنفية: فقد رأوا أنّ كتابتها في (المصحف) يدل على أنها قرآن ولكن لا يدل على أنها آية من سورة، والأحاديث الواردة التي تدل على عدم قراءتها جهراً في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست من الفاتحة، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة - في غير سورة النمل - أنزلت للفصل بين السور. ومما يؤيد مذهبهم: ما روي عن الصحابة أنهم قالوا:» كنا لا نعرف انقضاء السور حتى تنزل (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وكذلك ما روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» . قال الإمام أبو بكر الرازي: «وقد اختلف في أنها آية من فاتحة الكتاب أم لا، فعدّها قرّاء الكوفة آية منها، ولم يعدّها قرّاء البصريين، وقال الشافعي: هي آية منها وإنْ تركها أعاد الصلاة، وحكى شيخنا (أبو الحسن الكرخي) عدم الجهر بها، ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها، وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد، لأن الخلاف بين السلف إنما هو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أنها آية من (فاتحة الكتاب) أو ليست بآية منها، ولم يعدّها أحد آية من سائر السور» . ثم قال: «ومما يدل على أنها ليست من أوائل السور، ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} [الملك: 1] » واتفق القرّاء وغيرهم أنها ثلاثون سوى (بسم الله الرحمن الرحيم) فلو كانت منها كانت إحدى وثلاثين وذلك خلاف قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويدل عليه أيضاً اتفاق جميع قرّاء الأمصار وفقهائهم على أن سورة (الكوثر) ثلاث آيات، وسورة (الإخلاص) أربع آيات، فلو كانت منها لكانت أكثر ممّا عدّوا «. الترجيح: وبعد استعراض الأدلة وما استدل به كل فريق من أئمة المذاهب نقول: لعلّ ما ذهب إليه الحنفية هو الأرجح من الأقوال، فهو المذهب الوسط بين القولين المتعارضين، فالشافعية يقولون إنها آية من الفاتحة ومن أول كل سورة في القرآن، والمالكية يقولون: ليست بآية لا من الفاتحة ولا من القرآن {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] ولكنْ إذا أمعنا النظر وجدنا أن كتابتها في المصحف، وتواتر ذلك بدون نكير من أحد - مع العلم بأنّ الصحابة كانوا يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآناً - يدلّ على أنها قرآن، لكن لا يدل على أنها آية من كل سورة، أو آية من سورة الفاتحة بالذات، وإنما هي آية من القرآن وردت للفصل بين السور، وهذا ما أشار إليه حديث ابن عباس السابق (إنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يعرف فصل السور حتى ينزل عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) ويؤكد أنها ليست من أوائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام، والعربُ كانت ترى التفنّن من البلاغة، لا سيّما في افتتاحاتها، فلو كانت آية من كل سورة لكان ابتداء كلّ السور على منهاجٍ واحد، وهذا يخالف روعة البيان في معجزة القرآن. وقول المالكية: لم يتواتر كونها قرآناً فليست بقرآن غير ظاهر - كما يقول الجصّاص - إذ ليس بلازم أن يقال في كل آية إنها قرآن وتواتر ذلك، بل يكفي أن يأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكتابتها ويتواتر ذلك عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد اتفقت الأمة على أن جميع ما في المصحف من القرآن، فتكون البسملة آية مستقلة من القرآن كرّرت في هذه المواضع على حسب ما يكتب في أوائل الكتب على جهة التبرك باسم الله تعالى، وهذا ما تطمئن إليه النفس وترتاح، وهو القول الذي يجمع بين النصوص الواردة والله أعلم. الحكم الثاني: ما هو حكم قراءة البسملة في الصلاة؟ اختلف الفقهاء في قراءة البسملة في الصلاة على أقوال عديدة: أ - فذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة، جهراً كانت أو سرّاً، لا في استفتاح أم القرآن، ولا في غيرها من السور، وأجاز قراءتها في النافلة. ب - وذهب أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: إلى أن المصلي يقرؤها سراً مع الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وإن قرأها مع كل سورة فحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ج - وقال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: يقرؤها المصلي وجوباً. في الجهر جهراً، وفي السرّ سراً. د - وقال أحمد بن حنبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يقرؤها سرّاً ولا يسنّ الجهر بها. وسبب الخلاف: هو اختلافهم في (بسم الله الرحمن الرحيم) هل هي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟ وقد تقدم الكلام على ذلك في الحكم الأول. وشيء آخر: هو اختلاف آراء السلف في هذا الباب. قال ابن الجوزي في «زاد المسير» : وقد اختلف العلماء هل البسملة، من الفاتحة أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان، فأمّا من قال: إنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة، وأمّا من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنّة، ما عدا مالكاً رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة. واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسُن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة. وذهب الشافعي: إلى أن الجهر بها مسنون، وهو مرويّ عن معاوية، وعطاء، وطاووس. الحكم الثالث: هل تجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟ اختلف الفقهاء في حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على مذهبين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أ - مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) أن قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصحّ صلاته. ب - مذهب الثوري وأبي حنيفة: أن الصلاة تجزئ بدون فاتحة الكتاب مع الإساءة ولا تبطل صلاته، بل الواجب مطلق القراءة وأقله ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة. أدلة الجمهور: استدل الجمهور على وجوب قراءة الفاتحة بما يلي: أولاً: حديث عُبادة بن الصامت وهو قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . ثانياً: حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قال من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهيِ خِداج فهي خِداج، فهي خداج غير تمام» . ثالثاً: حديث أبي سعيد الخدري: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر» . قالوا: فهذه الآثار كلّها تدل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فإنّ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» يدل على نفي الصحة، وكذلك حديث أبي هريرة فهي خِداج قالها عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثلاثاً يدل على النقص والفساد، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة شرطاً لصحة الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أدلة الحنفية: استدل الثوري وفقهاء الحنفية على صحة الصلاة بغير قراءة الفاتحة بأدلة من الكتاب والسنّة. أمّا الكتاب: فقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] قالوا: فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسّر من القرآن، لأن الآية وردت في القراءة في الصلاة بدليل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل} إلى قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل، وذلك عموم عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ. وأما السنّة: فما روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أن رجلاً دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فردّ عليه السلام وقال:» ارجع فصلّ فإنك لم تصل «فصلّى ثم جاء فأمره بالرجوع، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحْسنُ غيره، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إذا قمتَ إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة فكبّر، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثمّ فاعل ذلك في صلاتك كلها «» . قالوا: فحديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته يدل على التخيير (اقرأ ما تيسّر معك من القرآن) ويقوّي ما ذهبنا إليه، وما دلت عليه الآية الكريمة من جواز قراءة أي شيء من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وأما حديث عبادة بن الصامت: فقد حملوه على نفي الكمال، لا على نفي الحقيقة، ومعناه عندهم (لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ولذلك قالوا: تصح الصلاة مع الكراهية، وقالوا هذا الحديث يشبه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» . وأما حديث أبي هريرة: (فهي خداج، فهي خداج) الخ فقالوا: فيه ما يدلّ لنا لأنّ (الخداج) الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان، لأنها لو لم تكن جائزة لما أُطلق عليها اسم النقصان، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي لم يثبت منه شيء. هذه هي خلاصة أدلة الفريقين: سردناها لك بإيجاز، وأنت إذا أمعنتَ النظر، رأيت أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً، وأقوى قيلاً، فإنّ مواظبته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على قراءتها في الفريضة والنفل، ومواظبة أصحابه الكرام عليها دليل على أنه لا تجزئ الصلاة بدونها، وقد عضد ذلك الأحاديث الصريحة الصحيحة، والنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مهمته التوضيح والبيان، لما أجمل من معاني القرآن، فيكفي حجّة لفريضتها ووجوبها قولُه وفعله عليه السلام. وممّا يؤيد رأي الجمهور ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلّي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين، ويُسمعنا الآية أحياناً، وكان يطوّل في الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح» . وفي رواية: «ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب» . قال الطبري: يقرأ بأم القرأن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آياتها وحروفها. قال القرطبي: والصحيح من هذه الأقوال، قولُ الشافعي وأحمد ومالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعةٍ لكل أحدٍ على العموم لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأُبِيّ بن كعب، وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» فهؤلاء الصحابة القُدرة، وفيهم الأسوة، كُلّهم يوحبون الفاتحة في كل ركعة. قال الإمام الفخر: «إنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة، فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ويا لَلْعجب من أبي حنيفة فإنه تمسّك في وجوب (مسح الناصية) بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه أتى سُباطة قوم فبال وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفيه، في (أنه عليه السلام مسح على الناصية) فجعل ذلك القدر من المسح شرطاً لصحة الصلاة! {وهاهنا نقل أهلُ العلم نقلاً متواتراً أنه عليه السلام واظب طول عمره على قراءة الفاتحة، ثمّ قال: إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها، وهذا من العجائب} » . الحكم الرابع: هل يقرأ المأموم خلف الإمام؟ اتفق العلماء على أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً فإنه يحمل عنه القراءة، لإجماعهم على سقوط القراءة عنه بركوع الإمام، وأمّا إذا أدركه قائماً فهل يقرأ خلفه أم تكفيه قراءة الإمام؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أ - فذهب الشافعي وأحمد: إلى وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام سواء كانت الصلاة سرّية أم جهرية. ب - وذهب مالك إلى أن الصلاة إذا كانت سرّية قرأ خلف الإمام، ولا يقرأ في الجهرية. ج - وذهب أبو حنيفة: إلى أنه لا يقرأ خلف الإمام لا في السرية ولا في الجهرية. استدل الشافعية والحنابلة بالحديث المتقدم وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . فإن اللفظ عام يشمل الإمام والمأموم، سواء كانت الصلاة سرية جهرية، فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب لم تصحّ صلاته. واستدل الإمام مالك: على قراءة الفاتحة إذا كانت الصلاة سرّية بالحديث المذكور، ومنع من القراءة خلف الإمام إذا كانت الصلاة جهرية لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وقد نقل القرطبي: عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه. وأمّا الإمام أبو حنيفة: فقد منع من القراءة خلف الإمام مطلقاً عملاً بالآية الكريمة {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا} [الأعراف: 204] ولحديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» . واستدل أيضاً بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 خاتمة البحث: حكمة التشريع يقف الإنسان بين يدي هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) وقفة العبد الخاشع، المعترف بالعجز، المقر بالتقصير، فإن هذه السورة وحي منزل من عند الله، وهي من كلام ربّ العالمين، وكلام الله فوق أن يحيط به عقل قاصر من بني الإنسان، أو يدرك أسراره العميقة بشر، مهما أوتي من النبوغ والذكاء، وسعة العلم والاطلاع. وقُصارى ما يدركه الإنسان أن يحسّ من قرارة نفسه بروعة هذا القرآن الكريم، وسمو معانيه، وجمال ألفاظه، وأن يشعر بالعجز الكامل عن أن يأتي بمثل آية من آياته، فضلاً عن مثل الكتاب العزيز، فإن هذه السورة الكريمة على قصرها ووجازتها قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد بالجزاء والحساب، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة، والاستعانة، والدعاء، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم أو الضالّين إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراضٍ وأهداف. قال العلامة القرطبي: «سميت الفاتحة (القرآن العظيم) لتضمنها جميع علومه، وذلك لأنها تشتمل على الثناء على الله عَزَّ وَجَلَّ بأوصاف كماله وجلاله، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلاّ بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيان عاقبة الجاحدين، وهذه جملة المقاصد التي جاء بها القرآن العظيم» . يقول الشهيد الشيخ حسن البنا رَحِمَهُ اللَّهُ في رسالته القيّمة «مقدمة في التفسير» ما نصه: «لا شك أن من تدبّر الفاتحة الكريمة - وكلّ مؤمن مطالب بتدبرها في تلاوته عامة، وفي صلاته خاصة - رأى من غزارة المعاني، وجمالها، وروعة التناسب، وجلاله، ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه. فهو يبتدئ ذاكراً تالياً متيمناً باسم الله الموصوف بالرحمة، التي تظهر آثار رحمته متجدّدة في كل شيء، مستشعراً أنّ أساس الصلة بينه وبين خالقه العظيم هو هذه الرحمة التي وسعت كل شيء. فإذا استشعر هذا المعنى، ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله (الرحمن الرحيم) وذكّره الحمد بعظيم نعمه، وكريم فضله، وعظيم آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعاً، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثمّ تذكّر من جديد أنّ هذه النعم الجزيلة، والتربية الجليلة، ليست عن رغبة ولا رهبة، ولكنّها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية بالرحمن الرحيم، ولكن من كمال هذا الإله العظيم أن يقرن (الرحمن) ب (العدل) ويذكّر بالحساب بعد الفضل، فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيُدينُ عباده، ويحاسب خلقه يوم الدين {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] . فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة، والحساب، وإذا كان الأمر كذلك، فقد أصبح العبد مكلفاً بتحري الخير، والبحث عن وسائل النجاة، وهو في هذا أشدّ ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه، فليلجأ إليه، وليعتمد عليه، وليخاطبه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق، أو يريدون الوصول إليه فلا يوفقون للعثور عليه آمين. ولا جرم أن (آمين) براعة مقطع في غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إلى الله بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقاً أدق، أو ارتباطاً أوثق، مما تراه بين معاني هذه الآيات الكريمات؟ وتذكّر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ربه في الحديث القدسي الذي أوردناه آنفاً «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل» الخ وأدم هذا التدبر والإنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة أو غيرها على مكث وتمهل، وخشوع وتذلّل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطي التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، مع رفع الصوت المعتدل في التلاوة العادية، أو الصلاة الجهرية، فإنّ ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلبَ شيء أفضل من تلاوةٍ في تدبر وخشوع «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 2 - سورة البقرة [1] موقف الشريعة من السحر الحديث: 2 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 التحليل اللفظي {نَبَذَ} : النبذ: الطرح والإلقاء قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} [القصص: 40] ومنه النبيذ للشيء المسكر، وسميَ نبيذاً، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً فينبذه في وعاء أو سقاء، ويتركه حتى يصير مسكراً، والمنبوذُ: ولد الزنى، لأنهُ يُنْبذُ على الطريق، قال أبو الأسود. وخبّرني من كنتُ أرسلتُ أنما ... أخذتَ كتابي معرضاً بشمالكا نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه ... كنبذكَ نعلاً أخْلقتْ من نعالكا وقال آخر: أنّ الذين أمرتهم أن يعدلوا ... نبذوا كتابك واستحلوا المحرما {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} : هذا مثل يضرب لمن استخفّ بالشيء وأعرض عنه جملة، تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه، قال تعالى: {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] وأنشد الفرّاء: تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ... بظهرٍ ولا يعيا عليك جوابها {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} : تشبيه لهم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل به ولا يهتم، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة. والمعنى: نبذوا كتاب الله وتركوا العمل به، على سبيل العناد والمابرة، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزّل على رسوله الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {واتبعوا} الضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قال الزمخشري: أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين. والمراد بالاتباع: التوغّلُ والإقبال على الشيء بالكليّة، وقيل: الاقتداء. {تَتْلُواْ} : بمعنى تلت مضارع بمعنى الماضي، فهو حكاية لحال ماضية، قال الشاعر: وانضحْ جوانبَ قبره بدمائها ... فلقد يكونُ أخا دمٍ وذبائحِ أي فلقد كان. وتتلو يعني: تُحدّث، وتروي، وتتكلم به من التلاوة بمعنى القراءة. قال الطبري: ولقول القائل «هو يتلو كذا» في كلام العرب معنيان: أحدهما: الاتباع كما تقول: «تلوت فلاناً» إذا مشيت خلقه وتبعت أثره. والآخر: القراءة والدراسة كما تقول: فلان يتلو القرآن بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال (حسان بن ثابت) : نبيّ يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد والمعنى: طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتّبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين وتحدّث وتروي بها في عهد سليمان. {الشياطين} : المتبادر من لفظ (الشياطين) أن المراد بهم مردة الجن، وبه قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بعض المفسرين وقال بعضهم: المراد بهم شياطين الإنس، والأرجح أن المراد بهم شياطين (الإنس والجن) كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} [الأنعام: 112] . {على مُلْكِ سليمان} : أي على عهد مكله وفي زمانه، فهو على حذف مضاف. قال المبرّد: «على» بمعنى «في» أي في عهد ملكه، كما أنّ «في» بمعنى «على» كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي على جذوع النخل. (سليمان) اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، واستعمله الحطيئة، اضطراراً فجعله بلفظ (سلاّم) حين قال: فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء محكمة من نسج سلاّم قال الألوسي: وسليمان اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره (هامان) و (ماهان) و (شامان) وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. {السحر} : في اللغة: كلّ ما لطف مأخذه ودقّ، قال الأزهري: وأصل السّحر صرفُ الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنّ الساحر لمّا أرى الباطل في سورة الحقّ، وخيّل الشيء على غير حقيقته، قد سحر الشيء عن وجهه اي صرفه. وقال الجوهري: والسّحر: الأُخْذةُ، وكلّ ما لُطف مأخذه، ودقّ فهو سحرٌ وسَحَره أيضاً بمعنى خدعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقال القرطبي: السّحر أصلُه التمويهُ بالحيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السّراب من بعيد فيخيّل إليه أنه ماء، وهو مشتق من سحرتُ الصبي إذا خدعته، قال لبيد: فإنْ تسألينا فيمَ نحن فإنّنا ... عصافيرُ من هذا الأنام المسحّر وقال امرؤ القيس: أُرانا مُوضعين لأمر غيبٍ ... ونُسحَرُ بالطعام وبالشراب عصافيرٌ وذبّانٌ ودودٌ ... وأجراً من مجلّحة الذئاب وقال الألوسي: السّحر في الأصل مصدر سَحَر يسَحْر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدّق ويخفى، وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق. وفي الحديث «إنّ من البيان لسحراً» . {فِتْنَةٌ} : الفتنةُ الاختبار والابتلاء، ومنه قولهم: فتنتُ الذهب في النار، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته. قال الأزهري: جِماعُ معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان، والاختبار، قال تعالى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] وقال تعالى {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] أي اختبرنا وابتلينا. قال الجصّاص: الفتنةُ: ما يظهر به حال الشيء في الخير والشر، تقول العرب: فتنتُ الذهب إذا عرضته على النار لتعرف سلامته أو غشّه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والاختبار كذلك أيضاً لأن الحال تظهر فتصير كالمخبرة عن حالها. {فَلاَ تَكْفُرْ} : أي بتعلم السّحر واستعماله، وفي الآية إشارة إلى أنّ تعلم السّحر كفرٌ. قال الزمخشري: {فَلاَ تَكْفُرْ} أي فلا تتعلم السّحر معتقداً أنه حق فتكفر. {بِإِذْنِ الله} : أي بإرادته ومشيئته، وفيه دليل على أن في السحر ضرراً مودعاً، إذا شاء الله تعالى حال بينه وبين المسحور، وإذا شاء خلاّه حتى يصيبه ما قدّره الله تعالى له، وهذا مذهب السلف في الأسباب والمسببات. {لَمَنِ اشتراه} : قال الألوسي: أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ وعلى المضارع، ودخولها على الماضي مع (قد) كثير، كقوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] . {خلاق} : الخلاقُ في اللغة بمعنى النصيب قال تعالى: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} [آل عمران: 77] ويأتي بمعنى القدر قال الشاعر: فما لكَ بيتٌ لدى الشامخات ... وما لك في غالب من خلاق قال الزّجاج: هو النصيب الوافر من الخير، وأكثر ما يستعمل في الخير، ويكون للشر على قلّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 {شَرَوْاْ} : أي باعوا أنفسهم به، يقال: شرى بمعنى اشترى، وشرى بمعنى باع من الأضداد، قال الشاعر: وشربتُ بُرْداً ليتني ... من بعد بُرْدٍ كنتُ هامة {لَمَثُوبَةٌ} : المثوبة: الثواب والجزاء، أي لثواب وجزاء عظيم من الله تعالى على إيمانهم وتقواهم. المعنى الإجمالي يخبر المولى جلّ ثناؤه أنّ أحبار اليهود وعلماءهم نبذوا كتابه الذي أنزله على عبده ورسوله (موسى) عليه السلام وهو التوراة، كما نبذ أحفادهم الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو القرآن، مع أنّ الرسول جاء مصدّقاً لما بين أيديهم من التوراة، فلا عجب أن يكون الأحفاد مثل الأجداد، في الاستكبار والعناد، فهؤلاء ورثوا عن أسلافهم البغي، والإفساد، والعناد. لقد نبذ أولئك كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله المنزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واتبعوا طرق السحر والشعوذة التي كانت تحدّثهم بها الشياطين في عهد ملك سليمان، وما كان (سليمان) عليه السلام ساحراً، ولا كفر بتعلمه السحر، ولكنّ الشياطين هم الذين وسوسوا إلى الإنس وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب، وعَلَّموهم السحر حتى فشا أمره بين الناس. وكما اتبّع رؤساء اليهود (السحر) و (الشعوذة) كذلك اتّبعوا ما أُنزل على الرجلين الصالحين، أو الملكَيْن: (هاروت) و (ماروت) بمملكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 بابل، فقد أنزلهما الله تعالى إلى الأرض، لتعليم السحر، ابتلاءً من الله للناس، وما يعلّمان السّحر من أجل السّحر، وإنّما من أجل إبطاله، ليُظْهرا للناس الفرق بين (المعجزة) و (السّحر) ، ولله أن يبتلي عباده بما شاء، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وقد كثر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السّحَرة أموراً غريبة وقع بسببها الشكّ في (النبوّة) ، فبعث الله تعالى المكلَين لتعليم أبواب السحر، حتى يزيلا الشّبَه، ويميطا الأذى عن الطريق. . ومع ذلك فقد كانا يحذّران الناس من تعلّم السحر واستخدامه في الأذى والضرر، وكانا إذا علَّما أحداً قالا له: إنما هذا امتحان من الله وابتلاء فلا تكفر بسببه واتّق الله فلا تستعمله في الإضرار، فمن تعلّمه ليتوقّى ضرره ويدفع أذاه عن الناس فقد نجا وثبت على الإيمان، ومن تعلّمه معتقداً صحته ليُلحق الأذى بالناس فقد ضلّ وكفر، فكان الناس فريقين: فريق تعلّمه عن نيّة صالحة ليدفع ضرره عن الناس، وفريق تعلّمه عن نيّة خبيثة ليفرّق به بين الرجل وأهله، وبين الصديق وصديقه، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهؤلاء قد خسروا دنياهم وآخرتهم، لأنهم عرفوا أنّ من تجرّد لهذه الأمور المؤذية، ما له في الآخرة من نصيب ولبئسما باعوا به أنفسهم لو كان عندهم فهم وإدراك. ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السحر آمنوا بالله، وخافوا عذابه، لأثابهم الله جزاء أعمالهم مثوبة أفضل ممّا شغلوا به أنفسهم، من هذه الأمور الضارّة التي لا تعود عليهم إلاّ بالويل والخسار والدمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 سبب النزول قال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللَّهُ: في سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن شيء من التوراة إلاّ أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية. والثاني: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن (ابن داود) كان نبيّاً؟ والله ما كان إلا ساحراً فنزلت هذه الآية {وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ ... } ذكره ابن إسحاق. وجوه القراءات أولاً: قوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} . قرأ الجمهور: (ولكنّ الشياطينَ) بتشديد نون (لكنّ) ونصب نون (الشياطين) وقرأ حمزة والكسائي: (ولكن الشياطينُ) بتخفيف النون من (لكن) ورفع نون (الشياطين) . ثانياً: قوله تعالى: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين} . قرأ الجمهور: (المَلَكَيْن) بفتح اللام والكاف مثنّى (مَلَك) وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير (الملِكَيْن) بكسر اللام مثنىّ (ملِك) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال ابن الجوزي: وقراءة الجمهور أصح. قال القرطبي: وحُكي عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ: {وما أُنْزل على الملِكَيْن} يعني به رجلين من بني آدم. ثالثاً: قوله تعالى: {هاروت وماروت} قرأ الجمهور بفتح التاء قرأ الحسن والزهري برفعهما على تقدير (هما هاروتُ وماروتُ) . وجوه الإعراب أولاً - قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} الواو للعطف، و {واتبعوا} معطوف على قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ} من عطف الجملة على الجملة، والضمير في {واتبعوا} لليهود، و {مَا} اسم موصول مفعول به و {تَتْلُواْ} صلة الموصول و {الشياطين} فاعل مرفوع وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبّع، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول، بخلاف نبذ كتاب الله فإنه مترتب على مجيء الرسول. ثانياً - قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين ... .} جملة {يُعَلِّمُونَ الناس السحر} في محل نصب على الحال من الضمير في {كَفَرُواْ} أي كفروا معلميّن الناس السحر، وقيل: هو بدل من {كَفَرُواْ} لأن تعليم السحر كفر في المعنى و {مَآ أُنْزِلَ} اسم الموصول {مَا} معطوف على {مَا تَتْلُواْ} فهو في موضع نصب، والمعنى: اتبعوا ما تتلوه الشياطين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 واتبعوا ما أُنزل على الملكين، وقيل: {مَآ أُنْزِلَ} ما: نافية أي لم ينزل على الملكين، قال ابن الأنباري: وهذا الوجه ضعيف جداً، لأنه خلاف الظاهر والمعنى، فكان غيره أولى. ثالثاً: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق} . اللام في {لَمَنِ اشتراه} لام الابتداء، و (مَنْ) بمعنى الذي في موضع رفع لأنه مبتدأ، وخبره جملة {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق} و {مِنْ} في قوله: {مِنْ خلاق} زائدة لتأكيد النفي، وتقديره: ما له في الآخرة خلاق. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: تضمنت هذه الآيات الكريمة ما كان عليه اليهود من الخبث وفساد النيّة، والسعي للإضرار بعباد الله، فالسّحر لم يُعرف إلاّ عند اليهود، فتاريخه مشتهر بظهورهم، فهم الذين نبذوا كتاب الله وسلكوا طريق السحر، وعملوا على إفساد عقول الناس وعقائدهم بطريق السحر، والشعوذة، والتضليل، وهذا يدل على أنّ اليهود أصل كل شرّ، ومصدر كلّ فتنة وقد صوّر القرآن الكريم نفسيّة اليهود بهذا التصوير الدقيق {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} [المائدة: 64] . اللطيفة الثانية: قال أبو حيان: كما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمّن الوعيد في قوله تعالى: {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وقوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون} [البقرة: 99] وذكر نبذ العهود من اليهود، ونبذ كتاب الله، واتباع الشاطين، وتعلم ما يضر ولا ينفع، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد، والترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء، وإخبار بمغيّب يعد مغيّب، متناسقةٌ تناسق اللآلئ في عقودها، متضمنة اتضاح الدّراري في مطالع سعودها، معلمة صدق من أتى بها، وهو ما قرأ الكتب ولا دارس، ولا رحل، ولا عاشر الأحبار ولا مارس {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] صلى الله وسلّم عليه، وأوصل أزكى تحية إليه. اللطيفة الثالثة: قَوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} التعبيرُ بالنبذ وراء الظهور، فيه زيادة تشنيع وتقبيح على اليهود، حيث تركوا العمل بكتاب الله، وأعرضوا عنه بالكلّية، شأن المستخف بالشيء، المستهزئ به، وتمسكوا بأساطير من فنون السحر والشعوذة. يقول سيّد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ: «والذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والمقصودُ طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به، ولكنّ التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن، إلى دائرة الحسن، ويمثّل عملهم بحركةٍ مادية متخيّلة، تصوّر هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً، ينضح بالكنود والجحود، ويتسّم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة، ويدع الخيال يتملّى هذه الحركة العنيفة، حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور» . اللطيفة الرابعة: وجه المقارنة بين ذكر {الشياطين} و {السحر} في الآية الكريمة، هو أنّ السحر فيه استعانة بأرواح خبيثةٍ شرّيرة من الجن، والشياطينُ تزعم أنها تعلم الغيب وتوهم الناس بذلك، وقد كان بعض الناس يصدّقونهم فيما يزعمون، ويلجأون إليهم عند الكرب كما قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] ولهذا اشتهر السّحر عن طريق الاتصال بهذه الأرواح الخبيثة. أخرج ابن جرير والحاكم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «إنّ الشياطين كانوا يسترقون السّمع من السّماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة، كذب عليها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك» سليمان بن داود «فأخذها وقذفها تحت الكرسي، فلمّا مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحدٍ مثل كنزه الممنّع؟ قالوا: نعم فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر» . اللطيفة الخامسة: عبّر القرآن الكريم عن (السحر) ب (الكفر) في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سليمان} وسياقُ اللفظ يدل على أن المراد منه السحر أي: وما سحر سليمان وإنما عبّر عنه بالكفر تقبيحاً وتشنيعاً، كما قال تعالى فيمن ترك الحجّ مع القدرة عليه {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97] . وفي هذا التعبير تنفير للناس من السحر، ودلالة على أنه من الكبائر الموبقات، بل هو قرين الكفر والإشراك بالله، وقد دلّ عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} . اللطيفة السادسة: روي أنّ رجلاً تكلّم بكلام بليغ عند (عمر بن عبد العزيز) فقال عمر: هذا والله السّحر الحلال. ورُوي «أنّ (الزبرقان بن بدر) و (عَمْر بن الأهتم) و (قيس بن عاصم) قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لعَمْرو: خبّرني عن الزبرقان؟ فقال: مُطاع في ناديه، شديد العارضة، مانعٌ لما وراء ظهره. . فقال الزبرقان: هو والله يعلمُ أني أفضلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 منه، فقال عمرو: إنه زمر المروءة، ضيّق العَطَن، أحمقُ الأب، لئيم الخال. . ثم قال: يا رسول الله، صدقتُ فيهما، أرضاني أحسن ما علمتُ، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فقال عليه السلام:» إن من البيان لسحراً «» . ورُوي أن رجلين قدما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنّ من البيان لسحراً» فإن قيل: كيف سمّى عليه السلام روحة البيان سحراً مع أنّ السحر مذموم عقلاً ونقلاً؟ { فالجواب: أنّ هذا على (المجاز) لا على (الحقيقة) فالخطيب يستميل القلوب بحسن بيانه وروعة أدائه، وجمال تعبيره، كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إليه بخفته ورشاقته وتمويهه على الحاضرين، فمن هذا الوجه سمّي البيان سحراً. اللطيفة السابعة: فإن قيل: كيف كان الملكان يعلّمان الناس السحر مع أنه حرام، ومعتقده كافر؟} فالجواب: أنهما ما كانا يعلمان الناس السّحر للعمل به، وإنما للتخلُّص من ضرره، والاحتراز منه، لأن تعريف الشر للزجر عنه حسن وقد قيل: عرفتُ الشرّ لا للشرّ ... لكن لتوقّيه ومن لا يعرف الشرّ ... من الناس يقع فيه وقد قيل لعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إنّ فلاناً لا يعرف الشر، قال: أجدر أن يقع فيه. والصحيح كما قال الألوسي: أن ذلك كان للابتلاء والتمييز بين (المعجزة) و (السحر) والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل للسّحر حقيقة وتأثير في الواقع؟ اختلف العلماء في أمر (السحر) هل له حقيقة أم هو شعوذة وتخييل؟ فذهب جمهور العلماء: من أهل السنة والجماعة إلى أن السحر له حقيقة وتأثير. وذهب المعتزلة وبعض أهل السُنّة: إلى أنّ السحر ليس له حقيقة في الواقع وإنما هو خداع، وتمويه، وتضليل، وأنه باب من أبواب الشعوذة، وهو عندهم على ضروب. ضروب السحر أولاً: التخييل والخداع: وذلك كما يفعله بعض المشعوذين، حيث يريك أنه ذبح عصفوراً، ثم يريك العصفور بعد ذبحه قد طار، وذلك لخفة حركته، والمذبوحُ غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان، قد خبأ أحدهما وهو المذبوح وأظهر الآخر. قالوا: وقد كان سحر سحرة فرعون من هذا النوع، فقد كانت العصيّ مجوَّفة، قد ملئت زئبقاً، وكذلك الحبال كانت من أدم (جلد) محشوّة زئبقاً، وقد حفروا تحت المواضع أسراباً وملؤها ناراً، فلمّا طرحت عليها الحبال والعصيّ وحمى الزئبق تحركت، لأنّ من شأن الزئبق إذا أصابته الحرارة أن يتمدّد، فتخيّل الناس أنّ هذه الحبال والعصي تتحرك وتسير. ثانياً: الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ وذلك كما يفعله بعض العَرّافين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 والكُهان حيث يوكلون أناساً بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، ويزعمون أنها من حديث الجنّ والشياطين لهم، وأنهم يتصلون بهم ويطيعونهم بواسطة الرّقي، والعزائم، وأن الشياطين تخبرهم بالمغيبات فيصدقهم الناس، وما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أعدّوهم لذلك. قال الجصاص: كانت أكثر مخاريق الحلاّج بالمواطأة، فكان يتفق مع جماعة فيضعون له خبزاً ولحماً وفاكهة في مواضع يعيّنها لهم، ثمّ يمشي مع أصحابه في البرية، ثم يأمر بحفر هذه المواضع، فيخرج ما خبئ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدّونها من الكرامات. ثالثاً: وضربٌ آخر من السّحر عن طريق النميمة، والوشاية، والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة، وذلك عام شائع في كثير من الناس. . وقد حُكي أنّ امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين، فجاءت إلى الزوجة فقالت لها: إنّ زوجك معرضٌ عنك، وهو يريد أن يتزوج عليك، وسأسحره لك حتى لا يرغب عنك، ولا يريد سواك، ولكن لا بد أن تأخذي من شعر حلقه بالموسى ثلاث شعرات إذا نام وتعطينيها حتّى يتم سحره، فاغترت المرأة بقولها وصدقتها، ثمّ ذهبت إلى الرجل وقالت له: إن امرأتك قد أحبّت رجلاً وقد عزمت على أن تذبحك بالموسى عند النوم لتتخلص منك، وقد أشفقت عليك ولزمني نصحك، فتيقّظ لها هذه الليلة وتظاهر بالنوم فستعرف صدق كلامي، فلما جاء الليل تناوم الرجل في بيته فجاءت زوجته بالموسى لتحلق بعض شعرات من حلقه، ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت بالموسى إلى حلقه، فلم يشكّ في أنها أرادت قتله فقام إليها فقتلها، فبلغ الخبر إلى أهلها فجاءوا فقتلوه، وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة. رابعاً: وضرب آخر من السحر وهو الاحتيال وذلك بإطعام الإنسان بعض الأدوية المؤثرة في العقل، أو إعطائه بعض الأغذية التي لها تأثير على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الفكر والذكاء، كإطعامه (دماغ الحمار) الذي إذا أطعمه إنسان تبلّد عقله، وقلّت فطنته مع أدوية أخرى معروفة في كتب الطب، فإذا أكله الإنسان تصرّف تصرفاً غير سليم فيقول الناس: به مسّ أو أنه مسحور. فأنت ترى أنهم يُرجعون السحر إمّا إلى تمويه وتخييل، وإمّا إلى مواطأة، وإمّا إلى سعي ونميمة، وإمّا إلى احتيال، ولا يرون الساحر يقدر على شيء ممّا يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام، ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن اليسير. قال أبو بكر الجصاص: وحكمةٌ كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل، لا حقيقة لما يدّعون لها أنّ الساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضرر، وأمكنهما الطيران، والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية، والخبيثات والسّرَق، والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا، لقدروا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك بحيث لا ينالهم مكروه، ولا ستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس. فإذا لم يكن كذلك، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالاً، وأكثرهم طمعاً واحتيالاً، وتوصلاً لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقراً وإملاقاً علمتَ أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك «. أدلة المعزلة: استدل المعتزلة على أن السحر ليس له حقيقة بعدة أدلة نوجزها: أ - قوله تعالى: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} [الأعراف: 116] . ب - قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] . ج - قوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} [طه: 69] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فالآية الأولى: تدل على أن السحر إنما كان للأعين فحسب، والثانية: تؤكد أنَّ هذا السحر كان تخييلاً لا حقيقة، والثالثة: تثبت أن الساحر لا يمكن أن يكون على حق لنفي الفلاح عنه. د - وقالوا: لو قدر الساحر أن يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، أو يقلب التراب إلى ذهب على الحقيقة، لبطل التصديق بمعجزات الأنبياء، والتبس الحق بالباطل، فلم يعد يعرف (النبي) من (الساحر) لأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء، وفعل السحرة، وأنه جميعه من نوع واحد. أدلة الجمهور: واستدل الجمهور من العلماء على أنّ السحر له حقيقة وله تأثير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي: أ - قوله تعالى: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 166] . ب - قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] . ج - قوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] . د - قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} [الفلق: 4] . فالآية الأولى دلّت على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله تعالى: {وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 166] والآية الثانية أثبتت أن السحر كان حقيقياً حيث أمكنهم بواسطته أن يفرّقوا بين الرجل وزوجه، وأن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين فدلت على أثره وحقيقته، والآية الثالثة أثبتت الضرر للسحر، ولكنّه متعلق بمشيئة الله، والآية الرابعة تدل على عظيم أثر السحر حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شرّ السّحرة الذين ينفثون في العقد. هـ - واستدلوا بما روي «أن يهودياً سحر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاشتكى لذلك أياماً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فأتاه جبريل فقال: إنّ رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، فأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستخرجها فحلّها، فقام كأنّما نَشِطَ من عقال» . الترجيح: ومن استعراض الأدلة نرى أنّ ما ذهب إليه الجمهور أقوى دليلاً فإن السحر له حقيقة وله تأثير على النفس، فإن إلقاء البغضاء بين الزوجين، والتفريق بين المرء وأهله الذي أثبته القرآن الكريم ليس إلا أثراً من آثار السحر، ولو لم يكن للسحر تأثير لما أمر القرآن بالتعوذ من شرّ النفاثات في العقد، ولكنْ كثيراً ما يكون هذا السحر بالاستعانة بأرواح شيطانية فنحن نقر بأنّ له أثراً وضرراً ولكنّ أثره وضرره لا يصل إلى الشخص إلاّ بإذن الله، فهو سبب من الأسباب الظاهرة، التي تتوقف على مشيئة مسبّب الأسباب، ربّ العالمين جل وعلا. وأما استدلالهم: بأنه يلتبس الأمر بين (المعجزة) و (السحر) إذا أثبتنا للسّحر حقيقة فنقول: إنّ الفرق بينهما واضح فإنّ معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وظاهرُها كباطنها، وكّلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، وأما السّحر فظاهره غير باطنه، وصورته غير حقيقته، يعرف ذلك بالتأمل والبحث، ولهذا أثبت القرآن الكريم للسحرة أنهم استرهبوا الناس وجاءوا بسحرٍ عظيم، مع إثباته أَنّ ما جاءوا به إنما كان عن طريق التمويه والتخييل. قال العلامة القرطبي: «لا ينكر أحدٌ أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، بما ليس في مقدور البشر، من مرضٍ، وتفريق، وزوال عقل، وتعويج عضو، إلى غير ذلك ممّا قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات البشر. قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدقّ جسم الساحر حتى يلج في الكُوّات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والخوخات، والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب وغير ذلك، ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك، ولا علةً لوقوعه، ولا سبباً مولوداً، ولا يكون الساحر مستقلاً به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والرّيّ عند شرب الماء. ثم قال: قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده من إنزال الجراد، والقمل، والضفادع وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. وقال أبو حيان: واختلف في حقيقة السحر على أقوال: الأول: أنه قلب الأعيان واختراعها بما يشبه المعجزات والكرامات كالطيران، وقطع المسافات في ليلة. الثاني: أنه خدع وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها وهو قول المعتزلة. الثالث: أنه أمرٌ يأخذ بالعين على جهة الحيلة، كما كان فعل سحرة فرعون حيث كانت حبالهم وعصيّهم مملوءة زئبقاً، فجّروا تحتها ناراً فحميت الحبال والعصي فتحرّكت وسعت. الرابع: أنه نوع من خدمة الجن والاستعانة بهم، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف فلطف ودق وخفي. الخامس: أنه مركب من أجسام تُجمع وتحرق، ويتلى عليها أسماء وعزائم، ثم تستعمل في أمور السحر. السادس: أن أصله طلسمات تبنى على تأثير خصائص الكواكب، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 استخدام الشياطين لتسهيل ما عسُر. السابع: أنه مركّب من كلمات ممزوجة بكفر، وقد ضمّ إليها أنواع من الشعبذة، والنازنجيات، والعزائم، وما يجري مجرى ذلك. ثم قال: وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء، ولا يترتب عليه شيء، ولا يصح منه شيء البتة، وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها. الحكم الثاني: هل يباح تعلّم السحر وتعليمه؟ ذهب بعض العلماء: إلى أن تعلُّم السحر مباح، بدليل تعليم الملائكة السحر للناس كما حكاه القرآن الكريم عنهم، وإلى هذا الرأي ذهب (الفخر الرازي) من علماء أهل السنة. وذهب الجمهور: إلى حرمة تعلم السحر، أو تعليمه، لأنّ القرآن الكريم قد ذكره في معرض الذمّ، وبيّن أنه كفر فكيف يكون حلالاً؟ كما أن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عدّه من الكبائر الموبقات كما في الحديث الصحيح وهو قوله صلوات الله عليه: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا وما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . قال الألوسي: «وقيل إنّ تعلمه مباح، وإليه مال الإمام الرازي قائلاً: اتفق المحقّقون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ولو لم يُعْرف السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، فكيف يكون تعلمه حراماً وقبيحاً؟ ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به، فيفتي به في وجوب القصاص» . انتهى. ثم قال الألوسي: «والحق عندي الحرمة تبعاً للجمهور، إلاّ لداعٍ شرعي، وفيما قاله الإمام الرازي رَحِمَهُ اللَّهُ نظر: أمّا أولاً: فلأنا لا ندّعي أنه قبيح لذاته، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه، فتحريمه من باب (سد الذرائع) وكم من أمرٍ حَرُم لذلك. وأمّا ثانياً: فلأنّ توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوعٌ، ألا ترى أن أكثر العلماء - أو كلّهم - عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر، ولو كان تعلمه واجباً لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول. وأما ثالثاً: فلأن ما نُقل عن بعضهم غير صحيح، لأنّ إفتاء المفتي بوجوب القَوَد أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر، لأن صورة إفتائه - على ما ذكره العلامة ابن حجر - إنْ شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالباً قُتل الساحر، وإلاّ لم يُقتل. وقال أبو حيان: وأما حكم السحر، فما كان منه يُعظّم به غير الله من الكواكب، والشياطين، وإضافة ما يُحدثه الله إليها فهو كفر إجماعاً، لا يحلّ تعلمه ولا العمل به، وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء. وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه، ولا العمل به، وما كان من نوع التخييل، والدّجل، والشعبذة فلا ينبغي تعلمه لأنه من باب الباطل، وإن قصد به اللهو واللعب وتفريج الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 على خفة صنعته فيكره. الحكم الثالث: هل يُقتل الساحر؟ قال أبو بكر الجصاص: اتفق السلف على وجوب قتل الساحر، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد» . واختلف فقهاء الأمصار في حكمه: فروي عن أبي حنيفة أنه قال: الساحرُ يُقتل إذا عُلم أنه ساحر ولا يستتاب، ولا يقبل قوله إني أترك السحر منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه، وكذلك العبد المسلم، والحر الذميّ من أقر منهم أنه ساحر فقد حلّ دمه، وهذا كله قول أبي حنيفة. قال ابن شجاع: فحَكَمَ في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة، وقال - نقلاً عن أبي حنيفة - إنّ الساحر قد جمع مع كفره السعيَ في الأرض بالفساد، والساعي بالفساد إذا قتَلَ قُتل. وروي عن مالك في المسلم إذا تولّى عمل السحر قتل ولا يستتاب، لأنّ المسلم إذا ارتد باطناً لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك إلاّ أن يضر المسلمين فيقتل. وقال الشافعي: لا يكفر بسحره، فإن قتَل بسحره وقال: سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك قتل قوداً، وإن قال: قد يقتل، وقد يخطئ لم يُقتل وفيه الدية. وقال الإمام أحمد: يكفر بسحره قتل به أو لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يُقتل إلا أن يضر بالمسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والخلاصة: فإنّ أبا حنيفة يذهب إلى كفر الساحر، ويبيح قتله ولا يستتاب عنده، والساحر الكتابي حكمه كالساحر المسلم. والشافعي يقول: بعدم كفره ولا يقتل عنده إلا إذا تعمّد القتل. ومالك يرى قتل الساحر المسلم لا ساحر أهل الكتاب ويحكم بكفر الساحر ولكلٍ وجهه هو مولّيها. . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - التوراة كتاب الله الذي أنزله على موسى عليه السلام والقرآن مصدّق للتوراة. 2 - نبذ اليهود (التوراة) ولم يعملوا بما فيها كما نبذ أخلافهم القرآن الكريم. 3 - سليمان عليه السلام كان نبياً ملكاً. ولم يكن ساحراً محترفاً للسحر. 4 - الشياطين زينوا للناس السحر، وأوهموهم أنهم يعلمون الغيب. 5 - السحر له حقيقة وتأثير على النفس، حتى يستطيع الشخص بواسطته أن يفرق بين الرجل وأهله. 6 - الله جل ثناؤه يختبر عباده بما شاء من الأمور ابتلاءً وتمحيصاً. 7 - من تبدل السحر بكتاب الله فليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله. 8 - مدار الثواب والجزاء في الآخرة هو الإيمان بالله تعالى وإخلاص العمل له. الحديث: 3 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 خاتمة البحث: حكمة التشريع لقد حرص الإسلام في كل تشريعاته على سلامة العقيدة في قلب المسلم. ليكون دائماً وأبداً متصلاً بالله، معتمداً عليه، مقراً له بالربوبية، مستعيناً به على شدائد هذه الحياة، لا يتوجه لغيره في دعاء، ولا يقر لسواه بأي تأثير، أو تحكم في قانون من قوانين الطبيعة التي خلقها الله تعالى، وسيَّرها بعلمه، وقدرته، وإرادته. فالنجوم، والكواكب مسخرات بأمره - كغيرها من خلق الله - تسير وفق الخط المرسوم لها من الأزل، لا تؤثر حركتها على الإنسان الذي خلقه الله تعالى على هذه الأرض وقدّر له أرزاقه، وأعماره، فلا ينتهي عمر إنسان ما بظهور كوكب، أو اختفائه، ولا يزيد رزق امرئ، ولا ينقص عما قدره الله تعالى له، فكل شأن من شؤون الحياة مدبر بأمر الله. فإن زعم إنسان أنه يعلم الغيب باتصاله بالكواكب، وتعظيمه لها. أو اتصاله بالجن والشياطين، ويستطيع بذلك أن يؤثر في قوانين هذه الحياة ويحكم في مسيرتها الطبيعية بما يخرجها عمّا رسم لها، يكون بذلك قد خالف شرعة الله التي أوضحها في كتابه، وتجاوز الحدود التي وضعت له، وخرج عن قانون الحنيفية السمحة، فلا جرم أن يحكم عليه بالكفر لتعظيمه غير الله، واستعانته بغير الخالق وإثباته التأثير في خلق الله لغير البارئ - والأذى بالناس، وقد يصل بذلك إلى التفريق بين المرء وزوجه، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بإذن الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وإذا كان السحر كفراً، وخروجاً عن شرعة الإسلام، فلا يمكن أن يوصف أحد من رسل الله تعالى بأنه ساحر، أو أنه كان يحكم بالسحر، ويأتي بالخوارق والمعجزات بهذا الأمر، ولهذا جاء القرآن كتاب الله المبين منزهاً سليمان بن داود عليه السلام عن أن يكون ساحراً، أو حاكماً بالسحر، أو آمراً به، فما زعمته بنو إسرائيل عن النبي الكريم - سليمان عليه السلام - زعم كاذب، وقول باطل، يدل على جهلهم، بل على ضلالهم عن سواء السبيل، وبعدهم عن الصراط المستقيم، فهم لم يعرفوا الله حق معرفته، ولم يعلموا ما يجب في حق الرسل - عليهم السلام - وما يستحيل، فالرسل الكرام منزهون عن الاستعانة بالشياطين، وإنما كان الجن مسخرين لسليمان عليه السلام بأمر الله تعالى لا بالسحر. هذا هو شرع الله المتين، تنزيهٌ لله عن أن يشركه أحد من خلقه في التأثير، وتنزيهٌ لرسله الكرام عما يبعدهم عن سواء السبيل، وبيانٌ للمسلم عما يجب أن يعتقده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 [2] النسخ في القرآن التحليل اللفظي {نَنسَخْ} : النسخُ يأتي بمعنى (الإزالة) تقول العرب: نسخت الشمسُ الظلّ أي أزالته، ومنه قوله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} [الحج: 52] أي يزيل ما يلقيه الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ويأتي بمعنى (النقل) من موضع، ومنه قولهم: نسختُ الكتاب أي نقلت ما فيه من مكان إلى مكان أي نقلته إلى كتاب آخر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] . ويأتي بمعنى (التبديل) تقول: نسخَ القاضي الحكم أي بدّله وغيّره، ونسخ الشارع السورة أو الآية أي بدّلها بآية أخرى، وإليه يشير قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] ويأتي بمعنى (التحويل) كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد، هذا من حيث اللغة. وأما في الشرع: فهو انتهاء الحكم المستنبط من الآية وتبديله بحكم آخر، وقد عرّفه الفقهاء والأصوليون بتعريفات كثيرة نختار منها أجمعها وأخصرها، وهو ما اختاره ابن الحاجب حيث قال رَحِمَهُ اللَّهُ. «النسخ: هو رفع الحكم الشرعي، بدليل شرعيّ متأخر» . {نُنسِهَا} : نُنسها من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب، فالنسيان بمعنى الذهاب من الذاكرة وهو مروي عن قتادة. وقيل: من النسيان بمعنى الترك على حدّ قوله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أي تركوا أمره فتركهم في العذاب. ومنه قوله تعالى: {قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126] وهو مروي عن ابن عباس. قال ابن عباس: أي نتركها فلا نبدّلها ولا ننسخها. وحكى الأزهري: نُنْسها: أي نأمرُ بتركها، يقال: أنسيتُه الشيء أي أمرتُ بتركه، ونسيتُه تركته، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إنّ عليّ عُقْبَة أقضيها ... لستُ بناسِيْها ولا مُنْسِيها وأما قراءة (نَنْسَأها) بالهمز، فهو من النسأ بمعنى التأخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} [التوبة: 37] ومنه سمي بيع الأجل نسيئة. وقال أهل اللغة: أنسأ الله أجله، ونسأ في أجله، أي أخرّ وزاد. قال الألوسي: «وقرئ (ننسأها) وأصلها من نسأ بمعنى أخّر، والمعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها، أو نُبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها، وهو معنى (نُنْسها) فتتحّد القراءتان» . {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} : أي بأفضل منها، ومعنى فضلها: سهولتها وخفتها. والمعنى: نأت بشيء هو خير للعباد منها، أو أنفع لهم في العاجل والآجل. قال القرطبي: لفظة «خير» هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية. {وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} : الوليّ معناه القريب والصديق، مأخوذ من قولهم: وليتُ أمر فلان أي قمتُ به، ومنه وليّ العهد: أي القيّم بما عهد إليه من أمر المسلمين. والنصيرُ: المعين مأخوذ من قولهم: نصره إذا أعانه. قال الإمام الفخر: وأمّا الولي والنصير فكلاهما (فعيل) بمعنى (فاعل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 على وجه المبالغة. والمعنى: ليس لكم ناصر يمنعكم من العذاب. {أَمْ تُرِيدُونَ} : «أم» تأتي: متصلة، ومنقطعة، فالمتصلة هي التي تقدمها همزة استفهام كقوله تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] وأما المنقطعة فهي بمعنى (بل) كقول العرب (إنها الإبل أم شاء) كأنه قال: بل هي شاء، ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [السجدة: 3] أي بل يقولون. ومثله قول الأخطل: كذبتكَ عينكَ أم رأيت بواسطٍ ... غلسَ الظَّلام من الربَابِ خيَالاً قال القرطبي: «هذه (أم) المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل أتريدون ومعنى الكلام التوبيخ» . {يَتَبَدَّلِ الكفر} : يقال: بدّل، تبدّل، واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر، والمراد اختيار الكفر بدل الإيمان كما قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [البقرة: 175] . {سَوَآءَ السبيل} : السواءُ من كل شيء: الوسطُ، ومنه قوله تعالى: {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] أي وسط الجحيم. والسبيلُ في اللغة: الطريقُ، والمراد به طريق الاستقامة. ومعنى الآية: من يختر الكفر والجحود بالله ويفضله على الإيمان، فقد حاد عن الحق، وعدل عن طريق الاستقامة، ووقع في مهاوي الردي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وجه الارتباط بالآيات السابقة بعد أن بيّن سبحانه وتعالى حقيقة الوحي، ورق على المكذّبين به والكارهين له جملةً وتفصيلاً، ذكر هنا سرَّ النسخ، وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يكون فيه من المصلحة للعباد، ثمّ ينهى عنه لما يرى فيه من الخير لهم، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبّدهم بها، وشرعها لهم، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة والأشخاص، فينبغي تسليم الأمر لله، وعدم الاعتراض عليه، لأنه هو الحكيم العليم. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} : أي ما نبدّل من حكم آية فنغيّره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير لكم منها - أيها المؤمنون - في العاجل أو الآجل إمّا برفع مشقة عنكم، أو بزيادة الأجر لكم والثواب، أو بمثلها في الفائدة للعباد، ألم تعلموا أيها الناس أن الله عليم، حكيم، قدير، لا يصدر منه إلا كل خير وإحسان، وأنه - جل وعلا - شرع هذه الملة الحنيفية السمحة، ليرفع عن عباده الأغلال والآصار؟! فلا تظنّوا أنّ تبديله للأحكام لعجزٍ في القدرة، أو جهل في المصلحة، وإنما تغييرها يرجع إلى منفعة العباد، فهو المالك المتصرف في شؤون الخلق، يحكم بما شاء، ويأمر بما شاء، ويبدّل وينسخ الأحكام حسب ما يريد، وما لكم أيها الناس سوى وليّ يرعى شؤونكم، أو ناصر ينصركم، فلا تثقوا بغيره، ولا تعتمدوا إلا عليه، فهو نعم الناصر والمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أتريدون - أيها المؤمنون - أن تسألوا رسولكم، نظير ما سأل قوم موسى من قبل؟ {فتضلّوا كما ضلّوا، ويكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا نبيّهم تعنتاً واستكباراً فقالوا: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] وطلبوا منه ما لا يسوغ طلبه حيث قالوا: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فهل يليق بكم أن تتعنتوا مع نبيكم، وتقترحوا عليه ما تشتهون، فتصبحوا كاليهود الضالين؟} ومن يستبدل الكفر بالإيمان، والضلالة بالهدى، فقد حاد عن الجادة، وعدل عن طريق الاستقامة، وتردّى في مهاوي الهلاك، وخسر نفسه حيث عرّضها لعذاب الله الأليم. سبب النزول أ - روي أن اليهود قالوا: ألا تعجبون لأمر محمداً؟ يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضاً فنزلت {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ... } الآية. ب - روي الفخر الرازي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رهط من قريش فقالوا يا محمد: والله لا نؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لك جنة من نخيل وعنب، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً من الله أنك رسوله فأنزل الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ ... } [البقرة: 108] . ج - وروي عن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يجعل لهم الصفا ذهباً فقال: نعم، وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا فأنزل الله {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ ... } . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} بفتح النون من نسخ الثلاثي، وقرأ ابن عامر (نُنْسخ) بضم النون وكسر السين من أنسخ الرباعي. قال الطبرسي:» لا يخلو من أن يكون (أَفْعل) لغة في (فَعَل) نحو بدأ وأبدأ، وحلّ من إحرامه وأحلّ، أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته، والوجه الصحيح هو الأول وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ، وقول من فتح النون (نَنْسخ) أبينُ وأوضح. 2 - قرأ الجمهور (نُنْسِها) بضم النون الأولى وكسر السين من النسيان الذي هو ضد الذكر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (نَنْسأها) بفتح النون والسين وإثبات الهمزة من النسأ وهو التأخير من قولهم: نسأتُ الإبل عن الحوض إذا أخرتها، ومنه قولهم: أنسأ الله أجلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وجوه الأعراب 1 - قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} . قال ابن قتيبة: أراد أو (نُنْسكها) من النسيان. (ما) شرطية جازمة و (ننسخ) مجزوم لأنه فعل الشرط، و (مِنْ) صلة تأدباً، و (آية) مفعول ل (ننسخ) والمعنى: ما ننسخ آية قال ابن مالك: وزيدَ في نفي وشبهِهِ فجَرّ ... نكرةً كما لباغٍ من مفر و (نُنسها) معطوف على (ننسخ) والمعطوف على المجزوم مجزوم، و (نأت) جواب الشرط حذف منه حرف العلة، و (بخيرٍ) جار مجرور متعلق بنأت. قال العكبري: ومن قرأ بضم النون (نُنْسها) حمله على معنى نأمرك بتركها وفيه مفعول محذوف والتقدير: نُنْسكها. 2 - قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] والخطابُ للنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وقوله تعالى: {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} سادّ مسدّ مفعولي (تعلم) عند الجمهور، ومحل المفعول الأول عند الأخفش، والمفعول الثاني محذوف. 3 - قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قَبْلُ} أم منقطعة للإضراب ومعناها (بل) والتقدير: بل أتريدون، {كَمَا سُئِلَ} الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي سؤالاً كسؤال، و (ما) مصدرية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ذكر الله تعالى النسخ في القرآن، وبيّن حكمته، وهو الإتيان بما هو خير للعباد، والخيرية تحتمل وجهين: الأول: ما هو أخف على البشر من الأحكام. الثاني: ما هو أصلح للناس من أمور الدنيا والدين. قال القرطبي: والثاني أولى لأنه سبحانه يصرّف المكلّف على مصالحه، لا على ما هو أخف على طباعه، فقد ينسخ الحكم إلى ما هو أشد وأثقل، كنسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وذلك لخير العباد، لأنه يكون أكثر ثواباً، وأعظم جزاءً، فتبيّن أنّ المراد بالخيرية ما هو أصلح للعبد. اللطيفة الثانية: أنكر بعض العلماء أن تحمل الآية (أو نُنْسها) على النسيان ضد الذكر، لأنّ لم يكن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث تكفّل الله جلت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] ، فهذه الآية تعارض التفسير السابق الذي ذهب إليه المفسّرون. والجواب كما قال ابن عطية: أن هذا النسيان من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أراد الله أن ينساه جائز شرعاً وعقلاً، وأمّا النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده حتى يحفظه بعض الصحابة، ومن هذا ما روي «أن النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسقط آية في الصلاة، فلما فرغ منها قال: أفي القوم أُبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلِمَ لم تذكرني؟ قال: خشيت أن تكون قد رفعت، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لم ترفع ولكني نسيتها» . اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} المراد بالخيرية هنا الأفضلية يعني في (السهولة والخفة) وليس المراد الأفضلية في (التلاوة والنظم) لأن كلام الله تعالى لا يتفاضل بعضه عن بعض، إذ كلّه معجز وهو كلام ربّ العالمين. قال القرطبي: «لفظة (خير) هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كان مستوية، وليس المراد ب (أخير) التفضيل، لأن كلام الله لا يتفاضل وإنما هو مثل قوله: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل: 89] أي فله منها خير أي نفع وأجر «. وقال أبو بكر الجصاص:» (بخيرٍ منها) في التسهيل والتيسير كما روي عن ابن عباس وقتادة، ولم يقل أحد من العلماء خير منها في التلاوة، إذ غير جائز أن يقال: إنّ بعض القرآن خير من بعض في معنى التلاوة والنظم، إذ جميعه معجز كلام الله «. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؟ الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته بدليل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أو المراد هو وأمته وإنمّا أفرد عليه السلام لكونه إمامهم، وقدوتهم، كقوله تعالى: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فتخاطب الأمة في شخص نبيّها الكريم باعتباره الإمام والقائد. ووضعُ الاسم الجليل موضع الضمير (أنّ الله) و (من دون الله) لتربية الروعة والمهابة في نفوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المؤمنين، والإشعار بأن شمول القدرة من مظاهر الألوهية والعظمة الربانية، وكذا الحال في قوله جل وعلا {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} . قال العلامة أبو السعود: والمعنى: ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً، وأمراً ونهياً، حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقّب لحكمه. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} معنى {دُونِ الله} أي سوى الله كما قال أمية بن أبي الصلت: يا نفسُ مالكِ دونَ اللهِ من واق ... وما على حدثان الدهر من باق قال في» الفتوحات الإلهية «:» وقوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أتى بصيغة فعيل في {وَلِيٍّ} و {نَصِيرٍ} لأنها أبلغ من فاعل والفرقُ بين الولي والنصير، أن الوليّ قد يضعف عن النّصرة، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور، فبينهما عموم وخصوص من وجه «. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} السّواء: هو الوسط من كل شيء، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الطريق المستوي يعني المعتدل، ومعنى (ضل) أي أخطأ، وفي هذا التعبير نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل النسخ جائز في الشرائع السماوية؟ قال الإمام الفخر: النسخ عندنا جائز عقلاً، واقع سمعاً، خلافاً لليهود، فإنّ منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوّزه عقلاً، لكنْ منع منه سمعاً، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ. واحتج الجمهور: من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه، أنّ الدلائل دلت على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونبوّتُه لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القطع بالنسخ. وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة، وفي نفس شريعة اليهود، فإنه جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه، وقد حرم ذلك باتفاق. قال الجصاص في تفسيره «أحكام القرآن» : (زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقة، أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين، كالسبت، والصلاة إلى المشرق والمغرب، قال لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء، وشريعته باقية البتة إلى أن تقوم الساعة، وقد بعد هذا القائل من التوفيق بإظهار هذه المقالة، إذ لم يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمة سلفُها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه، ونقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به، ولا يجيزون فيه التأويل، وقد ارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمة، مع تعسف المعاني واستكراهها، وأكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ظني فيه أنه إنما أُتي به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك، واستعمال رأيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه، ونقلته الأمة. .) . دليل أبي مسلم: أ - احتجّ أبو مسلم بأنّ الله تعالى وصف كتابه العزيز بأنه {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فلو جاز النسخ لكان قد أتاه الباطل. ب - كما تأول الآية الكريمة {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} على أن المراد بها نسخ الشرائع التي في الكتب القديمة من التوارة والإنجيل، أو المراد بالنسخ النقلُ من اللوح المحفوظ وتحويله إلى سائر الكتب. ج - وقال: إن الآية السابقة لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خيرٍ منه. والجوال عن الأول: أن المراد أن هذا الكتاب لا يدخل إليه التحريف والتبديل، ولا يكون فيه تناقض أو اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] . وأما الثاني والثالث: فإنه تأويل ضعيف لا تقوم به حجة، ويناقض الواقع فقد نسخت كثيراً من الأحكام الشرعية بالفعل كنسخ القبلة، ونسخ عدة المتوفى عنها زوجها إلى آخر ما هنالك مما سنبينه إن شاء الله من التفضيل. أدلة الجمهور: واستدل الجمهور على وقوع النسخ بحجج كثيرة نوجزها فيما يلي: الحجة الأولى: قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} فهذه الآية صريحة في وقوع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الحجة الثانية: قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ ... } [النحل: 101] قالوا: إن هذه الآية واضحة كل الوضوح في تبديل الآيات والأحكام، والتبديلُ يشتمل على رفعٍ وإثبات، والمرفوع إمّا التلاوة، وإمّا الحكم، وكيفما كان فإنه رفع ونسخ. الحجة الثالثة: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ... } [البقرة: 142] ثم قال تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] فقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ثمّ نسخ ذلك وأُمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام. الحجة الرابعة: أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً في قوله جلّ ذكره {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول ... } [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] . الحجة الخامسة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] فهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثير تدل على وقوع النسخ فلا مجال للإنكار بحالٍ من الأحوال، ولهذا أجمع العلماء على القول بالنسخ، حتى روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال لرجلٍ: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكتَ وأهلكت الناس. قال العلامة القرطبي: (معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا تستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه في النوازل من الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام، وقد أنكرت طوائف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوبون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة) . ثم قال: «لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء، قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالماً بمآل الأمور، وأمّا العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغيّر، فإنّ ذلك محال في جهة الله تعالى» . الحكم الثاني: ما هي أقسام النسخ في القرآن الكريم؟ ينقسم النسخ إلى ثلاثة أقسام: الأول: نسخ التلاوة والحكم معاً. الثاني: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم. الثالث: نسخ الحكم وبقاء التلاوة. أما الأول: وهو (نسخ التلاوة والحكم) فلا تجوز قراءته، ولا العمل به، لأنه قد نسخ بالكلية فهو كآية التحريم بعشر رضعات. . روي عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: (كان فيما نزل من القرآن «عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن» فنسخن بخمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي مما يقرأ من القرآن) . قال الفخر الرازي: فالجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة، والجزء الثاني، وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وأما الثاني: (نسخ التلاوة وبقاء الحكم) فهو كما قال الزركشي في «البرهان» : يُعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول، كما روي أنه كان في سورة النور (الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) . ولهذا قال عمر: (لولا أن يقال الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها بيدي) . وأخرج ابن حيان: في «صحيحه» عن (أُبيّ بن كعب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور - أي في الطول - ثمّ نسخت آيات منها» . وأما الثالث: (نسخ الحكم وبقاء التلاوة) فهو كثير في القرآن الكريم، وهو كما قال (الزركشي) في ثلاث وستين سورة. . ومن أمثلة هذا النوع آية الوصية، وآية العدة، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والكف عن قتال المشركين. . الخ. وقد ألّف الشيخ هبة الله بن سلامة «رسالة في الناسخ والمنسوخ» جاء فيها ما نصه: «اعلم أن أول النسخ في الشريعة أمرُ الصلاة، ثم أمرُ القبلة، ثم الصيام الأول، ثم الإعراض عن المشركين، ثم الأمر بجهادهم، ثم أمره بقتل المشركين، ثم أمره بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ثم ما كان أهل العقود عليه من المواريث، ثم هدر منار الجاهلية لئلا يخالطوا المسلمين في حجّهم» الخ. فائدة هامة: ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة؟ قال العلامة الزركشي: «وهنا سؤال وهو أن يسأل: ما الحكمة في رفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة. وثانيها: أن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة، ورفع المشقة حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه. الحكم الثالث: هل ينسخ القرآن بالسنّة؟ اتفق العلماء على أنّ القرآن ينسخ بالقرآن، وأن السنة تنسخ بالسنة، والخبر المتواتر بغير المتواتر؟ فذهب الشافعي: إلى أن الناسخ للقرآن لا بدّ أن يكون قرآناً مثله، فلا يجوز نسخ القرآن بالسنة عنده. وذهب الجمهور: إلى جواز نسخ القرآن بالقرآن، وبالسنّة المطهرّة أيضاً، لأن الكل حكم الله تعالى ومن عنده. دليل الشافعي: استدل الإمام الشافعي على منع نسخ القرآن بالسنة بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} ووجه الاستدلال عنده من وجوه: الأول: أنه قال: {نَأْتِ} وأسند الإتيان إلى نفسه، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآناً. الثاني: أنه قال: {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} ولا يكون الناسخ خيراً إلاّ إذا كان قرآناً لأن السنة لا تكون خيراً من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الثالث: أنه قال في الآية: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؟ فقد دلت على أن الآتي بذلك الخير، هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات، وذلك هو الله ربّ العالمين. الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] حيث أسند التبديل إلى نفسه، وجعله في الآيات وهذا أقوى أدلته. أدلة الجمهور: احتج الجمهور على جواز نسخ الكتاب بالسنة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي: أ - نسخ آية الوصية وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} [البقرة: 180] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ألا لا وصية لوارث» ولا ناسخ إلا السنّة. ب - نسخُ الجلد عن الثيب المحصن في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ولا مسقط لذلك إلا فعلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث أمر بالرجم فقط. ج - وقالوا إنّ ما ورد في الكتاب أو السنة، كلّه حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت الأسماء، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] . د - وأجابوا عمّا استدل به الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ بأنه استدلال غير واضح. لأن الخيريّة إنما تكون بين الأحكام، فيكون الحكم الناسخ خيراً من الحكم المنسوخ، بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها، ولا معنى لأن يكون لفظ الآية خيراً من لفظ آية أخرى، وإذا كان الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 كذلك، فالمدارُ على أن يكون الحكم الناسخ خيراً من المنسوخ، أيّاً كان الناسخ قرآناً، أو سنة، لأنّ الكل تشريع الحكيم العليم. الترجيح: ومن هنا يترجح رأي الجمهور، لأن الخيرية والأفضلية إنما هي بحسب اختلاف الأحكام شدة وتيسيراً وتمام الأبحاث مستوفى في علم الأصول. الحكم الرابع: هل يجوز النسخ إلى ما هو أشقّ وأثقل؟ قال الإمام الفخر: قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقلُ منه، واحتجوا بأن قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ينافي كونه أثقل، لأنّ الثقل لا يكون خيراً منه، ولا مثله. والجواب: لمَ لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة؟ ثم إنَّ الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت، إلى (الجلد والرجم) ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين فنسخت بأربع في الحضر. إذا عرفت هذا فنقول: أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الأمثلة المذكورة، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها، وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة. الحكم الخامس: هل يقع النسخ في الأخبار؟ جمهور العلماء على أن النسخ مختصّ بالأوامر والنواهي، والخبرُ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 قال ابن جرير الطبري: «يعني جل ثناؤه بقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} أي ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدّله ونغيّره، وذلك أن يُحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً. . ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنهي، والحضر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ» . وقال القرطبي: والنسخ كله إنما يكون في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنْسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فتأمل هذا فإنه نفيس. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - نسخ الأحكام جائز بالإجماع كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة. 2 - راعت الشريعة الغرَّاء مصالح العباد، ولذا وقع النسخ في بعض الأحكام. 3 - النسخ لا يكون في الأخبار والقصص، إنما يكون في الأحكام التي فيها حلال وحرام. 4 - الأحكام مرجعها إلى الله تعالى، الذي يشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم. 5 - الله جل جلاله مالك الملك فيجب الاستسلام لحكمه وأمره مع الاطمئنان. 6 - ليس من شأن المسلم أن يسأل نبيّه سؤال تعنت كما فعل اليهود مع أنبيائهم. 7 - الانحراف عن طريق الاستقامة، وسلوك سبيل الضالين سبب الشقاوة. الحديث: 4 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 خاتمة البحث: حكمة التشريع جاءت الشريعة الإسلامية الغراء محققة لمصالح الناس، متمشية مع تطور الزمن، صالحة لكل زمان ومكان. . وكان من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن سنّ لهم «سنة التدرج» في الأحكام، لتبقى النفوس على أتم الاستعداد لتقبّل تلك التكاليف الشرعية، فلا تشعر بملل أو ضجر، ولا تحسّ بمشقة أو شدة. . ولتظلّ الشريعة الغراء - كما أرادها الله - شريعة سمحة، سهلة لا عسر فيها ولا تعقيد، ولا شطط فيها ولا إرهاق. ومن المعلوم: أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهذه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شُرع حكمٌ في وقت من الأوقات كانت الحاجة ملحّة إليه، ثم زالت تلك الحاجة، فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر، فيكون هذا التبديل والتغيير أقرب للمصلحة، وأنفع للعباد. . وما مثل ذلك إلا كمثل الطبيب الذي يغيّر الأغذية والأدوية للمريض، باختلاف الأمزجة، والقابلية، والاستعداد. والأنبياء صلوات الله عليهم هم (أطباء القلوب) ومصلحوا النفوس، لذلك جاءت شرائعهم مختلفة، تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة، وجاءت بسنة «التدرج» في الأحكام، لأنها بمثابة الأدوية والعقاقير للأبدان، فما يكون منها في وقت مصلحة، قد يكون في وقت آخر مفسدة، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى، ذلك حكم العليم الحكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 جاء في تفسير «محاسن التأويل» ما نصه: «إن الخالق تبارك وتعالى ربّى الأمة العربية، في ثلاث وعشرين سنة تربيةً تدريجية، لا تتم لغيرها - بواسطة الفواعل الاجتماعية - إلاّ في قرون عديدة. . لذلك كانت عليها الأحكام على حسب قابليتها، ومتى ارتقت قابليتها بدّل الله لها ذلك الحكم بغيره، وهذه سنة الخالق في الأفراد، والأمم، على حد سواء. فإنك لو نظرتَ: في الكائنات الحية، لرأيت أن النسخ ناموسٌ طبيعي محسوس، في الأمور المادية والأدبية معاً، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل، فيافع، فشاب، فكهل، فشيخ، وما يتبع كل دورٍ من هذه الأدوار يريك بأجلى دليل، أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق. وإذا كان هذا النسخ: ليس بمستنكر في الكائنات، فكيف يُستنكر نسخُ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرّج من أدنى إلى أرقى؟ هل يرى إنسان له مُسْكةٌ من عقل، أنّ من الحكمة تكليف العرب - وهم في مبدأ أمرهم - بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني، وغاية الكمال البشري؟ { وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود، فكيف يجوز على الله - وهو أحكم الحاكمين - بأن يكلّف الأمة وهي في دور (طفوليتها) بما لا تتحمله إلا في دور (شبوبيتها) وكهولتها. .؟ وأيّ الأمرين أفضل: أشرعُنا الذي سنّ الله لنا حدوده بنفسه، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمّه بحيث لا يستطيع الإنسُ والجن أن يُنقصوا حرفاً منه، لانطباقه على كل زمان ومكان، وعدم مجافاته لآية حالةٍ من حالات الإنسان؟ أم شرائع دينية أخرى، حرّفها كهّانها، ونسخ الوجود أحكامها - بحيث يستحيل العمل بها - لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه. .؟} » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 [3] التوجه إلى الكعبة في الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 التحليل اللفظي {السفهآء} : أصل السفه في كلام العرب: الخفة والرقة، يقال: ثوب سفيه إذا كان رديء النسخ خفيفه، أو كان بالياً رقيقاً، وسفّهته الرياح أي أمالته قال ذو الرمّة: مشيْنَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهتْ ... أعاليَها مرّ الرياح النّواسِمِ والسّفه: ضد الحلم وهو خفة وسخافة يقتضيها نقصان العقل، ولهذا سمّى الله الصبيان سفهاء {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} [النساء: 5] . {ولاهم} : يعني صرفهم، يقال: ولىّ عن الشيء وتولّى عنه أي انصرف، وهو استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب. {قِبْلَتِهِ} : القبلة من المقابلة وهي المواجهة، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصّت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة. {وَسَطاً} : أي عدولاً خياراً، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] أي خيرهم أو عدلهم، قال الشاعر: هم وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمِهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمُعْظَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وأصل هذا أنّ خير الأشياء أوساطها، وأن الغلوّ والتقصير مذمومان. قال الجوهري في «الصحاح» : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي عدلاً، وكذلك روي عن الأخفش، والخليل. وقال الزمخشري: وقيل للخيار وسطٌ؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأوساط محميةٌ محوّطة ومنه قول أبي تمام. كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت ... بها الحوادثُ حتّى أصبحتْ طرفاً {عَقِبَيْهِ} : العقبان: تثنية عقب، وهو مؤخر القدم، والانقلابُ عليهما بمعنى الانصراف والرجوع، يُقال: انقلب على عقبيه إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء. والمعنى: لنعلم من يثبت على الإيمان، ممّن يرتد عن دين الإسلام، ويرجع إلى ما كان عليه من ضلال، والكلام فيه استعارة كما سيأتي. {لَكَبِيرَةً} : أي شاقة ثقيلة تقول: كبر عليه الأمر أي اشتد وثقل. {لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} : الرأفة هي الرحمة، إلاّ أن الرأفة في دفع المكروه، والرحمة أعم تشمل المكروه والمحبوب. {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} : تقلّبُ الوجه في السماء: ترّدده المرة بعد المرة فيها، والسماءُ مصدر الوحي، وقبلة الدعاء. قال الزجاج: المراد تقلب عينيك في النظر إلى السماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقال قطرب: تحول وجهك إلى السماء وهما متقاربان. ومعنى الآية: كثيراً ما نرى تردّد وجهك، وتصرّف نظرك في جهة السماء متشوقاً لنزول الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} : أي لنمكننّك من استقبالها، من قولك: وليّتُه كذا إذا جعلته والياً له، فيكون من الولاية، أو من التولي، والمعنى: فلنجعلنّك متولياً جهتها، وهذه بشارة من الله تعالى لرسوله الكريم بتوجيهه إلى القبلة التي يحب. {شَطْرَ المسجد} : والشطرُ في اللغة يكون بمعنى الجهة والناحية كما في هذه الآية ومنه قول الشاعر: أقول لأمّ زِنبْاعٍ أقيمي ... صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم ويكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الطهور شطر الإيمان» والشاطر: الشاب البعيد عن أهله ومنزله، وهو من أعيا أهله خُبْثاً، وسئل بعضهم عن الشاطر فقال: هو من أخذ في البعد عمّا نهى الله عنه. ومعنى الآية: فولّ وجهك جهة المسجد الحرام أي جهة الكعبة. {أُوتُواْ الكتاب} : المراد بهم أحبار اليهود، وعلماء النصارى، والكتابُ: التوراةُ والإنجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وجه المناسبة بين الآيات كان صلوات الله عليه وهو بمكة يستقبل بيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته، وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، وقد كان اليهود يقولون: يخالفنا محمد في ديننا، ويتّبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يتوجه في صلاته، فكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البقاء على قبلتهم، حتى روي أنه قال لجبريل: وددت لو أنّ الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه الوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة. وقد أخبر الله جل ثناؤه رسوله الكريم بما سيقوله السفهاء الجهال، من اليهود المنافقين، قبل تحويل القبلة، ولقنّه الحجة البالغة ليردّ عليهم، ويوطّن نفسه على تحمل الأذى منهم عند مفاجأة المكروه، ويعدّ الجواب القاطع لحجة الخصم، وقد قيل في الأمثال «مثل الرمي يراشُ السهم» وليكون الوقوع بعد الإخبار معجزة له عليه السلام. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: سيقول السفهاء من الناس - وهم أهل الضلال من اليهود والمشركين والمنافقين - ما صرفهم وحوّلهم عن القبلة التي كانوا يتوجهون إليها جهة بيت المقدس وهي قبلة النبيّين والمرسلين من قبلهم؟ قل لهم يا محمد: لله المشرق والمغرب، الجهات كلّها لله، وهو سبحانه يتصرف في ملكه كيف شاء على ما تقتضيه حكمته البالغة، يهدي من شاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 عباده، إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين. وكما هديناكم - أيها المؤمنون - فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته، كذلك فضّلناكم على من سواكم من أهل الملل، فجعلناكم أمة عدولاً خياراً، لتشهدوا للأنبياء يوم القيامة على أممهم أنّهم قد بلّغوهم رسالة الله، ويشهد لكم الرسول بالإيمان والاتباع لما جاء به من الدين الحنيف، وما أمرناك بالتحول عن القبلة التي كنت عليها إلى الكعبة، إلا ليتبيّن للناس الثابت على إيمانه من المتشكك في دينه، الذي هو عرضة لرياح الشبهات التي يثيرها أعداء الدين، فينافق أو يكفر، ويرتد عن دينه لأبسط الشبهات، وما كان الله ليضيع صلاتكم، إن الله رحيم بعباده، لا يبتليهم ليضيع عليهم أعمالهم، ولكنْ ليجزيهم أحسن الجزاء. كثيراً ما رأينا تردّد بصرك - يا محمد - جهة السماء، تطلعاً للوحي وتشوقاً لتحويل القبلة، فلنوجهنّك إلى قبلة تحبها، فتوجه في صلاتك نحو المسجد الحرام، وأنتم - أيها المؤمنون - استقبلوا بصلاتكم جهته أيضاً، فهي قبلتكم وقبلة أبيكم إبراهيم، وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكنّهم يفتنون ضعاف المؤمنين، ليشككوهم في دينهم، بإلقاء الشبهات والأباطيل في نفوسهم، وما الله بغافل عما يعملون فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن، المحاسب على ما في السرائر. سبب النزول أ - أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها (صلاة العصر) وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . ب - وعن البراء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . وجوه القراءات أولاً: قرأ الجمهور {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} بالمد في {رؤوف} مع الهمز على وزن فعول، وقرأ الكسائي وحمزة {لَرَءُوفٌ} على وزن رَعُف، ويقال: هو الغالب على أهل الحجاز، قال جرير: ترى للمسلمين عليكَ حقاً ... كفعل الوالد الرّؤفِ الرحيم ثانياً: قرأ الجمهور {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بالياء في {يَعْمَلُونَ} فيكون وعيداً لأهل الكتاب، وقرأ الحمزة والكسائي {عَمَّا يَعْمَلُونَ} بالتاء فيكون وعيداًَ للفريقين: المؤمنين والكافرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} الكاف للتشبيه وهي في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره: كما هديناكم جعلناكم أمة وسطاً، أي مثل هدايتنا لكم كذلك جعلناكم أمة وسطاً، و (أمة) مفعول ثانٍ لجعلنا، و (وسطاً) صفة لها. ثانياً: قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} (إنْ) مخففة من (إنّ) الثقيلة واسمها ضمير الشأن، واللام في قوله (الكبيرة) للفرق بين المخففة والنافية، كما في قوله تعالى: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء: 108] وزعم الكوفيون أنها نافية، واللام بمعنى إلاّ، أي ما كانت إلا كبيرة، قال العكبري: وهو ضعيف جداً من جهة أن وقوع اللام بمعنى إلا لا يشهد له سماع ولا قياس. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أخبر المولى جلّ وعلا عمّا سيقوله السفهاء من اليهود قبل تحويل القبلة، والإخبار فيه معجزة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تدل على صدق ما جاء به، لأنه إخبار عن أمر مغيّب، كما فيه الجواب القاطع لحجة الخصم العنيد. قال الزمخشري في «الكشاف» : «فإن قلت: أيّ فائدةٍ في الإخبار بقولهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأردّ لشَغَبه، وقبل الرمي يُراش السهم» . اللطيفة الثانية: ردّ القرآن بالحجة الدامغة على السفهاء (اليهود، والمشركين، والمنافقين) في قوله جل وعلا: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وتقريره أنّ الجهات كلها لله تعالى، لا فضل لجهةٍ منها بذاته على جهة، ولا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى خصّها بذلك، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة، وأن العبرة بالتوجه إليه سبحانه بالقلوب، واتباع أمره في توجه الوجوه. فكيف يعترضون عليك يا محمد؟ لا شك أنهم أغبياء الأفهام، سفهاء الأحلام. اللطيفة الثالثة: التعبير بقوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطاً} فيه لطيفة، وهي أن خير الأمور أوساطها، فالزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقصُ عنه تفريط وتقصير، وكلٌ من الإفراط والتفريط ميلٌ عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي التوسط بينهما. وذكر ابن جرير الطبري: «أنه من التوسط في الدين، فإن المسلمين لم يقصّروا في دينهم كاليهود، الذين قتلوا الأنبياء، وبدّلوا كتاب الله، ولم يضلوا كالنصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله، وغلوا في الترهيب غلواً كبيراً، ولكنّهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 اللطيفة الرابعة: في شهادة هذه الأمة على الأمم يوم القيامة أكبر دليل على فضل هذه الأمة المحمدية، وقد روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلّغوا - وهو أعلم - فيؤتى بأمة محمد فيشهدون، فتقول الأمم: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ فيقولون: نشهد بإخبار الله عَزَّ وَجَلَّ الناطق، على لسان نبيه الصادق بأنه قد بلغكم، فيؤتى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيزكيهم ويشهد بعدالتهم. أخرج البخاري في «صحيحه» : عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» يُدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ « ، فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول} أوّل علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: معنى (لنعلم) لنرى. والعرب تضع العلم ماكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] بمعنى: ألم تعلم. قال الطبري: «الله تعالى عالم بالأشياء كلّها قبل وقوعها، وإنما تأويل الآية {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أي ليعلم رسولي وأوليائي، إذا كان من شأن العرب إضافة أتباع الرئيس إلى الرئيس، نحو فتح عمر سواد العراق، وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحابه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقال ابن عباس: المعنى: لنميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة، ففسّر العلم ب (التمييز) لأن بالعلم يقع التمييز. وقال الزمخشري في «الكشاف» : المراد بالعلم (علم المعاينة) الذي يتعلق به الثواب والجزاء كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] . اللطيفة السادسة: في قوله تعالى: {مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} استعارة تمثيلية حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه، ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلمّا تركوا الإيمان والدلائل، صاروا بمنزلة المدبر عمّا بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} [المدثر: 23] . اللطيفة السابعة: سمّى الله تعالى الصلاة (إيماناً) في قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم لأن الإيمان لا يتم إلاّ بها، ولأنها تشتمل على نيّة، وقول، وعمل. قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، لما روي عن ابن عباس أنه قال: لمّا وُجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الكعبة، قالوا يا رسول الله: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . ثمّ قال: فسمّى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل. قال مالك: وفيه رد على من قال: إن الصلاة ليست من الإيمان. اللطيفة الثامنة: قال الزمخشري: إنّ (قد) هنا بمعنى (ربما) وهي للتكثير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ومعناه كثرة الرؤية كقول الشاعر: قد أتركُ القِرْنَ مصفَرّاً أناملُه ... كأنّ أثوابَه مُجّتْ بفرصاد قال أبو حيان: التكثير مستفاد من لفظ التقلب لأنه مطاوع التقليب، ومن نظر مرة أو ردّد بصره مرتين أو ثلاثاً لا يقال: إنه قلّب، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير. والتعبير بقوله تعالى: {قَدْ نرى} بمعنى قد رأينا، لأن {قَدْ} تقلب المضارع ماضياً كما يقول النحاة ومنه قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} [الأحزاب: 18] وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: 97] أي قد علمنا. اللطيفة التاسعة: قال المحققون من أهل التفسير: في قوله تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} في هذه الآية تنبيه لطيف على حسن أدبه عليه السلام حيث انتظر الوحي ولم يسأل ربه، وقد أكرمه الله تعالى على هذا الأدب بقبلة يحبها ويهواها فقال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} وفي سبب محبته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ التوجه إلى المسجد الحرام وترك التوجه إلى بيت المقدس وجوه: الأول: مخالفةً لليهود حيث كانوا يقولون: يخالفنا محمد ثم يتّبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل. الثاني: أن الكعبة المشرّفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرحمن. الثالث: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يرغب في تحويل القبلة استمالة للعرب لدخولهم في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الرابع: منشأ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البلد الأمين وفيه المسجد الحرام الذي هو قبلة المساجد فأحب أن يكون هذا الشرف للمسجد الذي في بلتده ومنشئه. اللطيفة العاشرة: في التعبير عن (الكعبة) بالمسجد الحرام إشارة لطيفة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، والسرّ في الأمر بالتولية خاصاً وعاماً {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ثم قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} مع أن خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطاب لأمته هو الاهتمام لشأن القبلة، ودفع توهم أن الكعبة قبلة أهل المدينة وحدهم، لأن الأمر بالصرف كان فيها، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية. قال الراغب: أما خطابه الخاص فتشريفاً له وإيجاباً لرغبته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وأما خطابه العام بعده فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا قد خُصّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ به، كما خُصّ في قوله {قُمِ اليل} [المزمل: 2] ، ولما كان تحويل القبلة له خطر خصّهم بخطاب مفرد. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد بالمسجد الحرام في القرآن الكريم؟ ورد ذكر {المسجد الحرام} في آيات متفرقة من القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة أيضاً، وقصد به عدة معان: الأول: الكعبة، ومنه قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} أي جهة الكعبة. الثاني: المسجد كلّه، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «صلاةٌ في مسجدي هذا خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تُشدّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» . الثالث: مكة المكرمة كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وكان الإسراء من مكة المكرمة، وقوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] وقد صدورهم عن دخول مكة. الرابع: الحرم كله (مكة وما حولها من الحرم) كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] والمراد منعهم من دخول الحرم. والمراد بالمسجد الحرام هنا هو المعنى الأول (الكعبة) والمعنى: فولّ وجهك شطر الكعبة. الحكم الثاني: هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟ استقبال القبلة فرض من فروض الصلاة، لا تصح الصلاة بدونه، إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة، فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته، لما رواه أحمد ومسلم والترمذي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، وفيه نزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] . وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إنما الخلاف هل الواجب استقبال عين الكعبة أم استقبال الجهة؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب استقبال عين الكعبة. وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّ الواجب استقبال جهة الكعبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 هذا إذا لم يكن المصلي مشاهداً لها، أمّا إذا كان مشاهداً لها فقد أجمعوا أنه لا يجزيه إلا إصابة عين الكعبة، والفريق الأول يقولون: لا بدّ للمشاهد من إصابة العين، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة، والفريق الثاني يقولون: يكفي للغائب التوجه إلى جهة الكعبة. أدلة الشافعية والحنابلة: استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم بالكتاب، والسنة، والقياس. أ - أما الكتاب، فهو ظاهر هذه الآية {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ووجه الاستدلال: أن المراد من الشطر الجهة المحاذية للمصلي والواقعة في سمته، فثبت أن استقبال عين الكعبة واجب. وأما السنة: فما روي في «الصحيحين» عن أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «لمّا دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البيت دعا في نواحيه كلّها، ولم يصلّ حتى خرج منه، فلمّا خرج صلى ركعتين من قِبَل الكعبة، وقال: هذه القبلة» . قالوا: فهذه الكلمة تفيد الحصر، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة. ج - وأما القياس: فهو أنّ مبالغة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تعظيم الكعبة، أمر بلغ مبلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيفُ صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف، فوجب أن يكون مشروعاً. وقالوا أيضاً: كونُ الكعبة قبلة أمر مقطوع به، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك فيه، ورعايةُ الاحتياط في الصلاة أمر واجب، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال عين الكعبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أدلة المالكية والحنفية: واستدل المالكية والحنفية على مذهبهم بالكتاب، والسنة وعمل الصحابة، والمعقول. أ - أما الكتاب: فظاهر قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ولم يقل: شطر الكعبة، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام، فقد أتى بما أمر به سواء أصابَ عين الكعبة أم لا. ب - وأما السنة: فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما بين المشرق والمغرب قِبْلةٌ» . وحديث: «البيتُ قبلةٌ لأهل المسجد والمسجدُ قبلةٌ لأهل الحرم، والحرامُ قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي» . ج - وأما عمل الصحابة: فهو أنّ أهل (مسجد قباء) كانوا في صلاة الصبح بالمدينة، مستقبلين لبيت المقدس، مستدبرين الكعبة، فقيل لهم: إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة، ولم ينكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم، وسُمّي مسجدهم (بذي القبلتين) . ومعرفةُ عين الكعبة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة، وفي ظلمة الليل؟ د - وأما المعقول: فإنه يتعذر ضبط (عين الكعبة) على القريب من مكة، فكيف بالذي هو في أقاصي الدنيا من مشارق الأرض ومغاربها؟ ولو كان استقبال عين الكعبة واجباً، لوجب ألا تصحّ صلاة أحدٍ قط، لأن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة نيّف وعشرين ذراعاً من الكعبة، ولا بدّ أن يكون بعضهم قد توجّه إلى جهة الكعبة ولم يصب عينها، وحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أنّ إصابة عينها على البعيد غير واجبة {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . ومن جهة أخرى: فإن الناس من عهد النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بنوا المساجد، ولم يحضروا مهندساً عند تسوية المحراب، ومقابلةُ العين لا تُدرك إلا بدقيق نظر الهندسة، ولم يقل أحد من العلماء إنّ تعلم الدلائل الهندسية واجب، فعلمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب. الترجيح: هذه خلاصة أدلة الفريقين سقناها لك، وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أن أدلة الفريق الثاني (المالكية والأحناف) أقوى برهاناً، وأنصع بياناً، لا سيما للبعيد الذي في أقاصي الدنيا، وأصول الشريعة السمحة تأبى التكليف بما لا يطاق، وكأنّ الفريق الأول حين أحسوا صعوبة مذهبهم، خصوصاً من غير المشاهد لها قالوا: «إن فرض المشاهد للكعبة إصابةُ عينها حسّاً، وفرض الغائب عنها إصابة عينها قصداً» وبعد هذا يكاد يكون الخلاف بين الفريقين شكلياً، لأنهم صرحوا بأنّ غير المشاهد لها يكفي أن يعتقد أنه متوجه إلى عين الكعبة، بحيث لو أزيلت الحواجز يرى أنه متوجه في صلاته إلى عينها، وفي هذا الرأي جنوح إلى الاعتدال، والله الهادي إلى سواء السبيل. قال العلامة القرطبي: في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» ما نصّه: «واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين، أو الجهة، فمنهم من قال بالأول، قال ابن العربي: وهو ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه، ومنهم من قال بالجهة وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني: أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الثالث:» أنّ العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يُعلم قطعاً أنه أضعاف عرض البيت «. الحكم الثالث: هل تصح الصلاة فوق ظهر الكعبة؟ وبناءً على الخلاف السابق: هل القبلة عين الكعبة أم جهتها؟ انبنى خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة، هل تصح أم لا؟ فذهب الشافعية والحنابلة: إلى عدم صحة الصلاة فوقها، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها إنما يستقبل شيئاً آخر. وأجاز الحنفية: الصلاة فوقها مع الكراهية، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، إلا أنّ الصلاة تصحّ بناء على مذهبهم من أن القبلة هي الجهة: من قرار الأرض إلى عنان السماء، والله تعالى أعلم. الحكم الرابع: أين ينظر المصلي وقت الصلاة؟ ذهب المالكية: إلى أن المصلي ينظر في الصلاة أمامه. وقال الجمهور: يستحبُ أن يكون نظره إلى موضع سجوده، وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجْره. قال القرطبي: في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه، في أنّ المصلي حكمُه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . قال ابن العربي: «إنما ينظر أمامه، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلّف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج، وما جعل علينا في الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 من حرج» . الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، فإن المصلي إذا نظر إلى مكان السجود لا يخرج عن كونه متوجهاً إلى الكعبة، وإنما استحبوا ذلك حتى لا يتشاغل في الصلاة بغيرها وليكون أخشع لقلبه والله أعلم. وهناك أحكام أخرى جزئية تطلب من كتب الفروع. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: إعتراض اليهود على تحويل القبلة سفه وجهالة لأنه لا يعتمد على منطق سليم. ثانياً: الجهات كلّها لله تعالى خَلْقاً وملكاً فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى. ثالثاً: الأمة المحمدية أفضل الأمم لذلك اختارها الله للشهادة على الخلائق يوم القيامة. رابعاً: تحويل القبلة امتحانٌ لإيمان الناس ليتميّز المؤمن الصادق عن الفاجر المنافق. خامساً: أدب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يمنعه من سؤال تحويل القبلة ولذلك أكرمه الله بما يرضى. سادساً: الكعبة المشرفة قبلة أبي الأنبياء وقد جمع الله بها قلوب العباد. سابعاً: أهل الكتاب يعلمون أن تحويل القبلة حق ولكنهم أرادوا فتنة المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 خاتمة البحث: حكمة التشريع هذا البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، هو قبلة أهل الأرض، كما أنّ البيت المعمور قبلة أهل السماء يطوفون حوله يسبّحون بحمد الله. وقد اقتضت حكمة الله أن يجمع (أمة التوحيد) على قبلةٍ واحدة، فأمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يبني هذا البيت العتيق، ليكون مثابة للناس وأمناً، ومصدراً للإشعاع والنور الرباني، ومكاناً لحج بيته المعظم، يأتيه الناس من كل فج عميق {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] . وقد أمر الله رسوله الكريم بالتوجه إليه في الصلاة، بعد أن توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وذلك لحكمة جليلة هي امتحان إيمان الناس، واختبار صدق يقينهم، ليظهر المؤمن الصادق، من الكاذب المنافق، وليعيد لهذه الأمة التي اختارها الله، قيادة ركب الإنسانية، بعد أن تخلت عنها ردحاً من الزمان كما قال تعالى: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ... } [الحج: 78] . فالكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً - هي رمز التوحيد - ومظهر الإيمان، وقبلة أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن وحولها تلتقي أفئدة الملايين من المؤمنين لأنها مظهر وحدتهم، وسرّ اجتماع كلمتهم، فلا عجب أن يأمرهم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتهم، أينما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ... } . قال الإمام الفخر: (وقد ذكروا في تعيين القبلة في الصلاة حِكماً: أحدها: أن العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لا بدّ أن يستقبله بوجهه، وألا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقلاً للملك لا معرضاً عنه، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة. وثانيها: أن المقصود من الصلاة حضور القلب، وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الإلتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف كان استقبال تلك الجهة أولى. وثالثها: أن الله تعالى يحب الألفة بين المؤمنين، وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ... } [آل عمران: 103] ولو توجّه كل واحد في صلاته إلى ناحية، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً، فعيّن الله تعالى لهم جهة معلومة، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك. ورابعها: أن الله تعالى خصْ الكعبة بإضافتها إليه في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه {ياعبادي} [العنكبوت: 56] ، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم، فكأنه تعالى قال: يا مؤمن أنتَ عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبلْ بوجهك في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إليّ. .) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 [4] السعي بين الصفا والمروة التحليل اللفظي {الصفا والمروة} : الصفا في أصل اللغة: الحجرُ الأملس، واشتقاقه من صفا إذا خلص، ومنه الصفوان وهو الحجر الأملس الصلب قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة: 264] ، والصفا جمعٌ مفردة (صفاة) قال جرير: إنّا إذا قرع العدو صفاتنا ... لاقوالنا حجراً أصمّ صلودا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قال المبرّد: الصفا كل حجر لا يخالطه غيره من تراب أو طين. وأما المروة: فقال الخليل: هي من الحجارة ما كان أبيض أملس صلباً شديد الصلابة، وجمعها (مرو) مثل تمرة وتمرٌ قال أبو ذؤيب: حتى كأني للحوادث مَرْوةٌ ... بصفا المشاعر كلّ يوم يُقرع قال الألوسي: وقد صار في العُرف علمين لموضعين (جبلين) معروفين بمكة {شَعَآئِرِ الله} : جمع شعيرة وهي في اللغة العلامة، ومنه الشعار للعلامة، وأشعر الهدي أي جعل له علامة ليعرف أنه هديٌ قال الشاعر: نقتّلهمْ جيلاً فجيلاً تراهُمُ ... شعائر قُربانَ بهمُ يتقرب والمراد أن هذين الموضعين من علامات دين الله، ومن معالمه ومواضع عباداته. والشعائر تطلق على كل معالم الدين التي تعبدنا الله تعالى بها كالطواف، والسعي والأذان الخ. {حَجَّ} : الحجّ في اللغة: القصدُ وإكثار التردّد إلى الشيء، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ألم تعلمي يا أمّ عمرةَ أنني ... تخاطأني ريبُ الزمان لأكبرا وأشهد من عوفٍ حلولاً كثيرة ... يحجّون بيتَ الزّبرقان المزغفرا يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته. وفي الشرع: هو قصد البيت العتيق لأداء المناسك من الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة وسائر الأعمال. {اعتمر} : العمرة في اللغة: الزيارة، والمعتمر: الزائر لأنه يعمر المكان بزيارته له قال الشاعر: «لقد سَمَا ابنُ مَعْمرٍ حين اعتمر» ... وفي الشرع: زيارة البيت لأداء نُسك معين من الطواف، والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير. وليس في العمرة وقوف بعرفة، ولا مبيت بمزدلفة، ولا رمي جمار إلى آخر ما هو معروف في الفقه. {جُنَاحَ} : الجناح بالضم: الميلُ إلى الإثم، وقيل: هو الإثم نفسه، سمي جناحاً لأنه ميل إلى الباطل. قال في «لسان العرب» : جنح: مال. وجنحت الناقة: إذا مالت على أحد شقيها، وجنحت السفينة إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 بالأرض فلم تمض. قال ابن الأثير: وقد تكرر الجناح في الحديث فأين ورد فمعناه الإثم والميل. والمعنى: لا إثم عليكم ولا حرج ولا تضييق في السعي بين الصفا والمروة. {يَطَّوَّفَ} : أي يتطوّف أدغمت التاء في الطاء، مثل (المزمّل) و (المدّثر) أصله المتزمل والمتدثر، وطاف وأطاف بمعنى واحد. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: إن الصفا والمروة - أيها المؤمنون - من علامات دين الله، التي جعلها الله لعباده معلماً ومشعراً، يعبدونه عندها بالدعاء، والذكر، وسائر أنواع القربات. والسعيُ بين هذين الجبلين شعيرة من شعائر الدين، ومنسك من مناسك الحج لا يصح التفريط فيه، لأنه تشريع الحكيم العليم، الذي أمر به خليله إبراهيم عليه السلام، حين سأل ربه أن يريه مناسك الحج {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} [البقرة: 128] . فمن قصد منكم - أيها المؤمنون - بيت الله العتيق للحج، أو قصده للزيارة، فلا يتحرجنّ من الطواف بينهما، إذ لا إثم عليه ولا حرج لأنه إنما يسعى لله، امتثالاً لأمره، وطلباً لرضاه، والمشركون يطوفون للأصنام، وأنتم تطوفون لله ربّ العالمين. فلا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين، فهم يطوفون بهما كفراً، وأنتم تطوفون بهما إيماناً وتصديقاً لرسولي، وطاعة لأمري، فلا إثم ولا جناح عليكم في الطواف بهما، ومن تطوع بالحج والعمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بعد قضاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكر له طاعته، ومجازيه عليها خير الجزاء يوم الدين. سبب النزول أ - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن عُروة بن الزبير قال لها: أرأيتِ قول الله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فما أرى على أحدٍ جُناحاً ألاّ يطّوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت «فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما» ولكنها إنما نزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا يا رسول الله: إنّا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله ... } قالت عائشة ثمّ قد سنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الطواف بهما فليس لأحدٍ أن يدع الطواف بهما. ب - وأخرج البخاري والترمذي عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال: «كنّا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله. .} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وجوه القراءات قرأ الجمهور: (ومن تَطوّعَ) بالتاء وفتح العين على أنه ماضٍ من التطوع، وقرأ حمزة والكسائي (ومن يَطوّعْ) بالياء مجزوم على أنه فعل مضارع إلا أنّ التاء أدغمت في الطاء لتقاربهما. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} . قال العكبري: في الكام حذف مضاف تقديره: إن سعي الصفا، وألف الصفا مبدلة عن (واو) لقولهم في تثنيته صفوان و (من شعائر الله) خبر إنّ. 2 - قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} مَنْ: اسم موصول بمعنى الذي مبتدأ، وجملة {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ} خبر المبتدأ، وأجاز بعضهم أن تكون (من) شرطية والله أعلم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قال الإمام الفخر:» اعلم أن تعلّق هذه الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى بيّن أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة، ليتم إنعامه على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وأمته، بإحياء شرائع إبراهيم ودينه، وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم كما في قصة بناء الكعبة، وسعي هاجر بين الجبلين، فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية «. اللطيفة الثانية: السعيُ بين الصفا والمروة إمّا فرض أو واجب، أو مسنون، فكيف نفى الله تعالى الجناح (الإثم) عمن سعى بينهما؟ والجواب: إنه كان على الصفا صنم يقال له: (إساف) وعلى المروة صنم يقال له: (نائلة) كما قال ابن عباس وكان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما، فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية، وتحرجوا من الطواف لهذا السبب، فنزلت الآية تدفع الحرج عنهم، لأنهم إنما يسعون لله لا للأصنام. اللطيفة الثالثة: الشكر معناه مقابلة النعمة والإحسان، بالثناء والعرفان، وهذا المعنى محال على الله، إذ ليس لأحد عنده يد ونعمة حتى يشكره عليها، فقوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} محمول على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين. قال العلامة أبو السعود: «المعنى أنه تعالى مجازٍ له على الطاعة، عبّر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإحسان على العباد» فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكراً، وسمى الله تعالى نفسه شاكراً، على سبيل المجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل السعي بين الصفا والمروة فرض أو تطوع؟ اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة على ثلاثة أقوال: 1 - القول الأول: أنه ركن من أركان الحج، من تركه يبطل حجه وهو مذهب (الشافعية والمالكية) وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو مروي عن ابن عمر، وجابر، وعائشة من الصحابة. 2 - القول الثاني: أنه واجب وليس بركن، وإذا تركه وجب عليه دم، وهو مذهب (أبي حنيفة والثوري) . 3 - القول الثالث: أنه تطوع (سنّة) لا يجب بتركه شيء، وهو مذهب ابن عباس، وأنس، ورواية عن الإمام أحمد. دليل المذهب الأول: استدل القائلين بأن السعي ركن وهم (الجمهور) بما يلي: أ - قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي» . ب - ما ثبت أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سعي في حجة الوداع، فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} فبدأ بالصفا وقال: «أبدؤوا بما بدأ الله به» ثم أتمّ السعي سبعة أشواط وأمر الصحابة أن يقتدروا به فقال: «خذوا عني مناسككم» والأمر للوجوب فدل على أنه ركن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ج - حديث عائشة: (لعمري ما أتمّ الله حجّ من لم يطف بين الصفا والمروة) . د - وقالوا: إنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم، وهو نسك في الحج والعمرة، فكان ركناً فيهما كالطواف بالبيت. دليل المذهب الثاني: واستدلّ (أبو حنيفة والثوري) على أنه واجب وليس بركن بما يلي: أ - إن الآية الكريمة رفعت الإثم عمّن تطّوف بهما {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ورفعُ الجناح يدل على الإباحة لا على أنه ركن، ولكنّ فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعله واجباً فصار كالوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، وطواف الصدر، يجزئ عنه دم إذا تركه. ب - واستدل بما روى الشعبي عن (عروة بن مضرس الطائي) قال: «أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمزدلفة فقلت يا رسول الله: جئت من جبل طي، ما تركتُ جبلاً إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: من صلى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه، وقضى تفثه» . ووجه الاستدلال في الحديث من وجهين: أحدهما: إخباره بتمام الحج وليس فيه السعي بين الصفا والمروة. والثاني: أنه لو كان من فروضه وأركانه لبيّنه للسائل لعلمه بجهله بالحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 دليل المذهب الثالث: واستدل من قال بأنه تطوع وليس بركنٍ ولا واجب بما يلي: أ - قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فبيّن أنه تطوع وليس بواجب، فمن تركه لا شيء عليه عملاً بظاهر الآية. ب - حديث (الحج عرفة) قالوا: فهذا الحديث يدل على أنّ من أدرك عرفة فقد تمّ حجه، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه، العمل ترك به في بعض الأشياء، فبقي العمل معمولاً به في السعي. قال ابن الجوزي: «واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أنّ من ترك السعي لم يجزه حجه، ونقل أبو طالب: لا شيء في تركه عمداً أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه، ونقل الميموني أنه تطوع» . الترجيح: ورجّح صاحب «المغني» المذهب الثاني وقال: هو أولى لأن دليل من أوجبه دلّ على مطلق الوجوب، لا على كونه لا يتم الواجب إلا به، وقول عائشة مُعَارَضٌ بقول من خالفها من الصحابة. أقول: الصحيح قول الجمهور لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سعى بين الصفا والمروة وقال: «خذوا عني مناسككم» والاقتداء بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجب ودعوى من قال: إنه تطوع أخذاً بالآية غير ظاهر لأن معناها كما قال الطبري: أن يتطوع بالحج والعمرة مرة أخرى والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الصفا والمروة من شعائر دين الله وأعلام طاعته التي تعبدنا الله بها. 2 - السعي بين الصفا والمروة إحياء لحادثة تاريخية وقعت لأم إسماعيل عليها السلام. 3 - تمسّحُ المشركين بالأصنام في الجاهلية عند السعي لا يمنع المؤمنين من السعي بينهما. 4 - السعي واجب على من حج بيت الله العتيق أو زاره للعمرة. 5 - التطوع بالحج والعمرة في غير الفريضة من مظاهر كمال الإيمان. 6 - الله شاكر لعباده يثيب الطائع على طاعته ويجزيه عليها خير الجزاء. خاتمة البحث: حكمة التشريع أمر جل ثناؤه المؤمنين بالسعي بين الصفا والمروة، عند الحج أو العمرة، وجعل السعي من شعائر دين الله، ومن معالم طاعته، وذلك إحياء لحادثة تاريخية من أروع الذكريات في تاريخ الإنسانية، تلك هي حادثة إسماعيل عليه السلام مع أمه (هاجر) المؤمنة الصابرة، بعد أن تركهما الخليل إبراهيم عليه السلام في مكان قفر ليس فيه أنيس، ولا سمير، ولا ساكن. . تركهما امتثالاً لأمر الله سبحانه في هذه الصحراء الشاسعة الواسعة، التي لا يسكنها أحد، لأن الحديث: 5 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الله عَزَّ وَجَلَّ يريد أن يعمرها بالسكان، ويجعل هذه البقعة المباركة مكاناً لبناء بيته العتيق، ومهوى لأفئدة الملايين من البشر. وكان إسماعيل طفلاً رضيعاً، فلما أراد إبراهيم عليه السلام الرجوع، تبعته (أم إسماعيل) فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا المكان الفقير، الذي لا أنيس فيه ولا سمير!؟ فجعل لا يلتفت إليها مخافة أن تصرفه عن تنفيذ أمر الله، ثم قالت يا إبراهيم: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيّعنا الله. ثم رجعت وانطلق إبراهيم عليه السلام، حتى إذا كان عند الثنيّة بحيث يراهم ولا يرونه، استقبل بوجهه جهة البيت ثم دعا بهذه الدعوات المباركات، التي ذكرها القرآن الكريم {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] . ثم انطلق يقطع الصحارى والقفار، حتى عاد إلى وطنه الأول في أرض فلسطين، بعد أن ترك زوجه وولده في رعاية الله وحفظه. بقيت (أم إسماعيل) وحيدة مع طفلها ترضعه، وتشرب من ذلك السقاء الذي معها، وتأكل من الثمر الذي تركه لها إبراهيم عليه السلام، حتى إذا نفذ ما في السقاء، ولم يبق عندها ماء، عطشت عطشاً شديداً، وعطش ولدها (إسماعيل) فجعلت تنظر إليه يتلوّى من شدة العطش، يكاد يهلكه الظمأ، فانطلقت تفتش له عن ماء، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ ولكنها لم تر أحداً، فهبطت من الصفا ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى وصلت إلى المروة فلم تر أحداً، فأخذت تهرول وتسعى بين (الصفا والمروة) سبع مرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قال ابن عباس: «فذلك سعي الناس بينهما» حتى إذا أشرفت على الهلاك، وتلاشت قواها سمعت صوتاً من بعيد، فقالت: قد أسمعتَ فأغثْ إن كان عندك غواث، ثمّ نظرت فإذا هي برجلٍ جميل الطلعة عند مكان زمزم، فهرولت نحوه تظنه بشراً، فإذا هو ملك من ملائكة الله، فضرب بجناحه الأرض فإذا بالماء يفور كأنه نبع دافق، وكانت (زمزم) التي هي آية من آيات الله، ثم قال لها الملك: لا تخافي الضياع فإن لله هاهنا بيتاً سوف يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنّ الله لن يضيّع أهله «. هذه خلاصة تلك الحادثة التاريخية، والذكرى الخالدة، التي أراد الله أن يعمر بها بيته العتيق، ويجعل منها مناسك للحج وشعائر لدينه الإسلامي المجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 [5] كتمان العلم الشرعي التحليل اللفظي {يَكْتُمُونَ} : الكتمان: الإخفاء والستر، قال الراغب: الكتمان ستر الحديث يقال كتمته كتماً وكتماناً. قال الألوسي: «الكتم ترك إظهار الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه، وتحقيق الداعي إلى إظهاره، وذلك قد يكون بمجرد ستره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وإخفائه، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه، واليهود - قاتلهم الله - ارتكبوا كلا الأمرين» . {البينات} : الآيات الواضحات الدالة على الحق، جمع بينة وهي في اللغة الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو حسيّة، وسمي البيان بياناً لكشفه عن المعنى المقصود. والمراد بالبينات في الآية: ما أنزله الله في التوراة والإنجيل من أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. {والهدى} : الهدى كلّ ما يدل على الخير، ويهدي إلى الرشد، من الهداية وهي الدلالة على الشيء. قال أبو السعود: المراد بالهدى الآيات الهادية إلى وجوب الإيمان بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووجوب اتباعه، عبّر عنها بالمصدر مبالغة. {يَلعَنُهُمُ الله} : أي يطردهم ويبعدهم من رحمته، وأصل اللعن: الإبعاد والطرد قال الشماخ: مقام الذئب كالرجل اللعين ... أي الطريد. {اللاعنون} : قال ابن عباس: اللاعنون كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين. وقال مجاهد: هم دواب الأرض وهوامّها، تقول: مُنِعنا القطر بمعاصي بني آدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والصحيح أنهم: (الملائكة، والأنبياء، وجميع الناس) لقوله تعالى: بعد هذه الآية: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] والقرآن يفسّر بعضه بعضاً. {تَابُواْ} : أي رجعوا عن الكتمان. وأصل التوبة الرجوعُ والندم على ما صدر من الإنسان. {وَأَصْلَحُواْ} : أي أصلحوا ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرّف، أو أصلحوا سيرتهم وأعمالهم. {وَبَيَّنُواْ} : أي أظهروا للناس ما كانوا كتموه من أوصاف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو ما كتموه من دين الله. {التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} : أي المبالغ في قبول التوبة، الرحيم بالعباد، وهما من صيغ المبالغة. وجه المناسبة كان أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه، أو السؤال عنه، ويتعمدون إخفاء ما ورد من البشارات ببعثة خاتم النبيين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لا يؤمن به الناس، كما يخفون بعض الأحكام الشرعية كحكم رجم الزاني، ويكتمون بعضها بتحريف الكلم عن مواضعه، والتأويل للآيات على غير معانيها إتباعاً للأهواء، ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات، التي سجّلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة. المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه: إن الذين يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى أنه رسول الله، ويتعمدون أن يكتموا أمر البشارية به عليه السلام مع أنهم يعلمون حق العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أوصافه. لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] هؤلاء الكاتمون لأوصاف الرسول، المتلاعبون بأحكام الدين، المحرفون للتوراة والإنجيل، يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله، ويستوجبون اللعنة من الملائكة والناس أجمعين، إلاّ من تاب عن كتمانه، وأصلح أمره بالإيمان بمحمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبيّن ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه، فلم يكتمه ولم يُخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته، وهو جل ثناؤه كثير التوبة على العباد، يتغمدهم برحمته، ويشملهم بعفوه، ويصفح عمّا فرط منهم من السيئات. سبب النزول 1 - نزلت هذه الآية الكريمة من أهل الكتاب حين سئلوا عمّا جاء في كتبهم من أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكتموه، ولم يخبروا عنه حسداً وبغضاً. . روي السيوطي في «الدر المنثور» عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنّ (معاذ بن جبل) وبعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبرونهم، فأنزل الله فيهم {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى {فِي الكتاب} المراد بالكتاب الكتب التي أنزلها الله لهداية البشرية، ف (أل) تكون (للجنس) مثلها في قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْر} [العصر: 1 - 2] وقيل: المراد بالكتاب التوراةُ والإنجيل، فتكون (أل) للعهد الذهني. اللطيفة الثانية: عبّر باسم الإشارة البعيد {أولئك يَلعَنُهُمُ الله} تنبيهاً على قبح عملهم وغاية بعده في الإجرام، والإفساد، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً لخطورته، وأتى بالفعل المضارع المفيد للتجدد لتجدد مقتضيه، وأبرز اسم الجلالة {يَلعَنُهُمُ الله} على سبيل الإلتفات لتربية المهابة، وإدخال الروعة، إذ لو جرى على نسق الكلام المتقدم لقال (أولئك نلعنهم) . اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} ضربٌ من البديع يسمى (الجناس المغاير) وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً، والأخرى فعلاً كما في هذه الآية. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} جاء اللفظان بصيغة المبالغة، لأن (فعّال) و (فعيل) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك: فعّال أو مفعال أو فعول ... في كثرةٍ عن فاعل بديل والمعنى: كثير التوبة، واسع المغفرة والرحمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل هذه الآية خاصة بأحبار اليهود والنصارى؟ الآية الكريمة نزلت في أهل الكتاب من أحبار اليهود، وعلماء النصارى، الذين كتموا صفات النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كما دلّ على ذلك سبب النزول، ولكنها تشمل كل كاتم لآيات الله، مخفٍ لأحكام الشريعة، لأن العبرة - كما يقول علماء الأصول - بعموم اللفظ لا (بخصوص السبب) ، والآيات وردت عامة بصيغة اسم الموصول {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} لذلك تعم. قال أبو حيان: «والأظهر عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب، وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كلّ من كتم علماً من دين الله، يُحتاج إلى بثه ونشره. وذلك مفسر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار» وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفُصح، المرجوع إليهم في فهم القرآن، كما روي عن أبي هريرة: «لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} » الآية. الحكم الثاني: هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين؟ استدل العلماء من قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات ... } الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن، أو تعليم العلوم الدينية، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه، ولا يستحق الإنسان أجراً على عملٍ يلزمه أداؤه، كما لا يستحق الأجر على الصلاة، لأنها قربة وعبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 لذلك يحرم أخذ الأجرة على تعليمها. غير أن المتأخرين من العلماء لما رأوا تهاون الناس، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم كتاب الله، وسائر العلوم الدينية، فينعدم حفظة القرآن، وتضيع العلوم، لذلك أباحوا أخذ الأجور، بل زعم بعضهم أنه واجب للحفاظ على علوم الدين، وما هذه الأوقاف والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لغرض صيانة القرآن وعلوم الشريعة، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] غير أننا نجد المتقدمين من الفقهاء متفقين على حرمة أخذ الأجرة على علوم الدين. لأن العلم عبادة وأخذ الأجرة على العبادة غير جائز. قال أبو بكر الجصاص: «وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله، ألا ترى أنه لا يجوز استحقاق الأجر على الإسلام؟! ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً، لأن قوله تعالى: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل، قال عمر بن أبي ربيعة: إن كنت حاولت دنيا أو أصبت بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن، وسائر علوم الدين» . وقال الفخر الرازي: «احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم، كان أخذ الأجرة أخذاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 على أداء الواجب، وأنه غير جائز، وقوله تعالى: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] مانعٌ أخذ البدل عليه من جميع الوجوه «. أقول: هذه النظرة الفقهية الدقيقة تسمو بالعلم إلى درجة العبادة، وهي نظرة جديرة بالتقدير، ولكنّ علوم الشريعة تكاد تضيع مع الأخذ بفتوى المتأخرين، من إباحة أخذ الأجرة على التعليم، فكيف لو أخذنا بفتوى المتقدمين ومنعنا أخذ الرواتب والأجور؟ إذن لم يبق من يعلّم أو يتعلم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - اليهود والنصارى كتموا صفات النبي لصدّ الناس عن الإيمان به. 2 - كتم العلم خيانة للأمانة التي جعلها الله في أعناق العلماء. 3 - يجب نشر العلم وتبليغه إلى الناس لتعمّ الهداية جميع البشر. 4 - من كتم شيئاً من أحكام الشرع الحنيف استحق اللعنة المؤبدة. 5 - لا تكفي التوبة وحدها بل لا بدّ من إصلاح السيرة، وإخلاص العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 خاتمة البحث: حكمة التشريع جاءت الشرائع السماوية، لهداية البشرية، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وقد أمرنا الإسلام بتعليم الجاهل، وهداية الضال، ودعوة الناس إلى الله، حتى تقوم الحجة على الناس، ولا يبقى لأحدٍ عذر عند الله يوم القيامة. ولمّا كان ما أنزله الله من البينات والهدى، لم ينزل إلاّ لخير الناس، وهداية البشرية إلى الطريق المستقيم، وكان كتم العلم وعدم تبليغه إلى الناس فيه تعطيل لوظيفة الرسالة، التي بعث الله بها رسله وأنبياءه، وفيه خيانة للأمانة التي ائتمن الله عليها العلماء {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ... } [آل عمران: 187] لذلك فقد شدّد الله النكير على من كتم شيئاً ممّا يحتاج الناس إليه، وخاصة من أمور الدين، وأوعد بالعذاب الأليم لكل من كتم آيات الله، أو أخفى أحكام الشريعة، لأن الكتمان جرم عظيم، يستحق مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ. وفي هذا دلالة واضحة، على عناية الإسلام العظيمة، بنشر العلم والثقافة، لتبليغ دعوة الله إلى الناس وانتشال الأمة من براثن الجهل والضلالة، فنشر العلم عبادة، وكتمه جناية، وقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» بلّغوا عين ولو آية «وقال صلوات الله وسلامه عليه:» من سُئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 [6] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث التحليل اللفظي {واشكروا للَّهِ} : الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم ويكون على وجهين: أحدهما: الاعتراف بالنعمة وذلك بالثناء على المنعم {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . والثاني: صرف النعمة فيما يرضي الله وذلك باستعمال السمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والبصر وسائر الحواس فيما خلقت له. {أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} : الإهلال رفع الصوت، يقال: أهلّ بكذا أي رفع صوته، ومنه إهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة، وأهلّ الحاج رفع صوته بالتلبية قال الشاعر: يُهلّ بالفرقد ركبانُها ... كما يُهلْ الراكبُ المعتمر وأصل الإهلال: رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل في رفع الصوت مطلقاً، وكان المشركون إذا ذبحوا ذكروا اسم اللات والعزّى ورفعوا بذلك أصواتهم. والمعنى: حرّم عليكم ما ذبح للأصنام والطواغيت، وذكر عليه اسم غير الله. قال الزمخشري: وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّى. {اضطر} : أي حلّت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرّم الله. قال القرطبي: فيه إضمار أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها فهو (افتعل) من الضرورة وأصله (اضطرر) . {بَاغٍ} : الباغي في اللغة: الطالب لخير أو لشر ومنه حديث «يا باغي الخير أقبل» وخُصّ هنا بطالب الشر. قال الزجاج: البغي قصدُ الفساد، يقال: بغى الجرح إذا ترامى للفساد. وبغت المرأة إذا فجرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 {عَادٍ} : اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد. والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد غيرها. قال الطبري: «وأولى هذه الأقوال قول من قال: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ} بأكله ما حرم عليه من أكله {وَلاَ عَادٍ} في أكله وله في غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى» . المعنى الإجمالي يأمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن يتمتعوا في هذه الحياة بما أحله لهم من الكسب الحلال، والرزق الطيب، والمتاع النافع، وأن يأكلوا من لذائذ المآكل التي أباحها لهم، ورزقهم إيّاها بشرط أن تكون من الحلال الطيب، وأن يشكروا الله على نعمه التي أسبغها عليهم، إن كانوا حقاً صادقين في دعوى الإيمان، عابدين الله منقادين لحكمه، مطيعين لأمره، لا يعبدون الأهواء والشهوات. ثمّ بيّن تعالى ما حرّمه عليهم من الخبائث المستكرهة، التي تنفر منها الطباع السليمة، أو ممّا فيه ضرر واضح للبدن، فذكر تعالى أنه إنما حرّم عليهم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر الخبائث، كما حرّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة، وكلّ ما ذُكر عليه اسم غير الله، لكنّ إذا اضطر الإنسان، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات، غير باعٍ بأكله ما حرم الله عليه، فليس عليه ذنب أو مخالفة ولا متجاوز قدر الضرورة، لأن الله غفور رحيم، يغفر للمضطر ما صدر عن غير إرادة، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وجه الارتباط بالآيات السابقة بيّن تعالى في الآيات السابقة حال الذين يتخذون الأنداد من دون الله يحبونهم كمحبة الله، وأشار إلى أن سبب ذلك هو حب حطام الدنيا، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض، إذْ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها، بشرط أن تكون حلالاً طيباً، {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] وبيّن سوء حال الكافرين المقلدين، الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم، ثمّ وجه الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم، وأحرى بالاهتداء. وجوه القراءات 1 - قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} قرأ الجمهور بالبناء للفاعل {حَرَّمَ} أي حرّم الله و {الميتة} بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالبناء للمفعول والتشديد (إنما حرّم عليكم الميّتَة) . قال القرطبي: التشديدُ والتخفيف في (ميّت) و (مَيْت) لغتان، وقد جمعا في قول الشاعر: ليس من مات فاستراح بميْتٍ ... إنما المْيتُ ميّتُ الأحياء والمشهور عند أهل اللغة: (الميْت) بالتخفيف من مات فعلاً، وبالتشديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 (ميّت) من سيموت كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] إنك ستموت وإنهم سيموتون. 2 - قرأ الجمهور (فمن اضطُرّ) بضم الطاء، وقرأ أبو جعفر (فمن اضطِرّ) بكسر الطاء، وأدغم ابن محيص الضاد في الطاء (فمن اطرّ) . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله. 2 - قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ} إنمّا مكفوفة عن العمل وهي حرف واحد تفيد الحصر و (الميتة) مفعول ل (حرّم) والمعنى: ما حرّم عليكم إلا الميتة ... الخ. 3 - قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ} غيرَ منصوب على الحال (ولا عاد) معطوف على باغٍ وتقديره لا باغياً ولا عادياً. قال القرطبي: (غيرَ) نصبٌ على الحال، وقيل: على الاستثناء، وإذا رأيت (غير) يصلح في موضعها (في) فهي حال، وإذا صلح موضعها (إلاّ) فهي استثناء، فقس عليه، و (باغ) أصله (باغيٌ) ثقلت الضمة على الياء فسكنّت، والتنوين ساكن، فحذفت الياء، والكسرةُ دالة عليها «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: المرادُ من الطيبات الرزقُ الحلال، فكل ما أحلّه الله فهو طيّب، وكلّ ما حرّمه فهو خبيث، قال عمر بن عبد العزيز: المراد (طيبُ الكسب لا طيبُ الطعام) . ويؤيده الحديث الشريف:» إنّ الله طيّبٌ لا يقبل إلا طيباً، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] وقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبر، يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنّى يُستجابُ له؟ « فهذا هو بيان الطيّب من الرزق ببيان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا عطر بعد عروس. اللطيفة الثانية: قال أبو حيان: لمّا أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيّب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بيّن لهم ما حرّم عليهم لكونه أقل، فلما بيّن ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر، وهذا مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمّا سئل عما يلبس المحرم فقال: «لا يلبس القميص ولا السروال» فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور، لكثرة المباح وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ «. اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {واشكروا للَّهِ} إلتفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة، إذ لو جرى على الأسلوب الأول لقال:» واشكرونا «وفائدة هذا الالتفات تربية المهابة والروعة في القلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير} هو على حذف مضاف أي أكل الميتة وأكل لحم الخنزير مثل قوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] أي أهل القرية. قال الألوسي:» وإضافة الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق - وأوكده «. وقال أبو السعود:» وإنما خصَّ لحم الخنزير مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه بمنزلة التابع له «. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل المحرّم في آية الميتة الأكلُ أم الانتفاع؟ ورد التحريم في هذه الآية مسنداً إلى أعيان الميتة والدم، وقد اختلف الفقهاء هل المحرّم الأكل فقط، أم يحرم سائر وجوه الانتفاع، لأنه لما حرم الأكل حرم البيع والانتفاع بشيء منها لأنها ميتة، إلا ما استثناه الدليل، وذهب بعض العلماء إلى أن المحرم إنما هو الأكل فقط بدليل قوله تعالى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وبدليل ما بعده في قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ} أي اضطر إلى الأكل. قال الجصاص:» والتحريم يتناول سائر وجوه المنافع، فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يطعمها الكلاب والجوارح، لأن ذلك ضرب من الانتفاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بها، وقد حرّم الله الميتة تحريماً مطلقاً معلقاً بعينها، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يخص بدليل يجب التسليم له «. الحكم الثاني: ما هو حكم الميتة من السمك والجراد؟ تضمنت الآية تحريم (الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهّل لغير الله) . فأمّا الميتة فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل، أو مقتولاً بغير ذكاة شرعية، وكان العرب في الجاهلية يستبيحون الميتة، فلما حرمها الله تعالى جادلوا في فلك المؤمنين وقالوا: لا تأكلون مما قتله الله، وتأكلون مما تذبحون بأيديكم!! فأنزل الله في سورة الأنعام: [121] {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فالميتة حرام بالنص القاطع، وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة منها الأحاديث التالية: أ - قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أُحِلّ لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال» . ب - وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته» . ج - وفي «الصحيحين» عن جابر بن عبد الله أنه خرج مع (أبي عبيدة بن الجراح) يتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر، فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى (العنبر) قال أبو عبيدة: ميتةٌ، ثم قال: بل نحن رُسُل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً حتى سمنّا. . وذكر الحديث قال: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزقٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منه فأكله. د - وحديث ابن أبي أوفى «غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبع غزوات نأكل الجراد» . فقد خصَّص جمهور الفقهاء من الآية ميتة البحر للأحاديث السابقة الذكر، كما أباحوا أكل الجراد، إلاّ أن الحنفية حرموا الطافي من السمك وأحلّوا ما جزر عنه البحر لحديث «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه» . إلاّ أن المالكية أباحوا أكل ميتة السمك، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة: لأنه لم يصح فيه عندهم شيء. قال القرطبي: «وأكثر الفقهاء يجيزون أكل جميع دوابّ البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك، وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيراً. قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراماً» . الحكم الثالث: ما هي ذكاة الجنين بعد ذبح أمه؟ اختلف العلماء في الجنين الذي ذبحت أمه وخرج ميتاً هل يؤكل أم لا؟ ذهب أبو حنيفة: إلى أنه لا يؤكل إلا أن يخرج حياً فيذبح، لأنه ميتة وقد قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} . وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد إلى أنه يؤكل، لأنه مذكى بذكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أمه، واستدلوا بحديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه» . وقال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ تمّ خلقُه ونبت شعره أُكل وإلاّ فلا. قال القرطبي: «إن الجنين إذا خرج بعد الذبح ميتاً يؤكل لأنه جرى مجرى العضو من أعضائها» . وقال من ينتصر لأبي حنيفة: إن الحديث يحتمل معنى آخر هو أن ذكاة الجنين كذكاة أمه على حد قول القائل قولي قولُك، ومذهبي مذهبك أي كقولك وكمذهبك وعلى حد قول الشاعر: فعيناكِ عيناها وجيدُك جيدُها ... سوى أنّ عظم الساق منك دقيق الحكم الرابع: هل يباح الانتفاع بالميتة في غير الأكل؟ ذهب عطاء إلى أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة وجلدها، كطلاء السفن ودبغ الجلود، وحجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل خاصة، ويدل عليه قوله تعالى: {مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] . وذهب الجمهور: إلى تحريمه واستدلوا بالآية الكريمة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] أي الانتفاع بها بأكلٍ أو غيره، فجعلوا الفعل المقدر هو الانتفاع، واستدلوا كذلك بقوله عليه السلام: «لعن الله اليهود، حُرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها» فهذا الحديث يدل على أن الله إذا حرّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 شيئاً حرّم ثمنه، فلا يجوز البيع ولا الانتفاع بشيء من الميتة إلا ما ورد به النص. الحكم الخامس: ما هو حكم الدم الذي يبقى في العروق واللحم؟ اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل ولا ينتفع به، وقد ذكر تعالى الدم هاهنا مطلقاً وقيّده في الأنعام بقوله: {أَو دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] وحمل العلماء المطلق على المقيد، ولم يحرموا إلا ما كان مسفوحاً، وورد عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: (لولا أنّ الله قال أو دماً مسفوحاً لتتبّع الناس ما في العروق) فما خالط اللحم غير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل دماً. قال القرطبي: «وأمّا الدم فمحرّم ما لم تعم به البلوى، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم والعروق، وروي عن عائشة أنها قالت:» كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعلوها الصفرة من الدم، فنأكل ولا ننكره «. الحكم السادس: ماذا يحرم من الخنزير؟ نصت الآية على تحريم لحم الخنزير، وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه لا شحمه، لأن الله قال: {وَلَحْمَ الخنزير} وذهب الجمهور إلى أنّ شحمه حرام أيضاً، لأن اللحم يشمل الشحم، وهو الصحيح، وإنما خصّ الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه، سواء ذُكّى ذكاةً شرعية أو لم يُذكّ. وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير. فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز الخرازة به. وقال الشافعي: لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير. وقال أبو يوسف: أكره الخرز به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قال القرطبي:» لا خلاف أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به، لأن الخرازة كانت على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبعده، لا نعلم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده، وما أجازه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو كابتداء الشرع منه «. وقد اختلف أهل العلم في خنزير الماء فقال أبو حنيفة: لا يؤكل لعموم الآية. وقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر، وتفصيل الأدلة ينظر في كتب الفروع. الحكم السابع: ما الذي يباح للمضطر من الميتة؟ اختلف العلماء في المضطر، أيأكل من الميتة حتى يشبع، أم يأكل على قدر سدّ الرمق؟ ذهب مالك إلى الأول، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة. وذهب الجمهور: إلى الثاني، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدرها، وسبب الخلاف يرجع إلى مفهوم قوله تعالى {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} فالجمهور فسروا البغي بالأكل من الميتة لغير حاجة، والعاد هو المعتدي حد الضرورة. ومالك فسره بالبغي والعدوان على الإمام، ولكل وجهة والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - إباحة الأكل من الطيبات للمؤمنين بشرط أن يكون من الكسب الحلال. 2 - شكر الله واجب على المؤمنين لنعم الله التي لا تُعد ولا تحصى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 3 - الإخلاص في العبادة لله من صفات المؤمنين الصادقين. 4 - الله جل وعلا حرّم على عباده (الخبائث) دون (الطيبات) . 5 - حالة الاضطرار تبيح للإنسان الأكل ممّا حرمه الله كالميتة وغيرها. خاتمة البحث: حكمة التشريع أباح الباري جل وعلا لعباده المؤمنين تناول الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ونهاهم عن تعذيب النفس وحرمانها من اللذائذ الدنيوية، فإن المشركين وأهل الكتاب حرَّموا على أنفسهم أشياء لم يحرمها الله تعالى كالبحيرة والسائبة. وكان المذهب الشائع عند النصارى أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، تعذيب النفس واحتقارها، وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة، واعتقاد أنه لا حياة (للروح) إلا بتعذيب الجسد، وكلّ هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء، وليس لها أثر في شريعة الله. وقد تفضل الله على هذه الأمة بجعلها أمة وسطاً، تعطي الجسد حقه، والروح حقها، فأحلّ لنا الطيبات وحرّم علينا الخبائث، وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا (جثمانيين) خلّصاً كالأنعام، ولا (روحانيين) خلصاً كالملائكة، بل جعلنا أناسيّ كملة بهذه الشيعة المعتدلة. وأما الحكمة من تحريم الميتة فلما فيها من الضرر، لأنها إمّا أن تكون ماتت لمرض وعلة، قد أفسد بدنها وجعلها غير صالحة للبقاء والحياة، وإما أن يكون الموت لسببٍ طارئ. فأما الأول فقد خبث لحمها، وتلوث بجراثيم المرض، فيخشى من عدواها، ونقل مرضها إلى الآكلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وأما الثانية: فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارة في جسمها. وأما الدم المسفوح: فلقذارته وضرره أيضاً، وقد أثبت الطب الحديث أنّ الدم ضار كالميتة وأنه تتجمع فيه (الميكروبات) والمواد الضارة. وأما لحم الخنزير: فلأن غذاءه من القاذورات، والنجاسات فيقذر لذلك، ولأن فيه ضرراً فقد اكتشف الأطباء أن لحم الخزير يحمل جراثيم شديدة الفتك، كما أن المتغذي من لحم الخنزير يكتسب من طباع ما يأكله، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة، وأشهرها عدم الغيرة والعفة. يقول شهيد الإسلام سيد قطب عليه رحمة الله في تفسيره «الظلال» ما نصه: «والخنزير بذاته منفرّ للطبع النظيف القويم، ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل، ليكتشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة (الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيّسة) . ويقول الآن قوم: إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت، فلم تعد هذه الديدان بويضاتها مصدر خطر، لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توفرها وسائل الطهو الحديثة، وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها، وندع كلمة الفصل لها، ونحرم ما حرمت، ونحلل ما حلّلت، وهي من لدن حكيم خبير؟! أمّا ما أهل به لغير الله، فهو محرم لا لعلة فيه، ولكن للتوجه به لغير الله، محرم لعلة روحية، لسلامة القلب، وطهارة الروح، وخلوص الضمير، فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 [7] في القصاص حياة النفوس التحليل اللفظي {كُتِبَ} : قال الفراء {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} معناه في كل القرآن: فرض عليكم قال الشاعر: كُتب القتلُ والقتال علينا ... وعلى الغانياتِ جرّ الذيول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قال الطبري: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} بمعنى فُرض عليكم القصاصُ، وهو في أشعارهم مستفيض، وفي كلامهم موجود، وهو أكثر من أن يحصى. {القصاص} : أن يفعل به مثل فعله من قولهم: اقتصّ أثر فلان إذا فعل مثل فعله. قال الراغب: القصاص مأخوذ من القصّ وهو تتبع الأثر قال تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] والقصاصُ: تتبعُ الدم بالقَوَد قال تعالى: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . قال في اللسان: قصصتُ الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي اتبعي أثره، والقصاصُ: القَوَد وهو القتل بالقتل قال الشاعر: فرمنا القصاصَ وكان القصا ... صُ حكماً وعدلاً على المسلمينا {القتلى} : جمع قتيل ويستوي فيه المذكر والمؤنث، كصرعى جمع صريع، وجرحى جمع جريح. قال في «اللسان» : ورجلٌ قتيل أي مقتول، وامرأة قتيل أي مقتولة، فإذا قلت: (قتيلة بني فلان) قلت بالهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وقال الطبري: وإنما يجمع (فعيل) على (فَعْلى) إذا كان وصفاً دالاً على الزمانة بحيث لا يقدر معه صاحبه على البُراح من موضعه وأصل القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، ولكن إذا اعتبر بفعل الشخص يقال: قتلٌ، وإذا عتبر بفوت الحياة يقال: موتٌ، قال تعالى: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] . {عُفِيَ} : العفو معناه الصفح، والإسقاط، تقول: عفوت عنه أي صفحتُ عنه ومنه قوله تعالى: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} [المائدة: 95] وقوله: {واعف عَنَّا} [البقرة: 286] وعفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق أي أسقطتها عنكم. والمعنى: فمن تُرِك له من جهة أخيه شيءٌ أي ترك له القتل، ورُضي منه بالدية. {فاتباع بالمعروف} : مطالبته بالمعروف، أي يطالبه وليّ القتيل بالرفق والمعروف، ويؤدي إليه القاتل الدية بإحسان، بدون مماطلة أو بخس أو إساءة في الأداء. {فَمَنِ اعتدى} : أي ظلم فقتل القاتل بعد أخذ الدية فله عند الله عذاب أليم. {الألباب} : العقول جمع لب، مأخوذ من لب النخلة. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم أن تقتصوا للقتيل من قاتله، ولا يبغيّن بعضكم على بعض، فإذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوا فقط، وإذا قتل العبدُ العبدَ فاقتلوه به، وإذا قتلت الأنثى الأنثى فاقتلوها بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 مثلاً بمثل بالعدل والمساواة، ودعوا الظلم الذي كان بينكم فلا تقتلوا أحراراً، ولا بالعبد حراً، ولا بالأنثى رجلاً، فإن ذلك ظلم وعدوان، واستعلاء وطغيان، فمن تُرك له شيء من القصاص إلى الدية، وعفا عنه وليّ القتيل فلم يقتص منه وقبل منه الدية، فليحسن الطالب في الطلب من غير إرهاقٍ ولا تعنيف، ولْيحسن الدافع في الأداء من غير مماطلة ولا تسويف، ذلك الذي شرعته لكم - أيها المؤمنون - من العفو إلى الدية، تخفيف من ربكم ورحمة، خفَّف به عنكم ليظهر فضله عليكم، على عكس من سبقكم من اليهود حيث لم يكن في شرعهم إلا القصاص، فمن تجاوز منكم بعد أخذ الدية وقتل القاتل، فله عذاب أليم عند الله، لأنه ارتكب جريمة بنقضه العهد وغدره بالقاتل بعد أن أعطاه الأمان، وأخذ منه المال. ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت لكم من القصاص حياة وأي حياة، لأنه من علم أن من قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله، وبذلك تصان الدماء، وتحفظ النفوس، ويأمن الناس على أرواحهم، ذلك هو شرع الله الحكيم، ودينه القويم، الذي به حياة الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة. سبب النزول أ - روي في سبب نزول هذه الآية عن قتادة أنَّ أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعة للشيطان، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبدُهم عبدَ آخرين، قالوا: لن نقتل به إلا حراً، تعزّزاً لفضلهم على غيرهم، وإذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا: لن نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الله {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} . ب - وروي عن (سعيد بن جبير) أن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتلٌ وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ... } . لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أكرم الله هذه الأمة المحمدية فشرع لهم قبول الدية في القصاص، ولم يكن هذا في شريعة التوراة، روي البخاري عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن تقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ممّا كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} قتل بعد قبول الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة} الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قال الزجاج:» إذا علم الرجل أنه إن قَتَل، أمسك عن القتل، فكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال: أبلغ أبا مالك عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح العتاب ما بينهم «. اللطيفة الثالثة: بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص، بأسلوب لا يُسامى، وعبارةٍ لا تُحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن. ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده، وهو (الحياة) في (الإماتة) التي هي القصاص، وعرّف القصاص ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب في حياة البشرية. ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وقد اشتهر عن بعض بلغاء العرب كلمة في معناها، كانوا يعجبون من إيجازها وبلاغتها، ويظنون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها وهي قولهم: (القتل أنفى للقتل) وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، لأنها قيلت قبلها أقوال المشاهير البلغاء كقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع) وقولهم: (أكثروا القتل ليقلّ القتل) وأجمعوا على أن كلمة (القتل أنفى للقتل) أبلغ هذه العبارات على الإطلاق. قال الإمام الفخر:» وبيان التفاوت بين النظم الكريم وبين كلام العرب من وجوه عدة: الأول: أن النظم الكريم (في القصاص حياة) أشد اختصاراً من قولهم (القتلُ أنفى للقتل) لأن حروفها أقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الثاني: أن قولهم (القتل أنفى للقتل) ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال. الثالث: أنّ كلامهم فيه تكرار للفظ القتل، وليس في الآية الكريمة هذا التكرار. الرابع: أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل، والآية أجمع لأنها تفيد الردع عن القتل والجراح. الخامس: أن القتل ظلماً قتلٌ وليس نافياً للقتل، بل هو سبب لزيادة القتل، فظاهر قولهم باطل، وبذلك يظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي؟ اختلف الفقهاء في الحر إذا قتل عبداً، والمسلم إذا قتل ذمياً هل يقتلان بهما أم لا؟ فذهب الجمهور: (المالكية والشافعية والحنابلة) إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، ولا المسلم بالذمي. وذهب الحنفية: إلى أن الحر يقتل بالعبد، وكذلك المسلم يقتل بالذمي. أدلة الجمهور: استدل الجمهور على مذهبهم بالكتاب، والسنة، والمعقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أ - أما الكتاب فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} فقد أوجب الله المساواة، ثمّ بيّن هذه المساواة بقوله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} . فالحرّ يساويه الحر، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، فكأنه تعالى يقول: اقتلوا القاتل إذا كان مساوياً للمقتول، قالوا: ولا مساواة بين الحر والعبد فلا يقتل به، وكذلك لا مساواة بين المسلم والكافر فلا يقتل به. ب - وأما السنة: فما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يُقتل مسلم بكافر» . ج - وأما المعقول: فقالوا: إن العبد كالسِّلعة والمتاع بسبب الرق الذي هو من آثار الكفر، والكافر كالدابة بسبب الكفر الذي طغى عليه، وقد قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55] فكيف يُساوى المؤمن بالكافر، وكيف يقتل به؟ . أدلة الحنفية: واستدل الحنفية على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي: أولاً: قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ... } إنّ الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية، وهي عامة تعم كل قاتل سواءً كان حراً أو عبداً، مسلماً أو ذمياً، وأما قوله تعالى: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد ... } إلخ فإنما هو لإبطال الظلم الذي كان عليه أهل الجاهلية، حيث كانوا يقتلون بالحر أحراراً، وبالعبد حراً، وبالأنثى يقتلون الرجل تعدياً وطغياناً، فأبطل الله ما كان من الظلم، وأكد القصاص على القاتل دون غيره كما فهم ذلك من سبب النزول وقد تقدم. ثانياً: واستدلوا بقوله تعالى في سورة [المائدة: 45] : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بالنفس ... } قالوا: وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين، وشرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد ناسخ، ولم نجد ناسخاً. ثالثاً: واستدلوا كذلك بقوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] فإن هذه الآية انتظمت جميع المقتولين ظلماً، عبيداً كانوا أو أحراراً، مسلمين أو ذمّيين، وجُعل لوليهم سلطان وهو (القود) أي القصاص. رابعاً: واستدلوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم» فيكن العبد مساوياً للحر. خامساً: واستدلوا بحديث: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن خصاه خصيناه» . قالوا: فهذا نص على أن الحر يقتل بالعبد، لأن الإسلام لم يفرّق بين حر وعبد. سادساً: واستدلوا بما رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قتل مسلماً بمعاهد وقال:» أنا أكرم مَن وفّى بذمته «» . سابعاً: قالوا: ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه، فوجب أن يقاد منه، لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله. هذه هي خلاصة أدلة الفريقين: عرضناها باختصار، وسبب الخلاف في الحقيقة يرجع إلى اختلاف العلماء في فهم الآية، فالحنفية يقولون: إن صدر الآية مكتف بنفسه، وقد تم الكلام عند قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} وسائر الأئمة يقولون: لا يتم الكلام هاهنا، وإنما يتم عند قوله: {والأنثى بالأنثى} فهو تفسير له وتتميم لمعناه، والآية وردت لبيان التنويع والتقسيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقد اعترض الحنفية على الجمهور بأنه ينبغي ألا يُقتل الرجل إذا قتل أنثى؟ وكذلك العبد إذا قتل حراً؟ مع أنهم يقولون أنه يقتل العبد بالحر، والرجل بالمرأة!! أجاب الجمهور: بأن ظاهر الآية يفيد ألا يقتل العبد بالحر، ولكننا نظرنا إلى المعنى فرأينا أن العبد يُقتل بالعبد، فأولى أن يقتل بالحر، وأما قتل الرجل بالمرأة فذلك ثابت بالإجماع، وهو دليل آخر خصّص الآية الكريمة ولولا الإجماع لقلنا لا يقتل الذكر بالأنثى. يقول فضيلة الشيخ السايس في كتابة «تفسير آيات الأحكام» ما نصه: «والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة، لأن هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان (المساواة) المعتبرة، قد أخرجوا منه طردا وعكساً الأنثى بالرجل، فذهبوا إلى أن الرجلُ يقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالرجل، وذهبوا إلى أنّ الحر لا يقتل بالعبد، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر، فهذا كله يُضعف مسلكهم في الآية. أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف، وحينئذٍ يكون العبد مساوياً للحر، ويكون المسلم مساوياً للذمي في الحرمة، محقون الدم على التأييد» . الترجيح: أقول: مذهب أبي حنيفة في قتل الحر بالعبد معقول المعنى، مؤيد «من قتل عبده قتلناه ... » فالإسلام قد ساوى بين الأحرار والعبيد في الدماء، فحرمة العبد كحرمة الحر، ونفس العبد كنفس الحر، ولهذا يقتل به. أما قتل المؤمن بالكافر: ففي النفس من قول أبي حنيفة شيء، والراجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فيه رأي الجمهور لا سيما بعد أن تأكد بالدليل الثابت «لا يُقتل مسلم بكافر» أخرجه البخاري. وكما يقول ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يصح حديث ولا تأويلٌ يخالف هذا. ثمّ كيف يتساوى المؤمن مع الكافر، مع أن الكافر شرّ عند الله من الدابة؟ والمؤمن طيّب طاهر والله تعالى يقول: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] ويقول: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} [المائدة: 100] ، فكيف نقتل مؤمناً طاهراً بمشرك نجس؟! فالراجح إن شاء الله في هذه المسألة قول الجمهور. وقد رأيت في بعض مراجعاتي قصة لطيفة وهي أن (أبا يوسف) القاضي من تلامذة الإمام أبي حنيفة، رفعت إليه قضية، تتلخص في أن مسلماً قتل ذمياً كافراً، فحكم عليه أبو يوسف بالقصاص، فبينما هو جالس ذات يوم، إذ جاءه رجل برقعةٍ فألقاها إليه ثم خرج، فإذا فيها هذه الأبيات: يا قاتلَ المسلم بالكافرِ ... جرتَ وما العادلُ كالجائر يا مَنْ ببغدادَ وأطرافِها ... من علماء الناسِ أو شاعرِ استرجُعوا وابكُوا على دينكم ... واصطبروا فالأجرُ للصابر جار على الدين أبو يوسف ... بقتله المؤمن بالكافر فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد: تدارك هذا الأمر لئلا تكون فتنة. . فدعا أبو يوسف أولياء القتيل وطالبهم بالبينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يستطيعوا أن يثبتوا فأسقط القود وأمر بدفع الدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مناظرة لطيفة ذكر العلامة أبو بكر ابن العربي في تفسيره «أحكام القرآن» هذه المناظرة اللطيفة فقال: «ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانين وأربعمائة، فقيهٌ من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف ب (الزوزني) زائراً للخليل صلوات الله عليه، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة - طهّرها الله - معه، وشهد علماء البلد، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر فقال: يُقتل به قصاصاً، فطولب بالدليل فقال: الدليل عليه قوله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} وهذا عامٌ في كل قتيل. فانتدب معه في الكلام فقيه الشافعية وإمامهم بها (عطاء المقدسي) وقال: ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة له فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله سبحانه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} فشرط المساواة في المجازاة، ولا مساواة بين المسلم والكافر، فإنّ الكفر حطّ منزلته، ووضع مرتبته. الثاني: أنّ الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها، وجعل بيانها عند تمامها فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} فإذا نقص العبد عن الحر بالرق - وهو من آثار الكفر - فأحرى وأولى أن ينقص عنه الكافر. الثالث: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مؤاخاة بين المسلم والكافر، فدل على عدم دخوله في هذا القول. فقال الزوزني: دليل صحيح، وما اعترضت به لا يلزمني منه شيء. أما قولك: إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة فكذلك أقول، وأمّا دعواك أنّ المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص معدومة فغير صحيح، فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإنّ الذمي محقون الدم، والمسلم محقون الدم، وكلاهما في دار الإسلام، والذي يحقّق ذلك أن المسلم يُقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدلّ على مساواته لدمه، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. وأما قولك: إنّ الله ربط آخر الآية بأولها فغير مسلّم، فإنّ أول الآية عامٌ، وآخرها خاصٌ، وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها، بل يجري كلٌ حكمه من عموم أو خصوص. وأما قولك: إن الحر لا يقتل بالعبد فلا أسلّم، بل يقتل به قصاصاً، فتعلقت بدعوى لا تصح لك. وأما قولك: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} يعني المسلم فكذلك أقول، ولكن هذا خصوص في العفو فلا يمنع من عموم القصاص. . الخ. قال ابن العربي: وجرت مناظرة عظيمة، حصلنا منها فوائد جمة، أثبتناها في «نزهة الناظر» . الحكم الثاني: هل يقتل الوالد إذا قتل ولده؟ قال الجمهور: لا يقتل الوالد إذا قتل ولده، لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لا يُقتل وِالدٌ بولده» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قال الجصاص: «وهذا خبرٌ مستفيض مشهور، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه، فكان في حيّز المتواتر» . وقال مالك: يُقتل إذا تعمّد قتله بأن أضجعه وذبحه. قال القرطبي: «لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمداً، مثل أن يضجعه ويذبحه، أو يصبره، أنه يُقتل به قولاً واحداً، فأمّا إن رماه بالسلاح أدباً وحنقاً لم يقتل به وتغلّظ الدية» . الترجيح: وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح للنصّ الوارد الذي أسلفناه، ولأنّ الشفقة تمنعه من الإقدام على قتل ولده متعمداً، بخلاف الابن إذا قتل أباه فإنه يقتل به من غير خلاف، قال فخر الإسلام الشاشي: إن الأب كان سبب وجود الابن، فكيف يكون هو سبب عدمه؟! الحكم الثالث: هل يقتل الجماعة بالواحد؟ اختلف الفقهاء في الجماعة إذا اشتركوا في قتل إنسان هل يقتلون به؟ على مذهبين: مذهب الجمهور والأئمة الأربعة: أن الجماعة يقتلون بالواحد. مذهب الظاهرية: ورواية عن الإمام أحمد: أن الجماعة لا تقتل بالواحد. دليل الظاهرية: أ - استدل أهل الظاهر بآية القصاص {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} فقد شرطت المساواة والمماثلة، قالوا: ولا مساواة بين الواحد والجماعة. ب - واستدلوا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] فالنفس تقابلها النفس، ولا تقتل الأنفس بالنفس الواحدة لأنه مخالف لنص الآية. دليل الجمهور: أولاً ما روي أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قتل سبعة في غلام قتل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. قال ابن كثير: ولا يُعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع. ثانياً: ما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبّهم الله في النار» قالوا: فإذا اشتركوا في العقوبة الأخروية، فإنهم يشتركون في العقوبة الدنيوية أيضاً. ثالثاً: قالوا إن الشارع شرع القصاص لحفظ الأنفس {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة} ولو علم الناس أن الجماعة لا تقتل بالواحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم، ثم لم يقتلوا فتضيع دماء الناس، وينتشر البغي والفساد في الأرض. قال ابن العربي: «احتج علماؤنا بهذه الآية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} على أحمد بن حنبل في قوله: لا تُقتل الجماعة بالواحد، لأن الله شرط في القصاص المساواة، ولا مساواة بين الواحد والجماعة. والجواب: أن مراعاة القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ، ولو علم الجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أنهم إذا قتلوا واحداً لم يقتلوا به، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم، وبلغوا الأمل من التشفي منهم. وجواب آخر: أن المراد بالقصاص قَتْلُ من قَتَل، كائناً من كان، رداً على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قُتل من لم يَقْتُل في مقابله الواحد بمائة افتخاراً واستظهاراً بالجاه والمقدرة، فأمر الله بالمساواة والعدل، وذلك بقتل من قتل» . الحكم الرابع: كيف يُقتل الجاني عند القصاص؟ اختلف الفقهاء في كيفية القتل على مذهبين: فذهب مالك والشافعي: ورواية عن أحمد، أن القصاص يكون على الصفة التي قَتَل بها، فمن قتل تغريقاً قُتل تغريقاً، ومن رضخ رأس إنسان بحجر، قُتل برضخ رأسه بالحجر، واحتجوا بالآية الكريمة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} حيث أوجبت المماثلة فيقتص منه كما فعل. واحتجوا بحديث أنس: «أن يهودياً رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأسه بحجر» . وذهب أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه: إلى أن القتل لا يكون إلا بالسيف، لأن المطلوب بالقصاص إتلاف نفسٍ بنفس، واستدلوا بحديث: «لا قود إلاَّ بالسيف» وحديث «النهي عن المُثْلة» وحديث «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» وقالوا: إذا ثبت حديث أنس كان منسوخاً بالنهي عن المُثْلة. وقالوا: إن القتل بغير السيف من التحريق، والتفريق، والرضخ بالحجارة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 والحبس حتى الموت ربما زاد على المثل فكان اعتداءً والله تعالى يقول: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد حكي أن (القاسم بن معن) حضر مع (شريك بن عبد الله) عند بعض السلاطين، فسأله ما تقول: فيمن رمى رجلاً بسهمٍ فقتله؟ قال: يُرمى فيقتل، قال: فإن لم يمت بالرمية الأولى؟ قال: يُرمى ثانياً، قال: أفتتخذونه غرضاً وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُتخذ شيء من الحيوان غراً؟ ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة يكون أرجح والله أعلم. الحكم الخامس: من الذي يتولى أمر القصاص؟ قال القرطبي: «اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتصَ من أحدٍ حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان، أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقيض أيدي الناس بعضهم عن بعض» . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - تشريع القصاص فريضة من الله على عباده المؤمنين لصلاحهم وسعادتهم. 2 - القصاص يقلّل الجرائم، ويقضي على الضغائن ويربي النجاة. 3 - في القصاص حياة النفوس، وحماية الأفراد والمجتمعات البشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 4 - الاعتداء على غير القاتل من العصبية الجاهلية التي حاربها الإسلام. 5 - تجب المماثلة في القصاص حتى لا ينتشر البغي والظلم والعدوان. 6 - إذا عفا أولياء القتيل وقبلوا الدية فيجب دفعها لهم بدون مماطلة ولا تسويف. 7 - تخفيف العقوبة رحمة من الله على عباده المؤمنين يجب عليهم شكرها. خاتمة البحث: حكمة التشريع شرع المولى الحكيم العليم القصاص، وأوجب تنفيذه على الحكام، صيانة لدماء الناس، ومحافظة على أرواح الأبرياء، وقضاء على الفتنة في مهدها، ذلك لأن أخذ الجاني بجنايته يكون زاجراً له ولغيره، ورادعاً لأهل البغي والعدوان، فإذا همّ أحدٌ بقتل أخيه، أو تهيب خيفةً من القصاص، فكفّ عن القتل، فكان في ذلك حياةً له، وحياة لمن أراد قتله، وحياة لأفراد المجتمع، وإذا بقي المعتدي يرتع، دون جزاءٍ أو عقاب، أدّى ذلك إلى إثارة الفتن، واضطراب الأمن، وتعريض المجتمع إلى سفك الدماء البريئة أخذاً بالثأر، فإنّ الغضب للدم المراق فطرة في الإنسان، والإسلام راعى ذلك فقرّر شريعة القصاص، حتى يستلّ لأحقاد من القلوب، ويقضي على أسباب البغي والخصام، والعدوان. ولكن الإسلام في الوقت الذي يفرض فيه القصاص، يحبّب في العفو، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص العدل، دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا إلزاماً يكبت فطرة الإنسان، ويحملها مالا تطيق {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . وقد نقل المولى - جل وعلا - بهذا التشريع الحكيم العقوبات، من معنى الحديث: 6 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 انتقامي إلى معنى سام جليل، فقد كانت العقوبات السالفة، انتقاماً ينتقم بها المجتمع من المجرمين، أو ينتقم بها أهل القتيل من أهل المقتول، فلا يقبلون حتى يسفكوا مقابل الدم الواحد الدماء البريئة ويزهقوا الأرواح. وربما قتلوا بالرجل مائة رجل، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب} ولم قل لكم فيه انتقام. ولقد رقت قلوب قوم من رجال (التشريع الوضعي) فاستفظعوا قتل القاتل، ورحموه من القتل، ولقد كان (المقتول ظلماً) أولى بالرحمة والشفقة والعطف، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع من سطوة المجرمين من أهل الفساد!! وماذا نصنع مع العصابات التي كثرت في هذه الأيام واتخذت لها طريقاً إلى ترويع المجتمع بالسلب والنهب وسفك الدماء؟ لقد نظروا نظرة ضيقة بفكر غير سليم، ولو نظروا عامة شاملة بفكر وعقل مستنير لرحموا الأمة من المجرمين، بالأخذ بشدة على أيدي العابثين، فإن من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم، وكف عادية المعتدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 [8] فريضة الصيام على المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 التحليل اللفظي {الصيام} : الصم في اللغة: الإمساكُ عن الشيء والتركُ له، يقال: صامت الخيل إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب. قال الراغب: الصوم: الإمساك عن الفعل مطعماً كان أو كلاماً أو مشياً، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير أو العلف صائمٌ، قال الشاعر: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحت العَجاج وأخرى تعلك الُّلجما أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري، أو ممسكة عن الطعام، وقال آخر: حتّى إذا صام النهار واعتدل ... وسال للشمس لعابٌ فنزل قال أبو عبيدة: كل ممسكٍ عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم. وفي الشرع: هو الإمساك عن الطعام، والشراب، والجماع، مع النيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وكمالُه باجتناب المحظورات، وعدم الوقوع في المحرمات. {فَعِدَّةٌ} : قال الراغب: العدّةُ هي الشيء المعدود، ومنه قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عِدَّتَهُمْ} [المدثر: 31] أي عددهم. والمعنى: عليه أيام عدد ما قد فاته من رمضان. قال القرطبي: «والعِدّةُ فِعْلةٍ من العدّ وهي بمعنى المعدود، كالطِحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعةً ولا أرى طِحناً، ومنه عدة المرأة» . {أُخَرَ} : جمع أخرى، أي أياماً أخرى، وهي ممنوعة من الصرف لأنها معدولة عن آخر على رأي الكسائي، وعن الألف واللام على رأي سيبويه، مثل: الصُغَر، والكُبَر. وإنما أوثر هنا الجمع لأنه لو جيء به مفرداً فقيل: عدة من أيامٍ أخرى لأوهم أنه وصفٌ لعدة فيفوت المقصود. {يُطِيقُونَهُ} : أي يصومونه بمشقة وعسر. قال في «اللسان» : والإطاقة القدرة على الشيء، وهو في طوقي أي وسعي، وأطاق وإطاقة إذا قوي عليه. وقال الراغب: والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وشبّه بالطوق المحيط بالشيء. {فِدْيَةٌ} : الفدية ما يفدي به الإنسان نفسه من مال وغيره، بسبب تقصير وقع منه في عبادة من العبادات، وهي تشبه الكفّارة من بعض الوجوه. {شَهْرُ} : الشهرُ معروف، وأصله من الاشتهار وهو الظهور، يقال: شهر الأمر أظهره، وشهرالسيف استلّه، وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره، لكونه ميقاتاً للعبادات والمعاملات، فصار مشتهراً بين الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 {رَمَضَانَ} : قال الراغب: رمضان هو الرّمض أي شدة وقع الشمس، والرمضاء شدة حر الشمس، ورمضت الغنم: رعت في الرمضاء فقرحت أكبادنا. وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها. قال الزمخشري: «لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموّها بالأزموة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحرّ فسمي رمضان» . وقيل: إنما سمّي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة. {الرفث} : الجماع ودواعيه، قال الراغب: الرفث: كلامٌ متضمنٌ لما يُستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، وقد جعل كناية عن الجماع في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} تنبيهاً إلى جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه. وأصل الرفث: قول الفحش ثم كنّي به عن الجماع قال الشاعر: ويُرَيْن من أُنْس الحديث زوانياً ... وبهنّ عن رفث الرجال نِفَار قال ابن عباس: الرفث هو الجماع، إن الله عَزَّ وَجَلَّ كريم حليم يكني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 {تَخْتانُونَ} : الاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، ومعناه: مراودة الخيانة. قال في «اللسان» : خانه واختانه، والمخانة مصدر من الخيانة وهي ضد الأمانة قال الشاعر: يتحدثون مَخَانةً وملاذَةً ... ويُعاب قائلهم وإن لم يشْغب وسئل بعضهم عن السيف فقال: أخوك وإن خانك، وكل ما غيّرك عن حالك فقد تخوّنك. قال الراغب: الخيانة مقابل الأمانة، والاختيان: مراودة الخيانة، ولم يقل: (تخونون أنفسكم) لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان، وهو تحرك شهوة الإنسان للوقوع في الخيانة. {عاكفون} : العكوف والاعتكاف أصله اللزوم، يقال: عكفت بالمكان أي أقمت به ملازماً قال تعالى: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} [طه: 91] وقال الشاعر: فبات بنات الليل حولي عُكّفاً ... عكوف البواكي بينهن صريع وفي الشرع هو المكث في المسجد للعبادة بنيّة القربة لله تعالى. {حُدُودُ الله} : الحدود جمع حدّ، والحدّ في اللغة: المنع، ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمتنع به من الأعداء، وسمي البوّاب حدّاداً لأنه يمنع من الدخول أو الخروج إلا بإذن، وأحدّث المرأة على زوجها إذا تركت الزينة وامتنعت منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قال الزجاج: «الحدودُ ما منع الله تعالى من مخالفتها، فلا يجوز مجازوتها» . المعنى الإجمالي يخبر المولى جلّ وعلا أنه قد فرض الصيام على عباده المؤمنين، كما فرضه على من سبقهم من أهل الملل، وقد علّل فرضيته ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهي أن يُعدّ نفس الصائم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة امتثالاً لأمره تعالى، واحتساباً للأجر عنده، ليكون المؤمن من المتقين لله المجتنبين لمحارمه. وهذا الصيام الذي فرضه الله على عباده، إنما هو أيام معينات بالعدد، وهي أيام رمضان، ولم يفرض الله عليكم الدهر كله، تخفيفاً ورحمة بهم، ومع هذه الرحمة في الصيام فقد شرع للمريض الذي يضره الصوم، والمسافر الذي يشق عليه أن يفطرا ويقضيا أياماً بقدر الأيام التي أفطرا فيها وذلك من التيسير على العباد والرحمة بهم، ثم أخبر تعالى أن هذا الشهر الذي فرض عليهم صيامه هو شهر رمضان، شهر ابتداء نزول القرآن، الكتاب العظيم الذي أكرم الله به الأمة المحمدية، فجعله دستوراً لهم، ونظاماً يتمسكون به في حياتهم، فيه النور، والهدى، والضياء، وهو سبيل السعادة لمن أراد أن يسلك طريقها، وقد أكدّ الباري صيام هذا الشهر، لأنه شهر تنزّل الرحمة الإلهية على العباد، وأنه تعالى لا يريد بعباده إلا اليُسر والسهولة، ولذلك فقد أباح للمريض والمسافر الإفطار في أيام رمضان. ثم بيّن تعالى أنه قريب، يجيب دعوة الداعين ويقضي حوائج السائلين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وليس بينه وبين أحدٍ من العباد حجاب، فعليهم أن يتوجهوا إليه وحده بالدعاء والتضرع، حنفاء مخلصين له الدين. وقد يسّر تعالى على عباده وأباح لهم التمتع بالنساء في ليالي رمضان، كما أباح لهم الطعام والشراب، وقد كان ذلك من قبل محرماً عليهم، ولكنّه تعالى أباح لهم الطعام والشراب، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء، ليظهر فضله عليهم، ورحمته بهم، وقد شبّه المرأة باللباس الذي يستر البدن، فهي ستر للرجل وسكن له، وهو ستر لها، قال ابن عباس معناه «هنّ سكنٌ لكم وأنتم سكن لهنّ» وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر، ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة، مباشرتهن وقت الاعتكاف لأنه وقت تبتل وانقطاع للعبادة، ثمّ ختم تعالى هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مخالفة أوامره، وارتكاب المحرمات والمعاصي، التي هي حدود الله، وقد بيّنها لعباده حتى يجتنبوها، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله ليكونوا من المتقين. سبب النزول 1 - روى ابن جرير عن معاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «إنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قدم المدينة فصام يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر» ، ثم إن الله عَزَّ وَجَلَّ فرض شهر رمضان، فأنزل الله تعالى ذكره {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} حتى بلغ {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، ثم إن الله عَزَّ وَجَلَّ أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... } . 2 - وروُي عن سلمة بن الأكوع أنه قال «لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من شاء منا صام، ومن شاء أن يفطلر ويفتدي فعل ذلك، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 3 - وروي أن جماعة من الأعراب سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه؟ أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... } الآية. 4 - وروي البخاري عن (البراء بن عازب) أنه قال:» كان أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإنّ (قيس بن صرمة) الأنصاري كان صائماً، وكان يعمل بالنخيل في النهار، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندكِ طعامٌ؟ قالت: لا، ولكن أنطلقُ فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ففرحوا فرحاً شديداً، فنزلت {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور (وعلى الذين يُطيقونه) وقرأ ابن عباس (يُطَوّقونه) بمعنى يكلّفونه. 2 - قرأ الجمهور (فديةٌ طعامُ مسكينٍ) وقرأ نافع وابن عامر (فديةُ طعامِ مساكين) بجمع مساكين، وإضافة (فدية) إلى (طعام) . 3 - قرأ الجمهور (فمن تطوّع) على الماضي وقرأ حمزة والكسائي (فمن تطوّعُ) بالجزم على معنى يتطوّع، وقرئ (فمنّ يطّوع) على أنه مضارع. 4 - قرأ الجمهور (ولتُكْملوا العدّة) بالتخفيف، وقرأ أبو بكر عن عاصم (ولتُكَمّلوا) بالتشديد. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} الكاف للتشبيه وهي صفة لمصدر محذوف و (ما) مصدرية، والتقدير: كُتب عليكم الصيامُ كتابةً مثل كتابته على من قبلكم. 2 - قوله تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} قال الزجاج: منصوب على الظرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 كأنه قال: كتب عليكم في هذه الأيام والعامل فيه الصيام. قال العكبري: لا يجوز أن ينتصب على الظرف، ولا على أنه مفعول به على السّعة لأن المصدر إذا وصف لا يعمل، والوجه أن يكون العامل محذوفاً تقديره: صوموا أياماً. 3 - قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} تقديره: فعليه عدّةٌ فيكون ارتفاع (عدة) على الابتداء والخير محذوف، وأخر صفة لعدة لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام. 4 - قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أن تصوموا في موضع مبتدأ و (خير) خبره والتقدير صيامكم خير لكم، و {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شرط حذف منه الجواب لدلالة ما قبله. 5 - قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الشهرَ منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في (فليصمْه) ولا يكون مفعولاً به، لأنه يلزم حينئذٍ المسافر لأنه شهد الشهر، قال الزمخشري: «المعنى فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر فليصم في الشهر ولا يفطر» . لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أشارت الآية الكريمة إلى أن الصوم عبادة قديمة، فرضها الله على الأمم قبلنا، ولكنّ أهل الكتاب غيّروا وبدّلوا في هذه الفريضة، وقد كان يتفق في الحر الشديد أو البرد الشديد، فحوّلوه إلى الربيع وزادوا في عده حتى جعلوه خمسين يوماً كفارة لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 روى الطبري بسنده عن الدُّي أنه قال: «كُتب على النصارى شهرُ - رمضان، وكُتب عليهم ألاّ يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا أن ينكحوا النساء في شهر رمضان، فاشتد على النصارى صيام رمضان، وجعل يُقلّب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف (يعني الربيع) وقالوا: نزيد عشرين يوماً نكفّر بهما ما صنعنا فجعلوا صيامهم خمسين» . اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال ابن العربي: هذا القول من لطيف الفصاحة لأن تقديره: فأفطر فعدةٌ من أيام أخر، فحذف الشرط والمضاف ثقة بالظهور. اللطيفة الثالثة: بيّن المولى جل ثناؤه أن الصوم يورث التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذا تقليل لفريضة الصيام ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة التقوى بترك الشهوات المحرمة، فالصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: (المرء يسعى لغاريه: بطنه، وفرجه) . اللطيفة الرابعة: قال القفال رَحِمَهُ اللَّهُ: «انظروا إلى عجيب ما نبّه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، فقد نبّه إلى ما يلي: أولاً: أنّ لهذه الأمة في شريعة الصيام أسوة بالأمم المتقدمة. ثانياً: أن الصوم سبب لحصول التقوى، فلو لم يُفرض لفات هذا المقصود الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ثالثاً: أنه مختص بأيام معدودات، فإنه لو جعله أبداً لحصلت المشقة العظيمة. رابعاً: أنه خصّه من بين الشهور بالشهر الذي أًنزل فيه القرآن، لكونه أشرف الشهور. خامساً: إزالة المشقة في إلزامه - فقد أباح تأخيره لمن يشق عله من المسافرين والمرضى، فهو سبحانه قد راعى في فريضة الصيام هذه الوجوه من الرحمة، فله الحمد على نعمه التي لا تحصى. اللطيفة الخامسة: أفاد قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} أن الشيخ الكبير والمرأة العجوز يجوز لهما الإفطار مع الفدية، والعرب تقول: أطاق الشيء إذا كانت قدرته في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة عظيمة، وهو مشتق من الطوق وعليه قول الراغب: الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، وقوله تعالى: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] أي ما يصعب علينا مزاولته. والطاقة: اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة، والوُسْعُ: اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة، فتنبه له فإنه دقيق. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} المراد شهود الوقت لا شهود رؤية الهلال، إذ قد لا يراه إلا واحد أو اثنان ويجب صيامه على جميع المسلمين، و (شهد) بمعنى حضر، وفيه إضمارٌ أي من شهد منكم الشهر مقيماً غير مسافر ولا مريض فليصمه، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان، أفاده أبو السعود. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 العسر} هذه الآية فيها من المحسّنات البديعية ما يسمى (طباق السلب) وهي أصل في الدين ومنها أخذ الفقهاء القاعدة الأصولية (المشقّة تجلب التيسير) فالله تبارك وتعالى لا يريد بتشريعه إعنات الناس، وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم. اللطيفة الثامنة: قال العلامة الزمخشري قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي شرع ذلك يعني جملة ما ذكر، من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأم المريض والمسافر بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ} علة الأمر بمراعاة العدة، (ولتكبّروا) علة ما عُلم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللّف والنشر، لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. اللطيفة التاسعة: عبّر المولى جل وعلا عن المباشرة الجنسية التي تكون بين الزوجين بتعبير سامٍ لطيف، لتعليمنا الأدب في الأمور التي تتعلق بالنساء {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} فالتعبير على طريقة الاستعارة والمراد اشتمال بعضهم على بعض لما تشتمل الملابس على الأجسام. قال الإمام الفخر: «لمّا كان الرجل والمرأة يعتنقان، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، سُمّي كل واحد منهما لباساً» . اللطيفة العاشرة: قوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قال الشريف الرضي: «هذه استعارةٌ عجيبة، والمراد بها حتى يتبيّن بياضُ الصبحُ من سواد الليل، والخيطان هاهنا مجاز، وإنما شبّهها بذلك لأنّ بياض الصبح يكون في أول طلوعه مشرقاً خافياً، ويكون سواد الليل منقضياً موليّاً، فهما جميعاً ضعيفان، إلاّ أن هذا يزداد انتشاراً وهذا يزداد استسراراً» . روي أنه لما نزلت الآية «قال (عدي بن حاتم) أخذتُ عقالين: أبيض، وأسود فجعلتهما تحت وسادتي، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليها، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبرته فضحك وقال:» إنك لعريض القفا، إنما ذلك بياضُ النهار وسوادُ الليل «. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل فرض على المسلمين صيامٌ قبل رمضان؟ يدل ظاهر قوله تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} على أن المفروض على المسلمين من الصيام إنما هو هذه الأيام (أيام رمضان) وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين، وهو مروي عن ابن عباس والحسن، واختاره ابن جرير الطبري. وروي عن قتادة وعطاء أن المفروض على المسلمين كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض عليهم صوم رمضان، وحجتهم أن قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} يدل على أنه واجب على التخيير، وأمّا صوم رمضان فإنه واجب على التعيين، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان. واستدل الجمهور بأن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} مجمل يحتمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أن يكون يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك فبينه بعض البيان بقوله: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} وهذا أيضاً يحتمل أن يكون أسبوعاً أو شهراً، فبيّنه تعالى بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} فكان ذلك حجة واضحة على أنّ الذي فرضه على المسلمين هو شهر رمضان. قال ابن جرير الطبري: «وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: عنى جل ثناؤه بقوله: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم رمضان، لأن الله تعالى قد بيّن في سياق الآية أن الصوم الذي أوجبه علينا هو صوم شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته عن الأيام التي كتب علينا صومها بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} فتأويل الآية كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام، كما كتب على من قبلكم لعلكم تتقون، أياماً معدودات هي شهر رمضان» . الحكم الثاني: ما هو المرض والسفر المبيح للإفطار؟ أباح الله تعالى للمريض والمسافر الفطر في رمضان، رحمة بالعباد وتيسيراً عليهم، وقد اختلف الفقهاء في المرض المبيح للفطر على أقوال: أولاً - قال أهل الظاهر: مطلق المرض والسفر يبيح للإنسان الإفطار حتى ولو كان السفر قصيراً والمرض يسيراً حتى من وجع الإصبع والضرس، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين. ثانياً - وقال بعض العلماء إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجُهد، وكذلك المسافر الذي يُضينه السفر ويُجهده، وهو قول الأصم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ثالثاً - وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر، هو المرض الشديد الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادةٍ في العلة، أو يُخشى معه تأخر البرء، والسفر الطويل الذي يؤدي إلى مشقةً في الغالب، وهذا مذهب الأئمة الأربعة. دليل الظاهرية: استدل أهل الظاهر بعموم الآية الكريمة {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ} حيث أُطلق اللفظ ولم يُقيّد المرض بالشديد، ولا السفر بالبعيد، فمطلق المرض والسفر يبيح الإفطار، حكي أنهم دخلوا على (ابن سيرين) في رمضان وهو يأكل، فاعتلّ بوجع أصبعه. وقال داود: الرخصة حاصلة في كل سفر، ولو كان السفر فرسخاً لأنه يقال له: مسافر، وهذا ما دل عليه ظاهر القرآن. دليل الجمهور: استدل جمهور الفقهاء على أن المرض اليسير الذي لا كلفة معه لا يبيح الإفطار بقوله تعالى في آية الصيام {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} فالآية قد دلت على أن الفرض من الترخيص. المرض خفيفاً والسفر قريباً فلا يقال إن هناك مشقة رفعت عن الصائم، فأي مشقة من وجع الأصبع والضرس؟ الترجيح: أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح الذي يتقبله العقل بقبول حسن، فإن الحكمة التي من أجلها رُخّص للمريض في الإفطار هي إرادة اليسر، ولا يراد اليسر إلاّ عند وجود المشقة، فأي مشقةٍ في وجع الأصبع، أو الصداع الخفيف والمرض اليسير، الذي لا كلفة معه في الصيام؟ ثمّ إن من الأمراض ما لا يكون شفاؤه إلا بالصيام، فكيف يباح الفطر لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 كان مرضه كذلك؟ ولم يكلفنا الله جلّ وعلا إلاّ على حسب ما يكون في غالب الظن، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سبباً للمرض، أو زيادة العّلة، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمرٌ يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين. قال القرطبي: «للمريض حالتان: إحداهما - ألاّ يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل وقال جمهور العلماء: إذا كان به مرضٌ يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف زيادته صحّ له الفطر، واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام، وقال مرة: هو شدة المرض، والزيادة فيه، والمشقة الفادحة، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر» . الحكم الثالث: ما هو السفر المبيح للإفطار؟ وأما السفر المبيح للإفطار فقد اختلف الفقهاء فيه بعد اتفاقهم على أنه لا بدّ أن يكون سفراً طويلاً على أقوال: أ - قال الأوزاعي: السفر المبيح للفطر مسافة يوم. ب - وقال الشافعي وأحمد: هو مسيرة يومين وليلتين، ويقدر بستة عشر فرسخاً. ج - وقال أبو حنيفة والثوري: مسيرة ثلاثة أيام بلياليها ويقدر بأربعة وعشرين فرسخاً. حجة الأوزاعي: أنّ السفر أقل من يوم سفرٌ قصير قد يتفق للمقيم، والغالب أن المسافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 هو الذي لا يتمكن من الرجوع إلى أهله في ذلك اليوم، فلا بدّ أن يكون أقل مدة للسفر يومٌ واحد حتى يباح له الفطر. حجة الشافعي وأحمد: أولاً: أن السفر الشرعي هو الذي تُقصر فيه الصلاة، وتعبُ اليوم الواحد يسهل تحمله، أمّا إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة. ثانياً: ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرد من مكة إلى عسفان» . قال أهل اللغة: وكل بريد أربعة فراسخ، فيكون مجموعة ستة عشر فرسخاً. ثالثاً: ما روي عن عطاء أنه قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى مرّ الظهران؟ فقال: لا، ولكن أقصر إلى جدة، وعسفان، والطائف. قال القرطبي: والذي في «البخاري» : «وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً» . وهذا هو المشهور من مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ، وقد روي عنه أنه قال: أقله يوم وليلة، واستدل بحديث «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يومٍ وليلة إلا ومعها ذو محرم» رواه البخاري. حجة أبي حنيفة والثوري: أولاً: واحتج أبو حنيفة بأن قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فَلْيَصُمْهُ} يوجب الصوم، ولكنّا تركناه في ثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها، أما فيما دونها فمختلف فيه فوجب الصوم احتياطياً. ثانياً: واحتج بقوله عليه السلام: «يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» فقد جعل الشارع علة المسح ثلاثة أيام السفرُ، والرخص لا تعلم إلاّ من الشرع، فوجب اعتبار الثلاث سفراً شرعياً. ثالثاً: وبقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم» فتبيّن أن الثلاثة قد تعلق بها حكم شرعي، وغيرها لم يتعلق فوجب تقديرها في إباحة الفطر. قال ابن العربي في تفسيره «أحكام القرآن» : «وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:» لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاّ ومعها ذو محرم «وفي حديث (سفر ثلاثة أيام) فرأى أبو حنيفة أن السفر يتحقق في أيام: يوم يتحمل فيه عن أهله، ويوم ينزل فيه في مستقره، واليوم الأوسط هو الذي يتحقق فيه السير المجرد، فرجل احتاط وزاد، ورجل ترخّص، ورجل تقصّر» . أقول: أمور العبادة ينبغي فيها الاحتياط، ولما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منع المرأة من السفر مسيرة ثلاثة أيام، وثبت يوم وليلة وكلاهما في الصحيح، لذا كان العمل بالثلاث أحوط، فلعل ما ذهب إليه أبو حنيفة يكون أرجح والله أعلم. الحكم الرابع: هل الإفطار للمريض والمسافر رخصة أم عزيمة؟ ذهب أهل الظاهر إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا، ويصوما عدة من أيام أخرى، وأنهما لو صاما لا يجزئ صومهما لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} والمعنى: فعليه عدة من أيام أخر، وهذا يقتضي الوجوب. وبقوله عليه السلام: «ليس من البر الصيام في السفر» وقد روي هذا عن بعض علماء السلف. وذهب الجمهور وفقهاء الأمصار إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء أفطر وإن شاء صام واستدلوا بما يلي: 1 - قالوا: إن في الآية إضماراً تقديره: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، وهو نظير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] والتقدير: فضرب فانفجرت، وكذلك قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي فحلق فعليه فدية والإضمار في القرآن كثير لا ينكره إلا جاهل. ب - واستدلوا بما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخبر المستفيض أنه صام في السفر. ج - وبما ثبت عن أنس قال: «سافرنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» . د - وقالوا: إن المرض والسفر من موجبات اليسر شرعاً وعقلاً، فلا يصح أن يكونا سبباً للعسر. وأما ما استدل به أهل الظاهر من قوله عليه السلام «ليس من البر الصيام في السفر» فهذا واردٌ على سبب خاص وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى رجلاً يظلّل والزحام عليه شديد فسأل عنه فقالوا: صائم أجهده العطش فذكر الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 قال ابن العربي في تفسيره «أحكام القرآن» : «وقد عُزي إلى قوم: إن سافر في رمضان قضاه، صامه أو أفطره، وهذا لا يقول به إلا الضعاء الأعاجم، فإن جزالة القول، وقوة الفصاحة، تقتضي تقدير (فأفطر) وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الصوم في السفر قولاً وفعلاً، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره» . الحكم الخامس: هل الصيام أفضل أم الإفطار؟ وقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل؟ فذهب أبو حنيفة، والشافعي، ومالك إلى أن الصيام أفضل لمن قوي عليه، ومن لم يقو على الصيام كان الفطر له أفضل، أما الأول فلقوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وأما الثاني فلقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} . وذهب أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن الفطر أفضل أخذاً بالرخصة، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. وذهب عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى أنّ أفضلهما أيسرهما على المرء. الترجيح: وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم. الحكم السادس: هل يجب قضاء الصيام متتابعاً؟ ذهب علي، وابن عمر، والشعبي إلى أنّ من أفطر لعذرٍ كمرضٍ أو سفر قضاه متتابعاً، وحجتهم أن القضاء نظير الأداء، فلما كان الأداء متتابعاً، فكذلك القضاء. وذهب الجمهور إلى أن القضاء يجوز فيه كيف ما كان، متفرقاً أو متتابعاً، وحجتهم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فالآية لم تشترط إلاّ صيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أيام بقدر الأيام التي أفطرها، وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات، فأي يومٍ صامه قضاءً أجزأه. واستدلوا بما روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: «إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواصل وإن شئت ففرّق» . الترجيح: والراجح ما ذهب إليه الجمهور لوضوح أدلتهم والله أعلم. الحكم السابع: ما المراد من قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} ؟ يرى بعض العلماء أن الصيام كان قد شرع ابتداءً على التخيير، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا رأي الأكثرين واستدلوا لما رواه البخاري ومسلم عن (سلمة بن الأكوع) أنه قال: لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} كان من شاء منّا صام، ومن شاء أفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا مروي عن ابن مسعود، ومعاذ، وابن عمر وغيرهم. ويرى آخرنن أن الآية غير منسوخة، وأنها نزلت في الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي يُجهده الصوم، وهذا مروي عن ابن عباس. قال ابن عباس: (رخّص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه) . وروى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يقرأ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً. وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة، ويكون معنى قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدّة والمشقة، ويؤيده قراءة {يطوّقونه} أي يكلّفونه مع المشقة. الحكم الثامن: ما هو حكم الحامل والمرضع؟ الحبلى والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما أفطرتا، لأن حكمهما حكم المريض، وقد سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما فقال: أيّ مرضٍ أشد من الحمل؟ تفطر وتقضي. وهذا باتفاق الفقهاء، ولكنهم اختلفوا هل يجب عليهما القضاء مع الفدية، أم يجب القضاء فقط؟ ذهب أبو حنيفة إلى أن الواجب عليهما هو القضاء فقط، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن عليهما القضاء مع الفدية. حجة الشافعي وأحمد: أن الحامل والمرضع داخلتان في منطوق الآية الكريمة {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} لأنها تشمل الشيخ الكبير، والمرأة الفانية، وكل من يُجهده الصوم فعليهما الفدية كما تجب على الشيخ الكبير. حجة أبي حنيفة: أولاً: أن الحامل والمرضع في حكم المريض، ألا ترى إلى قول الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 البصري: أي مرضٍ أشدّ من الحمل؟ يفطران ويقضيان، فلم يوجب عليهما غير القضاء. ثانياً: الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته ومانته، فلن يأتيه يوم يستطيع فيه الصيام، أما الحامل والمرضع فإنهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة للزوال، فالقضاء واجب عليهما، فلو أجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز، لأن القضاء بدل، والفدية بدل، ولا يمكن الجمع بينهما لأن الواجب أحدهما. وقد روي عن الإمام أحمد والشافعي أنهما إن خافتا على الولد فقط وأفطرتا فعليهما القضاء والفدية، وإن خافتا على أنفسهما فقط، أو على أنفسهما وعلى ولدهما، فعليهما القضاء لا غير. الحكم التاسع: بم يثبت شهر رمضان؟ يثبت شهر رمضان برؤية الهلال، ولو من واحد عدل أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً» . فبواسطة الهلال تعرف أوقات الصيام والحج كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] فلا بدّ من الاعتماد على الرؤية، ويكفي لإثبات رمضان شهادة واحدٍ عدل عند الجمهور، لما روي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه» وأما هلال شوال فيثبت بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً، ولا تقبل فيه شهادة العدل الواحد عند عامة الفقهاء. وقال مالك: لا بدّ من شهادة رجلين عدلين، لأنه شهادة وهو يشبه إثبات هلال شوال، لا بدّ فيه من اثنين على الأقل. قال الترمذي: والعمل عند أكثر أهل العلم على أنه تقبل شهادة واحدٍ في الصيام. روى الدارقطني: أنّ رجلاً شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان. الحكم العاشر: هل يعتبر اختلاف المطالع في وجوب الصيام؟ ذهب الحنيفة والمالكية والحنابلة: إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، فإذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على بقية البلاد لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته» وهو خطاب عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعاً. وذهب الشافعية إلى أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا تكفي رؤية البلد الآخر، والأدلة تطلب من كتب الفروع فارجع إليها هناك. الحكم الحادي عشر: حكم الخطأ في الإفطار. اختلف العلماء فيمن أكل أو شرب ظاناً غروب الشمس، أو تسحرّ يظن عدم طلوع الفجر، فظهر خلاف ذلك، هل عليه القضاء أم لا؟ فذهب الجمهور وهو مذهب (الأئمة الأربعة) إلى أنّ صيامه غير صحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ويجب عليه القضاء، لأن المطلوب من الصائم التثبت، لقوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} فأمر بإتمام الصيام إلى غروب الشمس، فإذا ظهر خلافه وجب القضاء. وذهب أهل الظاهر والحسن البصري إلى أن صومه صحيح ولا قضاء عليه لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقالوا: هو كالناسي لا يفسد صومه. الترجيح: وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح لأن المقصود من رفع الجناح رفع الإثم لا رفع الحكم، فلا كفارة عليه لعدم قصد الإفطار، ولكن يلزمه القضاء للتقصير، ألا ترى أن القتل الخطأ فيه الكفارة والدية مع أنه ليس بعمد، وقياسه على الناسي غير سليم، لأن الناسي قد ورد فيه النص الصريح فلا يقاس عليه والله أعلم. الحكم الثاني عشر: هل الجنابة تنافي الصوم؟ دلت الآية الكريمة وهي {فالآن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ... } الآية على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، لما فيه من إباحة الأكل والشرب والجماع من أول الليل إلى آخره، مع العلم أن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر يصبح جنباً، وقد أمر الله بإتمام صومه إلى الليل {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} فدلّ على صحة صومه، ولو لم يكن الصوم صحيحاً لما أمره بإتمامه. وفي «الصحيحين» عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصبح جنباً وهو صائم ثمّ يغتسل» فالجنابة لا تأثير لها على الصوم، ويجب الاغتسال من أجل الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الحكم الثالث عشر: هل يجب قضاء صوم النفل إذا أفسده؟ اختلف الفقهاء في حكم صوم النفل إذا أفسده هل يجب فيه القضاء أم لا؟ على مذاهب. مذهب الحنفية: يجب عليه القضاء لأنه بالشروع يلزمه الإتمام. مذهب الشافعية والحنابلة: لا يجب عليه القضاء لأن المتطوّع أمير نفسه. وذهب المالكية: أنه إن أبطله فعليه القضاء، وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه. دليل الحنفية: أ - قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} قالوا: فهذه الآية عامة في كل صوم، فكل صومٍ شرع فيه لزمه إتمامه. ب - قوله تعالى: {وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال، فإذا أبطله فقد ترك واجباً، ولا تبرأ ذمته إلا بإعادته. ج - حديث عائشة أنها قالت: «أصبحتُ أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي إلينا طعام فأعجبنا فأفطرنا، فلما جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدرتني حفصة فسألته - وهي ابنة أبيها - فقال عليه السلام: صوما يوماً مكانه» . دليل الشافعية والحنابلة: أ - قوله تعالى: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] والمتطوّع محسن فليس عليه حرج في الإفطار. ب - حديث «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الترجيح: ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر عائشة وحفصة بصيام يوم مكانه وهو نص في وجوب القضاء والله أعلم. الحكم الرابع عشر: ما هو الاعتكاف وفي أي المساجد يعتكف؟ قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: الاعتكاف اللغوي: ملازمةُ المرء للشيء وحبسُ نفسه عليه، براً كان أو إثماً قال تعالى: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138] . والاعتكاف الشرعي: المكث في بيت الله بنيّة العبادة، وهو من الشرائع القديمة قال الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين} [الحج: 26] وقال تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} ويشترط في الاعتكاف أن يكون في المسجد لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف على أقوال: أ - فقال بعضهم: الاعتكاف خاصٌ بالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى) وهي مساجد الأنبياء عليهم السلام، واستدلوا بحديث: «لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد. .» الحديث وهذا قول سعيد بن المسيّب. 2 - وقال بعضهم: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة، وهو قول ابن مسعود وبه أخذ الإمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ في أحد قوليه. 3 - وقال الجمهور: يجوز الاعتكاف في كل مسجد من المساجد لعموم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} وهو الصحيح لأن الآية لم تعيّن مسجداً مخصوصاً فيبقى اللفظ على عمومه. قال أبو بكر الجصاص: «حصل اتفاق جميع السلف أنّ من شرط الاعتكاف أن يكون في المسجد، على اختلاف منهم في عموم المساجد وخصوصها، وظاهر قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} يبيح الاعتكاف في سائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 المساجد لعموم اللفظ، ومن اقتصر به على بعضها فعليه بإقامة الدليل، وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه، كما أن تخصيص من خصّه بمساجد الأنبياء لمّا لم يكن عليه دليل سقط اعتباره» . وأما المرأة فيجوز لها أن تعتكف في بيتها لعدم دخولها في النص السابق: الحكم الخامس عشر: ما هي مدة الاعتكاف وهل يشترط فيه الصيام؟ اختلف الفقهاء في المدة التي تلزم في الاعتكاف على أقوال: أ - قلة يوم وليلة، وهو مذهب الأحناف. ب - أقله عشرة أيام، وهو أحد قولي الإمام مالك. ج - أقله لحظة ولا حدّ لأكثره وهو مذهب الشافعي. ويجوز عند الشافعي وأحمد (في أحد قوليه) الاعتكاف بغير صوم. وقال الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) في القول الآخر: لا يصح الاعتكاف إلا بصوم. واحتجوا بما روته عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا اعتكاف إلا بصيام» . وحديث «اعتكف وصم» وقالوا: إن الله ذكر الاعتكاف مع الصيام في قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} فدل على أنه لا اعتكاف إلا بصيام. قال الإمام الفخر: «يجوز الاعتكاف بغير صوم، والأفضل أن يصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 معه وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا بالصوم. حجةُ الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذه الآية، لأنه بغير الصوم عاكف، والله تعالى منع العاكف من مباشرة المرأة» . أقول: المشهور عند فقهاء الأحناف أنهم قسموا الاعتكاف إلى ثلاثة أقسام: 1 - مندوب: وهو يتحقق بمجرد النيّة ويكفي فيه ولو ساعة. 2 - وسنة وهو في العشر الأواخر في رمضان. 3 - وواجب: وهو المنذور ولا بدّ فيه من الصوم. والأدلة بالتفصيل تطلب من كتب الفروع. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الصيام شريعة الله لجميع الأمم فرضه الله على جميع المسلمين. 2 - الصوم مدرسة روحية لتهذيب النفس وتعويدها على الصبر. 3 - إختار الله شهر رمضان لفريضة الصيام لأنه شهر القرآن. 4 - أهل الأعذار رخص الله لهم في الإفطار رحمة من الله وتيسيراً. 5 - لا يجوز تعدي حدود الله ولا تجاوز أوامره ونواهيه لأنها الخير البشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 خاتمة البحث: حكمة التشريع مما لا شك فيه أن الصوم له فوائد جليلة، غفل عنها الجاهلون فرأوا فيه تجويعاً للنفس، وإرهاقاً للجسد، وكبتاً للحرية، لا دايع له ولا مبرر، لأنه تعذيب للبدن دون فائدة أو جدوى. . وعرف سرّ حكمته العقلاء والعلماء فأدركوا بعض فوائد وأسراره، وأيّدهم في ذلك الأطباء، فرأوا في الصيام أعظم علاج، وخير وقاية، وأنجح دواء لكثير من الأمراض الجسدية، التي لا ينفع فيها إلا الحمية الكاملة، والانقطاع عن الطعام والشراب مدة من الزمان. ولسنا الآن بصدد معرفة (الفوائد الصحية) للصيام، فإنّ ذلك مرجعه لأهل الاختصاص من الأطباء، ولكننا بصدد التعرف على بعض الحكم الروحية التي هي الأساس لتشريع الصيام - فإن الله عَزَّ وَجَلَّ ما شرع العبادات إلا ليربي في الإنسان (ملكة التقوى) وليعوده على الخضوع، والعبودية، والإذعان لأوامر الله العلي القدير. الأمر الأول: فالصيام عبودية لله، وامتثال لأوامره، واتقاء لحرماته، ولهذا جاء في الحديث القدسي: «كل عمل آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» فشعور الإنسان بالعبودية لله عَزَّ وَجَلَّ، والاستسلام لأمره وحكمه، وهو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71] . الأمر الثاني: الأمر الثاني من حكمة مشروعية الصيام، هي تربية النفس، وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فالصيام يربي قوة العزيمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وقوة الإرادة، ويجعل الإنسان متحكماً في أهوائه ورغباته، فلا يكون عبداً للجسد، ولا أسيراً للشهوة، وإنما يسير على هدي الشرع، ونور البصيرة والعقل، وشتّان بين إنسان تتحكّم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالحيوان لبطنه وشهوته، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته، فهو ملاك من الملائكة {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12] . الأمر الثالث: أن الصوم يربي في الإنسان، ملكة الحب والعطف والحنان، ويجعل منه إنساناً رقيق القلب، طيّب النفس، ويحرّك فيه كامن الإيمان، فليس الصيام حرماناً للإنسان عن الطعام والشراب، بل هو تفجير للطاقة الروحية في نفس الإنسان، ليشعر بشعور إخوانه، ويُحسّ بإحساسهم، فيمدّ إليهم يد المساعدة والعون، ويمسح دموع البائسين، ويزيل أحزان المنكوبين، بما تجود به نفسه الخيّرة الكريمة التي هذّبها شهر الصيام، ولقد قيل ليوسف الصدّيق عليه السلام: «لم تجوع وأنتَ على خزائن الأرض فقال: أخشى إن أنا شبعتُ أن أنسى الجائع» . الأمر الرابع: أن الصوم يهذّب النفس البشرية، بما يغرسه فيها من خوف الله جل وعلا، ومراقبته في السر والعلن، ويجعل المرء تقياً نقياً يبتعد عن كل ما حرّم الله، فالسر في الصوم هو الحصول على (مرتبة التقوى) والله تبارك وتعالى حين ذكر الحكمة من مشروعية الصيام قال: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولم يقل (لعلكم تتألمون) أو (لعلكم تجوعون) أو (لعلكم تصحّون) والتقوى هي ثمرة الصيام التي يجنيها الصائم من هذه العبادة، وهي إعداد نفس الصائم للوقوف عند حدود الله، بترك شهواته الطبيعية المباحة، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، وهذا هو سرّ الصيام وروحه ومقصده الأسمى، الذي شرعه الله من أجله، كما بينه في كتابه العزيز، فللَّه ما أسمى الصيام، وما أروع حكمة الله في شرعه العادل الحكيم!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 [9] مشروعية القتال في الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 {ثَقِفْتُمُوهُم} : الثّقْفُ: الأخذ، والإدراك، والظفر يقال: ثقفه وجده أو ظفر به. قال في اللسان: ثَقِف الرجلَ: ظفر به قال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} [الأنفال: 57] ورجل ثقيف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور. قال الراغب: الثقفُ: الحِذقُ في إدراك الشيء وفعله، ومنه استعير المثاقفة ويقال: ثقفتُ كذا إذا أدركته ببصرك لحذقٍ في النظر. وفي «الكشاف» : الثقفُ وجودٌ على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجلٌ ثقف، سريع الأخذ لأقرانه، قال الشاعر: فإمّا تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقفْ فليس إلى خلود والمعنى: اقتلوا الكفار حيث وجدتموهم وظفرتم بهم في حِلّ أو حرم. {والفتنة} : الفتنة: الابتلاء والاختبار، وأصلها من الفتن وهو إدخالُ الذهب النارَ لتظهر جودته من رداءته. قال الأزهري: جماع معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان، والاختبار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميزّ الرديء من الجيد. والمعنى: إيذاء المؤمن بالتعذيب والتشريد، بقصد أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً، أعظم جرماً عند الله من القتل. وقال ابن عباس: الشرك أعظم من القتل في الحرم. {والحرمات قِصَاصٌ} : الحُرُمات جمع حُرْمة، كالظُلمات جمع ظلمة، والحُرْمة كل ما منع الشرع من انتهاكه، وإنما جمعت لأنه أراد حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام، والقصاصُ: المساواة والمماثلة وقد تقدم. والمعنى: إذا انتهكوا حرمة الشهر فقاتلوكم فيه فقاتلوهم أنتم أيضاًَ ولا تتحرجوا. قال الزجاج: أعلم الله المسلمين أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص. {التهلكة} : التهلُكة بضم اللام بمعنى الهلاك، يقال: هلكَ يهلك هلاكاً وتهلُكةً. قال أبو عبيدة: التهلكةُ، والهَلاَك، والهُلْك واحد، مصدر هلك. وفي اللسان: التهلكةُ: الهلاكُ، وقيل: كلّ شيء تصير عاقبته إلى الهلاك. {المحسنين} : جمع محسن وهو الذي ينفع غيره بنفعٍ حسنٍ، أو يحسن عمله بفعل ما يرضي الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: قاتلوا - أيها المؤمنون - في سبيل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه الذين يقاتلونكم من الكفار، ولا تعتدوا بقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، ممن لا قدرة لهم على القتال، فإن الله يكره البغي والعدوان أيّاً كان مصدره. واقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم، ولا يصدّنكم عنهم أنكم في أرض الحرم، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة بلدكم الأصلي، الذي أخرجوكم منه ظلماً وعدواناً، والفتنة للمؤمنين وإيذاؤهم بالتعذيب والتشريد، والإخراج من الوطن، والمصادرة للمال، أشد قبحاً من القتل ولا تقاتلوهم - أيها المؤمنون - عند المسجد الحرام، حتى يبدؤوكم بالقتال، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا عن عدوانهم فإن الله غفور رحيم. ثمّ أكد تعالى الأمر بقتال الكفار، وبيّن الغاية منه وهي ألاّ يوجد شيء من الفتنة في الدين، فقال: قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم، ويكون الدين خالصاً لله، فلا يعبدون دونه أحد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، فإذا انتهوا عن قتالكم، ودخلوا في دينكم فاتركوا قتالهم لأنه لا ينبغي أن يعتدي إلا على الظالمين. ثم أخبر تعالى أنّ المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين، فعلوا ما هو أشد قبحاً من القتل، فقال مخاطباً المؤمنين: الشهر الحرام يقابل بالشهر الحرام، وهتك حرمته تقابل بهتك حرمته، فلا تبالوا - أيها المؤمنون - بالقتال فيه إذا اضررتم للدفاع عن دينكم، وإعلاء كلمة الله، فمن تعرّض لقتالكم واعتدى عليكم فقاتلوه، وردّوا عدوانه بلا ضعفٍ ولا تقصير، بمثل ما يعتدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 عليكم، واتقوا لاله فلا تبغوا وتظلموا في القصاص، إن الله يحب المتقين. ثم أمر تعالى بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال: وأنفقوا في سبيل الله أي ابذلوا المال في سبيل الله لنصرة دينه، والدفاع عن الحق، ولا تبخلوا فتشحوا بالمال، فإن ذلك يضعفكم، ويمكّن الأعداء من نواصيكم فتهلكون، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين. سبب النزول أولاً: روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على ان يرجع من العام المقبل رجع، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} قاله ابن عباس. ثانياً: وروي أن المشركين قالوا للنبي عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: نعم، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فيه فنزلت هذه الآية {الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاله الحسن. ثالثاً: وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصدّه كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه فنزلت هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الآية {الشهر الحرام بالشهر الحرام} . رابعاً: وروى ابن جرير الطبري: عن (أسلم أبي عمران) قال: «كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر (عقبة بن عامر) وعلى أهل الشام (فضالة بن عُبيد) فخرج صفٌ عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة، فقام (أبو أيوب الأنصاري) صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنّا لما أعزّ الله دينه، وكثّر ناصريه، قال بعضنا لبعضٍ سراً دون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} فكانت التهلكة الإقامة في الأموال، وإصلاحها، وتركنا الغزو» فما زال (أبو أيوب) غازياً في سبيل الله، حتى قبضه الله ودفن بالقسطنطينية. وجوه القراءات قرأ الجمهور (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم) بالألف في (تقاتلوهم) و (يقاتلوكم) و (قاتلوكم) وقرأ حمزة والكسائي، وخلف بحذف الألف فيهن (ولا تقتلوهم عند المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم) . قال الطبري: «وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ (ولا تقاتلوهم) لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم» . وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين} . قال العكبري: (كذلك) مبتدأ، و (جزاء) خبره، والجزاء مصدر مضاف إلى المفعول، ويجوز أن يكون في معنى المنصوب ويكون التقدير: كذلك جزاء الله الكافرين. ثانياً: قوله تعالى: {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتّى بمعنى (كي) ويجوز أن تكون بمعنى إلى أن، وكان تامة، والمعنى: وقاتلوهم إلى أن لا توجد فتنة. ثالثاً: قوله تعالى: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} عدوان: اسم (لا) والجملة (إلا على الظالمين) في موضع رفع خبر (لا) قال العكبري: ففي الإثبات يقول: العدوان على الظالمين، فإذا جئت بالنفي وإلاّ بقي الإعراب على ما كان عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 لطائف التفسير الطيفة الأولى: لا يذكر في القرآن الكريم لفظ (القتال) أو (الجهاد) إلا وهو مقرون بعبارة (سبيل الله) وذلك يدل على أن الغاية من القتال غاية مقدسة نبيلة هي (إعلاء كلمة الله) لا السيطرة أو المغنم، أو إظهار الشجاعة، أو الاستعلاء في الأرض، وقد وضّح هذه الغاية النبيلة قوله عليه السلام: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» . اللطيفة الثانية: قال الزمخشري عند قول الله تعالى: {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل، وقيل لبعض الحكماء: ما أشدّ من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت. . جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت، ومنه قول القائل: لقتلٌ بحدّ السيف أهون موقعاً ... على النفس من قتلٍ بحد فِراق اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} . قال الإمام الفخر: فإن قيل: لم سمّى ذلك القتل عدواناً مع أنه حقٌ وصواب؟ قلنا: لأن ذلك القتل جزاء العدوان، فصحّ إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه. وجهل فلان عليّ فجهلت عليه. وعليه قول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ. .} الآية. الدفاع عن النفس مشروع ولا يعدّ اعتداءً، وإنما سمي في الآية اعتداءً (فاعتدوا عليه) من باب (المشاكلة) وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقول القائل: قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً والأصل فيها (فمن اعتدى عليكم) فقابلوه وجازوه بمثل ما اعتدى عليكم، وباب المشاكلة وردت فيه آيات عديدة كقوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79] . اللطيفة الخامسة: قال بعض العلماء: (لا أعلم مصدراً جاء في لغة العرب على وزن (تفعُلة) بضم العين إلا في هذه الآية {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} ، وقال صاحب «الكشاف» : ويجوز أن يقال: أصله التهلِكة، كالتجربة، والتبصرة على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار. قال الإمام الفخر: «إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به، واتخذوه حجة قوية، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها» . أقول: ما ذكره الإمام الفخر هو الحق والصواب، فالقرآن الكريم حجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 على اللغة، وليست اللغة حجة على القرآن، ورَضِيَ اللَّهُ عَنْ الإمام الفخر فقد أجاد في هذا وأفاد. اللطيفة السادسة: الجهاد في سبيل الله أفضل القربات عند الله، ولا يعدله شيء من العبادات لقوله عليه السلام: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» . كتب (عبد الله بن المبارك) إلى (الفُضيل بن عياض) بهذه الأبيات: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمتَ أنك في العبادة تلعب من كان يخضُب خدّه بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضّب أو كان يتُعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... وهجُ السنابل والغبار الأطيب فلما قرأها الفضيل ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني. الأحكام الشرعية الحكم الأول: متى فرض الجهاد على المسلمين؟ لم يختلف العلماء في أن القتال قبل الهجرة كان محظوراً على المسلمين، بنصوص كثيرة في كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: {فاعف عَنْهُمْ واصفح} [المائدة: 13] وقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] وقوله: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} [آل عمران: 20] وقوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] وأمثال هذه الآيات كثير تدل على أن المؤمنين كانوا منهيّين ن قتال أعدائهم، وهناك نص صريح بالكف عن القتال وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس. .} [النساء: 77] الآية. والحكمة في الكف عن القتال: في بدء الدعوة يمكن أن نلخِّص أسبابها فيما يلي: أ - إن المسلمين كانوا في مكة قلة، وهم محصورون فيها لا حول لهم ولا طول، ولو وقع بينهم وبين المشركين حرب أو قتال لأبادوهم عن بكرة أبيهم، فشاء الله أن يكثروا وأن يكون لهم أنصار وأعوان، وأن يرتكزوا قاعدة آمنه تحميها الدولة، فلمّا هاجروا إلى المدينة المنورة أذن لهم بالقتال بعد أن قويت شوكتهم وكثر عددهم. ب - كانت الغاية تدريب نفوس المؤمنين على الصبر امتثالاً للأمر، وخضوعاً للقيادة، وانتظاراً للإذن، وقد كان العرب في الجاهلية شديدي الحماسة، لا يصبرون على الضيم، وقد تعودوا الاندفاع والحماسة، والخفة للقتال عند أول داع، فكان لا بدّ من تمرينهم على تحمل الأذى، والصبر على المكاره والخضوع لأمر القيادة العليا، حتى يقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحميّة والطاعة، في جماعةٍ هيأتهم إرادة الله لأمر عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ج - البيئة العربية كانت بيئة نخوة ونجدة، وكان صبر المسلمين على الأذى - وفيهم الأبطال والشجعان الذين يستطيعون أن يردوا الصاع صاعين - مما يثير النخوة، ويحرك القلوب نحو الإسلام، حصل هذا بالفعل في (المحاصرة في الشعب) عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم، كي يتخلوا عن حماية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واشتد الاضطهاد على بني هاشم، ثارت نفوس لم تؤمن بالإسلام، أخذتها النخوة والنجدة حتى مزّقوا الصحيفة التي تعاهد فيها المشركون على المقاطعة، وانتهى ذلك الحصار المشؤوم. د - كان المسلمون في مكة يعيشون مع آبائهم وأهليهم في بيوت، وكان أهلوهم المشركون يعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى الشرك والضلال، فلو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة، وليس من مصلحة الدعوة أن تثار حرب دموية داخل البيوت، فلما أحدثت الهجرة وانعزلت الجماعة أبيح لهم القتال. الحكم الثاني: ما هي أول الآيات في تشريع القتال؟ اختلف السلف: في أول آية نزلت في القتال، فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن أول آية نزلت هي قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] نزلت بالمدينة، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقاتل من قاتله ويكف عمن كفّ عنه. وروي عن جماعة من الصحابة: منهم أبو بكر الصديق وابن عباس وسعيد بن جبير أن أول آيةٍ نزلت في القتال هي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] . قال أبو بكر بن العربي: «والصحيح أن أول آية نزلت آية الحج {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] ثم نزل {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} فكان القتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 إذناً ثم أصبح بعد ذلك فرضاً، لأن آية الإذن في القتال مكية، وهذه الآية مدنية متأخرة «. الحكم الثالث: هل يباح القتال في الحرم؟ دل قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} على حرمة القتال في الحرم، إلا إذا بدأ المشركون بالعدوان، فيباح لنا قتالهم دفعاً لشرهم وإجرامهم، ولا يجوز لنا أن نبدأهم بالقتال عملاً بالآية الكريمة وعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة. وقد روي عن مجاهد: في قوله تعالى: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} أنه قال:» لا تقاتل في الحرم أحداً أبداً، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك «. وروي عن قتادة أنه قال: الآية منسوخة نسختها آية براءة {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] . قال العلامة القرطبي: وللعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما أنها منسوخة، والثاني أنها محكمة. قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام بعد أن يقاتل، وبه قال طاووس، وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. ويدل عليه ما روي في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه ولسم خطب يوم فتح مكة فقال:» يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ولم تحلّ لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 من النهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة «. مناظرة لطيفة قال القاضي أبو بكر ابن العربي:» حضرتُ في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة (أبي عقبة) الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهيّ المنظر على ظهره أطمار، فسلّم سلام العلماء وتصدّر في صدر المجلس، فقال له الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل سلبة الشُطّار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجلٌ من صاغان من طلبة العلم، فقال القاضي مبادراً: سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة «الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل فيه أم لا؟» فأفتى بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} وقرئ: (ولا تقتلوهم) وقرئ (ولا تقاتلوهم) فإن قرئ: ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا أُنهي عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيناً ظاهراً على النهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي الزنجاني منتصراً للشافعي ومالك - وإن لم ير مذهبهما على العادة - فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عليّ (عامة) في الأماكن، والآي التي احتججتُ بها (خاصة) ، ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص، فأبْهَتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام «. قال ابن العربي:» فثبت النهي عن القتال فيها قرآناً وسنة، فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه، وأما الزاني والقاتل فلا بدّ من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيُقْتل بنصّ القرآن «. الحكم الرابع: ما المراد بالعدون في الآية الكريمة؟ حرّم الباري جل وعلا الاعتداء في قوله: {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} . 1 - ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المُثْلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ، الذين لا قدرة لهم على القتال، ويدخل فيها قتل الرهبان، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة. فكل هذا داخل في النهي {وَلاَ تعتدوا} . ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع «. وفي» الصحيحين «عن ابن عمر أنه قال:» وُجدت امرأةٌ في بعض مغازي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مقتولةً فأنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قتل النساء والصبيان «. ب - وقيل المراد بقوله {وَلاَ تعتدوا} النهيُ عن البدء بالقتال، وهو مروي عن مقاتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ج - وقيل المراد به النهي عن قتال من لم يقاتل، وهو قول سعيد بن جبير، وأبي العالية. قال القرطبي:» ويدل عليه من النظر أن قاتل (فَاعَلَ) لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة، والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان، والزّمْنَى، والشيوخ فلا يقتلون، وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (يزيد ابن أبي سفيان) حين أرسله إلى الشام، إلاّ أن يكون لهؤلاء إذاية، وللعلماء فيهم صور ست: الأولى - النساء إن قاتلن قُتلن لعموم قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} . الثانية - الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم. الثالثة - الرهبان لا يُقتلون ولا يُسترقون لقول أبي بكر (فذرهم وما حبسوا أنفسهم له) . الرابعة - الزّمني إن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة. الخامسة - الشيوخ قال مالك: لا يقتلون وهو قول جمهور الفقهاء إذا كان لا ينتفع بهم في رأي ولا مدافعة. السادسة - العسفاء وهم الأجراء والفلاحون لقول عمر (اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - القتال ينبغي أن يكون لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه. 2 - الله جل وعلا يكره العدوان والظلم والطغيان أياً كان مصدره. 3 - فتنة المؤمنين بالاضطهاد والتعذيب والتشريد مثل القتل. 4 - لا يعتدى على النساء والضعفاء والصبيان ممن لا قدرة لهم على القتال. 5 - الجهاد لدفع أذى المشركين، وقبر الفتنة، وتأمين سير الدعوة. 6 - ترك الانفاق والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس سبب للهلاك. خاتمة البحث: حكمة التشريع الصراع بين الحق والباطل قديم قدم هذه الحياة، لا يهدأ ولا ينتهي ولا يزول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون!! ولا بد لكل أمة من أمم الأرض، تريد أن تحيا حياة العزة والكرامة، من أن تستعد الاستعداد الكامل لمجابهة عدوها بكل ما تملك من قوة، وأن تأخذ بأسباب النصر، فتهيئ شبابها للجهاد والقتال، لأنه لا عيش في هذه الدنيا إلا للأقوياء، ولا منطق إلا للقوة، وقديماً قال شاعرنا العربي: ومن لم يذُدْ عن حوصَه بسلاحة ... يُهدّمْ ومن لا يظلم الناس يظلم والإسلام دين الله إلى الإنسانية، يهتم بدعوة الناس إلى الدخول في هدايته، والانضواء تحت رايته، لينعموا بحياة الأمن والاستقرار، ويعيشوا العيشة الكريمة التي أرادها الله لنبي الإنسان وإن الأمة الإسلامية. هي الأمة التي اختارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الله لإعلاء دينه، وتبليغ وحيه، وايصال هذا الهدى والنور إلى أمم الأرض. فإذا وقف أحد في طريق الدعوة، وأراد أن يصدها عن المضي في طريقها، فلا بدّ من دحره، وتطهير الأرض من شره، لتصل هداية الله إلى النفوس، وتعلو كلمة الحق، ويأمن الناس على حريتهم الدينية، في الإيمان بالله الواحد القهار. ولذلك شرع القتال لدفع عدوان الظالمين، ولتحطيم كل قوة تعترض طريق الدعوة، وإيصالها للناس في حرية واطمئنان. وصدق الله {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ} [البقرة: 193] . ولا يُقاتل إلا الباغي المعتدي، الذي يريد أن يفرض إرادته على الأمة بالقهر والسلطان، وأن يصد عن دين الله بقوة الحديد والنار، ويفتن المؤمن بوسائل الفنة والإغراء. {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 [10] إتمام الحج والعمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 التحليل اللفظي {أُحْصِرْتُمْ} : الإحصار في اللغة معناه: المنع والحبس، يقال: حَصَره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه قال الشاعر: وما هجرُ ليلى أن تكون تَباعدت ... عليك ولا أن أحصرتْكَ شُغُول قال في «اللسان» : الإحصار أن يُحضر الحاج عن بلوغ المناسك بمرضٍ أو نحوه. قال الفراء: العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول إلى تمام حجه أو عمرته: قد أُحْصر، وفي الحبس إذا حبسه سلطان، أو قاهر مانع: قد حُصِر. وقال الأزهري وأبو عبيدة: حًصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرضٍ أو انقطاع به. {الهدي} : الهديُ ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها، وأصله هديٌّ مشدد فخفّف، جمع هديّة قاله ابن قتيبة، وقال القرطبي: وسميت هدياً لأن منها ما يهدى إلى بيت الله. {مَحِلَّهُ} : المحلّ بكسر الحاء الموضع الذي يحل به نحر الهدي وهو الحرم، أو مكان الإحصار. {نُسُكٍ} : النّسك: جمع نسيكة وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى وأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 النسك العبادة ومنه قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] أي متعبداتنا. {رَفَثَ} : الرفث: الإفحاش للمرأة بالكلام. وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه، وأنشد أبو عبيدة: وربّ أسراب حجيجٍ كظّم ... عن اللغا ورفث التكلم {فُسُوقَ} : الفسوق في اللغة: الخروج عن الشيء يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، ومنه قوله تعالى في حق إبليس {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] والمراد في الآية جميع المعاصي. {جِدَالَ} : الجدال: الخصام والمراء، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر. {الزاد} : ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة قال الأعشى: إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُقى ... ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزودّا ندمتَ على ألاّ تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا ... {جُنَاحٌ} : الجناحُ: الحرج والإثم من الجنوح وهو الميل عن القصد وقد تقدم. {أَفَضْتُم} : أي اندفعتم يقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصبّ على نواحيه. قال الراغب: فاض الماء إذا سال منصباً، والفيضُ: الماء الكثير، ويقال غيضٌ من فيض، أي قليل من كثير، وقوله تعالى: {أَفَضْتُم مِّنْ عرفات} أي دفعتم منها بكثرة تشبيهاً بفيض الماء. وقال الزمخشري: أفضتم: دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وهو صبه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم، فتُرك ذكرُ المفعول. {عرفات} : اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها، وهي اسم في لفظ الجمع (كأذرعات) فلا تجمع. قال الفراء: عرفات جمع لا واحد له، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيهٌ بمولّد. وليس بعربي محض. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحج عرفة» هو اسم لليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم الوقوف بعرفات، وليس اسماً للمكان كما صرح به الراغب. {المشعر الحرام} : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمي (مَشْعراً) لأنه مَعْلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته. {مَّنَاسِكَكُمْ} : المناسك جمع (مَنْسَك) الذي هو المصدر بمنزلة النسك، أي إذا قضيتم عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، وإن جعلتها جمع (مَنْسَك) الذي هو موضع العبادة كان التقدير: فإذا قضيتم أعمال مناسككم فيكون من باب حذف المضاف أفاده الفخر. {خَلاَقٍ} : أي نصيب وقد تقدم، ومعنى الآية: ليس له في الآخرة نصيب من رحمة الله. المعنى الإجمالي أمر الله المؤمنين بإتمام الحج والعمرة، وأداء المناسك على الوجه الأكمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ابتغاء وجه الله، فإذا مُنع المحرم من إتمام النسك بسبب عدوٍ أو مرض، وأراد أن يتحلل فعليه أن يذبح ما تيسّر له من بدنة، أو بقرة، أو شاة، ونهى تعالى عن الحلق والتحلل قبل بلوغ الهدي المكان الذي يحل ذبحه فيه، أمّا من كان مريضاً أو به أذى في رأسه فإنه يحلق وعليه فدية، إمّا صيام ثلاثة أيام، أو يذبح شاة، أو يتصدق على ستة مساكين، لكن مسكين فدية، صاعٍ من طعام فمن اعتمر في أشهر الحج واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها فعليه ما استيسر من الهدي شكر الله تعالى، فمن لم يجد الهدي فعليه صيام عشرة أيام، ثلاثة حين يحرم بالحج وسبعة إذا رجع إلى وطنه. ذلك التمتع خاص بغير أهل الحرم، أما أهل الحرم فليس لهم تمتع وليس عليهم هدي. ثم بيّن تعالى أشهر الحج وهي (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة) وأمر من ألزم نفسه الحج بالتجرد عن عاداته، وعن التمتع بنعيم الدنيا، لأنه مقبل على الله، قاصد لرضاه، فعليه أن يترك النساء والاستمتاع بهن، وأن يترك المعاصي والنزاع والجدال مع الناس، وأن يتزود من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله. ثم أبان تعالى أن الكسب في أيام الحج غير محظور، وأن التجارة الدنيوية لا تنافي العبادة الدينية، وقد كان الناس يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص ثم أمر تعالى الناس بعد الدفع من عرفات، أن يذكروا الله عند المشعر الحرام، بالدعاء والتكبير والتلبية، ون يشكروه على نعمة الإيمان، فإذا فرغوا من مناسك الحج، فليكثروا ذكر الله وليبالغوا فيه كما كانوا يفعلون بذكر آبائهم ومفاخرهم. روي عن ابن عباس أنه قال: «كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، يقول الرجل منهم: كان أبي يُطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير فعال آبائهم فأنزل الله {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} . وجه الارتباط بالآيات السابقة ذكرت أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره تأتي مباشرة بعد شهر الصيام، وأما آيات القتال السابقة فقد نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم، والإحرام، والمسجد الحرام، ولما كان عليه السلام قد أراد العمرة وصدّه المشركون أول مرة بالحديبية، وأراد القضاء في العام القابل، وخاف أصحابه غدر المشركين بهم أنزل الله أحكام القتال، ثم عاد الكلام إلى إتمام أحكام الحج فهذا هو وجه الارتباط والله تعالى أعلم. سبب النزول أولاً: عن كعب بن عُجرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «حُملتُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا!! أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مساكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك» فنزلت {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} قال فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة. ثانياً: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودن، ويقولون: نحو المتوكلون فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ثالثاً: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحس، وسائر العرب يقفون بعرفات،» فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها يفيض منها فذلك قوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} . وفي رواية كانوا يقولون: «نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه ولا نفيض إلا من الحرم» . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور (أو نُسُكٍ) بضم النون والسين، وقرأ الحسن (أو نُسْكٍ) بسكون السين. 2 - قرأ الجمهور (فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج) بالفتح في الجميع، وقرأ أبو جعفر وابن كثير بالرفع في الجميع (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج) . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} قال الزمخشري: رفع بالابتداء أي فعليه ما استيسر، أو نصب على تقدير: فاهدوا ما استيسر. 2 - قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (الحج) مبتدأ و (أشهرٌ) الخبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والتقدير: أشهر الحج أشهر معلومات كقولهم: البرد شهران أي وقت البرد شهران. أقول: إنما قدّر العلماء ذلك لأنه من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر. 3 - قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} (لا) نافية للجنس (رفث) اسمها و (في الحج) الخبر و (لا) مكررة للتوكيد في المعنى وهو خبر يفيد النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. 4 - قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هداكم} الكاف نعت لمصدر محذوف و (ما) مصدرية والتقدير اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسنة، ويجوز أن تكون الكاف بمعنى (على) والتقدير: اذكروا الله على ما هداكم، وقوله تعالى {وَإِن كُنْتُمْ} إنْ مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: الهديُ يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هديّة لأهل الحرم من غير سببٍ موجب، وهذا ليس مراداً هنا، ويطلق على ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب موجب كترك واجب أو فعل شيء محظوراً، أو كالإحصار والتمتع وهذا هو المراد في الآية الكريمة. اللطيفة الثانية: المراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ظاهراً بأداء المناسك على وجهها، وباطناً بالإخلاص لله تعالى من غير رياءٍ ولا سمعة قال الشاعر: إذا حججتَ بمال أصله سُحُتٌ ... فما حججتَ ولكنْ حجّت العير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 لا يقبل الله إلا كل خالصةٍ ... ما كلّ من حج بيت الله مبرور اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فيه مجاز بالحذف تقديره: فحلق ففدية من صيام، فحذف «فحلق» اختصاراً، فهو مثل قوله تعالى في آية الصيام {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] حذف كلمة (فأفطر) اختصاراً لدلالة اللفظ عليه. اللطيفة الرابعة: التوكيد طريقة مشهورة في كل العرب فقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} جاء على طريقهم في التوكيد، مثل قوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وفيه فائدة دفع التوهم إذ أن بعض العرب يستعملون عدد السبعة للكثرة في الآحاد، كما يستعملون عدد السبعين لغاية الكثرة، فلئلا يتوهم السامع ذلك قال (عشرة كاملة) فتنبه له. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} كانت قريش لا تخرج من الحرم وتقول: لسنا كسائر الناس، نحن أهل الله وقطّان حرمه فلا نخرج منه، وكان الناس يقفون خارج الحرم ويُفيضون منه فأمرهم الله أن يقفوا حيث يقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس، أفاده ابن قتيبة. اللطيفة السادسة: من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار، بذكر الحج ثلاث مرات في قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} فالمراد بالأول زمان الحج، وبالثاني الحج نفسه المسمّى بالنسك، وبالثالث ما يعم الزمان والمكان وهو (الحرم) ولو قال: فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، لم يؤدّ هذه المعاني كلها، وجاء بصيغة النفي لأنه أبلغ في النهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قال أبو السعود: «وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أن ذلك حقيق بألاّ يكون» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل العمرة واجبة كالحج؟ اختلف الفقهاء في حكم العمرة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنها واجبة كالحج، وهو مروي عن (علي) و (ابن عمر) و (ابن عباس) . وذهب المالكية والحنفية إلى أنها سنة، وهو مروي عن (ابن مسعود) و (جابر بن عبد الله) . أدلة الشافعية والحنابلة: استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم ببعضة أدلة نوجزها فيما يلي: أولاً - قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} فقد أمرت الآية بالإتمام وهو فعل الشيء والإتيان به كاملاً تاماً فدل على الوجوب. ثانياً - ما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصحيح أنه قال لأصحابه «مَن كان معه هدي فليهلّ بحجة وعمرة» . ثالثاً - ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» . أدلة المالكية والحنفية: واستدل المالكية والحنفية على أن العمرة سنة بما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أولاً: عدم ذكر العمرة في الآيات التي دلت على فريضة الحج مثل قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] وقوله جل ثناؤه: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج ... } [الحج: 27] الآية. ثانياً: قالوا إن الأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، فدل ذلك على أن العمرة ليست بفريضة، وأنها تختلف في الحكم عن الحج. ثالثاً: ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الحج جهادٌ والعمرة تطوع» . رابعاً: ما روي عن جابر بن عبد الله «أنّ رجلاً سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمروا خير لكم» . خامساً: وأجابوا عن الآية والأحاديث التي استدل بها الشافعية فقالوا: إنها محمولة على ما كان بعد الشروع، فإن التعبير بالإتمام مشعر بأنه كان قد شرع فيه، وهذا يجب بالاتفاق. قال العلامة الشوكاني: «وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعاً بين الأدلة، ولا سيما بعد تصريحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها» . أقول: لعل هذا الرأي يكون أرجح والله تعالى أعلم. الحكم الثاني: هل الإحصار يشمل المرض والعدو؟ اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الإحصار، والذي يبيح للمحرم التحلل من الإحرام. فذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الإحصار لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 إلا بالعدو، لأن الآية نزلت في إحصار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الحديبية، عندما منع من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا محرمين بالعمرة. وقال ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وذهب أبو حنيفة: إلى أن الإحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدوٍ، أو مرضٍ، أو خوفٍ، أو ذهاب نفقة، أو ضلال راحلةٍ، أو موت محرم الزوجة في الطريق، وغير ذلك من الأعذار المانعة. وحجته: ظاهر الآية {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن الإحصار - كما يقول أهل اللغة - يكون بالمرض، وأما الحصر (المنع والحبس) فيكون العدو، فلما قال تعالى: {أُحْصِرْتُمْ} ولم يقل (حصرتم) دلّ على أنه أراد ما يعم المرض والعدو. واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلاً لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل. وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض، ولو كان من المرض لقال: (فإذا برأتم) ولقول ابن عباس: لا حضر إلا حصر العدو، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل. الترجيح: ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة، والموافق ليسر الإسلام وسماحته، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة، فإنهم جميعاً متفقون على أن (الإحصار) يكون بالمرض، و (الحصر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يكون بالعدو، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك {والشخص الذي تضل راحلته، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زاداً؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس؟} وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين (ابن جرير الطبري) رَحِمَهُ اللَّهُ حيث قال ما نصه: «وأولى التأويلين بالصواب في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحصركم خوف عدو، أو مرض، أو علة من الوصول إلى البيت، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم. ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون: فإن حصرتم» . أقول ويؤيده ما روي في «الصحيحين» عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني» فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه. الحكم الثالث: ماذا يجب على المحصر، وأين موضع ذبح الهدي؟ الآية الكريمة صريحة في أن على (المحصر) أن يذبح الهدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} وأقله شاة، والأفضل بقرة أو بدنة، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى: {فَمَا استيسر} وهذا رأي جمهور الفقهاء، وروي عن ابن عمر أنه قال: بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة، والصحيح رأي الجمهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وأما المكان: الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال: فقال الجمهور (الشافعي ومالك وأحمد) : هو موضع الحصر، سواءً كان حلاً أو حرماً. وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] . وقال ابن عباس: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه، وإلاّ ينحره في محل إحصاره. قال الإمام الفخر: «ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقال الشافعي: المحِلّ في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان» . الترجيح: والراجح رأي الجمهور اقتداءً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم، فدلّ على أن المحصر ينحر حيث يحل في حرمٍ أو حل، وأما قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] فذلك - كما يقول الشوكاني - في الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، والله تعالى أعلم. الحكم الرابع: ما هو حكم المتمتع الذي لا يجد الهدي؟ دل قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} على وجوب دم الهدي على المتمتع، فإذا لم يجد الدم - إما لعدم المال، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 لعدم الحيوان - صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله. وقد اختلف الفقهاء في هذا الصيام في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج ... } الآية. فقال أبو حنيفة: المراد في أشهر الحج وهو ما بين الإحرامين (إحرام العمرة) و (إحرام الحج) فإذا انتهى من عمرته حلّ له الصيام وإن لم يحرم بعد بالحج، والأفضل أن يصوم يوم التروية، ويوم عرفة، ويوماً قبلهما يعني (السابع، والثامن، والتاسع) من ذي الحجة. وقال الشافعي: لا يصح صومه إلا بعد الإحرام في الحج لقوله تعالى: {فِي الحج} وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، والأصح أنها لا تجوز يوم النحر، ولا أيام التشريق، والمستحب أن تكون في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة. ويرى بعض العلماء أن من لم يصم هذه الأيام قبل العيد، فله أن يصومها في أيام التشريق، لقول عائشة وابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لا يجد الهدي» . ومنشأ الخلاف بين (الحنفية) و (الشافعية) هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} فالحنفية قالوا في أشهر الحج، والشافعية قالوا: في إحرام الحج، وبكلٍ قال بعض الصحابة والتابعين. وأما السبعة أيام فقد اختلف الفقهاء في وقت صيامها. فقال الشافعية: وقت صيامها الرجوع إلى الأهل والوطن لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . وقال أحمد بن حنبل: يجزيه أن يصوم في الطريق ولا يشترط أن يصل إلى أهله ووطنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقال أبو حنيفة: المراد من الرجوع الفراغ من أعمال الحج وهو مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ. قال الشوكاني: والأول أرجح فقد ثبت في «الصحيح» من حديث ابن عمر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله» . وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ (وسبعةٍ إذا رجعتم إلى أمصاركم) . الحكم الخامس: ما هي شروط وجوب دم التمتع؟ قال العلماء: يشترط لوجوب دم التمتع خمسة شروط: الأول: تقديم العمرة على الحج، فلو حج ثم اعتمر لا يكون متمتعاً. الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. الثالث: أن يحج في تلك السنة لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} . الرابع: ألا يكون من أهل مكة لقوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} . الخامس: أن يحرم بالحج من مكة، فإن عاد إلى الميقات فأحرم بالحج لا يلزمه دم التمتع. وقال المالكية: شروطه ثمانية وهي كالتالي (1 - أن يجمع بين الحج والعمر 2 - في سفر واحد 3 - في عام واحد 4 - في أشهر الحج 5 - وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 تقدم العمرة على الحج 6 - وأن يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة 7 - وأن تكون العمرة والحج عن شخص واحد 8 - وألاَّ يكون من أهل مكة) . الحكم السادس: من هم حاضرو المسجد الحرام؟ دل قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} على أنّ أهل الحرم لا متعة لهم، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة، وقال (مالك، والشافعي، وأحمد) إن للمكي أن يتمتع بدون كراهة وليس عليه هدي ولا صيام، واستدلوا بأن الإشارة تعود إلى أقرب المذكور، وأقرب المذكور هنا وجوب الهدي أو الصيام على المتمتع، وأما أبو حنيفة فقد أعاد الإشارة إلى التمتع، والتقدير: ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وقد اختلفوا في المراد من قوله تعالى: {حَاضِرِي المسجد الحرام} . فقال مالك: هم أهل مكة بعينها، واختاره الطحاوي ورجحه. وقال ابن عباس: هم أهل الحرم، قال الحافظ: وهو الظاهر. وقال الشافعي: من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة، واختاره ابن جرير. وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية. أقول: لعل ما ذهب إليه المالكية هو الأرجح والله تعالى أعلم. الحكم السابع: ما هي أشهر الحج؟ واختلف العلماء في المراد من قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} ما هي هذه الأشهر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فذهب مالك: إلى أن أشهر الحج (شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كلّه) وهو قول (ابن عمر) و (ابن مسعود) و (عطاء) و (مجاهد) . وذهب الجمهور (مالك، والشافعي، وأحمد) : إلى أن أشهر الحج (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة) وهو قول ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي، وأما وقت العمرة فجميع السنة. قال الشوكاني: «وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إنّ ذا الحجة كله من الوقت لم يُلْزمه دم التأخير، ومن قال: ليس إلا العشر منه قال: يلزم دم التأخير» . الحكم الثامن: هل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟ اختلف الفقهاء فيم أحرم بالحج قبل أشهر الحج هل يصح إحرامه؟ على أقوال: الأول: روي عن ابن عباس أنه قال: من سُنّة الحج أن يحرم به في أشهر الحج. الثاني: فذهب الشافعي أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجرُّه ذلك ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة. الثالث: مذهب أحمد بن حنبل أنه مكروه فقط ويجوز الإحرام قبل دخول أشهر الحج. الرابع: مذهب أبي حنيفة جواز الإحرام في الحج في جميع السنة كلها وهو مشهور مذهب مالك، واستدلوا بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] وقالوا: كما صح الإحرام للعمرة في جميع السنة، كذلك يجوز للحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قال العلامة القرطبي: «وما ذهب إليه الشافعي أصح لأن هذه عامة وتلك الآية خاصة والخاص يقدم على العام» وقد مال إلى هذا المذهب الشوكاني ورجحه لأنه موافق لظاهر النص الكريم. الحكم التاسع: ما هي محرمات الإحرام؟ حظر الشارع على المحرم أشياء كثيرة، منها ما ثبت بالكتاب، ومنها ما ثبت بالسنة، ونحن نذكرها بالإجمال فيما يلي: أولاً: الجماع ودواعيه، كالتقبيل، واللمس بشهوة، والإفحاش بالكلام، والحديث مع المرأة الذي يتعلق بالوطء أو مقدماته. ثانياً: اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي، التي تخرج الإنسان عن طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ. ثالثاً: المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم. والأصل في تحريم هذه الأشياء قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} وهذه كلها بنص الآية الكريمة. روى البخاري في «صحيحه» عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من حجّ فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» . وقد ثبت بالسنة بعض المحرمات كالتطيب، ولبس المخيط، وتقليم الأظافر، وقص الشعر أو حلقه، وانتقاب المرأة، ولبسها القفازين. . إلى أخر ما هنالك من محرمات وهذه تعرف من كتب الفروع. الحكم العاشر: ما هو حكم الوقوف بعرفة، ومتى يبتدئ وقته؟ أجمع العلماء على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك» . ويرى جمهور العلماء أن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع، إلى طلوع فجر اليوم العاشر، وأنه يكفي الوقوف في أي جزء من هذا الوقت ليلاً أو نهاراً، إلا أنه إذا وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب، أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شيء. وقد روي عن الإمام (مالك) رَحِمَهُ اللَّهُ أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس لم يصح حجه وعليه حج قابل، قال القرطبي: «واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه؟ فقال (الشافعي وأحمد وأبو حنيفة) عليه دم، وقال (مالك) عليه حج قابل، والهدي ينحره في حج قابل وهو كمن فاته الحج» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 [11] القتال في الأشهر الحرام التحليل اللفظي {كُرْهٌ} : بضم الكاف أي مكروه لكم تكرهه نفوسكم لما فيه من المشقة، وُضع المصدر موضع الوصف مبالغةً، كقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وكقول الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قال ابن قتيبة: الكَره بالفتح معناه الإكراه والقهر، وبالضم معناه المشقة. {الشهر الحرام} : الشهر الذي يحرم فيه القتال، والمراد به هنا شهر رجب، وكان يدعى {الأصم) لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له. {وَصَدٌّ} : الصدّ: الصرف والمنع يقال: صدّه عن الشيء أي منعه عنه. {والفتنة} : أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم. {يَرْتَدِدْ} : أي يرجع، والردّة: الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ويُسمى فاعل ذلك مرتداً. قال الراغب: الارتداد والردة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردة تختص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره قال تعالى: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه} [المائدة: 54] وهو الرجوع من الإسلام إلى الكفر، وقال تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] . {حَبِطَ} : أي فسد وبطل عمله، قال في «اللسان» : حبَط حبْطاً وحبوطاً: عمل عملاً ثم أفسده، وفي التنزيل؟ {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] أي أبطل ثوابهم. قال أهل اللغة: أصل الحَبْط مأخوذ من (الحَبَط) وهو أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها وفي الحديث «وإنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يُلمّ» فسمي بطلان العمل بهذا لما فيه من الفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 {هَاجَرُواْ} : الهجرة مفارقة الأهل والوطن في سبيل الله لنصرة دينه. قال الراغب: الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان وأصلها من الهَجْر الذي هو ضد الوصل، ومنه قيل للكلام القبيح (هُجْر) لأنه مما ينبغي أن يُهجر، والهاجرة: وقت الظهيرة لأنه وقت يهجر فيه العمل. {وَجَاهَدُواْ} : الجهاد بذل الوسع والمجهود وأصله من الجهد الذي هو المشقة، وسمي قتال الأعداء (جهاداً) لأن فيه بذل الروح والمال لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه. {يَرْجُونَ} : الرجاء هو الأمل والطمع في حوصل ما فيه نفع. قال الراغب: الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة. وفي «اللسان» : الرجاء من الأمل نقيض اليأس، وهو بمعنى التوقع والأمل، قال بشر يخاطب بنته: فرجّي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزيّ آبا {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} : أي واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بعبادة المؤمنين. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: «فُرض عليكم - أيها المؤمنون - قتال الكفار، وهو شاق عليكم، تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلال النفس، ولكن قد تكره نفوسكم شيئاً وفيه كل النفع والخير، وقد تحب شيئاً وفيه كل الخطر والضرر، والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم، فلا تكرهوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ما فرض عليكم من جهاد عدوكم، فإنه فيه الخير لكم في العاجل والآجل. يسألك أصحابك - يا محمد - عن القتال في الشهر الحرام، أيحل لهم القتال فيه؟ قل لهم: القتال في نفسه أمر كبير، ولكن صدّ المشركين عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وكفرهم بالله، وإخراجكم من البلد الحرام وأنتم أهله وحماته، كلُّ ذلك أكبرُ جرماً وذنباً عند الله من قتل من قتلتم من المشركين، وقد كانوا يفتنونكم عن دينكم فذلك أكبر عند الله من القتل، فإن كنتم قتلتموهم في الشهر الحرام، فقد ارتكبوا ما هو أشنع وأقبح من ذلك، حيث فتنوكم عن دينكم، والفتنة أكبر من القتل. ثمّ أخبر تعالى بأن المشركين لا يزالون جاهدين في فتنة المؤمنين، حتى يردوهم عن دينهم إن قدروا على ذلك، فهم غير نازعين عن كفرهم وإجرامهم، ومن يستجب لهم منكم فيرجع عن دينه، فقد بطل عمله وذهب ثوابه، وأصبح من المخلدين في نار جهنم، لأنه استجاب لداعي الضلال. ثم أخبر تعالى أن المؤمنين الذين هاجروا مع رسول الله، وبذلوا جهدهم في مقاومة الكفار أعداء الله هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بهذا الفضل والعطاء لأنهم استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم في مرضاة الله، فحُقَّ لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. روى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث (عبد الله بن جحش) على سرية في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين، ليترصدوا عيراً لقريش فيها (عمرو بن عبد الله الحضرمي) وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الآخرة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف، ويتفرق فيه الناس إلى معايشهم، فوقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العير، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} قال ابن عباس: لما نزلت أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنيمة. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} قتالٍ: بدل من الشهر الحرام بدل اشتمال والمعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير أي عن قتال فيه. 2 - قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} صدّ: مبتدأ و (عن سبيل الله) متعلق به (وكفر) معطوف عن صدّ (وإخراج أهله) معطوف أيضاً، وخبر الأسماء الثلاثة (أكبر) . قال الزمخشري: (والمسجد الحرامِ) عطف على (سبيل الله) ولا يجوز أن يعطف على الهاء في (به) . 3 - قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} مَنْ: شرطية مبتدأ والخبر هو جملة {فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: كلمة (عسى) توهم الشك في أصلها مثل (لعلّ) وهي من الله يقين، قال الخليل: «عسى» من الله واجب في القرآن قال: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} [المائدة: 52] وقد وُجد، و {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} [يوسف: 83] وقد حصل. اللطيفة الثانية: قال الحسن: لا تكرهوا الشدائد والملمات، فربّ أمر تكرهه فيه نجاتك، وربّ أمرٍ تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير: ربّ أمرٍ تتّقيه ... جرّ أمراً ترتضيه خفي المحبوب منه ... وبدا المكروه فيه اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أي مكروه لكم بالطبع، لأنه شاق وثقيل على النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بحكم الله وقضائه كالمريض يشرب الدواء المر البشع الذي تعافه نفسه، لاعتقاده بما فيه من النفع في العاقبة، وإنما وضع المصدر في الآية موضع الوصف مبالغة كقوله الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار اللطيفة الرابعة: استعظم المشركون القتل في الشهر الحرام، مع أنهم فعلوا ما هو أفظع وأشنع، من الصد عن دين الله، والفتنة للمؤمنين، وفيهم يقول بعض الشعراء: تعدون قتلاً في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشدُ صدودكُمُ عمّا يقولُ محمدٌ ... وكفرٌ به واللهُ راءٍ وشاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وإخراجكم من مسجد الله أهلَه ... لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ فإنّا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلةَ لمّا أوقد الحربَ واقد اللطيفة الخامسة: قال الزمخشري: في قوله تعالى: {إِن اسْتَطَاعُواْ} استبعاد لاستطاعتهم كقول الرجل لعدوه: إن ظفرتَ بي فلا تبق عليّ، وهو واثق لا يظفر به. اللطيفة السادسة: التعبير بقوله تعالى: {أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله} فيه لطيفة وهي ألا يتكل الإنسان على عمله، بل يعتمد على فضل الله كما جاء في الحديث الشريف: «لن يُدخلَ أحدَكُم عملُه الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» . وعن قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يباح القتال في الأشهر الحرم؟ دلت هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد اختلف المفسرون هل بقيت الحرمة أم نسخت؟ فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، وكان يحلف على ذلك، كما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ابن جرير: حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا على سبيل الدفع. وذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة، نسختها آية براءة {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36] سئل (سعيد بن المسيب) هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم. حجة الجمهور أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزا (هوازن) بحنين، و (ثقيفاً) بالطائف، وأرسل (أبا عامر) إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراماً لما فعله النبي عليه السلام. قال ابن العربي: «والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ. .} فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه» . الحكم الثاني: هل الردة تحبط العمل وتذهب بحسنات الإنسان؟ دل قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} على أن الردة تُحبط العملَ، وتُضيع ثواب الأعمال الصالحة، وقد اختلف العلماء في المرتد هل يحبط عمله بنفس الردة، أم بالوفاة على الكفر؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن العمل يحبط بنفس الردّة. وقال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يبطل العمل إلا بالموت على الكفر. حجة الشافعي قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} فقد قيّده بالموت على الكفر، فإذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من الأحكام، لا حبوط العمل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ولا الخلود في النار. وحجة مالك وأبي حنيفة قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقوله {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فقد دلت الآيتان على أن الكفر محبط للعمل بدون تقييد بالوفاة على الكفر. وقد انبنى على ذلك خلافهم في المسلم إذا حجّ ثم ارتد ثم أسلم. فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه إعادة الحج، لأن ردته أحبطت حجه. وقال الشافعي: لا حج عليه لأن حجة قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره. قال ابن العربي في تفسيره «أحكام القرآن» : «واستظهر علماؤنا بقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقالوا: هو خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد به أمته، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستحيل منه الردة، وإنما ذكر الموافاة، شرطاً هاهنا لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاءً ممن وافى كافراً خلّده في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين، وحكمين متغايرين» . أقول: ظواهر النصوص تشير إلى إحباط العمل بالردّة مطلقاً، فالراجح قول المالكية والحنفية والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - القتال مكروه للنفوس ولكنه سبيل لنصرة الحق وإعزاز الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 2 - لا ينبغي للمؤمن أن يتقاعس عن الجهاد لأن فيه النصر أو الشهادة. 3 - الصد عن دين الله، والكفر بآيات الله أعظم إثماً من القتال في الشهر الحرام. 4 - الهدف من قتال المشركين للمسلمين ردهم إلى الكفر بشتى الطرق والوسائل. 5 - الردة عن الإسلام تحبط العمل وتخلد الإنسان في نار جهنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 [12] تحريم الخمر والميسر التحليل اللفظي {الخمر} : المسكر من عصير العنب وغيره، وهي مأخوذة من خَمَر الشيء إذا ستره وغطاه، سميت خمراً لأنها تستر العقل وتغطيه، ومنه قولهم: خمّرتُ الإناء أي غطيته. قال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل فلان في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قناعها، سمي خماراً لأنه يغطي رأسها. وقال ابن الأنباري: «سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه، يقال خامره الداء إذا خالطه، وأنشد لكثير: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر» ... {والميسر} : القمار، من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب من غير كدّ ولا تعب، أو من اليسار (الغنى) لأنه سبب يساره. قال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاءً، وكل شيء جزّأته فقد يَسَرْته. وفي «الصحاح» : ويَسر القوم الجزور إذا اقتسموا أعضاءها. والياسر: الذي يلي قسمة الجزور. {إِثْمٌ} : الإثم: الذنب وجمعه آثام، يقال: آثم وأثِم، والآثم المتحمل الإثم قال تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] أفاده الراغب. وتسمى الخمر ب (لإثم) لأنّ شربها سبب في الإثم قال الشاعر: شربتُ الإثم حتى ضلّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول {العفو} : الفضل والزيادة على الحاجة. قال القفال: العفو سهُل وتيسُر مما يكون فاضلاً عن الكفاية، يقال: خذ ما عفا لك أي ما تيسّر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 والمعنى: انفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تُجهدوا فيه أنفسكم. {لأَعْنَتَكُمْ} : أي أوقعكم في الحرج والمشقة، وأصل العنت: المشقة، يقال: أعنت فلانٌ فلاناً إذا أوقعة فيما لا يستطيع الخروج منه، وعَنت العظم: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوت: إذا كانت شاقة كدوداً، ومنه قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي شديد عليه ما شق عليكم. قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} أي لو شاء لكلفكم ما يشتد عليكم. {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : {عَزِيزٌ} أي لا يمتنع عليه شيء، لأنه غالب لا يغالب {حَكِيمٌ} أي يتصرف في ملكه كيف يشاء حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر، وعن حكم الميسر (القمار) قل لهم: إن في مقارفة الخمر والميسر إثماً كبيراً، وضرراً عظيماً، وفيهما نفع مادي ضئيل، وضررهما أعظم وأكبر من نفعهما، فإن ضياع العقل، وذهاب المال، وتعريض الجسد للتلف في الخمر، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت، ودمار الأسر، والصدّ عن عبادة الله وطاعته، وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، كل ذلك إذا قيس إلى النفع المادي التافه، ظهر الضرر الكبير الفادح في هاتين الموبقتين الخبيثتين. ويسألونك ماذا ينفقون من أموالهم، وماذا يتركون؟ قل لهم: أنفقوا الفضل والزيادة بقدر ما يسهل ويتيسر عليكم، مما يكون فاضلاً عن حاجتكم، وحاجة من تعولون، كذلك قضت حكمة الله أن يبيّن لكم المنافع والمضار، وأن يرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فتعلموا أن الأولى فانية، وأن الآخرة باقية، فتعملوا لها، والعاقل من آثر ما يبقى على ما يفنى. ويسألونك - يا محمد - عن معاملة اليتامى، أيخاطونهم أم يعتزلونهم، قل لهم: قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن خالطتموهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ ينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والله رقيب مطّلع عليكم يعلم المفسد منكم من المصلح، فلا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم، ولو شاء الله لأوقعكم في الحرج والمشقة، ولكنه يسّر عليكم وسهّل الدين رحمة ورأفة بكم، وهو العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام. سبب النزول أولاً: روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فإنها تذهب بالمال والعقل، فنزلت هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} فُدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في سورة النساء [43] {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى} فكان منادي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا، انتهينا. ثانياً: وروى ابن جرير عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: لما نزلت {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ونزل {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه، فيُحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور (قل فيهما إثم كبير) بالباء، وقرأ حمزة والكسائي (كثير) بالثاء. قال الطبري: ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما. 2 - قرأ الجمهور (قل العفوَ) بالنصب، وقرأ أبو عمرو (قل العفوُ) بالرفع. ويكون معنى الكلام حينئذٍ: ما الذي؟ ينفقون قل: المنفقُ العفوُ. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {كذلك يُبيِّنُ الله} قال ابن الأنباري: الكاف في (كذلك) إشارة إلى ما بيّن من الإنفاق، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 في الإنفاق يبيّن الآيات، ويجوز أن يكون «كذلك» ليس إشارة إلى ما قبله بل بمعنى «هكذا» قاله ابن عباس. وقال العكبري: الكاف في (كذلك) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين يبيّن الله لكم، وقوله (في الدنيا والآخرة) متعلقة ب (تتفكرون) ويجوز أن تتعلق ب (تبيّن) والمعنى: يبيّن لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة. 2 - قوله تعالى: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} (إصلاح) مبتدأ، و (خير) خبره، وجاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها في معنى الفعل تقديره: أصلحوهم. 3 - قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ} مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم إخوانكم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: «أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهي لهم حلال، ثم نزل بالمدينة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} فتركها قوم لقوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} وشربها قوم لقوله: {ومنافع لِلنَّاسِ} ثم إن (عبد الرحمن بن عوف) صنع طعاماً ودعا إليه ناساً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأطعمهم وسقاهم الخمر، وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ (قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون) بحذف (لا) فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فحرّم الله السكر في أوقات الصلاة، فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال سكره، ثم إن (عتبان بن مالك) صنع طعاماً ودعا إليه رجالاً من المسلمين فيهم (سعد بن أبي وقاص) وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار، فأنشد بعضهم قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس (سعد) فشجه، فانطلق سعد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشكا إليه الأنصاري فأنزل الله {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ ... } إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91] ؟ فقال عمر: انتهينا ربنا انتهينا» . اللطيفة الثانية: في تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر، وأصبحت جزءاً من حياتهم، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم وربما لم يستجيبوا لذلك النهي، كما تقول السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أول ما نزل من القرآن سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول ما نزل: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمرة أبداً» . وذلك من الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق (التدريج في تشريع الأحكام) فبدأ بالتنفير مه بطريق غير مباشر كما في الآية الأولى، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين شيئين: شيء فيه نفع ضئيل، وشيء فيه ضرر وخطر جسيم، كما في الآية الثانية، ثم بالتحريم الجزئي في أوقات الصلاة كما في الآية الثالثة، ثم بالتحريم الكلي في جميع الأوقات كما في الآية الرابعة، فللَّه ما أدق هذا التشريع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وما أحكمه؟! اللطيفة الثالثة: فإن قيل: كيف يكون في الخمر منافع، مع أنها تذهب بالمال والعقل؟ فالجواب أن المراد بالمنافع في الآية (المنافع المادية) التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمر، يربحون منها الربح الفاحش، كما يربحون من وراء الميسر، ومما يدل على أن النفع مادي أن الله تعالى قرنها بالميسر {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} ولا شك أن النفع في الميسر (مادي) بحت حيث يكون الربح لبعض المقامرين فكذلك في الخمر. قال العلامة القرطبي: «أمّا المنافع في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي، هذا أصح ما قيل في منافعها» . ويحتمل أن يراد النفع في الخمر تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبرّ عنها الشاعر بقوله: ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأُسْداً ما ينهنها اللقاء لا يلذ السّكْر حتّى ... يأكل السكرانُ نعلَه ويرى القصعة فيلاً ... ويظنَّ الفيل نملة اللطيفة الرابعة: أثمن وأغلى شيء في الإنسان عقله، فإذا فقد الإنسان العقل أصبح كالحيوان، ولهذا حرم الله الخمر وسميت ب (أم الخبائث) لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 سبب في كل قبيح. روى النسائي عن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم متعبّد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنّا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيةُ خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأساً، فسقته كأساً قال: زيدوني فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا يوشك أن يُخْرج أحدُهما صاحبه» . اللطيفة الخامسة: قال (قيس بن عاصم المِنْقري) في ذم الخمر بعد أن حرّمها على نفسه: رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصالٌ تُفسد الرجل الحليما فلا والله أشربها صحيحاً ... ولا أشفي بها أبداً سقيماً ولا أعطي بها ثمناً حياتي ... ولا أدعو لها أبداً نديماً فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما قال القرطبي: «وإن الشارب يصير ضُحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله كما أكرمتني» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 اللطيفة السادسة: قال صاحب «الكشاف» : في صفة الميسر الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية «كانت لهم عشرة أقداح وهي (الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحِلْس، والنافس، والمسبل، والمعلَّى، والمنيح، والسفيح، والوغد) لكلّ واحد منه نصيب معلوم من جزور ينحرونها إلا لثلاثة وهي (المنيح، والسفيح، والوغد) فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في خريطة ويضعونها على يد عدل، ثم يجلجلها ويدخل يدخ فيخرج باسم رجلٍ رجلٍ قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه؟ الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل الآية الكريمة دالة على تحريم الخمر؟ ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} دالة على تحريم الخمر، لأن الله تعالى ذكر فيها قوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقد حرم الله الإثم بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم ... } [الأعراف: 33] الآية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى. ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية تقتضي ذم الخمر دون تحريمها، بدليل أن بعض الصحابة شربوا الخمر بعد نزولها - كما مرّ في أسباب النزول - ولو فهموا التحريم لما شربها أحد منهم، وهذه الآية منسوخة بآية المائدة وهذا قول مجاهد، وقتادة، ومقاتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قال القرطبي:» في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى هي آية المائدة [90] {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} وعلى هذا أكثر المفسدين «. الحكم الثاني: ما هي الخمر وهل هي اسم لكل مسكر؟ اختلف العلماء في تعريف الخمر ما هي؟ فقال أبو حنيفة: الخمر الشراب المسكر من عصير العنب فقط، وأما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير، فلا يسمى خمراً بل يُسمى نبيذاً. وهذا مذهب الكوفيين والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى. وذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الخمر اسم لكلّ شراب مسكر، سواءً كان من عصير العنب، أو التمر، أو الشعير أو غيره، وهو مذهب جمهور المحدثين وأهل الحجاز. حجة الكوفيين وأبي حنيفة: احتج الكوفيون وأبو حنيفة بأن الأنبذة لا تسمى خمراً، ولا يسمى خمراً إلا لشيء المشتد من عصير العنب باللغة، والسنة: أما اللغة: فقول (أبي الأسود الدؤلي) وهو حجة في اللغة: دع الخمر تشربْها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنياً بمكانها فإن لا تكنْه أو يكنْها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها وأما السنة: فما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «أُتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنشوان فقال له: أشربت خمراً؟ قال: ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله، قال: فماذا شربت؟ قال: الخليطين، قال: فحرّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخليطين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فنفى الشارب اسم الخمر عن (الخليطين) بحضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم ينكره عليه. حجة الجمهور: واستدل الحجازيون وجمهور الفقهاء على أن كل مسكر خمر بما يلي: أولاً: حديث ابن عمر «كلّ مسكر خمرٌ، وكل مسكر حرامٌ» . ثانياً: حديث أبي هريرة: «الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرمة والنخلة» . ثالثاً: حديث أنس «حرمت الخمر حين حرّمت، وما يُتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البُسْرُ والتمر» . رابعاً: حديث ابن عمر (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، والخمرُ ما خامر العقل) . خامساً: حديث أم سلمة «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن كل مسكر ومفتّر» واستدلوا لمذهبهم على أن المسكر يسمى خمراً باللغة أيضاً وهو أن الخمر سميت خمراً لمخامرتها للعقل، وهذه الأنبذة تخامر العقل أي تستره وتغيبه فلذلك تسمى خمراً، فالخمرُ هو السكر من أي شرابٍ كان، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء. قال الفخر الرازي: «فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمّى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه؟ لا يقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 إن هذا إثبات للغة بالقياس وهو غير جائز، لأنا نقول: ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات. والترجيح: ونحن إذا تأملنا أدلة الفريقين - ما ذكر منها وما لم يذكر - ترجح عندنا قول الجمهور وأهل الحجاز، فالخمر حرام، وكمل مسكر خمر كما قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وذلك لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع، وقد ثبت بالسنة المطهّرة تحريم كل مسكر ومفتّر، وثبت عن أنسٍ أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة حين حرمت الخمر، وما كان خمرهم يومئذٍ إلا الفضيخ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الشراب وكسروا الأواني، وما كان الفضيخ إلا من نقيع البسر، فما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح المعوّل عليه، لا سيّما وأن المتأخرين من الأحناف أفتوا بقول محمد في سائر الأشربة وهو الحق الذي لا محيد عنه. قال العلامة الألوسي:» وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان، وبأي اسم سمي، متى كان بحيث يُسكر حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه، ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة «. الحكم الثالث: ما هي أنواع الميسر المحرّم؟ اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار، وأنها من الميسر المحرّم لقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} فكل لعب يكون فيه ربح لفريق وخسارة لآخر هو من الميسر المحرم، سواءً كان اللعب بالنرد، أو الشطرنج أو غيرهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ويدخل فيه في زماننا مثل (اليانصيب) سواء منه ما كان بقصد الخير (اليانصيب الخيري) أو بقصد الربح المجرد فكله ربح خبيث «وإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً» . قال صاحب «الكشاف» : «وفي حكم الميسر أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما، وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم «. وعن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» أن النرد والشطرنج من الميسر «. وعن ابن سيرين:» كل شيء فيه خطر فهو من الميسر «. قال صاحب» روح المعاني «:» وفي حكم الميسر جميع أنواع القمار من النرد، والشطرنج، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب، والقرعة في غير القسمة، وجميع أنواع المخاطرة والرهان «. أما النرد فمحرم بالاتفاق لقوله عليه السلام:» من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله «. وأما الشطرنج: فقد أباحه الإمام الشافعي بشروط ذكرها الإمام الفخر حيث قال:» وقال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال، أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً «. وأما السبق في الخيل والدواب، والرميُ بالنصَال والسهام فقد رخص فيه بشروط تعرف من كتب الفقه وليس هنا محل تفصيلها والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 خاتمة البحث: حكمة التشريع حرم الله الخمر والميسر، لما فيهما من الأضرار الفادحة، والمفاسد الكثيرة، والآثام التي تتولد من هاتين الرذيلتين سواءً في النفس أو البدن أو العقل أو المال. فمن مضار الخمر أنه يذهب العقل حتى يهذي الشارب كالمجنون، ويفقد الإنسان صحته ويخرّب عليه جهازه الهضمي، فيحدث التهابات في الحلق، وتقرحات في المعدة والأمعاء، وتمدداً في الكبد، ويعيق دورة الدم، وقد يوفقها فيموت السكّير فجأة، وقد أثبت الطب الحديث ضرر الخمر الفادح في الجسم والعقل حتى قال بعض أطباء ألمانيا:» اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات، والبيمارستانات (مستشفى الأمراض العقلية) والسجون «. ويكفي الخمر شراً أنها (أم الخبائث) كما ورد في الحديث الشريف. وأما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فهو يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويفسد المجتمع بتعويد الناس على البطالة والكسل، بانتظار الربح بدون كد ولا تعب، ويهدّم الأسر ويخرّب البيوت، فكم من أسرة تشرّدت وتحطمت وافتقرت بعد أن كانت تعيش بين أحضان الثروة والغنى بسبب مقامرة أربابها، فكان في ذلك الدمار والهلاك لتلك الأسر المنكوبة، كما انتهى الأمر بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم بالانتحار، أو الرضا بعيشة الذل والمهانة. ولا تزال الأيام تظهر من مضار الخمر والميسر ما لم يكن معروفاً من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 [13] نكاح المشركات التحليل اللفظي {تَنْكِحُواْ المشركات} : أي لا تتزوجوا الوثنيات، والمشركة هي التي تعبد الأوثان، وليس لها دين سماوي ومثلها المشرك، وقيل: إنها تعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الكتابيات أيضاً لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30 - 31] . {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ} : الأمة: المملوكة بملك اليمين وهي تقابل الحرة، وأصلها (أمو) حذفت على غير قياس وعوّض عنها هاء التأنيث، وتجمع على إماء قال تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] وقال الشاعر: أمّا الإماء فلا يدعونني ولداً ... إذا تداعى بنو الأَمَوات بالعار المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه: لا تتزوجوا - أيها المؤمنون - المشركات حتى يؤمن بالله واليوم الآخر، ولأمة مؤمنة بالله ورسوله أفضل من حرة مشركة، وإن أعجبتكم المشركة بجمالها، ومالها، وسائر ما يوجب الرغبة فيها من حسب، أو جاه، أو سلطان. ولا تَزوِّجُوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن خيرٌ لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، مهما أعجبكم في الحسب، والنسب، والشرف، فإن هؤلاء - المشركين والمشركات - الذين حرمت عليكم مناكحتهم ومصاهرتهم، يدعونكم إلى ما يؤدي بكم إلى النار، والله يدعو إلى العمل الذي يوجب الجنة، ويوضح حججه وأدلته للناس ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر، والخبيث والطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 سبب النزول أولاً: روي أن هذه الآية نزلت في مرثد من أبي مرثد الغنوي الذي كان يحمل الأسرى من مكة إلى المدينة، وكانت له في الجاهلية صلة بامرأة تسمى (عَناقاً) فأتته وقالت: ألا تخلوا؟ فقال: ويحك إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت: فهل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستأمره فنزلت الآية. وتعقّب السيوطي هذه الرواية وذكر أنها ليست سبباً في نزول هذه الآية، وإنما هي سبب في نزول آية النور {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ... } [النور: 3] . الآية. ثانياً: وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في (عبد الله بن رواحة) كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره خبرها فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما هي يا عبد الله؟ فقال: يا رسول الله: هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال يا عبد الله: هذه مؤمنة، فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {حتى يُؤْمِنَّ} حتى بمعنى (إلى أن) و (يؤمن) مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل نصب ب (حتى) وأصله (يؤمنْنَ) . ثانياً: قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} الواو للحالو (لو) هنا بمعنى (إن) وكذا كل موضع وليها الفعل الماضي كقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} [المائدة: 100] أي وإن أعجبك والتقدير: لأمة مؤمنة خيرٌ من مشركة وإن أعجبتك. ثالثاً: قوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين} بضم التاء هنا لأنه من الرباعي (أنكح) وهو يتعدى إلى مفعولين الأول (المشركين) والثاني محذوف وهو (المؤمنات) أي ولا تزوجوا المشركين المؤمنات. وأما قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} فهو من الثلاثي (نكح) أي لا تتزوجوا المشركات وهو يتعدى إلى مفعول واحد فقط. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: المراد بالنكاح هنا العقد بالإجماع أي لا تتزوجوا بالمشركات. قال الكرخي: المراد بالنكاح العقد لا الوطء حتى قيل: إنه لم يرد في القرآن بمعنى الوطء أصلاً، لأن القرآن يكني وهذا من لطيف ألفاظه. قال ابن جني: «سألت أبا علي عن قولهم: نكح المرأة فقال: فرّقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس، فإذا قالوا: نكح فلانٌ فلانةً: أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا غير المجامعة، لأنه إذا ذكر امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة» . اللطيفة الثانية: في قوله تعالى: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} إشارة لطيفة إلى أن الذي ينبغي أن يراعي في الزواج (الخلق والدين) لا الجمال والحسب، والمال، كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنُهنّ أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهنّ على الدين ولأَمةٌ سوداء خرقاء ذات دين أفضل» . اللطيفة الثالثة: من المعلوم أن المغفرة قبل دخول الجنة، ولذلك قدمت في غير هذه الآية {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] وإنما قدمت الجنة هنا لرعاية مقابلة النار لتكمل وتظهر المقابلة {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ} . اللطيفة الرابعة: في الآية الكريمة من المحسنّات البديعة ما يسمى ب (المقابلة) فقد جاء بلفظ (أمة) ويقابلها (العبد) وبلفظ (مؤمنة) ويقابلها (المشركة) وبلفظ (الجنة) ويقابلها (النار) فهي مقابلة لطيفة بديعة تزيد الكلام رونقاً وجمالاً، والفرق بين (المقابلة) و (الطباق) أن المقابلة تكون بين معنيين أو أكثر متوافقة، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب، أما الطباق فيكون بين لفظين مثل (الأول والآخر) ومثل (أضحك وأبكى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يحرم نكاح الكتابيات؟ دل قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} على حرمة نكاح المجوسيات والوثنيات. وأما الكتابيات فيجوز نكاحهن لقوله تعالى في سورة المائدة [5] : {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب. .} الآية أي العفيفات من أهل الكتاب، وهذا قول جمهور العلماء، وبه قال الأئمة الأربعة. وذهب ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إلى تحريم نكاح الكتابيات، وكان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: «حرّم الله تعالى المشركات على المسلمين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن يقول المرأة: ربّها عيسى، أو عبدٌ من عباد الله تعالى» . وإلى هذا ذهب الإمامية، وبعض الزيدية وجعلوا آية المائدة منسوخة بهذه الآية نخس الخاص بالعام. حجة الجمهور: أ - احتج الجمهور بأن لفظ (المشركات) لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} [البقرة: 105] وقوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] قد عطف المشركين على أهل الكتاب، والعطفُ يقتضي المغايرة، فظاهر لفظ (المشركات) لا يتناول الكتابيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ب - واستدلوا بما روي عن السلف من إباحة الزواج بالكتابيات، فقد قال قتادة في تفسير الآية إن المراد بالمشركات (مشركات العرب) اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه. وعن حماد قال: سألت إبراهيم عن تزوج اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس به، فقلت: أليس الله تعالى يقول: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} ؟ فقال: إنما تلك المجوسيات وأهل الأوثان. ج - وقالوا: لا يجوز أن تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة، والمائدة من آخر ما نزل، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم لا العكس. د - واستدلوا بما روي أن حذيفة تزوج يهودية، فكتب إليه عمر خلّ سبيلها، فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. فدل على أن عمر فعل هذا من باب الحيطة والحذر، لا أنه حرم نكاح الكتابيات. هـ - واستدلوا بالحديث الذي رواه عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال في المجوس: «سنوا بهم سنّة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» . فلو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لم يكن لذكره فائدة. قال الطبري بعد سرده للأقوال: «وأولى الأقوال بتأويل الآية ام قاله (قتادة) من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات، وأن الآية عام ظاهرها، خاص باطنها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لم يُنسخ منها شيء، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها، وذلك أن الله تعالى أحل بقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] للمؤمنين من نكاح محصناتهن مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات، وقد روي عن عمر أنه قال: (المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة) وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة نكاح اليهودية والنصرانية، حذراً من أن يقتدي بهما الناس في ذلك فزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني فأمرهما بتخليتهما» . أقول: رحم الله عمر فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين، ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة الحكيمة!! الحكم الثاني: من هم المشركون الذين يحرم تزويجهم؟ دلّ قوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} على حرمة تزويج المشرك بالمسلمة، والمراد بالمشرك هنا كل كافر لا يدين بدين الإسلام، فيشمل الوثني، والمجوسي، واليهودي، والنصراني، والمرتد عن الإسلام فكل هؤلاء يحرم تزويجهم بالمسلمة، والعلة في ذلك أن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. فللمسلم أن يتزوج باليهودية أو النصرانية وليس لليهودي أو النصراني أن يتزوج بالمسلمة، وقد بيَّن الباري جل وعلا السبب بقوله: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} أي يدعون إلى الكفر الذي هو سبب دخول نار جهنم، فالرجل له سلطة وولاية على المرأة، فربما أجبرها على ترك دينها وحملها على أن تكفر بالإسلام، والأولاد يتبعون الأب فإذا كان الأب نصرانياً أو يهودياً. ربّاهم على اليهودية أو النصرانية فيصير الولد من أهل النار. ومن ناحية أخرى فإن المسلم يعظّم موسى وعيسى عليهما السلام. ويؤمن برسالتهما ويعتقد بالتوارة والإنجيل التي أنزلها الله ولا يحمله إيمانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 على إيذاء زوجته (اليهودية) أو (النصرانية) مثلاً بسبب العقيدة، لأنه يلتقي معها على الإيمان بالله، وتعظيم رسله، فلا يكون اختلاف الدين سبباً للأذى أو الاعتداء، بخلاف غير المسلم الذي لا يؤمن بالقرآن ولا برسالة نبينا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فإن عدم إيمانه يدعوه إلى إيذاء المسلمة والاستخفاف بدينها. سألني طالب غير مسلم كان قد حضر عندي درس الدين في مدينة حلب: لماذا يتزوج المسلم بالنصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة؟ يقصد التعريض والغمز بالمسلمين بأنهم متعصبون، فقلت له: نحن المسلمين نؤمن بنبيكم (عيسى) وكتابكم (الإنجيل) فإذا آمنتم بنبينا وكتابنا نزوجكم من بناتنا. . فمن منا المتعصب؟ فبهت الذي كفر. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - حرمة الزواج بالمشركة الوثنية التي ليس لها كتاب سماوي. ثانياً - حرمة تزويج الكفار (وثنيين أو أهل كتاب) من النساء المسلمات. ثالثاً - إباحة الزواج من الكتابية (اليهودية أو النصرانية) إذا لم يخش الضرر على الأولاد. رابعاً - التفاوت بين الناس بالعمل الصالح، فالأَمَةُ المؤمنة أفضل من الحرة المشركة. خامساً - المشرك يجهد نفسه لحمل المؤمنة على الكفر بالله فلا يليق أن يقترن بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 [14] اعتزال النساء في الحيض التحليل اللفظي {المحيض} : مصدر ميمي بمعنى الحيض، كالمعيش بمعنى العيش، قال رؤبة: إليك أشكو شدة المعيش ... ومُرّ أعوام نتفن ريشي أي أشكو شدة العيش، ويطلق المحيض على الزمان والمكان ويطلق على الحيض مجازاً، أفاده القرطبي. وأصل الحيض: السيلان، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قال الأزهري: ومنه قيل للحوض حوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل. ويقال للمرأة: حائض، وحائضة كذا قال الفراء وأنشد: كحائضةٍ يُزْنى بها غير طاهر ... {أَذًى} : قال عطاء: أذى: أي قذر، والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء ومنه قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] . قال في «المصباح» : أذى الشي أذى من باب تعب بمعنى قذر، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} أي مستقذر. وقال الطبري: وسمي الحيض أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته. {فاعتزلوا} : الاعتزال التنحي عن الشيء والاجتناب له، ومنه قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] والمرادُ باعتزال النساء اجتناب مجامعتهن، لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز. {يَطْهُرْنَ} : بالتخفيف أي ينقطع عنهم دم الحيض، وبالتشديد (يَطّهَرْن) بمعنى يغتسلن. {حَرْثٌ} : قال الراغب: الحرث إلقاء البذر في الأرض وتهيؤها للزرع، ويسمى المحروث حرثاً قال تعالى: {أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 22] . وقال الجوهري: الحرث: الزرع، والحارث الزارع، ومعنى (حرثٌ) أي مزرع ومنبت للولد، والآية على حذف مضاف أي موضع حرثكم، أو على سبيل التشبيه ففرج المرأة كالأرض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج، فالحرث بمعنى المحترث، سمي موضع الشيء باسم الشيء على سبيل المبالغة. {أنى شِئْتُمْ} : أي كيف شئتم أو على أي وجهٍ شئتم مقبلة، أو مدبرة، أو قائمة، أو مضجعة بعد أن يكون المأتي في موضع الحرث. قال الطبري: وقال ابن عباس: (فاتوا حرثكم أنَّى شئتم) أي ائتها أنَّى شئت مقبلة ومدبرة، ما لم تأتها في الدبر والمحيض. وعن عكرمة: يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط. {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} : أي قدموا الخير والصالح من الأعمال، لتكون زاداً لكم إلى الآخرة. {واتقوا الله} : أي خافوا عذابه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. {وَبَشِّرِ المؤمنين} : بالثواب والكرامة والفوز بالدرجات العلى في دار النعيم. المعنى الإجمالي يسألونك - يا محمد - عن إتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟ قل لهم: إن دم الحيض دم مستقذر، ومعاشرتهن في هذه الحالة فيه أذى لكم ولهن، فاجتنبوا معاشرة النساء، ونكاحهن في حالة الحيض، ولا تقربوهن حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطْهُرن، فإذا تطهّرْن بالماء فاغتسلن، فأتوهن من حيث أمركم الله، في المكان الذي أحلّه لكم وهو (القُبُل مكان النسل والولد، ولا تأتوهنّ في المكان المحرم (الدبر) فإن الله يحب عبده التائب المتنزه عن الفواحش والأقذار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ثم أكد تعالى النهي عن إتيان النساء في غير المحل المعهود الذي أباحه للرجال فقال ما معناه: نساؤكم - أيها الناس - مكان زرعكم وموضع نسلكم، وفي أرحامهن يتكوّن الجنين والولد، فأتوا نساءكم كيف شئتم ومن أي وجهٍ أحببتم بعد أن يكون في موضع النسل والذرية، قال ابن عباس: (اسق نباتك من حيث ينبت) وقدموا - أيها الناس المؤمنون - لأنفسكم صالح الأعمال وراقبوا الله وخافوه في تصرفاتكم، واخشوا يوماً تلقون فيه ربكم فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته وبشر المؤمنين بالكرامة والسيادة والنعيم المقيم في دار الكرامة. سبب النزول أولاً: عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «» كانت اليهود إذا حاضت امرأة منهن لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يؤاكلوهن ويشاربوهن وأن يكونوا معهن في البيوت، وأن يفعلوا كل شيء إلا النكاح، فقالت اليهود: ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء (عبّاد بن بشر) و (أُسَيْد بن خصير) إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبراه بذلك وقالا يا رسول الله: أفلا ننكحهن في المحيض؟ فتمعّر وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى ظنّنا أنه غضب عليهما، فاستقبلتهما هدية من لبن فأرسل لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسقاهما فعلما أنه لم يغضب «. ثانياً: وعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال:» كانت اليهود تقول: من أتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 امرأته في قُبُلها من دُبُرها كان الولد أحول، فنزلت {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} . وجوه القراءات قرأ الجمهور {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي (يَطّهّرْن) بتشديد الهاء والطاء وفتحهما، ورجّح الطبراني قراءة تشديد الطاء وقال: هي بمعنى يغتسلن. قال الفخر: «فمن خفّف فهو زوال الدم من طهرت المرأة من حيضها إذا انقطع الحيض، والمعنى: لا تقربوهنّ حتى يزول عنهن الدم، ومن قرأ بالتشديد فهو على معنى يتطهّرن» . وجوه الإعراب قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} مبتدأ أو خبر، وقوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} كلمة (أنّى) تأتي في اللغة العربية بمعنى (من أين) ومنه قوله تعالى: {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] ؟ أي من أين، وتأتي بمعنى (متى) و (كيف) تقول: سافر أنّى شئت، واجلس أنّى أردت أي سافر متى شئت، واجلس كيف أردت، والمعنى المراد في الآية (كيف) أي أتوا حرثكم كيف شئتم قائمة أو قاعدة أو مضجعة ولا يجوز أن يكون المراد (من أين شئتم) كما فهم بعض الجهال فأباحوا إتيان المرأة في دبرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 قال القرطبي: «أنّى شئتم» معناه عند الجمهور من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة و (أنّى) تجيء سؤالاً وإخباراً عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من (كيف) ومن (أين) ومن (متى) هذا هو الاستعمال العربي في أنّى. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: كان اليهود يبالغون في التباعد عن المرأة حالة الحيض، فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في بيت واحد، ويعتبرونها كأنها داءٌ أو رجس وقذر، وكان النصارى يفرطون في التساهل فيجامعونهن ولا يبالون بالحيض، فجاء الإسلام بالحدّ الوسط (افعلوا كلّ شيء إلا النكاح) وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية الغراء حيث أمر المسلمين بالاقتصاد بين الأمرين. اللطيفة الثانية: لفظ (المحيض) قد يكون اسماً للحيض نفسه، وقد يكون اسماً لموضع الحيض كالمبيت والمقيل موضع البيتوتة وموضع القيلولة، ولكن في الآية الكريمة ما يشير إلى أن المراد بالمحيض هو (الحيض) لأن الجواب ورد بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه. أفاده العلامة الجصاص. اللطيفة الثالثة: قال ابن العربي: «سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل: لا تَقْرَب (بفتح الراء كان معناه: لا تَلْبَس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه» فلما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 حتى يَطْهُرْنَ} دلّ على أن المراد النهي عن ملابسة الفعل وهو إتيانهن في حالة الحيض. اللطيفة الرابعة: روى الطبري عن مجاهد أنه قال: «عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات، من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} فقال ابن عباس: إن هذا الحيّ من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، ويتلذّذون بهن مقبلات ومدبرات، فلمّا قدموا المدينة تزوجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله تعالى ذكره {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركه، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث» . اللطيفة الخامسة: شبّه الله المرأة بالحرث، أي أنها مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات، وهذا التشبيه يبيّن أن الإباحة لا تكون إلا في الفرج خاصة، إذ هو مزرع الولد، وقد أنشد ثعلب. إنما الأرحام أرضو ... ن لنا محترثات فعلينا الزرع فيها ... وعلى الله النبات فجعل رحم المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما الذي يجب اعتزاله من المرأة حالة الحيض؟ اختلف أهل العلم فيما يجب اعتزاله من المرأة في حالة الحيض على أقوال: أ - الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة، وهو مروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني. ب - الذي يجب اعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. ج - الذي يجب اعتزاله موضع الأذى وهو الفرج فقط، وهذا مذهب الشافعي. حجة المذهب الأول: أن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصص من ذلك شيئاً دون شيء، فوجب اعتزال جميع بدن المرأة لعموم الآية {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . قال القرطبي: «وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافة» . ب - حجة المذهب الثاني: واحتج أبو حنيفة ومالك بما روي عن عائشة قالت: «كنتُ أغتسل أغتسل أنا والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من إناء واحد كلانا جنبٌ، وكان يأمرني فأتّزر فيباشرني وأنا حائض» وما روي عن عن ميمونة أنها قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيّض» ج - حجة المذهب الثالث: واحتج الإمام الشافعي بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» وما روي عن مسروق قال: (سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كلّ شيء إلاّ الجماع) . وفي رواية أخرى: (إن مسروقاً ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته، فقالت عائشة: أبو عائشة مرحباً فأذنوا له، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا استحي، فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني، فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: له كل شيء إلا فرجها) . الترجيح: ومن استعراض الأدلة يترجح لدينا المذهب الثاني، وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري حيث قال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتزر ودونه» . والعلة أن السماح بالمباشرة فيما بين السرة إلى الركبة قد تؤدي إلى المحظور، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالاحتياط أن نبعده عن منطقة الحظر وقد قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بعد أن روت حديث المباشرة: وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يملك إربه؟ ومن جهةٍ أخرى إذا اجتمع حديثان أحدهما فيه الإباحة والثاني فيه الحظر، قدّم ما فيه الحظر، كما قال علماء الأصول والله أعلم. الحكم الثاني: ما هي كفارة من أتى امرأة وهي حائض؟ أجمع العلماء على حرمة إتيان المرأة في حالة الحيض، واختلفوا فيمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فعل ذلك ماذا يجب عليه؟ فقال الجمهور: (مالك والشافعي وأبو حنيفة) : يستغفر الله ولا شيء عليه سوى التوبة والاستغفار. وقال أحمد: يتصدق بدينار أو نصف دينار، لحديث ابن عباس «عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: يتصدق بدينار أو بنصف دينار» . وقال بعض أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار. قال القرطبي: «حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة» . الحكم الثالث: ما هي مدة الحيض، وما هو أقله وأكثره؟ اختلف الفقهاء في مدة الحيض، ومقدار أقله وأكثره على أقوال: الأول: قال أبو حنيفة والثوري: أٌله ثلاثة أيام، وأكثره عشرة. الثاني: وقال الشافعي وأحمد: أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشرة يوماً. الثالث: وقال مالك في المشهور عنه: لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره والعبرة بعادة النساء. حجة أبو حنيفة: حديث أبي أمامة (أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام) قال الجصاص: «فإن صحّ هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد» . واحتج الشافعي بحديث: «تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي) والشطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 في اللغة النصف، فهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوماً. أقول: ليس في الآية ما يدل على أقل مدة الحيض ولا أكثره، وإنما هو أمر اجتهادي يرجع فيه إلى كتب الفروع، وتعرف الأدلة من الأخبار والآثار فارجع إليها هناك والله يتولاك. الحكم الرابع: متى يحل قربان المرأة؟ دلّ قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} على أنه لا يحل للرجل قربان المرأة في حالة الحيض حتى تطهر، وقد اختلف الفقهاء في الطهر ما هو؟ أ - فذهب أبو حنيفة: إلى أن المراد بالطهر انقطاع الدم، فإذا انقطع دم الحيض جاز للرجل أن يطأها قبل الغسل، إلاّ أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو (عشرة أيام) جاز وطؤها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة. ب - وذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الطهر الذي يحل به الجماع، هو تطهرها بالماء كطهور الجنب، وأنها لا تحل حتى ينقطع الحيض وتغتسل بالماء. ج - وذهب طاووس ومجاهد إلى أنه يكفي في حلّها أن تغسل فرجها وتتوضأ للصلاة. وسبب الخلاف: أن الله تعالى قال: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} الأولى بالتخفيف، والثانية بالتشديد، وكلمة (طَهُر) يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان وهو انقطاع دم الحيض، وأمّا (تطهّر) فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان بفعله وهو الاغتسال بالماء. فحمل أبو حنيفة: (حتى يَطْهُرن) على انقطاع دم الحيض، وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} على معنى فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل المشدّد بمعنى المخفّف. وقال الجمهور معنى الآية:» ولا تقربوهنّ حتّى يغتسلن، فإذا اغتسلن فأتوهن «فاستعملوا المخفّف بمعنى المشدّد، واستدلوا بقراءة حمزة والكسائي (حتّى يطهّرَن) بالتشديد في الموضعين. وقالوا: مما يدلّ على صحة قولنا أن الله عَزَّ وَجَلَّ علّق الحكم فيها على شرطين: أحدهما: انقطاع الدم وهو قوله تعالى: (حتى يطهُرْن) أي ينقطع عنهن الدم. والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى: (فإذا تطهّرن) أي اغتسلن. فصار المجموع هو الغاية، وهذا مثل قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] فعلّق الحكم وهو جاز دفع الماء على شرطين: أحدهما: بلوغ النكاح، والثاني: إيناس الرشد، فلا بدّ من توفرهما معاً. الترجيح: أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لأن الله تعالى قد علّل ذلك بقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} وظاهر اللفظ يدل على أن المراد به الطهارة الحسية وهي الاغتسال بالماء. وهذا الذي رجحناه هو اختيار شيخ المفسّرين الطبري، والعلاّمة ابن العربي والشوكاني والله تعالى أعلم. الحكم الخامس: ماذا يحرم على المرأة الحيض؟ اتفق العلماء على أن المرأة الحائض يحمر عليها الصلاة، والصيام، والطواف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ودخول المسجد، ومسّ المصحف، وقراءة القرآن، ولا يحل لزوجها أن يقربها حتى تطهر، وهذه الأحكام تعرف بالتفصيل من كتب الفقه، والأدلة عليها معروفة وهناك أحكام أخرى ضربنا صفحاً عنها لأنها لا تستنبط ن الآية والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - وجوب اعتزال المرأة في حالة المحيض حتى تطه من حيضها. 2 - إباحة إتيان المرأة بعد انقطاع الدم والاغتسال بالماء. 3 - حرمة إتيان المرأة في الدبر لأنه ليس مكاناً للحرث. 4 - جواز الاستمتاع بشتى الصور بعد أن يكون في محل نبات الولد. 5 - التحذير من مخالفة أمر الله وارتكاب ما نهى عنه تعالى وحذّر. خاتمة البحث: حكمة التشريع جعل الله تبارك وتعالى مكاناً لنسل الرجل، وأحلّ له إتيانها في جميع الأوقات إلا في بعض حالات تكون فيها المرأة متلبّسة بالعبادة كحالة الإحرام، والاعتكاف، والصيام، أو في حالة الطمث (الحيض) ، وهي حالة تشبه المرض الحسيّ، لأنها حالة إلقاء (البويضة الأنثوية) التي لم تلقّح من رحم المرأة، وغالباً ما تصحبها الآلام وتكون المرأة غير مستعدة نفسياً لهذه المباشرة الجنسية، التي يقصد بها استمتاع كلٍ من الزوجين بالآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ودم الحيض له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء، وذلك لأأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة، وهو دم فاسد، أسود، ثخين، محتدم شديد الحمرة - كما يعرّفه الفقهاء - ورؤية الدم تنفر الطبع، وتشمئز منها النفس، فكيف إذا اجتمعت معه هذه الأوصاف الخبيثة؟ {فإتيان المرأة في مثل هذه الحالة، فيه ضرر عظيم يلحق بالمرأة، كما أن فيه ضررا على الرجل أيضاً، عبّر عنه القرآن الكريم الدقيق {قُلْ هُوَ أَذًى} وأيّ تعبير أبلغ من هذا التعبير المعجز؟} وقد أثبت (الطب الحديث) الضرر الفادح الذي يلحق بالمرأة من جراء معاشرتها وإتيانهاه في حالة الطمث، فكثيراً ما يختلط المني المقذوف من الرجل بهذه الدماء، ويتولد عن ذلك إلتهابات في عنق الرحم، أو في الرحم نفسه، أو يتعرض الجنين إلى التشوه إن قدّر هناك حمل، كما أن الرجل يتعرض لبعض الأضرار الجسمية، ولهذا ينصح الأطباء بالابتعاد عن المرأة في حالة (العادة الشهرية) حتى تطهر من طمثها، وفي ذلك أكبر برهان على حكمة الشريعة الغراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 [15] النهي عن كثرة الحلف التحليل اللفظي {عُرْضَةً} : بضم العين أي مانعاً، وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء فهو (عُرْضة) ولهذا يقال للسحاب: عارضٌ، لأنه يمنع رؤية السماء والشمس، واعترض فلانٌ فلاناً أي منعه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فعل ما يريد. والمعنى: لا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً لكم من البر والتقوى، إذا دعي أحدكم لبرٍ أو إصلاح يقول: قد حلفت أن لا أفعله فيتعلّل باليمين. قال الرازي: المراد النهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به، لأن من أكثر من ذكر شيء فقد جعله عُرْضة له، يقول الرجل: قد جعلتني عُرْضة للومك، وقال الشاعر: فلا تجعلني عُرْضة للَّوائم ... قال الجصاص: المعنى لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء حقاً كان أو باطلاً، فالله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى، وكذلك لا تجعلوا اليمين بالله عرضة مانعة من البر والتقوى والإصلاح. {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو} : قال الراغب: اللغو في الكلام ما لا يُعتد به، وهو الذي يُورد لا عن روية وفكر، فيجري مجرى (لّلغاً) وهو صوت العصافير ونحوها من الطيور، وأنشد أبو عبيدة: عن الّلغا ورفث التكلم ... قال الإمام الفخر: «اللغو، الساقط الذي لا يعتد به، سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 كان كلاماً أو غيره، ولغو الطائر: تصويته، ويقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل: لغو» . {يُؤْلُونَ} : أي يحلفون، والمصدر (إيلاء) والاسم منه (أليّة) والأليّة، والقسم واليمين، والحلف، كلها عبارات عن معنى واحد، قال الشاعر: فآليتُ لا أنفكّ أحْدو قصيدةً ... تكون وإيّاها بها مثلاً بعدي هذا هو المعنى اللغوي، وأما في عرف الشرع فهو اليمين على ترك وطء الزوجة. {تَرَبُّصُ} : التربص في اللغة الانتظار ومنه قوله تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين} [الطور: 31] أي انتظروا فأنا من المنتظرين معكم قال الشاعر: تربّصْ بها ريب المنون لعلّها ... تُطلّقُ يوماً أويموت حليلها وإضافة التربص إلى الأشهر من إضافة المصدر إلى الظرف. {فَآءُو} : أي رجعوا ومنه قوله تعالى: {حتى تفياء إلى أَمْرِ} [الحجرات: 9] أي ترجع، ومنه قيل للظل بعد الزوال (فيء) لأنه رجع بعد أن تقلص. قال الفراء: العرب تقول: فلان سريع الفيء والفيئة أي سريع الرجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدمة. قال الشاعر: ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ... ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضياً ومعنى الآية: فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك معاشرة نسائهم فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 المعنى الإجمالي لا تجعلوا - أيها المؤمنون - الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير، فإذا سئل أحدكم عن أمرٍ فيه برٌّ، وإصلاح، قال: قد حلفت بالله ألاّ أفعله، وأريد أن أبرّ بيميني، فلا تتعللوا باليمين بل افعلوا الخير وكفّروا عن أيمانكم، ولا تكثروا الحلف فتجعلوا الله هدفاً لأيمانكم تبتذلون اسمه المعظم في أمور دنياكم، فإن الحلاّف مجترئ على ربه فلا يكون براً ولا تقياً. لا يؤاخذكم الله بما يجري على ألسنتكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه وعقدتم القلب عليه من الأيمان، والله واسع المغفرة، حليم لا يعاجل عباده بالعقوبة. للذين يحلفون منكم على اعتزال نسائهم، ويقسمون على ألاّ يقربوهن للإضرار بهن، على نسوة هؤلاء الحالفين انتظار مدة أقصاها أربعة أشهر، فإن رجعوا إلى عشرة أزواجهن بالمعروف كما أمر الله، فالله يغفر لهم ما صدر منهم من إساءة، وإن صمّموا على الإيلاء من الأزواج، فقد وقعت الفرقة والطلاق بمقضي تلك المدة، والله سميع لأقوالكم، عليم بنواياكم وأعمالكم. سبب النزول روي أنها نزلت في (عبد الله بن رواحة) كان بينه وبين ختنه (بشير بن النعمان) شيء فحلف عبد الله لا يدخل عليه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصم له، فكان إذا قيل له فيه يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي أن لا أبر بيميني، فأنزل الله {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ذمّ الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] وكان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف كما قال كثير: قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه ... وإن سبقتْ منه الأليّةُ برّت قال الإمام الفخر: «والحكمة في الأمر بتقليل الإيمان، أنّ من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يُؤمنُ إقدامه على اليمين الكاذبة، ومن كمال التعظيم لله أن يكون ذكر الله أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية» . اللطيفة الثانية: ذكر الله العلة في هذا النهي بقوله: {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ} أي إرادة أن تبروا وتتقوا، فإن قيل: كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى؟ فالجواب: أن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا، والخسائس من أمور الحياة، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر والتقوى. اللطيفة الثالثة: قال الإمام الجصاص: «قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع من كتابه العزيز، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] يعني كلمة فاحشة قبيحة وقال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} [الواقعة: 25] على هذا المعنى، وقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] يعني الكفر والكلام القبيح، وقال {والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] يعني الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الذي لا يفيد شيئاً، وقال: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] يعني الباطل، ويقال: لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه» . اللطيفة الرابعة: الحكمة في تحديد مدة الإيلاء بأربعة أشهر، هي أن التأديب بالهجر ينبغي ألا يتجاوز هذه المدة، فالمرأة ينفد صبرها عن غياب بعلها هذه المدة، ولا تستطيع أن تصبر أكثر منها. روي أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشد هذه الأبيات: تطاول هذه الليلُ واسودّ جانبُه ... وأرّقني ألاّ حبيب ألاعبُه فوا اللهِ لولا الله لا شيء غيرهُ ... لزُعْزع من هذا السرير جوانبُه مخافة ربي والحياءُ يكفّّني ... وإكرام بعلي أن تُنال مراكبُه فلما كان من الغد سأل عن المرأة أين زوجها؟ فقالوا يا أمير المؤمنين: بعثت به إلى العراق، فاستدعى نساءً فسألهن عن المرأة كم تصبر عن زوجها؟ فقلن شهراً، وشهرين، ويقلّ صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد صبرها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدة غزو الرجل أربعة أشهر، فإذا مضت المدة استردّ الغازين ووجّه بقومٍ آخرين. قال القرطبي: «هذا يقوّي اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر والله أعلم» . اللطيفة الخامسة: روي أن الإيلاء في الجاهلية كان طلاقاً، قال سعيد بن المسيب: «كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها فكان يتركها لا أيّما ولا ذات بعل، والغرض منه مضارة المرأة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فأزال الله تعالى ذلك الظلم، وأمهل الزوج مدة حتى يتروّى ويتأمل، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد باليمين اللغو، وهل فيه كفارة؟ دل قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} على أن اليمين اللغو لا إثم فيه ولا كفارة، وقد اختلف الفقهاء في تعريف هذه اليمين على أقوال: أ - قال الشافعي وأحمد: اللغو في اليمين هو: ما يجري على اللسان من غير قصد الحلف، كقول الرجل في كلامه: لا والله، وبلى والله دون قصد لليمين، وهذا التأويل منقول عن بعض السلف كعائشة، والشعبي، وعكرمة. ب - وقال أبو حنيفة ومالك: اللغو في اليمين هو: أن يحلف على شيء يظنه كما يعتقد فيكون بخلافه، وهذا التأويل منقول عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ في «الموطأ» : «أحسنُ ما سمعت في هذه أنّ اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد الأمر بخلافه فلا كفارة فيه» . وفي البخاري: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «نزل قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله، وبلى والله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 والصحيح أن اللغو: يشمل النوعين وهو اختيار ابن جرير الطبري فقد قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «واللغو في كلام العرب: كلّ كلام كان مذموماً، وفعلٍ لا معنى له مهجوراً، فإذا كان اللغو ما وصفتُ، وكان الحالف بالله ما فعلت كذا وقد فعل، ولقد فعلت كذا وما فعل، على سبيل سبق لسانه، والقائل: والله إن هذا لفلان وهو يراه كما قال، أو والله ما هذا فلان وهو يراه ليس به، والقائل: لا يفعل كذا والله على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام، وسبوق اللسان، على غير تعمد حلفٍ على باطل، جميعهم حالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثم قلوبُهم، كان معلوماً أنهم لغاةٌ في أيمانهم لا تلزمهم كفارة» . الحكم الثاني: ما هو الإيلاء، وما هو حكمه؟ تقدم معنا تعريف الإيلاء لغة، وأمّا شرعاً: فهو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر، كأن يقول: والله لا أقربك، أو لا أجامعك، أو أمثال هذه الكلمات. قال ابن عباس: «كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك إيذاء المرأة عند المساءة، فوقّت الله لهم أربعة أشهر، فمن آلى بأقل من ذلك فليس بإيلاء حكمي» . واتفق العلماء على أنه لو هجرها مدة تزيد على أربعة أشهر لا يكون مؤلياً حتى يحلف لقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ} أي يحلفون، وهجرانها ليس بيمين فلا يتعلق به وجوب الكفارة، ولا تطلق منه زوجته بالهجر. واختلفوا في المدة التي تَبِيْنُ فيها المرأة من زوجها، فقال ابن عباس: إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفئ بانت بتطليقة، وهذا مذهب أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وقال مالك والشافعي وأحمد: لا تطلق بمضي المدة وإنما يؤمر الزوج بالفيئة (الرجوع عن يمينه) أو بالطلاق، فإذا امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه. حجة أبي حنيفة: أن الله تعالى حدّد المدة للفيء بأربعة أشهر، فإذا لم يرجع عن يمينه في هذه المدة فكأنه أراد طلاقها وعز عليها، والعزيمة في الحقيقة إنما هي عقد القلب على الشيء تقول: عزمت على كذا أي عقدت قلبي على فعله فهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} أي عقدوا عليه قلوبهم، ولم تشترط الآية أن يطلق بالفعل. حجة الجمهور: أن قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} صريح في أنّ وقوع الطلاق إنما يكون بإيقاع الزوج، فلا يكفي المدة بل لا بدّ بعدها من الفيء أو الطلاق. قال الشوكاني في تفسيره «فتح لقدير» : «واعلم أن أهل كل مذهب قد فسّروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لم يدّل عليه اللفظ، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يؤلي: أي يحلف من امرأته أربعة أشهر، ثم قال مخبراً عباده بحكم هذا (المؤلي) بعد هذه المدة (فإن فاءوا) أي رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لا يؤخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} أي وقع العزم منهم عليه والقصد له {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} لذلك منهم {عَلِيمٌ} به، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة» . الحكم الثالث: هل يشترط في اليمين أن تكون للإضرار؟ قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقال مالك: لا يكون إيلاءً إلا إذا حلف عليها في حال غضب على وجه الإضرار. حجة مالك: ما روي عن (علي كرّم الله وجهه) أنه سئل عن رجلٍ حلف ألاّ يطأ امرأته حتى تفطم ولدها، ولم يرد الإضرار بها وإنما قصد مصلحة الولد فقال له: إنما أردتَ الخير، وإنما الإيلاء في الغضب. وما روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: لا إيلاء إلاّ بغضب. حجة الجمهور: أن الآية عامة {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} فهي تشمل من حلف بقصد الإضرار، أو حلف بقصد المصلحة لولده، فالكل يشمله لفظ (الإيلاء) . قال الشعبي: كل يمين مَنعتْ جِماعاً حتى تمضي أربعة أشهر فهي إيلاء. وقد رجّح ابن جرير الطبري الرأي الأول (رأي الجمهور) فقال: «والصواب قول من قال:» كل يمين مَنعتْ الجماع أكثر من المدة التي جعل للمؤلي التربص بها قائلاً في غضب كان ذلك أو رضى فهو إيلاء «. الحكم الرابع: ما المراد بالفيء في الآية الكريمة؟ اختلف الفقهاء في الفيء الذي عناه الله تعالى بقوله: {فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . فقال بعضهم: المراد بالفيء الجماع لا فيء غيره، فإذا لم يغشها وانقضت المدة بانت منه، وهو قول (سعيد بن جبير) و (الشعبي) . وقال آخرون: الفيء: الجماع لمن لا عذر له، فإن كان مريضاً أو مسافراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أو مسجوناً فيكفي المراجعة باللسان أو القلب، وهذا مذهب جمهور العلماء. وقال آخرون: الفيء: المراجعة باللسان على كل حال فيكفي أن يقول: قد فئت إليها وهو قول النخعي. وأعدل الأقوال القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - عدم جواز الحلف على المنع من فعل البر والخير. 2 - من حلف على يمين ورأى الخير في خلافها فليفعل الخير وليكفّر. 3 - اليمين اللغو التي لا يقصد بها اليمين لا مؤاخذة عليها ولا كفارة فيها. 4 - الإيلاء من الزوجة بقصد الإضرار يتنافى مع وجوب المعاشرة بالمعروف. 5 - إذا لم يرجع الزوج عن يمينه في مدة أربعة شهور تطلق عليه زوجته. خاتمة البحث: حكمة التشريع أمرت الشريعة الغرّاء بالإحسان إلى الزوجة ومعاشرتها بالمعروف، وحرّمت إيذاءها والإضرار بها بشتى الصور والأشكال {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ولمّا كان الإيلاء من الزوجة، وهجرها في المضاجع مدة طويلة من الزمن، لا يقصد منه إلا الإساءة إلى الزوجة والإضرار بها، بحيث تصبح المرأة معلقة، ليست بذات زوج ولا مطلّقة، وكان هذا مما يتنافى مع وجوب المعاشرة بالمعروف ولا يتفق مع تعاليم الإسلام الرشيدة، لذلك فقد أمر الباري جل وعلا بإمهال هذا الزوج مدة من الزمن أقصاها أربعة شهور، فإن عاد إلى رشده فكفر عن يمينه، وأحسن معاملة زوجته فعاشرها بالمعروف، ودفع عنها الإساءة والظلم فهي زوجته، وإلاّ فقد طلقت منه بذلك الإصرار، وهذا من محاسن الشريعة الغراء، حيث دفعت عن كاهل المرأة الظلم ودعت إلى البر بها والإحسان، وجعلتها شريكة الرجل في الحياة السعيدة الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 [16] مشروعية الطلاق في الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 التحليل اللفظي {قرواء} : جمع قُرء بالفتح والضم، ويطلق في كلام العرب على (الحيض) وعلى (الطهر) فهو من الأضداد. قال في «القاموس» : «والقَرْءُ بالفتح ويُضم: الحيض، والطهر والوقت، وأقرأت حاضت وطهرت، وجمع الطهر: قروء، وجمع الحيض: أقراء» . وأصل القرء: الاجتماع وسمي الحيض قرءاً لاجتماع الدم في الرحم. قال الأخفش: «أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت» ومن مجيء القرء بمعنى (الحيض) قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» أي أيام حيضك، وقول الشاعر: له قروء كقروء الحائض ... ومن مجيئه بمعنى (الطهر) قول الأعشى: مورثة عزّاً وفي الحيّ رفعةً ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا {وَبُعُولَتُهُنَّ} : أي أزواجهن جمع بعل الزوج قال تعالى: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] والمرأة بعلة ويقال لها: بعل أيضاً أفاده صاحب «القاموس» . وأصل البعل: السيّد المالك، يقال: من بعد هذه الناقة؟ أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 من ربها؟ ومن سيّدها؟ والمعنى: أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة التربص بالعدة. {دَرَجَةٌ} : الدرجة في اللغة المنزلة الرفيعة قال تعالى: {هُمْ درجات عِندَ الله} [آل عمران: 163] وسميت درجة تشبيها لها بالدرج الذي يرتقى به إلى السطح، ويقال لقارعة الطريق مدرجة لأنها تطوي منزلاً بعد منزل، وأصل (درج) بمعنى طوى يقال: درج القوم أي طَووا عمرهم وفنوا وفي الأمثال (هو أكذب من دبّ ودرج) أي أكذب الأحياء والأموات. {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : أي منيع السلطان غالبٌ لا يٌغلَب، حكيم في أحكامه وأفعاله. {الطلاق} : الطلاق حلّ عقدة النكاح، وأصله الانطلاق والتخلية، يقال: ناقة طالق أي مهملة قد تركت في المرعى بلا قيد ولا راعي، فسميت المرأة المخلّى سبيلها طالقاً لهذا المعنى. قال الراغب: أصل الطلاق التخليةُ من الوثاق يقال: أطلقتُ البعير من عقاله وطلّقته إذا تركته بلا قيد، ومنه استعير: طلّقتُ المرأة نحو خلّيتها فهي طالق أي مخلاّة عن حِبالَة النكاح، وطلّقه المريض أي خلاه قال الشاعر: تطلّقه طوراً وطوراً تراجع ... {تَسْرِيحٌ} : التسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض، وسرّح الماشية: أرسلها لترعى السرح وهو شجر له ثمر، ثم جعل لكل إرسالٍ في الرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 قال الراغب: «والتسريح في الطلاق مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق في كونه مستعاراً من إطلاق الإبل» . {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : أي قاربن إنهاء العدة، لأنه بعد انقضاء العدة لا سلطان للرجل عليها، والعرب تقول: بلغ البلد إذا شارف الوصول إليها. قال الشوكاني: «البلوغ إلى الشيء: معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلاّ مجازاً لعلاقة مع القرينة كما هنا، لأن المرأة إذا خرجت من العدة لم يبق للزوج عليها سبيل» . {ضِرَاراً} : أي بقصد الإضرار، قال القفال: الضّرار هو المضارّة قال تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} [التوبة: 107] أي ليضارّوا المؤمنين ومعنى المضارة الرجوع إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة. {تَعْضُلُوهُنَّ} : العضل: المنع والتضييق، يقال: أعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، وداء عُضال أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وكل مشكلٍ عند العرب فهو معضل، ومنه قول الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا المعضلاتُ تصدَّيْنني ... كشفت حقائقها بالنظر قال الأزهري: «أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج» . والمعنى: فلا تمنعوهن من الزواج بمن أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 {أزكى لَكُمْ} : أي أنمى وأنفع يقال: زكا الزرع إذا نما بكثرة وبركة. {وَأَطْهَرُ} : من الطهارة وهي التنزه عن الدنس وعن الذنوب والمعاصي. المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه: الأزواج المطلقات اللواتي طلقهن أزواجهن لسبب من الأسباب على هؤلاء انتظار مدة من الزمن هي مدة (ثلاثة أطهار) أو (ثلاث حيَض) لمعرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب، وأزواجهن أحق بهنّ في الرجعة من الأجانب إذا لم تنقض عدتهن، وكان الغرض من هذه الرجعة (الإصلاح) لا (الإضرار) ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أمر الله عَزَّ وَجَلَّ، وللرجال عليهن درجة القوامة، والإنفاق والإمرة والطاعة. ثم بين تعالى أن الطلاق الذي تجوز به الرجعة مرتان، فإن طلقها الثالثة فلا تحل له حتى تتزوج بعده بزوج آخر، أما إذا لم يكن الطلاق ثلاثاً فله أن يراجعها إلى عصمة نكاحة، فإما أن يمسكها بالمعروف فيحسن معاشرتها وصحبتها وإمّا أن يطلق سراحها للتزوج بمن تشاء بعلّها تسعد بالزواج الثاني {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] . ولا يحل الله لكم أيها الرجال أن تأخذوا ممّا دفعتم إليهن من المهور شيئاً، لأنكم قد استمتعتم بهن إلا إذا خفتم سوء العشرة بين الزوجين، وأرادت الزوجة أن تختلع بالنزول عن مهرها أو بدفع شيء من المال لزوجها حتى يطلّقها فليس هناك جناح من أخذ الفداء. ثم بيّن تعالى أنه إذا طلّقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين، فلا تحلّ له إلاّ بالزواج بزوج آخر، بعد أن يذوق عُسيلتها وتذوق عُسيلته، فإن طلقها الزوج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الثاني فلا بأس أن تعود إلى زوجها الأول إن كان ثمة دلائل تدل على الوفاق والتلاق. ثم أمر تعالى الرجال بالإحسان في معاملة الأزواج وعدم الإضرار بهن، كما أمر الأولياء بألاّ يمنعوا المرأة من العودة إلى زوجها إذا رغبت في العودة، لا سيما إذا صلحت الأحوال وظهرت أمارات الندم على الزوجين في استئناف الحياة الفاضلة، والعيشة الكريمة. سبب النزول أولاً: روي أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكان يطلّق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل راجعها، فعمد رجلٌ لامرأته على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لها: لا آويك ولا أدعك تحلّين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضيُّ عدتك راجعتك، فشكت ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} الآية. ثانياً: وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: كان الرجل يطلّق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها، يفعل بها ذلك يضارّها ويعضلها فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء ... } الآية. ثالثاً: وأخرج البخاري والترمذي عن (مَعْقل بن يسار) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه زوّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكانت عنده ما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخُطَّاب فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوّجتك فلطّقتها! والله لا ترجع إليك أبداً قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ... } الآية فلما سمعها (معقل) قال: سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوّجك وأكرمك. وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {ثَلاَثَةَ قرواء} بالهمزة وقرأ نافع (ثلاثة قرُوّ) بكسر الواو وشدها من غير همز، وقرأ الحسن (قَرء) بفتح القاف وسكون الراء. 2 - قرأ الجمهور {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وقرأ حمزة (إلا أن يُخافا) بضم الياء مبنياً للمجهول، وقرئ يظنّا. 3 - قرأ الجمهور {وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا} بالياء أي يبينها الله، وقرأ عاصم (نبينها) بالنون وهي نون التعظيم. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} المطلقات مبتدأ والجملة الفعلية خبر، و {ثَلاَثَةَ قرواء} منصوب على الظرفية، والمفعول به محذوف أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 يتربصن الزوج. 2 - قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ} أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ل (يحل) والتقدير: لا يحل لهن كتمان، و (ما) اسم موصول بمعنى الذي مفعول ل (يكتمن) . 3 - قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} للرجال خبر مقدم و (درجة) مبتدأ مؤخر، وجاز الابتداء بالنكرة لتقدم الجار والمجرور عليها. 4 - قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} ضراراً مفعول لأجله أي من أجل الضرار، وجوّز بعضهم أن يكون منصوباً على الحال أي (مضارين) و (لتعتدوا) متعلق ب (ضراراً) . لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} خبرٌ والمراد منه الأمر أي (ليتربّصْن) وفائدته التنبيه إلى أنه ممّا ينبغي أن يتلّقى بالقبول والمسارعة إلى الإتيان به. قال صاحب «الكشاف» : «التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر، إشعاراً بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر فهو يخبر عنه موجوداً، ونظيره قولهم في الدعاء: رحمك الله، أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة، كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها» . اللطيفة الثانية: قيّد الله التربص في هذه الآية بذكر الأنفس بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بِأَنْفُسِهِنَّ} ولم يذكره في الآية السابقة {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فما هي الحكمة؟ والجواب؟ أنّ في ذكر الأنفس هنا تهييجاً لهنّ على التربص وزيادة بعث لهنّ على قمع نفوسهن عن هواها وحملها على الانتظار، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد الله تعالى أن يقمعن أنفسهن، ويغالبن الهوى بامتثال أمر الله لهن بالتربص، والمخاطب في الآية السابقة الرجال فلم يوجد ذلك الداعي إلى التقييد فتدبر ذلك السرّ الدقيق. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} شرطٌ جوابه محذوف دلّ عليه ما سبق، وليس الغرض منه التقييد بالإيمان حتى يخرج الكتابيات بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن، وهذه طريقة متعارفة في الخطاب، تقول: إن كنت مؤمناً فلا تؤذ أباك، وإن كنت مسلماً فلا تغشّ الناس، فهذه هي النكتة في التعبير. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... } الآية أي أحق برجعتهن. قال الإمام الفخر: الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لمّا كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وهذا التدريج والترتيب يدل كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 إيجاز وإبداع، لا يخفى على المتمكن من علوم البيان، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل: لهنّ على الرجال من الحقوق، مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق والواجبات، وفيه من علم البديع ما يسمى ب (الطباق) بين لفظَيْ (لهنّ) و (عليهن) وهو طباق بين حرفين، وقد وضّح عليه السلام بعض هذه الحقوق في (حجة الوداع) بقوله: «ألا إنّ لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فحقكم عليهن ألاّ يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهن وطعامهن» . وعن ابن عباس أنه قال: «إني لأحبّ أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي، لأن الله تعالى يقولك {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} » . اللطيفة السادسة: الدرجة التي أشارت إليها الآية الكريمة {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله} ليست درجة (تشريف) وإنما هي درجة (تكليف) وقد بينتها الآية الثانية في سورة النساء وهي القوامة والمسؤولية والإنفاق {الرجال قوامون عَلَى النسآء} [النساء: 34] الآية والله تعالى قد وضع ميزاناً دقيقاً للتفاضل هو التقوى والعمل الصالح {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فقد تكون المرأة أفضل عند الله من ألف رجل، وهذا هو المبدأ العادل الكريم. اللطيفة السابعة: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أول خلع كان في الإسلام في «امرأة ثابت بن قيس أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت يا رسول الله: لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً، والله ما أعيب عليه في خلُق ولا دين، ولكن أكره الكفر بعد الإسلام، ما أطيقه بغضاً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سواداً، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجهاً، فقال زوجها يا رسول الله: أعطيتها أفضل ما لي (حديقة) لي، فإن ردّت عليّ حديقتي طلقتها، فقال لها عليه السلام ما تقولين؟ قالت: نعم، وإن شاء زدته، قال ففرق بينهما» . اللطيفة الثامنة: قال العلامة أبو السعود: وضع الاسم الجليل في المواقع الثلاثة {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} {تِلْكَ حُدُودُ الله} {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة في النفوس، وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي عدة المطلقة، والحامل، والتي لا تحيض؟ أوجب الله تعالى العدة على المطلقة {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} والمراد بالمطلّقات هنا (المدخول بهن) البالغات من غير الحوامل، أو اليائسات، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وعدة الحامل وضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . والمرأة التي لا تحيض وكذا اليائسة عدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فتبيّن من هذا أن الآية قد دخلها التخصيص، وأنّ العدة المذكورة في الآية الكريمة هي للمطلّقة المدخول بها إذا لم تكن صغيرة أو يائسة أو حاملاً. الحكم الثاني: ما المراد بالأقراء في الآية الكريمة؟ تقدّم معناه أن (القرء) في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر، وقد اختلف الفقهاء في تعيين المراد به هنا في الآية الكريمة على قولين: أ - فذهب مالك والشافعي: إلى أن المراد بالأقراء: الأطهار، وهو مروي عن (ابن عمر) و (عائشة) و (زيد بن ثابت) ، وهو أحد القولين عند الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ. ب - وذهب أبو حنيفة وأحمد (في الرواية الأخرى عنه) إلى أن المراد بالأقراء: الحيض، وهو مروي عن (عمر) و (ابن مسعود) و (أبي موسى) و (أبي الدرداء) وغيرهم. حجة مالك والشافعي: احتج الفريق الأول لترجيح مذهبهم بحجج نذكرها بإيجاز: الحجة الأولى: إثبات التاء في العدد (ثلاثة قروء) وهو يدل على أن المعدود مذكر وأن المراد به الطهر، ولو كان المراد به الحيضة لجاء اللفظ (ثلاث قروء) لأن الحيضة مؤنث والعدد يذكر مع المؤنث، ويؤنث مع المذكر كما هو معلوم. الحجة الثانية: ما روي عن عائشة أنها قالت: «هل تدرون الأقراء؟ الأقراء: الأطهار» . قال الشافعي: والنساء بهذا أعلم. لأن هذا إنما يُبتلى به النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الحجة الثالثة: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] قالوا: ومعناه: فطلقوهن في وقت عدتهن، ولما كان الطلاق وقت الحيض محظوراً، دلّ على أن المراد به وقت الطهر، فيكون المراد من القروء الأطهار. حجة أبي حنيفة وأحمد: واحتج الفريق الثاني على ترجيح مذهبهم بما يأتي: أولاً: إن العدة شرعت لمعرفة براءة الرحم، والذي يدل على براءة الرحم إنما هو الحيض لا الطهر. قال الإمام أحمد: قد كنت أقول: القروء: الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض. ثانياً: واستدلوا بقوله عليه السلام لفاطمة بنت حُبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» والمراد أيام حيضك، لأن الصلاة تحرم في الحيض. ثالثاً: قوله عليه السلام: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» فأمر بالاستبراء بالحيضة، وقد أجمع العلماء على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيض، فكذا العدة ينبغي أن تكون بالحيض، لأن الغرض واحد وهو براءة الرحم. رابعاً: أقام الله تعالى الأشهر مقام الحيض في العدة في قوله: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فدلّ على أن العدة تعتبر بالحيض لا بالطهر. وهذا من أقوى أدلة الأحناف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 خامساً: إذا اعتبرنا العدة بالحيض فيمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها، لأن المطلّقة إنما تخرج من العدة بزوال الحيضة الثالثة، بخلاف ما إذا اعتبرناها بالأطهار فإنه إذا طلقها في آخر الطهر يكون قد مر عليها طهران وبعض الثالث، فيكون ما ذهبنا إليه أقوى. الترجيح: ولعلّ ما ذهب إليه الفريق الثاني يكون أرجح، فإن الأحاديث الصحيحة تؤيده، والغرض من العدة في الأظهر معرفة براءة الرحم، وهو يعرف بالحيض لا بالطهر. وقد رجّح العلامة «ابن القيم» في كتابه «زاد المعاد» هذا القول ونصره وأيده فقال: «إن لفظ (القرء) لم يستعمل في كلام الشارع إلاّ للحيض، ولم يجيء عنه في موضع واحد استعماله للطهر، فحملُه في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى، بل يتعين، فإنه عليه السلام قد قال للمستحاضة:» دعي الصلاة أيام أقرائك «وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المعبّر عن الله، وبلغه قومه نزل القرآن، فإذا أورد المشترك في كلامه على أد معنييه، وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم يثبت إرادة الآخر في شيء من كلامه البتة، ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها، وإن كان له معنى آخر في كلام غيره، وإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم أن هذا لغته فيتعين حمله عليها في كلامه، ويدل على ذلك ما في سياق الآية من قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} وهذا هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين، وأيضاً فقد قال سبحانه: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض ... } [الطلاق: 4] الآية فجعل كل شهر بإزاء حيضة وعلّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر، وقال في موضع آخر {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] معناه لاستقبال عدتهن لا فيها، وإذا كانت العدة التي يطلق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الطاهر لا تستقبل الطهر، إذ هي فيه وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها «. الحكم الثالث: ما معنى قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} ؟ اختلف المفسرون في المراد من هذه الآية على أقوال: فقال بعضهم: المراد بما خلق الله في أرحامهن: (الحمل) وهو قول عمر، وابن عباس، ومجاهد. وقال بعضهم: المراد به (الحيض) وهو قول عكرمة، والنخعي، والزهري. وقال آخرون: المراد به (الحمل والحيض) معاً، وهذا قول ابن عمر، واختاره ابن العربي. قال ابن العربي:» والثالث هو الصحيح لأن الله تعالى جعلها أمينة على رحمها فقولها فيه مقبول إذ لا سبيل إلى علمه إلاّ بخبرها، ولا خلاف بين الأمة أن العمل على قولها في دعوى الشغل للرحم أو البراءة ما لم يظهر كذبها «. أقول: إنما حرم الله كتمان ما في أرحامهن لأنه يتعلق بذلك حق الرجعة للرجل، وعدم اختلاط الأنساب، فربما ادعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرحم بالحمل من زوجها ثم تزوجت فأدى ذلك إلى اختلاط الأنساب، وربما حَرَمَت الرجل من حقه في الرجعة فلذلك حرّم الله كتمان ما في الأرحام. الحكم الرابع: هل الآية عامة في كل مطلّقة؟ الآية الكريمة {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} عامة في المبتوتة، والرجعية، وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} خاص في الرجعية دون المبتوتة، لأن المبتوتة قد ملكت نفسها. قال ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ:» وهذا في الرجعيات، فأما المطلَّقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية (مطلقة بائن) وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعه امرأته وإن طلّقها مائة مرة، فلما قصوا على ثلاثة تطليقات، صار للناس مطلّقة بائن ومطلقة غير بائن «. الحكم الخامس: ما هو حكم الطلاق الرجعي؟ الطلاق الرجعي يبيح للرجل حق الرجعة بدون عقد جديد، وبدون مهر جديد، وبدون رضا الزوجة ما دامت المرأة في العدة، فإذا انقضت العدة ولم يراجعها بانت منه، وقد أثبت الشارع له حق الرجعة بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي أحق بإرجاعهن في وقت التربص بالعدة، وإذا كانت الرجعية حقاً للرجل فلا يشترط رضا الزوجة ولا عملها، ولا تحتاج إلى ولي، كما لا يشترط الإشهاد عليها وإن كان ذلك مستحباً خشية إنكار الزوجة فيه بعد أنه راجعها. وتصح المراجعة بالقول مثل قوله: راجعتُ زوجتي إلى عصمة نكاحي، وبالفعل مثل التقبيل، والمباشرة بشهوة، والجماع عند أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي: لا رجعة إلا بالقول الصريح ولا تصح بالوطء ودواعيه، لأن الطلاق يزيل النكاح. قال الشوكاني: «والظاهر ما ذهب إليه الأولون، لأن العدة مدة خيار، والاختيار يصح بالقول وبالفعل، وظاهر قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مُره فليراجعها «أنها تجوز المراجعة بالفعل لأنه لم يخص قولاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 من فعل، ومن ادّعى الاختصاص فعليه الدليل» . الحكم السادس: هل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً أم واحدة؟ دل قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} على أن الطلاق ينبغي أن يكون مفرقاً مرة بعد مرة وقد اختلف العلماء في الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ هل يقع ثلاثاً أو واحدة؟ فذهب جمهور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة إلى أنه يقع ثلاثاً، إمّا مع الحرمة، وإما مع الكراهة على حسب اختلافهم في فهم الآية الكريمة. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، وهو قول طاووس ومذهب الإمامية وقول (ابن تيمية) وبه أخذ بعض المتأخرين من الفقهاء دفعاً للحرج عن الناس، وتقليلاً لحوادث الطلاق، وفراراً من مفاسد التحليل. دليل الجمهور: استدل الجمهور على وقوع الطلاق الثلاث بما يلي: أولاً: إن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل للطلاق حداً وأرشد الرجل إلى أن يطلق مرة بعد مرة، وجعل له فسحة في الأمر حتى لا يضيع حقه في الرجعة، فإذا تعدى الإنسان هذه الرخصة وطلّق ثلاثاً وقع طلاقه لأن له عليها طلقتين وبالثالثة تبين منه، فإما أن يجمعها أو يفرقها. والإسلام قد أرشده إلى ما هو الأفضل والأصلح، فإذا جاوز هذا إلى ما فيه تضييق عليه أخذ بجزيرة نفسه. ثانياً: ما روي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له: إنه طلّق امرأته ثلاثاً، قال مجاهد: فسكت ابن عباس حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: يطلّق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس وإن الله تعالى يقول: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً عصيت ربك، وبانت منك امرأتك «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ثالثاً: واستدلوا بإجماع الصحابة حين قضى به عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فأقروه عليه، ولم ينكر أحد من الصحابة وقوع الثلاث بلفظ واحد على عمر بن الخطاب فدل ذلك على الإجماع. وقد ذهب البخاري إلى وقوع الثلاث وترجم على هذه الآية بقوله (باب من أجاز الطلاق الثلاث) بقوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} . وهذا إشارة منه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى أنّ هذا التعديد إنما هو فسحة لهم، فمن ضيّق على نفسه لزمه. حجة الفريق الثاني: واستدل القائلون بوقوع الطلاق الثلاث واحدة بما رواه أحمد ومسلم من حديث طاووس عن ابن عباس أنه قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم» . وقالوا: إن الله قد فرّق الطلاق بقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} أي مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لا يملك المكلف إيقاعه دفعة واحدة، مثل (اللعان) لا بدّ ن التفريق فيه، ولو قال: أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كان مرة واحدة، ولو قال المقر بالزنى: أنا أقر أربع مرات أني زنيت كان مرة واحدة، وقالوا: إن الشارع طلب أن يسبح العبد ربه ويحمده، ويكبّره دبر كل صلاة (ثلاثاً وثلاثين) ولا يكفيه أن يقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، ولا بدّ من التفريق حتى يكون قد أتى بالأمر المشروع. وقد أطال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه «أعلام الموقعين» القول في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 المسألة وانتصر لرأي ابن تيمية، وفعل مثله (الشوكاني) في كتابه «نيل الأوطار» وله رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور. أقول: كلُّ ما استدل به الفريق الثاني لا يقوى على ردّ أدلة الجمهور وعلى إجماع الصحابة، وكفى بهذا الإجماع حجة وبرهاناً وهذا ما ندين الله عَزَّ وَجَلَّ به. ونعتقد أنه الصواب، لأن مخالفة إجماع الصحابة وإجماع الفقهاء ليس بالأمر اليسير. ويحسن بنا أن ننقل ما كتبه العلامة القرطبي في تفسير «الجامع لأحكام القرآن» حيث قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وشذّ طاوس وبعض أهل الظاهر فقالوا: إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويحكى عن داود أنه لا يقع، وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثاً، ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات، واستدل من قال بوقوعه واحدة بأحاديث ثلاثة: أحدهما: حديث ابن عباس من رواية طاوس، وأبي الصهباء، وعكرمة. وثانيها: حديث ابن عمر على رواية من روى أنه طلق امرأته ثلاثاً، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمره برجعتها واحتسبت واحدة. وثالثها: أنّ ركانة طلّق امرأته ثلاثاً فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ برجعتها، والرجعة تقتضي وقوع واحدة. والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي عن (سعيد بن جبير) و (مجاهد) و (عطاء) في روايتهم عن ابن عباس فيمن طلّق امرأته ثلاثاً أنه قد عصى ربه، وبانت منه امرأته، ولا ينكحها إلا بعد زوج، وفيما رواه هؤلاء عن ابن عباس مما يوافق الجماعة، ما يدل على وهْن رواية طاوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وغيره، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه. قال ابن عبد البر: «رواية طاوس وهمٌ وغلط، لم يعرّج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق، والمشرق والمغرب» . قال الباجي: فإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه. وأما حديث ابن عمر أنه طلّق ثلاثاً وهي حائض ... إلخ فقد ردّه الدارقطني وقال: رواته كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدة في الحيض. وأما حديث (رُكانة) فقيل: إنه حديث مضطرب منقطع لا يستند من وجه يحتج به، وهو عن عكرمة عن ابن عباس وفيه «إن رُكانة طلّق امرأته ثلاثاً فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ارجعها» . والثابت أن ركانه طلّق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلاّ واحدة فردّها إليه. فهذا اضطراب في الاسم والفعل ولا يحتج بشيء من مثل هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والخلاصة فإن رأي الجمهور يبقى أقوى دليلاً، وأمكن حجة، لا سيما وقد تعزّز بإجماع الصحابة والأئمة المجتهدين والله أعلم. الحكم السابع: ما المراد من قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} . اختلف المفسرون في معنى قول الله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} على أقوال عديدة نذكرها بالإجمال. أ - المراد: الطلاق المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، والآية مستقلة عمّا قبلها، وهذا قول الحجّاج بن أرطأة ومذهب الرافضة. ب - المراد: الطلاق المسنون مرتان وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ. ج - المراد: الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، وهذا قول قتادة وعروة واختيار الجمهور. قال الشوكاني في تفسيره «فتح القدير» : المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم من الآية الأولى، أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان، أي الطلقة الأولى والثانية، إذ لا رجعة بعد الثالثة، وإنما قال سبحانه (مرتان) ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة «. الحكم الثامن: هل يبلاح للزوج أخذ المال مقابل الطلاق؟ أمر الله عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان، ونهى الزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطى المرأة من المهر إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} والمراد عدم إقامة حدود الله التي شرعها للزوجين، من حسن المعاشرة والطاعة والقيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 بحق كلٍ من الزوجين نحو الآخر، فإن ظهرت بوادر الشقاق والخلاف، واستحكمت أسباب الكراهية والنفرة جاز للمرأة أن تفتدي، وجاز للرجل أن يأخذ المال، وطلاقُ المرأة على هذا الوجه هو المعروف ب (الخُلع) وقد عرّفه الفقهاء بأنه» فراقُ الرجل زوجته على بدلٍ يأخذه منها «. وفي أخذ الزوج الفدية عدلٌ وإنصاف، فإنه هو الذي أعطاها المهر، وبذل تكاليف الزواج والزفاف، وأنفق عليها، وهي التي قابلت هذا كله بالجحود وطلبت الفراق فكان من الإنصاف أن تردّ عليه ما أخذت منه. والأصل في هذا ما رواه البخاري من قصة امرأة ثابت بن قيس وقد تقدم، وفيه قال لها عليه السلام: «أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة» . وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز أن يأخذ الزوج من الزوجة زيادة على ما أعطاها لقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} وهذا عام يتناول القليل والكثير. وقال الشعبي والزهري والحسن البصري: لا يحل للزوج أن يأخذ زيادة على ما أعطاها، لأنه من باب أخذ المال بدون حق، وحجتهم أن الآية في صدد الأخذ مما أعطى الرجال والنساء فلا تجوز الزيادة، والراجح أن الزيادة تجوز ولكنها مكروهة. وقد اختلف الفقهاء هل الخلع فسخ أو طلاق؟ فذهب الجمهور إلى أنه طلاق، وقال الشافعي في القديم إنه فسخ، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا خلعها هل تحسب عليه طلقة أم لا؟ والأدلة على هذه المسألة تطلب من كتب الفروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الحكم التاسع: ما هو حكم المطلقة ثلاثاً، وكيف تحل للزوج الأول؟ دل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} على أن المطلقة ثلاثاً تحرم على زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر، وهي التي يسميها الفقهاء (بائنة بينونه كبرى) وذلك لأن الله تعالى ذكر الطلاق وبيّن أنه مرتان، ثم ذكر حكم الخلع وأعقبه بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فدلّ على أن المراد به الطلاق الثالث. قال القرطبي: «المراد بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه» . وذهب جمهور العلماء والأئمة المجتهدون إلى أن المراد بالنكاح في قوله تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} الوطء لا العقد، فلا تحل للزوج الأول حتى يطأها الزوج الثاني. وروي عن (سعيد بن المسيب) أنه قال: إن المطلقة ثلاثاً تحل للأول بالعقد على الثاني، وهو ضعيف لمصادمته للحديث الآتي الصحيح. واحتج الجمهور بما رواه ابن جرير عن عائشة قالت: «جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: كنت عند رفاعة فلطقني فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزّبير، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب فقال لها:» تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك «» رواه أصحاب السنن. والمراد بالعُسيلة: الجماع، شبّه اللذة فيه بالعسل. فقد وضّحتْ السنة المطهّرة أنّ المراد من فظ النكاح في الآية الكريمة هو (الجماع) لا العقد، وقال بعض العلماء إن الآية نفسها فيها دلالة على ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فقد قال ابن جني: سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة، فقال فرّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح فلانٌ فلانةً أرادوا أنه عقد عليها، وإذا قالوا: نكح زوجته أرادوا به المجامعة، وهنا قال تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فالمراد منه المجامعة. الحكم العاشر: نكاح المحلّل وهل هو صحيح أم باطل؟ المحلِّل: بكسر اللام هو الذي يتزوج المطلّقة ثلاثاً بقصد أن يحلّها للزوج الأول، وقد سمّاه عليه السلام بالتيس المستعار ففي الحديث الشريف «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلَّل له» . وقد اختلف العلماء في نكاح المحلّل فذهب الجمهور (مالك وأحمد والشافعي والثوري) إلى أن النكاح باطل، ولا تحل للزوج الأول. وقال الحنفية وبعض فقهاء الشافعية: هو مكروه وليس بباطل، لأن في تسميته بالمحلّل ما يدل على الصحة لأنها سبب الحل، وروي عن الأوزاعي أنه قال: بئس ما صنع والنكاحُ جائز. حجة الجمهور: استدل الجمهور على فساد نكاح المحلّل بما يلي: أولاً - حديث «لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المحلّل والمحلّل له» . ثانياً - حديث «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلّل ... » الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ثالثاً - حديث ابن عباس «سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن نكاح المحلّل فقال: (لا» أي لا يحل «إلاّ نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عُسيلتها) » . رابعاً - ما روي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «لا أوتي بمحلّل ولا بمحلّل له إلاّ رجمتهما» . خامساً - ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلّها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال: لا، إلاّ نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «. الترجيح: والحق ما ذهب إليه الجمهور لأن النكاح يقصد منه الدوام والاستمرار، والتأقيت يبطله فإذا تزوجها بقصد التحليل، أو اشترط الزوج عيه أن يطلّقها بعد الدخول فقد فسد النكاح لأنه يشبه (نكاح المتعة) حينئذٍ، وهو باطل باتفاق العلماء. قال العلامة ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ: «والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً، لو وطئها وهي محرمة، أو صائمة، أو معتكفة، لم تحلّ للأول بهذا الوطء، واشترط الحسن البصري الإنزال وكأنه فهمه من قوله عليه السلام» حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك «. ثم قال: فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو (المحلّل) الذي وردت الأحاديث بذمة ولعنه، ومتى صرّح بمقصود، في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة ... ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك في» تفسيره «وقد أشرنا إلى بعضها فيما ذكرناه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 «كلام السيد رشيد رضا في» المنار «» وقال في «تفسير المنار» : «ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثاً هو ما كان زوجاً صحيحاً عن رغبة، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته، فمن تزوجها بقصد الإحلال كان زواجه (صورياً) غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها، فإن عادت إليه كانت حراماً، ومثال ذلك من طهّر الدم بالبول، وهو رجسٌ على رجس، ونكاحُ التحليل شرٌّ من نكاح المتعة وأشد فساداً وعاراً ... ثم نقل ما أورده ابن حجر المكي في كتابه» الزواجر «من الأخبار والآثار الدالة على التحريم ثم قال: وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار، الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبة سواهم، وقد رأيت في لبنان رجلاً نصرانياً ولع بشراء الكتب الإسلامية، فاهتدى إلى حقيقة الإسلام مع الميل إلى التصوف فأسلم، وقال لي: لم أجد في الإسلام غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله، أقبحُها مسألة (التجحيش) أي التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع» . أقول: إنَّ في التحليل مفاسد كثيرة نبّه عليها العلماء، وقد عقد العلامة (ابن القيم) في كتابة «أعلام الموقعين» فصولاً في بيانها، وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنها أجازته، وقد علمت الرأي الصحيح في الموضوع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن الصحابة والتابعين فالصواب ألا ينسب إليها حله والله المستعان. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - وجوب العدة على المطلقة رجعية كانت أو بائنة للتعرف على براءة الرحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 2 - حرمة كتمان ما في الرحم من الحمل، ووجوب الأمانة في الإخبار عن موضوع العدة. 3 - الزوج أحق بزوجته المطلّقة رجعياً ما دامت العدة لم تنته بعد. 4 - الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الزوجية سواء، وله عليها درجة القوامة والإشراف. 5 - الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان فقط وفي الثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجاً آخر نكاحاً شرعياً صحيحاً بقصد الدوام والاستمرار. 6 - جواز الخلع والافتداء إذا كان ثمة مصلحة شرعية توجب الفراق. 7 - حرمة الإضرار بالزوجة لتفتدي نفسها من زوجها بالمال على الطلاق. 8 - لا بأس بعودة المطلّقة إلى زوجها الأول إذا طلّقها الزوج الثاني بعد المساس. خاتمة البحث: حكمة التشريع أباح الإسلام الطلاق، واعتبره أبغض الحلال إلى الله، وذلك لضرورة قاهرة، وفي ظروف استثنائية ملحّة، تجعله دواءً وعلاجاً للتخلص من شقاء محتّم، قد لا يقتصر على الزوجين بل يمتد إلى الأسرة كلها فيقلب حياتها إلى جحيم لا يطاق. والإسلام يرى أن الطلاق هدم للأسرة، وتصديع لبنيانها، وتمزيق لشمل أفرادها، وضرره يتعدى إلى الأولاد، فإن الأولاد حينما الحديث: 7 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 يكونون في حضن أمهاتهم يكونون موضعاً للرعاية وحسن التربية، وإذا حرموا عطف الأم وحنانها تعرضوا إلى التمزيق والتشتت، ومع هذا فقد أجازه الإسلام، لدفع ضررٍ أكبر، وتحصيل مصلحة أكثر، وهي التفريق بين متباغضين من الخير أن يفترقا، لأن الشقاق والنزاع قد استحكم بينهما، والحياةُ الزوجية ينبغي أن يكون أساسها الحب، والوفاء، والهدوء، والاستقرار، لا التناحر، والخصام، والبغضاء. فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه، ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف (فاحشة الزنى) فهل يتركها تفسد عليه نسبه، وتكدّر عليه حياته أم يطلّقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة. وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين - كما دلت على ذلك السنة المطهرة - فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الرويّة وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألاّ يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات. يقول الأستاذ الفاضل (أحمد محمد جمال) في كتابه «محاضرات في الثقافة الإسلامية» ما نصه: «ومما ينبغي ملاحظته هنا في حديثنا الموجز عن الطلاق في الإسلام، أن الشريعة الإسلامية انفردت بنظام (المراجعة) في الطلاق دون الشرائع الأخرى، حرصاً على إعادة الرباط الزوجي بين الزوجين، وحفاظاً على الذرية من الضياع والتشرد، واستصلاحاً لما فسد بين الزوجين من مودة وسكن، ويعتبر الطلاق الرجعي في الإسلام - وهو المرة الأولى والثانية - فترة اختبار للزوجين، وفرصة تأمل ومراجعة للأخطاء والزلات والندم والتوبة، ثم العودة إلى بيت الزوجية وما يظلله من مودة ورحمة وسكن وذرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن الإسلام جاء ليصحّح وضعاً خاطئاً، ويحفظ للمرأة كرامة كانت مضيعة على عهد الجاهلية الأولى، إذ كان العرب يطلّقون دون حصر أو عدد، فكان الرجل يطلق ما شاء ثم يراجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها إضراراً لها، حيث تظل معلّقة بين طلاق ورجعة في نهاية العدة، ثم طلاق في بداية الرجعة وهكذا، فنزل القرآن الكريم يضع لهذه الفوضى حداً، ولهذا الظلم النازل بالنساء قيداً {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 [17] أحكام الرضاع التحليل اللفظي {والوالدات} : جمع والدة بالتاء، والوالد: الأب، والوالدة: الأم، وهما الوالدان كذا في «اللسان» ، قال في «البحر» : وكان القياس أن يقال: والد، لكن قد أطلق على الأب والد فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد فأطلق عليهما والدان. {حَوْلَيْنِ} : أي سنتين من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلبٌ من الوقت الأول إلى الثاني. قال الراغب: والحول السنة اعتباراً بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها. {المولود لَهُ} : أي الأب، لأن الأولاد ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات قال الشاعر: فإنّما أمهاتُ الناسِ أوعيةٌ ... مستودَعاتٌ وللآباء أبناء {فِصَالاً} : فطاماً عن الرضاع، والفِصَال والفَصْلُ: الفطام، وإنما سمي الفطام بالفصال، لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات. قال المبرّد: يقال: فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً، والفصالُ أحسن، لأنه إذا انفصل عن أمه فقد انفصلت منه فبينهما فصال نحو القتال، والضراب ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه. {وَتَشَاوُرٍ} : التشاور في اللغة: استخراج الرأي ومثله المشاورة والمشورة مأخوذ من الشور وهو استخراج العسل. قال الراغب: والتشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شِرتُ العسل إذا استخرجته من موضعه. {تسترضعوا} : أي تطلبوا الرضاع لأولادكم يقال: استرضع أي طلب الرضاع، مثل: استفتح طلب الفتح، واستنصر طلب النصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 والمعنى: إذا أردتم أيها الآباء أن تسترضعوا المراضع لأولادكم أي تطلبوا لهم من يرضعهم فلا إثم عليكم ولا حرج. {بالمعروف} : أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً الذي أمركم به الدين. {بَصِيرٌ} : أي مطلع على عمالكم، لا تخفى عليه خافية والمراد أنه مجازيكم عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. المعنى الإجمالي أمر الله تعالى الوالدات (المطلّقات) بإرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة، وأنّ على الولد كفاية المرضع التي تقوم بإرضاع ولده، والإنفاق عليها لتقوم بخدمته حق القيام، وتحفظه من عاديات الأيام، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف والقدرة والطاقة لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. ثم حذّر تعالى كلاً من الوالدين أن يضارّ أحدهما الآخر بسبب الولد، فلا يحل للأم أن تمتنع عن إرضاع الولد إضراراً بأبيه، وأن تقول له مثلاً: اطلب له ظئراً غيري، ولا يحل للأب أن ينزع الولد منها مع رغبتها في إرضاعه، ليغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد. ثمّ بيّن تعالى أن الوالدين إذا أرادوا فطام ولدهما بعد التشاور والتراضي قبل تمام الحولين فلا إثم ولا حرج إذا رأيا استغناء الطفل عن لبن أمه بالغذاء، فإن هذا التحديد إنما هو لمصلحة الطفل ودفع الضرر عنه، والوالدان أدرى الناس بمصلحته وأشفقهم عليه وإن أردتم - أيها الآباء - أن تطلبوا مرضعة لولدكم غير الأم بسبب إبائها، أو عجزها أو إرادتها الزواج، فلا إثم عليكم في ذلك، بشرط أن تدفعوا إلى هذه المرضعة ما اتفقتم عليه من الأجر، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 تبخسوها حقها، فإن المرضع إذا لم تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإرضاعه ولا بسائر شؤونه، فأحسنوا معاملتهن ليحسنّ أمور أولادكم، واتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن الله مطلّع عليكم لا تخفى عليه خافية من شؤونكم وأنه مجازيكم عليها يوم الدين {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} وقرأ مجاهد (أن تَتمّ الرضاعةُ) بالتاء وبرفع الرضاعة، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة (الرّضاعة) بكسر الراء. قال الزجاج «الرّضاعة» بفتح الراء وكسرها والفتح أكثر. 2 - قرأ الجمهور {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (لا تضارّ) بالرفع على أن (لا) نافية. 3 - قوله تعالى: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} قرأ الجمهور {آتَيْتُم} بالمد، وقرأ ابن كثير {أتيتم} بالقصر. وجوه الإعراب أولاً - قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} الجار والمجرور خبر مقدم، و (رزقهن) مبتدأ مؤخر وهو مضاف أي رزق المرضعات و (بالمعروف) متعلق بت (رزقهن) . ثانياً - قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} لا ناهية جازمة و (تضارّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 أصلها (تضارر) سكنت الراء الأخيرة للجزم والراء الأولى للإدغام فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين و (والدة) فاعل والمفعول به محذوف تقديره: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها. ثالثاً - قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} استرضع يتعدى لمفعولين الثاني بحرف الجر والمعنى: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، حذف المفعول الأول لاستغناء عنه. قال الواحدي: «أي أولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلاّ الأولاد، ونيظره قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم» . وجه الارتباط في الآيات السابقة مناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات، أنه تعالى لما ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالنكاح، والطلاق، والعدة، والرجعة، والعضل، ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرضاع، لأن الطلاق يحصل به الفراق، فقد يطلّق الرجل زوجته ويكون لها طفل ترضعه، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقاماً من الزوج وإيذاءً له، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلّقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ورد الأمر بصيغة الخبر للمبالغة أي ليرضعن، والجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ظاهرها الخبر وحقيقتها الأمر كقول: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] والتعبير عنهن بلفظ (الوالدات) دون قوله: والمطلقات أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد، فحصول الطلاق لهن لا ينبغي أن يحرمن عاطفة الأمومة. اللطيفة الثانية: العدول عن قوله: وعلى الوالد إلى قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} فيه لطيفة وهي أن الأولاد يتبعون الأب ويلتحقون بنسبه دون الأم، فالموجب المقتضي للإنفاق على الأمهات والمرضعات كون الأولاد لهم فعليهم تجب النفقة، واللفظ يشعر بالمنحة وشبه التمليك ولهذا أتى به دون لفظ الوالد. قال الزمخشري: «فإن قلت: لم قيل (المولود له) دون الوالد؟ قلت: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات» . اللطيفة الثالثة: قال أبو حيان: وصف الله تعالى الحولين بالكمال (حولين كاملين) دفعاً للمجاز الذي يحتمله ذكر الحولين، إذ يقال: أقمتُ عند فلان حولين وإن لم يستكملهما، وهي صفة توكيد كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أضاف الولد في الآية إلى كل من الأبوين {وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} و {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق، فالولد ليس أجنبياً عن الوالدين، هذه أمه وذاك أبوه، فمن حقهما أن يشفقا عليه، ولا تكون العداوة بينهما سبباً للإضرار بالولد. قال العلامة أبو السعود: «إضافة الولد إلى كلٍ منهما لاستعطافهما إليه، وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه، ولا ينبغي أن يضرا به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 أو يتضارّا بسببه» . اللطيفة الخامسة: في قوله تعالى: {أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب، وتلوين في التعبير لأن الآية قبله {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} جاء بضمير التثنية للغائب، وهنا جاء بضمير الجمع للمخاطب، وفائدة هذا الالتفات هز مشاهر الآباء إلى امتثال أمر الله في الأبناء. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد بالوالدات في الآية الكريمة؟ أ - قال بعضهم: لفظ الوالدات في الآية خاص بالمطلقات، وهو قول مجاهد والضحاك، والسدّي. واستدلوا بأن الآيات السابقة كانت في أحكام المطلقات وهذه وردت عقيبها تتمة لها، وبأن الله أوجب على الوالد رزقهن وكسوتهن، ولو كنّ أزواجاً لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب، لأن النفقة واجبة على الزوج من أجل الزوجة، ثم تعليل الحكم بالنهي على المضارّة بالولد يدل على أن المراد بالوالدات المطلقات، لأنّ التي في عصمة الزوجية لا تضارّ ولدها. ب - وقال بعضهم: إنه خالص بالوالدات الزوجات في حال بقاء النكاح، وهو اختيار الواحدي كما نقله عنه الرازي والقرطبي، ودليلهم أن المطلّقة لا تستحق الكسوة، وإنما تستحق الأجرة فلما قال تعالى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 دلّ على أن المراد بهن الأمهات الزوجات. ج - وقال آخرون: المراد بالوالدات العموم أي جميع الوالدات سواءً كنّ مزوجات أو مطلقات، عملاً بظاهر اللفظ فهو عام ولا دليل على تخصيصه وهو اختيار القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي مع آخرين، ولعل هذا القول هو الأرجح وقد ذهب إليه أبو حيان في «البحر المحيط» . الحكم الثاني: هل يجب على الأم إرضاع ولدها؟ ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على الأم إرضاع ولدها لظاهر قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} فهو أمر في صورة الخبر أي: (ليرضعن أولادهن) . وهذا مذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجيّة فهو حق عليها إذا كانت زوجة، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عُدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلاّ أن تشاء هي إرضاعه فهو أحق، ولها أجرة المثل. وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر هنا للندب، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلاّ إذا تعينّت مرضعاً بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزاص عن استئجار ظئر (مرضعة) ترضعه، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر، واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [الطلاق: 6] ولو كان الإرضاع واجباً لكلفها الشرع به، وإنما ندب لها الإرضاع لأن لين الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الحكم الثالث: ما هي مدة الرضاع الموجب للتحريم؟ ذهب الجمهور الفقهاء (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الرضاع الذي يتعلق به حكم التحريم، ويجري به مجرى النسب بقوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» هو ما كان في الحولين واستدلوا بقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وبما روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين» . وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع المحرّم سنتان ونصف لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً} [الأحقاف: 15] . قال العلامة القرطبي: «والصحيح الأول لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وهذا يدل على أن لا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين، ولقوله عليه السلام:» لا رضاع إلا ما كان في الحولين «وهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له، وقد روي عن عائشة القول به، وبه يقول: (الليث بن سعد) وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير، وروي عنه الرجوع عنه» . الحكم الرابع: كيف تقدر نفقة المرضع؟ دل قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وجوب النفقة للمرضع على الزوج، والنفقة تكون على قدر حال الأب من السعة والضيق لقوله تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} وقد دل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} [الطلاق: 7] وأخذ الفقهاء من آية البقرة {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وجوب النفقة الولد على الوالد، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد، فتجب نفقته على أبيه ادام صغيراً لم يبلغ سن التكليف. قال الجصاص في تفسيره «أحكام القرآن» : وقد حوت الآية الكريمة الدالة على معنيين: أحدهما: أن الأم أحقّ برضاع ولدها في الحولين، وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه. والثاني: أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان. وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله أوجب هذه النفقة على الأب للأم، وهما جميعاً وارثان، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث، فصار ذلك أصلاً في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره، كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار، والكبار الزمني، يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه «. الحكم الخامس: ما المراد من قوله تعالى: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} ؟ واختلف المفسّرون في المراد من لفظ {الوارث} في الآية الكريمة على أقوال: أ - قال بعضهم: المراد وارث المولود أي وارث الصبي لو مات، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قول عطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقد اختلف أصحاب هذا القول فقال بعضهم وارثه من الرجال خاصة هو الذي تلزمه النفقة، وقال آخرون: وارثه من الرجال أو النساء وهو قول (أحمد) وإسحاق، وقال آخرون: وارثه كل ذي رحم محرم من قرابة المولود، وهو قول (أبي حنيفة) وصاحبيه. ب - وقال بعضهم: المراد بالوارث هو وارث الأب وهو مروي عن الحسن، والسُدّي. ج - وقال بعضهم: المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر وهو قول سفيان الثوري. د - وقال آخرون: المراد بالوارث الصبي نفسه فتجب النفقة عليه في ماله إن كان له مال. وقد رجح الطبري الرأي الأخير واختاره من بين بقية الأقوال والله أعلم بالصواب. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - على الأمهات إرضاع الأبناء، لأن لبن الأم أصلح وشفقتها على ولدها أكمل. 2 - نسب الأولاد للآباء، والآباءُ أحق بالتعهد والحماية والإنفاق. 3 - النفقة على قدر طاقة الوالد عسراً ويسراً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 4 - نفقة الصغير تجب على وارثه عند فقد أبيه لأن الغُرْم بالغنم. 5 - فطام الطفل قبل عامين ينبغي أن يكون بمشورة ورضى الأبوين. خاتمة البحث: حكمة التشريع حث الله تعالى الأمهات على إرضاع الأبناء، وحدّد مدة الرضاع بعامين كاملين، لأن هذه المدة يستغني بها الطفل عن ثدي أمه، ويبدأ بالتغذي بعدها عن طريق تناول الطعام والشراب. . وليس هناك لبن يعادل لبن الأم، فهو أفضل غذاء باتفاق الأطباء فالولد قد تكوّن من دمها في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحوّل الدم إلى لبنٍ يتغذى منه، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه لأنه قد انفصل من الأم، وقد قضت الحكمة الإلهية أن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها، ومعرفة أخلاقها وطبائعها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دماً له ينموا به اللحم، ويُنشز العظم، فيؤثر فيه جسمياً وخلقياً، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية؟! والأم حين ترضع ولدها لا ترضعه اللبن فحسب، بل ترضعه العطف والرحمة والحنان، فينشأ مجبولاً على الرحمة، محباً للخير، وعلى العكس حال أولئك الذين يحرمون عطف وحنان أمهاتهم، يكونون معقّدين، وتفتعل في نفوسهم نوازع القسوة والشر والانتقام، وقد فطن علماء التربية والتهذيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 في الأمم الراقية إلى هذا الأمر، حتى كان نساء القياصرة يرضعن أولادهن بأنفسهن، ولا يرضين تسليمهم إلى المراضع. فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شؤونهم!! حتى الأمهات اللواتي فطرهن الله تعالى على التلذذ بإرضاع أولادهن والغبطة به، قد صار نساء الأغنياء منهن في هذا الزمان يرغبن عنه ترفعاً وطمعاً في السمن وبقاء الجمال وكل هذا مقام لسنة الفطرة، ومفسد لتربية الأولاد، ولسنا نرى ديناً تعرض لمحاسن تربية النشء مثل ما تعرض له الإسلام، فاللهم وفقنا للاهتداء بهديه الكريم إنك سميع مجيب الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 التحليل اللفظي {يُتَوَفَّوْنَ} : أي يموتون ويُقبضون قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وأصل التوفي: أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات فقد استوفى عمره ورزقه. قال أبو السعود: «أي تقبض أرواحهم بالموت، فإن التوفي هو القبض يقال: توفيت مالي أي قبضته» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقال الإمام الفخر: «يقال: توفىّ فلان، وتُفي إذا مات، فمن قال: تُوفّى كان معناه قُبض وأخذ، ومن قال: تَوفّى كان معناه أجله واستوفى عمره» . {وَيَذَرُونَ} : أي يتركون، وهذا الفعل لا يستعمل منه الماضي ولا المصدر، ومثله (يدع) ليس له ماضٍ ولا مصدر، يقال: فلان يَدع كذا ويَذر، ويأتي منهما الأمر يقال: دعْهُ وذرْه قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] . {أَزْوَاجاً} : الأزواج هاهنا: النساء، والعرب تسمي الرجل زوجاً وامرأته زوجاً له، وربما ألحقوا بها الهاء فقالوا: زوجة وهو خلاف الأفصح. {يَتَرَبَّصْنَ} : التربص الانتظار ومنه قوله تعالى: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] وقد تقدم. {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : الأجل: المدة المضروبة للشيء، ويقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان: أجل قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ... } [الأعراف: 34] والمراد هنا: انقضاء العدة. {خَبِيرٌ} : الخبير العالم بالأمور خفيّها وجليّها الذي لا تخفى عليه خافية. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: الذين يموتون من رجالكم، ويتركون أزواجهم بعد الموت، على هؤلاء الزوجات أن ينتظرن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرة أيام، يمكثن في العدة حداداً على أزواجهن، فلا يتعرضن للخُطَّاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ولا يتزينن ولا يتطيّبن، ولا يخرجن من بيوت أزواجهن ما دُمْن في العدة فإذا انقضت عدتهن فلا جناح ولا إثم عليكم أيها الأولياء في تركهنّ أن يتزوجن، ويفعلن ما أباحه لهن الشرع من الزينة والتطيب، والله عليم بأعمالكم. خبير بأفعالكم، لا تخفى عليه خافية فاتقوه وأطيعوه في ما أمركم به، ومنه الحداد على الأزواج. وجوه الإعراب قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} في إعرابه وجهان: أحدهما أن {والذين} مبتدأ، و {يُتَوَفَّوْنَ} مضارع مبني للمجهول، والخبر محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون. والثاني: أن المبتدأ محذوف و (الذين) قام مقامه تقديره: وأزواج الذين يتوفون منكم، ودل على المحذوف قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} والخبر {يَتَرَبَّصْنَ} . قال الطبري: «فإن قال قائل: فأين الخبر عن الذين يتوفون؟ قيل: متروك لأنه لم يقصد الخبر عنهم، وإنما قصد الخبر عن الواجب على المعتدات في وفاة أزواجهن، فصرف الخبر عنهم إلى الخبر عن أزواجهم، وهو نظير قول الشاعر: لعلّي إنْ مالتْ بي الريحُ ميلة ... على ابن أبي زبّان أن يتندما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: الفصيح المستعمل في التعبير عن الموت أن يقال: تُوفي فلان، بالبناء للمفعول، والتعبير باسم الفاعل يعده البعض لحناً، لأنه مقبوضٌ لا قابض، وقد روي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان خلف جنازة، فقال له رجل: من المُتَوفّي؟ فقال:» اللهُ تعالى «وكان هذا من أسباب وضع أحكام النحو. اللطيفة الثانية: الزوج يطلق على الذكر والأنثى، وهو في الأصل العدد المكّون من اثنين، وسمي كل من الرجل والمرأة (زوجاً) لأن حقيقة الزوج مكونة من شيئين اتحدا فصارا شيئاً واحداً، ولهذا وضع لهما لفظ واحد، فهما في الظاهر شيئان، وفي الباطن شيء واحد، ومقتضى الزوجية أن يتحدا حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر. اللطيفة الثالثة: روى ابن جرير الطبري عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أن امرأة توفي عنها زوجها، واشتكت عينها، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تستفتيه في الكحل فقال لها: «لقد كانت إحداكنّ تكون في شر أحلاسها، فتمكث في بيتها في بيتها حولاً إذا توفي زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة، أفلا أربعة أشهر وعشراً؟!» اللطيفة الرابعة: الحكمة في تحديد عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر أيام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 هي أن الغاية الأصلية معرفة براءة الرحم، والجنين يتكون في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقه، ثم أربعين يوماً مضغة، كما دل على ذلك الحديث الصريح الصحيح، فهذه مائة وعشرون يوماً، ثم تنفخ فيه الروح بعد هذه المدة، فزيدت العشر لذلك، وقد سئل أبو العالية: لم ضمت العشر إلى الأربعة أشهر؟ فقال: لأن الروح فيها تنفخ. الحكم الأول: هل الآية ناسخة لآية الاعتداد بالحول؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فقد كانت العدة حولاً كاملاً، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في (التلاوة) على آية الاعتداد بالحول، إلاّ أنها متأخرة في (النزول) فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول بل هو توقيفي فتكون ناسخة، وذهب بعضهم إلى أنه ليس في الآية نسخ، وإنما هو نقصان من الحول كصلاة المسافر لما نقصت من أربع إلى اثنين لم تكن نسخاً وإنما كانت تخفيفاً. قال القرطبي: «وهذا غلطٌ بيّن، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشراً فهذا هو النسخ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء» . الحكم الثاني: ما هي عدة الحامل المتوفي عنها زوجها؟ عدة الحامل المتوفي عنها زوجها (وضع الحمل) لقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فالآية هذه قد خصّصت العموم الوارد في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ... } وهذا قول جمهور العلماء. وروي عن علي وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن الحامل تعتدّ بأبعد الأجلين، بمعنى أنها إذا كانت حاملاً فوضعت الحمل ولم تنته مدة العدة (أربعة أشهر وعشر) تبقى معتدة حتى تنتهي المدة، وإذا انتهت المدة ولم تضع الحمل تنتظر حتى وضع الحمل، فإذا قعدت أبعد الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح. قال القرطبي: وهذا نظرٌ حسن لولا ما يعكر عليه من حديث (سبيعة الأسلمية) وهو في الصحيح. حجة الجمهور: استدل الجمهور على أن عدة الحامل وضع الحمل بالكتاب والسنة: أ - أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، فهذه عامة في المطلّقة والمتوفى عنها زوجها، وقد جعل الله العدة فيها بوضع الحمل. ب - وأما السنة فما روي عن (سُبيعة الأسلمية) أنها كانت تحت (سعد بن خولة) وهو ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنْشبْ (أي تلبث) أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها (أي طهرت من دم النفاس) تجمّلت للخُطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: ما لي أراك متجملة، لعلّك ترجِّينَ النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمرّ عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ، فأتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألته عن ذلك فأفتاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 بأني قد حللْتُ حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي «. قال ابن عبد البر:» وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث (سُبيْعة) لمّا احتُج به عليه، قال: ويصحّح ذلك أن أصحابه أفتوا بحديث سُبيْعة كما هو قول أهل العلم قاطبة «. وقال القرطبي:» فبيّن الحديثُ أن قوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] محمول على عمومه في المطلقات، والمتوفّى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنْفين، ويعتضد هذا بقول ابن مسعود: «من شاء باهلته، إن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة» . الحكم الثالث: ما هو الإحداد، وكم تحد المرأة على زوجها؟ أوجبت الشريعة الغراء أن تحد المرأة على زوجها المتوفى مدة العدة وهي (أربعة أشهر وعشر) ويجوز لها أن تحد على قريبها الميت ثلاثة أيام، ويحرم عليها أن تحد عليه فوق ذلك، لما روي في «الصحيحين» عن زينب بنت أم سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان (أبوها) فدعت أم حبيبة بطيبٍ فيه صفرة خلوق وغيره فدهنت منه جارية ثم مسّت بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً» . معنى الإحداد: والإحداد هو ترك الزينة، والتطيب، والخضاب، والتعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 لأنظار الخاطبين، وهو إنما وجب على الزوجة وفاءٌ للزوج، ومراعاة لحقه العظيم عليها، فإن الرابطة الزوجية أقدس رباط، فلا يصح شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل، وقد كانت المرأة تحد على زوجها حولاً كاملاً تفجعاً وحزناً على زوجها، فنسخ الله ذلك وجعله أربعة أشهر وعشراً. روى البخاري ومسلم «عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله:» إنّ ابنتي تُوفّي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال: لا، مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: لا! ثم قال: إنما هي أربعة أشهر، وقد كانت إحداكنّ في الجاهلية تمكث سنة «قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً، ولبست شر ثيابها، ولم تمسّ طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تؤتى بدابة حمارٍ أو شاة فتفتضّ بها، فقلما تفتضّ بشيء إلا مات. وقد استنبط بعض العلماء وجوب الإحداد من قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} أي من زينةٍ وتطيب، فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو استنباط حسن دقيق، وقال بعضهم: الإحداد يكون بالتربص عن الأزواج والنكاح خاصة وهو ضعيف. قال ابن كثير:» والإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان، ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة، والأمة، والمسلمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 والكافرة لعموم الآية «. الحكم الرابع: لماذا شرعت العدة على المرأة؟ ذكر العلماء لحكمة مشروعية العدة وجوهاً عديدة نجملها فيما يلي: أ - معرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب بعضها ببعض. ب - للتعبد امتثالاً لأمر الله عَزَّ وَجَلَّ حيث أمر بها النساء المؤمنات. ج - إظهار الحزن والتفجع على الزوج بعد الوفاة اعترافاً بالفضل والجميل. د - تهيئة فرصة للزوجين (في الطلاق) لإعادة الحياة الزوجية عن طريق المراجعة. هـ - التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لا يتم إلا بانتظار طويل، ولولا ذلك لأصبح بمنزلة لعب الصبيان، يتم ثم ينفك في الساعة. خاتمة البحث: حكمة التشريع فرض الله العدة على المسلمة، حفاظاً على كرامة الأسرة، ورعاية لها من التحلل والتفكك واختلاط الأنساب، وإحداداً على الزوج بإظهار التفجع والحزن عليه بعد الوفاة، احتراماً للرابطة المقدسة (رابطة الزواج) واعترافاً بالفضل والجميل لمن كان شريكاً في الحياة، وقد كانت العدة في الجاهلية حولاً كاملاً، وكانت المرأة تحد على زوجها شرّ حداد وأقبحه، فتلبس شرّ ملابسها، وتسكن شر الغُرف وهو (الحفش) وتترك الزينة والتطيب والطهارة، فلا تمسّ ماءًن ولا تقلّم ظفراً، ولا تزيل شعراً، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر، وأنتن رائحة، فتنتظر مرور كلب لترمي عليه بعرة احتقاراً لهذه المدة التي قضتها، وتعظيماً لحق زوجها عليها. فلما جاء الإسلام أصلح هذه الحال، فجعل الحداد رمز (طهارة) لا رمز (قذارة) ، وجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرّم إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي الزواج، دون النظافة والطهارة فإنهما شعار المسلم، وأباح له الجلوس في كل مكان من البيت، كما أباح لها الاجتماع مع النساء والمحارم من الرجال. ونساء المسلمين اليوم لا يسرن على هدي الإسلام في الحداد، فمنهن من تغالي في الحداد، وتغرق في النوح والندب، والخروج على المألوف من العادات، في اللباس والطعام والشراب، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على آبائهن أو أولادهن السنة والسنتين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين. فالخير كل خير في إصلاح هذه العادات الرديئة في الحداد، إذ لا فائدة فيها إلاّ إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش، وفساد آداب المعاشرة، ولا سبيل إلاّ بالعودة لأحكام الشرع بالحداد ثلاثة أيام على القريب، وأربعة أشهر وعشراً على الزوج، وجعل الحداد مقصوراً على ترك الزينة والطيب والخروج من المنزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 [19] خطبة المرأة واستحقاق المهر التحليل اللفظي {عَرَّضْتُمْ} : التعريض: الإيماء والتلويح من غير كشفٍ أو إظهار، وهو أن تفهم المخاطب بما تريد بضرب من الإشارة بدون تصريح، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 مأخوذ من عرْض الشيء أي جانبه. قال في «اللسان» : وعرّض بالشيء: لم يبيّنه، والتعريض خلاف التصريح، والمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء وفي الحديث: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» والتعريضُ في خِطْبة المرأة: أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرّح به كأن يقول: إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير، كما يقول المحتاج للمعونة: جئت لأسلّم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وحسبك بالتسليم مني تقاضينا ... {خِطْبَةِ النسآء} : الخطبة بكسر الخاء طلب النكاح، وبالضم معناها: ما يوعظ به من الكلام كخطبة الجمعة، وفي الحديث «لا يخِطبن أحدكم على خِطْبة أخيه» . {أَكْنَنتُمْ} : سترتم وأضمرتم، والإكنان: السرّ والخفاء. قال ابن قتيبة: أكننتُ الشيء: إذا سترته، وكنتُه: إذا صُنته، ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] . {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} : المراد بالسر هنا: النكاح ذكره الزجاج وأنشد: ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنف القصاع قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً بين الزوجين. والمعنى: لا تواعدوهن بالزواج وهنّ في حالة العدة إلا تلميحاً. {عُقْدَةَ النكاح} : العُقدة من العقد وهو الشدُ، وفي المثل: (يا عاقدُ اذكر حلاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 قال الراغب: العُقدة: اسم لما يعقد من نكاح، أو يمين، أو غيرهما. وقال الزجاج معناه: لا تعزموا على عقدة النكاح، حذفت (على) استخافاً كما قالوا: ضرب زيد الظهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن. {أَجَلَهُ} : أي نهايته، والمراد بالكتاب: الفرض الذي فرضه الله على المعتدة من المكث في العدة. ومعنى قوله: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} : أي حتى تنقضي العدة. {فاحذروه} : أي اتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره، وفيه معنى التهديد والوعيد. {حَلِيمٌ} : يمهل العقوبة فلا يعجّل بها، ومن سنته تعالى أنه يمهل ولا يهمل. {الموسع} : الذي يكون في سعة لغناه، يقال أوسع الرجل: إذا كثر ماله. {المقتر} : الذي يكون في ضيق لفقره، يقال: أقتر الرجل: إذا افتقر، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيّق عليهم في النفقة. {تَمَسُّوهُنَّ} : المسّ: إمساك الشيء باليد، ومثلُه المِساسُ والمسيسُ. قال الراغب: المسُ كاللمس ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس، وكنيّ به عن الجماع فقيل: مسّها وماسّها قال تعالى: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] . {فَرِيضَةً} : الفريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله. {يَعْفُونَ} : معناه: يتركن ويصفحن والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 المعنى الإجمالي بيّن تعالى حكم خطبة النساء المعتدات بعد وفاة أزواجهن فقال جل ثناؤه ما معناه: «لا ضيق ولا حرج عليكم أيها الرجال، في إبداء الرغبة بالتزوج بالنساء المعتدات، بطريق التلميح لا التصريح، فإن الله تعالى يعلم ما أخفيتموه في أنفسكم من الميل نحوهن، والرغبة في الزواج بهن، ولا يؤاخذكم على ذلك، ولكن لا يصح أن تجهروا بهذه الرغبة وهنّ في حالة العدة، إلاّ بطريق التعريض وبالمعروف، بشرط ألاّ يكون هناك فحش أو إفحاش في الكلام، ولا تعزموا النية على عقد النكاح حتى تنتهي العدة، واعلموا أن الله مطلع على أسراركم وضمائركم ومحاسبكم عليه. ثم ذكر تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور، وأمر بدفع المتعة لهن تطيباً لخاطرهن، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، وجعله نوعاً من الإحسان لجبر وحشة الطلاق، وأمّا إذا كان الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض، إلا إذا أسقطت حقها، أو دفع الزوج لها كامل المهر، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة. ثم ختم تعالى الآية بالتذكير بعدم نسيان المودة، والإحسان، والجميل بين الزوجين، فإذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 سبب النزول قال الخازن في «تفسيره» : «نزلت هذه الآية {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمتعها ولو بقلنسوتك» . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وقرأ حمزة والكسائي (تُماسُوهنّ) بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب، وهو من باب المفاعلة كالمباشرة والمجامعة. 2 - قرأ الجمهور {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} بالرفع، وقرأ ابن كثير ونافع (قدْرُه) بسكون الدال. 3 - قرأ الجمهور {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} وقرئ (وأن يَعْفوا) بالياء. وجوه الإعراب أولاً - قوله تعالى: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} لكنْ حرفُ استدراك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 والمستدرك محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهن ولكن لا توعدوهن و (سرّاً) مفعول به لأنه بمعنى النكاح، أي لا تواعدوهنّ نكاحاً، ويصح أن يعرب على أنه حال تقديره مستخفين، والمفعول محذوف أي لا تواعدوهن النكاح سراً. ثانياً - قوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} منصوب بنزع الخافض أي على عقدة النكاح. ثالثاً - قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} ما: مصدرية والزمان معها محذوف تقديره: في من ترك مستهنّ، وقيل: (ما) شرطية أي (إن لم تمسوهن) . رابعاً - قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فالواجب نصف ما فرضتم أو فعليكم نصف ما فرضتم، و (ما) اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أباح القرآن (التعريض) في خطبة المعتدة دون التصريح، ومن صور التعريض أن يقول: إنك لجميلة، أو صالحة، أو نافقة، أو يذكر الشخص مآثره أمامها. روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته (سُكينة بنت حنظلة) قالت: «دخل عليّ (أبو جعفر) محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحقّ جدي عليّ، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنتَ يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلتُ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وموضعي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أم سلمة حين توفي عنها زوجها (أبو سلمة) فلم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده حتى أثَّر الحصير في يده فما كانت تلك خِطبة» . اللطيفة الثانية: قال الزمخشري: «السرّ في الآية {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه ممّا يُسر، قال الأعشى: ولا تقربَنْ من جارةٍ إنّ سرّها ... عليك حرامٌ فانكحنْ أو تأبدا ثمّ عبر فيه عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح. اللطيفة الثالثة: ذكر العزم في الآية {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح في العدة، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهي عنه كان النهي عن الفعل أولى. اللطيفة الرابعة: عبّر تعالى بالمساس عن الجماع، وهو من الكنايات اللطيفة التي استعملها القرآن الكريم. قال أبو مسلم:» وإنما كنّى تعالى بقوله: {تَمَسُّوهُنَّ} عن المجامعة، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به «. اللطيفة الخامسة: الخطاب في قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} وفي قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} للرجال والنساء جميعاً ورد بطريق التغليب. قال الفخر:» إذا اجتمع الرجال والنساء في الخطاب كانت الغلبة للذكور، لأن الذكورة أصل، والتأنيث فرع، ألا ترى أنك تقول: قائم ثم تريد التأنيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فتقول: قائمة «. اللطيفة السادسة: الحكمة في إيجاد المتعة للمطلقة جبر إيحاش الطلاق، والتخفيف عن نفسها بالمواساة بالمال. قال ابن عباس: إن كان موسراً متّعها بخادم، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب. اللطيفة السابعة: روي أن (الحسن بن علي) متّع بعشرة آلاف فقالت المرأة: متاعٌ قليلٌ من حبيب مفارق ... وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنّ (عائشة الخثعمية) كانت عند الحسن بن علي بن أبي طالب، فلمّا أصيب عليّ وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتَهْنكَ الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال: يُقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق ثلاثاً، فتلفعت بجلبابها، وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق ... فلما أخبره الرسول بكى وقال: لولا أني أبنتُ الطلاق لها لراجعتها. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو حكم خطبة النساء؟ النساء في حكم (الخِطْبة) على ثلاثة أقسام: أحدها: التي تجوز خطبتها (تعريضاً وتصريحاً) وهي التي ليست في عصمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أحد من الأزواج، وليست في العدة، لأنه لمّا جاز نكاحها جازت خطبتها. الثاني: التي لا تجوز خطبتها (لا تصريحاً، ولا تعرضاً) وهي التي في عصمة الزوجية، فإنّ خطبتها وهي في عصمة آخر إفساد للعلاقة الزوجية وهو حرام، وكذلك حكم المطلّقة رجعياً فإنها في حكم المنكوحة. الثالث: التي تجوز خطبتها (تعريضاً) لا (تصريحاً) وهي المعتدة في الوفاة، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} ومثلها المعتدة البائن المطلّقة ثلاثاً فيجوز التعريض لها دون التصريح. والدليل على حرمة التصريح ما قاله الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: «لمّا خُصّص التعريض بعدم الجناح، وجب أن يكون التصريح بخلافه» وهذا الاستدلال دلّ عليه مفهوم المخالفة. الحكم الثاني: هل النكاح في العدة صحيح أم فاسد؟ حرّم الله النكاح في العدة، وأوجب التربص على الزوجة، سواءً كان ذلك في عدة الطلاق، أو في عدة الوفاة، وقد دلت الآية وهي قوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} على تحريم العقد على المعتدة، واتفق العلماء على أن العقد فاسد ويجب فسخه لنهي الله عنه. وإذا عقد عليها وبنى بها فُسخ النكاح، وحرمت على التأبيد عند (مالك وأحمد) فلا يحل نكاحها أبداً عندهما لقضاء عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بذلك، ولأنه استحلّ ما لا يحل فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه من الميراث. وقال أبو حنيفة والشافعي: يُفسخ النكاح، فإذا خرجت من العدة كان العاقد خاطباً من الخطاب، ولم يتأبد التحريم، لأنّ الأصل أنها لا تحرم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 بدليل من كتابٍ، أو سنةٍ، أو إجماع، وليس في المسألة شيء من هذا، وقالوا: إنّ الزنى أعظم من النكاح في العدة، فإذا كان الزنى لا يحرمها عليه تحريماً مؤبداً، فالوطء بشبهة أحرى بعدم التحريم، وما نقل عن عمر فقد ثبت رجوعه عنه. قضاء عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في الحادثة روى ابن المبارك بسنده عن مسروق أنه قال: «بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما، وقال: لا ينكحْها أبداً، وجعل الصداق في بيت المال، وفشا ذلك بين الناس فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال: يرحم الله أمير المؤمنين {ما بال الصداق وبيت المال} إنما جهلا فينبغي أن يردهما السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟ قال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثم يخطبها إن شاء. فبلغ ذلك عمر فقال: يا أيها الناس ردّوا الجهالات إلى السنة «. الحكم الثالث: ما هو حكم المطلقة قبل الدخول؟ وضحّت الآيات الكريمة أحكام المطلقات، وذكرت أنواعهنّ وهنّ كالتالي: أولاً: مطّلقة مدخول لها، مسمّى لها المهر. ثانياً: مطلّقة غير مدخول بها، ولا مسمّى لها المهر. ثالثاً: مطلّقة غير مدخول بها، وقد فرض لها المهر. رابعاً: مطلّقة مدخول بها، وغير مفروض لها المهر. فالأولى ذكر الله تعالى حكمها قبل هذه الآية، عدّتُها ثلاثة قروء، ولا يُسترد منها شيء من المهر {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قروء} [البقرة: 228] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] . والثانية: ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية، ليس لها مهرٌ، ولها المتعة بالمعروف لقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ ... } [البقرة: 236] الآية كما أن هذه ليس عليها عدة باتفاق لقوله تالى في سورة الأحزاب [49] {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - gt; والثالثة: ذكرها الله تعالى بعد هذه الآية، لها نصف المهر ولا عدة عليها أيضاً لقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . والرابعة: ذكرها الله تعالى في سورة النساء [24] بقوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] فهذه يجب لها مهر المثل. قال الرازي ويدل عليه أيضاً القياس الجلي، فإن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بشبهة لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذه الحكم. الحكم الرابع: هل المتعة واجبة لكل مطلّقة؟ دل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} على وجوب المتعة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض، وقد اختلف الفقهاء هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟ فذهب (الحسن البصري) إلى أنها واجبة لكل واجبة لكل مطلّقة للعموم في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 241] . وقال مالك: إنها مستحبة للجميع وليست واجبة لقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 241] و {حَقّاً عَلَى المحسنين} ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. وذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) إلى أنها واجبة للمطلّقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 التي لم يفرض لها مهر، وأمّا التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة وهذا مروي عن (ابن عمر) و (ابن عباس) و (علي) وغيرهم، ولعله يكون الأرجح جمعاً بين الأدلة والله أعلم. الحكم الخامس: ما معنى المتعة وما هو مقدارها؟ المتعة: ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة أو متاع لزوجته المطلّقة، عوناً لها وإكراماً، ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها، وتقديرُها مفوض إلى الاجتهاد. قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها. وقال الشافعي: المستحب على الموسم خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً، وعلى المقتر مقنعة. وقال أبو حنيفة: أقلها درع وخمار وملحفة، ولا تزاد على نصف المهر. وقال أحمد: هي درع وخمار بقدر ما تجزئ فيه الصلاة، ونقل عنه أنه قال: هي بقدر يسار الزوج وإعساره {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} وهي مقدرة باجتهاد الحاكم، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - جواز التعريض في خطبة المعتدة من الوفاة ومن الطلاق البائن. 2 - حرمة عقد النكاح على المعتدّة في حالة العدة وفساد هذا العقد. 3 - المتعة واجبة لكل مطلّقة لم يذكر لها مهر، ومستحبة لغيرها من المطلقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 4 - إباحة تطليق المرأة قبل المسيس إذا كانت ثمة ضرورةٌ ملحة. 5 - المطلّقة قبل الدخول لها نصف المهر إذا كان المهر مذكوراً. خاتمة البحث: حكمة التشريع شرع الباري جل وعلا المتعة للمطلّقة، وجعلها على قدر حال الرجل يساراً وإعساراً، وهذه (المتعة) واجبة للمطلّقة قبل الدخول، التي لم يُسمّ مهر، ومستحبة لسائر المطلقات. والحكمة في شرعها أنّ في الطلاق قبل الدخول امتهاناً للمرأة وسوء سمعة لها، وفيه إيهامٌ للناس بأن الزوج ما طلّقها إلاّ وقد رابه شيء منها في سلوكها وأخلاقها، فإذا هو متّعها متاعاً حسناً تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبَله، لا من قِبَلها، ولا علة فيها، فتحفظ بما كان لها من صيتٍ وشهرة طيبة، ويتسامع الناس فيقولون: إن فلاناً أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر، وهو معترف بفضلها مقر بجميلها، فيكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها، ويكون أيضاً كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق. وقد أمرنا الإسلام أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة، وأن نصون كرامة الناس عن القيل والقال، ولهذا أمر حتى في حالة الطلاق الذي يسبّب في الغالب النزاع والبغضاء بأن لا ننسى الجميل والمودة والإحسان {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فإن الروابط في النكاح والمصاهرة روابط مقدسة، فينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلّق، ألاّ ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، فأين نحن المسلمين من هدي هذا الكتاب المبين؟ {وأين نحن من إرشاداته الحكيمة، وآدابه الفاضلة؟} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 [20] الربا جريمة اجتماعية خطيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 التحليل اللفظي {الرباوا} : الربا في اللغة: الزيادة مطلقاً، يقال ربا الشيء يربو: إذا زاد، ومنه قوله تعالى: {اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي زادت، وفي الحديث «إلاّ رَبَا من تحتها» أي زاد الطعام الذي دعا فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالبركة، وأربى الرجل: إذا تعامل بالربا. وفي الشرع: زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل. {يَتَخَبَّطُهُ} : التخبط معناه الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بيده، ويقال للذي يتصرف في أمرٍ ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء، وتخبّطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون، وتسمّى إصابة الشيطان خبطة. {المس} : الجنون يقال: مُسّ الرجل فهو ممسوس وبه مسٌ، وأصله من المسّ باليد، كأن الشيطان يمسّ الإنسان فيحصل له الجنون. قال الراغب: وكنّي بالمس عن الجنون، وفي قوله: «يتخبطه الشيطان من المس» والمسّ يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى. {مَوْعِظَةٌ} : الموعظة: بمعنى الوعظ وهو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. {سَلَفَ} : أي مضى وتقدم، والمعنى: من انتهى عن التعامل بالربى فإن الله تعالى يعفو ويصفح عمّا مضى من ذنبه قبل نزول آية التحريم. {يَمْحَقُ} : المحق: النقص والذهاب، ومنه المحاق في الهلال يقال: محقه إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أنقصه وأذهب بركته والمراد أن الله أوعد المرابي بإذهاب ما له وإهلاكه وفي الحديث الشريف: «إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ» . {وَيُرْبِي الصدقات} : أي يزيدها وينميها ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة. {أَثِيمٍ} : أي كثير الإثم وهو المتمادي في ارتكاب المعاصي، المصر على الذنوب. {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} : أي أيقنوا بحربٍ من الله ورسوله، وهذا وعيد لمن لم يذر الربى. {ذُو عُسْرَةٍ} : العُسرة الفقر والضيق يقال: أعسر الرجل إذا افتقر. {فَنَظِرَةٌ} : أي فواجب تأخيره وانتظاره يقال: أنظره إذا أمهله وأخره. {مَيْسَرَةٍ} : أي غنى ويسار، والمعنى: إذا كان المستدين معسراً فأخروه إلى وقت السعة والغنى ولا تأخذوا منه إلا رأس المال. المعنى الإجمالي يخبر الولي جل وعلا المرابين، الذي يتعاملون بالربا فيمتصون دماء الناس، بأنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة، إلاّ كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً، لأن به مساً من الشيطان، ذلك التخبط والتعثر بسبب أنهم استحلوا الربا الذي حرّمه الله، فقالوا: الربا مثل البيع فلماذا يكون حراماً؟ وقد ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة السقيمة بأن البيع تبادل منافع وقد أحلّه الله، والربا زيادة مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه وقد حرمه الله، فكيف يتساويان؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ثم أخبر تعالى بأن من جاءته الموعظة والذكرى، فانتهى عمّا كان قبل التحريم، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يعفو ويغفر له، ولا يؤاخذه عمّا أخذ من الربا، وأمّا من تعامل بالربا بعد نهي الله عنه فإنه يستوجب العقوبة الشديدة بالخلود في نار جهنم لاستحاله ما حرمه الله. وقد أوعد الله المرابي بمحق ماله، إمّا بإذهابه بالكلية، أو بحرمانه بركة ماله، «فالربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ» كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه، فلا بدّ أن يزهقه الله ويمحقه لأنه خبيث {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} [المائدة: 100] وأمّا المتصدّق فالله يبارك له في ماله وينميّه، والله لا يحب كفور القلب، أثيم القول والفعل. ثمّ جاء الوعيد والتهديد الشديد لمن تعامل بالربا، وخاصة إذا كان هذا الشخص من المؤمنين، فالربا والإيمان لا يجتمعان، ولهذا أعلن الله الحب على المرابين {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} . فأي مسلم يسمع مثل هذا الوعيد ثم يتعامل بالربا؟! اللهم احفظنا من هذه الجريمة الشنيعة، وطهّرنا من أكل السحت والتعامل بالربا إنك سميع مجيب الدعاء اللهم آمين. سبب النزول 1 - كان العباس وخالد بن الوليد شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى ناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألا إنّ كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس، وكل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب» . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} وقرأ حمزة وعاصم (فآذنوا بحرب) بالمد. قال الزجاج: من قرأ {فَأْذَنُواْ} بالقصر، فالمعنى: أيقنوا، ومن قرأ بالمد فمعناه أعلموا. 2 - قرأ الجمهور {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} وروي عن عاصم بضم الأولى وفتح الثانية. 3 - قرأ الجمهور {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} بتسكين السين، وضمها أبو جعفر (عُسُرة) . 4 - قرأ الجمهور {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} بضم التاء، وقرأ أبو عمرو بفتحها (تَرْجعون) . وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا} مبتدأ وجملة {لاَ يَقُومُونَ} خبره، والكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره: إلاّ قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان. ثانياً: قوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جواب الشرط محذوف تقديره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 إن كنتم مؤمنين فذروا. ثالثاً: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} كان هنا تامة بمعنى إن حدث ذو عسرة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: المراد بالأكل في الآية الكريمة مطلق الأخذ والتصرف، وعبّر به هنا {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا} لأنه الغرض الأساسي من المال، وما عداه من سائر الوجوه فتبع، وقد شاع هذا الإطلاق يقال لمن تصرف في مال غيره بدون حق: أكله، وهضمه. اللطيفة الثانية: تشبيه المرابين بالمصروعين، الذين يتخبطهم الشيطان، فيه لطيفة وهي أن الله عزّ وجل أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم، فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون وتلك سيماهم يوم القيامة يعرفون بها، قال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا يوم القيامة. اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباوا} تشبيه لطيف يسمى (التشبيه المقلوب) وهو أعلى مراتب التشبيه حيث يصبح المشبّه مشبهاً به مثل قولهم: القمر كوجه زيد، والبحر ككفه، على حدّ قول القائل: فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها ... سوى أنّ عظم الساق منك دقيق ومقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتفق على حله، ولكنّه بلغ اعتقادهم في حل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الربا، أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل، حتى شبّهوا به البيع، فتدبّره فإنه دقيق. اللطيفة الرابعة: النكتة في الآية الكريمة {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} أنّ المرابي يطلب الربا زيادة المال، ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبيّن سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء، وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان، والزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} تنكير الحرب للتفخيم وقد زادها فخامة وهؤلاً، نسبتُها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي أيقنوا بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره، كائن من عند الله ورسوله، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً، وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكل الربا. قال ابن عباس: يقال الآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} صيغة كفّار (فعّال) وصيغة أثيم (فعيل) كلاهما من صيغ المبالغة معناهما كثير الكفر والإثم، وفي الآية تغليظ لأمر الربا، وإيذانٌ بأنه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين. اللطيفة السابعة: رغّب الله تعالى في إنظار المستدين المعسر {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} وكذلك جاءت السنة المطهرة فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كان رجلٌ يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا، فلقي الله فتجاوز عنه» . قال المهايمي: «فإذا استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون، استوفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الله منه حقوقه بالتضييق، وإن سامحه فالله أولا بالمسامحة» . اللطيفة الثامنة: قال بعض العلماء: من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه، أكبَرَ جرمَهُ وإثمه، فقد ترتب عليه قيامهم في الحشر مخبلين، وتخليدهم في النار، ونبذهم بالكفر، والحرب من الله ورسوله، واللعنة الدائمة لهم، وكذلك الذم والبغض، وسقوط العدالة وزوال الأمانة، وحصول القسوة والغلظة، والدعاء عليه ممن ظلمه، وذلك سبب لزوال الخير والبركة، فما أقبح هذه المعصية، وأعظم جرمها، وأشنع عاقبتها؟! اللطيفة التاسعة: ختمت آيات الربا بهذه الآية الكريمة {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وهي آخر آية نزلت من القرآن، وعاش بعدها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، وفي هذه الآية تذكير بالوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] وبنزول هذه الآية انقطع الوحي، وكان ذلك آخر اتصال السماء بالأرض. «الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا» من المستحسن أن نذكر هنا الأدوارالتي مرّ بها تحريم الربا، حتى ندرك سر التشريع الإسلامي، في معالجته للأمراض الاجتماعية، فنم المعلوم أن التشريع الإسلامي سار (بسُنّة التدرج) في تقرير الأحكام. ولقد مرّ تحريم «الربا» بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر، وذلك تمشياً مع قاعدة التدرج: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الدول الأول: نزل قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] وهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي - كما يظهر - ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا، وأن الربا ليس له ثواب عند الله فهي إذن (موعظة سلبية) . الدورالثاني: نزل قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [النساء: 160 - 161] وهذه الآية مدنية، وهي درس قصه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذي حرم عليهم الربا فأكلوه واستحقوا عليه اللعنة والغضب، وهو تحريم (بالتلويح) لا (بالتصريح) لأنه حكاية عن جرائم اليهود وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين. وهذا نظير (الدور الثاني) في تحريم الخمر {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] الآية حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح. الدور الثالث: نزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] . الآية وهذه الآية مدنية وفيها تحريم للربا صريح ولكنه تحريم (جزئي) لا (كلي) لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى (الربا الفاحش) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذرة العليا، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى، حيث كان الدَيْنُ فيه يتزايد حتى يصبح أضعافاً مضاعفة، يضعف عن سداده كاهل المستدين، الذي استدان لحاجته وضرورته وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئياً لا كلياً في أوقات الصلاة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ... } [النساء: 43] الآية. الدور الرابع: وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع، الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 لا يفرّق فيه القرآن بين قليل أو كثير، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا، فقد نزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ... } الآيات. وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه حيث حرمت الخمر تحريماً قاطعاً جازماً في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق (التدرج) . الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية؟ الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان: (ربا النسيئة) و (ربا الفضل) . أما الأول (ربا النسيئة) : فهو الذي كان معروفاً في الجاهلية وهو أن يقرضه قدراً معيناً من المال إلى زمن محدود كشهرٍ أو سنة مثلاً مع اشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل. قال (ابن جرير الطبري) رَحِمَهُ اللَّهُ: «إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجال مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه الدين أخّر عني ديْنَك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة، فنهاهم الله عَزَّ وَجَلَّ في إسلامهم عنه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد. أما الثاني (ربا الفضل) : فهو الذي وضحته السنّة النبوية المطهرة، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر، مثاله: أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر، أو رطلاً من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات. والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه (إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة والنّساء، وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء) . وتوضيحاً لهذه القاعدة الفقهية نقول: إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت، أو قمح بقمح، أو عنبٍ بعنب، أو تمر بتمر، حرمت الزيادة مطلقاً ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا، وإذا اختلفت الأجناس كقمح بشعير، أو زيت بتمر مثلاً جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلٍ، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وفي حديث آخر «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد» أي مقبوضاً وحالاً. الحكم الثاني: هل يباح الربا القليل؟ وما المراد من قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] ؟ يذهب بعض ضعفاء الإيمان (من مسلمي هذا العصر) إلى أن الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة، ويقصد منه استغلال حاجة الناس، أما الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرم، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأنّ الله تبارك وتعالى إنما حرم الربا إذا كان فاحشاً حيث قال تبارك وتعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فالنهي إنما جاء مشروطاً ومقيداً وهو كونه مضاعفاً أضعافاً كثيرة، فإذا لم يكن كذلك، وكانت النسبة فيه يسيرة فلا وجه لتحريمه. وللجواب على ذلك نقوله: أولاً: إن قوله تعالى: {أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] ليس قيداً ولا شرطاً، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية، كما يتضح من سبب النزول، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً، حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفاً أضعافاً كثيرة. ثانياً: إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره، فهذا القول يعتبر خروجاً على الإجماع كما لا يخلو عن جهلٍ بأصول الشريعة الغراء، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرّمه (كلياً) أخذاً بقاعدة (سدّ الذرائع) لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه، والربا كالخمر في الحرمة فهل يقول مسلم عاقل إن القليل من الخمر حلال؟ ثالثاً: نقول لهؤلاء الجهلة (من أنصاف المتعلمين) : «أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ؟ فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة، ولا تقرؤون قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباوا} وقوله تعالى: {اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا} وقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} هل في هذه الآيات ما يقيد الربا بالقليل أو الكثير أم اللفظ مطلق؟ وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث جابر» لعن رسول الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال هم سواء «فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية، والقليل والكثير في الحرمة سواء. وصدق الله حيث يقول: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة. 2 - الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار. 3 - القليل من الربا والكثير في الحرمة سواء. 4 - على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه. 5 - السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنما هو تقوى الله. خاتمة البحث حكمة التشريع اعتبرت الشريعة الإسلامية الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية، وشنّت عليه حرباً لا هوادة فيها، وأوعد القرآ الكريم المتعاملين به عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من تصوير حالة المرابين بذلك التصوير الشنيع الذي صورهم به القرآن، صورة الشخص الذي به مسّ من الجن، فهو يتخبط ويهذي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه. ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية - أراد الإسلام إبطاله - ما بلغ من تفظيع أمر الربا، ولا بلغ من التهديد في منكر من منكرات كما بلغ في شأن الربا، فالربا في نظر الإسلام جريمة الجرائم، وأساس المفاسد، وأصل الشرور والآثام، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان. الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل ... والربا شحّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وقذارة، ودنس، وجشع، وأثرة، وأنانية. الصدقة نزولٌ عن المال بلا عوضً ولا ردّ، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه، جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لكدّه وعمله، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله. فلا عجب إذاً أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم، الاجتماعية والدينية، وأن يعلن على المرابين الحرب {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه، ويمكننا أن نجمل هنا بعض هذه الأضرار في فقرات: أولاً: ضرر الربا من الناحية النفسية. ثانياً: ضرر الربا من الناحية الاجتماعية. ثالثاً: ضرر الربا من الناحية الاقتصادية. أما ضرر الربا من الناحية النفسية: فإنه يولّد في الإنسان حب (الأثرة والأنانية) فلا يعرف إلا نفسه، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار، وتنعدم معاني حبّ الخير للأفراد والجماعات، وتحلّ محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدوا الإنسان (المرابي) وحشاً مفترساً لا يهمه من الحياة إلا جمع المال، وامتصاص دماء الناس، واستلاب ما في أيديهم، ويصبح ذئباً ضارياً في صورة إنسان وديع، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس ويحل محلها الجشع والطمع. أما ضرر الربا من الناحية الاجتماعية: فإنه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان، والتعاون والإحسان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 نفوس البشر، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء، ويدمّر قواعد المحبة والإخاء، ومن المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبَه الشفقةُ والرحمةُ ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية سوف يعدم كل احترام أو عطفٍ من أبناء مجتمعة، وتكون النظرة إليه نظرة إزدراء واحتقار، وكفى (المرابي) مقتاً وهواناً أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه بل إنه عدوّ للإنسانية لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم. أما ضرر الربا من الناحية الاقتصادية: فهو ظاهر كل الظهور لأنه يقسم الناس إلى طبقتين: طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية، والتمتع بعرق جبين الآخرين وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة، والبؤس والحرمان، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين، وقد ثبت أن (الربا) أعظم عامل من عوامل تضخم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات حيث كثرت المحن والفتن، وزادادت الثورات الداخلية وإنا لله وإنا إليه راجعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 سورة آل عمران [1] النهي عن موالاة الكافرين التحليل اللفظي {أَوْلِيَآءَ} : جمع ولي، وهو في اللغة بمعنى الناصر والمعين. قال الراغب: وكلّ من ولي أمراً الآخر فهو وليه ومنه قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 257] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 {تقاة} : مصدر بمعنى التقيّة وهي أن يداري الإنسان مخافة شرّه. قال ابن عباس: «التقيّة مداراة ظاهرة، وقد يكون الإنسان مع الكفار أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه» . قال القرطبي: وأصل تُقَاة (وُقَية) على وزن فُعَلَة مثل: تُؤَدة وتُهَمَة، قلبت الواو تاء والياء ألفاً. وقال أبو حيان: والمصدر على فُعَلة جاء قليلاً ولو جاء على المقيس لكان اتقاءً ونظيره قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] . والمعنى: إلا أن تخافوا منهم خوفاً فلا بأس بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة دفعاً لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب. {المصير} : المرجع والمآب، والمعنى: رجوعكم ومآبكم إلى الله فيجازيكم على أعمالكم. «وجه المناسبة» لما بيّن تعالى في الآيات السابقة أنه مالك الملك، المعز المذل، المتصرف في الكون حسب مشيئته وإرادته، وأنه القادر على إعطاء الملك لمن شاء، ونزعه ممن شاء، وأن العزة والذلة بيده، نهى المؤمنين في هذه الآيات عن موالاة أعدائه لتكون الرغبة فيما عنده دون أعدائه الكافرين. سبب النزول 1 - نزلت هذه الآية الكريمة في شأن قوم من المؤمنين كان لهم أصحاب من اليهود كانوا يوالونهم فقال لهم بعض الصحابة: اجتنبوا هؤلاء اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 واحذروا مصاحبتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ويضلوكم بعد إيمانكم فأبى أولئك النصيحة، وبقوا على صداقتهم ومصاحبتهم لهم فنزلت الآية الكريمة {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ ... } الآية. 2 - وروى القرطبي في «تفسيره» عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن هذه الآية نزلت في (عُبَادة بن الصامت) الأنصاري البدري، كان له حلفاء من اليهود فلّما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الأحزاب قال له عُبادة: يا نبيّ الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} الآية. المعنى الإجمالي نهى الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين عن موالاة الكافرين أو التقرب إليهم بالمودة والمحبّة، أو مصادقتهم لقرابة أو معرفةٍ، لأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يوالوا أعداء الله إذ من غير المعقول أن يجمع الإنسان بين محبة الله عَزَّ وَجَلَّ وبين محبة أعدائه لأنه جمع بين النقيضين فمن أحبّ الله أبغض أعداءه. فلا يجوز للمسلم أن يوالي غير المؤمنين فيتخذ من الكفّار الذين يتربصون بالمؤمنين السوء أولياء يصادقهم ويتودّد إليهم أو يستعين بهم ويترك إخوانه المؤمنين فليس بين الإيمان والكفر نسب وصلة، فالآية الكريمة تحذّر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم أو الخوف منهم فتجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع إضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن، ثم ختمت الآية الكريمة بالوعيد الشديد الذي يدل على عظم الذنب الذي يرتكبه من يخالف أوامر الله ويوالي أعداءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} وقرأ يعقوب وأبو الرجاء والمفضّل (تقيّه) بالياء المشدّدة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} لا ناهية جازمة والفعل بعدها مجزوم وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين و (يتخذ) ينصب مفعولين (الكافرين) مفعول أول و (أولياء) مفعول ثان. ثانياً: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} الاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي لا تتخذوهم أولياء في حالٍ من الأحوال إلاّ في حال اتقاء شرهم وضررهم، و (تقاة) مفعول مطلق ل (تتقوا) وجوّز بعضهم أن يكون مفعولاً به أي إلا أن تتقوا شيئاً حاصلاً من جهتهم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: التعبير بقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} بدل قوله: (ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين) للاختصار، واستهجاناً بذكره، وتقبيحاً لهذا الصنيع، فموالاة الكافرين من أقبح القبائح عند الله. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} ليس من الله، أي ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 من دين الله أو شرع الله، فهو على حذف مضاف، والتنكير في شيء للتحقير أي ليس هذا في قليل أو كثير من دين الله، لأنه جمع بين المتناقضين، وقد قال الشاعر: تودّ عدّوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عند بعازب اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} التفات من الغيبة إلى الخطاب، ولو جاء على النظم الأول لكان (إلا أن يتقوا) . اللطيفة الرابعة: إظهار اسم الجلالة مكان الإضمار في قوله تعالى: {وإلى الله المصير} لتربية المهابة والروعة في النفس وتقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر. «الآيات الدالة على تحريم موالاة الكافرين» . وفي هذا المعنى الذي ذكرناه وهو حرمة موالاة الكافرين نزلت آيات كثيرة منها ما هو خاص بأهل الكتاب ومنها ما هو عام للمشركين نكتفي بذكر بعض هذه الآيات الكريمة. 1 - قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] . 2 - وقال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة ... } [الممتحنة: 1] . 3 - وقال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] . 4 - وقال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ... } [آل عمران: 118] . 5 - وقال تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ ... } [المجادلة: 22] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو حكم الاستعانة بالكفار في الحرب؟ اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بالكفار في الحرب على مذهبين: 1 - مذهب المالكية: أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو أخذاً بظاهر الآية الكريمة واستدلوا بما ورد في قصة (عبادة بن الصامت) كما وضّحها سبب النزول. واستدلوا كذلك بما روته عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن رجلاً من المشركين كان ذا جرأة ونجدة جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر يستأذنه في أن يحارب معه فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له: «ارجع فلن استعين بمشرك» . ب - مذهب الجمهور (الشافعية والحنابلة والأحناف) : قالوا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب بشرطين: أولاً: الحاجة إليهم. وثانياً: الوثوق من جهتهم، واستدلوا على مذهبهم بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد استعان بيهود فينقاع وقَسمَ لهم، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، فدَلّ ذلك على الجواز، وقالوا في الردّ على أدلة المالكية إنها منسوخة بفعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعمله، وقال بعضهم: إن ما ذكره المالكية يحمل على عدم الحاجة أو عدم الوثوق حيث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يثق من جهته، وبذلك يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز. الحكم الثاني: ما معنى التقية وما هو حكمها؟ قال ابن عباس: التقية أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً. وعرّف بعضهم التقيّة بأنها المحافظة على النفس والمال من شرّ الأعداء فيتقيهم الإنسان بإظهار الموالاة من غير اعتقادٍ لها. قال «الجصاص» في «أحكام القرآن» : «وقد اقتضت الآية جواز اظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب، بل ترك التقيّة أفضل. قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قُتل إنه أفضل ممن أظهر، وقد أخذ المشركون (خُبَيْب بن عدي) فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من (عمار بن ياسر) حين أعطى التقية وأظهر الكفر، فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك، فقال كيف وجدت قلبك؟ قال: مطئمناً بالإيمان، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وإن عادوا فعد ... «. وكان ذلك على وجه الترخيص. » قصة مسيلمة الكذاب مع بعض الصحابة « روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لأحدهما أتشهد أنّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فترك سبيله، ثم دعا بالآخر، وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، قالها ثلاثاً، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» أمّا هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه «. الحكم الثالث: هل تجوز تولية الكافر واستعماله في شؤون المسلمين؟ استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز تولية الكافر شيئاً من أمور المسلمين ولا جعلهم عمالاً ولا خدماً، كما لا يجوز تعظيمهم وتوقيرهم في المجلس والقيام عند قدومهم فإن دلالته على التعظيم واضحة، وقد أُمِرْنا باحتقارهم {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] . قال (ابن العربي) : وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري بذمي كان استكتبه باليمن وأمره بعزله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 قال (الجصاص) : (وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء، وأنه إذا كان الكافر ابن صغير مسلم بإسلام أمه، فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره، ويدل على أنّ الذمي لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته، لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة) . ومما يؤيد هذا الرأي ويرجحه قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} [النساء: 141] . الحكم الرابع: حكم المداراة لأهل الشر والفجور: تجوز مداراة أهل الشر والفجور، ولا يدخل هذا في الموالاة المحرمة فقد كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يداري الفسّاق والفجّار وكان يقول: «إنا لنَبشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم» أو كما قال، قال بعض العلماء: إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير كما أنها لا تخالف أصول الدين فذلك جائز، وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزور فلا تجوز البتة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - موالاة الكافرين، ومحبتهم، والتودّد إليهم محرمة في شريعة الله. 2 - التقية عند الخوف على النفس أو المال، أو التعرض للأذى الشديد. 3 - الإكراه يبيح للإنسان التلفظ الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئناً بالإيمان. 4 - لا صلة بين المؤمن والكفر بولاية، أو نصرة، أو توارث، لأن الإيمان يناقض الكفر. 5 - الله تعالى مطلع على خفايا النفوس لا تخفى عليه خافية من أمور عباده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 التحليل اللفظي {أَوَّلَ بَيْتٍ} : المراد به أول بيت للعبادة، فالبيت الحرام أو المساجد على وجه الأرض، وقد سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أول مسجد وضع الناس فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 قال علي بن أبي طالب: أول بيت وضع الناس للعبادة. قال الزمخشري: ومعنى (وضُع للناس) أي جُعل متعبداً لهم، فكأنه قال: إن أول متعبد للناس الكعبة. {بِبَكَّةَ} : اسم لمكة فتسمى (مكة) و (بكة) من باب الإبدال كقولهم سبد رأسه وسمده إذا حلقه، وطين لازب ولازم، وقيل: (بكة) موضع البيت، و (مكة) الحرم كله. قال ابن العربي: وإنما سميت بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة، فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى. {مُبَارَكاً} : البركة معناها الزيادة وأكثر الخير، وهي نوعان: حسية، ومعنوية. أمّا الحسية: فهي ما ساقه الله تعالى من خيرات الأرض وبركاتها إلى أهل هذه البلاد، تجبى إليهم من أقطار الدنيا كما قال تعالى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} [القصص: 57] . وأما المعنوية: فهي توجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها إلى هذه البلاد المقدسة، يأتون إلأيها من كل فج عميق لأداء المناسك من الحج والعمرة استجابة لدعوة الخليل {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] . {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} : هدى مصدر بمعنى (هداية) أي أن هذا البيت العتيق هو مصدر الهداية والنور لجميع الخلق، وقيل: المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم. {مَّقَامُ إبراهيم} : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام حين ارتفع بناء الكعبة وكان فيه أثر قدميه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من {مَّقَامُ إبراهيم} هو موضع قيامه للصلاة والعبادة، يقال: هذا مقامه أي الموضع الذي اختاره للصلاة فيه، وهذا قول (مجاهد) . قال القرطبي: «وفسّر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله، فذهب إلى أن من آياته الصفا، والمروة، والركن، والمقام» . فيكون المراد بالمقام المسجد الحرام كله. {آمِناً} : أي أمن على نفسه وماله. قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، وتقديره: ومن دخله فأمنوه. وقد فسّر بعض العلماء الأمن بأن المراد منه الأمن من العذاب في الآخرة وروي في ذلك آثاراً، ولا مانع من إرادة العموم، الأمن في الدنيا، والأمن من عذاب الله. {سَبِيلاً} : استطاعةُ السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه، وقد فسّرت الاستطاعة بملك الزاد والراحلة كما جاء في الحديث الصحيح. المعنى الإجمالي بيّن الله عَزَّ وَجَلَّ مكانة هذا البيت (البيت الحرام) وعدّد مزاياه وفضائله فهو أول بيت من بيوت العبادة وضع معبداً للناس بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ليكون مثابة للناس وأمناً، ثم بني مسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون بناه «سليمان» عليه السلام، فالبيت العتيق هو أول قبلة وأول معبد على وجه الإطلاق، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أقدم منه وقد عدّد الله من مزايا هذا البيت ما يستحق تفضيله على جميع المساجد وأماكن العبادة، فهو أول المساجد، وهو قبلة الأنبياء، وهو بلد الأمن والاستقرار وفيه الآيات البينات: الصفا، والمروة، وزمزم، والحطيم، والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وفوق ذلك فأنّ الله عَزَّ وَجَلَّ خصّه بخصائص فجعله مركز الهداية والنور وفرض الحج إليه، يأتيه الناس من أقطار الدنيا ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، أفلا يكفي برهاناً على شرف هذا البيت وأحقيته أن يكون قبلة للمسلمين؟! ذكر (القرطبي) في «تفسيره» عن (مجاهد) أنه قال: «تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية. «وجه الارتباط بالآيات السابقة» كانت الآيات من أول سور «آل عمران» إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع إثبات الوحدانية، وقد تبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم، وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدعٍ وأهواء ما أنزل الله بها من سلطان. . أما هذه الآيات من قوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ} [آل عمران: 93] فقد جاءت لدفع شبهتين من شبه اليهود التي كانوا يثيرونها لإفساد عقائد الناس. الشبهة الأولى: إنهم قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم؟ فقد استحللت ما كان محرّماً عليه، فلست بمصدّق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به ... فردّ الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم بأن كل الطعام كان حلالاً لإسرائيل ولذريته {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة ... } [آل عمران: 93] الآية. الشبهة الثانية: أما الشبهة الثانية التي أثارها اليهود فهي حينما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة، فقد طعن اليهود في نبوة محمد عليه السلام، واتخذوا من هذا التحويل ذريعة لإنكار رسالته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وتشكيك الناس في الإسلام، وقالوا إن «بيت المقدس» أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلّون إليه، فلو كنت يا محمد على ما كانوا عليه لعظّمتَ ما عظّموا، فرد الله سبحانه شبهتهم بهذه الآية {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} . لطائف التفسير اللطيفة الأولى: الحكمة في اختيار البيت العتيق لفريضة الحج، أن الله تعالى جعله قبلة أهل التوحيد، وأقام بناءه وشيّد دعائمه أبو الأنبياء (إبراهيم) الخليل عليه السلام، وهو أول المساجد على الإطلاق فليس ثمة معبد أقدم منه، وهو يقابل البيت المعمور في السماء، فالبيت العتيق مطاف أهل الأرض، والبيت المعمور مطاف أهل السماء. اللطيفة الثانية: قال الإمام الفخر: «إن الله أمر الخليل عليه السلام بعمارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 هذا البيت، فالآخر هو الله رب العالمين، والمبلّغ هو جبريل عليه السلام فلهذا قيل: ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالآخر هو المِلكُ الجليل، والمهندس جبريل، والباني هو الخليل، والتلميذ: إسماعيل عليه السلام» . اللطيفة الثالثة: من مزايا البيت العتيق، ذلك الأمن الذي جعله الله فيه، وذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] وقد كان الناس يتخطفون من أطراف الأرض وأهل مكة في أمن واستقرار وقد امتن الله تعالى عليهم بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] ولهذا قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لو ظفرتُ فيه بقاتل الخطاب لما مسسته حتى يخرج منه» . اللطيفة الرابعة: قال العلامة أبو السعود: «وضع (ومن كفر) موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال عليه السلام» من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً «، ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات، المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج، والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق، وأبرزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس، لا انفكاك لهم عن أدائه والخروج عن عهدته، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال. .» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: حكم الجاني في الحرم. اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فإنه يقتص منه، سواءً كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الجناية في النفس أم فيما دونها كالأطراف، وعللوا ذلك بأنّ الجاني انتهك حرمة الحرم فلم يعد يعصمه الحرم من القصاص، لأنه هو الذي أحدث فيه فيقتص منه. كما استدلوا بقوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين} [البقرة: 191] واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقتص منه في الحرم؟ على مذهبين: 1 - مذهب الحنفية والحنابلة: ذهب الإمام (أبو حنيفة) والإمام أحمد رحمهما الله إلى أنّ من اقترف ذنباً واستوجب به حداً ثم لجأ إلى الحرم عصمه لقوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله. . والآية الكريمة على تقديره (خبرٌ يقصد به الأمر) ويكون المعنى: من دخله فأمّنوه، فهو مثل قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197] أي لا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجادل. وهذا الرأي منقول عن حَبْر هذه الأمة (عبد الله بن عباس) فقد قال ابن عباس: إن جنى في الحِلّ ثم لجأ إلى الحَرَم لا يُقْتَصّ منه لكن لا يُجالس ولا يُبايع ولا يُكلّم حتى يخرج من الحرم فيقتص منه. . وهذا هو نفس مذهب الأحناف فإنهم قالوا إذا جنى ثم لجأ إلى الحرم فإنه لا يؤوي ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتص منه. وقالوا: إن الحرم له حرمة خاصة فمن لجأ إليه احتمى كما قال تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} وكما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] . ب - مذهب المالكية والشافعية: وذهب (الشافعية والمالكية) إلى أنّ من جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم فإنه يقتص منه، سواءَ كانت الجناية في النفس أو غيرها. واستدلوا ببضعة أدلة منها: ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بقتل بعض المشركين في الحرم، وقال عن (ابن خطل) اقتلوه ولو رأيتموه متعلقاً بأستار الكعبة ومنها ما ورد (إنّ الحرم لا يجير عاصياً، ولا فاراً بخربة ولا فاراً بدم) وأجابوا على قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قالوا هذا كان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الجاهلية لو أنّ إنساناً ارتكب كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم، وهذا من منن الله عزّ وجل على أهل تلك البلاد فقد جعل لهم الحرم مركز أمن واستقرار. . أما الإسلام فلم يزده إلا شدةً فمن لجأ إليه جانباً أقيم عليه الحد، كيف لا والإسلام دين القوة والحزم؟! الترجيح: ولعل الرأي الثاني هو الأوجه والأرجح، لأننا لو أخذنا بالرأي الأول - على ما فيه من وجاهة - لأصبح الحرم مركزاً لاجتماع الجُناة والمجرمين، ولاختل الأمن، لأن القاتل يقتل ثم يفر من وطنه ويأتي الحرم، لأنه يعلم أنه يحميه، وبذلك تنتشر الجرائم وتكثر المفاسد والله تعالى أعلم. الحكم الثاني: حكم حج الفقير والعبد: الفقير لا يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة، ولكنه إذا أدى الحج سقط عنه الفرض بالإجماع، وأما العبد فإنه إذا حج هل تسقط عنه الفريضة؟ قال (أبو حنيفة) : يقع حجة نفلاً ويجب عليه أن يحج متى عتق، لأنه يشبه الطفل دون البلوغ فإنه إذا حج ثم بلغ سن الرشد يجب عليه حجة الفريضة، كذلك العبد إذا حج ثم عتق يجب عليه حجة الفريضة. وقال (الشافعي) : يجزيه الحج قياساً على الفقير، واستدل بأنّ الجمعة لا تجب على فإذا صلاها سقط عنه الظهر، فكذلك الحج إذا أداه تسقط عنه حجة الفريضة، وهذا الرأي ضعيف فقد نقل عن النووي وهو من أئمة المذهب الشافعي ما يخالف ذلك حيث قال: إن مذهب الشافعية أن العبد إذا أحرم بالحج ثم عتق قبل الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه، ولعل هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين (شكلياً) لا (جوهرياً) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن وهو الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه، ولعله هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين (شكلياً) لا (جوهرياً) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وهو الوقوف بعرفة فإنه لا يجزئه ويجب عليه الحج مرة أخرى لأن الأول يقل نافلة. الحكم الثالث: هل المحْرَمْ بالنسبة للمرأة شرط لوجوب الحج؟ ذهب بعض الفقهاء إلى أن وجود المَحْرم شرط من شروط وجوب الحج وهذا هو مذهب الحنفية، ودليلهم ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثٍ إلا مع ذي رحم محرمٍ أو زوج» وهذا عام يشمل كل سفرٍ سواءً كان للحج أو غيره. . واستدلوا أيضاً روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «خطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: لا تسافر امرأة ومعها ذو محرم، فقال رجل يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا، وقد أرادت امرأتي في أن تحج، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احجج مع امرأتك» وهذا الحديث يدل على أن المرأة إذا أرادت الحج فليس لها أن تحج إلا مع زوجٍ أو ذي رحم محرم، فقد أمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يترك الجهاد وهو فرض وأن يحج مع امرأته، ولولا أن وجود المحرم واجب لما أمره بترك الجهاد والسفر مع زوجه. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ حج الفرض لا يجب فيه المحرم بشرط أمن المرأة على نفسها بأن يكون معها عدة من النسوة. . وأما حج النافلة فيجب فيه المحرم، وهم محجوبون بالأدلة التي ذكرناها مما يشير إلى أن الحج لا يجب على المرأة إلا إذا وجدت محرماً، لأن وجود المحرم من شرائط الوجوب، وهذا هو الأرجح. تنبيه هام: أقول إذا كان الإسلام لم يسمح للمرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا مع ذي محرم - والحج أحد أركان الإسلام كما نعلم وهو فريضة على الرجل والمرأة - فكيف يسمح الناس لبناتهم بالسفر إلى بلاد بعيدة، أو إلى بلدان أجنبية بحجة الدراسة وطلب العلم، وليس معهن مَحْرمٌ أو من يوافقهن من أقاربهن؟! إن هذا - بلا شك - يدل على بعد الناس عن التمسك بآداب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الإسلام وتعاليمه الرشيدة، بل يدل على فقدان الرجولة والشهامة حتى أضحى أمر سفر النساء وتبرجهن واختلاطهن بالرجال أمراً طبيعياً معتاداً وإنا لله وإنا إليه راجعون!! الحكم الرابع: ما هي شروط وجوب الحج؟ شروط وجوب الحج خمسة، وهي (1 - الإسلام 2 - العقل 3 - البلوغ، 4 - الاستطاعة، 5 - وجود محرم مع المرأة) وزاد بعضهم أمن الطريق وهو من شروط الأداء لا من شروط هي شروط لجميع التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام. . الخ، وأما الشرط الرابع وهو (الاستطاعة) فقد بينته الآية الكريمة بقوله تعالى: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} كما بينت السنة النبوية الاستطاعة بأنها ملك (الزاد والراحلة) فقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه بيت الله ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» وذلك أن الله يقول في كتابه: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} وروي عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سئل عن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقال: السبيلُ: الزادُ والراحلة) . . قال الجصاص: وليست الاستطاعة مقصورة على وجود الزاد والراحلة لأن المريض الخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزَّمِنُ وكل من تعذّر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجداً للزاد والراحلة، فدل ذلك على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يرد بقوله: الاستطاعة (الزادُ والراحلة) أن ذلك جميع شرائط الاستطاعة، وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن أمكنه المشي ولم يجد زاداً وراحلة فعليه الحج، فبيّن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي «. أما الشرط الخامس وهو (وجود المحرم للمرأة) فقد استوفينا شرحه فيما سبق والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الحكم الخامس: هل يجب الحج أكثر من مرة؟ ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر وهو رأي الجمهور إذ ليس في الآية ما يوجب التكرار وقد أكد ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال:» خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. . فقال رجل: كلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلك بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 سورة النساء [1] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 التحليل اللفظي {وَبَثَّ مِنْهُمَا} : معناه نشر وفرّق على سبيل التناسل والتوالد، ومنه {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16] أي مبسوطة، أو مفرقة في المجالس، وأصل البث: التفريق وإثارة الشيء. {تَسَآءَلُونَ بِهِ} : معناه يسأل بعضكم بعضاً به مثل: أسألك بالله، وأنشدك الله، والمفاعلة على ظاهرها أو بمعنى تسألون كثيراً. قال الزجاج: الأصل تتساءلون حذفت الثانية تخفيفاً. {والأرحام} : جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه، ثم أطلق على القرابة مطلقاً. {رَقِيباً} : الرقيب: الحفيظ المطلّع على الأعمال والمَرْقب: المكان العالي الذي يشرف عليه الرقيب، والمراد في الآية أنه تعالى مشرف على أعمالنا، مطلع على أفعالنا، لا تخفى عليه خافية، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب جل وعلا. {اليتامى} : جمع يتيم وهو الذي فقد أباه مشتق من اليتم وهو الانفراد ومنه (الدرة اليتيمة) . قال في «اللسان» : اليتيم: الذي يموت أبوه، والعجيّ: الذي تموت أمه، واللطيم: الذي يموت أبواه، وهو يتيم حتى يبلغ، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 {حُوباً} : الحُوب: الإثم قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حُوب بالضم، وتميم يقولونه بالفتح (حَوْب) قال الراغب: الحُوب الإثم، والحَوْبُ المصدر منه، وروي (طلاق أم أيوب حُوْب) وتسميته بذلك لكونه مزجوراً عنه. قال القرطبي: وأصله الزجر للإبل، فسمي الإثم به لأنه يزجر عنه وفي الحديث «اللهم اغفر حوبتي» أي إثمي. {تُقْسِطُواْ} : يُقال: أقسط الرجل إذا عدل، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة» ويقال: قسط الرجل إذا جار ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] . فالرباعي بمعنى العدل، والثلاثي بمعنى الظلم. {تَعُولُواْ} : معناه تميلوا وتجوروا يقال: عُلْتَ عليّ أي جُرت عليّ، ومنه العول في الفريضة، والعول في الأصل: الميل المحسوس، يقال: عال الميزان إذا مال ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور. وفسّر الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ {أَلاَّ تَعُولُواْ} بمعنى ألا تكثر عيالكم. {صدقاتهن} : يعني مهورهن جمع صَدُقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق بمعنى المهر، قال ابن قتيبة: وفيها لغةٌ أخرى: صَدْقة. {نِحْلَةً} : النحلة: الهبة والعطيّة عن طيب نفس أي لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة، وفسّر بعضهم النّخْلة بمعنى الفريضة والمعنى: وأعطوا النساء مهورهن فريضة من الله محتومة. {هَنِيئاً مَّرِيئاً} : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا انساغ وانحدر إلى المعدة بدون ضرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 المعنى الإجمالي افتتح الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، منبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة وهي (آدم) ، وخلق منها زوجها وهي (حواء) ، ونشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها خلائق كثيرين، فالناس جميعاً من أبٍ واحد، وهم إخوة في الإنسانية والنسب، فعلى القوي أن يعطف على الضعيف، وعلى الغني أن يساعد الفقير، حتى يتم بنيان المجتمع الإنساني. وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في موطنين: في أول الآية وفي آخرها ليشير إلى عظم حق الله على عباده، كما قرن تعالى بين التقوى وصلة الرحم {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} ليدل على أهمية هذه الرابطة العظيمة (رابطة الرحم) فعلى الإنسان أن يرعي هاتين الرابطتين: رابطة الإيمان بالله، ورابطة القرابة والرحم، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمان، ولما كان هناك حروب طاحنة مدمرة، تلتهب الأخضر واليابس، وتقضي على الكهل والوليد! وقد عقّب تعالى في الآية الثانية على (حق اليتامى) فأمر بالمحافظة على أموالهم، وعدم الاعتداء عليها لأنهم بحاجة إلى رعاية وحماية، وإلى مساعدة ومواساة، فإن الطفل اليتيم ضعيف، وظلم الضعيف ذنب عظيم عند الله. ثم أمر تعالى الرجال إذا كان في حجْر أحدهم يتيمة، ورغب في الزواج بها، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، أو يعدل إلى ما سواها من النساء، فلم يضيّق الله عليه، وأباح له أن يتزوج اثنتين، وثلاثاً، إلى أربع، فإذا خشي عدم العدل فعليه أن يقتصر على واحدة. وختم تعالى هذه الآيات بأمر الرجال بإعطاء النساء مهورهن عن طيب نفس، عطّية وهبة بسخاء، لا منّة فيها ولا استعلاء، فإذا طابت نفوسهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 عن شيء منه فليأكله الزوج حلالاً طيباً. سبب النزول أولاً: روي أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم، فلما بلغ طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت الآية {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ ... } قاله سعيد بن جبير. ثانياً: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى ... } . ثالثاً: وروى البخاري عن (عروة بن الزبير) أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك إلاّ أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. . وإن الناس استفتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هذه الآية فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء ... } [النساء: 127] الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {تَسَآءَلُونَ بِهِ} بالتخفيف، وقرأ ابن كثير ونافع (تَسّاءلون به) بالتشديد. قال الزجاج: فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين لقرب مكانهما، ومن قرأ بالتخفيف حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين. 2 - قرأ الجمهور {والأرحام} بالنصب على معنى واتقوا الأرحام، وقرأ الحسن وحمزة (والأرحامِ) . قال الزجاج: الخفض في (الأرحام) خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا تحلفوا بآبائكم» وإليه ذهب الفراء. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: إنما سميت هذه السورة (سورة النساء) لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر ممّا نزل في غيرها من السور، وفي الافتتاح بتذكير الناس أنهم خلقوا من نفسٍ واحدة، تمهيد جميل وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام الأنكحة، والمواريث، والحقوق الزوجية، وأحكام تتعلق بالنسب والمصاهرة وغيرها من الأحكام الشرعية. اللطيفة الثانية: الناس جميعاً يجمعهم نسب واحد، ويرجعون إلى أصل واحد هو (آدم) عليه السلام، ونظرية (النشوء والتطور) التي اخترعها اليهودي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 (داروين) تعارض صريح القرآن، القائل {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} فقد زعم (داروين) أن الإنسان بدأت حياته بجرثومة ظهرت على سطح الماء، ثم تحولت إلى حيوان صغير، ثم تدرّج هذا الحيوان فأصبح ضفدعاً، فسمكة، فقرداً، ثم ترقى هذا القرد فصار إنساناً. . إلخ فهذه النظرية مجرد افتراضات وهمية، ردّها العلماء بالأدلة القاطعة. اللطيفة الثالثة: سميت حواء لأنها خلقت من حي كما قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهذا رأي الجمهور، وأنكر (أبو مسلم) خلقها من ضلع آدم وقال: أي فائدة في خلقها من الضلع والله قادر على أن يخلقها من التراب؟ وزعم أن قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها، وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ (محمد عبده) في «تفسير المنار» ، وهو باطل إذ لو كان تأويل الآية كذلك لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفسٍ واحدة، وهو خلاف النص، وخلاف ما نطقت به الأحاديث الصحيحة «إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج» . وأما الفائدة فهي بيان قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يخلق حياً من حي لا على سبيل التوالد، كما أنه قادر على أن يخلق حياً من جماد كذلك، فآدم خلق من تراب، وعيسى خلق من أنثى بدون رجل، وحواء خلقت من رجل بدون أنثى، والله على كل شيء قدير. اللطيفة الرابعة: التعبير عن الحلال والحرام بالخبيث والطيب {أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} للتنفير من أكل أموال اليتامى والترغيب فيما رزقهم الله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الكسب الحلال بالاكتفاء به وعدم التشوف إلى مال اليتيم فإنه ظلم وسحت. اللطيفة الخامسة: قال أبو السعود: «أوثر التعبير عن الكبار باليتامى {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} لقرب العهد بالصغر وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم، حتى كأنّ اسم اليتيم باق غير زائل عنهم» . أقول: وهذا الإطلاق يسمى عند علماء البيان (المجاز المرسل) وعلاقته اعتبار ما كان، أي الذين كانوا يتامى. اللطيفة السادسة: أكل مال اليتيم حرام، وإن لم يضمّ إلى مال الوصي، والتقييد في الآية الكريمة {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} لزيادة التشنيع عليهم لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح وأشنع فلذلك خُصّ النهيُ به. اللطيفة السابعة: وجه المناسبة بين ذكر اليتامى ونكاح النساء في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} هو أن النساء في الضعف كاليتامى، ومن ناحية أخرى فقد كانت اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون أن يعدل معها في الصداق فنهوا عن ذلك، وقد تقدم حديث عائشة. قال أبو السعود: «وفي إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو حكم التساؤل بالأرحام؟ دلّ قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} على أن التساؤل بالرحم جائز ولا سميا على قراءة (حمزة) الذي قرأها بالجر (والأرحامِ) وبهذا قال بعض العلماء، لأنه ليس بقسم وإنما هو استعطاف فقول الرجل للآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا لا يراد منه الحلف الممنوع، وإنما هو سؤال بحرمة الأرحام التي أمر الله بصلتها، واستدلوا بحديث «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا ... » الحديث. وكره بعضهم ذلك وقال: إن الحديث الصحيح يردّه: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» فاعتبره نوعاً من أنواع القسم، وهو قول ابن عطية. قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في اللغة العربية، خطأ عظيم في أصول الدين، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا تحلفوا بآبائكم» فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم؟ . ونقل القرطبي عن (المبرّد) أنه قال: «لو صليت خلف إمام يقرأ {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} لأخذت نعلي ومضيتُ» . قال القشيري: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تواتراً يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي واستقبح ما قرأ به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وهذا مقام محذور ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يشك أحد في فصاحته. ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه «. الحكم الثاني: هل يعطى اليتيم ماله قبل البلوغ؟ دلّ قوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} على وجوب دفع المال لليتيم، وقد اتفق العلماء على أن اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ لقوله تعالى في الآيات التالية {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فقد شرطت البلوغ، وإيناس الرشد، والحكمة أن الصغير لا يحسن التصرف في ماله وربما صرفه في غير وجوه النفع، وللعلماء في تفسير هذه الآية وجهان: الوجه الأول: أن يكون المراد باليتامى البالغين الذين بلغوا سن الرشد، وسمّوا يتامى (مجازاً) باعتبار ما كان أي الذين كانوا أيتاماً. الوجه الثاني: أن المراد باليتامى الصغار، الذين هم دون سن البلوغ، والمراد بالإيتاء الإنفاق عليهم بالطعام والكسوة، أو المراد بالإيتاء ترك الأموال وحفظها لهم وعدم التعرض لها بسوء. وهذا الوجه قوي وذلك أن بعض الأوصياء كانوا يتعجلون في إنفاق مال اليتيم وتبذيره، فأمروا بالحفاظ عليه واستثماره فيما يعود بالنفع على اليتيم، حتى إذا بلغ سن الرشد سلّموه له تاماً موفوراً، ولعلّ الوجه الأول أقوى وأرجح والله أعلم. الحكم الثالث: هل الأمر في قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} للوجوب أم للإباحة؟ ذهب الجمهور إلى أن الأمر في قوله تعالى: {فانكحوا} للإباحة مثل الأمر في قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] وفي قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وقال أهل الظاهر: النكاح واجب وتمسكوا بظاهر هذه الآية، لأن الأمر للوجوب، وهم محجوبون بقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} إلى قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النساء: 25] . قال الإمام الفخر: «فحكَمَ تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خيرٌ من فعله، فدل ذلك على أنه ليس بمندوب فضلاً عن أنه واجب» . الحكم الرابع: ما معنى قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} ؟ اتفق علماء اللغة على أن هذه الكلمات من ألفاظ العدد، وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها، فمثنى تدل على اثنين اثنين، وثُلاث تدل على ثلاثة ثلاثة، ورُباع تدل على أربعة أربعة، والمعنى: انكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء، ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً حسبما تريدون. قال الزمخشري: ولما كان الخطاب للجميع وجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى. أي لو قلت للجَمع اقتسموا المال الكثير درهمين لم يضح الكلام، فإذا قلت: درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم. وفي هذه الآية دلالة على حرمة الزيادة على أربع، وقد أجمع العلماء والفقهاء على ذلك ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز التزوج بتسع نسوة بناء على أن الواو للجمع وأن المراد أن يجمع الإنسان اثنتين وثلاثاً وأربعاً. قال العلامة القرطبي: «إعلم أن هذا العدد (مثنى وثلاث ورباع) لا يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 على إباحة تسع كما قاله مَنْ بَعُد للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعَضَد ذلك بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نكح تسعاً وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة، والرافضةُ وبعض أهل الظاهر، وذهب بعضهم إلى أقبح من ذلك، فقالوا بإباحة الجمع بين (ثمان عشرة) وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، وقد أسلم (غيلان) وتحته عشر نسوة فأمره عليه السلام أن يختار أربعاً منهن ويفارق سائرهن. وقد خاطب تعالى العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول (تسعة وتقول: اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلاناً أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول (ثمانية عشر) » . أقول: إن الإجماع قد حصل على حرمة الزيادة على أربع، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء الشذّاذ المخالفين، فلا عبرة بقولهم فإنما هو محض جهل وغباء وكما يقول الشاعر: ومن أخذ العلوم بغير شيخ ... يضل عن الصراط المستقيم وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من «الفهم السقيم» أعاذنا الله من حماقة السفهاء وتطاول الجهلاء؟! ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - البشر جميعاً يرجعون إلى أصل واحدٍ، وينتسبون إلى أبٍ واحد، هو آدم عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 2 - جواز التساؤل بالله تعالى كقولهم: أسألك بالله، وأنشدك بالله. 3 - حق الرحم عظيم ولهذا أمر الله تعالى بصلة الأرحام وعدم قطيعتها. 4 - وجوب رعاية اليتيم والحفاظ على ماله ودفعه إليه عند البلوغ. 5 - إباحة نكاح النساء في حدود أربع من الحرائر وبشرط العدل بينهن في القسمة. 6 - وجوب الاقتصار على واحدة إذا خشي الإنسان عدم العدل بين نسائه. خاتمة البحث: حكمة التشريع مسألة «تعدد الزوجات» ضرورة اقتضتها ظروف الحياة، وهي ليست تشريعاً جديداً انفرد به الإسلام، وإنما جاء الإسلام فوجده بلا قيود ولا حدود، وبصورة غير إنسانية، فنظّمه وشذّبه وجعله دواءً وعلاجاً لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع. جاء الإسلام والرجال يتزوجون عشرة نسوة أو أكثر أو أقل - كما مرّ في حديث غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة - بدون حدّ ولا قيد، فجاء ليقول للرجال: إن هناك حداً لا يحل تجاوزه هو (أربع) وإن هناك قيداً وشرطاً لإباحة هذه الضرورة في (العدل بين الزوجات) فإذا لم يتحقق ذلك وجب الاقتصار على واحدة {فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} . فهو إذاً نظام قائم وموجود منذ العصور القديمة، ولكنه كان فوضى فنظّمه الإسلام، وكان تابعاً للهوى والاستمتاع باللذائذ، فجعله الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 سبيلاً للحياة الفاضلة الكريمة. والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان أن «إباحة تعدد الزوجات» مفخرة من مفاخر الإسلام، لأنه استطاع أن يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل، تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا تجد لها حلاً إلا بالرجوع إلى حكم الإسلام، وبالأخذ بنظام الإسلام. إن هناك أسباباً قاهرة تجعل التعدد ضرورة كعقم الزوجة، ومرضها مرضاً يمنع زوجها من التحصن، وغير ذلك من الأسباب التي لا نتعرض لذكرها الآن، ولكن نشير إلى نقطة هامة يدركها المرء ببساطة. إن المجتمع في نظر الإسلام كالميزان يجب أن تتعادل كفتاه، ومن أجل المحافظة على التوازن يجب أن يكون عدد الرجال بقدر عدد النساء، فإذا زاد عدد الرجال على عدد النساء، أو بالعكس فكيف نحل هذه المشكلة؟ ماذا نصنع حين يختل التوازن ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرجال؟ أنحرم المرأة من (نعمة الزوجية) و (نعمة الأمومة) ونتركها تسلك طريق الفاحشة والرذيلة كما حصل في أوربا من جراء تزايد عدد النساء بعد الحرب العالمية الأخيرة؟ أم نحل هذه المشكلة بطرقٍ شريفة فاضلة نصون فيها كرامة المرأة، وطهارة الأسرة، وسلامة المجتمع؟ أيهما أكرم وأفضل لدى العاقل أن ترتبط المرأة برباط مقدس تنضم فيه مع امرأة أخرى تحت حماية رجل بطريق شرعي شريف، أم نجعلها خدينةً وعشيقة لذلك الرجل وتكون العلاقة بينهما علاقة إثم وإجرام؟! لقد اختارت ألمانيا (المسيحية) التي يحرم دينها التعدد، فلم تجد خيرة لها إلاّ ما اختاره الإسلام فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الألمانية من احتراف البغاء، وما يتولد عنه من أضرار فادحة وفي مقدمتها كثرة اللقطاء. تقول أستاذة ألمانية في الجامعة: (إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 في إباحة تعدد الزوجات ... إنني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه. . إن هذا ليس رأي وحدي بل هو رأي نساء كل ألمانيا) . وفي عام 1948 ميلادية أوصى مؤتمر الشباب العالمي في (ميونخ) بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة تكاثر النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد حلّ الإسلام المشكلة بأشرف وأكرم الطرق، بينما وقفت المسيحية مكتوفة الأيدي لا تبدي ولا تعيد، أفلا يكون للإسلام الفضل الأكبر لحل مثل هذه الظاهرة التي تعاني منها أمم لا تدين بدين الإسلام؟! ويجدر بي أن أنقل هنا بعض فقرات لشهيد الإسلام (سيد قطب) من كتابه «السلام العالمي في الإسلام» حيث قال تغمده الله بالرحمة: «إن ثرثرةً طويلةً عريضة تتناثر حول حكاية» تعدد الزوجات «في الإسلام، فهل هي حقيقة تلك الآفة الخطرة في حياة المجتمع؟ إنني أنظر فأرى كل مشكلة اجتماعية قد تحتاج إلى تدخل من التشريع إلاّ مسألة تعدد الزوجات فإنها تحل نفسها بنفسها. . إنها مسألة تتحكم فيها الأرقام، ولا تتحكم فيها النظريات ولا التشريعات. في كل أمة رجال ونساء، ومتى توازن عدد الرجال مع عدد النساء فإنه يتعذر عملياً أن يحصل رجل واحد على أكثر من امرأة واحدة. فأما حين يختل توازن الأمة، فيقل عدد الرجال عن النساء كما في الحروب، والأوبئة التي يتعرض لها الرجال أكثر، فهنا فقط يوجد مجال لأن يستطيع رجل تعديد زوجاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فلننظر إذاً في هذه الحالة وأقر الأمثلة لها الآن (ألمانيا) حيث توجد ثلاث فتيات مقبال كل شاب، وهي حالة اختلال اجتماعي، فكيف يواجهها المشرع؟ { إن هناك حلاً من حلول ثلاثة: الحل الأول: أن يتزوج كل رجل امرأة، وتبقى اثنتان لا تعرفان في حياتهما رجلاً، ولا بيتاً، ولا طفلاً، ولا أسرة. والحل الثاني: أن يتزوج كل رجل امرأة فيعاشرها زوجته، وأن يختلف إلى الأخريين أو واحدة منهما لتعرف الرجل دون أن تعرف البيت أو الطفل، فإذا عرفت الطفل عرفته عن طريق الجريمة، وحملته ذلك العار والضياع. والحل الثالث: أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة، فيرفعها إلى شرف الزوجية، وأمان البيت، وضمانة الأسرة، ويرفع ضميره عن لوثة الجريمة، وقلق الإثم، وعذاب الضمير، ويرفع المجتمع عن لوثة الفوضى واختلاط الأنساب. أي الحلول أليق بالإنسانية، وأحق بالرجولة، وأكرم للمرأة ذاتها وأنفع؟} «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 رعاية الإسلام لأموال اليتيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 التحليل اللفظي {السفهآء} : أصل السفه في اللغة الخفة والحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر إذا أمالته، ورجل سفيه إذا كان ناقص التفكير خفيف الحلم، والمراد به هنا الذي لا يحسن التصرف في ماله، أو يبذره في غير الطرق المشروعة. قال في «الكشاف» : «السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها» . {قياما} : أي به معاشكم وقوام حياتكم. قال ابن قتيبة: قياماً وقواماً بمنزلة واحدة تقول: هذا قوام أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك. {وابتلوا} : الابتلاء: الاختبار أي اختبروا عقولهم وتصرفهم في أموالهم. {آنَسْتُمْ} : أي علمتم وقيل: رأيتم، وأصل الإيناس: الإبصار ومنه قوله تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً؟ أي تبصّر. {رُشْداً} : الرشد الاهتداء إلى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال. {إِسْرَافاً} : الإسراف مجاوزة الحد والإفراط في الشيء، والسرف والتبذير. {وَبِدَاراً} : معناه مبادرة أي مسارعة، والمراد أن يسارع في أكل مال اليتيم خشية أن يكبر فيطالبه به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 {فَلْيَسْتَعْفِفْ} : استعفّ عن الشيء كفّ عنه وتركه، وهو أبلغ من (عفّ) كأنه طلب زيادة العفة. {حَسِيباً} : أي محاسباً لأعمالكم ومجازياً لكم عليها. قال الأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، ومن الثاني قولهم: حسبك الله أي كافيك الله. قال تعالى: {ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] . {القسمة} : المراد بالقسمة في الآية قسمة التركة بين المستحقين من الأقرباء. {أُوْلُواْ القربى} : المراد بهم الأقرباء الذين لا يرثون لكونهم محجوبين، أو لكونهم من ذوي الأرحام. {قَوْلاً مَّعْرُوفاً} : أي قولاً طيباً لطيفاً فيه نوع من الاعتذار، وتطييب الخاطر، قال سعيد بن جبير: يقول الولي للقريب: خذ بارك الله فيك، إني لست أملك هذا المال إنما هو للصغار. {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} : أي سيدخلون ويذوقون ناراً حامية مستعرة يصطلي الإنسان بحرّها ولهبها. المعنى الإجمالي نهى الله سبحانه وتعالى الأولياء عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال، التي جعلها الله للناس قياماً، تقوم بها حياتهم ومعايشهم، وأمر بالإنفاق عليهم بشتى أنواع الإنفاق من الكسوة والإطعام وسائر الحاجات، كما أمر تعالى باختبار اليتامى حتى إذا رأوا منهم صلاحاً في الدين، وحفظاً للأموال، فعلى الأوصياء أن يدفعوا إليهم أموالهم من غير تأخير، وعليهم ألاّ يبذّروها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ويفرطوا في انفاقها، ويقولوا: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا، فمن كان غنياً فليكفّ عن مال اليتيم، ومن كان فقيراً فليأكل بقدر الحاجة، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم لئلا يجحدوا تسلمها وكفى بالله محاسباً ورقيباً. ثم بيّن تعالى أن للرجال نصيباً من تركة أقربائهم، كما للنساء، فرضها الله لهم بشرعه العادل وكتابه المبين، وأمر بإعطاء أولي القربى واليتامى والمساكين من غير الوارثين شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم وإحساناً إليهم. ثم حذَّر تعالى الأوصياء من الظلم للأيتام الذين جعلهم الله تحت رعايتهم ووصايتهم، وأمرهم بالإحسان إليهم، فكما يخشى الإنسان على أولاده الصغار الضعاف بعد موته، عليه أن يتقي الله في هؤلاء الأيتام فكأنه تعالى يقول: افعلوا باليتامى، كما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم. ثم ختم تعالى الآيات ببيان جزاء الظالمين الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وعدواناً، وبيّن أنهم إنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة، وسيدخلون السعير وهي نار جهنم المستعرة أعاذنا الله منها. سبب النزول أولاً: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الولدان الصغار شيئاً، ويجعلون الميراث للرجال الكبار فأنزل الله {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون ... } الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ثانياً: وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له: (أوس بن ثابت) وترك ابنتين وابناً صغيراً فجاء ابنا عمه فأخذوا ميراثه كله. فقالت امرأته لهما تزوجا بهما - وكان بهما دمامة - فأبيا فأتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبرته فنزلت الآية: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} فأرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهما فقال لهما: لا تحركا من الميراث شيئاً فقد أخبرت أن للذكر والأنثى نصيباً، ثم نزل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11] . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} ، وقرأ نافع وأهل المدينة (قِيَماً) بدون ألف. 2 - قرأ الجمهور {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} بضم الراء، وقرأ السلمي (رَشَداً) بفتح الراء والشين. 3 - قرأ الجمهور {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} وقرأ ابن عامر وعاصم (وسَيُصْلُون) بالبناء للمجهول. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {إِسْرَافاً وَبِدَاراً} مفعول لأجله ويجوز أن تعرب حالاً أي لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم، وقوله (أن يكبروا) في محل نصب ب (بداراً) . ثانياً: قوله تعالى: {وكفى بالله حَسِيباً} الباء زائدة ولفظ الجلالة فاعل و (حسبباً) تمييز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ثالثاً: قوله تعالى: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} نصيباً منصوب على المصدر و (مفروضاً) صفة له. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أضاف أموال اليتامى إلى الأوصياء مع أنها أموال اليتامى للتنبيه إلى التكافل بين أفراد الأمة، والحث على حفظ الأموال وعدم تضييعها، فإن تبذير السفيه للمال فيه مضرة للمجتمع، وهو كقوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] عبّر عن قتل الغير بقتل النفس لهذه الرابطة بين أفراد المجتمع. قال الفخر الرازي:» المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه، فلأجل هذه (الوحدة النوعية) حسنت إضافة أموال السفهاء إلى الأولياء «. اللطيفة الثانية: لمّا كان المال سبباً لبقاء الإنسان وقيام شؤون حياته ومعاشه، سمّاه تعالى بالقيام إطلاقاً لاسم (المسبَّب) على (السبب) على سبيل المبالغة. ولهذا كان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خيرٌ من أن أحتاج إلى الناس. اللطيفة الثالثة: قال صاحب «الكشاف» : «الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة، أو على أن المعتبر هو حصول طرفٍ من الرشد، وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 اللطيفة الرابعة: لفظ (استعفّ) أبلغ من (عفّ) كأنه يطلب زيادة العفة قاله أبو السعود. وفي لفظ الاستعفاف، والأكل بالمعروف، ما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه بتدبير مال اليتيم، وقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: «إنّ في حجْري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف، غير متأثل مالاً، ولا واقٍ مالك بماله، قال: أفأضربه؟ قال: ممّا كنت ضارباً منه ولدك» . اللطيفة الخامسة: في اختيار هذا الأسلوب التفصيلي، مع أنه كان يكفي أن يقول: للرجال والنساء نصيبُ مما ترك الوالدان والأقربون ... إلخ للاعتناء بأمر النساء، والإيذان بآصالتهن في استحقاق الإرث، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: كيف نعطي المال من لا يركب فرساً، ولا يحمل سلاحاً، ولا يقاتل عدواً؟ فلهذا فصّل الله تعالى الحكم بطريق (الإطناب) فتدبر أسرار الكتاب المجيد. اللطيفة السادسة: ذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتأكيد والمبالغة، فهو كقول القائل: أبصرتُ بعيني، وسمعتُ بأذني وكقوله تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وقوله: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة، وفي الآية أيضاً تشنيع على آكل مال اليتيم حيث صرف المال في أخس الأشياء. اللطيفة السابعة: قال القرطبي: «سمي المأكول ناراً باعتبار ما يؤول إليه كقوله تعالى: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] أي عنباً يؤول إلى الخمر، وقيل: المراد بالنار الحرام لأن الحرام يوجب النار فسمّاه الله تعالى باسمه» . اللطيفة الثامنة: قال الفخر الرازي: «وما أشد دلالة هذا الوعيد {إِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى، وذلك كله من رحمة الله تعالى باليتامى» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد بالسفهاء في الآية الكريمة؟ اختلف المفسرون في المراد بالسفهاء في الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به الصبيان والأولاد الصغار الذين لم يكتمل رشدهم وهو منقول عن الزهري وابن زيد. وقال بعضهم: المراد به النساء المسرفات سواءً كنّ أزواجاً أو أمهات أو بنات وهو منقول عن مجاهد والضحاك. وقيل: المراد به النساء والصبيان وهو قول الحسن وقتادة وابن عباس. وقال آخرون: المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهذا القول أصح وهو اختيار الطبري لأن اللفظ عام والتخصيص بغير دليل لا يجوز. قال الطبري: «إن الله جل ثناؤه عمّم، فلم يخص سفيهاً دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهاً ماله، صبياً صغيراً كان، أو رجلاً كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله، وفساده وإفساده، وسوء تدبيره» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الحكم الثاني: هل يحجر على السفيه؟ استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على وجوب (الحجر على السفيه) لأنّ الله تعالى نهانا عن تسليم السفهاء أموالهم حتى نأنس منهم الرشد، ويبلغوا سنّ الاحتلام. والحجر على أنواع: فتارة يكون (الحجر للصغر) فإن الصغر قاصر النظر مسلوب العبارة. وتارة يكون (الحجر للجنون) فإن المجنون فاقد الأهلية في العقود لعدم العقل. وتارة يكون (الحجر للسفه) كالذي يبذّر المال، أو يسيء التصرف في ماله لنقض عقله ودينه. وتارة يكون (الحجر للإفلاس) كالذي تحيط الديون به ويضيق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه، فكل هؤلاء يحجر عليهم للأسباب التي ذكرناها. وقد اتفق الفقهاء على أن الصغير لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ سنّ الاحتلام، ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فقد شرطت الآية شرطين: الأول: البلوغ، والثاني: الرشد وهو حسن التصرف في المال، وقال الشافعي: لا بدّ أن ينضم الصلاح في الدين، مع حسن الصلاح في المال، فالفاسق يحجر عليه عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة. وسبب الخلاف يرجع إلى معنى (الرشد) وقد نقل ابن جرير أقوال السلف في تفسير الرشد كقول مجاهد هو (العقل) وقول قتادة هو الصلاح في (العقل والدين) وقول ابن عباس هو (الصلاح في الأموال) ثم قال: «وأولى هذه الأقوال عندي في معنى الرشد (العقل وإصلاح المال) لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجراً في دينه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 أقول: ليس كل فاسق يحجر عليه لأن في الحجر إهداراً للكرامة الإنسانية، وإنما يقال: إذا كان فسقه ممّا يتناول الأموال المالية، كإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر عليه، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلاً فلا يجب الحجر، وهذا هو نفس ما رجحه شيخ المفسرين الطبري وأرشدت إليه الآية الكريمة بطريق الإشارة، حيث جاء لفظ الرشد منكّراً، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} أي نوعاً من الرشد وهو حسن التصرف في أمور المال، ولم يأت معرفاً والمقصود الأكبر في هذا الباب إنما هو الرشد الذي ينافي الإسراف في المال، فما اختاره ابن جرير قوي من هذه الوجهة والله أعلم. الحكم الثالث: هل يحجر على الكبير؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيهاً. وذهب أبو حنيفة إلى أن من بلغ خمساً وعشرين سنة سلّم له ماله سواءً كان رشيداً أو غير رشيد. قال العلامة القرطبي: «واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهور الفقهاء يحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلاّ أن يكون مفسداً لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسداً أو غير مفسد لأنه يصير جَدّاً، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جداً» . أقول: الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وهو مذهب الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) أيضاً، ولا عبرة بكبر السن فرب رجل يبلغ الخمسين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 العمر وهو سفيه الحلم يسرف ماله ويبذره فيجب الحجر عليه، وذلك أن الصبي إنما منع من ماله لفقد العقل الهادي إلى حفظ المال، وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى قائماً بالشيخ والشاب، كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لظاهر الآية الكريمة. وقد قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «إن الرجل لتنبت لحيته ويشيب وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء فيها» . الحكم الرابع: هل يباح للوصي أن يأكل من مال اليتيم؟ دلّ قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} على أن للوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان فقيراً بمقدار الحاجة من غير إسراف، وإذا كان غنياً وجب عليه أن يتعفف عن مال اليتيم، ويقنع بما رزقه الله من الغنى، وقد اتفق العلماء على جواز أخذ قدر الكفاية بالمعروف عند الحاجة واختلفوا هل عليه الضمان إذا أيسر؟ فذهب بعضهم إلى أنه لا ضمان عليه لأن الله تعالى أباح له الأكل بالمعروف فكان هذا مثل الأجرة، وهذا مروي عن الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ. وذهب آخرون إلى وجوب الضمان واستدلوا بما روي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت» . وقال الحنفية فيما رواه الجصاص عنهم أنه لا يأخذ على سبيل القرض، ولا على سبيل الابتداء سواءً كان غنياً أو فقيراً، واحتجوا بعموم الآيات {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] ، {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى} ، {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 قال الجصاص فهذه محكم حاصرة لمال اليتيم على وصيّه، وقوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} متشابه محتمل فوجب رده إلى تلك المحكمات. وروي عن ابن عباس أنه قال: {وَمَن كَانَ فَقِيراً} الآية نسختها {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} إلخ. الترجيح: وقد جرح الطبري القول الأول وهو جواز الأخذ على وجه الاستقراض حيث قال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} المراد أكل مال التيم عند الضرورة والحاجة إليه، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه فغير جائز له أكله» . أقول: ولعلَّ هذا القول أرجح، لأنه جمع بين النصوص والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - وجوب الحجر على السفهاء حتى يتبيّن رشدهم وإصلاحهم للأموال. 2 - الانفاق على المحجور عليه بالطعام والكسوة وسائر وجوه الإنفاق. 3 - اختبار حال الأيتام عند البلوغ قبل تسليمهم المال لمعرفة دلائل الرشد. 4 - ضرورة الإشهاد عند تسليم اليتامى أموالهم خشية الجحود والإنكار. 5 - تقرير الإسلام لمبدأ الميراث وجعله حقاً للذكور والإناث في مال الأقرباء. 6 - وجوب الإحسان إلى اليتامى والخشية عليهم كما يخشى الإنسان على أولاده من بعده. 7 - الإعتداء على أموال اليتامى من الكبائر التي توجب عذاب النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 [3] المحرمات من النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 التحليل اللفظي {كَرْهاً} : الكَره بفتح الكاف بمعنى الإكراه يقال: افعل هذا طوعاً أو كَرْهاً، وبضم الكاف (كُرْهاً) بمعنى المشقة قال تعالى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} [الأحقاف: 15] . قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال الفراء: الكَرْهُ بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة، فما أكره عليه فهو (كَرْه) بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو (كُره) بالضم. {تَعْضُلُوهُنَّ} : العضل في اللغة: المنع ومنه الداء العضال، وقد تقدم بيانه بالتفصيل. {قِنْطَاراً} : القنطار المال الكثير، وهو تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة. {بُهْتَاناً} : البهتانُ الكذب الذي يتحير منه صاحبه ثم صار يطلق على الباطل. {أفضى} : أي وصل، وأصله من الفضاء الذي هو السعة. قال في «اللسان» : وأفضى فلان إلى فلان وصل إليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه، والفضاء المكان الواسع من الأرض. وقال الجوهري: أفضى الرجل إلى امرأته باشرها وجامعها وقال الفراء: الإفضاء الخلوة وإن لم يجامعها. قال ابن عباس: الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني. {مِّيثَاقاً غَلِيظاً} : أي عهداً شديداً مؤكداً، وهو عقد النكاح الذي ربط الزوجين برباط شرعي مقدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 {سَلَفَ} : أي مضى وانقضى، والسلفُ من تقدم من الآباء وذوي القربى. {فَاحِشَةً} : الفاحشة في اللغة: النهاية في القبح سميت فاحشة لأنها تناهت في القبح والشناعة. {وَمَقْتاً} : أصل المقت: البغضُ من مقته إذا أبغضه. قال الراغب: المقت البغض الشديد لمن تعاطى القبح، وكان يسمى تزوجُ الرجل امرأة أبيه (نكاح المقت) . {وَرَبَائِبُكُمُ} : جمع ربيبة وهي بنت المرأة من زوج آخر، سميت بذلك لأنها تتربى في حجر الزوج فهي مربوبة، فعيلة بمعنى (مفعولة) . قال الرازي: الربيبة بنت امرأة الزوج من غيره ومعناها مربوبة لأن الرجل هو الذي يقوم بتربيتها. {حُجُورِكُمْ} : الحَجِرّ بالفتح والكسر: الحضن وهو مكان ما يحجره الإنسان ويحوطه بين عضديه وساعديه، ويقال فلان في حَجْر فلان أي في كنفه ورعايته وفي تربيته، والسبب في هذه الاستعارة أنّ كل من ربي طفلاً أجلسه في حجره، فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال: فلان في حضانة فلان، وأصله من الحضن. {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} : قال في «القاموس» : «ودخل بامرأته كناية عن الجماع، وغلب استعماله في الوطء الحلال، والمرأة مدخول بها، ومنه الدخلة ليلة الزفاف» . {وحلائل} : أي زوجات جمع حليلة سميت بذلك لأنها تحل لزوجها ويحل لها فكلٌ منهما حلال للآخر، ويقال للزوج: حليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 {والمحصنات} : يعني ذوات الأزواج، وأصل الإحصان في اللغة المنع، والحَصَان بالفتح المرأة العفيفة قال تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] وستأتي معاني الإحصان في سورة النور إن شاء الله. {مُّحْصِنِينَ} : أي متعففين عن الزنى. {مسافحين} : السفاح والمسافحة الفجور، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب، قال تعالى {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] ويقال: فلان سفّاح أي سفاك للدماء، وسمى الزنى سفاحاً لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون لا يحل لكم أن ترثوا نكاح النساء على كره منهن، ولا أن تمنعوهن من الزواج بعد تطليقكم لهن، أو تضيقوا عليهن حتى تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من ميراث أو صداق، إلاّ إذا أتين بفاحشة من الفواحش كالبذاءة باللسان، والنشوز على الزوج، والوقوع في المنكرات كالزنى وغيره فلكم حينئذٍ أن تعضلوهن حتى يفتدين أنفسهن منكم، لأن الله لا يحب الظلم أياً كان مصدره. ثم أمر تعالى بحسن الصحبة والمعاشرة للأزواج بالمعروف، فإذا كره الرجل زوجته فليصبر عليها، وليستمرّ في إحسانه إليها، فعسى أن يرزقه الله منها ولداً تقر به عينه، وعسى أن يكون في هذا الشيء المكروه الخير الكثير، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها، وكنتم قد أعطيتم المطلّقة مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه ظلماً وعدواناً؟ وكيف يباح لكم أخذه وقد استمتعتم بهن بالمعاشرة الزوجية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وبالاتصال الجنسي (الجماع) واستحللتم فروجهن بكلمة الله (عقد النكاح) فكيف تأخذون ما دفعتم لهن من المهور بعد هذا الميثاق؟ ثم بين تعالى ما يحرم على الرجال نكاحهن من المحارم، وهنّ (المحرمات من النساء) فبدأ بحلائل الآباء، وأبطل ما كان العرب يفعلونه في جاهليتهم من نكاح الولد لزوجة أبيه، لأنه أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة، إذ كيف يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ ثم عدّد تعالى المحرمات بالنسب وهن (الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت) والمحرمات من الرضاعة وذكر منهن (الأمهات والأخوات) والمحرمات بالمصاهرة وهن (أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الابن، والجمع بين الأختين) وأحل ما سوى ذلك من النساء كما سنوضحه بالتفصيل عند ذكر الأحكام إن شاء الله تعالى. في الآيات السابقة من أول سورة النساء نهى الله جل ثناؤه عن كثير من عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال ونكاح اليتيمات من غير صداق، وعن الظلم الذي كانو عليه في أمر الميراث حيث كانوا يحرمون المرأة والصغير من الميراث بحجة أن هؤلاء لا يستطيعون الذود عن العشيرة، ولا حمل السلاح إلى آخر ما هنالك من مظالم اجتماعية، وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لبيان نوع آخر من الظلم كانت تتعرض له النساء في الجاهلية وهو اعتبارهن كالمتاع ينتقل بالإرث من إنسان إلى آخر، فقد كانوا يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله، فحرّم الله ذلك وأمر بإحسان معاشرتهن وصحبتهن، ودعا إلى إنصافهن من ذلك الظلم الصارخ والعدوان المبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 سبب النزول أولاً: روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} . ثانياً: وروي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا مات الرجل، جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله، وألقى عليها ثوباً، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها فنهوا عن ذلك ونزل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} . ثالثاً: وروي أن (أبا قيس بن الأسلت) لما توفي خطب ابنه (قيس) امرأته فقالت: إنما أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستأمره، فأتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تستأذنه وقالت: إنما كنت أعده ولداً فما ترى؟ فقال لها: ارجعي إلى بيتك، فنزلت هذه الآية {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} الآية. وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} بفتح الكاف، وقرأ حمزة والكسائي (كُرْهاً) بضمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 2 - قرأ الجمهور {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} بكسر الياء، وقرأ ابن كثير وعاصم (مبيَّنة) بفتح الياء. 3 - قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر {وَأُحِلَّ لَكُمْ} بالضم وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الهمزة والحاء. أولاً: قوله تعالى: {أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} أن ترثوا في موضع رفع فاعل يحل و (كرهاً) مصدر في موضع نصب على الحال من المفعول والتقدير: لا يحل لكم إرث النساء مكرهاتٍ. ثانياً: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} استثناء منقطع وقيل هو استثناء متصل تقديره: ولا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة. ثالثاً: قوله تعالى: {بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} المصدران منصوبان على الحال بتأويل الوصف أي اتأخذونه باهتين وآثمين و (مبيناً) صفة منصوب. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: التعليل في قوله تعالى: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} إطماع للأزواج بالصبر على نسائهن وحسن معاشرتهن حتى في حالة الكراهية لهن، فربّ شيء تكرهه النفس يكون فيه الخير العظيم، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أرشدت الآية إلى قاعدة عامة لا في النساء خاصة بل في جميع الأشياء، وهذا هو السر في قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} ولم يقل: وعسى أن تكرهوا امرأة مع أن الوصية في الآية حول الإحسان إلى النساء، فتدبره فإنه دقيق. اللطيفة الثانية: كنى الله عَزَّ وَجَلَّ عن الجماع بلفظ الإفضاء {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وهي كناية لطيفة مثل (الملامسة، والمماسة، والقربان، والغشيان) وكلها كنايات عن الجماع، وفي ذلك تعليم للأمة الأدب الرفيع ليتخلقوا بأخلاق القرآن قال ابن عباس: «الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني» والكناية إنما تكون فيم لا يحسن التصريح به. اللطيفة الثالثة: قال القرطبي: «خطب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال:» أيها الناس لا تغالوا في صدقات النساء (مهورهن) فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أحداً من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا؟ يقول الله سبحانه وتعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أصابت امرأة وأخطأ عمر، كلّ الناس أفقه منك يا عمر وترك الإنكار «. اللطيفة الرابعة: قال صاحب» الكشاف «:» الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ... « قال الشهاب الخفاجي: بل صحبة يوم قرابة وقد قالوا: صحبةُ يوم نسبٌ قريبُ ... وذمةٌ يعرفها اللبيبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 اللطيفة الخامسة: قال الرازي:» مراتب القبح ثلاثة، القبح في العقول، وفي الشرائع، وفي العادات، فقوله (إنه كان فاحشة) إشارة إلى القبح العقلي، وقوله (مقتاً) إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله (وساء سبيلاً) إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح «. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو مقدار المهر المفروض في الشريعة الإسلامية؟ المهر في الشريعة الإسلامية هبة وعطية، وليس له قدر محدّد، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، فتركت الشريعة التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته وحسب حالته، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا حدّ لأكثر المهر لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} . قال العلامة القرطبي:» في هذه الآية دليل على جواز المغالاة في المهور، لأن الله تعالى لا يمثّل إلاّ بمباح، وذكر قصة عمر وفيها قوله «أصابت امرأة وأخطأ عمر» وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة في المهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة» ثم قال: وأجمع الفقهاء على ألا تحديد في أكثر الصداق «. وأمّا أقل المهر فقد اختلفوا فيه على أقوال: أ - أقلة ثلاثة دراهم (ربع دينار) وهو مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ب - أقله عشرة دراهم (دينار) وهو مذهب أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. ج - لا حدّ لأقله ويجوز بكل شيء له قيمة وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله. قال الحافظ وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء. قال العلامة القرطبي: «تعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: {بأموالكم} في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح ويعضده قوله عليه السلام» لو أن رجلاً أعطى ملء يديه طعاماً كانت به حلالاً «وأنكح سعيد بن المسيب ابنته من (عبد الله بن وَدَاعة) بدرهمين. قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمناً لشيء أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقاً، وهذا قول جمهور أهل العلم وأهل الحديث، كلهم أجاز الصداق بقليل المال وكثيره» . حجة المالكية والأحناف: أن الشيء الحقير لا يصلح مهراً، ولا بدّ في المهر من قدر معلوم من المال، ولما كانت يد السارق لا تقطع إلاّ في دينار (على قول أبي حنيفة) وفي ربع دينار (على قول مالك) اعتبر هذا القدر في المهر قياساً على حد السرقة. واستدل أبو حنيفة: بما رواه جابر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا صداق دون عشرة دراهم» . الترجيح: أقول ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح فقد زوّج عليه السلام أحد الصحابة على ما يحفظه من القرآن (زوجتكها بما معك من القرآن) وقال لشخص: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، وزوج سيد التابعين (سعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 بن المسيب) ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد، والأصل في المقادير إثباتها بطريق الشرع، وليس ثمة حديث صحيح في أقل الصداق يصلح حجة كما قال الحافظ والله أعلم. الحكم الثاني: ما المراد بالميثاق الغليظ في الآية الكريمة؟ قال الضحاك وقتادة: هو العهد الذي أخذ عليهم من إحسان العشرة إلى النساء في قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] . وقال مجاهد وعكرمة: المراد بالميثاق الغليظ هو (عقد النكاح) وقد دل عليه قوله عليه السلام: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . الحكم الثالث: ما هي المحرمات التي أرشدت إليها الآية الكريمة؟ المحرمات التي يحرم الزواج بهن ثلاثة أنواع وهن كالآتي: 1 - محرمات بالنسب 2 - محرمات بالرضاع 3 - محرمات بالمصاهرة. المحرمات من النسب: أشارت الآية الكريمة إلى تحريم سبعة من النسب وهنّ: (الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنت الأخت) وهؤلاء يحرم الزواج بهن على التأبيد، أي أنه لا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال، ويدخل في الأمهات الجدات وإن علون، كما يدخل في البنات بناتهن وإن سفلن، وكذلك الأخوات سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم، والعمات والخالت وإن علون سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم، والعمات والخالات وإن علون سواء كن من جهة الأب أو الأم. المحرمات من الرضاع: والمحرمات من الرضاع سبع أيضاً كما هو الحال في النسب لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» والآية الكريمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 لم تذكر من المحرمات بالرضاع سوى (الأمهات، والأخوات) والأم أصل والأخت فرع، فنبّه بذلك على جميع الأصول والفروع، ووضحت السنة النبوية ذلك بالتفصيل وبصريح العبارة كما في الحديث السابق، وقد ثبت في الصحاح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال عن ابنة حمزة «إنها ابنة أخي من الرضاعة» . المحرمات بسبب المصاهرة: وأما المحرمات بسبب المصاهرة فقد ذكرت الآية الكريمة منهن أربعاً وهنّ كالتالي: أ - زوجة الأب لقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} . ب - زوجة الابن لقوله تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} . ج - أم الزوجة لقوله تعالى: {وأمهات نِسَآئِكُمْ} . د - بنت الزوجة إذا دخل بأمها لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . والأصل في هذا أن أم الزوجة تحرم بمجرد العقد على البنت، ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم الآية الكريمة {الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وقد استنبط العلماء من ذلك هذه القاعدة الأصولية وهي: (العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات) . تنبيه: الربيبة (بنت الزوجة) التي دخل بأمها تحرم على الزوج سواء كانت في حَجْره أو لم تكن في حجره، والتقييد في قوله {الاتي فِي حُجُورِكُمْ} ليس للشرط أو للقيد وإنما هو لبيان الغالب، لأن الغالب أنها تكون مع أمها ويتولى الزوج تربيتها وهذا بإجماع الفقهاء فتدبره. المحرمات حرمة مؤقتة وقد أشارت الآية الكريمة إلى من يحرم الزواج بهن حرمة مؤقتة وذكرت نوعين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أ - الجمع بين الأختين لقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} وألحقت السنة المطهرة (الجمع بين المرأة وعمتها) و (الجمع بين المرأة وخالتها) زيادة على الجمع بين الأختين. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. والحكمة في ذلك خشية القطيعة لحديث ابن عباس: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطّعتم أرحامكم» . ب - زوجة الغير أو معتدته رعاية لحق الزوج لقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النسآء} أي المتزوجات من النساء، والمعتدة حكمها حكم المتزوجة ما دامت في العدة، وقد مر حكمها سابقاً في سورة البقرة [235] في قوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} وبينّا الحكمة في ذلك فارجع إليها هناك والله يتولاك. الحكم الرابع: هل وطء أم الزوجة يحرّم الزوجية؟ اختلف العلماء في الزنى بأم الزوجة أو بنتها هل يحرّم الزوجية أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والصاحبان إلى القول بالتحريم، وهو قول الثوري والأوزاعي وقتادة. وذهب الشافعي إلى القول بعدم التحريم لأن الحرام لا يحرّم الحلال وهو قول الليث والزهري ومذهب (مالك) رَحِمَهُ اللَّهُ وهي رواية «الموطأ» . وسبب الخلاف هو اختلافهم في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء أم في العقد؟ فمن قال: إن المراد به في الآية الوطء حرّم من وطئت ولو بزنى، ون قال: إن المراد به العقد لم يحرم الزنى. فالحنفية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح الوطء، وقالوا: إن النكاح في الوطء حقيقة، وفي العقد مجاز، والحمل على الحقيقة أولى حتى يقوم الدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء فلا فرق بين الوطء الحلال، والوطء الحرام. والشافعية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح العقد، وقالوا: مما يدل له من جهة النظر أن الله جعل الحرمة للمصاهرة تكريماً لها، كما جعل الحرمة من النسب تكريماً للنسب، فكيف تجعل هذه الحرمة للزنى وهو فاحشة ومقت؟! قال الشافعي في «الأم» : «فإن زنى بامرأة أبيه، أو أم امرأته فقد عصى الله ولا تحرم عليه امرأته ولا على أبيه ولا على ابنه، لأن الله إنما حرّم بحرمة الحلال تعزيزاً لحلاله، وزيادة في نعمته بما أباح منه، وأثبت به الحرم التي لم تكن قبله وأوجب بها الحقوق، والحرام خلاف الحلال» . الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لقوة دليلهم فقد روى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزنى بأم امرأته بعدما يدخل بها فقال: تخطّى حرمتين ولم تحرم عليه امرأته، وروي أنه قال: لا يحرم الحرام الحلال. الحكم الخامس: حكم المتعة وآراء الفقهاء فيها. تعريف المتعة: المتعة هي أن يستأجر الرجل المرأة إلى أجل معين بقدر معلوم، وقد كان الرجل ينكح امرأة وقتاً معلوماً شهراً أو شهرين، أو يوماً أو يومين ثم يتركها بعد أن يقضي منها وطره، فحرمت الشريعة الإسلامية ذلك، ولم تبح إلا النكاح الدائم الذي يقصد منه الدوام والاستمرار، وكل نكاح إلى أجل فهو باطل، لأنه لا يحقّق الهدف من الزواج. وقد أجمع العلماء وفقهاء الامصار قاطبة على حرمة (نكاح المتعة) لم يخالف فيه إلاّ الروافض والشيعة، وقولهم مردود لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة ثم نسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم، وما روي عن ابن عباس من القول بحلها فقد ثبت رجوعه عنه كما أخرج الترمذي عنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم، فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» حتى نزلت الآية الكريمة {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] فكل فرج سواهما فهو حرام. فقد ثبت رجوعه عن قوله وهو الصحيح. وحكي أنه إنما أباحها حالة الاضطرار، والعنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ قلت قالوا: قد قلت للشيخ لا طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال: سبحان الله ما بهذا أفتيت!! وما هي إلاّ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا تحل إلاّ للمضطر. ومن هنا قال الحازمي: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات، حتى حرّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد. الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم المتعة احتج أهل السُنَّة على حرمة المتعة بوجوه نلخصها فيما يلي: أولاً: إن الوطء لا يحل إلاّ في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] وهذه ليست زوجة وليست مملوكة، لأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث، وثبت النسب ووجبت العدة، وهذه لا تثبت باتفاق فيكون باطلاً. ثانياً: إن الأحاديث الشريفة جاءت مصرحة بتحريمه، منها ما رواه مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 عن الزهري بسنده عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية. ثالثاً: ما رواه ابن ماجة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرّم المتعة فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة» . رابعاً: أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حرمها وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وما كانوا ليقروه على خطأ لو كان مخطئاً فكان ذلك منهم إجماعاً. خامساً: إن نكاح المتعة لا يقصد به إلاّ قضاء الشهوة، ولا يقصد به التناسل، ولا المحافظة على الأولاد، وهي المقاصد الأصلية للزواج، فهو يشبه الزنى من حيث قصد الاستمتاع دون غيره، وقد قال الله تعالى: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} وليس مقصود المتمتع إلا قضاء الشهوة، وصب الماء، واستفراغ أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد. قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى (علي) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقد صحّ عنه أنها نسخت، ونقل البيهقي عن (جعفر بن محمد) أنه سئل عن المتعة فقال: هي الزنى بعينه، فبطل بذلك كل مزاعم الشيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 تحقيق العلامة الشوكاني قال الشوكاني: (وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع، وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد، ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به ورووه لنا، حتى قال ابن عمر: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، واللهِ لا أعلم أحداً تمتَّع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة) . وقال ابن الجوزي: «وقد تكلف قوم من المفسّرين فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه نهى عن متعة النساء، وهذا تكلف لا يحتاج إليه، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أجاز المتعة ثم منع منها فكان قوله منسوخاً بقوله (يعني بالسنة) وأما الآية فإنها لا تتضمن جواز المتعة وإنما المراد بها الاستمتاع في النكاح» . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - تحريم الاعتداء على النساء بالظلم والاستبداد، ووجوب الإحسان إليهن وصحبتهن بالمعروف. 2 - الصبر على المرأة عند الكراهية، وعدم التضييق عليها حتى تفتدي نفسها بالمال. 3 - تحريم أخذ شيء من مهر المرأة عند الطلاق بدون مسوّغ شرعي يبيحه الإسلام. 4 - إبطال بعض عادات الجاهلية ومنها الزواج بامرأة الأب بعد الوفاة. 5 - المحرمات من النساء اللواتي يحرمن على الرجل بالنسب، والرضاع، والمصاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 خاتمة البحث: حكمة التشريع حرّم الباري جلّ وعلا نكاح المحارم من النساء سواء كانت القرابة عن طريق النسب، أو الرضاع، أو المصاهرة، وجعل هذه الحرمة مؤبدة لا تحل بحال من الأحوال، وذلك لحكم عظيمة جليلة نبينها بإيجاز فيما يلي: أما تحريم النساء من النسب فإن الله جل ثناؤه جعل بين الناس ضروباً من الصلة يتراحمون بها، ويتعاونون على جلب المنافع ودفع المضار، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة ولما اقتضت طبيعة الوجود (تكوين الأسرة) وكانت الأسرة محتاجة إلى الاختلاط بين أفرادها بسبب هذه الصلة القوية (صلة النسب) فلو أبيح الزواج من المحارم لتطلعت النفوس إليهن، وكان فيهن مطمع، والنفوس بطبعها مجبولة على الغيرة، فيغار الرجل من ابنه على أمه وأخته، وذلك يدعو إلى النزاع والخصام، وتفكك الأسرة، وحدوث القتل الذي يدمّر الأسرة والمجتمع. ثم إنّ الوليد يتكون جنيناً من دم الأم، ثم يكون طفلاً يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصَّة من ثديها عاطفة جديدة يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحداً في الدنيا مثل أمه، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب الاستمتاع بالشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة؟! ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية، ويليه تحريم البنات ثم الأخوات ثم العمات والخالات إلخ. وقد أودع الله في الإنسان فطرة نقية تحجزه عن التفكير في محارمه فضلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 عن حب الاستمتاع بهن، ولولا ما عهد في الإنسان من الشذوذ والجناية على الفطرة، والعبث بها لكان للمرء أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات لأن هذا من قبيل المستحيلات في نظر الإنسان العاقل، سليم الفطرة والتفكير. ثم إن هناك حكمة جسدية حيوية عظيمة، وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سبباً لضعف النسل، فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى (النحافة) حتى ينقرض النسل، وهذا ما أشار إليه الإمام الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه «الإحياء» حيث قال: «إنّ من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة أن لا تكون من القرابة القريبة، فإن الولد يُخْلق ضاوياً أي (نحيفاً) وعلّل ذلك بأن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحسان بالنظر أو اللمس، وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد، فأما المعهود فإنه يضعف الحسّ ولا تنبعث به الشهوة» وهو تعليل دقيق أقره العلم الحديث. وأمّا المحرمات بالمصاهرة فإن الله عَزَّ وَجَلَّ أكرم البشرية بهذه الرابطة الإنسانية، وامتنّ على الناس بقرابة الصهر، التي تجمع بين النفوس المتباعدة المتنافرة بروابط الألفة والمحبة {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} [الفرقان: 54] فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها، فينبغي أن تكون أم زوجته بمنزلة أمه في الاحترام، وبنتها التي في حجره كبنته من صلبه، وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزلة ابنته وهكذا. ومن القبح جداً أن تكون البنت ضرة لأمها، والابن طامعاً في زوجة أبيه، فإن ذلك ينافي حكمة المصاهرة، ويكون سبب فساد العشيرة. وأما المحرمات بالرضاع فإن الحكمة فيهن ظاهرة، وهي أن من رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءاً منها، لأن تكوّن من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته، وصار أولادها إخوة له لأن لتكوين أبدانهم أصلاً واحداً هو ذلك اللبن والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 [4] وسائل معالجة الشقاق بين الزوجين التحليل اللفظي {قوامون} : قوّام: صيغة مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته، فالرجل قوام على امرأته كما يقوم الوالي على رعيته بالأمر والنهي، والحفظ والصيانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 {قانتات} : أصل القنوت دوام الطاعة، ومنه القنوت في الصلاة والمراد أنهن مطيعات لله ولأزواجهن. {نُشُوزَهُنَّ} : عصيانهن وترفعهن عن طاعتكم، وأصل النشز المكان المرتفع ومنه تلّ ناشز أي مرتفع. قال في «اللسان» : النشوز يكون بين الزوجين، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النَشَز وهو ما ارتفع من الأرض، ونشز الرجل إذا كان قاعداً فنهض قائماً ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} [المجادلة: 11] . {فَعِظُوهُنَّ} : أي ذكّروهن بما أوجب الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة للأزواج. {المضاجع} : المراد بهجر المضاجع هجر الفراش والمضاجعة. قال ابن عباس: الهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها. وقيل: أن يعزل فراشه عن فراشها. {شِقَاقَ} : الشقاق: الخلاف والعداوة وهو مأخوذ من الشق بمعنى الجانب، لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر بسبب العداوة والمباينة. {حَكَماً} : الحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين المتنازعين. {والجار الجنب} : الجار البعيد أو الذي ليس له قرابة تربطه بجاره وأصله من الجنابة ضد القرابة. {والصاحب بالجنب} : هو الرفيق في السفر، أو طلب العلم، أو الشريك وقيل: هي الزوجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 {مُخْتَالاً فَخُوراً} : قال ابن عباس: المختال البطر في مشيته، والفخور المفتخر على الناس بكبره. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: الرجال لهم درجة الرياسة على النساء، بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير، وخصّهم به من الكسب والإنفاق، فهم يقومون على شؤون النساء كما يقوم الولاة على الرعايا بالحفظ والرعاية وتدبير الشؤون. ثمّ فصّل تعالى حال النساء تحت رياسة الرجل، وذكر أنهن قسمان: قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج، حافظات لأوامر الله، قائمات بما عليهن من حقوق، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة، وأموال أزواجهن عن التبذير في غيبة الرجال، فهنّ عفيفات، أمينات، فاضلات. وأما القسم الثاني وهنّ النساء الناشزات المتمردات المترفعات على أزواجهن، اللواتي يتكبرن ويتعالين عن طاعة الأزواج، فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن طريق النصح والإرشاد، فإن لم يجد الوعظ والتذكير فعليكم بهجرهن في الفراش مع الإعراض والصد، فلا تكلموهن ولا تقربوهن، فإذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبّرح، ضرباً رفيقاً يؤلم ولا يؤذي، فإن أطعنكم فلا تلتمسوا طريقاً لإيذائهن، فإن الله تعالى العلي الكبير أعلى منكم وأكبر، وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهم وبغى عليهن. ثمّ بيّن تعالى حالةً أخرى، وهي ما إذا كان النفور لا من الزوجة فحسب بل من الزوجين، فأمر بإرسال (حكمين) عدلين، واحد من أقربائها والثاني من أقرباء الزوج، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 إن رأيا التوفيق وفّقا، وإن رأيا التفريق فرّقا، فإذا كانت النوايا صحيحة، والقلوب ناصحة بورك في وساطتهما، وأوقع الله بطيب نفسهما وحسن سعيهما الوفاق والألفة بين الزوجين، وما شرعه الله إنما جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير. ثم ختم تعالى هذه الآيات بوجوب عبادته تعالى وعدم الإشراك به، وبالإحسان إلى الوالدين، وإلى الأقرباء واليتامى والمساكين، ومن له حق الجوار من الأقارب والأباعد. سبب النزول نزلت الآية الكريمة في (سعد بن الربيع) مع امرأته (حبيبة بنت زيد) وكان سعد من النقباء وهما من الأنصار، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لتقتصّ من زوجها «فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله {الرجال قوامون عَلَى النسآء} فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أردنا أمراً، وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خير «ورفع القصاص. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: علّل تعالى قوامة الرجال على النساء بتعليلين: أحدهما: وهبي، والآخر كسبي، وأورد العبارة بصيغة المبالغة {قوامون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 عَلَى النسآء} ، للإشارة إلى كامل الرئاسة والولاية عليهن كما يقوم الولاة على الرعايا، فلهم حق الأمر، والنهي، والتدبير والتأديب، وعليهم كامل المسؤولية في الحفظ والرعاية والصيانة، وهذا هو السر في مجيء الجملة اسمية. اللطيفة الثانية: قال صاحب» الكشاف «: ذكروا في فضل الرجال أموراً منها: العقل، والحزم، والعزم، والقوة، وأن منهم الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى، والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والشهادة في الحدود، والقصاص، والزيادة في الميراث، والولاية في النكاح، وإليهم الانتساب، وغير ذلك. اللطيفة الثالثة: ورد النظم الكريم {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ولو قال» بما فضلهم عليهن «أو قال» بتفضيلهم عليهن «لكان أوجز وأخصر، ولكنّ التعبير يورد بهذه الصيغة لحكمة جليلة، وهي إفادة أن المرأة من الرجل، والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة البدن، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو لأن كل واحد يؤدي وظيفته في الحياة، فالأذن لا تغني عن العين، واليد لا تغني عن القدم، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته، ورأسه أشرف من يده، فالكل يؤدي دوره بانتظام، ولا غنى لواحدٍ عن الآخر. ثم للتعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس، لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم، والدين، والعمل، وكما يقول الشاعر: ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال وبهذين المعنيين اللذين ذكرناهما ظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإعجاز. اللطيفة الرابعة: لم يذكر الله تعالى في الآية إلاّ (الإصلاح) ولم يذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ما يقابله وهو (التفريق) بين الزوجين، وفي ذلك لطيفة دقيقة، وإرشاد من الله تعالى للحكمين إلى أنه ينبغي أن لا يدَّخراً وسعاً في الإصلاح، فإن في التفريق خراب البيوت، وفي التوفيق الألفة والمودة والرحمة، وغرضُ الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام. اللطيفة الخامسة: قال الزمخشري: «وإنما كان الحكمان من أهلهما، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإليهم تسكن نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض، وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته، وما يزويانه عن الأجانب، ولا يحبان أن يطلعوا عليه» . اللطيفة السادسة: ذكر الشعبي أن شريحاً تزوج امرأة من بني تميم يقال لها (زينب) فلما تزوجها ندم حتى أراد أن يرسل إليها بطلاقها، ثم قال: لا أعجل حتى يجاء بها، فلما جيء بها تشهّدت ثم قالت: أما بعد فقد نزلنا منزلاً لا ندري متى نظعن منه، فانظر الذي تكره، هل تكره زيارة الأخْتان؟ فقلت: إني شيخ كبير لا أكره المرافقة، وإني لأكره ملال الأخْتان، قال: فما شرطتُ شيئاً إلاّ وفت به، فأقامت سنة ثم جئت يوماً ومعها في الحَجَلة إنس، فقلت: إنّا لله، فقالت: أبا أمية إنها أمي، فسلّم عليها فقالت: انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها، قال: فصحبتني ثم هلكت قبلي، قال: فوددت أني قاسمتها عمري، أو مت أنا وهي في يوم واحد، وأنشد شريح: رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلّت يميني حين أضرب زينباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي الخطوات التي أرشد إليها الإسلام لمعالجة نشوز المرأة؟ أرشدت الآية الكريمة إلى الطريقة الحكيمة في معالجة نشوز المرأة ودعت إلى الخطوات التالية: أولاً: النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} . ثانياً: الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع} . ثالثاً: الضرب غير المبرح بسواك ونحوه تأديباً لها، لقوله تعالى: {واضربوهن} . رابعاً: إذا لم تُجْد كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى: {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} . وأما الضرب فقد وضّحه عليه السلام بقوله: «فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبّرح» . قال ابن عباس وعطاء: الضرب غير المبّرح بالسواك، وقال قتادة: ضرباً غير شائن. وقال العلماء: ينبغي أن لا يوالي الضرب في محل واحد وأن يتقي الوجه فإنه يجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه. وقد «سئل عليه السلام: ما حق امرأة أحدنا عليه؟ فقال:» أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت «» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 ومع أن الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أن تركه أفضل لقوله عليه السلام: «ولن يضرب خياركم» . الحكم الثاني: هل هذه العقوبات مشروعة على الترتيب؟ اختلف العلماء في العقوبات الواردة في الآية الكريمة هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟ فقال جماعة من أهل العلم إنها على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، ثم الضرب، ولا يباح الضرب عند ابتداء النشوز، وهذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز. ومنشأ الخلاف بين العلماء اختلافهم في فهم الآية، فمن رأى الترتيب قال إن (الواو) لا تقتضي الترتيب بل هي لمطلق الجمع، فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أياً كانت، وله أن يجمع بينها. ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ يدل على الترتيب، والآية وردت على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي ثم إلى الأقوى فإنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك جار مجرى التصريح بوجوب الترتيب، فإذا حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد. أقول: لعل هذا هو الأرجح لظاهر الآية الكريمة والله أعلم. قال ابن العربي: (من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول (سعيد بن جبير) فقد قال: «يعظها فإن هي قبلت وإلاّ هجرها، فإن هي قبلت وإلاّ ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع) . وروي عن علي كرم الله وجهه ما يؤيد ذلك فإنه قال:» يعظها بلسانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين «. الحكم الثالث: هل يجوز في الحكمين أن يكونا من غير الأقارب؟ ظاهر الآية أنه يشترط في الحكمين أن يكونا من الأقارب لقوله تعالى: {حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} وأن ذلك على سبيل الوجوب، ولكن العلماء حملوه على وجه الاستحباب، وقالوا: إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز، لأن فائدة الحكمين التعرف على أحوال الزوجين وإجراء الصلح بينهما، والشهادة على الظالم منهما، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين، طلباً للإصلاح من الأجانب، وأبعد عن التهمة بالميل لأحد الزوجين، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة. قال الألوسي:» وخُصّ الأهل لأنهم أطلب للصلاح، وأعرف بباطن الحال، وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصّبا من الأجانب جاز «. الحكم الرابع: من المخاطب في الآية الكريمة {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} . الخطاب في الآية السابقة للأزواج لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع} وهذا من حق الزوج، والخطاب هنا للحكام، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة، وأن للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها، بيّن تعالى أنه إذا لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وهو السلطان الذي بيده سلطة الحكم والتنفيذ. وروي عن السُدّي أن الخطاب للزوجين. وهذا القول مرجوح. وظاهر الأمر في قوله تعالى: {فابعثوا} أنه للوجوب وبه قال الشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 رَحِمَهُ اللَّهُ، لأنه من باب رفع الظُّلامات وهو من الفروض العامة الواجبة على الولاة. الحكم الخامس: هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما؟ اختلف الفقهاء في الحكمين هل لهما الجمع والتفريق بدون إذن الزوجين أم ليس لهما تنفيذ أمر بدون إذنهما؟ فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأنهما وكيلان عنهما، ولا بدّ من رضى الزوجين فيما يحكمان به، وهو مروي عن (الحسن البصري) و (قتادة) و (زيد بن أسلم) . وذهب مالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة، فإن رأيا التطليق طلّقا، وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعلا، فهما حاكمان موليان، من قبل الإمام وينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن (علي) و (ابن عباس) و (الشعبي) . وللشافعي في المسألة قولان. وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلٍ من الرأيين. فالحجة للرأي الأول: أن الله تعالى لم يضف إلى الحكمين إلا الإصلاح {إِن يُرِيدَآ إصلاحا} وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما، ولأنهما وكيلان ولا ينفذ حكمهما إلا برضى الموكل. والحجة للرأي الثاني: أن الله تعالى سمّى كلاً منهما حكماً {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} والحكم هو الحاكم، ومن شأن الحاكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه رضي أم سخط. قال الجصاص: «قال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلاّ أن يرضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الزوج، وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما، ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع، ولا على ردّ مهرها، فكذلك بعد بعث الحكمين لا يجوز إلا برضى الزوجين» وهو اختيار الطبري. قال الطبري: «وليس للحكمين ولا لواحد منهما الحكم بالفرقة بينهما، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك» . أقول: ولعلّ الرأي الأول هو الأرجح لقوة الدليل وهذا ما اختاره الطبري رَحِمَهُ اللَّهُ والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - للزوج حق تأديب زوجته ومنعها من الخروج من المنزل إلا بإذنه. 2 - على الزوجة طاعة زوجها في حدود ما أمر الله لا في المعصية. 3 - ضرورة التحكيم إذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح من قبل الزوج. 4 - على الحكمين أن يبذلا أقصى ما في وسعهما للإصلاح بين الزوجين. خاتمة البحث حكمة التشريع قضت السنة الكونية وظروف الحكياة الاجتماعية، أن يكون في الأسرة قيّم، يدير شؤونها، ويتعهد أحوالها، وينفق من ماله عليها، لتؤدي رسالتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 على أكمل الوجوه، ولتكون نواة للمجتمع الإنساني الذي ينشده الإسلام، إذ في صلاح الأسرة صلاح المجتمع، وفي فساد الأسرة وخرابها خراب المجتمع. ولما كان الرجل أقدر على تحمل هذه المسؤولية من المرأة، بما وهبه الله من العقل، وقوة العزيمة والإرادة، وبما كلّفه من السعي والإنفاق على المرأة والأولاد، كان هو الأحق بهذه القوامة، التي هي في الحقيقة درجة (مسؤولية وتكليف) لا درجة (تفضيل وتشريف) إذ هي مساهمة في تحمل الأعباء، وليست للسيطرة والاستعلاء، إذ لا بدّ لكل أمر هام من رئيس يتولى شؤون التدبير والقيادة. وقد جعل الله للرجال حق القيام على النساء بالتأديب والتدبير، والحفظ والصيانة، ولعل أخبث ما يتخذه أعداء الإسلام ذريعة للطعن في دين الله، زعمهم أن الإسلام أهان المرأة حين سمح للرجل أن يضربها ويقولون: كيف يسمح الله بضرب النساء، وكيف يحوي كتابه المقدس هذا النص {فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن} ؟ {أفليس هذا اعتداء على كرامة المرأة} ! والجواب: نعم لقد سمح القرآن بضرب المرأة ولكن متى يكون الضرب؟ ولمن يكون؟ إن هذا الأمر علاج، والعلاج إنما يحتاج إليه عند الضرورة، فالمرأة إذا أساءت عشرة زوجها، وركبت رأسها، وسارت وراء الشيطان وبقيادته، لا تكف ولا ترعوي عن غيّها وضلالها، فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحالة؟ أيهجرها، أم يطلقها، أم يتركها تصنع ما تشاء؟ لقد أرشد القرآن الكريم إلى الدواء، أرشد إلى اتخاذ الطرق الحكيمة في معالجة هذا النشوز والعصيان، فأمر بالصبر والأناة، ثم بالوعظ والإرشاد، ثمّ بالهجر في المضاجع، فإذا لم تنفع كل هذه الوسائل فلا بدّ أن نستعمل آخر الأدوية، وكما يقولون في الأمثال: (آخر الدواء الكيّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 فالضرب بسواك وما أشبهه أقل ضرراً من إيقاع الطلاق عليها، لأن الطلاق هدم لكيان الأسرة، وتمزيق لشملها، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم، كان ارتكاب الأخف حسناً وجميلاً، وكما قيل: (وعند ذكر العمى يستحسن العور) . فالضرب ليس إهانة للمرأة - كما يظنون - وإنما هو طريق من طرق العلاج، ينفع في بعض الحالات مع بعض النفوس الشاذة المتمردة، التي لا تفهم الحسنى، ولا ينفع معها الجميل. العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الإشارة وإن من النساء، بل من الرجال من لا يقيمه إلا التأديب، ومن أجل ذلك وضعت العقوبات وفتحت السجون. يقول السيد رشيد رضا في تفسيره «المنار» : «وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح، والتبريح الإيذاء الشديد، وقد روى عن ابن عباس تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه أي كالضرب باليد، أو بقصبة صغيرة ونحوها. ثم قال: يستكبر بعض مقلدة الافرنج في آدابهم منا مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه، فتجعله وهو رئيس البيت مرءوساً بل محتقراً، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، ولا أدري بم يعالجون هؤلاء النواشز؟ وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به؟ إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة فيحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج إليه في حال (فساد البيئة) وغلبة الأخلاق الفاسدة، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة، وصار النساء يعقلن النصيحة، ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 في الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء» . أقول: إن أمر الضرب في شريعة الله ليس إلا طريقاً من طرق الإصلاح، وقد روي عن عطاء أنه قال: لا يضربْ زوجه وإن أمرها أو نهاها فلم تطعه، ولكنْ يغضب عليها، وقال عليه السلام «ولن يضرب خياركم» ومع ذلك فهو علاج في بعض الحالات الشاذَّة {فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 [5] حرمة الصلاة على السكران والجنب التحليل اللفظي {سكارى} : قال في «اللسان» : السّكر نقيض الصحو، وأسكره الشراب، والجمع سُكارى وسَكْرى، شبّه بالنّوْكى، والحمقى، والهلْكَى لزوال عقل السكران. وقال الراغب: السّكْر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ما يستعمل في الشراب، وقد يعتري من الغضب والعشق ولذلك قال الشاعر: سُكْرانِ سُكْرُ هَوى وسكرُ مُدام ... وأصل السُّكْلا من السِّكر وهو سد مجرى الماء، فالبسّكْر ينسد طريق المعرفة، وسكرةُ الموت شدته. {جُنُباً} : الجنب اسم يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع يقال: رجل جنب، ورجال جنب، وأصل الجنابة البعد، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة جنب، لأن جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطهر. {عَابِرِي سَبِيلٍ} : العابر من العبور يقال: عبرت نهر والطريق إذا قطعته من الجانب إلى الجانب الآخر، السبيلُ: الطريقُ ويراد يعابر السبيل المسافر، أو الذي يعبر بالمسجد أي يمر به. {الغآئط} : الغائط المكان المطئن من الأرض، وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب منخفضاً من الأرض لغيب عن عيون الناس، ثمّ كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائطاً، فكنّوا به عن الحدث تسمية للشيء باسم مكانه. {لامستم النسآء} : اللمس حقيقته المس باليد، وإذا أضيف إلى النساء يراد به الجماع، وقد كثر هذا الاستعمال في الغة العرب، والقرآن قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع في آيات عديدة قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] وقال تعالى: {وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد} [البقرة: 187] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 {فَتَيَمَّمُواْ} : التيمم في اللغة: القصد يقال: تيممته برمحي أي قصدته دون غيره، وأنشد الخليل: يمّمتُه الرمح شَزْراً ثم قلتُ له ... هذي البسالةُ لا لعبُ الزحاليق وتيمّم البلدة قصد التوجه إليها قال الشاعر: وما أدري إذا يمّمتُ أرضاً ... أريدُ الخير أيّهما يليني وفي الشرع: مسح الوجه واليدين بالتراب بقصد الطهارة، وقد جمع الشاعر المعنيين بقوله: تيمّمتُكُم لمّا فقدتُ أولي النّهى ... ومن لم يجد (ماءً) تيمَّمَ بالترب {صَعِيداً طَيِّباً} : قال الزجاج: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، قال تعالى {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 8] وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40] أي أرضاً ملساء تنزلق عليها الأقدام، وسمي صعيداً لأنه يصعد من الأرض. قال صاحب «القاموس» : الصعيد التراب، ووجه الأرض. قال ابن قتيبة: ومعنى {صَعِيداً طَيِّباً} أي تراباً نظيفاً. {فامسحوا} : قال في «اللسان» : المسحُ إمرارك يدك على الشيء تريد إذهابه، كمسحك رأسك من الماء، وجبينك في الرّشح، مسحه مسحاً وتمسَّح منه وبه. {عَفُوّاً غَفُوراً} : أي مسامحاً لعباده، متجاوزاً عمّا صدر منهم من خطأٍ وتقصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 المعنى الإجمالي نهى الله عباده المؤمنين عن أداء الصلاة في حالة السكر، لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته تعالى بكتابه وذكره ودعائه، وقد كان هذا قبل أن تحرم الخمر، وكان تمهيداً لتحريمه تحريماً باتاً، إذ لا يأمن من شرب الخمر في النهار أن تدركه الصلاة وهو سكران، وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال عنهم السكر. والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا ما تقولون وتقرؤون في صلاتكم، ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلاّ إذا كنتم مسافرين فإذا اغتسلتم فصلوا. وإن كنتم مرضى ويضركم استعمال الماء، أو مسافرين ولم تجدوا الماء، أو أحدثتم ببول أو غائط حدثاً أصغر، أو غشيتم النساء حدثاً أكبر، ولم تجدوا ماءً تتطهرون به، فاقصدوا صعيداً طيباً من وجه الأرض فتطهروا به، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلوا، ذلك رحمة من ربكم وتيسير عليكم، لأن الله يريد بكم اليسر، وكان الله عفواً غفوراً. سبب النزول روى الترمذي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه أنه قال: «صنع لنا (عبد الرحمن بن عوف) طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت» قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون «قال، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 قال الفخر الرازي: فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلاّ وقد ذهب عنهم السكر، ثم نزل تحريمها على الإطلاق في المائدة. وجوه القراءات قرأ الجمهور {أَوْ لامستم النسآء} وقرأ حمزة والكسائي (لَمَسْتُم النّسَاءَ) بغير ألف. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سكارى} مبتدأ وخبر والجملة حال من ضمير الفاعل في تقربوا. 2 - قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً} صعيداً مفعول تيمموا أي قصدوا صعيداً، وقيل منصوب بنزع الخافض أي بصعيد. 3 - قوله تعالى: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} قال العكبري: الباء زائدة أي امسحوا وجوهكم به. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ورد التعبير بالنهي عن قربان الصلاة في حالة السكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى} والنهي بهذه الصيغة أبلغ من قوله:» لا تصلوا وأنتم سكارى «فإذا حرم قربان الصلاة ففعلها وأداوها يكون ممنوعاً من باب أولى فهو كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] . قال أبو السعود:» وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة مع أن المراد هو النهي عن إقامتها للمبالغة في ذلك، وقيل: المراد النهي عن قربان المساجد ويأباه قوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} . اللطيفة الثانية: التدرج في تحريم الخمر بهذه الطريقة الحكيمة التي سلكها القرآن الكريم برهان ساطع على عظمة الشريعة الغراء، فإن العرب كانوا يشربون الخمر كما يشرب أحدنا الماء الزلال، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لثقل عليهم تركها، ولما أمكن اقتلاع جذورها من قلوبهم، وقد قالت السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «أول ما نزل من القرآن من القرآن آيات من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، فلما ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمرة لقالوا: لا ندع الخمرة أبداً» . اللطيفة الثالثة: التعليل بقوله تعالى: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} فيه إشارة لطيفة إلى أن المصلي ينبغي عليه أن يكون خاشعاً في صلاته يعرف ما يقوله من تلاوة، وذكر، وتسبيح، وتمجيد، فقد نهى سبحانه السكران عن الصلاة لأنه فاقد التمييز لا يعرف ماذا قرأ؟ فإذا لم يعرف المصلي المستغرق بهموم الدنيا كم صلى، وماذا قرأ؟ فقد أشبه السكران، ولهذا ورد عن بعضهم تفسير السكر بأنه السكر من النوم والنعاس، وهو صحيح في المعنى ولكنه بعيد في التفسير لا يناسبه سبب النزول. اللطيفة الرابعة: طريقة القرآن الكريم (الكناية) عمّا لا يحسن التصريح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 به من الألفاظ، وهذا أدب من آداب القرآن لإرشاد الأمة إلى سلوكه عند تخاطبهم، فقد كنّى عن الحدث بالمجيء من الغائط، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض يقصده الإنسان لقضاء حاجته تستراً واستخفاءً عن الأبصار، ثم صار حقيقة عرفية في الحدث لكثرة الاستعمال، وملامسة النساء كناية عن غشيانهن ومجامعتهن، ولمّا كان لفظ الجماع لا يجمل التصريح به فقد أورده بالكناية {أَوْ لامستم النسآء} . ففي الآية الكريمة كنايتان وهما من لطيف العبارة ورائع البيان. اللطيفة الخامسة: قال في «البحر المحيط» : «وفي الآية تغليب الخطاب، إذ قد اجتمع خطاب وغيبة فالخطاب {كُنْتُمْ مرضى} و {لامستم النسآء} والغيبة قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة لأنه لما كنّى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ} وهذا من أحسن الملاحظات، وأجمل المخاطبات، ولمّا كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب» فتدبر هذا السر الدقيق. اللطيفة السادسة: «روي أن الصحابة كانوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بعض أسفاره، وانقطع عقد لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فأقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على التماسه والناس معه وليس معهم ماء، فأغلظ (أبو بكر) على عائشة وقال: حبست رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والناس وليس معهم ماء؟ فنزلت الآية، فلما صلّوا بالتيمم وأرادوا السير بعثوا الجمل فوجدوا العقد تحته» ، فقال (أسيد بن حضير) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، يرحمك الله يا عائشة فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيراً وفرجاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد من قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى} . اختلف العلماء في المراد من الصلاة في الآية الكريمة، فذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بها حقيقة الصلاة، وهو مذهب (أبي حنيفة) ومروي عن (علي) و (مجاهد) و (قتادة) . وذهب بعض العلماء إلى أن المراد مواضع الصلاة وهي المساجد، وأن الكلام على حذف مضاف، وهو مذهب (الشافعي) ومروي عن ابن مسعود، وأنس، سعيد بن المسيب. استدل الفريق الأول بأنّ الله تعالى قال: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} فإنه يدل على أن المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع منه السكر، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة من قراءة، ودعاءٍ، وذكر، يمنع منها السكر، فكان الحمل على ظاهر اللفظ أولى. واستدل الفريق الثاني بأن القرب والبعد أولى أن يكون في المحسوسات فحمله على المسجد أولى، ولأنّا إذا حملناه على الصلاة لم يصحّ الاستثناء في قوله {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وإذا قلنا إن المراد به المسجد صح الاستثناء، وكان المراد به النهي عن دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور. فسرّ الحنفية (عابر السبيل) بأن المراد به المسافر الذي لا يجد الماء فإنه يتيمم ويصّلي، وقد اختار الطبري القول الأول وهو الظاهر المتبادر لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى. ويؤيد ذلك ما ورد في سبب النزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 قال في «تفسير المنار» : «والمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية، والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد، إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي، وفي التنزيل خاصة {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته» . وثمرة الخلاف بين الفريقين تظهر في حكم شرعي وهو هل يحل للجنب دخول المسجد؟ فعلى الرأي الأول لا يكون في الآية نص على الحرمة وإنما تثبت الحرمة بالسنة المطهرة كقوله عليه السلام: «فإني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» وغير ذلك من الأدلة. وعلى الرأي الثاني تكون الآية نصاً في حرمة دخول الجنب للمسجد إلا في حالة العبور فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث. الحكم الثاني: ما هي الأسباب المبيحة للتيمم؟ ذكرت الآية الكريمة أسباب التيمم وهي أربعة (المرض، السفر، المجيء من الغائط، ملامسة النساء) فالسفر يبيح التيمم عند عدم الماء، والمرض أياً كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط عند عدم الماء، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فهذا القيد راجع إلى الكل، فالغالب في المسافر ألا يجد الماء، والمريض الذي يخشى على نفسه الضرر يباح له التيمم لأنه مع وجود الماء قد لا يستطيع الاستعمال فيكون كالفاقد للماء، فهو كمن يجد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه فهو عادم للماء حكماً، ويدل عليه ما ورد في السنة المطهرة من حديث جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منّا حجرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 فشجه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر بذلك فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال» . ويدل عليه أيضاً ما روي «عن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يقل شيئاً «» . قال ابن تيمية: في حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة. بقي أنه ما الفائدة إذاً من ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح، كلهم على السوء لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟ أجاب المفسّرون عن ذلك بأن المسافر لمّا كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء، وأما المريض فاللفظ يشعر بأن المرض له دخل في السببية والله أعلم. الحكم الثالث: ما المراد بالملامسة في الآية الكريمة؟ اختلف السلف رضوان الله عليهم في المراد من الملامسة في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 {أَوْ لامستم النسآء} فذهب علي، وابن عباس، والحسن إلى أن المراد به الجماع، وهو مذهب الحنفية. وذهب ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي إلى أن المراد به اللمس باليد، وهو مذهب الشافعية. قال ابن جرير الطبري: «وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أَوْ لامستم النسآء} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم روى» عن عائشة قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلي» ، وعن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عروة: قلتُ: من هي إلاّ أنت؟ فضحكت «» . وقد اختلف الفقهاء في مسّ المرأة هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ على أقوال. أ - فذهب أبو حنيفة إلى أن مسّ المرأة غير ناقض للوضوء سواءً كان بشهوة أم بغير شهوة. ب - وذهب الشافعي إلى أن مسّ المرأة ناقض للوضوء بشهوة أم بغير شهوة. ج - وذهب مالك إلى أن المسّ إن كان بشهوة انتقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض. دليل الحنفية: استدل أبو حنيفة بأن المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقبّل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ. واستدل أيضاً بما روي عن عائشة أنها طلبت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات ليلة، قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 ساجد يقول: أعوذ برضاك من سخطك ... وأما الآية فهي كناية عن الجماع كما نقل عن ابن عباس، واللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلاّ أنه قد عهد في القرآن استعماله بطريق الكناية مثل قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] . دليل الشافعية: واستدل الشافعي بظاهر الآية الكريمة فقال: إن اللمس حقيقة في المس باليد، وفي الجماع مجاز أو كناية، والأصل حمل الكلام على حقيقته، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وقد ترجح ذلك بالقراءة الثانية {أو لمستم النساء} فكان حمله على ما قلنا أولى. قال الإمام ابن رشد في «بداية المجتهد» : «وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو بالليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة هو الجماع في قوله {أَوْ لامستم النسآء} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد، وينطلق مجازاً على الجماع، وإذا تردّد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز. وقال الآخرون: إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة، كالحال في اسم» الغائط «الذي هو أدل على الحدث الذي هو مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة. ثم قال: والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين إلاّ أنه أظهر عندي في الجماع، وإن كان مجازاً لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس» . الترجيح: ولعل هذا الرأي يكون أرجح، لأنّ به يمكن التوفيق بين الآية الكريمة والآثار السابقة، ولأنه قد تعورف عند إضافة المس إلى النساء معنى الجماع، حتى كاد يكون ظاهراً فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع والله أعلم. الحكم الرابع: ما المراد بالصعيد الطيب في الآية الكريمة؟ اختلف أهل اللغة في معنى الصعيد فقال بعضهم: إنه التراب، وقال بعضهم: إنه وجد الأرض تراباً كان أو غيره، وقال آخرون: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس. وبناءً على هذا الاختلاف اللغوي اختلف الفقهاء فيما يصح به التيمم. أ - فقال أبو حنيفة: يجوز التيمم بالتراب وبالحجر وبكل شيء من الأرض ولو لم يكن عليه تراب. ب - قال الشافعي: بل لا بدّ من التراب الذي يلتصق بيده، فإذا لم يوجد التراب لم يصح التيمم. حجة أبي حنيفة: احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال: التيمم هو القصد، والصعيد ما تصاعد من الأرض فقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} أي اقصدوا أرضاً طاهرة، فوجب أن يكون هذا القدر كافياً، واشترط تلميذه (أبو يوسف) أن يكون المتيمَم به تراباً أو رملاً. حجة الشافعي: واحتج الشافعي من جهتين: الأول أن الله تعالى أوجب كون الصعيد طيباً، والأرض الطيبة هي التي تُنبت، بدليل قوله تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة. والثاني: أن الآية مطلقة هنا، ومقيدة في سورة المائدة بكلمة (منه) في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 قوله تعالى: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} [المائدة: 6] وكلمة (من) للتبعيض، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فوجب ألا يصح التيمم إلا بالتراب. الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لا سيما وقد خصصه النبي عليه السلام به في قوله: «التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء» . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - تحريم الصلاة على السكران حال السكر حتى يصحو ويعود إليه رشده. 2 - تحريم الصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد على الجنب حتى يغتسل. 3 - المريض والمسافر والمحدث حدثاً أصغر أو أكبر يجوز لهم التيمم إذا فقدوا الماء. 4 - التراب طهور المسلم عند فقد الماء ولو دام ذلك سنين عديدة. 5 - التيمم يكون بمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بالتراب الطاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 [6] جريمة القتل وجزاؤها في الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 التحليل اللفظي {فَتَحْرِيرُ} : التحرير من الحرية، وهو كما قال الراغب: جعل الإنسان حراً، وإخراج العبد من الرق إلى الحرية يسمى تحريراً، والحر في الأصل: الخالص، وسمي الإنسان حراً لأنه تخلّص مما يكدّر إنسانيته، ومنه قوله تعالى: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] أي مخلصاً للعبادة. الدية: ما تعطى عوضاً عن دم القتيل إلى وليه، قال في «اللسان» : الدية حق القتيل، والهاء عوض عن الواو، تقول: وديتُ القتيل أدية دية إذا أعطيت ديته. وفي «التهذيب» : ودى فلان فلاناً إذا أدّى ديته إلى وليه، وأصل الدية ودية فحذفت الواو، كما قالوا: شيه من الوشي. وقد خصص الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس، دون ما الشرع هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس، دون ما يؤدي في المتلفات وبدل الأطراف. {مُّسَلَّمَةٌ} : أي مدفوعة ومؤداة إلى أهل القتيل. {يَصَّدَّقُواْ} : أي يتصدقوا عليهم بالدية فأدغمت التاء في الصاد، والمعنى إلا أن يعفوا ويسقطوا حقهم في الدية، وسمي صدقة لأنه معروف وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كل معروف صدقة» . {مِّيثَاقٌ} : أي عهد وذمة، قال الراغب: الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد. {ضَرَبْتُمْ} : الضرب له معان: منها الضرب باليد، والعصا، والسيف، ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الضرب في الأرض بمعنى السفر، وسمي به لأن المسافر يضرب دابته بالعصا لتسير به، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره. ومعنى الآية: إذا سافرتم في سبيل الله لجهاد أعدائكم. {فَتَبَيَّنُواْ} : التبين طلب بيان الأمر، والمراد التأني واجتناب العجلة، ومنه البينة أي تثبتوا وتحققوا قال تعالى: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6] . {السلام} : السّلام والسّلْم بمعنى واحد وهو إلقاء السلاح والاستسلام، ومعنى الآية: لا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا. {عَرَضَ} : سمي متاع الحياة الدنيا عَرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت، وكل شيء يقل لبثه يسمى عرضاً وفي الحديث: «الدنيا عَرضٌ حاضر، يأكل منها البر والفاجر» . وفي «اللسان» : العَرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها وفي التنزيل {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169] وعرض الدنيا ما كان من مال قلّ أو كثر. {مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} : المغانم جمع مغنم وهو ما يغنمه الإنسان من عدوه، والمراد به هنا الفضل الواسع والرزق الجزيل قال الطبري: المعنى: «لا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم لست مؤمناً فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه» . المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: «ما كان من شأن المؤمن ولا ينبغي له أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 يقدم على قتل مؤمنٍ، إلا إذا وقع هذا القتل خطأ، فإذا حصل ووقع القتل بطريق الخطأ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلّمة إلى أهل القتيل تدفعها عاقلته، إلاّ إذا عفوا عنه وأسقطوا الدية باختيارهم فلا تجب حينئذٍ، وإذا كان المقتول مؤمناً وأهله من أعدائهم فالواجب على قاتله عتق رقبة مؤمنة، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم وأما إذا كان المقتول معاهداً أو ذمياً، فالواجب في قتله كالواجب في قتل المؤمن، دية مسلّمة إلى أهله تكون عوضاً عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى، فمن لم يجد الرقبة التي يحررها فعليه صوم شهرين قمريين متتابعين، توبة من الله على عباده المذنبين وكان الله عليماً بما يصلح الناس حكيماً في تشريعه. ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن عمداً، وغلّظ في العقوبة لأن جرمه عظيم، ولم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعّد به الكافرين، وهو الخلود في جهنم، واستحقاق غضب الله ولعنته، عدا العذاب الشديد الذي أعده الله له يوم القيامة. وقد ختم الله هذه الآيات الكريمة بأمر المؤمنين إذا خرجوا مجاهدين في سبيل الله أن يتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره، فلم يعلموا هل هو مسلم أم كافر؟ فلا يقدموا على قتله إلا بعد التحقق من كفره، وأمّا إذا استسلم وأظهر الإسلام فلا يحل قتله، طمعاً في متاع الدنيا الزائل، وقد ذكّرهم بأنهم كانوا مشركين كفاراً فمنّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام، وكفى بها نعمة!! سبب النزول 1 - روي أن (عيّاش بن أبي ربيعة) - وكان أخاً لأبي جهل من أمه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 أسلم وهاجر خوفاً من قومه إلى المدينة، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه (الحارث بن يزيد) فأتياه، فقال أبو جهل: أليس محمد يأمرك بصلة الرحم؟ انصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك، فرجع فلما دنوا من مكة قيّدوا يديه ورجليه، وجلده أبو جهل مائة جلدة، وجلده الحارث مائة أخرى، فقال للحارث: هذا أخي فمن أنت؟ لله عليّ إن وجدتك خالياً أن أقتلك، فلما دخل على أمه حلفت ألا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول، ففعل ثم هاجر بعد ذلك. وأسلم الحارث بن يزيد وهو لا يعلم بإسلامه، فلقيه عياش خالياً فقتله، فلما أُخبر أنه كان مسلماً ندم على فعله، وأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت هذه الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} . ب - وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «مرّ رجل من بني سليم ينفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يسوق غنماً له فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم علينا إلاّ ليتعوذ منا، فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ. . .} . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} ، وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) بالثاء. 2 - قرأ الجمهور {لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام} بفتح السين مع الألف، وقرأ نافع وحمزة (السّلم) من غير ألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 3 - قرأ الجمهور {لَسْتَ مُؤْمِناً} بكسر الميم الثانية وقرأ عكرمة (لست مُؤمناً) بفتح الميم من الأمَان. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً ... } أن يقتل في محل رفع اسم كان، ولمؤمن خبره وقوله (إلاّ خطأً) استثناء منقطع والمعنى: لكن إن قتل خطأً فحكمه كذا، ومثّل له الطبري بقول الشاعر: من البيضِ لم تَظْعنْ بعيداً ولم تَطَأْ ... على الأرض إلاّ ريط بُرْد مُرحّل ثانياً قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً} خطأً صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره قتلاً خطأً، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره: قتله خاطئاً. ثالثاً: قوله تعالى: {تَوْبَةً مِّنَ الله} توبة مفعول لأجله أي شرع لكم ذلك توبة منه. رابعاً: قوله تعالى: {لَسْتَ مُؤْمِناً} مؤمناً خبر ليس والجملة مقول القول، وجملة (تبتغون عرض الحياة) في محل نصب على الحال من فاعل تقولوا أي لا تقولوا ذلك مبتغين عرض الحياة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: النفي في مثل هذا الموطن يسمى (نفي الشأن) وهو أبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 من نفي الفعل كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} [التوبة: 17] فهو استبعاد للفعل بطريق البرهان كأنه يقول: ليس من شأن المؤمن من حيث هو مؤمن أن يقتل أحداً من أهل الإيمان، إذ لا يتصور أن يصدر منه مثل هذا العفل لأن إيمانه - وهو الحاكم على تصرفه وإرادته - يمنعه من اجتراح القتل عمداً، ولكنه قد يقع منه ذلك خطأً. اللطيفة الثانية: في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مجاز مرسل علاقته (الجزئية) أطلق الرقبة وقصد به المملوك من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] وهو مجاز مشهور. اللطيفة الثالثة: التعبير بهذا الأسلوب اللطيف {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} وتسمية العفو بالصدقة، فيه حثٌ على فضيلة العفو، وتنبيه الأولياء إلى أنّ عفوهم عن القاتل، وعدم أخذ الدية هو في نفسه صدقة وهو من مكارم الأخلاق التي يرغب فيها الإسلام. اللطيفة الرابعة: وردت عقوبة قتل المؤمن عمداً في غاية التغليظ والتشديد {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} فقد حكمت الآية على القاتل بعقوبات ثلاث: 1 - الخلود في جهنم 2 - واستحقاق الغضب واللعنة 3 - والعذاب الشديد الذي أعده الله له في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن» وفي الحديث أيضاً: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله» ولهذا أفتى ابن عباس بعدم قبول توبة القاتل. قال صاحب «الكشاف» : «والعجب من قوم يقرؤون هذه الآية ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس يمنع التوبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ثم يطمعون في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبةٍ {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] » ؟ اللطيفة الخامسة: الخلود في جهنم لقاتل المؤمن محمول على من استحلّ قتله، أو المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود بمعنى طول المدة والبقاء قال زهير: ألا لا أرى على الحوادث باقياً ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا والعرب تقول: خلّد الله ملكه، وتقول: لأخلدّن فلاناً في السجن، مع أنه لا شيء في الدنيا يدوم. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي أنواع القتل، وفي أيها تجب الكفارة؟ أوجب الله تعالى (القصاص) في القتل في آية البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] وأوجب (الدية والكفارة) في القتل الخطأ في الآية التي معنا، فيعلم أنّ الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد لا الخطأ. ذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن القتل إمّا عمد، وإمّا خطأ، ولا ثالث لهما، لأنه إما أن يقصد القتل فيكون عمداً، أو لا يقصده فيكون خطأ، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ. وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن القتل على ثلاثة أقسام (عمد، وخطأ، وشبه عمد) . أما العمد: فهو أن يقصد قتله بما يفضي إلى الموت كسيفٍ، أو سكين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 أو سلاح، فهذا عمد يجب فيه القود (القصاص) لأنه تعمد قتله بشيء يقتل في الغالب. وأما الخطأ: فهو ضربان: أحدهما: أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فيصيب مسلماً. والثاني: أن يظنه مشركاً بأن كان عليه شعار الكفار فيقتله، والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد. وأما شبه العمد: فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالباً فيموت فيه، أو يلطمه بيده، أو يضربه بحجر صغير فيموت، فهذا خطأ في القتل وإن كان عمداً في الضرب. قال القرطبي: «وممن أثبت شبه العمد الشعبي، والثوري، وأهل العراق، والشافعي، وروينا ذلك عن عمر وعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وهو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها، فلا تستباح إلاّ بأمر بيّن لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال لأنه لما كان متردداً بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد، فالضرب مقصود، والقتل غير مقصود، فيسقط القَود وتغلّظ الدية، وبمثل هذا جاءت السنة، روى أبو داود من حديث (عبد الله بن عمرو) أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» . حجة الجمهور: وحجة الجمهور في إثبات (شبه العمد) أن النيات مغيبة عنا لا اطلاع لنا عليها، وإنما الحكم بما ظهر، فمن ضرب آخر بآلة تقتل غالباً حكمنا بأنه عامد، لأن الغالب أن من يضرب بآلة تقتل يكون قصده القتل، ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالباً كان متردّداً بين العمد والخطأ، فأطلقنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 عليه شبه العمد، وهذا بالنسبة إلينا إلا بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر، إذ هو في الواقع إمّا عمد، وإمّا خطأ، وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب، وأشبه الخطأ من جهة أن الآلة لا تقتل غالباً، ولما لم يكن عمداً محضاً سقط القود، ولما لم يكن خطأ محضاً لأن الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية مغلّظة. واستدلوا بالحديث السابق وبما رواه أحمد، وأبو داود والنسائي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب يوم فتح مكة فقال: «ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلّظة. .» الحديث. الحكم الثاني: ما هو القتل العمد، وما هي عقوبته؟ القتل العمد يوجب القصاص، والحرمان من الميراث، والإثم وهذا باتفاق الفقهاء، أما الكفارة فقد أوجبها الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة لا كفارة عليه وهو مذهب الثوري. قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى. وقال أبو حنيفة: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى، وحيث لم تذكر في العمد فلا كفارة. قال ابن المنذر: «وما قاله أبو حنيفة به نقول، لأن الكفارات عبادات وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضاً يلزمه عباد الله إلا بكتابٍ، أو سنة، أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمداً كفارةً حجةٌ من حيث ذكرت» . وقد اختلفوا في معنى العمد وشبه العمد على أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة: 1 - العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه مثل الذبح، أو بكل شيء محدّد أو بالنار وما سوى ذلك من القتل بالعصا أو بحجر صغيراً كان أو كبيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 فهو شبه العمد، وهذا قول أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ. 2 - العمد كل قتلٍ من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، بما يقتل مثله في العادة، وشبه العمد ما لا يقتل مثله، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. 3 - العمد ما كان عمداً في الضرب، والقتل، وشبه العمد ما كان عمداً في الضرب، خطأ في القتل أي ما كان ضرباً لم يقصد به القتل وهذا قول الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ. الترجيح: ما ذهب إليه (أبو حنيفة) رَحِمَهُ اللَّهُ من جعل كل قتلٍ بغير الحديد شبه عمد ضعيفٌ، فإن من ضرب رأس إنسان بمثل (حجر الرحى) قتله وادّعى أنه ليس عامداً كان مكابراً، والمصلحة تقضي بالقصاص في مثله، لأن الله شرع القصاص صوناً للأرواح عن الإهدار، وما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد الشافعي هو الأصح والله أعلم. الحكم الثالث: ما هي شروط الرقبة وعلى مَن تجب؟ أوجب الله في القتل الخطأ أمرين: 1 - عتق رقبة مؤمنة. ب - ودية مسلّمة إلى أهله. فأما الرقبة المؤمنة فقد قال ابن عباس والحسن: لا تجزئ الرقبة إلاّ إذا صامت وصلّت. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يجزئ الغلام والصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً. ونقل عن الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ روايتان إحداهما تجزئ، والأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 لا تجزئ إلا إذا صامت وصلت. حجة الأولين: أن الله تعالى شرط الإيمان، فلا بدّ من تحققه، والصبي لم يتحقق منه ذلك. وحجة الجمهور: أن الله تعالى قال: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً} فيدخل فيه الصبي، فكذلك يدخل ف قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} . قال ابن كثير: «والجمهور أنه متى كان مسلماً صح عتقه عن الكفارة سواءً كان صغيراً أو كبيراً» . وقد اتفق الفقهاء على أن الرقبة على القاتل، وأما الدية فهي على العاقلة. الحكم الرابع: على مَن تجب الدية في القتل الخطأ؟ اتفق الفقهاء على أن الدية على عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها، والعاقلة هم عصبته (قرابته من جهة أبيه) . قال في «المغني» : «ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن دية الخطأ على العاقلة» . وقال ابن كثير: «وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله قال الشافعي: لم أعلم مخالفاً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قضى بالدية على العاقلة، وهذا الذي أشار إليه رَحِمَهُ اللَّهُ قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في» الصحيحين «عن أبي هريرة قال:» اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 أن دية جنينها (غرة) عبدٌ أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها «. تنبيه: فإن قيل: كيف يجني الجاني وتؤخذ عاقلته بجريرته والله تعالى يقول: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ويقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] ؟ فالجواب: أن هذا ليس من باب تحميل الرجل وزر غيره، لأن الدية على القاتل، وتحميل (العاقلة) إيّاها من باب المعاونة والمواساة له، وقد كان هذا معروفاً عند العرب وكانوا يعدونه من مكارم الأخلاق، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، والمعاونة والمواساة والتناصر وتحمل المغارم، كل هذا ممّا يقوّي الألفة ويزيد في المحبة فلذلك أقره الإسلام. الحكم الخامس: كم هو مقدار الدية في العمد والخطأ؟ اتفق العلماء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة، وهي مائة من الإبل تؤخذ نجوماً على ثلاث سنين وتجب أخماساً لما رواه ابن مسعود قال: قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكوراً، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة «. وأما دية شبه العمد فهي مثلّثة (أربعون خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون جذعة) وتجب على العاقلة أيضاً، وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أبي حنيفة ومالك على المشهور في قوله، وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد، وتجب على مال القاتل. قال القرطبي:» أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد، وأنها في مال الجاني «. وقال ابن الجوزي:» والدية للنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ومن الورق (الفضة) اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل مائتا حلة، فهذه دية الذكر الحر المسلم، ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك «. وهذا قول جمهور الفقهاء ووافقهم أبو حنيفة في ذلك إلا أنه قال في الفضة عشر آلاف درهم لا تزيد. الحكم السادس: هل للقاتل عمداً توبة؟ ذهب بعض العلماء إلى أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له وهذا قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال:» اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقالت: نزلت هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء «. وروى النسائي عنه قال:» سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة؟ قال: لا، وقرأت عليه الآية التي في [الفرقان: 68] {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ} . وروى ابن جرير بسنده عن (سالم بن أبي الجعد) قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه، وأعدّ له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 بيده لقد سمعت نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «يجيء يوم القيامة معلّقاً رأسُه بإحدى يديه - إما بيمينه أو بشماله - آخذاً صاحبه بيده الأخرى، تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن يقول: يا رب سل عبدك هذا علام قتلني؟ فما جاء نبيٌ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم» . وذهب الجمهور إلى أن توبة القاتل عمداً مقبولة، واستدلوا على ذلك ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي: أولاً: إن الكفر أعظم من القتل العمد، فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة عن القتل أولى بالقبول. ثانياً: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] يدخل فيه القتل وغيره. ثالثاً: قوله تعالى: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ... } إلى قوله {إِلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 68 - 70] ويه نصٌ في الباب. رابعاً: حديث «الصحيحين» «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ... ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه» . خامساً: حديث مسلم في الشخص الذي قتل مائة نفس. . إلخ. قال العلامة الشوكاني: «والحقّ أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً؟ والله أحكم الحاكمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - سفك دم المؤمن من الكبائر التي توجب الخلود في النار. 2 - القتل الخطأ فيه الكفارة والدية وليس فيه القصاص. 3 - إذا عفا أهل القتيل سقطت الدية عن القاتل دون الكفارة. 4 - الكفارة عتق رقبة مؤمنة فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين. 5 - لا يجوز التعجل بقتل إنسان لمجرد الشبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 [7] صلاة الخوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 التحليل اللفظي {ضَرَبْتُمْ} : الضرب في الأرض السيرُ فيها قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} [المزمل: 20] أي سافرون. {تَقْصُرُواْ} : القصر النقصُ وهو يحتمل النقص من عددها، والنقص من صفتها وهيئتها. قال الراغب: قصر الصلاة جعلها قصيرة بترك بعض أركانها ترخيصاً. وقال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات: قصَرتُ الصلاة، وقصّرتها، وأقْصَرتها ذكره القرطبي. {يَفْتِنَكُمُ} : الفتنة: الابتلاء والاختبار وتستعمل في الخير والشر قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] . قال الراغب: والفتنة كالبلاء يستعملان في الشدة والرخاء وهما في الشدة أظهر. {عَدُوّاً مُّبِيناً} : أي أعداء ظاهري العداوة. قال الطبرسي: «وإنما قال في الكافرين إنهم (عدُوّ) لأن لفظة فعول تقع على الواحد والجماعات» . {حِذْرَهُمْ} : الحِذْر بسكون الذال كالحَذر بفتحها معناه الاحتراز عن الشيء المخيف. قال في «اللسان» : الحِذْر والحَذر الخيفة ومن خاف شيئاً اتقاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 بالاحتراس من أسبابه. قال الرازي: هما بمعنى واحد كالإِثْر والأثَر، والمِثْل والمَثَل، يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من الخوف. والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم. {تَغْفُلُونَ} : الغفلة: سهوٌ يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، قاله الراغب. {جُنَاحٌ} : الجُناحُ: الإثم، وهو من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانباً عن القصد. {قَضَيْتُمُ} : فرغتم وانتهيتم، وقيل: معناها أديتم قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10] أي أديت. {اطمأننتم} : أمنتم وأصله السكون يقال: اطمأن القلب أي سكن، والمراد إذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي تعرفونها، ويصح أن يكون المراد بالاطمئنان الإقامة. {كتابا مَّوْقُوتاً} : أي فرضاً محدوداً بأوقات لا يجوز التقديم أو التأخير فيها، والتوقيت: التحديد بالوقت. قال ابن قتيبة: «موقوتاً أي موقّتاً يقال: وقِّته الله عليهم ووقَته أي جعله لأوقات معلومة ومنه {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] . {تَهِنُواْ} : تضعفوا وتتوانوا من الوهن بمعنى الضعف {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] . {ابتغآء القوم} : أي في طلبهم، يقال: ابتغى القوم أي طلبهم بالحرب، والمراد بالقوم هنا الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 {تَأْلَمونَ} : الألم الوجع، وهو من الأعراض التي تصيب الإنسان. قال في» الكشاف «: المعنى» ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أولى بالصبر منهم «. {وَتَرْجُونَ} : الرجاء معناه الأمل، قال الزجّاج: هو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم. وقال الراغب: الرجاء ظنّ يقتضي حصول ما فيه مسرة، ويأتي بمعنى الخوف قال الشاعر: إذا لسَعَتْه النَّحلُ لم يرجُ لسعها ... وحالفها في بيت نُوبٍ عوامل {خَصِيماً} : الخصيم بمعنى المخاصم أي المنازع والمدافع، والمعنى: لا تكن لأجل الخائنين مخاصماً للبريئين قاله الزمخشري. وقال الطبري: المعنى: «لا تكن لمن خان مسلماً أو معاهداً تخاصم عنه وتدافع عنه من طالبه بحقه الذي خانه» . {غَفُوراً رَّحِيماً} : أي كثير المغفرة والرحمة لأن (فعولاً) و (فعيلاً) من صيغ المبالغة. المعنى الإجمالي إذا سافرتم أيها المؤمنون وسرتم في الأرض للجهاد أو التجارة أو السياحة أو غير ذلك، فليس عليكم حرج ولا إثم أن تقصروا من الصلاة المفروضة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 فتصلّوا الرباعية ركعتين، لأن الإسلام دين اليسر والله تعالى يريد بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر، وخاصة إذا خفتم على أنفسكم من فتنة الكافرين، فهم أعداء مظهرون للعداوة، لا يراقبون الله ولا يخشونه فيكم، ولا يمنعكم فرصة اشتغالكم بمناجاة الله أن يقتلوكم، لأنهم أعداء لكم في كل حين وزمان. وإذا كنت يا محمد مع أصحابك في الحرب، وأردت أن تصلي بهم إماماً فاقسمهم طائفتين: طائفة تقف معك في الصلاة، وطائفة أخرى تحرسك ومعهم أسلحتهم فإذا سجدت الطائفة الأولى وأدركوا ركعة فليتأخروا ولتتقدم الطائفة الأخرى التي كانت تتولى الحراسة فَلْيُصلوا معك كما فعل الذين من قبلهم، ثم يتمموا صلاتهم. ثم أخبر تعالى بأن الكافرين يتمنون أن يصيبوا من المؤمنين غفلة، حتى يأخذوهم على حين غرة ويحملوا عليهم حملة واحدة وهم مشغولون بالصلاة واضعون السلاح، ولهذا أمر الله تعالى بأخذ الحذر والحيطة، ثم أخبر بأنه لا إثم عليهم إن كانت بهم جراحات أو مرض وشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم مع أخذ الحذر الشديد من الأعداء، فإذا قضى المؤمنون الصلاة وأتموها فعليهم أن يكثروا من ذكر الله في حالة القيام والقعود والاضطجاع، فإذا ذهب عنهم الخوف واطمأنوا فليؤدوا الصلاة كما شرعها الله، لأن الصلاة كانت على المؤمنين فرضاً محدوداً بأوقات، ثابتة ثبوت الكتاب في اللوح. ثم أمر تعالى المؤمنين بألاّ يضعفوا عن قتال الكفار، لأنهم يطلبون إحدى الحسنين: إما النصر والعزة، وإما الشهادة والجنة، وهم أحق بالثبات والصبر من المشركين. وختم الله تعالى هذه الآيات الكريمة بأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحكم بين الناس بالحق والعدل الذي أعلمه به، وألاّ يكون من أجل المنافقين خصيماً للبريئين، وأن يستغفر الله من تحسين ظنه ببعض الناس الذين يتظاهرون بالتقى والدين وهم من المنافقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 «وجه الارتباط بالآيات السابقة» كان السياق في الآيات السابقة في أحكام الجهاد في سبيل الله، ثم في أحكام الهجرة من الوطن ابتغاء مرضاة الله، ولما كانت الصلاة فرضاً لازماً في كل حال، لا تسقط في وقت القتال، ولا في أثناء الهجرة، ولا غيرها من أيام السفر، ولكن قد تتعذر أو تتعسر في حالة الحرب والسفر لذلك وردت هذه الآيات الكريمة تبيّن طريقة الصلاة في حالة الخوف وتأمر بالمحافظة على الصلاة حتى في حالة لقاء العدو، وقد رخص لهم القصر في حالة الخوف والسفر تيسيراً على العباد، فناسب ذكر هذه الأحكام والله تعالى أعلم. سبب النزول أولاً: روى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي عيّاش الزّرقي قال: «كنّا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلّى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الظهر، فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} » الآية. ثانياً: وروي أن (طُعْمة بن أُبَيْرق) سرق درعاً لقتادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب، حتى انتهى إلى الدار ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طُعمة فلم توجد عنده، وحلف مالي بها علمٌ، فقال أصحابها: بلى والله لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهود فأخذوه، فقال: دفعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 إليّ طعمة، فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وليجادل عن صحابنا فإنه بريء، فأتوه فكلّموه في ذلك فنزلت هذه الآيات {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} . لطائف التفسير اللطيفة الأولى: التعبير بقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} ليس للشرط وإنما خرج الكلام مخرج الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار، ولهذا قال (يَعْلَى بن أمية) لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما لنا نقصر وقد أمّنا؟ فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك فقال: «صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . اللطيفة الثانية: أمر تعالى المجاهدين حين شروعهم بالصلاة بعدم طرح الأسلحة، وعبّر عن ذلك بالأخذ (وليأخذوا أسلحتهم) للإيذان بالاعتناء بضرورة الحذر من الكافرين، والتنبيه على ضرورة اليقظة وعدم التساهل في الأخذ بالأسباب. اللطيفة الثالثة: «روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزا محاراً مع أصحابه، فنزلوا وادياً ولا يرون من العدوّ أحداً، فوضع الناس أسلحتهم وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحاجة له، فلما قطع طرف الوادي بصرَ به (غورث بن الحارث) فانحدر من الجبل وهو السيف، فلم يشعر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا وهو قائم على رأسه يقول: قتلني الله إن لم أقتلك وقد سلّ سيفه من غمدة فقال يا محمد: من يعصمك منيّ الآن؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الله عَزَّ وَجَلَّ، فأهوى بالسيف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليضربه فزلقت رجله وسقط على الأرض، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السيف وقال: من يمنعك مني الآن يا غورث؟ فقال: لا أحد، كن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 خير آخذ فعفا عنه الرسول عليه السلام، فرجع إلى قومه فقصّ عليهم قصته فآمن بعض قومه ودخلوا في الإسلام» . اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} أي بما عرّفك وأعلمك وأوحى إليك، سمي ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوة والظهور. قال الزمخشري: كان عمر يقول: «لا يقولَّنّ أحدكم قضيتُ بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن ليجتهد رأيه، لأن الرأي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان مصيباً، لأن الله كان يريه إياه، وهو منّا الظن والتكلف» . اللطيفة الخامسة: قال الرازي: واعلم أن في الآية تهديداً شديداً، وذلك لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طُعْمة، وكان في علم الله أن (طُعْمة) كان فاسقاً، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغّبه فيه أشد الترغيب؟ . اللطيفة السادسة: أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاستغفار لا يدل على وقوع المعصية منه عليه السلام وإنما هو لزيادة حسناته ورفع مقامه، قال القاضي عياض في «الشفا» : إن تصرف الأنبياء عليهم السلام بأمورٍ لم يُنهوا عنها، ولا أُمروا بها، ثم عوتبوا بسببها، إنما هي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم، وإلى كمال طاعتهم، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وأطال في هذا المقام وأطاب، ثم قال: وأيضاً فإن في التوبة والاستغفار معنى لطيفاً أشار إليه بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 العلماء وهو: استدعاء محبة الله، قال الله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] . الأحكام الشرعية الحكم الأول: قصر الصلاة في السفر. دل قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاوة} على مشروعية قصر الصلاة في السفر لأن قوله {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} معناه إذا سافرتم في البلاد، ولم يشرط الله تعالى أن يكون السفر للجهاد وإنما أطلق اللفظ ليعمّ كل سفر، وقد استدل العلماء بهذه الآية على مشروعية (قصر الصلاة) للمسافر ثم اختلفوا هل القصر واجب أم رخصة على مذهبين: المذهب الأول: أن القصر رخصة فإن شاء قصر وإن شاء أتم، وهو قول الشافعي وأحمد رحمهما الله. المذهب الثاني: أن القصر واجب وأن الركعتين هما تمام صلاة المسافر وهو مذهب أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ. وقال مالك: إن أتمّ في السفر يعيد ما دام في الوقت، والقصر عنده سنة وليس واجباً. دليل المذهب الأول: احتج الشافعية والحنابلة على عدم وجود القصر بأدلة نوجزها فيما يلي: أ - إن ظاهر قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاوة} يشعر بعدم الوجوب، لأن رفع الجناح يدل على الإباحة لا على الوجوب، ولو كان القصر واجباً لجاء اللفظ بقوله: فعليكم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 تقصروا من الصلاة، أو فاقصروا الصلاة. ب - ما روي أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قالت يا رسول الله قصرتُ وأتممتُ، وصمتُ وأفطرت، فقال: أحسنتِ يا عائشة ولم يَعِبْ عليّ. ج - وقالوا: إن عثمان كان يتم ويقصر ولم ينكر عليه أحد الصحابة فدل على أن القصر رخصة. د - وقالوا مما يدل على ما ذكرناه أن رخص السفر جاءت على التخيير كالصوم والإفطار، فكذلك القصر. دليل المذهب الثاني: واستدل الحنفية على وجوب قصر الصلاة في السفر بأدلة نوجزها فيما يلي: أ - ما روي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ب - إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التزم القصر في أسفاره كلها، فقد روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا خرج مسافراً صلّى ركعتين حتى يرجع» . ج - ما روي عن (عمران بن حصين) قال: «حججتُ مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين، وقال لأهل مكة: صلوا أربعاً فإنّا قوم سَفْرٌ» . د - وقال ابن عمر: صحبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في السفر فلم يزد على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى، وقد قال الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . هـ - وما روي عن عائشة الثابت في الصحيح «فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين، فزيدت في الحضر وأُقرّت في السفر» . قالوا: فهذه هي صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجب اتباعه وقد قال عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فلمّا صلىّ في السفر ركعتين دلّ على أنه هو المفروض. الحكم الثاني: السفر الذي يبيح قصر الصلاة. اختلف الفقهاء في السفر الذي يبيح قصر الصلاة، فذهب بعضهم إلى أنه لا بدّ أن يكون (سفر طاعة) كالجهاد، والحج، والعمرة، وطلب العلم أو غير ذلك أو أن يكون مباحاً كالتجارة، والسياحة، وغير ذلك وهذا هو مذهب (الشافعية والحنابلة) . وقال مالك: كل سفر مباح يجوز فيه قصر الصلاة، فقد «روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين، فأمره أن يصلي ركعتين» قال ابن كثير هذا حديث مرسل. وقال أبو حنيفة والثوري وداود: يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل، وحجتهم في ذلك أن القصر فرضٌ معيَّنٌ للسفر لحديث عائشة السابق «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر» ولم يخصّص القرآن سفراً دون سفر فكان مطلق السفر مبيحاً للقصر حتى ولو كان سفر معصية. قال ابن العربي في «أحكام القرآن» : «وأما من قال إنه يقصر في سفر المعصية فلأنها فرضٌ معيّن للسفر فقد بينّا في كتاب» التلخيص «فساده، فإن الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفاً والتمام أصلاً، والرّخَص لا تجوز في سفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 المعصية كالمسح على الخفين» . أقول: ما ذهب إليه الجمهور من أن السفر المباح تقصر فيه الصلاة هو الأرجح لئلا نعينه على المعصية والله تعالى يقول: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 2] . الحكم الثالث: ما هو مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة؟ 1 - ذهب أهل الظاهر إلى أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز القصر. 2 - وذهب الشافعية والحنابلة والمالكية إلى أن أقله يومان، مسيرة ستة عشر فرسخاً. 3 - وذهب الحنفية إلى أن أقله ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً. 4 - وقال الأوزاعي أقله مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ. وقد مرت هذه الأقوال في آية الصوم مع الأدلة فارجع إليها هناك. قال ابن العربي في الردّ على الظاهرية: «تلاعب قوم بالدين فقالوا: إنّ من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل، وقائل هذا أعجميّ لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخفّ بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أن أفكّر فيه بفضول قلبي، وقد كان من تقدم من الصحبة يختلفون في تقديره، فروي عن عمر، وابن عمر، وابن عباس أنهم كانوا يقدّرونه بيوم، وعن ابن مسعود أنه كان يقدّره بثلاثة أيام، يعلمهم بأن السفر كل خروج تُكلّف له وأدركت فيه المشقة» . الحكم الرابع: كيف تصلى صلاة الخوف؟ ذهب الإمام أبو يوسف رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن ما اشتملت عليه الآية من الأحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 في صلاة الخوف، كان خاصاً بالرسول عليه السلام مع الجيش، أخذاً من ظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} . وذهب الجمهور إلى أن صلاة الخوف مشروعة، لأن خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطاب لأمته، وقد أمرنا باتباعه والتأسي به، والأئمة هم خلفاؤه من بعده يقيمون شريعته وملته، فلا موجب للقول بالخصوصية. ثم اختلفوا في كيفية الصلاة على أقوال عديدة حسب اختلاف الروايات عن رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. قال في «المغني» : «ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاّها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز» وقد اختار الإمام أحمد حديث (سهل بن أبي حثمة) وقد رواه الجماعة ولفظه عند مسلم كما يلي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلى بأصحابه صلاة الخوف، فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائماً حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلّم» ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - قصر الصلاة في السفر وفي الخوف مع الإمام وغيره. 2 - وجوب الاستعداد وأخذ الحيطة والحذر من الأعداء. 3 - الصلاة لها أوقات محدودة فلا يباح الإخلال بها. 4 - ضرورة الصبر وعدم الوهن والجزع من مجابهة الأعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ما يحل ويحرم من الأطعمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 سورة المائدة التحليل اللفظي {أَوْفُواْ بالعقود} : يقال وَفَى بالعهد وأوفى به ومنه {والموفون بِعَهْدِهِمْ} [البقرة: 177] وأوفى لغة أهل الحجاز، والعقود جمع عقد، وأصله في اللغة الرطب تقول: عقدتُ الحبل بالحبل، ثم استعير للمعاني كعقد البيع والعهد وغيرهما. قال صاحب «الكشاف» : العقد: العَهْد الموثّق شبّه بعقد الحبل ونحوه قال الحطيئة: قوم إذا عَقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا قومٌ هم الأنْفُ والأَذْنابُ غيرُهم ... ومَنْ يُسَوّى بأنف النّاقةِ الذنبا والمراد بالعقود هنا ما يشمل العقود التي عقدها الله على عباده كالتكاليف الشرعية، والعهود التي بين الناس كعقود الأمانات، والمبايعات وسائر أنواع العقود. {بَهِيمَةُ الأنعام} : البهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الإبهام، وخص في العرف بما عدا السباع والطير، أفاده الراغب، والأنعام جمع نَعَم بفتحتين وهي الإبل، والبقر، والغنم. {حُرُمٌ} : جمع حرام بمعنى مُحْرِم، ومعنى الآية: غير مستحلي الصيد وأنتم في حالة الإحرام. {شَعَآئِرَ الله} : ما جعله عَلَماً على طاعته واحدها شعيرة، والمراد بالشعائر هنا مناسك الحج وهو مروي عن ابن عباس، وقيل: المراد بها حدود الله وهو منقول عن عكرمة وعطاء. {القلائد} : جمع قلادة وهي ما قلّد به الهدي، وكان الرجل يقلّد بعيره من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك حيث سلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} : أي يَكسبنّكم يقال: جرم ذنباً أي كسبه، وفلان جارمُ أهلِه أي كاسبهم. {شَنَآنُ} : أي بغض يقال: شنأته إذا أبغضته، والشانيء المبغض قال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الكوثر: 3] . والمعنى: لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام الاعتداء عليهم. {أُهِلَّ لِغَيْرِ الله} : أي ذبح لغير الله، وذكر عند ذبحه غير اسم الله وهو كقولهم: باسم اللات والعزى. {والموقوذة} : التي تضرب حتى تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت وتؤكل بغير ذكاة. {والمتردية} : الواقعة من جبلٍ أو حائطٍ أو في بئر، يقال: تردّى أي سقط. {والنطيحة} : التي نطحتها شاة أخرى فمات بالنطح، (فعيلة) بمعنى (مفعولة) أي منطوحة. {ذَكَّيْتُمْ} : ذبحتموه الذبح الشرعي مع ذكر اسم الله تعالى عند الذبح. {النصب} : قال في «اللسان» : النّصبُ صنمٌ أو حجر، وكانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده وجمعه أنصاب. {بالأزلام} : أي بالقداح جمع زَلَم، والاستقسام بها أن يضرب بها ثم يعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي. {مَخْمَصَةٍ} : أي مجاعة، والخَمْصَ: الجوع، قال حاتم يذم رجلاً: يرى الخَمْص تعذيباً وإن يلقَ شِبْعة ... يَبِتْ قلبُه من قلة الهمّ مبهماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 {مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} : أي منحرفٍ مائلٍ إلى الإثم، والجَنَفُ الميل قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} [البقرة: 182] . {الجوارح} : جمع جارحة وهي الكواسب من سباع البهائم والطير، من جَرَحَ إذا كسب قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] أي كسبتم وقيل: المراد كلاب الصيد. {مُكَلِّبِينَ} : جمع مكلِّب بالتشديد وهو الذي يؤدب الكلاب ويعلّمها أن تصيد لأصحابها، وإنما اشتق الاسم من الكلب مع أنه يعلّم الكلاب والبزاة وغيرها لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. المعنى الإجمالي خاطب الله سبحانه المؤمنين، فأمرهم بالوفاء بالعهود التي بينهم وبين الله والناس، ثم ذكر ما أباح لهم من لحوم الإبل والبقر والغنم بعد الذبح، وما حرّم عليهم من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى آخر ما ذكر في آية المحرمات التالية، كما ذكر الله تعالى أنه أباح الصيد لعباده إلا في حالة الإحرام. ونهى الله تعالى في الآية الثانية عن إحلال الشعائر كالصيد في الإحرام، والقتال في الشهر الحرام، والتعرض للهدي والقلائد التي تهدى لبيت الله، والتعرض لقاصدي المسجد الحرام الذين يبتغون الفضل والرضوان من الله بقتالهم أو الاعتداء عليهم، ثم أباح الله تعالى الصيد لعباده بعد التحلل من الإحرام، وزجرهم عن الاعتداء على الغير بسبب بغضهم لهم، فإن الظلم ممقوت وقد حرم الله البغي والعدوان بجميع صوره وضروبه، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان وختم الآية بالتهديد، والوعيد لمن خالف أمر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وفي الآية الثالثة عدّد الله تعالى المحرمات التي ذكرها بالإجمال في أول السورة {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} فبينها هنا بالتفصيل وهي أحد عشر شيئاً كلها من قبيل المطعوم إلا الأخير وهو (الإستقسام بالأزلام) وهذه المحرمات هي التي كان أهل الجاهلية يستحلونها فحرمتها الشريعة الإسلامية وهي (الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما ذبح لغير الله، المنخنقة، الموقوذة (المقتولة ضرباً) المتردية (الساقطة من علو فماتت) النطيحة (المقتولة بنطح أخرى) (ما أكل السبع) بعضه إلا إذا أدرك قبل الموت من هذه الأشياء فذبح، الذبح الشرعي، وما قصد بذبحه النصب (الأصنام) وكذلك حرّم الله تعالى الاستقسام بالأقداح التي هي - على زعمهم - استشارة للآلهة في أمورهم، فإن أمرتهم ائتمروا، وإن نهتهم انتهوا، وبيّن الله تعالى أن هذا فسق من عمل الشيطان. وختم الله تعالى الآيات الكريمة بأنه أكمل الدين وأتم الشريعة، وأحل الطيبات، وحرّم الخبائث إلا في حالة الاضطرار، التي يباح فيها للإنسان ما حرّمه الله تعالى عليه. سبب النزول روى ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن المشركين كانوا يحجون البيت، ويهدون الهدايا، ويعظّمون المشاعر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} . وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} بفتح النون في (شنَآنُ) ، وقرأ ابن عامر بسكون النون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 2 - قرأ الجمهور {أَن صَدُّوكُمْ} أي من أجل أن صدوكم، وقرأ ابن كثير بالكسر (إن صدوكم) على أنها شرطية. 3 - قرأ الجمهور {وَمَآ أَكَلَ السبع} بضم الباء، وقرأ أبو رزين (السّبْعُ) بسكون الباء. 4 - قرأ الجمهور {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} بضم الصاد، وقرأ الحسن (النّصْب) بسكون الصاد. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: نهى الله تعالى عن التعرض للهدي ثم خصّ بالذكر (القلائد) أي ذوات القلائد فيكون هذا من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى: {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] للتنبيه على زيادة الشرف والفضل، ويجوز أن يكون المراد القلائد نفسها، فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي لا تحِلّوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] نهى عن إبداء الزينة مبالغة عن إبداء مواقعها. اللطيفة الثانية: جرت سنة الجاهلية على مبدأ العصبيّة العمياء (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وهو المبدأ الذي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بقوله: وهل أنا إلاّ من غُزَيَّة إن غوتْ ... غويتُ وإن ترشد غُزيةُ أرشد وجاء الإسلام بهذا المبدأ الإنساني الفاضل الذي عبّر القرآن الكريم بقوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 2] وشتان شتّان بين هذين المبدأين!! اللطيفة الثالثة: الاستقسام بالأزلام أي بالقداح، وقد كانوا في الجاهلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 إذا أرادوا سفراً، أو غزواً، أو تجارةً أو نكاحاً، أو اختلفوا في أمر نسبٍ، أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام، جاءوا إلى (هُبل) أعظم أصنامهم بمكة وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح، حتى يجيلُها لهم ويستشيروا آلهتهم (الأصنام) فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر، وإن خرج نهاني ربي لم يفعلوا، وإن خرج غُفْل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب عليهم، فنهاهم الله عن ذلك وسمّاه فسقاً. اللطيفة الرابعة: في قوله تعالى: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} لم يرد يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقول الرجل: كنتُ بالأمس شاباً وأنا اليوم أشَيَبُ، فلا يريد بالأمس الذي قبل اليوم، ولا باليومِ اليوم الذي هو فيه، بل يريد به الزمان الماضي والحاضر. اللطيفة الخامسة: نزلت هذه الآية الكريمة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حجة الوداع، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعرفة، في يوم جمعة، فكان ذلك اليومُ عيداً على عيد، روي أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أيَّ آية تعني؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله عشية عرفة في يوم جمعة. و «روي أنه لما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما يبكيك يا عمر؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، وإنه لا يكمل شيء إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 نقص، فقال: صدقت، فكانت هذه الآية نَعيَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فما لبث بعد ذلك إلاّ إحدى وثمانين يوماً» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد بالعقود في الآية الكريمة؟ قال بعض العلماء: المراد بالعقود عقود الدّيْن والمعاملة، وهي ما عقدة الإنسان على نفسه من بيع، وشراء، وإجارة، وغير ذلك ممّا يتعامل به الناس، وهو قول الحسن. وقال آخرون: المراد بها عقود الشريعة من حج، وصيام، واعتكاف، وقيام، ونذور وما أشبه ذلك من الطاعات، وهو قول ابن عباس ومجاهد، ورجّحه الطبري. والصحيح كما قال القرطبي وجمهور المفسرين أن المراد بالعقود ما يشمل عقود المعاملة وعقود الشريعة وهي التكاليف والواجبات الشرعية التي فرضها الله على عباده، وما أُحل وحرّم عليهم. قال القرطبي: قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقد بعضكم على بعض. وهذا كله راجع إلى القول بالعموم، وهو الصحيح في الباب، لقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم» . الحكم الثاني: المحرمات من الأنعام التي أشارت إليها الآية الكريمة. ذكرت الآية الكريمة المحرمات من الأنعام بالتفصيل وهي (الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما ذبح للأصنام أو ذكر عليه اسم غير الله، المنخنقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 الموقوذة، المتردية، النطيحة، فما أكله السبع أي ما افترسه ذو ناب وأظفار كالذئب والأسد) وقد استثنى الباري جل وعلا من (الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكله السبع) ما أدركه الإنسان حياً فذكاه التذكية الشرعية. وقد اختلف الفقهاء في الذكاء هل تحل هذه الأنواع التي لها حكم الميتة؟ فالمشهور من مذهب الشافعية وهو مذهب الحنفية أن الحيوان إذا أُدرك وبه أثر حياة كأن يكون ذنبه يتحرك، أو رجله تركض ثم ذَكّي فهو حلال. وقال بعضهم: يشترط في الحياة أن تكون مستقرة، وهي التي لا تكون على شرف الزوال، وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته. وروي عن مالك أنه إذا غلب على الظن أنه يهلك فلا يحل ولا يؤثر فيه الذكاة، وروي عنه قول آخر مثل قول الشافعية والحنفية أنه يحلّ إذا كان به أدنى ما يدرك به الذكاة. وسبب الخلاف بين الفقهاء هو الاستثناء في الآية الكريمة {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} هل هو استثناء متصل أم منقطع؟ فمن رأى أنه متصل يرى أنه أخرج من حكم التحريم ويكون معنى الآية: إلاّ ما أدركتموه وفيه بقية حياة وذكيتموه فإنه حلال لكم أكله. ومن رأى أنه منقطع يرى أن التذكية لا تحلّ هذه الأنواع، وأن الاستثناء من التحريم لا من المحرمات، ومعنى الآية: حرّم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه لحلال لكم. والراجح أن الاستثناء متصل لأنه لو تردى الحيوان ولم يمت ثم ذبح بعد أيام جاز أكله باتفاق فلا وجه للقول الآخر والاستثناء المتصل على ما تقدم يرجع إلى الأصناف الخمسة من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي وابن عباس والحسن، وقيل: إنه خاص بالأخير، والأول أظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 الحكم الثالث: كيف تكون الذكاة الشرعية؟ أ - قال مالك: لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين. ب - وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين، لأنهما مجرى الطعام والشراب. ج - وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. والتفصيل في كتب الفقه، إلا أن مالكاً وأبا حنيفة اعتبروا الموت على وجهٍ يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام، وذلك بقطع الأوداج التي يسيل منها الدم كقوله عليه السلام: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا» . وأما الآلة التي تجوز بها الذكاة فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالسن والظفر إذا كانا منزوعين. فأما البعير إذا توحش، أو تردّى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقْرُه، لما رواه البخاري والنسائي وأبو داود عن (رافع بن خديج) قال: «كنّا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سفره، فندّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجلٌ بسهم فحبسه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا» . وقال مالك: ذكاتُه ذكاةُ المقدور عليه. قال الإمام أحمد: لعلّ مالكاً لم يسمع حديث رافع بن خديج. وقد تأويل ابن العربي في تفسيره «أحكام القرآن» : الحديث بأن مفاده جواز حبس ما ندّ من البهائم بالرمي وغيره، لأنّ ذلك ذكاة لها، وأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 لا بدّ من الذبح للأنعام. الحكم الرابع: حكم صيد السباع والجوارح. دلّ قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ} أي معلمين لها الصيد، على جواز أكل ما صاده سباع البهائم والجوارح، كالكلب والفَهْد، والصقر والبازي، بشرط أن يكون الحيوان أو الطير معلّماً. وقد اتفق الفقهاء على جواز صيد كل كلب معلّم لقوله عليه السلام لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك، فإن أكل منه فلا تأكل» . وشرط بعضهم في الكلب المعلّم شروطاً ينبغي أن تتوفر حتى يحل صيده منها: 1 - أن يكون معلّماً يجيب إذا دعي، وينزجر إذا زجر لقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} . 2 - أن لا يأكل من صيده الذي صاده لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . 3 - أن يذكر اسم الله تعالى عند إرساله لقوله تعالى: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وذكرت اسم الله تعالى» . 4 - أن يكون الذي يصيد بهذا الحيوان مسلماً، وشرط بعضهم ألا يكون الكلب أسود. وفي بعض هذه الشروط خلاف بين الفقهاء يعلم من كتب الفقه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 [2] أحكام الوضوء والتيمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 التحليل اللفظي {وَطَعَامُ} : الطعام اسمٌ لما يؤكل وهو هنا خاص بالذبائح، يعني ذبيحة اليهودي والنصراني حلال لنا، كما أن ذبيحتنا حلال لهم. {والمحصنات} : العفائف من النساء قال الشعبي: أن تحصن فرجها فلا تزني، وقد تقدم. {متخذي أَخْدَانٍ} : جمع خِدْن بمعنى صديق، والخدْن يعق على الذكر والأنثى كذا قال صاحب «الكشاف» . وقد كان الرجل في الجاهلية يتخذ صديقة فيزني بها، والمرأة تتخذ صديقاً فيزني بها فحرم الإسلام ذلك. {يَكْفُرْ بالإيمان} : أي يجحد بشرائع الإسلام ومن ضمنها أحكام الحلال والحرام. {حَبِطَ عَمَلُهُ} : بطل ثوابه لأن الكفر يذهب ثواب العمل الصالح {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . {إِذَا قُمْتُمْ} : قال الزجاج: المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] . فليس المراد القيام فعلاً وإنما المراد إرادة الفعل، كما تقول: إذا ضربت فاتق الوجه أي إذا أردت الضرب. {فاغسلوا} : الغَسْل بالفتح إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ وغيره. {وُجُوهَكُمْ} : لفظ الوجه مأخوذ من المواجهة، وحدّه من أعلى الجبهة إلى أسفل الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً. {إِلَى الكعبين} : الكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم، وسمّي كعباً لعلوه وارتفاعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 {مِّنْ حَرَجٍ} : أي من ضيق في الدين، فقد وسّع الله على المؤمنين حين رخّص لهم في التيمم. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: أحل لكم أيها المؤمنون المستطاب من الأطعمة ما كان منها حلالاً، وذبائح أهل الكتاب حلال لكم وذبائحكم حلال لهم، والعفائف من المؤمنات والعفائف الحوائر من نساء أهل الكتاب حلال لكم نكاحهن، إذا دفعتم إليهن مهورهن، محصنين أنفسكم بالزواج، غير زانين ولا متخذين عشيقات وصديقات، تزنون بهن في السرّ، ومن يرتد عن الإسلام فقد ذهب وبطل ثوابه، وهو في الآخرة من الخاسرين. ثمّ بيّن الله تعالى أحكام الوضوء والتيمم فقال: إذا أردتم أيها المؤمنون القيام إلى الصلاة، وأنتم محدثون، فاغسلوا بالماء الطاهر وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا رؤوسكم، واغسلوا أقدامكم إلى الكعبين، وإذا كنتم محدثين حدثاً أكبر فاغتسلوا بالماء، وإن كنتم في حالة المرض أو السفر أو محدثين حدثاً أصغر، أو غشيتم النساء ولم تجدوا ماءً تتوضؤون به أو تغتسلون، فتيمّموا بالتراب الطاهر، فامسحوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق بذلك التراب، ما يريد الله أن يضيّق عليكم في أحكام الدين، ولكنه تعالى يريد أن يطهركم من الذنوب والآثام، ومن الأقذار والنجاسات، ويتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإسلام لتشكروه على نعمه، وتحمدوه على آلائه. وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} بفتح اللام، وقرأ حمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وأبو عمرو (وأرجُلِكُمْ) بالكسر، فقراءة النصب بالعطف على الوجوه والأيدي أي فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم وأرجلَكم، وقراءة الجر للمجاورة، قال ابن الأنباري: لمّا تأخرت الأرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب والجوار. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} طعام مبتدأ، وحلّ لكم خبره. 2 - قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} محصنين حال من الضمير المرفوع في آتيتموهن. 3 - قوله تعالى: {إِلَى المرافق} قال العكبري: قيل إن (إلى) بمعنى (مع) كقوله تعالى {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] أي مع قوتكم، وليس هذا المختار والصحيح أنها على بابها لانتهاء الغاية. وإنما وجب غسل المرافق بالسنة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: تقديم المحصنات من المؤمنات على الكتابيات يدل على تفضيل الزواج بالمؤنة فالكتابية وإن كان يحل التزوج بها، لكنّ المؤمنة خير منها فيكون الزواج بها أفضل لقوله عليه السلام: «ألا أخبركم عن خير ما يكنز المرء المرأة الصالحة ... » الحديث والصلاح إنما يكون في المؤمنة الفاضلة، وهذا هو السر في تقييد النكاح بالمؤمنات في سورة الأحزاب {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} [الأحزاب: 49] . اللطيفة الثانية: تقييد التحليل بإيتاء الأجور، يدل على تأكيد وجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 المهور، وأن من تزوج امرأة وعزم ألاّ يعطيها صداقها كان في صورة الزاني، وتسمية (المهر) بالأجر دلالة على أن الصداق ليس له قدر محدود، كما أن الأجر لا يتقدر وإنما يكون حسب الاتفاق. اللطيفة الثالثة: التعبير بقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} هو من إطلاق اسم الشيء على لازمه فهو (مجاز مرسل) لأن المراد ومن يكفر بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فجعل كلمة التوحيد إيماناً، لأنها تستلزم الإيمان، وقيل: المراد ومن يكفر بشرائع الله، أو بدين الله فقد حبط عمله، وكلاهما متقارب من حيث إرادة المجاز. اللطيفة الرابعة: مجيء المسح في آية الوضوء ضمن الأعضاء المفروض غسلها. فيه إشارة لطيفة إلى أنه ينبغي مراعاة الترتيب في الوضوء، فيغسل الوجه أولاً، ثم اليدين إلى المرفقين ثانياً، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل القدمين، وهذا الترتيب - وإن لم يكن واجباً في بعض الأقوال - إلاّ أنه على كل حال مطلوب ومندوب، فيكون اتباع الهدي النبوي أكمل وأولى. الأحكام الشرعية الحكم الأول: حكم ذبائح أهل الكتاب. ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد من قوله تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} أي ذبائح أهل الكتاب وهو الصحيح لا الخبز والفاكهة ولا جميع المطعومات كما قال البعض، لأن الذبائح هي التي تصير بفعلهم حلا، وأما الخبز والفاكهة فهي مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب وبعد أن تكون لهم، فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب. وخُصّ هذا الحكم بأهل الكتاب لأن الوثنيّين لا يحل أكل ذبائحهم، ولا التزوج بنسائهم، لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 [الأنعام: 121] وقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] . أما أهل الكتاب فلهم حكم خاص من حيث الذبائح، والنكاح، وأما المجوس فقد سُنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقد روي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه استثنى نصارى (بني تغلب) وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ. وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس به، وبه أخذ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ. وإنما قال تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} ولم يذكر النساء للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح والمناكحة، فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد، والفرق واضح لأنه لو أبيح لأهل الكتاب التزوج بالمسلمات، لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظوراً. الحكم الثاني: حكم نكاح اليهودية أو النصرانية. ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من اليهود والنصارى، واستدلوا بهذه الآية الكريمة {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} . وكان ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من قولها: إن ربها عيسى، واستدل أيضاً بأن الله أوجب المباعدة عن الكفار في قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} [الممتحنة: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 أقول: الآية صريحة في جواز نكاح الكتابيات، وهي دليل واضح لما ذهب إليه الجمهور، ولعلّ ابن عمر كره الزواج بالكتابيات ومنع منه، خشية على الزواج أو على الأولاد من الفتنة، فإن الحياة الزوجية تدعو إلى المحبة، وربما قويت المحبة فصارت سبباً إلى ميل الزوج إلى دينها، والأولاد يميلون إلى أمهم أكثر، فربما كان هذا سبباً في تأثرهم بدين النصرانية أو اليهودية فيكون هذا الزواج خطراً على الأولاد، فإذا كان ثمة خشية من الفتنة على الزوج أو الأولاد فيكون الزواج قطعاً محرماً، وأمّا إذا لم يكن هناك خطراً، أو كان هناك طمع في إسلامها فلا وجه للقول بالتحريم والله أعلم. الحكم الثالث: هل يجب الوضوء على غير المحدث؟ ظاهر قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} يوجب الوضوء على كل قائم وإن لم يكن محدثاً، وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، فيكون قيد الحدث مضمراً في الآية ويصبح المعنى (إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون) وإنما أوّلوا الآية بهذا التأويل للإجماع على أن الوجوب لا يجب إلا على المحدث، ولأن في الآية ما يدل عليه، فإن التيمم يدل عن الوضوء وقائم مقامه، وقد قيد وجوب التيمم في الآية بوجود الحديث، فالأصل يجب أن يكون مقيداً به، ليتأتى أن يكون البدل قائماً مقام الأصل، ولأن الأمر بالوضوء نظير الأمر بالاغتسال وهو مقيد بالحدث الأكبر في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} فيكون نظيره وهو الأمر بالوضوء مقيداً بالحدث الأصغر. ومما يدل على ذلك «أن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عمداً فعلته يا عمر» يعني أنه عليه السلام أراد بيان الجواز لأمته بهذا العمل. وأما ما ورد من أنه عليه السلام وخلفاءه كانوا يتوضؤون لكل صلاة، فإن ذلك لم يكن بطريق الوجوب، وإنما كان بطريق الاستحباب، والرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان دائماً يحب الأفضل، فليس في فعله ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة. الحكم الرابع: ما هو حكم مسح الرأس وما مقداره؟ اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لقوله تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح على أقوال: أ - قال المالكية والحنابلة: يجب مسح جميع الرأس أخذاً بالاحتياط. ب - وقال الحنفية: يفترض مسح ربع الرأس أخذاً بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمسحه على الناصية. ح - وقال الشافعية: يكفي أن يمسح أقل شيء يطلق عليه اسم المسح ولو شعرات أخذاً باليقين. دليل المالكية والحنابلة: استدل المالكية والحنابلة على وجوب مسح جميع الرأس بأن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة للتأكيد، واعتبارها هنا زائدة أولى، والمعنى: امسحوا رؤوسكم، وقالوا: إن آية الوضوء تشبه آية التيمم، وقد أمر الله تعالى بمسح جميع الوجه في التيمم {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} ولمّا كان المسح في التيمم عاماً لجميع الوجه، فكذلك هنا يجب مسح جميع الرأس ولا يجزئ مسح البعض، وقد تأكد ذلك بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث ثبت أنه كان إذا توضأ مسح رأسه كله. دليل الحنفية والشافعية: واستدل الحنفية والشافعية بأن الباء (للتبعيض) وليست زائدة، والمعنى: امسحوا بعض رؤوسكم، إلاّ أن الحنفية قدروه بربع الرأس لما روى عن المغيرة بن شعبة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في سفر، فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وأما الشافعية فقالوا: الباء للتبعيض، وأقل ما يطلق عليه اسم المسح داخل بيقين، وما عداه لا يقين فيه فلا يكون فرضاً، وإنما يحمل على الندب. قال الشافعي: «احتمل قوله تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} بعض الرأس، ومسح جميعه، فدلت السنة على أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مسح بناصيته، وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عَزَّ وَجَلَّ {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له مسحُ الوجه في التيمم بدل من غسله، فلا بدّ أن يأتي بالمسح على جميع موْضِع الغسل منه، ومسحُ الرأس أصلٌ فهذا فرق ما بينهما» . قال القرطبي: «أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعلّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في السفر وهو مظِنّة الإعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة، فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجباً لما مسح على العمامة» . أقول: الباء في اللغة العربية موضوعة للتبعيض، وكونها زائدة خلاف الأصل، ومتى أمكن استعمالها على حقيقة ما وضعت له وجب استعمالها على ذلك النحو، فالفرض يجزئ بمسح البعض، والسنّة مسح الكل، فما ذهب إليه الشافعية والحنفية أظهر، وما ذهب إليه المالكية والحنابلة أحوط والله أعلم. الحكم الخامس: ما هي الجنابة وماذا يحرم بها؟ الجنابة معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} ، وقد بيّن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحصول الجنابة سببين: الأول: نزول المني للحديث الشريف «الماء من الماء» أي يجب الاغتسال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 بالماء من أجل الماء أي المني. والثاني: التقاء الختانين لقوله عليه السلام: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» . وكما يجب الغسل للجنابة يجب عند انقطاع الحيض والنفاس لقوله تعالى في الحيض: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لها: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصليّ» والإجماع على أن النفاس كالحيض. الحكم السادس: حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل. اختلف الفقهاء في (المضمضة) و (الاستنشاق) في الغسل، فقال المالكية والشافعية لا يجبان فيه، وقال الحنفية والحنابلة يجبان. حجة المالكية والشافعية ما روي أن قوماً كانوا يتحدثون في مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الغسل، وكلٌ يبيّن ما يعمل فقال عليه السلام «أمّا أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت» . وحجة الحنفية والحنابلة أن الأمر بالتطهر يعم جميع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة، التي ميكن غسلها وهي (الفم) و (الأنف) فكانت المضمضة والاستنشاق من الواجبات لقوله تعالى: {فاطهروا} . وأجابوا عما تمسك به (المالكية والشافعية) بأن الغرض من الحديث بيان أنه لا يجب الوضوء بعد الغسل كما فهم ذلك كثير من الصحابة، فبيّن عليه السلام أن الواجب الغسل فقط، وأن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى. الحكم السابع: حكم المريض والمسافر إذا وجد الماء. ظاهر الآية الكريمة يدل على جواز التيمم للمريض مطلقاً، ولكنّه مقيّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 بمن يضره الماء كما روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين من أن المراد بالمريض المجدور ومن يضره الماء، ولذلك رأى الفقهاء أن المرض أنواع: الأول: ما يؤدي استعمال الماء فيه إلى التلف في النفس أو العضو، بغلبة الظن أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق، وفي هذه الحالة يجوز التيمم باتفاق. والثاني: ما يؤدي استعمال الماء إلى زيادة العلة أو بطء المرض، وفي هذه الحالة يجوز التيمم عند المالكية والحنفية وهو أصح قولي الشافعية لحديث الجماعة الذين خرجوا في السفر فأصاب أحدهم حجرٌ في رأسه فشجَّه ثم احتلم فخاف من زيادة العلة إلخ. الثالث: ما لا يخاف معه تلفاً ولا بطأً ولا زيادة في العلة، وفي هذه الحالة لا يجوز التيمم عند الحنفية والشافعية، لأنه لم يخرج عن كونه قادراً عن استعمال الماء، فلا يرخص له في التيمم، وعند المالكية يجوز له التيمم لإطلاق النص {وَإِن كُنتُم مرضى} . الرابع: أن يكون المرض حاصلاً لبعض الأعضاء، فإن كان الأكثر صحيحاً وجب غسل الصحيح ومسح الجريح ولا يجوز التيمم، وإن كان الأكثر جريحاً يجوز التيمم عند الحنفية، ومذهب الشافعية أنه يغسل الصحيح ثم يتيمم مطلقاً، وعند المالكية يجوز له التيمم مطلقاً. ومن ذلك يتبين أن المريض يرخص له في التيمم ولو كان الماء موجوداً بخلاف المسافر فإن الرخصة له مقيّدة بعدم الماء. الحكم الثامن: هل يجب في التيمم مسح اليدين إلى المرفقين؟ تقدم أن المراد بالصعيد هو التراب الطاهر على القول المختار، والتيمم المطلوب شرعاً هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين بقصد التطهير، والعضوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 هما (الوجه) و (اليدان) إلى المرفقين عند الحنفية، وهو أرجح القولين عند الشافعية، وإلى الرسغين عند المالكية والحنابلة. حجة الحنفية والشافعية أن لا أيدي في قوله تعالى: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ} تشمل العضو كله، إلاّ أن التيمم لمّا كان بدلاً عن الوضوء، والبدل لا يخالف الأصل إلا بدليل، وقد وجب الغسل إلى المرافق في الوضوء فيجب أن يكون المسح إلى المرافق في التيمم. واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله «التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين» . حجة المالكية والحنابلة: أن اليد تطلق على الكف بدليل قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقطع اليد إنما يكون إلى الرسغ باتفاق، فيجزئ في التيمم ذلك. قال في «البحر المحيط» : وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح إلى المرفقين فرضاً واجباً، وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الرسغين وهو قول أحمد والطبري والشافعي في القديم وروي عن مالك. وروي عن الشعبي أنه يمسح كفيه فقط، وبه قال بعض فقهاء الحديث، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث، ففي «مسلم» من حديث عمار «إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك» وعنه في هذا الحديث «وضرب بيده الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه» وللبخاري «ثم أدناهما من فيه ثم مسح بهما وجهه وكفيه» ، فهذه الأحاديث الصحيحة مبيِّنة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب (اليهود والنصارى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 ثانياً: إباحة نكح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات. ثالثاً: الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر شرط لصحة الصلاة. رابعاً: إذا فقد الماء أو تعذّر استعماله يباح حينئذٍ التيمم. خامساً: الإسلام دين اليسر وليس في الشريعة حرج أو ضيق. خاتمة البحث: حكمة التشريع من أهداف الشريعة الغراء العناية بطهارة الإنسان، وتخليصه من الأقذار الحسية والمعنوية في الباطن والظاهر، وإعداده الإعداد الروحي الذي يؤهله للوقوف في حضرة القدس، ويسمو به آفاق مشرقة من الجلال والبهاء والكمال. وقد شرع الإسلام الوضوء والغسل للمؤمن ليكون مظهراً دالاً على طهارة الظاهر، كما دعا إلى اجتناب المعاصي والآثام ليكون عنواناً على طهارة الباطن، فالوضوء والغسل إنما يقصد منهما النظافة وهي (طهارة حسية) تعوّد الإنسان على حياة الطهر في النفس، والخُلُق، والدين، وتجعله يعتاد طريق النظافة في شتى شؤون حياته، وفي بدنه وملبسه ومطعمه، وقد حضّ الإسلام على ذلك لأنه دين الطهارة والنظافة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وطهارةُ الظاهر جزء من طهارة الباطن. ولا عجب أن تُعنى الشريعة الغراء بطهارة الإنسان (فالطهور شطر الإيمان) كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وقد بين جل ثناؤه الحكمة من تشريع هذه الأحكام في ختام الآية الكريمة بقوله {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فالطهارة أساس في حياة المسلم، وإذا كان الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بطهارة الظاهر، فكيف يقبل من تلطخ بالقاذورات والنجاسات المعنوية فيدخله دار الإنس في جواره الكريم يوم القيامة؟! إن الإسلام دين الطهارة وطهارة الظاهر فرع، وطهارة الباطن أصل، وطهارة الظاهر شرط لصحة الصلاة، كما أن طهارة الباطن شرط لدخول الجنة {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] وهما جميعاً سبب لمحبة الله {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 [3] حد السرقة وقطع الطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 التحليل اللفظي {يُحَارِبُونَ} : المحاربة من الحرب ضد السلم، والأصل في معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال، والمراد بها في الآية محاربة أولياء الله وأولياء رسوله. {فَسَاداً} : الفساد ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحاً نافعاً يقال إنه فسد، والمراد بالإفساد في الأرض إخافة السبيل، والقتل والجراح وسلب الأموال. {يقتلوا} : التقتيل: المبالغة في القتل بحيث يكون حتماً لا هوادة فيه ولا عفو من ولي الدم. {يصلبوا} : التصليب: المبالغة في الصلب، أو تكرار الصلب كما قال الشافعي، ومعنى الصلب أن يُربط على خشبة منتصب القامة، ممدود اليدين، وربما طعنوه ليعجلوا قتله. {مِّنْ خِلافٍ} : معنى تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى وتقطع الرجل اليسرى بالعكس. {يُنفَوْاْ} : النفي أصله الإهلاك، ومنه النّفاية لرديء المتاع، والنفي من الأرض هو النفي من بلد إلى بلد، لا يزال يطلب وهو هارب فزعاً، وقيل: المراد بالنفي الحبسُ. {خِزْيٌ} : الخزي الذي والفضيحة يقال أخزاه الله أي فضحه وأذلّه. {الوسيلة} : كل ما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 {نَكَالاً} : أي عقوبة قال في «المصباح» : نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة أصابه بنازلة، ونكّل به بالتشديد مبالغة، والاسم النَّكال. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لا جزاء للمفسرين في الأرض إلاّ القتل، والصلب، وقطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي من الأرض عقوبة لهم وخزياً، ذلك العذاب المذكور هو المعجّل لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هو عذاب النار، إلاّ الذين تابوا من قطاع الطريق من قبل أن تتمكنوا منهم فاعلموا أنه غفور رحيم يغفر الذنب ويرحم العبد. ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه سبحانه، والتقرب إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، والجهاد في سبيله لإعلاء دينه ليفوزا بالدرجات الرفيعة، ويكونوا من السعداء المفلحين. ثم أخبر تعالى أن الذين كفروا بآياته ورسله لو أنّ لأحدهم ملك الدنيا بأجمعه وأضعافه معه، ثم أراد أن يقدمه فداءً وعوضاً ليخلّص نفسه من عذاب الله، ما تقبلّه الله منه، لأن الله تعالى حكم بالخلود في عذاب جهنم على كل كافر، وأن هؤلاء يتمنون أن يخرجوا من النار، ولكن لا سبيل لهم إلى النجاة بوجه من الوجوه، فهم في عذاب مستمر دائم. ثم ذكر تعالى عقاب كل من السارق والسارقة، وأمر بقطع أيمانهما عند توفر الشروط، وبيّن أن تلك العقوبة جزاء ما كسباه من السرقة، عقوبة من الله لهما لإقدامهما على هذه الجريمة المنكرة، وليكون هذا العقاب الصارم عبرة للناس حتى يرتدع أهل البغي والفساد، ويأمن الناس على أموالهم وأرواحهم، وهذا التشريع هو تشريع العزيز في سلطانه الحكيم في أمره ونهيه، الذي لا تخفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 عليه مصالح العباد، ومن ضمن حكمته أن يعفو عمن تاب وأناب، وأصلح عمله، وسلك طريق الأخيار {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82] . سبب النزول روي أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا، وارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في آثارهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمّر أعينهم، وألقاهم بالحرة حتى ماتوا فنزلت هذه الآية {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ ... } الآية. وجه الارتباط بالآيات السابقة بعد أن ذكر تبارك وتعالى قصة (قابيل وهابيل) ابني آدم عليه السلام، وأبان فظاعة جُرم القتل، وشدّد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، ذكر تعالى هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، وأوضح عقوبة السارق أيضاً لأنها نوع من إخلال الأمن في الأرض، وضربٌ من ضروب الإفساد، وقد شرع الله جل وعلا الحدود لتكون زواجر للناس عن ارتكاب الجرائم، فناسب ذكر (حد السرقة) و (حد قطع الطريق) بعد ذكر جريمة القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ذكرُ المحاربة لله عزّ وجل {يُحَارِبُونَ الله} مجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحارب ولا يُغالب، لما له من صفات الكمال، وتنزهه عن الأضداد والأنداد، فالكلام على (حذف مضاف) أي يحاربون أولياء الله، فعبّر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكباراً لإذايتهم، كما عبّر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] حثاً على الاستعطاف عليهم، ومثله ما ورد في صحيح السنة «ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني» . اللطيفة الثانية: النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإبعاد، يكون بالحبس، فقد روي عن مالك أنه قال: النفي السجن، ينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فكأنه إذا سجن نفي من الأرض، لأنه لا يرى أحبابه، ولا ينتفع بشيء من لذائذ الدنيا وطيباتها. قال الإمام الفخر: ولما حبسوا (صالح بن عبد القدوس) في حبس ضيّق على تهمة الزندقة وطال مكثه أنشد: خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها ... فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى إذا جاءنا السجّان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا اللطيفة الثالثة: قال الزمخشري: قوله تعالى: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} هذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه، وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك، ألا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 تشرك بي شيئاً فأبيت» . اللطيفة الرابعة: قدّم السارق على السارقة هنا {والسارق والسارقة} وأمّا في آية الزنا فقد قدم الزانية على الزاني {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] والسرّ في ذلك أن الرجل على السرقة أجرأ، والزنى من المرأة أقبح وأشنع، فناسب كلاً منهما المقامُ. اللطيفة الخامسة: قال الأصمعي: قرأت هذه الآية وإلى جنبي أعرابي فقلت: (والله غفور رحيم) سهواً، فقال الأعرابي: كلامُ مَنْ هذا؟ قلت: كلام الله، قال: أعد فاعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله فتنبهّتُ فقلت {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: أصبتَ، هذا كلام الله، فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قلت: فمن أين علمتَ أني أخطأتُ؟ فقال: يا هذا، عزّ، فحكم، فقطع، ولو غفر، ورحم لما قطع «أقول: هذا يدل على ذكاء الأعرابي وشدة الترابط والانسجام بين صدر الآية وآخرها. اللطيفة السادسة: قال بعض الملحدين في الاعتراض على الشريعة الغراء بقطع اليد بسرقة القليل، ونظم ذلك شعراً: يدٌ بخمس مئينَ عَسْجَدٍ ودُيتْ ... ما بالُها قُطِعتُ في ربع دينار تحكّمٌ ما لنا إلا السكوتُ له ... وأنْ نَعوذَ بمولانا من النّار فأجابه بعض الحكماء بقوله: عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ... ذلّ الخيانةِ فافهم حكمة الباري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الأحكام الشرعية الحكم الأول: من هو المحارب الذي تجري عليه أحكام قطاع الطريق؟ دلت الآية الكريمة على حكم المحاربة والإفساد في الأرض، وقد حكم الله تعالى على المحاربين بالقتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض وقد اختلف الفقهاء فيمن يستحق اسم المحاربة. ا - فقال مالك: المحارب عندنا من حمل الناس السلاح وأخافهم في مصرٍ أو برية. ب - وقال أبو حنيفة: المحارب الذي تجري عليه أحكام قطّاع الطريق من حمل السلاح في صحراء أو برية، وأمّا في المصر فلا يكون قاطعاً لأن المجني عليه يلحقه الغوث. ج - وقال الشافعي: من كابر في المصر باللصوصية كان محارباً وسواء في ذلك المنازل، والطرق، وديار أهل البادية، والقرى حكمها واحد. قال ابن المنذر: الكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوماً بغير حجة، لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة. أقول: ولعلّ هذا هو الأرجح لعموم الآية الكريمة، وربما كانت هناك عصابة في البلد تخيف الناس في أموالهم وأرواحهم أكثر من قطّاع الطريق في الصحراء. الحكم الثاني: هل الأحكام الواردة في الآية على التخيير؟ قال بعض العلماء الإمام مخيّر في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل، أو الصلب، أو القطع، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 النفي لظاهر الآية الكريمة {أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا} وهذا قول مجاهد، والضحاك والنخعي، وهو مذهب المالكية. قال ابن عباس: ما كان في القرآن بلفظ (أو) فصاحبه بالخيار. وقال قوم من السلف: الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على الجنايات، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نفي من الأرض، وهذا مذهب الشافعية والصاحبين من الحنفية وهو مروي عن ابن عباس. وأبو حنيفة يحمل الآية على التخيير، لكن لا في مطلق المحارب، بل في محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال فالإمام مخير في أمور أربعة: أ - إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم. ب - وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم. ج - وإن شاء صلبهم فقط دون قطع الأيدي والأرجل. د - وإن شاء قتلهم فقط حسب ما تقتضيه المصلحة. ولا بد عنده من انضمام القتل أو الصلب إلى قطع الأيدي، لأن الجناية كانت بالقتل وأخذ المال، والقتلُ وحده عقوبته القتل، وأخذُ المال وحده عقوبته القطع، ففيهما مع الإخافة والإزعاج لا يعقل أن يكون القطع وحده، هذا مذهب الإمام أبي حنيفة. الحكم الثالث: كيف تكون عقوبة الصلب؟ جمهور الفقهاء على أن الإمام مخيّر على ظاهر الآية، وأنه يجوز له صلب المجرم المحارب لقوله تعالى: {أَوْ يصلبوا} وكيفية الصلب أن يصلب حيّاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 على الطريق العام يوماً واحداً، أو ثلاثة أيام لينزجر الأشقياء، ثم يطعن برمح حتى يموت وهو مذهب المالكية والحنفية وقال قوم: لا ينبغي أن يُصلب قبل القتل ولكن بعده لئلا يحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب، فيقتل أولاً ثم يُصلّى عليه ثم يصلب، وهو مذهب الشافعية. قال الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: أكره أن يُقتل مصلوباً لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المًثْلة. وقال الألوسي: «والصلبُ قبل القتل بأن يُصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا» . الحكم الرابع: متى تقطع يد السارق، وما هي الشروط في حد السرقة؟ السرقة في اللغة أخذ المال في خفاء وحيلة، وأما في الشرع فقد عرفها الفقهاء بأنها (أخذ العاقل البالغ مقداراً مخصوصاً من المال خفية من حرزٍ معلوم بدون حق ولا شبهة) . والسارق إنما سمي سارقاً لأنه يأخذ الشيء في خفاء، واسترق السمع: إذا تسمّع مستخفياً، فقطعُ اليد لا يكون في مطلق السرقة، بل في سرقة شخص معين، مقداراً معيناً، من حرز مثله، بهذا ورد الشرع الحنيف. أما العقل والبلوغ فلأن السرقة جناية، وهي لا تتحقق بدونهما، والمجنون والصغير غير مكلفين، فما يصدر منهما لا يدخل في دائرة التكليف الذي يعاقب عليه الفاعل، وإن كانت السرقة من الصغير لا قطع فيها إلا أنها تدخل في باب التعزير. وأما المقدار الذي تقطع فيه اليد فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال أبو حنيفة والثوري: لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعداً أو قيمتها من غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 وقال مالك والشافعي: لا قطع إلا في ربع دينار، أو ثلاثة دراهم. حجة الحنفية: أ - ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» . ب - ما نقل عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وعطاء أنهم قالوا: لا قطع إلا في عشرة دراهم. حجة المالكية والشافعية: أ - ما روي عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» ب - ما روي عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قطع في مجنّ ثمنة ثلاثة دراهم. ج - ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. قال فضيلة الشيخ السايس: «وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه، وأن الحظر مقدّم على الإباحة، أمكن ترجيح (مذهب الحنفية) لأن المجنّ المسروق في عهده عليه السلام الذي قطعت فيه يد السارق، قدّره بعضهم بثلاثة دراهم، وبعضهم بأربعة، وبعضهم بخمسة، وبعضهم بربع دينار، وبعضهم بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر أرجح، لأن الأقل فيه شبهة عدم الجناية، والحدود تدرأ بالشبهات ولأن التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها، والحاظر مقدم على المبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وأما اعتبار الحرز فلقوله عليه السلام:» لا قطع في ثَمَر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المُرَاحُ أو الجرينُ فالقطع فيما بلغ ثمن المجن «. والحرز هو ما نصب عادةً لحفظ أموال الناس كالدور والخيم والفسطاط، التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم بها، وقد يكون الحرز بالحافظ الذي يجلس ليحفظ متاعه، فإذا كان الحافظ قطع لما روي عن (صفوان بن أمية) أنه قال: كنت نائماً في المسجد على خميصة (عباءة أو ما أشبهها) لي ثمن ثلاثين درهماً، فجاء رجلٌ فاختلسها مني، فأخذت الرجل فأتيت به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمر به ليقطع، فقلت: اتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟ أنا أبيعه وأُنْسئه ثمنها، قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به» ؟ وأما اعتبار عدم الشبهة فلما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» وقد اشتهر هذا فأصبح كالمعلوم بالضرورة، فلا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده، ولا الأب من مال ابنه، ولا الشريك من شريكه، ولا الدائن من مدينة لوجود الشبهة. الحكم الخامس: من أين تقطع يد السارق؟ دل قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} على وجوب قطع اليد في السرقة، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تقطع هي (اليمنى) لقراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) . ثم اختلفوا من أين تقطع اليد فقهاء الأمصار تقطع من المفصل (مفصل الكف) لا من المرفق، ولا من المنكب، وقال الخوارج: تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تقطع الأصابع فقط. حجة الجمهور ما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قطع يد السارق من الرسغ» ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وكذلك ثبت عن (علي) و (عمر بن الخطاب) أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ، فكان هو المعول عليه. وإذا عاد إلى السرقة ثانياً قطعت رجله اليسرى باتفاق الفقهاء لما رواه (الدارقطني) عنه عليه السلام أنه قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى» ولفعل (علي) و (عمر) من قطع يد سارق ثم قطع رجله، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فكان ذلك إجماعاً. وأما إذا عاد إلى السرقة ثالثاً فلا قطع عند الحنفية والحنابلة، ولكنّه يضمن المسروق ويسجن حتى يتوب، وقال المالكية والشافعية: إذا سرق تقطع يده اليسرى، وإن عاد إلى السرقة رابعاً تقطع رجله اليمنى. ويروى أن أبا حنيفة قال: «إني استحيي من الله أن أدعه بلا يدٍ يأكل بها، وبلا رجل يمشي عليها» وهذا القول مروي عن (علي) و (عمر) وغيرهما من الصحابة. خاتمة البحث حكمة التشريع صان الإسلام بتشريعه الخالد كرامة الإنسان، وجعل الاعتداء على النفس أو المال أو العرض جريمة خطيرة، تستوجب أشد أنواع العقوبات، فالبغي في الأرض بالقتل والسلب، والاعتداء على الآمنين بسرقة الأموال، كل هذه جرائم ينبغي معالجتها بشدّة وصرامة، حتى لا يعيث المجرمون في الأرض فساداً، ولا يكون هناك ما يُخل بأمن الأفراد والمجتمعات. وقد وضع الإسلام للمحارب الباغي أنواعاً من العقوبات (القتل، الصلب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 تقطيع الأيدي والأرجل، النفي من الأرض) كما وضع للسارق عقوبة (قطع اليد) وهذه العقوبات تعتبر بحقٍ رادعة زاجرة، تقتلع الشر من جذوره، وتقضي على الجريمة في مهدها وتجعل الناس في أمنٍ، وطمأنينة، واستقرار. وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل، وقطع يد السارق، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يَحْظَوا بعطف المجتمع، لأنهم مرضى بمرضٍ نفساني، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر يسعى لحياة سعيدة كريمة إنهم يرحمون المجرم من المجتمع، ولا يرحمون المجتمع من المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم، وأقلق مضاجعهم، وجعلهم مهدّدين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح. وقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند على عقل ولا منطق سليم، أن أصبح في كثير من البلاد (عصابات) للقتل وسفك الدماء وسلب الأموال، وزادت الجرائم، واختل الأمن، وفسد المجتمع، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطّاع الطريق. والعجيب أن هؤلاء الغربيين الذين يرون في الحدود الإسلامية شدة وقسوة لا تليق بعصرنا المتحضّر، والذين يدعون إلى إلغاء عقوبة (القتل والزنى وقطع يد السارق) إلخ هم أنفسهم يفعلون ما تشيب له الرؤوس، وتنخلع لهوله الأفئدة، فالحروب الهمجية التي يثيرونها، والأعمال الوحشية التي يقومون بها من قتل الأبرياء، والاعتداء على الأطفال والنساء، وتهديم المنازل على من فيها، لا تعتبر في نظرهم وحشية، ولقد أحسن الشاعر حين صور منطق هؤلاء الغربيين بقوله: قتلُ امرىءٍ في غابةٍ ... جريمةٌ لا تغتفر وقتلُ شعبٍ آمنٍ ... مسألة فيها نظر نعم إن الإسلام شرع عقوبة قطع يد السارق، وهي عقوبة صارمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 ولكنه أمّن الناس على أموالهم وأرواحهم، وهذه اليد الخائنة التي قطعت إنما هي عضو أشل تأصل فيها الداء والمرض، وليس من المصلحة أن نتركها حتى يسري المرض إلى جميع الجسد، ولكنّ الرحمة أن نبترها ليسلم سائر البدن، ويدٌ واحدة تقطع كفيلة بردع المجرمين، وكف عدوانهم وتأمين الأمن والاستقرار للمجتمع، فأين تشريع هؤلاء من تشريع الحكيم العليم، الذي صان به النفوس والأموال والأرواح!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 [4] كفارة اليمين وتحريم الخمر والميسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 التحليل اللفظي {عَقَّدتُّمُ} : عقّدتم من العقد وهو على ضربين: حسّي كعقد الحبل، ومعنوي كعقد البيع، فاليمين المنعقدة هي اليمن التي انعقد عليها العزم بالفعل أو الترك. ومعنى عقدّتم الأيمان أي وكّدتموها ووثقّتموها بذكر اسم الله تعالى. {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} : التحرير الإخراج من الرق، ويستعمل في الأسر، والمشقات، وتعب الدنيا ونحوها ومنه قول مريم {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] وقال الفرزدق: أبني غُدانة إنني حرّرتكم ... فوهبتكم لعطيّة بن جِعَال أي حررتكم من الهجاء، وخصّ الرقبة من الإنسان لأنها موضع الملك فأضيف التحرير إليها. {رِجْسٌ} : أي قذر تعافه العقول قال الزجاج: الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال رَجُسَ الرجل يرجُس إذا عمل عملاً قبيحاً. ويقال للنتن والعذِرة والأقذار رجسٌ لأنها قذارة ونجس. {فاجتنبوه} : يعني أبعدوه واجعلوه في ناحية، فالاجتناب في اللغة: الابتعاد وقد أمر تعالى باجتناب هذه الأمور المحرمة، واقترنت بصيغة الأمر فكان ذلك على جهة التحريم القطعي. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : أي راجين الفوز والفلاح بهذا الاجتناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لا يؤاخذكم الله - أيها المؤمنون - بما جرى على ألسنتكم من لغو اليمين، الذي لم تتقصدوا فيه الكذب، أو لم تتعمد قلوبكم العزم على الحلف به، ولكن يؤاخذكم بما وثّقتموه من الأيمان فكفارة هذا النوع من الأيمان أن تطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تُطعمون منه أهليكم، أو تكسوهم بكسوة وسط، أو تعتقوا عبداً مملوكاً أو أمة لوجه الله، فإذا لم يقدر الشخص على الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق، فليصم ثلاثة أيام متتابعة، ذلك كفارة أيمانكم أيها المؤمنون فاحفظوا أيمانكم عن الابتذال وأقلوا من الحلف لغير الضرورة. ثم أخبر تعالى في الآية الثانية بأن الخمر، والقمار، والذبح للأصنام، والاستقسام بالأزلام (الأقداح) كل ذلك رجسٌ مستقذر لا يليق بالمؤمن فعله وهو من تزيين الشيطان للإنسان، فيجب اجتنابه والبعد عنه، لأن غرض الشيطان أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، ويمنعهم عن ذكر الله وأداء الصلاة، بسبب هذه المنكرات والفواحش التي يزينها للناس، فانتهوا أيها المؤمنون عن ذلك. ثم ختم تعالى الآيات بالأمر بطاعته وطاعة رسوله، والحذر من مخالفة أوامر الله تعالى، فإذا لم ينته الإنسان عن مقارفة المعاصي فقد استحق الوعيد والعذاب الشديد يوم القيامة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: التعبير بقوله تعالى: {فاجتنبو} أبلغ في النهي والتحريم من لفظ (حُرّم) لأن معناه البعد عنه بالكلية فهو مثل قوله تعالى: {وَلاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] لأن القرب منه إذا كان حراماً فيكون الفعل محرماً من باب أولى فقوله {فاجتنبو} معناه كونوا في جانبٍ آخر منه، وكلّما كانت الحرمة شديدة جاء التعبير بلفظ الاجتناب كما قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ومعلوم أنه ليس هناك ذنب أعظم من الإشراك بالله فتنبه له فإنه دقيق. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} ؟ استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا، فقد خرج عن صيغته الأصلية إلى معنى الأمر أي انتهوا عن ذلك. قال الفرّاء: ردّد عليّ أعرابي: هل أنتَ ساكتٌ؟ وهو يريد: اسكت، اسكت. أقول: ومما يدل على ذلك قول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما سمع الآية: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا. اللطيفة الثانية: لم يُذكر في القرآن الكريم تعليلُ الأحكام إلاّ بالإيجاز، أمّا هنا فقد ذكر بالإطناب والتفصيل، وذكرت فيه الأسباب لتحريم الخمر والميسر بالإسهاب، منها: إلقاء العداوة والبغضاء بين المؤمنين، والصدّ عن ذكر الله، وشغل المؤمنين عن الصلاة، كما وصفت الخمر والميسر بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان إلخ وكل ذلك ليشير إلى الضرر العظيم، والخطر الجسيم، من جراء اقتراف هاتين الرذيلتين (جريمة القمار) و (جريمة تناول المسكرات) استمع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} ؟ اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} ظاهر اللفظ الإخبار، وحقيقته الوعيد والتهديد، فكأنه تعالى يقول: ليس على رسولي إلا أن يبلّغكم وحسابكم عليّ يوم الدين {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25 - 26] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي أنواع اليمين؟ قسم العلماء اليمين إلى ثلاثة أقسام: (لغو، ومنعقدة، وغموس) . فأما اللغو: فهي اليمين التي لا يتعلق بها حكم، وقد ورد عن عائشة أنها قالت: اللغو هو كلام الرجل: لا والله، وبلى والله، روي ذلك عنها مرفوعاً. وروي عن ابن عباس في لغو اليمين أن تحلف على الأمر أنه كذلك وليس كذلك، أي أن يحلف على ظنه واعتقاده فيتبيّن الأمر خلافه، وقد تقدم هذا في سورة البقرة. وأمّا المنعقدة: فهي أن يحلف على أمرٍ في المستقبل بأن يفعله أو لا يفعله ثم يحنث في يمينه، فهذه يجب فيها الكفارة كما فصّلها القرآن الكريم. وأما الغموس: فهي اليمين التي يتعمد فيها الإنسان الكذب كقوله: والله ما فعلت كذا وقد فعله، أو والله لقد فعلتُ كذا ولم يفعله، وسمّي غموساً لأنه يغمس صاحبه في نار جهنم، وذنبه أعظم من أن يكفّر؛ لأنه استهان بعظمة الله جلّ وعلا حين حلف كاذباً. روى الدارقطني في «سننه» عن علقمة عن عبد الله أنه قال: الأيمان أربعة: يمينان يُكفّران، ويمينان لا يُكفّران، فاليمينان اللذان يُكفّران فالرجلُ الذي يحلف والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل الذي يقول: والله لأفعلنّ كذا وكذا فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يُكفّران فالرجل يحلف والله ما فعلتُ كذا وكذا وقد فعل، والرجل يحلف لقد فعلتُ كذا وكذا ولم يفعله. قال القرطبي: وقد اختلف في اليمين الغموس، فالذي عليه الجمهور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 أنها يمين مكرٍ وخديعةٍ وكذب فلا تنعقد، ولا كفارة فيها. وقال الشافعي: هي يمين منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى وفيها الكفارة. والصحيح الأول، قال ابن المنذر: وهذا قول مالك ومن تبعه من أهل المدينة، وبه قال أحمد: وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي من أهل الكوفة. أخرج البخاري في «صحيحه» «أن أعرابياً سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلمٍ هو فيها كاذب» . الحكم الثاني: هل تصح الكفارة قبل الحنث في اليمين؟ ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالاً، وأمّا إذا كانت صوماً فلا يجوز حتى يتحقق السبب بالحنث، واستدلوا بظاهر هذه الآية {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... } حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين من غير ذكر الحنث، واستدلوا كذلك بقوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وقاسوها أيضاً على إخراج الزكاة قبل الحول. وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله، ولا يتحقق العجز إلاّ بعد الحنث ووجوب التكفير، واستدلوا بحديث «لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير» وهذا القول هو مشهور مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ. وذهب الحنفية إلى عدم جواز إخراج الكفارة قبل الحنث، وقالوا: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 في الآية إضمار الحنث فكأنه تعالى يقول: فكفارته إذا حنثتم، وهو على حد قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي إذا أفطر في رمضان، واستدلوا بما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» . واستدلوا أيضاً بالمعقول فقالوا: إن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم، وإذا لم يحنث لم يكن هناك إثم حتى يرفع فلا معنى للكفارة. واستدلوا أيضاً بأن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصحّ اعتباراً بالصلوات وسائر العبادات، وهذا القول في رواية أشهب عن مالك رَحِمَهُ اللَّهُ. الحكم الثالث: هل يشترط التتابع في صيام كفارة اليمين؟ نصت الآية الكريمة على جواز الصيام عند العجز عن الإطعام، وقد اختلف الفقهاء في الصيام هل يشترط فيه التتابع أم يجزئه التفريق؟ أ - فذهب الحنفية إلى اشتراط التتابع لقراءة ابن مسعود (فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات) وهو مروي عن عباس ومجاهد. ب - وذهب الشافعية إلى عدم اشتراط التتابع، وأنه يجزئ التفريق فيها وهو قول مالك. قال القرطبي: «فإذا لم يجد الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة صيام لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} قرأها ابن مسعود (متتابعات) فيقيّد بها المطلق، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهو أحد قولي الشافعي. واختاره المزني قياساً على الصوم في (كفارة الظهار) . وقال مالك والشافعي في قوله الآخر: يجزئه التفريقُ، لأن التتابع صفة لا تجب إلاّ بنص، أو قياس منصوص وقد عُدما» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 الحكم الرابع: هل الخمر تتناول جميع المسكرات. الخمر اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة هذا رأي جمهور الفقهاء، وقال الحنفية: الخمر خاصٌ بما كان من ماء العنب النِّيء إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمراً وإن كان حراماً. والجمهور على أن الخمر ليست خاصة بعصير العنب، فغير ماء العنب حرام بالنص، وكل مسكر خمر لما روي عن أنس أنه قال: «حرمت الخمر وهي من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والذرة» والجميع متفقون على حرمة كل مسكر والخلاف يكاد يكون شكلياً وقد تقدم في سورة البقرة. الحكم الخامس: هل الخمر نجسة أم أنها حرام فقط؟ فهم العلماء من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها، وخالفهم في ذلك (المزني) صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من فقهاء الحنفية فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرّم إنما هو شربها، وقالوا لا يلزم من كون الشيء محرماً أن يكون نجساً، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس! والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لأن قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدل على نجاستها، فإن الرجس في اللغة القذر والنجاسة، وقد دلّ على نجاستها أيضاً ما روي أن بعض الصحابة قالوا يا رسول الله: إنّا نمر في سفرنا على أهل كتاب يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر فماذا نصنع؟ فأمرهم عليه السلام بعدم الأكل أو الشرب منها، فإن لم يجدوا غيرها غسلوها ثم استعملوها. فالأمر بالغسل يدل على عدم الطهارت إذ لو كانت طاهرة غير متنجسة لما أمرهم بغسلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - اليمين اللغو لا كفارة فيها وإنما تجب في اليمين المنعقدة. 2 - لا تصح الكفارة بالصيام إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق. 3 - الخمر والميسر من أخطر الجرائم الإجتماعية ولهذا قرنا بالأنصاب والأزلام. 4 - العداوة والبغضاء تتولدان من جريمتي (الخمر) و (القمار) . 5 - القمار مرض اجتماعي خطير يهدّم البيوت ويخرّب الأسر ويقضي على الاقتصاد. 6 - وجوب الابتعاد عن كل ما حرّمه الله عَزَّ وَجَلَّ وخاصة الكبائر كالخمر والميسر. خاتمة البحث: حكمة التشريع شدّد المولى جل وعلا في الآية الكريمة النكير على أمر (الخمر) و (الميسر) تشديداً بالغاً يضرف النفوس عنهما إلى غير عودة، وقرنهما بالأنصاب والأزلام - وهما من أشنع المنكرات، وأقبح الفواحش في نظر الإسلام - ليشير إلى ما في الخمر والميسر من ضررٍ بالغ، وخطورة عظيمة، تهدّد الأمة والمجتمع، وتقوّض دعائم الحياة. أما الخمر فإنها تذهب العقل، وتُنهك الصحة، وتُضيع المال، ومتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 ذهب العقل جاء الإجرام، وكانت العربدة، وأفعال الطيش والجنون، وحسبُ السكران ألاّ يفرّق بين النافع والضار، ولا يميّز بين الجواهر والأقذار، لفقدان العقل. وأما الميسر (القمار) فإنه يفقد الإنسان الإحساس والشعور حال انشغاله باللعب، حتى لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعاً في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسراً أكل قلبَه الحسدُ، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال، وربما أداه ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته، أو عزم على قتل نفسه بطريق الانتحار، وكم من أسرةٍ تهدّمت، وكم من عائلةٍ تشرّدت، بسبب (القمار) وأصبحت في ذل وفاقة، بعد أن كانت في عزّ ورفاهية، والحوادث التي نسمعها كل يوم أصدق شاهد على ما يجره (القمار) من ويلاتٍ ونكبات على الأشخاص والأسر التي بليت في بعض أفرادها بأناسٍ مقامرين. . دعْ ما يتخذه المقامرون من وسائل خسيسة وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم وصدق الله حيث يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 8 - سورة الأنفال [1] حكم الأنفال في الإسلام التحليل اللفظي {الأنفال} : جمع نفل بالتحريك والمراد به هنا الغنيمة، قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نَفَل ... وقال عنترة: إنّا إذا احمرّ الوغى نرَوى القَنَا ... ونَعِفُّ عند مقاسم الأنفال وأصل النفل (بالسكون) الزيادة. ومنه صلاة النافلة لأنها زيادة الحديث: 8 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 على الفريضة الواجبة. ويسمى (ولد الولد) نافلة قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] وتسمى الغنيمة نافلة لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرماً على غيرها وفي الحديث: «وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» وهنا ثلاثة ألفاظ (النفل، الغنيمة، الفيء) فالنفل الزيادة كما بينا وتدخل في الغنيمة أيضاً، لأنها زيادة أحلت لهذه الأمة خاصة، والغنيمة ما أخذ من أموال الكفار بقتال وأما الفيء فهو ما أخذ بغير قتال قال تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} [الحشر: 6] . {فاتقوا الله} : بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وأصل التقوى أن يجعل الرجل بينه وبين الشيء الذي يخافه وقاية والمراد أن يتقي عذاب الله بطاعته، ويتقي غضبه بامتثال أوامره قال ابن الوردي: واتقِ الله فتَقوى الله ما ... جاورتْ قلبَ امريءٍ إلاّ وصل ليس من يقطعُ طرقاً بطلاً ... إنما من يتقي الله البَطل {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} : أحوال بينكم يعني ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، والبين في اللغة يطلق على الوصل، والافتراق، وقد جمع المعنيان في قول الشاعر: فوالله لولا البيْنُ لم يكن الهَوَى ... ولولا الهَوَى ما حنّ للبيْنِ آلفُ {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : أي فزعت لذكره واقشعرت إشفاقاً من عظمته وجلاله، وأصلُ الوجل: الخوف والفزع قال تعالى: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 52 - 53] . {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} : أي زادتهم ثباتاً في الإيمان. وقوة في الاطمئنان، ونشاطاً في الأعمال الصالحة، وقد استدل الجمهور بهذه وأشباهها على زيادة الإيمان، فالإيمان يزيد وينتقص، يزيد بالطاعات وينتقص بالمعاصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 كما نبه عليه البخاري. {يَتَوَكَّلُونَ} : أي يعتمدون عليه والتوكل على الله شعار المؤمنين المتقين قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . {يُقِيمُونَ الصلاة} : أي يؤدونها كاملة مقوّمة تامة الأركان والشروط ولم يقل يؤدون الصلاة أو يصلون لأنه ليس المراد أداء الصلاة فحسب بل المراد الإتيان بها على الوجه الكامل من الاطمئنان والخشوع وأداء الأركان التي أوجبها الله وهذا هو السر في التعبير في كثير من الآيات الكريمة بقوله تعالى: {أَقَامُواْ الصلاة} [الحج: 41] أو {وَيُقِيمُونَ الصلاوة} [البقرة: 3] فافهم رعاك الله. {دَرَجَاتٌ} : أي منازل ومقامات عاليات في الجنة. {وَمَغْفِرَةٌ} : أي تجاوز عن سيئاتهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : وهو ما أعدلهم من نعيم الجنة. والعرب يصفون الذي لا قبح فيه ولا ضرر بأنه كريم. المعنى الإجمالي يقول الله عَزَّ وَجَلَّ مخاطباً رسوله الكريم: يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنائم التي غنمتها في أول معركة وقعت بينك وبين المشركين وهي «غنائم بدر» لمن هي؟ وما حكمها؟ وكيف تقسم؟ فقل لهم: هي لله وللرسول يحكم فيها الله عَزَّ وَجَلَّ بحكمه ويقسمها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حسب تشريع الله عَزَّ وَجَلَّ، فاتقوا الله ولا تختلفوا ولا تتنازعوا في شأنها، لأن ذلك يوجب سخط الله وغضبه عليكم، ويضعفكم أمام عدوكم، وربما كان اختلافكم سبباً لتحريمها عليكم، كما كانت حراماً على من كان قبلكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وقد كانت الغنائم محرمة على الأمم السابقة فأحلها الله لهذه الأمة رحمة بها وتيسيراً عليها، وعوناً لها على الجهاد في سبيل الله، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» فلا تختلفوا أيها المؤمنون في شأنها ولا تتنازعوا في أمرها وأطيعوا الله ورسوله في كل ما يأمركم به، واجتنبوا نواهيه في كل ما يحذركم عنه، حتى تنالوا الدرجات العالية في الجنة وتكونوا من المؤمنين الصادقين في دعوى الإيمان. ثم بين الله عَزَّ وَجَلَّ أوصاف المؤمنين وختما بما أعده لهم من الجزاء الكريم في الآخرة في دار النعيم التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اللهم اجعلنا من السعداء الأبرار وأكرم نزلنا في دار القرار إنك سميع مجيب الدعاء. سبب النزول أولاً: عن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقسمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين» . ثانياً: وروى «أبو داود» عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال «» لما كان يوم بدر قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من صنع كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا رِدْءاً لكم لو انكشفتم لثُبْتم إلينا فتنازعوا «فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية. ثالثاً: وروى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 قال: لما كان يوم بدر قتل أخي» عمير «وقتلت (سعيد بن العاص) وأخذت سيفه - وكان يسمى ذا الكتيفة - فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال اذهب فاطرحه في القبض قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي قال فما جاوزت يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إذهب فخذ سلبك. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ذكرُ اسم الجلالة في الأمرين {اتقوا الله} و {وَأَطِيعُواْ الله} لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين، وذكرُ اسم الرسول مع الله تعالى أولاً وأخيراً لتعظيم شأنه، وإظهار شرفه، وللإيذان بأن في طاعة الرسول طاعة الله تعالى كما قال عزّ شأنه: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] . اللطيفة الثانية: توسيطُ الأمر بإصلاح ذات البين {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} بين الأمر بالتقوى، والأمر بالطاعة، لإظهار كمال العناية بشأن الإصلاح بحسب المقام، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة، فإنّ الإصلاح بين المسلمين من أعظم الطاعات والقربات إلى الله. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} الشرط متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله، والمعنى: إن كنتم مؤمنين فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله، وليس الغرض التشكيك في إيمانهم، وإنما هو للإلهاب وتحريك الهمة. قال الزمخشري: «جعل التقوى، وإصلاح ذات البين، وإطاعة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 ورسوله، من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: الغنائم وحكمها وكيفية تقسيمها: وضحت هذه الآية الكريمة حكم الأنفال (الغنائم) وذكرت أن أمرها مفوضٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله وليس لأحد دخل في قسمتها فالله وحده هو الذي يحكم بما شاء والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسمها بحسب حكم اله تعالى. وقد اختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ فذهب الجمهور إلى أنها محكمة لم ينسخها شيء وأن هذه الآية بينت إجمالاً حكم الغنائم ثم وردت الآية الثانية {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فوضحت هذا الإجمال، وبينت بالتفصيل قسمة الغنائم ومصارفها فالخمس يصرف في المصارف التي بينتها الآية الكريمة، والباقي وهو أربعة أخماس يوزع على الغانمين وهذا الرأي الراجح. وقال بعضهم: إن الآية الكريمة منسوخة بقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] وهذا الرأي ضعيف والصحيح ما ذكرنا من أنه لا نسخ في الآية وإنما هو بيان للإجمال المذكور. قال ابن كثير: والصواب أنها مجملة محكمة بيّن مصارفها في آية الخمس. الحكم الثاني: تنفيل بعض المجاهدين من الغنيمة. التنفيل: إعطاء بعض المجاهدين من الغنيمة قبل قسمتها فاللإمام أن يُنفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 من شاء من الجيش قبل التخميس لقصة «سعد بن أبي وقاص» المتقدمة في سبب النزول. ولما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال في غزوة بدر «من قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا» وهذا هو رأي الجمهور وهو الصحيح لظاهر الآية الكريمة. وقد نقل عن الإمام (مالك) رَحِمَهُ اللَّهُ أنه كره ذلك وقال هو قتال على الدنيا.. قال ابن العربي في «تفسير آيات الأحكام» ما نصه: «قال علماؤنا النفل على قسمين: جائز، ومكروه - فالجائز بعد القتال كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلَبُه، والمكروه أن يقال قبل القتل: من فعل كذا وكذا فله كذا. . وإنما كره هذا لأنه يكون القتال فيه للغنيمة.» قال رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: الرجل يقاتل للمغنم ويقاتل ليرى مكانهُ أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكن كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» ثم قال: ويحق للرجل أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإن نوى في ذلك الغنيمة وإنما المكروه في الحديث أن يكون مقصده المغنم خاصة «انتهى. الحكم الثالث: هو التنفيل من أصل الغنيمة أم من الخمس؟ 1 - ذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى أن النفل يكون من الخمس لا من رأس الغنيمة، وحجتهم في ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم «. 2 - وذهب الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن النفل يكون في أصل الغنيمة لا من الخمس ... لما روي» أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قضى بسلب أبي جهل «لمعاذ بن عمرو» وقال يوم حنين: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 قال ابن العربي: هذه الأخبار ليس فيها أكثر من إعطاء السلب للقاتل، وهل إعطاء ذلك له من رأس المال مال الغنيمة، أو من الخمس؟ ذلك إنما يؤخذ من دليل آخر وقد قسم الله الغنيمة قسمة حق على الأخماس فجعلها خمسها لرسوله وأربعة أخماسها لسائر المسلمين، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما» روي أن (عوف بن مالك) قال: قتل رجل من حمير رجلاً من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد - وكان والياً عليهم - فأخبر عوفٌ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه، فلقي «عوف» خالداً فجرّ بردائه وقال هل أنجزت ما ذكرت لك عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستغضِب فقال: لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركوا لي إمْرَتي « قال: فلو كان السلب حقاً له من رأس الغنيمة لما رده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنها عقوبة في الأموال وذلك لا يجوز بحال، وقد ثبت أن - ابن المسيب - قال: ما كان الناس ينفلون إلا من الخمس. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - حرص الصحابة على السؤال عما يهمهم من أمور الدين. ثانياً - الأحكام كلها مرجعها إلى الله تعالى وإلى رسوله الكريم. ثالثاً - اهتمام الشارع الحكيم بإصلاح ذات البين حفظاً لوحدة المسلمين. رابعاً - الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون الصادقون ليصلوا إلى حقيقة الإيمان. خامساً - امتثال أوامر الله وطاعته في ما أمر ونهى سبب لسعادة الإنسان في الدارين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 [2] الفرار من الزحف التحليل اللفظي {زَحْفاً} : زحف الرجل إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده كالصبي، وشبّه به هنا مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف زحفاً. {الأدبار} : جمع دُبُر وهو الخَلْف ويقابله (القُبُل) وهو الأمام، ويطلق القُبُل والدّبُر على سوأتي الإنسان، وأمّا إطلاقه على الأمام والخلف فمشهور في اللغة قال تعالى: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 25] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 {مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} : يقال: تحرّف وانحرف إذا مال وعدل من طَرَف إلى طرف، مأخوذ من الحَرْف وهو الطرف أي الجانب، والتحرف للقتال الفرّ للكرّ أي يتظاهر بالفرار ليغرّ عدوه حتّى يُخيّل له أنه انهزم، ثم يكر عليه فيقتله، وهذا من باب مكايد الحرب (والحرب خدعة) . {مُتَحَيِّزاً} : أي منظماً، والفئة: الجماعة قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال: 45] والمراد أن ينهزم لينضمّ إلى جماعة أُخرى يعينهم أو يستعين بهم. {بَآءَ بِغَضَبٍ} : أي رجع بغضب وسخط من الله. {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} : أي مسكنه وملجأه جهنم وبئس هذا الملجأ والمصير. {مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} : أي مضعف بأس الكافرين بخذلانهم ونصر المؤمنين عليهم. قال ابن كثير: هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر فإنه تبارك وتعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ومصغرّ أمرهم، وأنهم في تبار ودمار وقد وُجد المخبرُ وفق الخبر فصار معجزاً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فللَّه الحمد والمنة. المعنى الإجمالي هذه الآيات الكريمة نزلت لتثبيت قلوب المؤمنين في أول غزوة وقعت بينهم وبين المشركين ألا وهي «غزوة بدر» وقد كانت هذه المعركة هي الفارقة بين عهدين عهد الكفر، وعهد الإيمان ولذلك سمي يومها بيوم الفرقان قال تعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] لأنها فرقت بين الظلام والنور وبين الكفر والإيمان وفي هذه الآيات يأمر الله عباده المؤمنين أن يصمدوا أمام أعدائهم، وألا ينهزموا مهما كان جيش الكفر عظيماً وكبيراً، فإن الغلبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 ليست بالكثرة، والمؤمنون أولى بالثبات والشجاعة من الكافرين، لأنهم يطلبون إحدى الحسنيين: إما العزة في الدنيا والنصر على الأعداء، وإما الشهادة في سبيل الله التي لا يعادلها شيء من الأشياء وقد حذرهم من الفرار والهزيمة لأن فيه كسراً لجيش المسلمين والقاءً للرغب في قلوب المجاهدين وبين تعالى أن الفرار يجوز في حالتين اثنتين. الأولى: إذا كان بقصد خداع العدو والتغرير به، لأن الحرب خدعة، والعاقل من عرف كيف يبطش بعدوه ويستدرجه. والثانية: إذا بقي هذا المسلم وحيداً فريداً فانضم إلى جماعة أخرى ليتقوى بها أو رأى أنها بحاجة إليه ليشد أزرهم ويقوي عزمهم. وما عدا ذلك فالفرار من الزحف جريمة نهى الله تعالى عنه وتوعد عليه أشد التوعيد وهو أن يرجع بغضب من الله وأن مقره في جهنم وبئس ذلك المقر والمصير. ثم بين تعالى أن المؤمنين لم ينتصروا في بدر ولا في غيرها من الغزوات بقوة سلاحهم ولا بوفرة عددهم وإنما انتصروا بتأييد الله لهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فليعتمدوا إذاً على الله وليتوكلوا عليه فإنه نعم المولى ونعم النصير. تنبيه وفائدة: ذكر المفسرون عند قوله تبارك وتعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صفّ الصفوف يوم بدر ثم أخذ قبضة من تراب وحصباء ثم استقبل بها قريشاً فقال: شاهت الوجوه ثم رمى بها المشركين فلم يبق أحد منهم إلا وقد أصابه ذلك اليوم منها فدخلت في عيونهم ثم أمر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أصحابه أن يشدوا عليهم فكانت الهزيمة وقتل من قتل من صناديد قريش وأُسر من أُسر من أشرافهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 الأحكام الشرعية الحكم الأول: الفرار من الزحف من الكبائر. تدل ظواهر النصوص الشرعية على حرمة الفرار من الزحف إلا في حالتين اثنتين وهما: حالة الفر من أجل الكرّ خدعة للعدو - وحالة الالتحاق إلى جماعة المسلمين والانضمام إلى صفوفهم ليتقوى بهم وقد بينت السنة النبوية أن الفرار من الزحف من الكبائر فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اجتنبوا السبع الموبِقات» قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حمر الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات «. الحكم الثاني: كم عدد العدو الذي يحرم الفرار منه؟ هذه الآية حرمت الفرار من القتال، وأما عدد العدو الذي يحرم الفرار منه فقد بينته الآية في آخر سورة الأنفال وهي قوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [الأنفال: 66] فقد أوجبت هذه الآية على المسلمين أن يثبتوا أمام أعدائهم إذا كان العدو ضعفهم وقد كانوا من قبل مكلفين بملاقاة العدو والصمود حتى ولو كانوا عشرة أضعافهم فنسخ الله ذلك وخفف عن عباده رحمة بهم وتيسيراً عليهم، فإذا كان جيش الكفار يزيد أضعافاً مضاعفة على جيش المسلمين فإنه لا يجب عليهم ملاقاته إلا إذا كان هناك خطر جسيم كهجوم المشركين على ديار المسلمين فإنه يجب حينئذٍ الدفاع عليهم، ويفترض القتال على الرجل والمرأة والصغير والكبير. وأما المغامرة في الحرب فقد قال بعض العلماء: لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير لأن في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 والصحيح كما قال (ابن العربي) : إنه تجوز المغامرة لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فإنهم إذا رأوا هذه الشجاعة النادرة من شخص واحد دبّ الرعب في قلوبهم وأيقنوا بعدم قدرتهم على مقاومة المسلمين وفي ذلك إعزاز لدين الله وقهر للمشركين والله أعلم. الحكم الثالث: هل يجوز الفرار عند الضرورة؟ يجوز الفرار عند الضرورة في غير الحالتين السابقتين التي أشارت إليهما الآية وذلك كأن يحيط العدو بالجيش أو يقطعوا على المجاهدين طريق المؤنة والغذاء فقد «روي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال:» كنا في غزاة فحاص الناس حيَصةً «أي» فروا أمام العدو «قلنا كيف نلقى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب، فأتينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرّارون. فقال: لا بل أنتم العكّارون فقبلنا يده. فقال: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين» ثم قرأ {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} . العكارون: أي الكرارون العطافون. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - المؤمن يجاهد لإعلاء كلمة الله فعليه أن يتحمل الشدائد لأن العمر بيد الله. ثانياً - الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر لأنه يعرض جيش المسلمين للتدهور والخطر. ثالثاً - لا يجوز الفرار إلا في الحالات الضرورية. رابعاً - النصر بيد الله، فعلى المؤمن أن يعتمد على الله مع الأخذ بالأسباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 [3] كيفية قسمة الغنائم التحليل اللفظي {غَنِمْتُمْ} : الغنيمة. . ما أخذ من الكفار قهراً بطريق القتال والغلبة، أما ما أخذ منهم بغير حرب أو قتال فهو «فيء» كما مر سابقاً. قال الشاعر: وقد طوّفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب {خُمُسَهُ} : بضم الميم وإسكانها لغتان وقد قرئ بهما، والخمس أن يقسم الشيء إلى خمسة أجزاء ثم يؤخذ جزء واحد منه، والواجب الشرعي أن تخمسّ الغنائم فيصرف الخمس فيما ذكره الله، ويوزع الباقي وهو أربعة أخماس بين الغانمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 قال القرطبي: لما بين الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين. {وَلِذِي القربى} : هم قرابة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم: «بنو هاشم، وبنو المطلب» على الصحيح من الأقوال كما سيأتي إن شاء الله. {واليتامى} : هم أولاد المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر قبل البلوغ، لأنه لا يتم بعد البلوغ. {والمساكين} : هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. {وابن السبيل} : هو المنقطع في سفره مع شدة حاجته وإنما قيل «ابن السبيل» لأنه لما انقطع في سفره أصبح الطريق كأنه أبٌ له. {يَوْمَ الفرقان} : هو يوم بدر لأن الله سبحانه وتعالى فرق فيه بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر وهذه الغزوة كانت في السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان وهي أول معركة وقعت بين المسلمين والمشركين. {الجمعان} : المرد به جمع المؤمنين وجمع المشركين. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين أياً كان قليلاً أو كثيراً حق ثابت لكم. وحكمه: أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فاقسموه - خمسة أقسام - واجعلوا خمسة لله، ينفق في مصالح الدين، وإقامة الشعائر، وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم اعطوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منه كفايته لنفسه ولنسائه، ثم أعطوا منه ذي القربى من أهله وعشيرته، ثم المحتاجين من سائر المسلمين وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ثم بين سبحانه وتعالى أن هذا هو مقتضى الإيمان وهو الإذعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 والخضوع لأوامره وأحكامه وعدم الخلاف والنزاع فيما بينهم لأن الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي قسم فأعطى كلَّ ذي حق حقه كما راعى مصالح العباد جميعاً فما على المؤمنين إلا الرضى والتسليم لحكم الله العلي الكبير. وجه الارتباط بالآيات السابقة لما أمر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بقتال الكفرة المعتدين، الذين كانوا يفتنون المؤمنون، ويقفون في وجه الدعوة الإسلامية، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستلزماً لكسب الغنائم منهم، بيّن جل وعلا هنا حكم قسمة هذه الغنائم، وأوضح وجوه المصارف فيها حتى لا يكون ثمة نزاع ولا خلاف بين الغانمين، فهذا هو وجه الارتباط. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: التنكير في قوله تعالى: {مِّن شَيْءٍ} يفيد التقليل أي أي شيء كان، سواء كان هذا الشيء قليلاً أو كثيراً، عظيماً أو حقيراً، حتى الخيط والمخيط (الإبرة) . اللطيفة الثانية: ذكرُ الله تعالى في القسمة في قوله تعالى: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} لتعليمنا التبرك بذكر اسم الله المعظم، واستفتاح الأمور باسمه تعالى، ولا يقصد منه أن الخمس يقسم على ستة منها (الله) فإنّ الله الدنيا والآخرة، والله هو الغني الحميد، أو يراد منه إنفاقه في سبيل الله فيكون الكلام على (حذف مضاف) . اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا} المراد به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما لم يذكره باسمه تعظيماً له وتكريماً، لأن أعظم وأشرف أوصاف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصفه بالعبودية، وهذا هو السر في ذكره في سورة الإسراء بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 الوصف الجليل {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وإضافة العبد إليه تعالى تشعر بكمال العناية والتكريم كما قال أحد العارفين: وممّا زادني شرفاً وتيهاً ... وكدتُ بأخمصي أطَأ الثُريّا دخولي تحت قولك «يا عبادي» ... وإنْ صيّرْتَ «أحمد» لي نبياً فائدة هامة: قال المراغي: في «تفسيره» وإنما خص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذي القربى بني هاشم، وبني المطلب دون بني عبد شمس، ونوفل لأن قريشاً لما كتبت وأخرجت بني هاشم من مكة وحصرتهم في الشعب، لأنهم ناصروا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل لذلك خصهم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالقسمة تكريماً لهم وتقديراً. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل الغنيمة والفيء شيء واحد؟! بينا فيما سبق التعريف لكلٍ من الغنيمة والفيء. وقد اختلف العلماء فيهما: فقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ عَنوة من الكفار في الحرب. والفيء ما أخذ عن صلح. . وهذا قول الشافعي. وقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ من مال منقول. والفيء هو مال غير المنقول كالأرضين والعقارات وغيرها. . وهذا قول مجاهد. وقيل: الغنيمة والفيء بمعنى واحد. والصحيح الأول وهو ما ذهب إليه الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ. قال القرطبي: واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: {غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بينا، ولكنْ عُرْفُ الشرع قيّد اللفظ بهذا النوع. وسمّى الشرع المال الواصل إلينا من الكفار باسمين: (غنيمة) و (فيء) فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب «غنيمة» ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً، والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرضين. الحكم الثاني: كيف يوزع الخمس بين الغانمين؟ ذكرت الآية الكريمة أن خمس الغنائم يوزع لمن سمّاهم الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه العزيز وهم ستة (الله، الرسول، ذو القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل) وسكتت عن الباقي فدل ذلك على أنه يوزع على الغانمين. سهم الله: أما سهم «الله» عَزَّ وَجَلَّ فقد اختلف المفسرون فيه على قولين: أ - إنه يصرف على الكعبة لأن قوله (لله) أي لبيت الله فهو على (حذف مضاف) . ب - وقال الجمهور إن قوله (لله) استفتاح كلام يقصد به التبرك فللَّه الدنيا والآخرة وهو المالك لكل ما في السماوات والأرض فليس سبحانه بحاجة إلى سهم من هذه السهام لأنه هو الغني وإنما ذكر تبارك وتعالى اسمه ليعلمنا التبرك بذكره وافتتاح الأمور باسمه وعلى هذا الرأي يكون الخمس بين خمسة (الرسول، ذي القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل) . سهم الرسول: أما سهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنه حق له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين، يدل على ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 وقال آخرون إن لفظ (الرسول) في الآية استفتاح كلام كما قالوا في قوله (لله) وأن الخمس يقسم على أربعة أسهم (ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل) . سهم ذي القربى: والمراد قرابة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد اختلف في (ذي القربى) على ثلاثة أقوال: أ - قيل إنهم قريش جميعاً. ب - وقيل إنهم بنو هاشم فقط. ج - وقيل إنهم (بنو هاشم وبنو المطلب) وهذا هو الرأي الصحيح والراجح. ومما يدل عليه ما رواه البخاري عن (مطعم بن جبير) من بني نوفل قال: مشيتُ أنا وعثمان بن عفان - من بني عبد شمس - إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» فدلّ الحديث على أن المراد بذي القربى (بنو المطلب وبنو هاشم) ويرى بعضهم أن القرابة لا يعطون إلا أن يكونوا فقراء وهذا الحكم ثابت للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولذي قرباه في حياته وأما بعد وفاته يرجع إلى بيت مال المسلمين. قال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة (اليتامى، والمساكين، وابن السبيل) لأنه قد ارتفع سهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بموته كما ارتفع سهم أقربائه بموته وهذا منقول عن الشافعي أيضاً. قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند. ويصرف في مصالح المسلمين. سهم اليتامى: وهذا السهم يصرف على أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم في سن الصغر وأما بعد البلوغ فيزول عنهم وصف اليتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 سهم المساكين: وهم أهل الفاقة والحاجة من ضعفاء المسلمين الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً ويحتاجون إلى مواساة ومساعدة. سهم ابن السبيل: وهو الغريب الذي انقطع في سفره فإنه يعطى من الخمس حتى ولو كان غنياً في بلده. ذلك لأننا نعتبر حالته التي هو عليها الآن. مذهب المالكية: وقد خالف المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعاً ورأوا أن الخمس - خمس الغنيمة - يجعل في بيت المال ينفق منه على ما ذكر في الآية وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من المصلحة وقالوا: إن ذكر هذه الأصناف في الآية الكريمة إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التمليك وهو من باب إطلاق (الخاص وأريد به العام) . أدلة المالكية: وقد استدل المالكية لمذهبهم ببضعة أدلة ثبتت في المغازي والسير جعلتهم يذهبون إلى هذا الرأي وقد ذكرها ابن العربي في «أحكام القرآن» وهي: أولاً: روي في الصحيح «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث سرية قبل نجد فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيراً ونفلوا بعيراً بعيراً» . ثانياً: ثتب عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال في أساري بدر: (لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) والمراد بالنتنى (الأسرى من المشركين) والمطعم بن عدي هو الذي أجار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رجع من الطائف وهو الذي قام بنقض الصحيفة، فقال ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكافأة له على جميلة وإحسانه. ثالثاً: ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ردّ سبي هوازن وفيه الخمس. رابعاً: روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: «آثر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 يوم حنين أناساً من الغنيمة فأعطى (الأقرع بن حابس) مائة من الإبل وأعطى (عيينة) مائة من الإبل، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذٍ في القسمة فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها. أو ما أريد بها وجه الله!! فقلت: والله لأخبرنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبرته: فقال:» يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر «» . خامساً: روي في الصحيح أيضاً أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمسُ والخمس مردود عليكم» . فمن هذه الأحاديث يتبين أن الخمس من حق الإمام يتصرف به كيف يشاء، ويجعله في مصالح المؤمنين وأن ذكر هذه الأصناف في الآية إنما هو على سبيل (التمثيل) لا على سبيل (التمليك) إذ لو كان ملكاً واستحقاقاً لهم لما جعله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بعض الأحيان في غيرهم وهذا الرأي للماليكة سديد ووجيه. الحكم الثالث: كيف توزع الغنائم؟ ظاهر الآية يدل على أن توزيع الغنيمة يكون بين المحاربين على السوية، من دون تفضيل أو زيادة أو نقص، وقد وردت السنة النبوية تشير إلى التفضيل، فقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً» وفي «البخاري» عن ابن عمر أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً» . ورأي الجمهور من العلماء أن يعطى الفارسُ سهمين ويُعطى الراجلُ سهماً واحداً وذلك لأن الذي يركب الفرس يحتاج إلى نفقةٍ لفرسه ويكون بلاؤه في الحرب أعظم ولذلك فإن الشارع الحكيم راعى هذه الناحية فزاده في القسمة فأعطى سهماً له وسهماً لفرسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 الحكم الرابع: هل الآية هذه ناسخة للآية السابقة؟ يذهب بضع العلاء إلى أن هذه الآية ناسخة لأول السورة لأن الآية الأولى ذكرت أن الأنفال لله والرسول. وهذه الآية بينت أنّ للغانمين أربعة أخماس الغنيمة فتكون هذه الآية ناسخة لتلك، والصحيح أنه لا نسخ كما وضحنا ذلك في السابق والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - التشريع لله سبحانه وليس لأحدٍ أن يشرّع من تلقاء نفسه. ثانياً - الخمس يصرف في سبيل الله وفي المصارف التي أشارت إليها الآية الكريمة. ثالثاً: الغنائم توزع بين المجاهدين حسب ما شرع الله وفصله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. رابعاً: على المؤمن أن يمتثل أمر الله ويطيع رسوله في كل شؤون الحياة. خامساً: يوم بدر هو يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 سورة التوبة [1] عمارة المساجد التحليل اللفظي {أَن يَعْمُرُواْ} : عمارة المسجد تطلق على بنائه وإصلاحه، وتطلق على لزومه والإقامة فيه لعبادة الله، فالعمارة قسمان: حسيّة ومعنوية، وكلاهما مراد في الآية. {شَاهِدِينَ} : أي مقرين ومعترفين به، وذلك بإظهار آثار الشرك والوثنية. {حَبِطَتْ} : ضاعت وذهب ثوابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 {وَأَقَامَ الصلاة} : إقامة الصلاة: الإتيان بها على الوجه الأكمل، معتدلة مقوّمة بسائر شروطها وأركانها. {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} : أي لم يخف إلا الله، والخشية في اللغة معناها الخوف. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لا ينبغي للمشركين ولا يليق بهم، وليس من شأنهم أن يعمروا بيوت الله، وهم في حالة الكفر والإشراك بالله، لأن عمارة المساجد تقتضي الإيمان بالله والحبّ له، وهؤلاء كفروا بالله شهدت بذلك أقوالهم وأفعالهم، فكيف يليق بهم أن يعمروا بيوت الله!! هؤلاء المشركون ضاعت أعمالهم وذهب ثوابها، وهم في جهنم مخلّدون في العذاب، لا يخرجون من النار، ولا يخفف عنهم من عذابها بسبب الكفر والإشراك. ثم أخبر تعالى أنّ عمارة المساجد إنما تحصل من المؤمنين بالله، المطيعين له، المصدّقين باليوم الآخر، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويخشون الله حق خشيته، فهؤلاء المتقون لله جديرون بعمارة بيوت الله، وهم أهل لأن يكونوا من المهتدين، الفائزين بسعادة الدارين، المستحقين لرضوان الله. سبب النزول روي أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعيّروهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبّخُ العباس بقتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقطيعة الرحم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 فقال العباس: تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: وهل لكم من محاسن؟ قالوا: نعم، إنّا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني فنزلت {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} الآية. وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {أَن يَعْمُرُواْ} وقرأ ابن السميقع (أن يُعْمِروا) بضم الياء وكسر الميم من (أعمر) الرباعي بمعنى أن يعينوا على عمارته. 2 - قرأ الجمهور {مَسَاجِدَ الله} بالجمع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (مسجد الله) بالإفراد. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ} أن المصدرية وما بعدها في موضع رفع اسم كان و (للمشركين) خبرها مقدم، و (شاهدين) حال من الواو في (يعمروا) . 2 - قوله تعالى: {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} عسى من أخوات (كان) وجملة (أن يكونوا) خبرها، واسم الإشارة اسمها، والخبر يكون فعلاً مضارعاً في الغالب كما قال ابن مالك: ككان «كاد» و «عسى» لكنْ ندر ... غير مضارع لهذين خَبَرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 وجه المناسبة بين الآيات الكريمة مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين، وأنواعاً من قبائحهم وجرائمهم التي توجب البراءة منهم، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة تعلي مقامهم وترفع مكانتهم، منها سقايتهم للحاج وعمارتهم للمسجد الحرام فردّ الله عليهم بهذه الآيات الكريمة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أطلق المساجد وأراد به المسجد الحرام على رأي بعض المحققين، وعبّر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها، فهو من باب إطلاق العموم وإرادة الخصوص. اللطيفة الثانية: العلة الحقيقية في منع المشركين من عمارة بيوت الله، هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها أنه كفر صريح لا تمكن المكابرة به، لأنه كفرٌ مقرون بالإقرار، وهو قولهم في الطواف: (لبيّك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ونصبهم الأوثان والأصنام حول البيت العتيق. اللطيفة الثالثة: قال أبو حيان: أمرُ المؤمنين بعمارة المساجد، يتناول عمارتها، ورمّ ما تهدم منها، وتنظيفها، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر - ومن الذكر دراسة العلم - وصونها عمّا لم تبنَ له من الخوض في أحوال الدنيا، وفي الحديث الشريف: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 اللطيفة الرابعة: التعبير بقوله تعالى: {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} في جانب المؤمنين، يؤخذ منه قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعموها وافتخروا بها، حيث بيّن تعالى أن حصول الإهتداء لمن آمنوا بالله ولم يخشوا غيره دائرٌ بين (لعلّ) و (عسى) وإذا كان هذا حال المؤمنين، فكيف يطمع المشركون بالهداية والفوز وهم على ما هم عليه من كفر وإشراك؟! الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد بعمارة المساجد في الآية الكريمة؟ ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بعمارة المساجد هو بناؤها وتشييدها وترميم ما تهدم منها، وهذه هي (العمارة الحسية) ويدل عليه قوله عليه السلام: «من بنى الله مسجداً ولو كمِفْحَص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة» . وقال بعضهم: المراد عمارتها بالصلاة والعبادة وأنواع القربات كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36] وهي هي (العمارة المعنوية) التي هي الغرض الأسمي من بناء المساجد، ولا مانع أن يكون المراد بالآية النوعين (الحسية) و (المعنوية) وهو اختيار جمهور العلماء لأن اللفظ يدل عليه، والمقام يقتضيه. قال أبو بكر الجصاص: «وعمارة المسجد تكون بمعنيين: أحدهما: زيارته والمكث فيه، والآخر: بناؤه وتجديد ما استرم منه، وذلك لأنه يقال: اعتمر إذا زار، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت، وفلان من عُمّار المساجد إذا كان كثير المضيّ إليها، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 ومن بنائها، وتولّي مصالحها، والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين» . الحكم الثاني: ما المراد بالمساجد في الآية الكريمة؟ 1 - قال بعض العلماء: المراد به المسجد الحرام لأنه المفرد العلم، الأكمل الأفضل وهو قبلة المساجد، وسبب النزول يؤيد هذا القول وهو مروي عن عكرمة، واختاره بعض المحققين لقراءة الإفراد (أن يعمروا مسجد الله) . ب - وقال آخرون: المراد به جميع المساجد، لأنه جمع مضاف فيعم، ويدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أوّلياً، كما إذا قلنا: فلان لا يقرأ كتب الله، يدخل فيه القرآن بطريق أوكد. أقول: هذا هو الظاهر من الآية الكريمة، لأن الصيغة تفيد عموم الحكم، فلا يليق بالمشركين أن يعمروا أي مسجد من مساجد الله بأنواع العمارة، لأن الكفر ينافي ذلك، كما لا يصح لهم دخول هذه الأماكن الطاهرة المقدسة، كما قال الإمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ، وسيأتي حكم دخول المشركين للمساجد في الآيات التالية. الحكم الثالث: هل يجوز استخدام الكافر في بناء المساجد؟ أخذ بعض العلماء من الآية الكريمة أنه لا يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المسجد، لأنه من العمارة الحسيّة، وقد نهى تعالى عن تمكين المشركين من عمارة بيوت الله. والظاهر جواز استخدامه لأن الممنوع منها إنما هو (الولاية) عليها، والاستقلال بتصريف شؤونها، كأن يكون ناظر المسجد، أو المتصرف بالوقف كافراً، وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، وهذا قول جمهور الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - أعمال البر الصادرة من المشركين لا ثواب فيها بسبب الكفر والإشراك لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . 2 - عمارة المساجد جديرٌ بها أهل الإيمان الذين يعظّمون حرمات الله. 3 - وجوب الإخلاص لله في القول والعمل. 4 - ينبغي أن يكون الغرض من بناء المسجد رضوان الله لا الرياء والسمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 [2] منع المشركين دخول المسجد الحرام التحليل اللفظي {نَجَسٌ} : أي قذر، قال الزجاج: يقال لكل شيء مستقذر: نجسٌ. وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نَجِسٌ إلا وقبلها رجسٌ، فإذا أفردوها قالوا: نجس. {عَيْلَةً} : العيلة: الفقر والفاقة، يقال: عال يعيل عيلةً إذا افتقر، وأعال فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 مُعيل إذا صار صاحب عيال، وقال أبو عبيدة: العيلة مصدر عال بمعنى افتقر وأنشد: وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه ... وما يدري الغنيّ متى يَعيل {يَدِينُونَ} : من دان الرجل يدين إذا اتخذ الأمر له عقيدة والتزمه تقول: فلان يدين بكذا أي يلتزمه ويعتنقه، والمراد في الآية أنهم لا يلتزمون بدين الحق وهو دين الإسلام. {الجزية} : اسم لما يعطيه المعاهد على عهده. قال ابن الأنباري: هي الخراج المجعول عليهم، سميت جزية لأنها قضاء ما وجب عليهم من قولهم: جزى يجزي إذا قضى. قال أبو حيان: سميت جزية من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدى عليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، ومن هذا المعنى قول الشاعر: نجزيكَ أو نُثْني عليكَ وإنّ من ... أثنَى عليكَ ما فعلت فقد جزى {عَن يَدٍ} : أي يؤدون الجزية عن قهر وذل وطاعة يقال: أعطى يده إذا انقاد، ونزع يده إذا خرج عن الطاعة. {صَاغِرُونَ} : الصاغر: الذليل الحقير، والصّغار الذل. ومعنى الآية: حتى يدفعوا الجزية منقادين طائعين في حال الذل والهوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله، إنما المشركون قذر ورجس لخبث بواطنهم، وفساد عقائدهم، فهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فلا تمكنوهم من دخول المسجد الحرام، بعد هذا العام، وإن خفتم - أيها المؤمنون - فقراً أو فاقة بسبب منعكم إياهم من الحج ودخول الحرم، فسوف يغنيكم الله من فضله، ويوسع عليكم من رزقه، حتى لا يدعكم بحاجة إلى أحد وذلك راجع إلى مشيئته جل وعلا إن الله عليم حكيم. قاتلوا أيها المؤمنون الذين لا يؤمنون بالله ولا برسوله من أهل الكتاب، ولا يصدقون باليوم الآخر على الوجه الذي جاء به رسول الله، ولا يدخلون في دين الإسلام دين الحق، ولا يحرمون ما حرّمه الله ورسوله، من (اليهود والنصارى) حتى يدفعوا لكم الجزية، عن انقياد وطاعة، وذل خضوع، وهم صاغرون مهينون. وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} بفتح الجيم، وقرأ أبو علي حيوة (نِجْسٌ) على وزن رجس، وقرأ ابن السميقع (أنجاسٌ) على صيغة الجمع. 2 - قرأ الجمهور {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وقرئ (عائلة) و (عايلة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 سبب النزول لما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علياً أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة، ويَنْبِذَ إليهم عهدهم، وأن يخبرهم أنّ الله بريءٌ من المشركين ورسولهُ، قال أناسٌ: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبُل وفقد الحمولات فنزلت الآية الكريمة {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا. . .} الآية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: أطلق القرآن الكريم على المشركين أنهم نجس، والإخبار عنهم بصيغة المصدر فيه مبالغة كأنهم صاروا عين النجاسة، وأصل التعبير (إنما المشركون كالنجس) لكنه حذفت منه أداة الشبه، ووجه الشبه، فأصبح (تشبيهاً بليغاً) . وقال بعض العلماء: المراد أنهم ذوو نجس أي أصحاب نجس فالكلام على (حذف مضاف) وإنما عبّر عنهم أصحاب نجس لخبث بواطنهم، وفساد عقائدهم، وإشراكهم بالله، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون. اللطيفة الثانية: النهي عن قربان المسجد الحرام جاء بطريق المبالغة لأن الغرض نهيهم عن دخول المسجد الحرام، فإذا نهوا عن قربانه كان النهي عن دخوله من باب أولى، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} [الأنعام: 152] وقوله {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] فيكون النهي عن أكل مال اليتيم، وارتكاب الزنى محرماً من باب أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 اللطيفة الثالثة: تعليق الإغناء بالمشيئة في قوله جل وعلا: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} لتعليم رعاية الأدب مع الله تعالى كما في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] وللإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على أن المطلوب سيحصل حتماً، بل لا بدّ من التضرع إلى الله تعالى في طلب الخير، وفي دفع الآفات. اللطيفة الرابعة: في التعبير في ختام الآية {إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} إشارة لطيفة إلى أن الغنى والفقر بيد الله تعالى، وأن الرزق لا يأتي بالحيلة والاجتهاد، بل هو راجع إلى الحكمة والمصلحة، فإن شاء الله أغنى، وإن شاء أفقر، فهو تعالى لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة ومصلحة، وممّا يروى للإمام الشافعي قدّس الله روحه قوله: لو كانَ بالحيَلِ الغِنَى لوجدتني ... بنجوم أقطارِ السّماءِ تعلّقي لكنّ من رَزَقَ الحجا حَرَم الغِنَى ... ضدّان مفترقان أيّ تفرق ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤسُ اللبيبِ وطيبُ عيشِ الأحمقِ اللطيفة الخامسة: نفى الله تعالى الإيمان عن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لأن إيمانهم مغشوش مدخول، وليس إيماناً كما يجب، لأنهم جعلوا لله ولداً، وزوجة، وبدّلوا كتابهم، وحرّموا ما لم يحرّم الله، وأحلّوا ما لم يُحلّه، ووصفوا المولى جل وعلا بما لا يليق، فهم وإن زعموا الإيمان غير مؤمنين إيماناً صحيحاً، وهذا هو السرّ في التعبير القرآن بنفي الإيمان عنهم. قال الكرماني: نفيُ الإيمان بالله عنهم لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله، إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به جل وعلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد بالمشركين في الآية الكريمة؟ ذهب جمهور المفسرين إلى أن لفظ المشركين خاص بعبّاد الأوثان والأصنام، لأن لفظ المشرك يتناول من اتخذ مع الله إلهاً آخر، وأن أهل الكتاب وإن كانوا كفاراً إلا أن لفظ (المشركين) لا يتناولهم، لأنه خاص بمن عبد الأوثان والأصنام. وقال بعض العلماء إن لفظ المشركين يتناول جميع الكفار، سواء منهم عُبّاد الأوثان أو أهل الكتاب لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] أن يكفر به فأطلق لفظ الإشراك على الكفر. أقول: هذا هو الصحيح وهو أن اللفظ يشمل كل كافر، وأن النهي عن دخول المسجد الحرام عام لكل كافر، فلا فرق بين الوثني واليهودي أو النصراني في الحكم. الحكم الثاني: هل أعيان المشركين نجسة؟ دلّ ظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} على نجاسة المشركين. وقد تقدم معنا أن المراد من اللفظ (النجاسة المعنوية) أي أن معهم الشرك المنزّل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجناية والطهارة، وعدم اجتنابهم النجاسات وقد نقل صاحب «الكشاف» : عن ابن عباس أن أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير تمسكاً بظاهر الآية. وروى ابن جرير عن الحسن البصري أنه قال: من صافحهم فليتوضأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ولكنّ الفقهاء على خلاف ذلك فقد ذهبوا إلى أن أبدانهم طاهرة، لأنهم لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة بالإجماع، مع أنه لم يوجد ما يطهرها من الماء أو النار أو التراب أو ما شابه ذلك، والآية لا تدل على نجاسة الظاهر وإنما يدل على نجاسة الباطن، ولا شك أنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجساً مبالغة في وصفهم بالنجاسة. الترجيح: الصحيح رأي الجمهور لأن المسلم له أن يتعامل معهم، وقد كان عليه السلام يشرب من أواني المشركين، ويصافح غير المسلمين والله أعلم. الحكم الثالث: هل يمنع المشرك من دخول المسجد؟ دلّ قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} على منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وقد اختلف العلماء في المراد من لفظ (المسجد الحرام) على أقوال عديدة: أ - المراد خصوص المسجد الحرام أخذاً بظاهر الآية وهو مذهب الشافعية. ب - المراد الحرم كلّه (مكة) وما حولها من الحرم وهو قول عطاء ومذهب الحنابلة. ج - المراد المساجد جميعاً المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد بالقياس وهو مذهب المالكلية. د - المراد النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة وهو مذهب الحنفية. دليل الشافعي: احتج الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ بظاهر الآية {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} فقال: الآية خاصة في المسجد الحرام. عامة في الكفار. فأباح دخول غير المسلمين سائر المساجد. ومنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام. دليل أحمد: واستدل الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ بأن لفظ (المسجد الحرام) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 قد يطلق ويراد به الحرم كله كما في قوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] وقد كان الصد عن دخول مكة، وأخبر تعالى بأنهم سيدخلونها آمنين. دليل مالك: واستدل مالك رَحِمَهُ اللَّهُ بأن العلة وهي (النجاسة) موجودة في المشركين. والحرمة ثابتة لكل المساجد، فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها. فقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد. دليل أبي حنيفة: واستدل أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ على أن المراد النهي عن تمكينهم من الحج والعمرة بما يلي: أولاً: قوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فإن تقييد الني بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد هذا العام. ثانياً: قول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه حين أرسله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينادي بسورة براءة: «وألاّ يحجّ بعد هذا العام مشرك» . ثالثاً: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} فإن خشية الفقر إنما تكون بسبب انقطاع تلك المواسم ومنع المشركين من الحج والعمرة حيث كانوا يتاجرون في مواسم الحج، فإن ذلك يضر بمصالحهم المالية، فأخبرهم تعالى بأن الله يغنيهم من فضله. رابعاً: إجماع المسلمين على وجوب منع المشركين من الحج، والوقوف بعرفة، ومزدلفة، وسائر أعمال الحج وإن لم تكن هذه الأفعال في المسجد الحرام. قال صاحب «الكشاف» : «إن معنى قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 الحرام} أي لا يحجوا ولا يعتمروا، ويدل عليه قول علي:» وألاّ يحج بعد عامنا هذا مشرك «فلا يمنعون من دخول الحرم، والمسجد الحرام، وسائر المساجد عند أبي حنيفة» . الحكم الرابع: ما هي الجزية، وما هو مقدارها وممن تؤخذ؟ الجزية: ما يدفعه أهل الكتاب للمسلمين لقاء حمايتهم ونصرتهم، سميت جزية لأنها من الجزاء، جزاء الكفر وعدم الدخول في الإسلام، أو جزاء الحماية والدفاع عنهم. وقد اختلف الفقهاء في الذين تؤخذ منهم الجزية، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: تؤخذ من كل مشرك عابد وثنٍ، أو نارٍ، أو جاحدٍ مكذب. وقال أبو حنيفة ومالك: الجزية تؤخذ من الكل إلاّ من عابدي الأوثان من العرب فقط. فأما الذين تؤخذ منهم الجزية فهم الرجال البالغون، فأما الزمنى، والعمي، والشيوخ المسنون، والنساء، والصبيان، والرهبان المنقطعون في الصوامع فلا تؤخذ منهم الجزية. وأما مقدارها فعلى الموسر ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهماً، وعلى الفقير القادر على العمل إثنا عشر درهماً في السنة، وهو قول أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى. وقال مالك: على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الفضّة أربعون درهماً، وسواءٌ في ذلك الغني والفقير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 وقال الشافعي: على كل رأسٍ دينار سواءٌ فيه الغني والفقير. الترجيح أقول: ما روي عن مالك رَحِمَهُ اللَّهُ هو ما فرضه عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وقد رويت عن عمر ضرائب مختلفة أخد كل مجتهد بما بلغه، وأظن أن ذلك كان بحسب الاجتهاد، وبحسب اليسر والعسر، وقد روي أن عمر ورضع الجزية عن شيخ يهودي طعن في السن رآه يسأل الناس، وأعاله من بيت مال المسلمين، فالأمر فيه سعة، والله أعلم. خاتمة البحث: حكمة التشريع أوجبت الشريعة الإسلامية الغراء على المسلمين قتال أهل الكفر والعدوان، ممن أبوا أن يدخلوا في دين الله، وأن ينعموا بظلال الإسلام الوارفة، وأحكامه العادلة، ويستجيبوا لدعوة الحق التي فيها الخير والسعادة لني الإنسانية جمعاء. وقد استثنى الباري جل وعلا من قتال الكفار أهل الكتاب، فأمر بدعوتهم إلى الدخول في الإسلام فإن أبوا دفعوا الجزية، وإلاّ وجب قتالهم حتى يفيئوا إلى دين الله، ويرضوا بحكم الله جل وعلا {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] والجزية هي - في الحقيقة - رمزٌ للخضوع والإذغان، رمزٌ لقبول غير المسلم بالعيش في ظل نظام الإسلام، رمزٌ لإظهار الطاعة والرضى والانقياد للدولة الإسلامية، وهي بعد ذلك تعبيرٌ عن مبدأ التعاون، بين الذميين والدولة الإسلامية ممثلة في خليفة المسلمين، بحيث لا يكون هناك خروجٌ عن الطاعة، ولا تمرد على نظام الإسلام، أو بتعبير آخر: الاستسلام لحكم الإسلام، والرضى بكل تشريعاته وأحكامه. وإذا كان المسلم يدفع زكاة ماله كل عام لتنفق في مصارفها التي حدّدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 القرآن الكريم، فإن هذا الذمي المعاهد (اليهودي أو النصراني) لا يكلف بدفع الزكاة، وإنما يكلف بدفع الجزية وهي مبلغ يسير زهيد، لا يزيد على ثمانية وأربعين درهماً في العام مقابل الدفاع عنه، وحمايته ونصرته، ومقابل استمتاعه بالمرافق العامة للدولة التي يعيش في كنفها، وتحت ظل حكمها، فليس الهدف إذاً من الجزية الجباية وسلب الأموال، وإنما الهدف الاطمئنان إلى رضى أهل الكتاب بالعيش في ظلال حكم الإسلام، والانقياد، والطاعة لأحكامه وأوامره، وصدق من قال: «إنّ الله لم يبعث المسلمين ليكونوا جباة وإنما بعثهم ليكونوا هداة» !! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 22 - سورة الحج [1] التقرب إلى الله بالهدي الأضاحي التحليل اللفظي {والبدن} : جمع بدنة وهي اسم للواحد من الإبل، ذكراً أو أنثى، وسميت بذلك لعظم بدنها، وقد اشتهر إطلاقها في الشرع على البعير الذي يهدى للكعبة. {صَوَآفَّ} : جمع صافة وهي التي قد صُفَت قوائمها للذبح، والبعير ينحر قائماً. ومن قرأ (صوافن) فالصافن التي تقوم على ثلاث، والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فهو الصافن. الحديث: 22 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} : أي سقطت جنوبها، والجُنُوبَ جمع جَنْب وهو الشق، أي إذا سقطت على الأرض يقال: وجب الحائط وجبةً إذا سقط، ووجب القلب وجيباً إذا تحرك من فزع، وسقوط الجنوب كناية عن الموت ومفارقة الروح بعد الذبح. {القانع والمعتر} : القانع الراضي بما قدّر الله له من الفقر والبؤس، العفيف الذي لا يتعرض لسؤال الناس، مأخوذ من قنع يقنع إذا رضي. وأمّا المعْترّ فهو الذي يتعرض لسؤال الناس، فهو كالمعتري الذي يعتري الأغنياء ويذهب إليهم المرة بعد المرة، وقيل بالعكس، القانع: السائل، والمعتر الذي لا يسأل الناس. قال ابن عباس: القانع الذي يسأل، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل، واختاره الفرّاء. وجه الارتباط بالآيات السابقة ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أن طريق التقوى إنما هو في تعظيم شعائر الله والالتزام بما شرعه من الأحكام وقد امتنّ الله على عباده بأن جعل لهم البُدْن يسوقونها إلى مكة قٌربة عظيمة، حيث جعلها شعيرة من شعائر الله، وعلماً من أعلام دينه، ودليلاً على طاعته، ففي سوقها للحرم ونحرها هناك خيرٌ عظيم، وثواب كبير، يناله أصحابها في الآخرة. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لقد جعلنا لكم - أيها المؤمنون - الإبل من شعائر دين الله، لكم فيها عبادة لله، من سوقها إلى البيت، وتقليدها، وإشعارها، ونحرها، والإطعام منها، لكم فيها النفع في الدنيا، والأجر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 الآخرة، فاذكروا اسم الله عند نحرها، قائماتٍ قد صففن أيديهنّ وأرجلهنّ، فإذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها، وسكنت حركتها، فكلوا منها وأطعموا السائل المحتاج، والمعتر الذي يتعرض للسؤال ولا يسأل، مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون، سخرناها وذلّلناها لكم مع قوتها وعظم أجسامها، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحرٍ وركوب، وحلبٍ وغير ذلك من وجوه المنافع، ولولا تسخيرها لكم لم تقدروا عليها لأنها أقوى منكم، فاشكروا الله على نعمه وآلائه التي لا تعد ولا تحصى. ثم بيّن الله تعالى في الآية الثانية أنه جلا وعلا لا يصل إليه شيء من لحوم هذه الأضاحي والقرابين التي يهدونها لبيته الحرام، ويذبحونها تقرباً إليه، فلا شيء من هذا يصل إلى الله أو يرضيه، وإنما يرضيه جلّ وعلا امتثال الأمر منكم وطاعته وتقواه، فالأعمال إنما تكون مقبولة بمقدار التقوى والإخلاص فيها، وبدون التقوى والإخلاص تكون أشبه بصور أجسام لا روح فيها ولا حياة، فلا يظن أنه ينال ثواب الله باللحم يقطعه وينشره، ولا بالدم يلطخ به الكعبة الطاهرة، فعل أهل الشرك في الجاهلية وإنما ينال ذلك بتقوى الله، والبعد عن مثل تلك الأعمال التي تجافي روح الإسلام وطهارته. ثمّ ختم الله تعالى هذه الآية بتذكير المؤمنين بوجوب شكره وتعظيمه على ما سخّر لهم من الأنعام، يتقربون بها إلى المولى جل وعلا، فيأكلون من لحومها، ويتصدقون ببعضها، لينالوا الأجر من الله والثواب العظيم، وليبشرهم بالفضل العميم في جنات النعيم. سبب النزول روي عن ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن جماعة من المسلمين كانوا قد همّوا أن يفعلوا بذبائحهم فعل أهل الجاهلية، يقطعون لحومها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وينشرونها حول الكعبة، وينضحون على الكعبة من دمائها، فلما أسلموا وعزموا على ذلك نزلت الآية الكريمة تزجرهم عن هذا الفعل، وترشدهم إلى ما هو الأجدرُ بهم والأليق. وجوه القراءات قرأ الجمهور {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} جمع صافّة، وقرئ (صوافن) جمع صافنة وهي القائمة على ثلاث قوائم والرابعة مرفوعة، وقرئ (صوافي) جمع صافية بمعنى خالصة لله تعالى. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {والبدن جَعَلْنَاهَا} البُدنَ: مفعول مقدم لجعلنا مثل قوله تعالى: {والقمر قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39] وقرئ برفعها (والبُدنُ) على الابتداء. ثانياً: قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الجار والمجرور خبر مقدم و (خيرٌ) مبتدأ مؤخر. ثالثاً: قوله تعالى: {صَوَآفَّ} منصوب على الحال وهو حال من المفعول البدن. رابعاً: قوله تعالى: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ} كذلك: نعتٌ لمصدرٍ محذوف تقديره سخرناها لكم تسخيراً كذلك التسخير العجيب، وعلى هذا تكون الكاف صلة، ويصح أن تكون على معناها مفيدة للتشبيه ويكون ذلك من تشبيه الشيء بنفسه مبالغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: بيّن الباري جل وعلا أن تسخيره الأنعام لبني آدم، نعمةٌ من إنعامه تستوجب الشكر وقد جاء هذا الامتنان على العباد (مجملاً) في هذه الآية {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} وجاء التفصيل في آيات أخرى كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 71 - 73] وكقوله: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 5 - 7] . اللطيفة الثانية: المراد من قوله تعالى: {مِّن شَعَائِرِ الله} أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده، وإضافتها إلى الله جلّ وعلا للتعظيم مثل {نَاقَةُ الله} [الأعراف: 73] ، و (بيت الله) وإنما كانت هذه البُدنُ من الشعائر، لأن الغرض منها التقرب إلى الله بالهدايا والضحايا وغيرها من وجوه البر والإحسان. اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} إشارة لطيفة إلى أنّ الإبل لا تذبح ذبحاً وإنما تُنحر نحراً، وأنّ المطلوب عند نحرها أن تكون قائمة قد صُفّت أيديها وأرجلها، فإنّ ذلك هو الطريق الأمثل في ذبح الإبل كما وضحته السنة النبوية المطهرة. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل تطلق البُدن على الإبل والبقر؟ اتفق العلماء على أن البُدن اسم للواحد من الإبل ذكراً كان أو أنثى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 فهي تطلق على الإبل باتفاق، وقد اشتهر في الشرع إطلاقها على البعير يهدى إلى الكعبة، واختلفوا هل تطلق البدنة على البقرة؟ باعتبار أنها تجزئ في الهَدْي والأضحية عن سبعة كالبعير على مذهبين: أولاً - مذهب الحنفية: أن البدنة تطلق على البقرة كما تطلق على البعير، فهي من قبيل المشترك في المعنيين، فمن نذر بدنةً أجزأته بقرة فهي مثلها في اللفظ والحكم، وبهذا قال (عطاء) و (سعيد بن المسيّب) واستدلوا بما يلي: 1 - روي عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «كنّا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلاّ من البُدن» ؟ ب - وعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: لا نعلم البُدن إلا من الإبل والبقر. ثانياً - مذهب الشافعية: أما الشافعية فقالوا: لا تطلق البدن بالحقيقة إلاّ على الإبل، وإطلاقها على البقر إنما يكون مجازاً، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبهذا قال (مجاهد) . ودليلهم ما روي عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال: «تجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» قالوا: فلهذا يدل على ما قلنا لأن العطف يقتضي المغايرة. والظاهر أن اسم البدنة حقيقة في الإبل لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} فالإبل هي التي تنحر واقفة بخلاف البقر فإنها تذبح ذبحاً، وقول جابر: وهل هي إلا من الإبل؟ وقول ابن عمر: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر، فمحمولٌ على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما، وهذا شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 غير اشتراك اللفظ بينهما والله أعلم. الحكم الثاني: ما هو الأفضل في الهدي والأضاحي. أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم (الإبل، البقر، الغنم، الماعز) وأن الذكر والأنثى بالنسبة للأضاحي والهدي سواءٌ، واتفقوا على أن الأفضل الإبل، ثم البقر، ثم الغنم على هذا الترتيب، لأن الإبل أنفع للفقراء لعظمها، والبقر أنفع من الشاة كذلك، وأقل ما يجزئ عن الواحد شاةٌ، والبدنةُ تجزئ عن سبعة وكذلك البقرة. واختلفوا في الأفضل للشخص الواحد: هي يُهدي سُبْع بدنة، أو سُبْع بقرة، أو يهدي شاةً؟ والظاهر أن الاعتبار إنما يكون بما هو أنفع للفقراء، وهذا هو الأصح. ومما يدل على أن البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة ما رواه جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «حججنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنحرنا البعير عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعةٍ» . وللمرء أن يهدي للحرم ما يشاء من النعم، وقد أهدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مائةً من الإبل، وكان هديه عليه السلام هدي تطوع. الحكم الثالث: الأكل من لحوم الهدي. أمر الله تعالى بالأكل من لحوم الهدي في قوله جل ثناؤه {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} [الحج: 28] وهذا الأمر يتناول بظاهره (هدي التمتع) و (هدي التطوع) والهدي الواجب بسبب ارتكاب بعض المحظورات في الحج أو العمرة. وقد اختلف الفقهاء في ذلك على عدة أقوال نلخّصها فيما يلي: 1 - ذهب أبو حنيفة وأحمد إلى جواز الأكل من هدي التمتع، وهدْي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 القِران، وهدي التطوع، ولا يأكل من دم الجزاء. وقال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: يأكل من هدي التمتع، والقِران، والهدي الذي ساقه لفساد حجه أو لفوات الحج، ومن الهدي كله إلا فدية الأذى، وجزاء الصيد، وما نذره للمساكين. وقال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يجوز الأكل من الهدي الواجب مثل دم الجزاء، وجزاء الصيد، وهدي التمتع والقِران، وإفساد الحج، وكذلك ما كان نذراً أوجبه على نفسه. أمّا كان تطوعاً فله أن يأكل منه ويُهدي، ويتصدّق، فأباح الأكل من هدي التطوع فحسب. ومبنى الخلاف بين الجمهور والإمام الشافعي في (هدي التمتع) أنّ الدم الواجب عندهم دم شكر فيباح له أن يأكل منه، وعنده أنه دم جزاء فلا يباح الأكل منه والتفصيل في كتب الفروع. وقد استدل الإمام الشافعي على وجوب إطعام الفقراء من الهدايا بقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} وقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} [الحج: 28] . وقال أبو حنيفة: إن الإطعام مندوب، لأنها دماء نُسُك فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب. الحكم الرابع: وقت الذبح ومكانه. اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي. فعند الشافعي: أن وقت ذبحه يوم النحر، وأيام التشريق (الثاني والثالث والرابع) من أيام عيد الأضحى، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وكلّ أيام التشريق نحرٌ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 فإن فات وقته ذبح الهدي الواجب قضاءً وأثم بالتأخير. وعند مالك وأحمد أن وقت ذبح الهدي - سواءً كان واجباً أمّ تطوعاً - أيام النحر (الأول والثاني والثالث) من أيام عيد الأضحى، ولا يصح الذبح في اليوم الرابع. ووافق الحنفية مذهب مالك وأحمد بالنسبة لهدي التمتع والقرآن، وأما النذر، والكفارات، والتطوع فيذبح في أي وقت كان. وحكي عن النخي: أن وقت الذبح يمتد من يوم النحر، إلى آخر ذي الحجة. وأما مكان الذبح - سواءً كان واجباً أم تطوعاً - فهو الحرم لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وقوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ومَحِلّه هو الحرم فيجوز أن يذبح في أي مكان من الحرم، في مكة ومنى وغيرها من حدود الحرم لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كل مِنى منحرٌ، وكلّ المزدلفة موقفٌ، وكلّ فِجاج مكة طريق ومنحر» . ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - تعظيم الهدي والتقرب به إلى الله من شعائر الدين الإسلامي. 2 - الهدي والأضحية لا تكون إلاّ من الأنعام (الإبل والبقر والغنم) . 3 - الأفضل في الإبل النحرُ، وفي البقر والغنم الذبحُ. 4 - في إراقة الهدي نفع الفقير، والحصولُ على مرتبة التقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 5 - النسك بالأضاحي فيه إحياء لذكرى (الفداء) لإسماعيل مع أبيه الخليل عليهما السلام حين أمر بذبح ولده في المنام. خاتمة البحث: حكمة التشريع جعل الباري - تباركت أسماؤه - الهَدْي والأضاحي من شعائر دين الله، يذبحها المسلم ليتقرب بها إلى ربه جلّ وعلا وينال مغفرته ورضوانه، ولتكون تكفيراً لما جنته يداه من الذنوب والآثام، وليتعودّ على الإخلاص في القول والفعل والعمل، فالمؤمن إنما يذبح على اسم الله، وبأمره جل وعلا، ألاّ يذكر معه اسم غيره، ولا يتوجه إلى أحد سواه، ولا يقصد بعمله غير وجه الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} [الأنعام: 162 - 163] . وبهذا التوجه بالنسك لله يتعود المؤمن على الإخلاص، ويكتسب مرتبة التقوى التي أشارت إليها الآية الكريمة {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} [الحج: 37] . ولئن كان المشركون يذبحون هذه القرابين للأصنام رجاء النفع ودفع الضر، فإن المؤمن لا يذبح لصنمٍ، ولا وثن، وإنما يتقرب بنسكه إلى الله وحده، مخلصاً له العبادة جل وعلا والإسلام يربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وبين تقوى القلوب، فالتقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر كلها رموزٌ تعبيرية عن التوجه إلى ربّ البيت وطاعته، وهي تحمل في طياتها (ذكرى الفداء) ذكرى إقدام الخليل إبراهيم عليه السلام على ذبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 ولده (إسماعيل) امتثالاً لأمر الله حين أمر بذبح ولده في المنام {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فهوى ذكرى لآيةٍ من آيات الله، ومعجزة من معجزاته الباهرة، حين فدى ولد خليله بذبح عظيم، وهي بعد ذلك صدقة وقربى لله بإطعام الفقراء، ومعونة أهل الحاجة من الضعفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 التحليل اللفظي {سُورَةٌ} : السورة في اللغة معناها المنزلة السامية والمكانة الرفيعة، قال النابغة: «ألم تر أن الله أعطاك سورةً ... تَرى كلَّ مَلْك دونها يتذبذب» وهي في الاصطلاح: مجموعة من الآيات الكريمة لها بدء ونهاية كسورة الكوثر. وسميت (سورة) لشرفها وارتفاعها، كما يسمّي السور للمرتفع من الجدار. {أنزلناها} : المراد: أوحينا بها إليك يا محمد، ولعل السر في التعبير بالإنزال الذي يشعر بالنزول مع العلو هو الإشارة إلى أن هذا القرآن هو من عند الله تعالى لا من تأليف محمد كما زعم المشركون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 {وفرضناها} : أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً. وأصلُ الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه، وفي ذكر ذلك براعة استهلال على ما قيل، وقرئ بالتشديد {فرضناها} للمبالغة، ولتأكيد الإيجاب، ولتعدد الفرائض وكثرتها. {آيات بينات} : الآيات جمع (آية) وهي قد ترد بمعنى الآية القرآنية، وقد ترد بمعنى العلامة، أو الشاهد على القدرة الإلهية، مثل قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} [الشورى: 32] وقول الشاعر: وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنه واحد ومعنى (بينات) أي واضحات، فإن أريد بالآيات (الآيات القرآنية) كان المعنى أنها واضحات الدلالة على أحكامها، مثل الآيات التي فيها أحكام الزنى، والقذف، واللعان وغيرها، وإن أريد بالآيات (الآيات الكونيّة) كان المعنى أنها واضحات الدلالة على وحدانية الله، وكمال قدرته مثل التأليف بين السحاب، ووميض البرق ولمعانه، وتقليب الليل والنهار، واختلاف المخلوقات في أشكالها، وهيئاتها، وطبائعها، مع اتحاد المادة التي خلقت منها. إلى غير ما هنالك من أدلة التوحيد، وشواهد القدرة. {تَذَكَّرُونَ} : مضارع حذف منه إحدى التائين وأصلها تتذكرون. ومعنى التذكر أن يعاد إلى الذاكرة الشيء الذي غاب عنها، والمراد به هنا الاتعاظ والاعتبار أي (لعلكم تعتبرون وتتعظون) . {الزانية والزاني} : الزنى في اللغة: الوطء المحرّم، وفي الشرع: (وطءَ الرجل المرأةَ في الفرج من غير نكاحٍ ولا شبهة نكاح) ويسمى الفاحشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 قال تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ ... } [النساء: 15] الآية وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] . وهو في اللغة الفصحى - لغة أهل الحجاز - مقصورٌ، وقد يمد في لغة - أهل نجد - 0 فيقال الزناء وعليه قول الفرزدق: أبا طاهرٍ من يزنِ يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكراً قال القرطبي: كان الزنى في اللغة معروفاً قبل الشرع مثل اسم (السرقة) و (القتل) وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح، وإن شئت قلت: هو إدخال فرجٍ في فرجٍ مشتهى طبعاً محرّمٍ شرعاً. {فاجلدوا} : الجَلد بفتح الجيم ضرب الجِلد بكسرها، قال الألوسي: وقد اطرد صوغ (فَعَل) الثلاثي المفتوح العين من أسماء الأعيان فيقال: رأسَه، وظَهرَه، وبَطنَه، إذا ضرب رأسه وظهره وبطنه. وجوّز (الراغب) أن يكون معنى جَلَده: أي ضربه بالجِلّد، نحو عَصَاه ضربه بالعصا، ورَمَحه طعنه بالرمح. والمراد هنا المعنى الأول: فإنّ الأخبار قد دلت على أنّ الزانية والزاني يضربان بسوط (عصا) لا عقدة عليه ولا فرع له. ويرى بعضهم: أن الجَلد في العرف الضربُ مطلقاً، وليس خاصاً بضرب الجِلد بلا واسطة. {رَأْفَةٌ} : شفقة وعطف، مأخوذ من رؤف إذا رق ورحم، والرؤوف من أسماء الله تعالى: العطوفُ الرحيم، وقيل الرأفة تكون في دفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 المكروه، والرحمة أعم، والمراد: النهي عن التخفيف في الجلد، أو إسقاط الحد بالكلية كما نبذه عليه الألوسي. {دِينِ الله} : أي في شرع الله وحكمه، أو في طاعته وإقامة حده، وروى عن عطاء أنّ المراد النهي عن إسقاط الحد بشفاعة ونحوها. {طَآئِفَةٌ} : الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف، وهو الدَّوران والإحاطة وقد تطلق في اللغة ويراد بها الواحد، أو الجماعة، قال الألوسي: والمراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير والزجر، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الماكن والأشخاص. {لاَ يَنكِحُ} : المراد بالنكاح هنا (العقد) بمعنى لا يتزوج الزاني إلا زانية مثله، ويوافقه سبب النزول كما سيأتي والنفي في الآية بمعنى النهي للمبالغة ويؤيده قراءة {لا يَنْكِحْ} بالجزم، ويشبه هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُنْكِحُ البِكرُ حتى تُستَأذن» فهو خبر بمعنى النهي أي لا تزوِّجوا البكر حتى تستأذنوها. وقيل المراد بالنكاح في الآية: الوطء وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزوج. {مُشْرِكَةً} : هي التي ليس لها دين سماوي والتي لا تؤمن بالله كالمجوسية، والوثنية، وهي تختلف عن الكتابية في الحكم، فالكتابية يجوز الزواج بها، والمشركةُ لا يجوز قال تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ... } [البقرة: 221] الآية. {وَحُرِّمَ ذلك} : أي حرَّم الله تعالى الزنى على المؤمنين لما فيه من أضرار جسيمة، ومفاسد عظيمة، أو المراد حرم الله نكاح الزانيات والمشركات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 المعنى الإجمالي يخبر الله جل وعلا بما أنزل على عباده المؤمنين في هذه السورة الكريمة، من تشريع وأحكام ومواعظ وآداب وإرشادات حكيمة، وأخلاق كريمة، ونُظم وتشريعات، بها صلاح دينهم ودنياهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة فيقول سبحانه ما معناه: هذه سورة من جوامع سور القرآن أنزلتها عليكم أيها المؤمنون لتطبقوا أحكامها وتتأدبوا بما فيها من آداب. ولم أنزلها عليكم لمجرد التلاوة وإنما فرضتها عليكم وألزمتكم أن تعملوا بما فيها لتكون لكم قبساً ونبراساً، ولتعتبروا بما فيها من الآيات البيذنات، والدلائل المحكمات والشواهد الكثيرة على رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ العادلة في تشريع هذه الأحكام التي بها سعادة المجتمع، وحياة الإنسانية {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] . ومن هذه الأحكام والحدود التي شرعتها لكم، أن تجلدوا كلاً من الزانيين مائة جلدة، تستوفونها منهما كاملة دون رحمة أو شفقة، ودون تخفيف من العقاب، أو إنقاصٍ من الحد، فإن (جريمة الزنى) أخطر وأعظم من أن تستدر العطف أو تدفع إلى العفو عن مرتكب هذه الجريمة النكراء، فإن من عرف آثارها وأضرارها من تدنيسٍ للعرض والشرف، وضياع للأنساب، واعتداء على كرامة الناس، وتلطيخ لهم بالعار والشنار وتعريض للأولاد للتشرد والضياع، حيث يولد (اللقيط) وهو لا يدري أباه، ولا يعرف حسبه ونسبه - إلى غير ما هنالك من أضرار - من عرف ذلك أدرك حكة الله تعالى في تشريع هذا العقاب الزاجر الصارم. وليس هذا فحسب بل لا بد أن تشهدوا على هذه العقوبة لتكون زجراً له ولأفراد المجتمع من اقتراف مثل هذا المنكر الشنيع، فتحصل العظة والعبرة ... {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} . ثم بين تعالى أن الزاني لا يليق به أن ينكح المؤمنة العفيفة الشريفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 إنما ينكح مثله أو أخسّ منه، ينكح الزانية الفاجرة أو المشركة الوثنية، ولا عجب فإن الفاسق الخبيث لا يرغب غالباً إلا في فاسقة من شكله أو مشركة، والزانيةُ الخبيثة كذلك لا يرغب فيها إلا خبيث مثلها أو مشرك. فالنفوس الطاهرة تأبى مثل هذا الزواج بالفواجر الفاسقات وصدق الله: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] . وقد حرم الله الزنى لما فيه من أضرار عظيمة، ومخاطر جسيمة تودي بحياة الأفراد والجماعات، وتقوّض بنيان المجتمعات، وتعرِّض الأولاد للتشرد والضياع. سبب النزول رُويَ في سبب نزول الآية الكريمة {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} عدة أسباب ذكرها المفسرون ونحن ننقل أجمعها وأصحها وهي كالآتي: أولاً - روى أن رجلاً يقال له (مرثد الغنوي) كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغّي بمكة يقال لها (عَنَاق) وكانت صديقة له، وأنه وعد رجلاً من أسارى مكة أن يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت (عَنَاق) فأبصرتْ سوادَ ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد، فقالت: مرحباً وأهلاً هلمّ فبت عندنا الليلة، فقلتُ يا عناق: قد حرَّم الله تعالى الزنى، فنادت يا أهل الخيام: هذا الرجل يحمل أسراكم، قال: فتبعني منهم ثمانية، فانتهيت إلى غار فجاءوا حتى قاموا على رأسي وبالوا، حتى ظلّ بولهم على رأسي، وأعماهم الله تعالى عني، ثم رجعوا ورجعتُ إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقلت يا رسول الله: أأنكح عناقاً؟ فأمسك فلم يردّ عليَّ شيئاً فأنزل الله {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية فقرأها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 عليَّ الرسول، ثم قال يا مرثد: لا تَنكحها. ثانياًً - وروي أن امرأة تُدعى (أم مهزول) كانت من البغايا، فكانت تسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتزوجها فأنزل الله تعالى: {الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . ثالثاً - وروي أنها نزلت في أهل الصفّة وكانوا قوماً من المهاجرين، ولم يكن لهم مساكن ولا عشائر، فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمأة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل وكان بالمدينة (بغايا) متعالنات بالفجور مخاصيب بالكسوة والطعام، فهمّ بعضهم أن يتزوجوا بهنّ. ليأووا إلى مساكنهنّ، ويأكلوا من طعامهن فنزلت هذه الآية. لطائف التفسير 1 - اللطيفة الأولى: التنكير في قوله (سورة) للتفخيم فكأن الله تعالى يقول: هذه سورة عظيمة الشأن جليلة القدر، لما فيها من الآداب السامية والأحكام الجليلة، قال الألوسي: وهي (خبر) لمبتدأ محذوف أي هذه سورة، وأشير إليها بهذه تنزيلاً لها منزلة (الحاضر) المشاهد وقوله تعالى: {أَنزَلْنَاهَا} وما بعده صفات لها مؤكدة، لما أفاد التنكير من (الفخامة) من حيث الذات، بالفخامة من حيث الصفات. 2 - اللطيفة الثانية: تكرير لفظ {أَنزَلْنَا} في قوله: {أَنزَلْنَاهَا} و {أَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ} لإبراز كمال العناية بشأنها، وهو يشبه ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 3 - اللطيفة الثالثة: قال الفخر الرازي: أنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود وذكر في آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى: {فَرَضْنَاهَا} إشارة إلى الأحكام، وقوله: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إشارة إلى دلائل التوحيد ويؤيده قوله: {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكروا بها. قال الألوسي: وهذا الوجه عندي حسن. 4 - اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أصل (لعل) للترجي والترجي لا يليق من الله تعالى ولذلك تكون لعل هنا بمعنى (لام التعليل) أي لتتذكروا وتتدبروا بما فيها واستشهدوا بقول الشاعر: فقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا ... نكفّ ووثّقثتم لنا كل مَوثِقِ أي كفوا الحروب لنكف، وذكر القرطبي وجهاً آخر وهو أن تبقى (لعل) للترجي ولكن يكون الترجي من المخلوق لا من الخالق أي رجاء منكم أن تتذكروا. 5 - اللطيفة الخامسة: فإن قيل: ما الحكمة في أن يبدأ الله في الزنى بالمأة وفي السرقة بالرجل؟ فالجواب أنَّ الزنى من المرأة أقبح، وجرمه أشنع، لما يترتب عليه من تلطيخ فراش الرجل وفساد الأنساب وإلحاق العار بالعشيرة ثم الفضيحة بالنسبة للمرأة (بالحمل) تكون أظهر وأدوم فلهذا كان تقديمها على الرجل. وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجل لأنه أجرأ عليها وأجلد وأخطر فقدم عليها لذلك. قال القرطبي: قدمت {الزانية} في هذه الآية، من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاشٍ وكان لإماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك، وذرك وجوهاً أخرى تؤيد ما سبق. 6 - اللطيفة السادسة: عبّر بقوله: (فاجلدوا) ولم يقل (فاضربوا) للإشارة إلى أن الغرض من الحد الإيلام بحيث يصل ألمه إلى الجِلد، لعظم الجُرم ردعاً له وزجراً. قال العلماء: ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به، وأما بقية الحدود فالأمر فيها أخف. 7 - اللطيفة السابعة: قال القرطبي: ذكر الله سبحانه وتعالى: (الذكر والأنثى) وكان يكفي منهما لفظ (الزاني) فقيل: ذكرهما للتأكيد، ويحتمل أن يكون ذكرهما لئلا يظن ظانّ أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعاً لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان. 8 - اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله} هذا من باب التهييج والإلهاب كما يقال إن كنت رجلاً فافعل كذا، ولاشك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم، ولكن قصد تهييج وتحريك حميتهم ليجتهدوا في نتفيذ الأحكام على الوجه الأكمل. 9 - اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} الآية قال الألوسي: فيه تقبيح لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنى لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة، والزانية بعتد أن رضيت بالزنى لا يليق أن ينكحها إلاّ مَنْ هو مثلها وهو الزاني، أو هو أشد حالاً منها وهو المشرك وأما المسلم العفيف فأسَدُ غيرته يأبى ورود جَفْرتها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماء ... إذا كان الكلاب ولَغْن فيه والسر في تقديم (الزانية) في الآية الأولى، (والزاني) في الآية الثانية، أو الأولى في بيان عقوبة الزنى والأصل فيه المرأة لموافقتها ورضاها، وأما الثانية فهي في حكم نكاح الزناة، والأصلُ في النكاح الذكور. قال في «التفسير الواضح» : إن الزنى ينشأ غالباً وللمرأة فيه الضلع الأكبر، فخروجها سافرة متبرجة متزينة داعية لنفسها بشتى الوسائل المغرية من أصباغ وعطور وملابس ضيقة، ونظرات كلها إغراء للشباب وفتنة فهذه كلها حبائل الشيطان. وليس معنى هذا أن الرجال بريئون بل عليهم قسط كبير في الجرم وقسطُ المرأة أكبر، ولهذا قدمها على الزاني وفي الآية الثانية يعالج النكاح بمعنى (العقد) وللمرأة فيه الخطوة الثانية، أما الرجل فله الخطوة الأولى ولهذا قدمه على المرأة والله أعلم بأسرار كتابه. 10 - اللطيفة العاشرة: قرن الله عَزَّ وَجَلَّ الزاني بالمشرك وذلك ليشير إلى عظيم خطر الزنى وكبير ضرره وذلك جرم من أعظم الجرائم الاجتماعية يهدم بنيان الأسرة ويحطم كيان المجتمع ولهذا قرنه الله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ ... } [الفرقان: 68] الآية. جنبنا الله السوء والفاحشة. بمنّه وكرمه آمين. وجوه القراءات 1 - قوله تعالى: {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بالتخفيف والتشديد، فقراء التخفيف {فَرَضْناها} بمعنى أوجبنا وألزمنا العمل بما فيها من الأحكام إيجاباً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 قطعياً وقراءة التشديد {فرّضْناها} لتأكيد الايجاب أو المبالغة في لزومه وقيل: هو على التكثير، أي لكثرة ما فيها من الفرائض كأحكام الزنى، والقذف، واللعان، والأمر بالحجاب، والاستئذان وغضّ البصر، وغير ذلك. 2 - قوله تعالى: {الزانية والزاني} قرأ الجمهور بالرفع وقرئ بالنصب (الزانية) واختار الخليل وسيبوية الرفع اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية لأن معناه: من زنى فاجلدوه فتأويله الابتداء ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية. 3 - قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ} قرأ الضحاك والأعمش {ولا يأخذكم} بالياء بدل التاء وقوله تعالى: {رَأْفَةٌ} بإسكان الهمزة هي القراءة المشهور وقرئ {رَأَفة} بفتح الهمزة قال القرطبي: وفيه ثلاث لغات: (رَأَفة، ورأْفة، ورآفة) بالمد وهي كلها مصادر أشهرها الأولى. 4 - قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ} بضم الحاء وقرئ بإسكانها {لا ينكحْ} فالأولى (نفيٌ) ، والثانية (نهيٌ) ، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذلك} قرئ بالتشديد أي بضم الحاء وتشديد الراء، وقرئ بالتخفيف {وحَرُم} بفتح الحاء وضم الراء - قال ابن الجوزي: وقرأ أُبيَّ بن كعب {وحَرَم اللَّهُ} بزيادة اسم الله عَزَّ وَجَلَّ مع فتح حروف (حَرّم) . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} سورة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة، وإنما قدرنا ذلك لأنها نكرة، والمشهورُ عند علماء النحو أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 لا يجوز الابتداء بالنكرة كما قال ابن مالك: ولا يجوز الابتدا بالنكرة ... مال لم تفد كعند زيد نمرة وجوَّز بعضهم أن تكون مبتدأ لأنها موصوفة بجملة (أنزلناها) وهو رأي (الأخفش) قال القرطبي: ويحتمل أن يكون قوله (سورة) ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك. ويرى (الزمخشري) أنه يجوز أن تكون مبتدأ موصوفاً والخبر محذوف تقديره فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقد رد العلامة (أبو السعود) هذا الرأي وقال: وأما كونها متبدأ محذوف الخبر على أن يكون التقدير: (فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها) الخ فيأباه أنّ مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة لا أن في جملة ما أوحي إلى النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سورة شأنها كذا وكذا. وحملها على السورة الكريمة بمعونة المقام يوهم أن غيرها من السور الكريمة ليست على تلك الصفات. 2 - قوله: {أَنزَلْنَاهَا} الجملة من الفعل والفاعل في محل رفع (صفة) لأن الجمل من بعد النكرات صفات. كما يقول علماء النحو. 3 - قوله: {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لعل للترجي وهي من أخوات (إنَّ) والكاف في محل نصب اسم لعل، وجملة (تَذكَّرون) من الفعل والفاعل في محل رفع خبرها. 4 - قوله: {الزانية والزاني} الزانية مبتدأ والزاني معطوف عليها والخبر هو جملة (فاجلدوا) والتقدير الزانية والزاني مجدلودان في حكم الله أو ينبغي أن يُجْلدا، وإنما دخلت الفاء على الخبر لأن في الجملة معنى الشرط أي من زنى أو من زنت فاجلدوهما مائة جلدة، وأما قراءة النصب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 (الزَّانيةَ والزاني) فهو منصوب بفعل محذوف يفسِّره المذكور أي اجلدوا الزانيةَ واجلدوا الزاني. 5 - قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ} أن الشرطية جازمة (وكنتم) فعل الشرط متصرفة من (كان) الناقصة والضمير اسمها وجملة (تؤمنون) من الفعل والفاعل خبرها وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي إن كنتم مؤمنين حقاً فلا تأخذكم بهما رأفة والله أعلم. الأحكام الشرعية الحكم الأول: كيف كانت عقوبة الزنى في صدر الإسلام؟ كان عقوبة الزنى في صدر الإسلام. عقوبة حفيفة موقَّتة، لأن الناس كانوا حديثي عهد بحياة الجاهلية. ومن سنة الله جل وعلا في تشريع الأحكام، أن يسير بالأمة في طريق (التدرج) ليكون أنجح في العلاج. وأحكم في التطبيق، وأسهل على النفوس لتتتقبل شريعة الله عن - رضى واطمئنان - كما رأينا ذلك في تحريم الخمر والربا وغيرهما من الأحكام الشرعية. وقد كانت العقوبة في صدر الإسلام هي ما قصه الله علينا في سورة النساء في قوله جل شأنه {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} [النساء: 15 - 16] فكانت عقوبة المرأة (الحبس) في البيت وعدم الإذن لها بالخروج منه، وعقوبة الرجل (التأنيث والتوبيخ) بالقول والكلام ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ... } الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 ويظهر أن هذه العقوبة كانت أو الإسلام من قبيل (التعزير) لا من قبيل (الحدّ) بدليل التوقيت الذي أشارت إليه الآية الكريمة {حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وقد استبدلت هذه العقوبة بعقوبة أشد هي (الجلد) للبكر و (الرجم) للزاني المحصن، وانتهى ذلك الحكم الموقت إلى تلك العقوبة الرادعة الزاجرة. روى عن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: (كان نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أُنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وتربّد وجهه، فأنزل الله عليه ذات يوم فلقي كذلك فلما سُرِّي عنه قال خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهنَّ سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيبُ بالثيب جلد مائة والرجم) . الحكم الثاني: ما هو حدُّ البكر، وحدُّ المحصن؟ فرقت الشريعة الإسلامية بين حد البكر (غير المتزوج) فخففّفت العقوبة في الأول فجعلتها مائة جلدة، وغلّظت العقوبة في الثاني فجعلتها الرجم بالحجارة حتى الموت، وذلك لأن جريمة الزنى بعد الإحصان (التَّزوج) أشد وأغلظ من الزنى المحض في نظر الإسلام فالجريمة التي يرتكبها رجل محصن من (امرأة محصنة) عن طريق الفاحشة أشنع وأقبح من الجريمة التي يرتكبها مع البكر لأنه قد أفسد نسب غيره ودنّس فراشه وسلك لقضاء شهوته طريقاً غير مشروع مع أنه كان متمكناً من قضائها بطريق مشروع فكانت العقوبة أشد وأغلظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 «الجلد ثابت بالنص القرآني القاطع» أم الجلد: فقد ثبت بالنص القرآني القاطع {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} والآية الكريمة إنما هي في حد الزاني (غير المحصن) والآية وإن كانت عامة في كل (زان) إلا أن السنة النبوية قد بينت ذلك ووضحته كما في حديث (عبادة بن الصامت) المتقدم ومهمة الرسول البيان كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وكفى بتوضيح الرسول وبيانه وتفصيلاً وبياناً لمجمل القرآن!! «الرجم ثابت بالسنة النبوية المتواترة» وأمّا الرجم: فقد ثبت بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقوله، وعمله، وكذلك بإجماع الصحابة والتابعين فقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا يتطرأ إليها الشك، وبطريق التواتر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أقام (حد الرجم) على بعض الصحابة كماعز، والغامدية، وأن الخلفاء الراشدين من بعده قد أقاموا هذا الحد في عهودهم وأعلنوا مراراً أن الرجم هو الحد للزنى بعد الإحصان. ثم ظلّ فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر مجمعين على كونه حكماً ثابتاً وسنة متبعة وشريعة إلهية قاطعة، بأدلة متضافرة لا مجال للشك فيها أو الارتياب، وبقي هذا الحكم إلى عصرنا هذا لم يخالف فيه أحد إلا فئة شاذة من المنحرفين عن الإسلام هم (الخوارج) حيث قالوا: إن الرجم غير مشروع وسنبين فساد مذهبهم فيما يأتي: أدلة الخوارج والرد عليها: استدل الخوارج على أنّ الرجم غير مشروع بأدلة ثلاثة هي أوهَى من بيت العنكبوت نلخصها فيما يلي: أولاً: قالوا الرجمُ أشدُّ العقوبات فلو كان مشروعاً لذكِر في القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 ولمّا يذكر دل على أنه غير مشروع. ثانياً: إن حدّ الأمة نصف حد الحرة {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] والرجم لا ينتصف فلا يصح أن يكون حداً للحرة. ثالثاً: إن الحكم عام في جميع الزناة وتخصيص (الزاني المحصن) من هذا الحكم مخالف للقرآن. هذه هي خلاصة أدلتهم وهي في الواقع تدل على جهلهم الفاضح وعدم فهمهم لمهمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو سوء إدراكهم لأسرار القرآن ومقاصده، وذلك منتهى الجهل والغباء. الرد على أدلة الخوارج: وقد ردّ أهنل السنة والجماعة على الخوارج بأدلة دامغة تقصم ظهر الباطل، وتخرس كلّ أفّاك أثيم نلخصها فيما يلي: أولاً: إن عدم ذكر الرجم في القرآن لا يدل على عدم المشروعية فكثير من الأحكام الشرعية لم تذكر في القرآن وإنما بينتها السنة النبوية والله تعالى قد أمرنا باتباع الرسول والعمل بأوامره {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] والرسولُ مبلغ عن الله عزَّ وجلَّ، وكلُّ ما جاء به إنما هو بوحي سماوي من العليم الحكيم {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] . وكيف يكون الرجم غير مشروع وقد رجم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورجم معه أصحابه وبيّن ذلك بهدية وفعله!! . ثم إن مهمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بينها القرآن بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] وليس قول الرسول «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً. . وفيه: والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ليس هذا القول إلا من البيان الذي أشار إليه القرآن وهو نص قاطع على حكم الزاني المحصن وقد أشار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الشريف بقوله: «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه» إلى أن سنته المطهرة بوحي من الله فثبت أن كل ما جاء به الرسول هو تشريع من الله، وأنه واجب الاتّباع. ثانياً: إن قوله تعالى: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] ليس فيها دليل على ما قاله الخوارج من عدم مشروعية الرجم، فإن الآية الكريمة قد أشارت إلى أن المراد بالعذاب هنا (الجلد) لا (الرجم) بدليل التنصيف في العقوبة والله تعالى يعلم أن الرجم لا ينصف ولا يمكن للناس أن يميتوا إنساناً نصف موتة فدل (العقل) و (الفهم السليم) على أن المراد بهذه العقوبة الجلد لا الرجم. فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة، وتجلد الحرة البكر مائة جلدة. والسر في هذا التخفيف على (الأمة) دون الحرة أن الجريمة من الحرة أفظع وأشنع لكون الحرة في مأمن من الفتنة، وهي أبعد عن داعية الفاحشة والأمة ضعيفة عن مقاومتها، فرحم الله ضعفها وخفف العقاب عنها. ثالثاً: وأما دعواهم أن الحكم عام، وتخصيصه مخالف للقرآن فجهلٌ مطبق ألا ترى أن كثيراً من الأحكام جاءت عامة وخصصتها السنة النبوية!! مثل: قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإن هذا اللفظ عام يشمل كل سارق حتى ولو كانت سرقته لشيء حقير (وتافه) وعلى دعواهم ينبغي أن نقطع يد من سرق فلساً أو يإبرة، مع أن السنة النبوية قد خصصت هذا الحكم وقيدته بربع دينار أو ما قيمته عشرة دراهم، وكذلك قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة} [النساء: 23] لم تنص الآية إلا على حرمة الأم والأخت من الرضاعة، مع أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيّن أنه يحرم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الرضاع ما يحرم من النسب، فيجب أن تكون حرمة (البنت من الرضاعة) مخالفة للقرآن بموجب دعواهم. والقرآن نهى عن (الجمع بين الأختين) فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها، أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن. . . وهذا جهل واضح لا يصدر من مسلم عاقل. قال العلامة الألوسي في تفسيره «روح المعاني» : وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإنكار الخوارج ذلك باطل، لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه السلام (متواتر) المعنى، وهم كسائر المسلمين أوقعهم في جهالات كثيرة، ولهذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز القول بالرجم من كونه ليس في كتاب الله تعالى ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات، فقالوا: ذلك من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين فقال لهم: وهذا أيضاً كذلك. ومراده أنهم لما احتجوا عليه بعدم وجود الرجم في القرآن، سألهم عن عدد ركعات الصلاة، هل هي مذكورة في القرآن؟ مقدار نصاب الزكاة وشروط وجوبها، هل هو موجود في القرآن؟ فلما أقروا بأن هذا ثبت من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن فعل المسلمين أقام عليهم الحجة بذلك. شهادة صادقة وبصيرة نافذة: وكأني بالفاروق عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وقد ألهم أمر هؤلاء الخوارج فكشف نواياهم وأطلع الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 على خبث عقيدتهم فخطب على المنبر وكان فيما قال: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فقرأناها ووعيناها ورجم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورجمنا بعده وأخشى أن يطول الناس زمان فيقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه. ألا وإنّ الرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء وقامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، والله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها. الحكم الثالث: هل يجمع بين الرجم والجلد؟ ذهب أهل الظاهر إلى وجوب (الجلد والرجم) في حق الزاني المحصن وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ. وذهب الجمهور إلى أن حده (الرجم) فقط وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار والرواية الأخرى عن أحمد. أدلة الظاهرية: استدل أهل الظاهر على الجمع بين الجلد والرجم بما يلي: أ - العموم الوارد في الآية الكريمة {الزانية والزاني} فإنّ (أل) للجنس والعموم، فيشمل جميع الزناة وجاءت السنة بزيادة حكم في حق المحصن وهو (الرجم) فيزاد على الجلد. ب - حديث عبادة بن الصامت (الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة) وقد تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 ج - ما روي عن (علي) كرم الله وجهه حين جلد (شراحة) ثم رجمها من قوله: جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أدلة الجمهور: واستدل الجمهور على عدم الجمع بين الجلد والرجم ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي: أولاً: ما روي في «الصحيحين» : أن أعرابياً أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه - نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قل: فقال: إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة، ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني (جلد مائة وتغريب عام) وأن على امرأة هذا الرجم. . فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، الوليدةُ والغنمُ ردٌّ عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» . فغدا عليها فاعترفت فأمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرجمت. قالوا فأمره برجمها ولم يقل له اجلدها ثم ارجمها. ثانياً: واستدلوا بفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد تكرر الرجم في زمانه، فرجم (ماعزاً) و (الغامدية) ورجم أصحابه معه ولم يَروِ أحدٌ أنه جمع بينه وبين الجلد، فقطعنا بأنّ حد المحصن لم يكن إلا (الرجم) لا غير. ثالثاً: واستدلوا بالمعقول أيضاً فقالوا: إن الغرض من الجلد الزجرُ والتأديبُ، فإذا حكمنا عليه بالرجم فلا يبقى ثمة داع إلى الجلد، لأن الجلد يَعرى عن المقصود الذي شرع الحد له وهو الانزجار، لأن هذا الشخص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 سيرجم حتى الموت فلا ينفع الجلد مع وجود الرجم. ومثله إذا وجب الغسل على إنسان يدخل معه الوضوء. وأجابوا عن أدلة الظاهرية بأن حديث (عبادة بن الصامت) منسوخ بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفعله حيث رجم ولم يجلد، فوجب أن يكون الخبر السابق منسوخاً ... وأما استدلالهم بالعموم في الآية الكريمة فغير مسلّم لأن الآية كما يقول الجمهور خاصة ب (البكرين) وليست عامة بدليل خروج العبيد والإماء منها حيث أن حد العبد خمسون جلدة لا مائة جلدة وهذا يدفع العموم. وأجابوا عن فعل علي كرم الله وجهه بشراحة حيث جلدها ثم رجمها بن هذا رأيٌ له لا يقاوم الثابت الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قوله وفعله، وكذلك لا يقاوم إجماع غيره من الصحابة، ويمكن حمله على أنه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد فأخبِرَ أولاً بأنها بكر فجلدها، ثم أُخبِرَ بأنها محصنة أي (متزوجة) فرجمها ويشبه هذا ما رواه جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رجلاً زنى بامرأة، فأمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجلد الحَدّ ثم أُخبر أنه محصن فأمر به فرجم. الترجيح: وبهذا يتبين لنا قوة أدلة الجمهور وضعف أدلة الظاهرية والله أعلم. الحكم الرابع: هل يُنْقى الزاني ويغرّبُ من بلده؟ يرى الإمام (أبو حنيفة) أن حدّ الزاني البكر هو الجلد مائة جلدة أو النفي ليس من الحد في شيء وأنه مفوض إلى رأي الإمام إن شاء غرّب وإن شاء ترك. ويرى الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) أن حده الجلد مائة جلدة وتغريب عام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أدلة الأحناف: أولاً: استدل أبو حنيفة بظاهر الآية الكريمة، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مائة جلدة، فلو كان النفي مشروعاً لكان ذلك نسخاص للكتاب، وخبرُ الآحاد لا يقوى على نسخ الكتاب، ولو كان النفي حداً مع الجلد لبيَّنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للصحابة لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع الحد، ولكان وروده فيوزن ورود نقل الآية وشُهرتها، ولمّا لم يكن ذلك كذلك ثبت أنه ليس بحد، وأن حد الزنى ليس إلا (الجلدُ) . ثانياً: استدل بحديث إذا زنتْ الأمةُ فتبيّن زناها فليجلدها الحدّ ولا يُثرِّبْ عليها، صم غن زنت فلْيَبعها ولو بحبل من شعر فدل الحديث على أن الجلد هو تمام الحد، ولو كان النفي من الحد لذكره. ثالثاً: واستدل أيضاً بما روي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: إذا زنى البكران فإنهما يجلدان ولا ينفيان لأن نفيهما فتنة لهما وقال: «وكفى بالنفي فتنة» . أدلة الجمهور: 1 - واستدل الجمهور بحديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه (البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام، والثيَّبِ جلدُ مائةٍ والرجمُ) . 2 - قصة العسيف الذي زنى بامرأة الأعرابي وقد تقدم وفيه قوله: (إن على ابنك جلد مائة وتغريب عام) والحديث مروي في «الصحيحين» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 3 - قالوا وقد تكرر ذكر النفي في قصة العسيف على أنه من الحد، ولا مانع من الزياة عل حكم الآية بخبر الآحاد، فقد أنزل الله الجلد (قرآناً) وبقي التغريب في البكر (سنة) . هل التغريب يشمل المرأة؟ ثم إن القائلين بالنفي - وهم الجمهور - اختلفوا هل التغريب خاص بالرجل أم يشمل المرأة أيضاً، فذهب مالك والأوزاعي إلى أن النفي خاص بالرجل ولا تُنفى المرأة لقوله عليه السلام: (البكر بالبكر) الحديث. وقال الشافعي وأحمد: إن النفي عام للرجال والنساء فتغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها ودليلهما عموم الأحاديث وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة. قال ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسيره: «إنّ الزاني لا يخلو: إما أن يكون بكراً وهو الذي لم يتزوج، أو محصناً وهو الذي قد وَطِيءَ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل، فأما إذا كان بكراً لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الآية، ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء، خلافاً لأبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرَّب، وإن شاء لم يغرِّب. وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في «الصحيحين» . وذكر قصة العسيف التي مرّ ذكرها «. يقول الشيخ السايس في كتابه» تفسير آيات الأحكام «: » ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بإبقاء الآية على حكمها، وأن الجلد هو تمام الحد، وجعل النفي على وجه التعزير، ويكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رأى في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر، وكسر الأواني، لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الحكم الخامس: ما هو حد الذمي المحصن؟ اختلف العلماء في حد الذمي المحصن فذهب الحنفية إلى أن حدَّه (الجلد) وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن حده الرجم. دليل الأحناف: 1 - حديث ابن عمر (من اشرك بالله فليس بمحصن) قالوا: والمراد به إحصان الرجم، وأما رجم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لليهودِيّيْنِ فإنما كان بحكم التوراة. 2 - قالوا: إن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ ولهذا تُشدّد العقوبة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في حق أمهات المؤمنين {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] . 3 - واستدلوا أيضاً بأن إحصان القذف يعتبر فيه (الإسلام) بالإجماع، فكذلك إحصان الرجم، والجامعُ هو كمال النعمة. دليل الشافعية: 1 - استدلوا بعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين «. 2 - واستدلوا بما ثبت في» الصحيحين «عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» أن اليهود أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نسخِّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إنَّ فيها الرجم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بقارئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح، فقالوا يا محمد: إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرجما ... قال: فلقد رأيته يُحنى على المرأة يقيها الحجارة بنفسه «رواه البخاري ومسلم. وعن البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» مُرّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيهودي محمّم مجلود، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا. . ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكن كثر في أشرافنا وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذْ أماتوه» « فأمر به فرجم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} إلى قوله {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] يقولون: ائتوا محمداً، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ... «فقد رجم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهوديين فإن كان ذلك حكماً بشرعِهِ فالأمرُ ظاهر، وإن كان حكماً بشرع من قبله فقد صار شرعاً له. 3 - وقالوا: إنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزَّاجر فلذا يرجم. 4 - وتأولوا حيدث (من أشرك بالله فليس بمحصن) بأن المراد به ليس على قاذف المشرك عقوبة كما تجب على قاذف المسلم العفيف. 5 - وأجابوا على القياس على حد القذف، بأن حد القذف ثبت لرفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 العار كرامةً للمقذوف، والكافرُ لا يكون محلاً للكرامة ... الترجيح: ولعلَّ ما ذهب إلأيه الشافعية أرجح لقوة أدلتهم حيث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجم الزانيين من اليهود فكان ذلك حجَّةً واضحة. الحكم السادس: من الذي يتولى إقامة الحدود؟ الظاهر من قوله تعالى: {فاجلدوا} أنه خطاب موجه (لأولي الأمر) من الحكام لأن فيه مصلحة للمجتمع وذلك بدرء الفساد، واستصلاح العباد وكلُّ ما كان من قبيل المصلحة العامة، فإنما يكون تنفيذه على الإمام أو من ينيبه من القضاء أو الولاة أو غيرهم. وقد اتفق العلماء على أن الذي يقيم الحدود على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه أما الأرقاء (العبيد) فقد اختلفوا فيهم على مذهبين: أ - مذهب (مالك والشافعي وأحمد) قالوا: يجوز للسيد أن يقيم الحد على بعده وأمته في الزنى والخمر والقذف وأما السرقة فإنه من حقّ الإمام. ب - مذهب (الأحناف) : قالوا: إقامة الحدود كلها من حق الإمام، ولا يملك السيد أن يقيم حدّاً ما إلى بإذن الإمام. تحجة الجمهور: احتج الجمهور بنصوص من السنة النبوية وبآثار عن الصحابة نلخصها فيما يلي: 1 - حديث أبي هريرة (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يُثَرّبْ ثمَّ إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر) . قالوا: فقد أذن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للسيد بإقامة الحد على العبد، ومعنى لا يثرّب: أي لا يجاوز الحدّ في الجلد ولا يبالغ فيه. 2 - حديث علي كرم الله وجهه (أقيموا الحدودَ على ما ملكتْ أيمانُكم مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 أُحْصِن أوْ لم يحْصن) . 3 - ما روي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه أقام حداً على بعض إمائه فجعل يضرب رجليها وساقيها، فقال له ولده (سالم) فأين قول الله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} ؟ فقال يا بنيّ: أتراني أشفقت عليها إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها. قالوا: ولم يكن ابن عمر والياً ولا نائباً عن الوالي فدل على جواز إقامة الحد من جهة السيِّد. حجة الأحناف: 1 - واحتج الأحناف بظاهر الآية الكريمة {الزانية والزاني فاجلدوا} وقالوا: إن الآية عامة في كل زان وزانية وهو خطاب مع الأئمة دون سائر الناس، والآية لم نفرق بين الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون الناس. 2 - وتأولوا الأحاديث التي استدل بها الجمهور بأن المراد بها أن يرفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا عليهم الحد، ولا يسكتوا عنهم فيكون المراد من الحديث الشريف (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) إي بلغوا أمرهم للحكام ولا تخفوا عنهم ذلك ليقيموا عليهم حدود الله. 3 - وقالوا: إن جلد ابن عمر بعض إمائه - إن صح - كان رأياً له لا يعارض العموم في الآية. الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح سيما بعد أن وضَّحته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 السنة النبوية وتعزّز بفعل بعض الصحابة الأخيار، والله أعلم. الحكم السابع: ما هي صفة الجلد وكيفيته؟ استدل العلماء من قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} على أنه لا يجوز تخفيف العقوبة على الزاني بإسقاطها وإنقاص العدد، أو تخفيف الضرب، فإن العقوبة ما شعرت إلا للزجر والتأديب. قال القرطبي: والضرب الذي يجب تنفيذه، هو أن يكون مؤلماً لا يجرح، ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، وقد أتى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه برجل في حد فقال: للضارب اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه، وأتي بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجلا لا تأخذه فيك هوادة، فبعثه إلى (مطيع بن الأسود) فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهو يضربه ضرباً شديداً فقال: قتلتَ الرجل كم ضربته؟ فقال: ستين فقال: اقصَّ عنه بعشرين. يريد بذلك أن يجعل شدة الضرب الذي ضربه قصاصاً بالعشرين التي بقيت ولا يضربه العشرين. فينبغي أن يكون الضرب معتدلاً، لأن الغرض (الإيلام) لا سلخ الجلود وإزهاق الأرواح، وهذا كما مر في حديث ابن عمر حين جلد جاريته، واعترض عليه ولده فقال أين قول الله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} فقال يا بين (ورأيتني أخذتني بها رأفة) إن الله تعالى لم يأمرني أن اقتلها ولا أن أجعل جَلْدها في رأسها وقد أوجعت حيث ضربت. هل الضرب في الحدود على السواء؟ وقد اختلف الفقهاء في الحدود أيها أشد؟ فقال الأحناف: ضربُ الزِّنى أشد من ضرب الخمر، وضربُ الشُرْب أشدُ من ضرب القذف، وأشدُّ الضربِ إنما هو في التعزير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وقال المالكية والشافعية: الضرب في الحدود كلها سواء. ضربٌ غيرُ مبرّح، ضربٌ بين ضربين. وقال الثوري: ضربُ الزنى أشدُّ من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج (أبو حنيفة) بفعل عمر، حيث ضرب في التعزير ضرباً أشد منه في الزنى. واحتج (مالك والشافعي) بأن الحدود موقوفة على الشاعر وليس فيها مجال للاجتهاد، ولم يرد عن المعصوم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيء في التخفيف أو التثقيل فتكون الحدود سواء. واحتج (الثوري) بأن الزنى لمّا كان أكثر في العدد، فلا بد أن يكون الجُرم فيه أعظم، والعقوبة أبلغ، بخلاف القذف والخمر. ومذهب الثوري على ما عرفت قريب من مذهب الأحناف. وقد انتصر (الجصاص) رَحِمَهُ اللَّهُ للمذهب الأول فقال ما نصه: قد دلَّ قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} على شدة ضرب الزاني، وأنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجريد والنعال، وضربُ الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب. وإنما جعلوا ضرب (القاذف) أخف الضرب لأن القاذف جائزٌ أن يكون صادقاً في قذفه وأنّ له شهوداً على ذلك، والشهودُ مندوبون إلى الستر على الزاني وإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب. ومن جهة أخرى: فإنَّ القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وينبغي أن نعلم ان الحدود موقوفة على تقدير الشارع، فلا تجوز الزيادة فهيا ولا النقصان إلا إذا كان على وجه التعزير، فللحاكم أن يشدِّد في العقوبة. قال العلامة القرطبي: نصَّ الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على (ثمانين) جلدة من فعل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في جمعٍ من الصحابة فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله، قال ابن العربي: وهذا لم يتتابع الناس في الشرّ، ولا احلَوْلَت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضَراوة ويعطف الناس عليهم بالهَوادة فلا يتناهوا عن منكرٍ فعلوه فحيئذ تتعين الشدة ويزيد الحد لأجل زيادة الذنب، وقد أتي عمر بسكران في رمضان، فضربه مائةً، (ثمانين) حد الخمر، و (عشرين) لهتك حرمة الشهر، فهكذا يجب أن تتركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات، وقد لعبق رجلٌ بصبيٍّ، فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغيّر ذلك (مالك) رَحِمَهُ اللَّهُ حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات، والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر، وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة لمات كمداً ولم يجالس أحداً وحسبنا الله ونعم الوكيل. الحكم الثامن: ما هي الأعضاء التي تضرب في الحد؟ اتفق العلماء على أن الضرب في الحدود ينبغي أن يتقي به (الوجه، والعورة، والمقاتل) حتى حكى ابن عطية الإجماع على ذلك ولكن اختلفوا فيما عداها من الأعضاء. قال ابن الجوزي في «زاد المسير» : (فأما ما يضرب من الأعضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فنقل عن الإمام أحمد في حد الزاني أنه قال يجرّد من الثياب ويعطي كل عضو حقه، ولا يضرب وجهه ورأسه وروي عنه أيضاً: لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير وهو قول أبي حنيفة وقال مالك: لا يضرب إلا في الظهر. وقال الشافعي: يتقي الفرج والوجه) . قال القرطبي: واختلفوا في ضرب الرأس، فقال الجمهور: يتقي الرأس وقال (أبو يوسف) يضرب الرأس وضرب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (صبيغاً) في رأسه وكان تعزيزاً لا حداً. أما الوجه والعورة فمتفق على حرمة الضرب فيهما لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» . وروي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه أتى برجل سكران أو في حد، فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير ... وإنما يتقي الفرج لأنه مقتل - وجاء في بعض الروايات - أنه قال: (إجْتَنِبْ رأسه ومذكيره وأعطِ كل عضو حقه) . وقد استدل الجمهور على حرمة ضرب الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق، وفيه النص على اجتناب الرأس، وقالوا: إن الرأس بما روي عن علي في الحديث السابق، وفيه النص على اجتناب الرأس، وقالوا: إن الرأس كالوجه سمنع من ضربه وربما أثر الضربُ فيه على السمع والبصر وربما حدث بسبب الضرب خلل في العقل، واستدل الشافعي وأبو يوسف على جواز ضرب الرأس بما روي عن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه أتي برجدل انتفى من ابنه، فقال أبو بكر: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس. وبما روي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه ضرب (صبيغ بن عسيل) على رأسه حين سأل عن (الذاريات ذروا) على وجه التعنت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وأما مالك رَحِمَهُ اللَّهُ فمذهبه أن الحدود كلها يجب أن تكون في الظهر وحجته في ذلك عمل السلف الصالح وقوله عليه السلام: لهلال بن أمية حين قذف امرأته (البينة أو حدّ في ظهرك) . وينبغي أن يجرّد المجلود من الثياب ويضرب قائماً غير ممدود، إلا (حد القذف) فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو، وأما المرأة فتترك عليها ثيابها وتضرب قاعدة ستراً عليها، والدلي ما روي في حديث رجم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لليهوديين، وفيه يقول الراوي (ورأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة) . . وهذا يدل على أن الرجل كان قائماً والمرأة قاعدة والله أعلم. الحكم التاسع: تحريم الشفاعة في الحدود. لا تجوز الشفاعة في الحدود لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضادّ الله عَزَّ وَجَلَّ» ولأن الحدود إنما شرعت للزجر والتأنيب، والشفاعةُ تدفع هذا المعنى ولا تحققه وقد دلت الآية الكريمة على تحريم الشفاعة وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} وقد تأولها السلف على أحد وجهين: 1 - المراد منها تخفيف الحد، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري. 2 - المراد إسقاطُ الحد، وهو قول مجاهد والشعبي. قال ابن العربي: وهو عندي محمول عليهما جميعاً، فلا يجوز أن يحمل أحداً رأفة على زان بأن يُسْقط الحد أو يخفَّفه عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 ولما كانت الشفاعة تحول دون تنفيذ الحد كانت محرمة. ومما يدل على تحريم الشفاعة في (الحدود) ما رواه البخاري عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن قريشاً أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: مَنْ يكلِّم فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فاختطب ثم قال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» . وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبولها فقد روي أن (الزبير بن العوام) لقي رجلاً قد أخذ سارقاً يريد أن يهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال: ل، حتى أبلغ به إلى السلطان فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن تبلغ إلى السلطان فإذا بلغ السلطان لُعِنَ الشافعُ والمشفَّع) رواه البخاري. الحكم العاشر: حضور الحد وشهوده. ظاهر الأمر في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} يقتضي وجوب حضور جمع من المؤمنين عند إقامة الحد والمقصود من حضورهم (حدَّ الزانيين) التنكيلُ، والعبرةُ، والعظة. وقد أختلف العلماء في هذه الطائفة على أقوال: أ - الطائفة: رجل واحد فما فوقه وهو قول مجاهد. ب - الطائفة: اثنان فأكثر وهو قول عكرمة وعطاء وبه أخذ المالكية. ج - الطائفة: ثلاثة فأكثر لأنه أقل الجمع وهو قول الزهري. د - الطائفة: أربعة فأكثر بعدد شهود الزنى وهو قول ابن عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وبه أخذ الشافعية وهو الصحيح. قال الزمخشري في «الكشاف» بعد سرده الأقوال: (والصحيح أن هذه الكبيرة من أمهات الكبائر ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وفي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] ولذلك وفّى الله في عقد المائة بكماله، وشرع فيه القَتْلَة الهُوْلة وهي الرجم ونهى المؤمنين عن الرأفة بالمجلود وأمر بشهادة الطائفة للتشهير فوجب أن يكون طائفة يحصل بها التشهير، والواحد والاثنان ليسوا بتلك المثابة، واختصاصه المؤمنين لأن ذلك أفضح والفاسق بين صلحاء قومه أخجل ويسهد له قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أربعة إلىأربعين رجلاً من المصدِّقين بالله) . الحكم الحادي عشر: ما هو حكم اللواط، والسحاق، وإتيان البهائم؟! جريمة اللواط من أشنع الجرائم وأقبحها، وهي تدل على انحراف في الفطرة، وفساد في العقل، وشذوذ في النفس ومعنى (اللواط) أن ينكح الرجلُ الرجلَ، ويأتيَ الذكرُ الذكرَ، كما قال تعالى عن قوم لوط {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165 - 166] ؟ - وسميت باللواط نسبة إلى قوم (لوط) الذين ظهرت فيهم هذه الفعلة الشنيعة، وقد عاقبهم الله تعالى عليها بأقسى عقوبة، فخسب الأرض بهم، وأمطر عليهم حجار من سجيل جزاء فَعْلتهم القذرة ... وجعل ذلك قرآناً يتلى، ليقي عبرةً للأمم والأجيال {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 82 - 83] . قال الشوكاني رَحِمَهُ اللَّهُ: (وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ويعذب تعذيباً يكسِرُ شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين أن يَصْلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشبهاً لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم واستأصل بذلك العذاب بِكْرَهُم وثيبّهم) . رأي الفقهاء في حكم اللواط: وهذه الجريمة النكراء غاية في القبح والشناعة، تعافها حتى الحيوانات فلا نكاد نجد حيواناً من الذكور ينزو على ذكر، وإنما يظهر هذا الشذوذ بين البشر، ومن أجل ذلك نستطيع أن نقول إنَّ هذا النوع من الشذوذ (لوثة أخلاقية) ، ومرض نفسي خطير وهو انحراف بالفطرة تستوجب أخذ مقترفها بالشدة، وقد اختلف الفقهاء في تقدير العقوبة اللازمة لها على ثلاثة مذاهب: أولاً: مذهب القائلين بالقتل مطلقاً. ثانياً: مذهب القائلين بأن حده كحد الزنى. ثالثاً: مذهب القائلين بالتعزير. المذهب الأول: أما المذهب الأول فهو مذهب (مالك وأحمد) وقول (للشافعي) وقد ذهبوا إلى أنّ حدّه القتل، سواء كان بكراً أم ثيباً، فاعلاً أو مفعولاً به، وهذا القول مروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضوان الله عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 أجمعين وإليه ذهبت طائفة من العلماء، ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أن الحد في اللواط القتل. واستدلوا بما يأتي: أ - حديث (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) . ب - ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه رجم من عمل هذا العمل - أي ارتكب اللواطة - قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم من يعمل هذا العمل محصناً كان أو غير محصن. ج - واستدلوا أيضاً بما روي عن أبي بكر أنه جمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألهم عن رجل يُنْكح كما تنكح النساء فكان أشدهم يومئذ قولاً (علي بن أبي طالب) قال: (هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم، إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار) فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار. كيفية القتل: ثم إن هؤلاء القائلين بالقتل قد اختلفوا في كيفية القتل على أقوال: أحدها: تحزّ رقبته كالمرتد، وهو مروي عن (أبي بكر وعلي) . ثانيها: يرجم بالحجارة، وهو مروي عن ابن عباس وبه قال (مالك وأحمد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ثالثها: يلقى من أعلى شاهق، وهو مشهور مذهب مالك. رابعها: يهدم عليه جدار، وهو مروي عن أبي بكر الصديق. وإنما ذكروا هذه الوجوه لأن الله تعالى عذَّب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [هود: 82] ولك العقاب إنما استحقوه بسبب عظم الجريمة. المذهب الثاني: وذهب (الشافعية) إلى أن اللواط حده كحد الزنى، يجلد البكر، ويرجم المحصن، وهذا المذهب مروي عن بعض التابعين كعطاء، وقتادة والنخعي وسعيد بن المسيب وغيرهم. وقد استدلوا على مذهبهم بالنص، والمعقول، والقياس. أ - أما النص فما روي عن أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان» . فقد دل الحديث على أن حكمه كحكم الزنى. ب - وأما المعقول فقد قالوا: إن الزنى عبارة عن إيلاج فرج في فرج، مشتهى طبعاً محرم شرعاً. والدبر أيضاً فرج لأن القبل إنما سمي فرجاً لما فيه من الانفراج وهذا المعنى حاصل في الدّبر فيكون مثله في الحكم. ج - وأما القياس فقد قالوا: إن الأدلة الواردة في (الزانيْين) وإن لم تشملهما أيضاً لكنهما لاحقان بالزنى بطريق القياس، فقضاءُ الشهوة كما يكون في القبل يكون في الدبر بجامع الاشتهاء فيهما، وهو قبيح فيناسبه الزجر والحد يصلح زاجراً له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 المذهب الثالث: وذهب الأئمة الأحناف إلى أن (اللواط) جريمة عظيمة وشنيعة ولكنه ليس كالزنى، فلا يكون حدُّه حدّ الزنى، وإنما فيه التعزير، واستدلوا بما يأتي: أ - قالوا: الزنى غير اللواط من حيث اللغة فإن الزنى اسم لوطء الرجل المرأة في القبل، واللواطُ: اسم لوطء الرجل الرجل، ألا ترى أن القرآن فرَّق بينهما حيث قال عن قوم لوط {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وقال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165 - 166] فنسبهم إلى الجهل والعدوان ولم ينسبهم إلى الزنى. ب - قالوا والعرف أيضاً يعارض هذا وينقضه فالذي يأتي الفاحشة بالنساء يسمى (زانياً) والذي يأتي الفاحشة بالذكور يسمى (لوطياً) وقد تعارف الناس هذا منذ القديم، ألا ترى لو حلف لا يزني فلاط وبالعكس لم يحنث. ج - وقالوا أيضاً - كيف يكون (اللواط) زنى وقد اختلف الصحابة في حكمه وهم أعلم باللغة وموارد اللسان ولو كان زنى لأغناهم نص الكتاب عن الاختلاف والاجتهاد. د - وقالوا أيضاً: إن قياسه على الزنى ليس بسديد، لأن الزنى يدعو إليه الطبع وتشتهيه النفس، بخلاف اللواط فإنه تأباه الطباع حتى الحيوانات تعافه فكيف يكون مشتهى مع أنه تقذره النفوس ولا تميل إليه الطباع السليمة. ولو سلمنا أن الطبع يدعو إلى اللواط، فإن الزنى أعظم ضرراً وأسوء خطراً لما يترتب عليه من (فساد الأنساب) فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى. هـ - واستدلوا بما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قوله «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 بغير نفس» وقالوا: لقد حظر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عنها لنه لا يسمى زنى ثم لو كان بمنزلة الزنى لفرّق عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حكمه بين المحصن، وغير المحصن: عندما قال: (فاقتلوا الفاعل والمفعول به) فلما لم يفرّق دلّ على أنه لم يوجبه على وجه (الحد) وإنما أوجبه على وجه (التعزير) وللحاكم في باب التعزير سعة في الأمر. هذه هي خلاصة أدلة الأحناف وأدلة الآخرين. وقد رجَّح العلامة الشوكاني المذهب الأول القاضي بالقتل وضعّف ما سواه من مذهب الشافعية والأحناف ولعله في صواب فيما رجح، فإن عظم هذه الجريمة (جريمة اللواط) تستدعي عقاباً شديداً صارماً يستأصل الجريمة من جذورها، ويكسر شهوة الفسقة المتمردين ويقضي على الفساد والمفسدين، وليس هناك من طريق أجدى ولا أنفع من تنفيذ الإعدام حرقاً أو هدماً أو رجماً أو إلقاء من شاهق جبل ليكون عبرة للمعتبرين وفي ذلك تطبيق لهدي النبوة: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . حكم السحاق وإيتان البهائم: وأما السحاق (وهو ما يكون بين المرأة والمرأة) فقد اتفق الفقهاء على أنه ليس فيه إلا (التعزير) وأما إتيان البهائم فالجمهور على أنَّ حده التعزير إلاّ ما ورد في بعض الروايات عن الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ أن عقوبته كاللواط يقتل الفاعل وتقتل الدابة. ولا شك في أن من يأتي مثل هذه القبيحة النكراء يكون أخس من الحيوان ولكن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور والله تعالى أعلم. الحكم الثاني عشر: كيف تثبت جريمة الزنى؟ لما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي (الجلد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 أو الرجم) لذلك فقد شرطت الشريعة الإسلامية شروطاً شديدة من أجل إقامة الحد، فلم تقبل شهادة النساء أبداً، وفرضت أن يكون الشهود من الرجال العدول الذين هم أهل لأداء الشهادة، وأن يكونوا قد رأوا بأم عينهم هذه الفاحشة (كالميل في المكحلة) وهذا بلا شك لا يمكن أن يتحقق بسهولة ولا يتصور إلا إذا كان - والعياذ بالله - يرتكبها الفرد على قارعة الطريق كما يفعل الحيوان. شروط الشهادة في الزنى: وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسد السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلماً أو لأدنى حزازة بعار الدهر وفضيحة الأبد، فاشترط في الشهادة على الزنى الشروط الآتية: أولاً: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] الآية بخلاف سائر الحقوق فإنه يقبل فيها شهادة اثنين فقط. ثانياً: أن يكون الشهود ذكوراً، فلا تقبل شهادة النساء في هذا الباب لقوله تعالى: {أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} [النساء: 15] أي من الرجال وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} [النور: 4] الآية. والمراد بالشهداء الرجال بدليل تأنيث العدد. ثالثاً: أن يكون الشهود من اهل العدالة لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] الآية وقوله {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6] الآية. رابعاً: أن يكون الشهود (مسلمين عاقلين بالغين) وهذه شروط التكليف. خامساً: أن يعاينوا الجريمة برؤية فرجه في فرجها كالميل في المكحلة، والرشاء في البئر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات» فربما كان في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى. سادساً: اتحاد المجلس بأن يشهدوا مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم وهو مذهب الجمهور. هذه هي الشروط التي تشترط لإثبات الزنى، وهي الطريقة الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وهناك طريقة ثانية لإثبات الزنى وهي طريقة (الإقرار) بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف صريحاً بالزنى. والإقرار - كما يقولون - سيّدُ الأدلة {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] وقد أخذ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باعتراف ماعز والغامدية، وأقام عليهما الحد بمجرد الاعتراف ولم يكلفهما البينة، ولكن يطلب التثبت في أمر الإقرار. واعتبر بعض الفقهاء (الحبل) كقرينة على اقتراف فاحشة الزنى. ولم يحصل في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إقامة حد الزنى إلا عن طريق الإقرار وذلك في حادثتين اثنتثن هما: حادثة ماعز، وحادثة الغامدية وإليك بيانهما. 1 - قصة ماعز الأسلمي: وري أن (ماعز بن مالك الأسلمي) كان غلاماً يتيماً في حجر (هزال بن نعيم) فزنى بجارية من الحي فأمره هزال أن يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويخبره بما صنع لعله يستغفر له، فجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله (إني زنيت فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال (إني زنيت) فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتنحّى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال (طهرني يا رسول الله فقد زنيت) فقال له أبو بكر الصديق: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكنه أبى فقال يا رسول الله (زنيت فطهرني) . فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لعلك قبّلتَ أو غمزتَ أو نظرتَ» قال لا، فسأله رسول الله باللفظ الصريح الذي معناه (الجماع) فقال نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال كما يغيب الميل في المكحلة والرشاة في البئر؟ قال: نعم فسأله النبي هل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل أهله حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول: قال إني أريد أن تطهرني فأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ به فرجم، فلما أحسّ مسّ الحجارة صرخ بالناس: يا قوم ردوني إلى رسول الله فإن قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي، ولكن الناس ضربوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 حتى مات فذكروا فراره لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه وسمع الرسول بعض الصحابة يتكلم عنه ويقول: لقد رجم رجم الكلاب فغضب وقال «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» وفي رواية أخرى: «والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» . 2 - قصة الغامدية: وروى مسلم في «صحيحه» أن امرأة تسمى (الغامدية) جاءت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت يا رسول الله (إني زنيت فطهرني) فردها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما كان من الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك تردني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني حبلى، فقال: أما الآن فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فارضعيه حتى تفطيمه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبيّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فنضح الدم على وجه (خالد بن الوليد) فسبها، فسمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِر له، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت» . أقول: إن مثل هذه الحوادث قد وقعت في (عصر النبوة) أفضل العصور وحصلت مع بعض الأفاضل من أصحاب الرسول، وذلك لحكمة سامية حتى يكتمل التشريع ويتم الدين بتنفيذ الحدود من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عصره وزمانه وليظل تشريعاً عاماً خالداً مدى الأزمان وعبر الأجيال، فلو لم تحصل أمثال هذه الحوادث لأصبحت هذه (الحدود الشرعية) التي فرضها الله وأوجبها على عبادة أخباراً تروى، وحكايات تذكر، ولما أمكن أن تنفذ في عصر من العصور بعد، وقد أراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن تبقى شريعة خاتم المرسلين شريعة كاملة خالدة مطبقة في جميع العصور، وقانوناً نافذاً على جميع الأمم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 فحصل ما حصل من وقوع بعض الصحابة في بعض المخالفات - مع أنهم أكمل الناس - ليتم التشريع ويكمل الدين بتنفيذ الرسول الحدود عليهم. فانظر إلى هذه النفوس الكريمة التي لم تتحمل عِظَم هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه (إني زنيت فطهرني) لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فيا لها من نفوس كريمة ربَّاها الإسلام ودرّبها على الطهر والعفة والاستقامة؟ الحكم الثالث عشر: هل يصح الزواج بالزانية؟ اختلف علماء السَّلف في هذه المسألة على قولين: الأول: حرمة الزواج بالزانية، وهو منقول عن علي والبراء وعائشة وابن مسعود. الثاني: جواز الزواج بالزانية وهو منقول عن أبي بكر وعمر وابن عباس وهو مذهب الجمهور. وبه قال الفقهاء الأربعة من الأئمة المجتهدين. دليل القول الأول: وقد استدل القائلون بتحريم الزواج من الزانية بظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ... } الآية فقالوا: إن هذه الآية ظاهرها الخبر وحقيقتها النهي والتحريم بدليل آخر الآية {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} وقد قال (علي) كرَّم الله وجهه: إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته، وكذلك إذا زنت المرأة فُرِّق بينها وبين بعلها. واستدلوا بما ورد أن (مرثد بن أبي مرثد) جاء يستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الزواج من (عناق) وكانت من بغايا الجاهلية، فلم يرد عليه حتى نزلت الآية الكريمة فقال: (يا مرثد لا تنكحها) وقد تقدمت قصته في بيان سبب النزول. أدلة الجمهور: واستدل الجمهور على جواز النكاح بغير العفيفة من النساء بما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 أ - حديث عائشة أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سئل عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال «أولُه سفاح وآخره نكاح، والحرامُ لا يحرِّم الحلال» . ب - ما روي عن ابن عمر أنه قال (بينما أبو بكر الصديق في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثاً من كلام وهو دَهِشٌ فقال لعمر: قم فانظر في شأنه فإنّ له شأناً، فقام إليه عمر فقال: إنّ ضيفاً ضافه فزنى بابنته، فضرب عمر في صدره وقال (قبَّحك الله ألا سترت على ابنتك؟ فأمر بهما أبو بكر فضربا الحد، ثم زوَّج أحدهَما الآخر وغرّبهما حولا) . ج - وروى عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: أوله سفاح وآخره نكاح، ومَثَلُ ذلك كمثل رجل سرق من حائطٍ ثمره، ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرهُ، فما سرق حرام، وما اشترى حلالا. د - وتأولوا الآية الكريمة {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} بأنها محمولةٌ على الأعم والأغلب ومعناها أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والفسق لا يرغب في نكاح المؤمنة الصالحة من النساء إنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصالح المؤمن من الرجال وإنما يرغب فيها الذي هو من جنسها من الفسقة والمشركين فهذا على الأعم الأغلب. وقال بعضهم إن الآية منسوخة نسختها الآية في سورة النور {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] والزانية من الأيامى وسيأتي معنى (الأيامى) مفصلاً إن شاء الله فارجع إليه هناك والله يتولاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ما يرشد إليه الآيات الكريمة أولاً - القرآن دستور الأمة الإسلامية وعلى المسلمين أن يتمسكوا بتعاليمه الرشيدة. ثانياً - التشريع لله وحده الذي شرع الأحكام لمصالح عبادة المؤمنين. ثالثاً - الأحكام الشرعية يجب تنفيذها بدقة، وتطبيقها على الوجه الأكمل. رابعاً - الحدودُ شرعت لحفظ الأعراض، وصيانة الأنساب، والحِفاظ على الكرامة الإنسانية. خامساً - يجب أن تنفَّذ الحدودُ بمشهد من الناس ليرتدع أهل الفسق والفجور. سادساً - استيفاء الحدود من واجب الحاكم المسلم لتطهير المجتمع من أدران الفاحشة. سابعاً - الرجل والمرأة في اقتراف الفاحشة سواء فيجب أن تسوّى بينهما العقوبة. ثامناً - الزنى جريمة دينية، وخلقية، واجتماعية، ولذلك حرَّمه الله تعالى. تاسعاً - لايجوز تعطيل الحدود، ولا الشفاعة فيها لئلا تكثر الجرائم في المجتمع، ويختلَّ الأمن. عاشراً - لا يليق بالمؤمن العفيف أن يتزوج بالفاسقة أو الفاجرة، كما لا يليقُ بالعفيفة أن تتزَّوج بالفاسق أو الفاجر من الرجال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 خاتمة البحث: حكمة التشريع يعتبر الزنى في نظر الإسلام جريمة من أشنع الجرائم، ومنكراً من أخبث المنكرات، ولذلك كانت عقوبته شديدة صارمة، لأن في هذه الجريمة هدراً للكرامة الإنسانية، وتصديعاً لبنيان المجتمع، وفيه أيضاً تعريض النسل للخطر، حيث يكثر (اللقطاء) وأولاد البغاء، ولا يكون هناك من يتعهدهم ويربيهم وينشِّئُهم النشأة الصالحة!! ومن أهداف الشريعة الإسلامية الغراء، وأغراضها الأساسية، حفظُ الضروريات الخمس وهي (العقل - والنسل - والنفس - والدين - والمال) وسميت بالضروريات: أو الكليات الخمس لأن جميع الأديان والشرائع قررت حفظها، وشرعت ما يكفل حمايتها لأنها ضرورية لحياة الإنسان. ولما كان (النسل) هو أحد هذه الضروريات لذلك شرع الإسلام من العقوبات الصارمة الزاجرة ما يقطع دابر هذه الجريمة ويحقق الأمن والاستقرار للمجتمع. ولعل بعض الذين تأثروا بالثقافة الغربية، يرون في هذه الحدود والعقوبات شيئاً من الشدة والقسوة لا تتفق مع روح العصر، وتعارض الحرية الشخصية وخاصة (حرية المرأة) التي أطلقها لها الغرب باسم التحرر والمساواة، وتحت شعار (الديمقراطية) التي قررها لها القانون. والواقع أن العقوبة التي شرعها الإسلام صارمة، ولكنها في الوقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 نفسه عادلة فمن الذي يعاقب بهذا العقاب؟ أليس هو الشخص المستهتر الذي يسعى في طريق شهوته كالحيوان لا يبالي بأي طريق نال الشهوة ولا ما يترتب عليها من أخطار وأضرار؟ إن الذي يرتكب هذه الجريمة لمجرد الاستمتاع والشهوة ليس إنساناً بل هو حيوان، وذلك لأن الحيوان تسيطر عليه شهوته فهو يسير تبعاً لها، والإنسانُ يحكمه عقله ولهذا يسير مع منطق العقل، وليست هذه الغريزة التي أودعها الله في الإنسان لمجرد نيل الشهوة أو قضاء الوطر، بل هي من أجل غاية نبيلة سامية هي (بقاء النسل) . والله - جل وعلا - بحكمته العلية، جعل هذا الارتباط بين الذكر والأنثى، ولكنه لم يسمح به بطريق الفوضى كما تفعل الحيوانات، حيث ينزو بعضها على بعض، وإنما سمح به في دائرة (الطهر والعفة) وبطريق الزواج الشرعي، الذي يحقِّق الهدف النبيل والغاية الإنسانية المُثْلى في بقاء النوع الإنساني كما قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] . والإسلام يعتبر الزنى لوثه أخلاقية وجريمة اجتماعية خطيرة، ينبغي أن تكافح بدون هوادة، ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة (الجلد أو الرجم) لمجرد التهمة أو الظن بل على العكس يودب التحقق والتثبت، ويدرأ الحد بالشبهات ويشرط شروطاً شديدة تكاد لا تتوفر هي شهادة (أربعة رجال) مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافاً صريحاً لا شبهة فيه من الشخص الذي قارف الجريمة. والغربيون لا يعتبرون الزنى جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا كان بالإكراه أو كان اعتداء على حرية الغير، أما إذا كان بالرضى فليس فيه ما يدعو إلى العقوبة لأنه يخلو حينئذ عن فكرة (العدوان) . فالزنى - في نظرهم - وإن كان عيباً إلا أنه ليس بجريمة على كل حال، فإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 زنى الرجل البكر بامرأة بكر فإن فعلهما ليس بفاحشة مستلزمة للعقوبة إلا إذا كان ذلك بالإكراه فإنه يعاقب للإكراه بعقوبة خفيفة، وأما إذا زنى بامرأة متزوجة فللزوج أن يطالبه بتعويضٍ (غرامة مالية) من الرجل الذي أفسد زوجته فنظرتهم إذن هي نظرة مادية، ومن أجل ذلك تهدَّم المجتمع وتخربت الأسر، وانتشرت تلك الأوباء والجرائم الخلقية فيهم. فأين هذا من تشريع العليم الحكيم الذي صان الأعراض، وحفظ الأنساب، وطهَّر المجتمع من لوثه تلك الجريمة الشنيعة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 [2] قذف المحصنات من الكبائر التحليل اللفظي {يَرْمُونَ} : أي يقذفون بالزنى، وأصل الرمي القذف بالحجارة أو بشيء صلب، ثم استعير للقذف باللسان، لأنه يشبه الأذى الحسي كما قال النابغة: (وجرحُ اللسان كجرح اليد) وقال الشاعر: رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطَوّي رماني أي اتهمني بشيء أنا منه برئ. {المحصنات} : العفيفات جمع محصنة بمعنى العفيفة قال تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] أي عفّت، وأصل الإحصان المنع ومنه يسمى (الحصن) قال في «لسان العرب» : يقال امرأة حَصَان وحَاصِن وكلّ امرأة عفيفة مُحصَنَة ومُحْصنة (بالفتح والكسر) وكل امرأة متزوجة مَحصَنة (بالفتح) لا غير، وفي شعر حسان يثني على عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: حَصَان رزان ما تُزَنّ بريبة ... وتصبح غَرْثى من لحوم الغوافل والمرأة تكون محصنة بالإسلام، والعفاف، والحرية، والتزوج كما سيأتي إن شاء الله تعالى. {شُهَدَآءَ} : جمع شاهد، أي يشهدون عليهن بوقوع الزنى، والمراد بالشهداء الرجال لأن الآية ذكرت العدد مؤنثاً (بأربعة) ومن المعلوم أن العدد يؤنث إذا كان المعدود مذكراً، ويُذكَّر إذا كان المعدود مؤنثاً فتقول (أربع نسوة، وأربعة رجال) فلا تقبل شهادة النساء في حد القذف كما لا تقبل في حد الزنى ستراً على العباد. {فاجلدوهم} : قال القرطبي: الجلد الضرب، والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره، ومه قول (قيس بن الخطيم) : أجالدهم يومَ الحديقة حاسراً ... كأنَّ يدي بالسيف محْرَاق لاعب وقد تقدم معنى الجلد في آيات الزنى مفصلاً فارجع إليه. {الفاسقون} جمع فاسق وهو العاصي، والفسقُ الخروجُ عن الطاعة، ومجاوزة الحد في ارتكاب المعاصي قال تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وكل خارج عن طاعة الله يسمى فاسقاً، وكل منكر أو مكذب لآيات الله يسمى كافراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 المعنى الإجمالي يخبر الله جل ثناؤه بأن الذين ينتهكون حرمات المؤمنين، فيرمون العفائف الشريفات الطاهرات بالفاحشة، ويتهمونهن بأقدس وأثمن شيء لدى الإنسان ألا وهو (العرض والشرف) فينسُبونهن إلى الزنى، ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهداء عدول، يشهدون عليهن بما نسبوا إليهن من الفاحشة فاجلدوا الذين رموهن بذلك (ثمانين) جلدة، لأنهم فسقة كذبة يتهمون الأبرياء ويحبون إشاعة الفاحشة، وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإنسانية، فلا تقبلوا شهادة أي واحد منهم ما دام مصراً على بهتانه وأولئك عند الله من أسوأ الناس منزلة وأشدهم عذاباً، لأنهم فساق خارجون عن طاعة الله عزّ وجلّ، لا يحفظون كرامة مؤمن، ويقعون في أعراض الناس شأن أهل الضلال والنفاق، الذين يسعون لتهديم المجتمع الإسلامي وتقويض بينانه، وأما إذا تابوا وأنابوا وغيّروا سيرتهم وأصلحوا أحوالهم، ورجعوا عن سلوك طريق الغي والضلال فاعفوا عنهم واصفحوا، واقبلوا اعتذارهم، وردوا إليهم اعتبارهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب وأصلح حاله. سبب النزول يرى بعض المفسرين أن هذه الآيات نزلت بسبب (حادثة الإفك) التي اتهمت فيها أم المؤمنين العفيفة البريئة الطاهرة الصدِّيقة (عائشة بنت أبي بكر الصديق) رَضِيَ اللَّهُ عَنْها زوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتي نزلت براءتها من السماء فكان ذلك درساً بليغاً للأمة، وعبرة للأجيال في جميع العصور والأزمان. قال ابن جرير الطبري رَحِمَهُ اللَّهُ: وذُكِر أن هذه الآية نزلت في الذين رموا عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما رموها به من الإفك: ثم روى عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 سعيد بن جبير أنه سئل (هل الزنى أشد أو قذف المحصنة) ؟ قال: لا بل الزنى، قلت: إن الله يقول: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} قال: إنما هذا في حديث عائشة خاصة. والصحيح ما ذكره القرطبي واختاره الطبري أن هذه الآية نزلت بسبب القذفة عامة لا في تلك النازلة بعينها فهي حكم من الله عام لكل قاذف، ومن المعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {يَرْمُونَ المحصنات} أجمع العلماء أن المراد به (الرمي بالزنى) واستدلوا على ذلك بوجوه: أحدها: تقدم ذكر الزنى في الآيات السابقة. ثانيها: أنه تعالى ذكر (المحصنات) وهن العفائف فدل على أن المراد رميها بضد العفاف وهو الزنى. ثالثها: انعقاد الإجماع على أنه لا يجب (الجلد) بالرمي بغير الزنى. رابعها: قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} ومعلوم أن هذا العدد غير مشروط إلا في الزنى. أفاده الفخر الرازي. اللطيفة الثانية: تخصيص النساء في قوله {المحصنات} لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع، وفيه إيذاء لهن ولأقربائهن، وإلا فلا فرق بين الذكر والأنثى في الحكم، وقيل في الآية حذف تقديره (الأنفس المحصنات) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فيكون اللفظ شاملاً للنساء والرجال وقد حُكي هذا عن ابن حزم، والراجح أنه من باب التغليب. اللطيفة الثالثة: في التعبير بالإحصان إشارة دقيقة إلى أن من قذف غير العفيف (من الرجال أو النساء) لا يحد حد القذف، وذلك فيما إذا كان الشخص معروفاً فجوره، أو اشتهر بالعبث والمجون، فإن حد القذف إنما شرع لحفظ كرامة الإنسان الفاضل، ولا كرامة للفاسق الماجن، فتدبر السر الدقيق. اللطيفة الرابعة: حكم الله تعالى على قاذف المحصنة (العفيفة) بثلاث عقوبات. 1 - الجلد ثمانين جلدة عقوبة له. 2 - إهدار الكرامة الإنسانية برد الشهادة. 3 - تفسيق القاذف بجعله في زمرة (الفسقة) . ولم يحكم في الزنى إلا بالجلد مائة جلدة للبكر، وفي ذلك دليل على خطورة هذه التهمة، وعلى أن القذف من الكبائر، وأن جريمته عند الله عظيمة. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى {وَأَصْلَحُواْ} وفيه دليل على أن التوبة وحدها لا تكفي، بل لا بد من ظهور أمارات الصلاح عليه، فإن هذا الذنب مما يتعلق بحقوق العباد ولذلك شدد فيه. قال الرازي: قال أصحابنا إنه بعد التوبة لا بد من مضيِّ مدة عليه لظهور حسن الحال حتى تقبل شهادته وتعود ولايته، ثم قدَّروا تلك المدة بسنة كما يضرب للعنيّن أجل سنة. اللطيفة السادسة: قال ابن تيمية: ذكَرَ تعالى عدد الشهداء، وأطلق صفتهم، ولم يقيدهم (ممن نرضى) ولا (من ذوي العدل) لكن يقال: لم يقيدهم بالعدالة وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضى لقوله {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} [الأنعام: 152] وقوله: {كُونُواْ قوامين بالقسط} [النساء: 135] وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} [المعارج: 33] فهم يقومون بها بالقسط لله فيشترط هنا ما اشتُرط هناك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي الإحصان؟ ورد معنى (الإحصان) في الشريعة الإسلامية لأربعة أمور وهي: أ - العفة: قال تعالى: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] بمعنى العفيفات من المؤمنات والعفيفات من الكتابيات. ب - الحرية: قال تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] أي أن عقوبة الأمة المملوكة نصف عقوبة الحرة. ج - التزوج: قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم ... } إلى قوله {والمحصنات مِنَ النسآء} [النساء: 23 - 24] أي المتزوجات من النساء. د - الإسلام: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من أشرك بالله فليس بمحصن» فالإنسان يكون محصناً بالعفاف وبالحرية وبالإسلام وبالتزوج وأشهر معاني إطلاق لفظ الإحصان (العفة) وهو المراد بالآية الكريمة فمن قذف شخصاً غير عفيف لا يحد باتفاق الفقهاء. الحكم الثاني: ما هي شروط القذف؟ للقذف شروط لا بد من توفرها حتى يكون جريمة تستحق عقوبة الجلد، وهذه الشروط عديدة. . منها ما يجب توفره في (القاذف) ومنها ما يجب توفره في (المقذوف) ومنها ما يجب توفره في الشيء (المقذوف به) . أما شروط القاذف فهي ثلاثة (1 - العقل، 2 - البلوغ، 3 - الاختيار) فإن هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 أصل التكليف، ولا تكليف بدون هذه الأشياء والآية الكريمة وإن لم تشرط إلا عجز القاذف عن الإيتان بأربعة شهداء {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} ولم تشرط العقل والبلوغ وعدم الإكراه، إلا أن ذلك من قواعد الشريعة التي عُلِمت من النصوص الأخرى فإذا قذف المجنون او الصبي أو المكره، فلا حد على واحد منهم لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رُفعَ عن أمتي الخطأُ والنسيانُ، وما استكرهوا عليه» أي ما أكرهوا عليه من الأقوال والأعمال. ولأن العقل مدار التكليف، والمجنونُ لا يعتد بكلامه فلا يؤثر قذفه ... أما إذا كان الصبي مراهقاً بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزَّر تعزيراً مناسباً لكن لا يحد حد القذف. لأن من شروط حد القذف البلوغ. الحكم الثالث: ما هي الشروط اللازم توفرها في المقذوف؟ ظاهر الآية الكريمة {والذين يَرْمُونَ المحصنات} يتناول جميع العفائف سواء أكانت مسلمة أو كافرة، حرة أو رقيقة إلاَّ أن الفقهاء شرطوا في المقذوف خمسة شروط وهي: (1 - الإسلام، 2 - العقل 3 - البلوغ 4 - الحرية 5 - العفة عن الزنى) وهذه الشروط يجب أن تتوفر في المقذوف حتىيقام الحد على القاذف وسنفصلها بعض التفصيل: أولاً: أما الإسلام: فهو شرط لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أشرك بالله فليس بمحصن» وقد تقدم الحديث ومعناه على رأي جمهور العلماء: من أشرك بالله فلا حد على قاذفه، لأن غير المسلم (المشرك) لا يتورع عن الزنى فليس هناك ما يردعه عن ارتكاب الفاحشة إذ أنه ليس بعد الكفر ذنب، وكل جريمة تتصور من الكافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 قال ابن العربي: ولأن عِرض الكافر لا حرمة له، كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه، بل هو أولى لزيادة الكفر على المعلن بالفسق. ثانياً: وأما العقل: فلأنَّ الحد إنما شرع للزجر عن الأذية بالضرر الواقع على المقذوف، ولا مضرة على من فقد العقل، فلا يحد قاذفه. ثالثاً: وأما البلوغ: فالأصل فيه أن الطفل لا يتصور منه الزنى كما لا يتصور النظر من الأعمى، فلا يحد قاذف الصغير أو الصغيرة عند الجمهور. وقال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفاً: وقال أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ: في الصبيَّة بنت تسع يحد قاذفها. قال ابن العربي: والمسألة محتملة مشكلة، لكن مالك غلْب عرض المقذوف، وغيره راعي حماية ظهر القاذف، وحمايةُ عرض المقذوف أولى لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد. وصحح ابن المنذر الرأي الأول فقال: لا يحد من قذف من لم يبلغ، لأن ذلك كذب ويعزر على الأذى. رابعاً: وأما الحرية: فالجمهور على اشتراطها، لأن مرتبة العبد تختلف عن مرتبة الحر، فقذف العبد - وإنْ كان حراماً - إلا أنه لا يحد القاذف وإنما يعزر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من قذف مملوكة بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال» ولأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعبير بالزنى. قال العلماء: (وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك، واستواء الشريف والوضيع، والحر والعبد، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 تكافأ الناس، وإنما لم يتكافئوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين، وتفسد العلاقة بين السادة والعبيد، فلا تصل لهم حرمة، ولا فضلٌ في منزلة وتبطل فائدة التسخير، حكمة من الحكيم العليم لا إله إلا هو) . وأما ابن حزم فقد خالف جمهور الفقهاء، فرأى أن قذف العبد يوجب الحد، وأنه لا فرق بين الحر والعبد في هذه الناحية وقال: «وأما قولهم لا حرمة للعبد، ولا للأَمَةِ، فكلام سخيف، والمؤمن له حرمة عظيمة، وربَّ عبد جلفٍ خيرٌ من خليفة قرشي عند الله تعالى» أقول: رأيُ ابن حزم هذا رأي وجيه لو لم يصادم النص المتقدم الذي استدل به الجمهور والأحكامُ لا تؤخذ بالآراء، وإنما بما ثبت عن المعصوم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قوله وفعله. . . والحديث ثابت في الصحيحين «فلا عبرة بخلافه. خامساً: وأما العفة: فهي شرط عند جميع الفقهاء لم يخالف في ذلك أحد وإنما اعتبرناها للنص القرآني الكريم (يرمون المحصنات) فشرطت الآية أن يكون المقذوف (محصناً) أي عفيفاً، إذ غير العفيف قد يتباهى بالفسق والفجور، ويعتبر ذلك (تقدمية) والتمسك بالفضيلة والدين (رجعية) كما نسمع في زماننا هذا عن بعض الفاسقين الخارجين على الدين والأخلاق والآداب. ولأن الحد مشروع لتكذيب القاذف فإذا كان المقذوف زانياً فعلاً فالقاذف صادق في قذفه، وإذا كان المقذوف مشهوراً بالمجون والدعارة فقد أوجد شبهة لقاذفه (والحدودُ تدرأ بالشبهات) فلا يحد القاذف. ولو زنى شاب في عنفوان شبابه، ثم تاب وحسن حاله ثم شاخ في الصلاح لا يحد قاذفه، لأن القاذف لم يكذب، وإنما يعزّر لأنه أشاع ما يجب ستره وإخفاؤه فكذلك لو قذف شخصاً مشهوراً بالفسق والفجور. ولكن ليس معنى عدم إقامة الحد في هذه الصور الخمس أن قاذف (المجنون أو الصبي أو الكافر أو العبد أو غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 العفيف) لا يستحق عقوبة بل إنه يستحق التعزير ويبلغ به غايته لأنه أشاع الفاحشة، وقد حذّر الله تعالى منها بقوله: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} [النور: 19] الآية. الحكم الرابع: ما هي ألفاظ القذف الموجبة للحد؟ تنقسم ألفاظ القذف إلى ثلاثة أقسام: (صريح، وكناية، وتعريض) : أما الصريح: فهو أن يصرح القاذف في كلامه بلفظ الزنى مثل قوله: (يا زاني، أو يا زانية، أو يا ابن الزنى) أو ينفي نسبه عنه كقوله: لست ابن أبيك فهذا النوع قد اتفق العلماء على أنه يجب فيه الحد. أما الكناية: فمثل أن يقول: (يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة) أو هي لا تردُّ يدَ لامس، فهذه لا تكون قذفاً إلا أن يريده، وتحتاج إلى توضيح وبيان. أما التعريض: فمثل أن يقول: (لست بزانٍ. . وليست هي بزانية) ، وقد اختلف العلماء في التعريض هل هو من القذف الموجب للحد أم لا؟ فذهب (مالك) رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أنه قذف، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفاً إلا إذا قال أردت به القذف. دليل مالك: استدل مالك بما روي عن عمرة بنت عبد الرحمن: أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر: واللَّهِ ما أبي بزان، ولا أمي بزانية، فاستشار عمر في ذلك فقال قائل: مدح أباه وأمه وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد، فجلده ثمانين. وقد حبس عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الحطيئة لما قال: دع المكارمَ لا تَرْحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنتَ الطّاعمُ الكاسي لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 قال القرطبي: والدليل لما قاله (مالك) هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرّة التي أوقعها القاذف بالمقذوف فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفاً وقد قال تعالى حكاية عن مريم {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28] فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء. وعرّضوا لمريم بذلك ولذلك قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء: 156] وكفرُهم معروف، والبهتانُ العظيم هو التعريض لها أي ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا، أي وأنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد. دليل الشافعية والأحناف: استدل الشافعي وأبو حنيفة بأن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره، والاحتمال شبهة والحدود تدرأ بالشبهات كما ورد في الحديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) . وقالوا: إن الله عَزَّ وَجَلَّ قد فرّق بين (التصريح) و (التعريض) في عدة المتوفى عنها زوجها، فحرم التصريح بالخطبة، وأباح التعريض بقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} [البقرة: 235] الآية. فدل على أنهما ليسا في الحكم سواء ... وروي عن الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ روايتان: إحادهما أن التعريض ليس بقذف ولا حد فيه. والثانية: أنه قذف في حال الغضب دون حال الرضا. ومما يدل على ما ذهب إليه (الشافعية والأحناف) ما روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها قال حمر، قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم، قال: فكيف ذاك؟ قال لعله نزعه عرق؟ قال: فلعل هذا نزعه عرق فلم يعتبر هذا قذفاً مع أنه تعريض بزنى الزوجة. الحكم الخامس: ما هو حكم قاذف الجماعة؟ اختلف الفقهاء في حكم من قذف جماعة على ثلاثة مذاهب: أ - المذهب الأول: مذهب القائلين بأن يحد حداً واحداً وهم الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) . ب - المذهب الثاني: مذهب القائلين بأن عليه لكل واحد حداً وهم (الشافعي والليث) . ج - المذهب الثالث: مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم: يا زناة أو يقول لكل واحد يا زاني. ففي الصورة الأولى يحد حداً واحداً، وفي الثانية عليه لك واحد منهم حد، وهو مذهب (ابن أبي ليلى، والشعبي) . دليل الجمهور: احتج أبو بكر الرازي على قول الجمهور بالكتاب والسنة، والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} والمعنى أن كل من رمى المحصنات وجب عليه الجلد وذلك يقتضي أن قاذف الجماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية. وأما السنة: فما روي عن ابن عباس أن (هلال بن أمية) قذف امرأته عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشريك بن سحماء فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البينة أو حد في ظهرك» فلم يوجب النبي على هلال إلا حداً مع أنه قذف زوجته وقذف معها (شريك ين سحماء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وأما القياس: فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا تكرر منه مراراً لم يجب إلا حد واحد، كمن سرق مراراً، أو شرب الخمر مراراً، لم يحد إلا حداً واحداً فكذا هاهنا. أدلة الشافعية: وأجاب الشافعية عن الأول بان قوله (والذين) صيغة جمع، وإذا قوبل الجمع بالجمع اقتضى القسمة على الآحاد، فيصير المعنى: كل من رمى محصناً واحداً وجب عليه الحد. وأجابوا عن الثاني بأنه قذفهما بلفظ واحد وقد قال الشافعي - في القديم - لا يجب إلا حدٌ واحدٌ اعتبارا ً باللفظ. وأجابوا عن القياس بأنه قياس مع الفارق فإن حد القذف حق الآدمي، بخلاف حد الزنى والشرب فإنه حق الله تعالى وحقوق الآدمي لا تتداخل. الترجيح: والصحيح الراجح هنا هو رأي الجمهور لقوة أدلتهم لأنه لو قذف قبيلة فأقمنا عليه لكل واحدٍ حداً هلك، والله أعلم. الحكم السادس: هل تشترط في الشهود العدالة؟ لم تذكر الآية الكريمة في صفة الشهداء أكثر من أنهم (أربعة) رجال من أهل الشهادة وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هم؟ فالشافعية يقولون: لا بد للشاهد أن يكون عدلاً، والحنفية يقولون: الفاسق من أهل الشهادة وعلى هذا تظهر ثمرة الخلاف؛ فإذا شهد أربعة فساق على المقذوف بالزنى فهم قذفةٌ عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول، والحنفية يقولون: لا حد على القاذف لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة، إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في (الفاسق) فثبت بشهادتهم شبهة الزنى فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه، فكذلك وجب اعتبارها في نفي الحد عنه وعن الشهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وجه قول الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: أنهم غير موصوفين بالشرائط في قبول الشهادة فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين وبقوا محض قاذفين فيحدون حد القذف. وقد ارجح ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ رأي الأحناف ودفع الحد عن الشهود. لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، كما وضَّحت ذلك السنَّة المطهرة. الحكم السابع: هل يشترط في الشهود أداؤهم للشهادة مجتمعين؟ ظاهر الآية الكريمة أنه لا فرق بين أن يؤدي الشهود شهادتهم مجتمعين أو متفرقين، وهذا مذهب (مالك والشافعي) رحمهما الله أخذاً بظاهر الآية. وقال أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا جاءوا متفرقين فعليهم حد القذف، ولا يسقط الحد عن القاذف. حجة مالك والشافعي: أن الآية لم تشترط إلا أن يكونوا أربعة، ولم تَشْرط أداؤهم للشهادة مجتمعين، فيكفي في الشهادة كيفما اتفق مجتمعين، أو متفرقين، بل إن شهادتهم متفرقين أبعدُ عن التهمة، وعلى القاضي أن يفرقهم إذا ارتاب من أمرهم ليظهر له وجه الحق في أدائهم للشهادة هل هم صادقون أم كاذبون؟ حجة أبي حنيفة: أما حجة أبي حنيفة فهي أن الشاهد الواحد لما شهد بمفرده صار قاذفاً فيجب عليه الحد وكذلك الثاني والثالث، ولا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الإجتماع. . واستدل بحادثة (المغيرة بن شعبة) لما شهد عليه أربعة وخالف أحدهم في الشهادة جلدهم عمر وستأتي قصتهم قريباً إن شاء الله تعالى. الحكم الثامن: هل عقوبة العبد مثل عقوبة الحر؟ اتفق الفقهاء على أن العبد إذا قذف الحر المحصن وجب عليه الحد، ولكن هل حده مثل حد الحر، أو على النصف منه؟ لم يثبت حكم ذلك في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 السنة المطهرة ولهذا اختلف الفقهاء فيه فالجمهور (وهو مذهب الأئمة الأربعة) على أن العبد إذا ثبت عليه القذف، فعقوبته (40) أربعون جلدة، لأنه حد يتنصف بالرق مثل حد الزنى، واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وذهب الأوزاعي وابن حزم وهو مذهب الشيعة إلى أنه يجلد (80) ثمانين جلدة، لأنه حد وجب صيانة لحق الآدميين إذ أن الجناية وقعت على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. ومن أدلة الجمهور ما روي عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال «أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بَعدهَم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين جلدة» . . وعن علي كرم الله وجهه أنه قال (يجلد العبد في القذف أربعين) . قال ابن المنذر: والذي عليه الأمصار القول الأول (أي قول الجمهور) وبه أقول. وردّ الجمهور بأن آية القذف خاصة بالأحرار، فالحر إذا قذف محصناً حد ثمانين جلدة، وأما العبد فحده أربعون، فقاسوا القذف على حد الزنى، والله تعالى أعلم. الحكم التاسع: هل الحد حق من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟ ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الحد حق من حقوق (الله) ويترتب على كونه حقاً من حقوق الله تعالى ما يلي: أ - أنه إذا بلغ الحاكم وجب عليه إقامة الحد وإن لم يطلب المقذوف. ب - لا يسقط بعفو المقذوف عن القاذف، وتنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى. ج - يتنصف فيه الحد بالرق مثل الزنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وذهب (الشافعي ومالك) إلى أنه حق من حقوق (الآدميين) ويترتب عليه ما يلي: أ - أن الإمام لا يقيمه إلا بطلب المقذوف. ب - يسقط بعفو المقذوف عن القاذف. ج - إذا مات المقذوف قبل إقامة الحد فإنه يورث عنه، ويسقط بعفو الوارث. ويرى بعض الفقهاء أن (حد القذف) فيه شائبة من حق الله. وشائبة من حق العبد، ومما لا شك فيه أن في القذف تعديّا على حقوق الله تعالى، وانتهاكاً لحرمة المقذوف، فكان في شرع الحد صيانةً لحق الله، ولحق العبد فيكون الحد مزيجاً منهما ... ولعلَّ هذا الأرجح والله تعالى أعلم. الحكم العاشر: هل تقبل شهادة القاذف إذا تاب؟ حكم القرآن على القاذف بثلاثة أحكام: الأول: أن يجلد ثمانين جلدة. والثاني: أن لا تقبل له شهادة أبداً. والثالث: وصفة بالفسق والخروج عن طاعة الله تعالى. ثم عقّب الباري جل وعلا بعد هذه الأحكام الثلاثة بما يدل على (الاستثناء) فقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قد اختلف الفقهاء في هذا (الاستثناء) هل يعود إلى الجملة الأخيرة فيرفع عنه وصف الفسق ويظل مردود الشهادة؟ أم أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة؟ على مذهبين: أ - مذهب أبي حنيفة: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة {وأولئك هُمُ الفاسقون} فيرفع عنه وصف الفسق إذا تاب ولكن لا تقبل شهادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ولو أصبح أصلح الصالحين، وهذا المذهب مروي عن (الحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير) وغيرهم من فقهاء التابعين. ب - مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) أن الاستثناء راجع إلى الجملتين الأخيرتين {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون} فإذا تاب قبلت شهادته ورفع عنه وصف الفسق وهذا المذهب مروي عن (عطاء وطاووس ومجاهد والشعبي وعكرمة) وغيرهم من علماء التابعين وهو الذي اختاره ابن جرير الطبري رحمهم الله أجمعين. وهذا الاختلاف بين الفقهاء مردّه إلى قاعدة أصولية: وهي: (هل الاستثناء الوارد بعد الجمل المتعاطفة بالواو يرجع إلى الكل أو إلى الأخير) ؟ فالشافعية والمالكية يرجعونه إلى الجميع، والأحناف يرجعونه إلى الأخير فقط والمسألة تطلب من كتب الأصول وليس هذا محل تفصيلها. أدلة الأحناف: استدل الأحناف على عدم قبول شهادة القاذف مطلقاً بما يلي: أولاً: إن الاستثناء لو رجع إلى جميع الجمل المتقدمة لوجب أن يسقط عنه (الحد) وهو الجلد (ثمانين جلدة) ، وهذا باطل بالإجماع، فتعَيّن أن يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط. ثانياً: إن الله تعالى قد حكم بعدم قبول شهادته على التأبيد {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} فلفظ (الأبد) يدل على الدوام والاستمرار حتى ولو تاب وأناب وأصبح من الصالحين، وقبول شهادته يناقض هذه الأبدية التي حكم بها القرآن. ثالثاً: ما ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلاّ محدوداً في قذف» فإنه يدلّ على أن القاذف لا تقبل شهادته إذا حُدّ في القذف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 أدلة الجمهور: وأما الجمهور فقد استدلوا على قبول شهادته بما يلي: أولاً: قالوا: إنّ التوبة تمحو الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فوجب أن يكون القاذف بعد التوبة مقبول الشهادة. ثانياً: إنّ الكفر أعظم جرماً من القذف، والكافر إذا تاب تقبل شهادته فكيف لا تقبل شهادة المسلم إذا قذف ثم تاب؟ وقد قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: عجباً يقبل الله من القاذف توبته وتردُّون شهادته. ثالثاً: ما روي في حادثة (المغيرة بن شعبة) أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ضرب الحد الذين شهدوا على المغيرة وهم (أبو بكر، ونافع، ونفيع) حين قذفوه ثم قال لهم من أكذب نفسه قبلتُ شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب (نافع ونفيع) أنفسهما وكان عمر يقبل شهادتهما، وأما (أبو بكرة) فكان لا يقبل شهادته ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. رابعاً: وقالوا: إن الاستثناء في الآية الكريمة كان ينبغي أن يرجع إلى الكل ولكن لما كان (الجلد ثمانين) من أجل حق المقذوف وكان هذا الحق من حقوق العباد لم يسقط بالتوبة، فبقي رد الشهادة والحكم بالفسق وهما من حق الله فيسقطان بالتوبة. يقول العلامة المودودي في «تفسير سورة النور» بعد أن ساق أدلة الفريقين: فرأيُ الطائفة الأولى هو الأرجح عندي في هذه القضية فإن حقيقة توبة المرء لا يعلمها إلا الله. ومن تاب عندنا فإن غاية ما لنا أن نجامله به هو أن لا نسميه (الفاسق) ولا نذكره بالفسق وليس من الصحيح أن نبالغ في مجاملته، حتى نعود إلى الثقة بقوله لمجرد أنه قد تاب عندنا في ظاهر الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وزد على ذلك أن أسلوب عبارة القرآن بنفسه يدل دلالة واضحة على أن العفو المذكور في جملة {إِلاَّ الذين تَابُواْ ... وَأَصْلَحُواْ} إنما يرجع إلى جملة {وأولئك هُمُ الفاسقون} لأن جلد القاذف ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته جاء ذكرهما في العبارة بصيغة الأمر {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} وجاء الحكم عليه بالفسق بصيغة الخبر {وأولئك هُمُ الفاسقون} فإذا جاء قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بعد هذا الحكم الثالث مقترناً به فهو يدل بنفسه على أن هذا الاستثناء إنما يرجع إلى الجملة الخبرية الأخيرة ولا يرجع إلى جملتي الأمر الأوليين. . وليست التوبة عبارة عن تلفظ الإنسان بها باللسان بل هي عبارة عن شعوره بالندامة واعتزامه على إصلاح نفسه، ورجوعه إلى الخير، وكلّ ذلك مما لا يعلم حقيقة إلا الله، ولأجل هذا فإنه لا تغتفر بالتوبة (العقوبة الدنيوية) وإنما تغتفر بها (العقوبة الأخروية) فحسبُ ... ومن ثمة فإن الله تعالى لم يقل: إلا الذين تابوا وأصلحوا فاتركوهم أو خلوا سبيلهم أو لا تعذبهم بل قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنه لو كانت العقوبات الدنيوية أيضاً تغتفر بالتوبة فمن ذا الذي ترونه من الجناة لا يتوب اتقاء لعقوبته. مذهب الشعبي والضحاك: وهناك مذهب وسط بين المذهبين هو مذهب (الشعبي والضحاك) فقد قالا: لا تقبل شهادة القاذف وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف فحينئذ تقبل شهادته، قال شهيد الإسلام (سيد قطب) عليه الرحمة والرضوان: وأنا اختار هذا المذهب الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعترافٍ مباشر من القاذف وبذلك يُمْحَى آخرُ أثرٍ للقذف. أقول: وهذا المذهب الذي اختاره سيد قطب تبدو عليه مخايل الجودة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 والإنصاف ويحقق العدل بين جميع الأطراف (القاذف والمقذوف) فلا يَظْلم أحداً منهما ولا يضيع حق الله، ولا حق العبد ... فلعله يكون الأرجح والله تعالى أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - قذف المحصنات من الكبائر التي تهدد المجتمع وتقوّض بنيانه. ثانياً - اتهام المؤمنين بطريق (القذف) إشاعة للفاحشة في المجتمع. ثالثاً - على المسلم أن يصون كرامة إخوانه بالستر عليهم إذا أخطأوا. رابعاً - لا بد لحماية ظهر القاذف من إحضار أربعة شهود، ذكور، عدول. خامساً - العقوبات الثلاث (البدنية والأدبية والدينية) تدل على عظم جريمة القذف. سادساً - لا يجوز الولوغ في أعراض الناس لمجرد السماع أو الظن بحصول التهمة. سابعاً - الحدود كفارات للذنوب وعلى الحكام أن يقيموها تنفيذاً لأمر الله. ثامناً - التوبة والندم على ما فرط من الإنسان تدفع عنه سمة الفسق فلا يسمى فاسقاً. تاسعاً - إذا أصلح القاذف سيرته وأكذب نفسه فيرد له اعتباره وتقبل شهادته. عاشراً - الله واسع الرحمة عظيم الفضل لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ينتقم للمظلوم من الظالم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 حكمة التشريع يعتبر القذف جريمة من الجرائم الشنيعة التي حاربها الإسلام حرباً لا هوادة فيه، فإن اتهام البريئين والوقوع في أعراض الناس، والخوض في (المحصنات الحرائر) العفيفات، يجعل المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئاً بتلك التهمة النكراء، فتصبح أعراض الأمَّة مجرحة وسمعتها ملوثة وإذا كل فرد منها متهم أو مهدد بالاتهام، وإذا كلُّ زوج فيها شاك في زوجه وأهله وولده. وجريمة القذف والاتهام للمحصنات تولِّد أخطاراً جسيمة في المجتمع، فكم من فتاة عفيفة شريفة لاقت حتفها لكلمة قالها قائل، فصدقها فاجر، فوصل خبرها إلى الناس ولاكتها الألسن فكان أن أقدم أقرباؤها وذووها على قتلها لغسل العار، ثم ظهرت حصانتها وعفتها عن طريق (الكشف الطبي) ولكن بعد أن حصل ما حصل وفات الأوان. لذلك وصيانةً للأعراض من التهجم، وحمايةً لأصحابها من إهدار الكرامة، قطع الإسلام ألسنة السوء، وسدَّ الباب على الذين يلتمسون للبرآء العيب، فمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعر الناس، ويلغوا في أعراضهم. وشدَّد في عقوبة القذف فجعلها قريبة من عقوبة الزنى (ثمانين جلدة) مع إسقاط الشهادة، والوصف بالفسق. والعقوبة الأولى (جسدية) تنال البدن والجسد، والثانية (أدبية) تتعلق بالناحية المعنوية بإهدار كرامته وإسقاط اعتباره، فكأنه ليس بإنسان لأنه لا يوثق بكلامه ولا يقبل قوله عند الناس، والثالثة (دينية) حيث أنه فاسق خارج عن طاعة الله، وكفى بذلك عقوبة لذوي النفوس المريضة، والضمائر الميِّتة. وقد اعتبر الإسلام (قذف المحصنات) من الكبائر الموجبة لسخط الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وعذابه، وأوعد المرتكبين لهذا المنكر بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة فقال جل ثناؤه: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] وجعل الولوغ في أعراض الناس ضرباً من (إشاعة الفاحشةِ) يستحق فاعلة العذاب الشديد كما قال تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة} [النور: 19] وقد عدّها عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الكبائر المهلكات فقال صلوات الله عليه: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: «الشِّركُ بالله، والسحرُ، وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولي يومَ الزَّحف، وقذفُ المحصنات المؤمنات الغافلات» . وغرضُ الإسلام من هذه العقوبة صيانة الأعراض، وحفظ كرامة الأمة، وتطهير المجتمع من مقالة السوء لتظل (الأسرة المسلمة) موفورة الكرامة، مصونة الجناب، بعيدة عن ألسنة السفهاء، وبهتان المغرضين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 [3] اللعان بين الزوجين {يَرْمُونَ} : أي يتهمون أزواجهم بالفاحشة، ويقذفونهن بالزنى، وقد تقدم معنى الرمي في الآية السابقة وأن المراد به القذف بالزنى بقرينة اشتراط الأربعة من الشهداء وهنا اشترط أربع شهادات أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 {أَزْوَاجَهُمْ} : جمع زوج بمعنى (الزوجة) فإنّ حذف التاء منها أفصح من إثباتها، إلا في الفرائض، قال تعالى: {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [الأعراف: 19] وأنكر بعضهم اطلاق لفظ زوجة في العربية وقال هي خطأ والصحيح أنها خلاف الأفصح. {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} : أي الشهادة التي ترفع عنه حدّ القذف أن يحلف أربع مرات بالله أنه صادق فيما رماها به من الزنى والشهادة في اللغة معناها الخبر القاطع، وقد شاع في لسان الشرع استعمال الشهادة بمعنى الإخبار بحق لإنسانٍ على آخر، وتسمى أيضاً بينة. {لَعْنَتَ الله} : أي غضبه ونقمته، وأصل اللعن: الطردُ من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ كما قال تعالى لإبليس {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} [ص: 78] وسمي اللعان لعاناً لأن فيه ذكر اللعنة. {وَيَدْرَؤُاْ} : أي يدفع والدرء معناه في اللغة: الدفعُ قال تعالى: {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] أي تخاصمتم في شأنها وأصبح بعضكم يدفع على بعض. {العذاب} : المراد به العذاب الدنيوي وهو الحد (الجلد أو الرجم) الذي شرع عقوبةً للزاني أو الزانية في الآيات المتقدمة. {تَوَّابٌ} : أي كثير التوبة يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة والمغفرة وهي من صِيغِ المبالغة. {حَكِيمٌ} : أي يضع الأشياء في مواضعها ويشرع من الأحكام ما فيه مصلحة العباد. ومعنى الآية: لولا فضله ورحمته لعاجلكم بالعقوبة وفضح الكاذب منكم ولكنه تعالى تواب رحيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 المعنى الإجمالي يخبر المولى جل وعلا أن من قذف زوجته بالفاحشة واتهمهما بالزنى ولم يكن لديه بينة تثبت صدقة فيما ادعى ولا شهود يشهدون على صحة ما قال فالواجب عليه أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، تقوم مقام الشهداء الأربعة ليدفع عنه (حد القذف) وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه إن كان منالكاذبين في رميه لها بالزنى. وأما المرأة المقذوفة إذا لم تعترف بالذنب، وأرادت التخلص من إقامة (حد الزنى) فعليها أن تحلف أربعة أيمان بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى تقوم مقام الشهداء الأربعة في إثبات عفتها، وفي المرة الخامسة عليها أن تحلف بغضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه لها بالزنى. ثم بين الباري جل وعلا أن هذا التشريع الذي شرعه لعباده وهو تشريع (اللعان بين الزوجين) إنما هو من رحمته بالناس ولطفه بالمذنبين من عباده ولولا ذلك لهتك الستر عنهم ففضحهم وعجّل لهم العقوبة في الدنيا وعذبهم في الآخرة، ولكنه سبحانه رحيم ودود، غفار للذنوب، يقبل توبة العبد إذا أناب {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82] . سبب النزول أ - أخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن (هلال بن أمية) قذف امرأته عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (بشريك بن سحماء) فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البينة وإلا حد في ظهرك» فقال يا رسول الله: إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: البينة وإلاّ حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إنّي لصادق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فأنزل الله {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حتى بلغ {إِن كَانَ مِنَ الصادقين} فانصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الله يعلم إن أحدكما لكاذب فهل منكما تائب» ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت. . فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابع الأليتين، خدلَّجَ الساقين فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. ب - وروى ابن جرير الطبري بسنده إلى ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} [النور: 4] قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ لو أتيت لكاع قد تفخّدها رجل، لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ... فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا معشر الأنصار أما تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ قالوا: لا تلمه يا رسول الله فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجلٌ منا أن يتزوجها؟ ... قال سعد يا رسول الله: بأبي وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق، ولكن عجبت أن لو وجدت لكاع قد تفخدها رجل لم يكي لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته فوالله ما لبثوا يسيراً حتى جاء (هلال بن أمية) من حديقة له، فرأى بعينيه وسمع بأذنية ... ثم ذكر قصة هلال السابقة وطريقة اللعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 ج - وروى ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن (عاصم بن عدي) الأنصاري قال لأصحابه: «إن دخل رجل منا بيته فوجد رجلاً على بطن امرأته، فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج وإن قتله قُتِلَ به وإن قال وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضُرب، وإن سكت سكت على غيظ اللهم افتح. . . وكان لعاصمٍ هذا ابن عم يقال له (عويمر) فأتى عويمر عاصماً فقال: لقد رأيت رجلاً على بطن امرأتي ... «وساق الحديث. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قال الإمام (الفخر الرازي) : إنما اعتبر الشرع اللعان في الزوجات دون الأجنبيات لوجهين: أ - أنه لا معرّة على الرجل في زنى الأجنبية والأولى له سترهُ، أما زنى الزوجة فيلحقه العار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه. ب - إن الغالب المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة فإذا رماها فنفس الرمي يشهد بكونه صادقاً إلاأن شهادة الحال ليست بكاملة فضم إليها ما يقويها من الأيمان. اللطيفة الثانية: تخصيص (اللعنة) بجانب الرجل، وتخصيص (الغضب) بجانب المرأة، لأن الغضب أشد في العقوبة من اللعنة، والمرأة في اقتارفها جريمة الزنى أسوأ من الرجل في ارتكابه جريمة القذف، لذلك أضيف الغضب إلى المرأة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 ومن جهة أخرى فإن النساء كثيراً ما يستعملن اللعن فربما يجترئن على التفوه به لاعتيادهن عليه وسقوط وقعه من قلوبهن بخلاف غضب الله فتدبره. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} فيه التفات، وهذا (الالتفات) من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطبين (عليكم) ، وسر هذا الالتفات أنيستوفي مقام الامتنان حقه لأن حال الحضور أتم وأكمل من حال الغيبة، أفاده أبو السعود. اللطيفة الرابعة: جواب (لولا) في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} موف لتهويل الأمر حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب فيكون أبلغ في البيان وأبعد في التهويل والإرهاب، مثل قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام: 27] حذف جوابه كذلك للتهويل. أي لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً يشيب له الوليد ولا يستطيع أن يعبر عن هوله لسان لأنه فوق الوصف والبيان، وربّ مسكوت عنه أبلغ من منطوق به، ومثل هذا قول عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة) أي لنكلت به وشددت له العقوبة، وتقديره في الآية: لولا فضل الله عليكم لهلكتم، أو لفضحكم، أو لعاجلكم بعقابه. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} الرحمة تناسب التوبة فلماذا عدل عنها إلى قوله: (تواب حكيم) بدل (تواب رحيم) ؟ والجواب: أن الله عَزَّ وَجَلَّ حكم باللعان وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده، فلو لم يكن اللعان مشروعاً لوجب على الزوج (حد القذف) ، مع أن الظاهر صدقه وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الخزي والعار، ولو اكتفى بشهاداته لوجب عليها (حد الزنى) فكان من الحكمة وحسن النظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 لهما جميعاً أن شرع هذا الحكم ودرأ العذاب عنهما بتلك الأيمان فسبحانه ما أوسع رحمته وأجل حكمته؟ وجوه القراءات 1 - قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ} . . . قرئ: {ولم تكن} بالتاء لأن الشهداء جماعة والجمهور بالياء {ولم يكن} قال أبو حيان وهو الفصيح. 2 - قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} قرأ حفص والحسن {أربع} بالضم - وقرأ الجمهور {أربعَ} بالفتح نصباً على المصدر. 3 - قوله تعالى: {لَعْنَتَ الله} و {أَنَّ غَضَبَ الله} بالتشديد وهي قراءة الجمهور وقرأ نافع {أنْ لعنةُ} و {غَضَبُ} بالتخفيف فتكون {أن} مخففة من أن الثقلة واسمها ضمير الشأن، ولكل وجه من وجوه القراءات سند من جهة الإعراب والله أعلم. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} . (شهداء) : اسم كان و (لهم) خبرها، و (إلاّ) أداة حصر، و (أنفسُهم) بدل من شهداء مرفوع بالضمة الظاهرة وهو مضاف. ويصح أن تكون كان تامة والمعنى: ولم يوجد شهداء إلا أنفُسهم، فيكون (شهداء) فاعل، و (أنفسُهم) بدل من شهداء، ومثلها (وإن كان ذو عسرة) أي إن وجد ذو عسرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 ثانياً: قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} . (شهادة) مبتدأ، و (أربع) خبره، كما تقول: صلاة العصر أربعُ ركعات. ويجوز أن يكون (شهادة) خبر لمبتدأ محذوف وتقديره: فالحكم شهادة أحدهم. ثالثاً: قوله تعالى: {والخامسة أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ} . (الخامسةُ) مبتدأ، وجملة (أنّ لعنتَ الله) هي الخبر، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما تقدّم. رابعاً: قوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله} . (أن تشهد) أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ل (يدرأ) وتقديره: ويدرأ عنها العذاب شهادتها، وجملة (إنه لمن الكاذبين) في محل نصب ب (تشهد) إلاّ أنه كسرت الهمزة من (أنّه) لدخول اللام في الخبر. خامساً: قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . قال أبو البركات ابن الأنباري: لم يذكر جواب (لولا) إيجازاً واختصاراً لدلالة الكلام عليه، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعاجلكم بالعقوبة، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة. الأحكام الشرعية الحكم الأول: متى يجب اللعان؟ إذا رمى الرجل امرأته بالزنى ولم تعترف بذلك ولم يرجع عن ريمه فقد شرع لهما اللعان ويجب اللعان في حالتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أ - الحالة الأولى: إذا رمى امرأته بالزنى كأن يقول لها: زنيتِ أو رأيتك تزنين وليس عنده أربعة شهود يشهدون بما رماها به، وإذا قال لها: يا زانية، فالجمهور أنه يلاعن خلافاً لمالك. ب - الحالة الثانية: أن ينفي حملها منه فيقول: هذا الحمل ليس مني أو ينفي ولداً له منها. الحكم الثاني: هل اللعان يمين أم شهادة؟ اختلف الفقهاء في اللعان هل هو يمين أم شهادة على مذهبين: أ - المذهب الأول: أنه شهادة فيأخذ أحكام الشهادة وهو مذهب الإمام أبي حنيفة. ب - المذهب الثاني: أنه يمين وليس بشهادة فيأخذ أحكام اليمين وهو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) . أدلة الأحناف: 1 - استدل الأحناف على أن اللعان شهادة بقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} وقالوا الملاعن يقول في لعانه: أشهد بالله فدل على أنه شهادة. 2 - واستدلوا بحديث ابن عباس المتقدم في قصة (هلال بن أمية) وفيه: (فجاء هلال فشهد والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت) الحديث وفيه لفظ الشهادة صراحة. 3 - وقالوا: إن كلمات الزوج في اللعان قائمة مقام الشهود، فتكون هذه الألفاظ شهادة. أدلة الجمهور: 1 - واستدل الجمهور بأن لفظ الشهادة قد يراد به (اليمين) بقوله تعالى: {إِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] ثم قال تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] فسمى الشهادة يميناً. 2 - واستدلوا بقوله سبحانه (أربع شهادات بالله) فقد قرن لفظ الجلالة (الله) بالشهادة فدل على أنه أراد بها اليمين، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل بخلاف يمينه. 3 - واستدلوا بما ورد في بعض روايات حديث ابن عباس من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» . والخلاصة: فإن الأحناف يقولون: ألفاظ اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان ... والجمهور يقولون: إنها أيمان مؤكدة بالشهادة وردت بهذه الصيغة للتغليظ. فالأولون غلّبوا جانب الشهادة والآخرون غلبوا جانب اليمين. الحكم الثالث: هل يجوز اللعان من الكافر والعبد والمحدود في القذف؟ وبناء على اختلاف الفقهاء في (اللعان) هو هو شهادة أم يمين ترتب عليه اختلافهم فيمن يجوز لعانه، فشرط الأحناف: في الزوج الذي يصح لعانه أن يكون أهلاً لأداء الشهادة على المسلم وكذلك الزوجة أن تكون أهلاً لأداء الشهادة على المسلم (فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولابين المختلفين ديناً، ولا بين محدودين في قذف) واستدلوا على مذهبهم بما ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان» . واحتجوا بأن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله: (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) وجب ألاّ يلاعن إلا من تجوز شهادته فلا يصح اللعان إلا من (زوجين، حرين، مسلمين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وذهب الشافعي ومالك وهو رواية عن أحمد: إلى أن كل من يصح يمينه يصح قذفه ولعانه فيجوز اللعان من كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين. وحجتهم أن قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} عام يتناول جميع الأزواج، والآية لم تخصص زوجاً دون زوج فوجب أن يكون اللعان بين كل الأزواج ... وقالوا إن المقصود من اللعان دع العار عن النفس، ودفع ولد الزنى عن النفس، فكما يحتاج إليه المسلم يحتاج إليه غير المسلم، وكما يدفع الحر العار عن نفسه يدفع العبد العار عن نفسه والخلاصة: فإنَّ كلَّ من يجوز يمينه يجوز لعانه عند الجمهور. قال ابن العربي: (والفصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب وكيف يجوز لأحد أن يدعيَ في الشريعة أن شاهداً يشهد لنفسه بما يوجب حكماً على غيره، هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر) . وقال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: (والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين: اليمين والشهادة فهو شهادة مؤكدة بالقسم. والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر، ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع ... ثم سرد تلك الأنواع) . الحكم الرابع: هل يجوز اللعان بدون حضور الحاكم؟ اتفق الفقهاء على أن اللعان لا يجوز إلا بحضرة الحاكم أو من ينيبه الحاكم لأنه إذا نكل أحدهما أو ثبت عليه الأمر وجب الحد. وإقامة الحد من خصائص الحكام. . وينبغي أن يعظ الإمام الزوجين ويذكرهما بعذاب الله ويقول لكل واحد منهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ويخوفهما بمثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ولن يدخلها الله الجنة ... وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» . الحكم الخامس: كيفية اللعان وطريقته. وضحت الآيات الكريمة طريقة اللعان وكيفيته بشكل جلي واضح وهي: أن يبدأ الزوج فيقول أربع مرات الصيغة التالية: «اشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى» ثم يختم في المرة الخامسة بقوله: «لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما زماني به من الزنى» ثم تختم في المرة الخامسة بقولها: «غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى» . وظاهر الآية الكريمة أنه لا يقبل من الرجل أقل من خمس مرات ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب، وكذلك لا يقبل من المرأة أقل من خمس مرات ولا أن تبدل الغضب باللعنة، والبداءة تكون بالرجل في اللعان وهو مذهب الجمهور من فقهاء الأمصار. وقال أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: يُعْتد بلعانها إذا بدئ به. ومرجع الخلاف أن الفقهاء يرون لعان الزوج موجباً للحد على الزوجة ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من الطبيعي أن يكون لعانها متأخراً عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجباً للحد على الزوجة لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود، أو بالإقرار، فليس من الضروري أن يتأخر لعانها عن لعانه. هذه كيفية اللعان المأخوذة من القرآن ويزاد عليها من السنة أنه إذا كانت المرأة حاملاً وأراد الزوج أن ينفي ذلك الحمل وجب أن يذكره في لعانه فيقول: (وإن هذا الحمل ليس مني) وكذلك إذا كان هناك ولد يريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الزوج نفيه وجب التعرض لذلك في اللعان، ويندب أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد ويستحب التغليظ بالزمان والمكان وبحضور جمع من عدول المسلمين، وكل ذلك إنما ثبت بالسنة المطهرة، فيجري اللعان في مسجد جامع وأمام جمع غفير للتغليظ والله أعلم. الحكم السادس: النكول عن اللعان هل يوجب الحد؟ اختلف الفقهاء فيما إذ نكل أحد الزوجين عن اللعان هل يجب عليه الحد؟ على مذهبين: أ - مذهب الجمهور: (مالك والشافعي وأحمد) أن الزوج إذا نكل عن اللعان فعليه (حد القذف) وإذا نكلت الزوجة عن اللعان فعليها (حد الزنى) . ب - وقال أبو حنيفة: إذا نكل الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه ... وإذ نكلت المرأة حبست حتى تلاعن أو تقر بالزنى فيقام عليه حينئذ الحد. أدلة الجمهور: استدل الجمهور على وجوب الحد بأدلة نلخصها فيما يأتي: أولاً: إن الله تعالى قال في أول السورة {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد. ثانياً: قوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} لا يصح أن يراد منه عذاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الآخرة، لنه الزوجة إن كات كاذبة في لعانها لم يزدها اللعان إلا عذاباً في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا وهو المذكور في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] وهو حد الزنى. ثالثاً: قالوا: ويؤيد هذا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخولة زوج هلال «الرجم أهون عليك من غضب الله» وهو نص في الباب. وقوله لهلال بن أمية: «البينة أو حد في ظهرك» . أدلة أبي حنيفة: واستدل أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ بما يلي: أولاً: قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} يُفهم منه أن الواجب في قذف الزوجات (اللعان) لا الحد وهذه الآية إمّا ناسخة لآية القذف، وإمَّا مخصّصة فلا يجب على كلا الحالين سوى (اللعان) فإذا امتنع الزوج حبس حتى يلاعن وإذا امتنعت الزوجة حبست حتى تلاعن. ثانياً: إن المرأة إذا امتنعت لم تفعل شيئاً سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس ببينة على الزنى فلا يجوز رجمها لقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس» . ثالثاً: النكول عن اللعان ليس بصريح في الإقرار فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنى وغيره لا يجوز إثبات الحد به. قال العلامة الألوسي: في الانتصار لمذهب أبي حنيفة: (والعَجَبُ من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنى مع ثلاثة عدول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبداً فاسقاً. . . وأعجب منه أن (اللعان) يمين عنده وهولا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب، وأسقط به كلٌ من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به (الرجم) الذي هو أغلظ الحدود على المرأة!! وكون النكول إقراراً به شبهة، (والحدود تدرأ بالشبهات) . ووافق الإمام (أحمد) رَحِمَهُ اللَّهُ الأحناف في حكم الزوجة الممتنعة في إحدى الروايتين عنه بأنها تحبس ولا ترجم وفي رواية أخرى عنه: لا تحبس ويخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة. وجاء في كتاب «فقه السنة» للسيد سابق ما نصه: قال ابن رشد: (وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو الاعتراف، ومن الواجب ألاّ تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك) . . فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله وقد اعترف أبو المعالي في كتابه «البرهان» بقوة الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي) انتهى. أقول: رأي أبي حنيفة وإن كان وجيهاً إلا أنه ليس بقوة رأي الجمهور لظهور أدلتهم النقلية، وهو ما نختاره كما اختاره شيخ المفسرين الطبري وغيره من الجهابذة الأعلام. الحكم السابع: هل آية اللعان ناسخة لآية القذف؟ إنّ الروايات التي ذكرت في سبب النزول متفقة كلها على ثلاثة أمور: أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات مع تراخ في الزمن. وأنها منفصلة عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ثانيها: أن الصحابة كانوا يفهمون من آية القذف أن حكم من رمى زوجة كحكم من رمى الأجنبية. ثالثها: أن آية (اللعان) نزلت تخفيفاً على الزوج وبياناً للمخرج مما وقع فيه من القذف. وبناء على ذلك فإن قواعد أصول الحنيفية تقضي بأن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] لتراخي نزولها عنها. وعلى مذهب الأحناف: يكون ثبوت (حد القذف) على من قذف زوجته منسوخاً بآيات اللعان وليس على الزوج سوى الملاعنة لا غير ... وعلىمذهب الأئمة الثلاثة: تتكون آيات اللعان مخصّصة للعموم في آية القذف لا ناسخة لها. ويصبح معنى الآيتين: كل من قذف محصنة ولم يأتي بأربعة شهداء فعليه (حد القذف) إلا من قذف زوجته فعليه (الحد أو اللعان) ، والخلاف في الحقيقة شكلي لا جوهري. الحكم الثامن: هل يُفَرّقُ بين المتلاعنَيْن؟ قضت السنة النبوية أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً، فإذا تلاعن الزوجان وقعت الفرقة بينهما على سبيل (التأبيد) لما روي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً» . وعن علي وابن مسعود قالا: (مضت السنة ألاّ يجتمع المتلاعنان) . . والحكمة في ذلك (التحريم المؤبد) أنه قد وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب القطيعة بينهما بصفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 دائمة. فإن الرجل إنْ كان صادقاً فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي والغضب، وإن كان كاذباً فقد أضاف إلى ذلك أنه بهتها وزاد في إيلامها وحسرتها وغيظها. وكذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة. فقد حصل بينهما النفرة الدائمة والوحشة البالغة. ومن المعلوم أنَّ أساس الحياة الزوجية السكنُ والمودة، والرحمة، وقد زالت هذه باللعان فكانت عقوبتهما الفرقة المؤبدة. وقد اتفق الفقهاء على وجوب التفريق بين المتلاعنين وعلى أن الحرمة بينهما. تكون (مؤبدة) لم يخالف في ذلك أحد إلاّ ما روي عن (عثمان البتي) أنه قال: لا يقع باللعان فرقة إلا أن يطلقها وهو قول مردود للنصوص المتقدمة. ولكنّ الفقهاء اختلفوا متى تقع الفرقة بين المتلاعنين؟ فذهب (الشافعي) رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن الفرقة تقع بمجرد لعان الزوج وحده ولو لم تلاعن الزوجة. وذهب (مالك وأحمد) في إحدى الروايتين عنه إلى أن الفرقة لا تقع إلا بلعانهما جميعاً. وذهب (أبو حنيفة وأحمد) في روايته الأخرى إلى أن الفرقة لا تقع إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم بينهما. أما حجة الشافعي: فهي أن الفرقة حاصلة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها كما قال تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} فدل على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 أما حجة مالك: فهي أن الشارع قد أمر بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده. . وأيضاً لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لأصبحت المرأة أجنبية عنه فتكون الملاعِنَةُ أجنبية وقد أوجب الله اللعان بين الزوجين. أما حجة أبي حنيفة وأحمد: فهي أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم بينهما عملاً بالسنة المطهرة ففي حديث ابن عباس السابق (ففرّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهما) وهذا يتقضي أن الفرقة لم تحصل قبله، ولأن اللعان نوع من الحدود، والحدودُ إنما يجريها الحاكم فلا بد إذاً من تفريق الحاكم ... ولعلّ هذا الرأي هو الأصح والأرجح. الحكم التاسع: إذا أكذب الرجل نفسه فهل تعود إليه زوجته؟ وإذا تلاعن الزوجان ثم أكذب الرجل نفسه فحُدَّ حد القذف فهل تحل له زوجته؟ قال (مالك والشافعي) لا تحل له زوجته لأن الفرقة مؤبدة وقد قضت السنة بأنهما لا يجتمعان أبداً فلا طريق إلى العودة عملاً بالنصوص المتقدمة كما في المطلقة ثلاثاً وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين. وقال (أبو حنيفة) إذا أكذب الرجل نفسه فهو خاطب من الخطاب لأنه إذا اعترف بكذبه وحُدَّ حدَّ القذف لم يبق ملاعنا وإنما أصبح كاذباً فيحل له العودة إلى زوجته. قال ابن الجوزي: وروي عن أحمد روياتان أصحهما أنه لا تحل له زوجته، والثانية يجتمعان بعد التكذيب وهو قول أبي حنيفة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأن اللعان يوجب الحرمة المؤبدة كما دلت بذلك الآثار سواء أكذب نفسه أم لا والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 الحكم العاشر: هل يلحق ولد اللعان بأمه؟ إذا نفى الرجل ابنه وتم اللعان بنفيه له انتقى نسبه من أبيه وسقطت نفقته عنه، وانتفى التوارث بينهما ولحق بأمه فهي ترثه وهو يرثها لحديث (عمرو بن شعيب) : «وقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين» ويؤيد هذا الحديث الأدلة الدالة على أن الولد للقراش ولا فراش هنا لنفي الزوج إياه. . وأما من رماها به اعتبر قاذفاً وجلد ثمانين جلدة لأن (الملاعِنة) داخلة في المحصنات ولم يثبت عليها ما يخالف ذلك فيجب على من رماها بابنها حد القذف ومن قذف ولدها يجب حده كمن قذف أمه سواء بسواء ... أما بالنسبة للأحكام الشرعية فإنه يعامل كأنه أبوه من باب الاحتياط فلا يعطيه زكاة المال، ولو قتله لا قصاص عليه، ولا تجوز شهادة كل منهما للآخر، ولا يعد مجهول النسب فلا يصح أن يدعيه غيره، وإذا أكذب نفسه ثبت نسب الولد منه ويزول كل أثر اللعان بالنسبة للولد. وروى الإمام الفخر عن الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ أنه قال: يتعلق باللعان خمسة أحكام: (درء الحدّ، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبّد، ووجوب الحدّ عليها) ، وكلها تثبت بمجرد لعانه، ولا تفتقر إلى حكم الحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - إذا قذف الرجل زوجته ولم تكن لديه بينة فإمّا أن يُحدّ أو يلاعن. 2 - لا يجري اللعان في اتهام غير الزوجة من المحصنات لأنه خاص بالزوجين. 3 - تشريعُ اللعان لمصلحة الزوجين يبرئ الزوج من (حد القذف) والزوجة من (حدّ الزنى) . 4 - لا بدّ في المُلاَعَنَة أن تكون خمس مرات بالصيغة المذكورة في القرآن الكريم. 5 - ينبغي تغليظ أمر «اللّعان» بالزمان والمكان وحضور جمع من المسلمين. 6 - اللّعانُ يوجب (الحُرْمة المؤبّدة) بين الزوجين، فلا ترجع للزوج بحالٍ من الأحوال. 7 - تخصيص الرجل باللعنة، وتخصيص المرأة بالغضب، للتفريق بين نفسيّة الزوجين. 8 - الله واسع المغفرة، عظيم الفضل والمِنّة، لولا ستره على العباد لعذّبهم وأهلكهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 خاتمة البحث: حكمة التشريع شرع الحكيم العليم (اللعان) لحكمة جليلة سامية، هي من أدق الحكم وأسماها في صيانة المجتمع، وتطهير الأسرة، ومعالجة المخاطر والمشاكل التي تعترض طريق (الحياة الزوجية) وما يهددها من متاعب وعقبات. وعالج القرآن بهذا التشريع الدقيق ناحية من اخطر النواحي التي يمكن أن يجابهها الإنسان في حياته الواقعية الأليمة، حين يبصر بعينه (جريمة الزنى) ترتكب في أهل بيته فلا يستطيع أن يتكلم، ولا أن يجهر، لأنه ليس لديه بينة تثبت ذلك، ولا يستطيع أن يقدم على القتل (لغسل العار) لأن هناك القصاص ويبقى ذاهلاً، مشتتاً، محتاراً، كيف يصنع! {أيترك عرضه ينتهك وشرفه يُلوّث، وفراشه يدنّس، ثم يغمض عينيه خشية الفضيحة أو خوف العار؟ أم يقدم على الانتقام من زوجة الخائن، وذلك اللص الماكر، شريكها في الخيانة والإجرام فيكون سبيله العقاب والقصاص؟} إنها حالات من الضيق النفسي والقلق والاضطراب لا يملك المرء لها دفعاً ولا يدري ماذا يصنع تجاهها وهو يعاني هذه الأزمة النفسية الخائفة؟ {وتشاء حكمة الله أن تقع مثل هذه الحوادث في أفضل العصور (عصر النبوة) وبين أطهر الأقوام (صحابة الرسول) والقرآن ينزل والوحي يتلى، ليكون درساً عملياً تربوياً يتلقاه المسلمون بكل قولة، وصلابة عزم. فهذا (هلال بن أمية) يأتي بيته مساء فيرى بعينه وسيمع بأذنية صوت الخيانة واضحاً فيكبح جماح نفسه، ويغالب غضبه وثورته، ويأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبره الخبر، وهو واثق من نفسه لأنها رؤيا العين ويطلب منه الرسول البينة ولكن من أين يأتي بها؟ وكيف له أن يأتي بأربعة شهود يشهدون معه لإثبات دعواه، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول له: البينة أو حد في ظهرك} ! ويسمع (سعد بن عبادة) وهو سيد الأنصار ذلك فيقول يا رسول الله: إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً لم يكن له أن يحركه أو يُهيجَه حتى يأتي بأربعة شهداء، والله لأضربنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 بالسيف غير مصفح عنه ويلتفت الرسول إلى أصحابه قائلاً: أتعجبون من غيره سعد والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، يطلب الرسول البينة من هلال وليس معه بينة ويشتد الأمر على الرسول وعلى أصحابه ويتحدث الناس: الآن يضرب الرسول هلالاً، ويبطل بين الناس شهادته، فيقول (هلال) يا رسول الله والله إني لصادق وإني لأرجو أن يجعل الله لي منها فرجاً ومخرجاً وينزل الوحي على الرسول بهذه الآيات الكريمة التي أصبحت قرآناً يتلى ودرساً يحفظ ونظاماً يطبقه المسلمون في حياتهم ويقول الرسول الكريم: «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً» فيقول هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عَزَّ وَجَلَّ. هذه ناحية دقيقة، عالجها الإسلام بحكمته الرفيعة وجعل لها فرجاً ومخرجاً فشرع (اللعان) بين الزوجين، ليستر المولى على عباده زلاتهم ويفسح أمامهم المجال للتوبة والإنابة. ولولا هذا التشريع الحكيم لأريقت الدماء. وأزهقت الأرواح في سبيل الدفاع عن (العرض والشرف) وقد يكون هناك عدوان من أحد الزوجين على الآخر فلو سمح للزوج أن ينتقم بنفسه فيقتل زوجه لكان هناك ضحايا بريئات يذهبن ضحية المكر والخبث إذ ليس كل زوج يكون صادقاً؛ ولو أقيم عليه (حد القذف) لأنه قذف امرأة محصنة لكان في ذلك أبلغ الألم والضرر إذ قد يكون صادقاً في دعواه فيجتمع عليه (عقوبة الجلد) و (تدنيس الفراش) فإذا تكلم جلد، وإذا سكت سكت على غيظ. فكان في هذا التشريع الإلهي الحكيم أسمى ما يتصوره المرء من العدالة والحماية وصيانة الأعراض وقبر الجريمة في مهدها فهو (بطريق اللعان) إذ يترك الأمر معلقاً لا يستطيع أحد أن يجزم بوقوع الجريمة أو بخيانة الزوجة، ولا يقطع بكذب الزوج إذ يحتمل أن يكون صادقاً ثم يفرق بينهما فرقة مؤبدة تخلِّص الإنسان من الشقاء، وتقطع ألسنة السوء، وتصون كرامة الأسرة. فللَّه ما أسمى تشريع الإسلام وما أدق نظره وأحكامه!! وصدق الله {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 [4] في أعقاب حادثة الإفك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 التحليل اللفظي {يَأْتَلِ} : أي يحلف من (الأليّة) بمعنى الحلف، ووزنها (يَفْتَعِلْ) ومنه قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [البقرة: 226] وقال بعضهم: معناه يقصّر من قولك: ألَوْتُ في كذا إذا قصّرت فيه ومنه قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] . قال الزمخشري: (يأتل) من ائتلى إذا حلف: افتعال من الأليّة، وقيل: من قولهم: ما ألوت جهداً، إذا لم تدّخر منه شيئاً، ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتألَّ والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان. {أُوْلُواْ الفضل} : أصحاب الصلاح والدين، ومعنى الفضل الزيادة والمراد هنا أهل البر والدين والصلاح. {والسعة} : المراد بها السعة في الرزق والمال، الذين وسّع الله عليهم وأغناهم من فضله، قال الشاعر: ومن يك ذا مال فيبخل بفضله ... على غيره يستغنى عنه ويذمم {أَن يؤتوا} قال ابن قتيبة معناه: أن لا يؤتوا، وقال القرطبي قوله تعالى: {أَن يؤتوا} أي ألاّ يؤتوا فحذف (لا) كقول القائل: فقلتُ يمينُ اللَّه أبرحُ قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي أقول: هذا الحذف وارد في كلام العرب ومثله قوله تعالى: {يُبَيِّنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي لئلا تضلّوا أو خشية أن تضلوا. {وَلْيَعْفُواْ} : أي يغفروا الزلات، من عفا الربع إذا محي أثره ودرس، فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع. {المحصنات} : العفائف الشريفات الطاهرات، وقد تقدم معنى الإحصان فيما سبق. {الغافلات} : جمع غافلة وهي التي غفلت عن الفاحشة، بحيث لا تخطر ببالها، وقيل: هي السليمة الصدر، النقية القلب، التي ليس فيها دهاء ولا مكر، لأنها لم تجرب الأمور، ولم تزن الأحوال، فلا تفطن لما تفطن له المجرِّبة العارفة. {لُعِنُواْ} : اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء: 52] وقد يراد به الذكر السَّيِّئ أو الحد (الجلد) كما في هذه الآية حيث أقيم عليهم حد القذف. {تَشْهَدُ} : تقر وتعترف، وشهادة الألسنة إقرارها بما تكلموا به من الفرية، وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم. وقال ابن جرير: المعنى أنّ ألسنة بعضهم تشهد على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان. {يُوَفِّيهِمُ} : التوفية إعطاء الشيء وافياً، يقال: تَوفّى حقه إذا أخذه كاملاً غير منقوص. {دِينَهُمُ الحق} : أي حسابهم العدل، أو جزاءهم الواجب، والدين في اللغة بمعنى الجزاء، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إعمل ما شئت كما تدين تدان» أي كما تفعل تجزى. {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} : المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، وهو جمع خبيثة وخبيث، والخبيثُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الذي يعمل الفواحش والمنكرات سمّى خبيثاً لخبث باطنه وسوء عمله قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} [الأنبياء: 74] وذهب جمهور المفسّرين إلى أن معنى الآية: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. . قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية واختاره ابن جرير الطبري. {مُبَرَّءُونَ} : أي منزّهون مما رُمُوا به، والمراد بالآية براءة الصدّيقة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مما رماها به أهل الإفك والبهتان، وجاء بصيغة الجمع للتعظيم. {مَّغْفِرَةٌ} : أي محو وغفران للذنب، والبشر جميعاً معرضون للخطأ وقيل في الآية إنه من باب: (حسناتُ الأبرار سيئات المقربين) . {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : قال الألوسي: هو الجنة كما قال أكثر المفسرين. ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] فإن المراد به الجنة. المعنى الإجمالي يقول الله جل ثناؤه ما معناه: لا يحلف أهل الفضل والصلاح والدين. الذين وسّع الله عليهم في الرزق وأغناهم من فضله، على ألا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كان يعطونهم إياه من الإحسان لجرم ارتكبوه، أو ذنب فعلوه. وليعفوا عما كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة. وليعودوا إلى مثل ما كانوا عليه من الإفضال والإحسان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ألا تحبون أيها المؤمنون أن يكفر الله عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم الجنة مع الأبرار! { ثم أخبر تعالى بأن الذين يرمون المؤمنات العفيفات الطاهرات بالزنى، ويقذفونهن بالفاحشة، وهنّ الغافلات عن مثل هذا الافتراء والبهتان ... هؤلاء الذين يتهمون الحرائر العفيفات الشريفات، قد لعنهم الله بسبب هذا البهتان. فطردهم من رحمته، وأوجب لهم العذاب الأليم، الجلد في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة، بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة في حق أولئك المؤمنات ... وليس هذا فحسب بل سوف تنطق عليهم جوارحهم، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، في ذلك اليوم الرهيب. بما كانوا يفعلونه من الإفك والبهتان، وستكون فضيحتهم عظيمة، عندما ينكشف أمرهم على رؤوس الأشهاد، وينالون جزاءهم العادل من أحكم الحاكمين، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة ويعلمون في ذلك اليوم أن الله عادل، لا يظلم أحداً من خلقه؛ لأنه هو الحق المبين، الذي يكشف لكل إنسان كتاب أعماله، ويجازيه عليها الجزاء العادل. ثم أخبر تعالى ببراءة السيدة عائشة الصدّيقة أم المؤمنين رضوان الله عليها، مما رماها به أهل الضلال والنفاق، وتقوّلوا له عليها من الفاحشة، وأتى بالبرهان الساطع، والدليل القاطع، على عصمتها ونزاهتها وبراءتها، فهي زوج رسول الله الطاهرة الشريفة، ورسول الله طيّب طاهر. وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فالخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء. والطيبات من النساء للطّيبين من الرجال، والطّيبون من الرجال للطيبات من النساء، أولئك المتهمات في أعراضهن، بريئات من تلك التهمة الشنيعة، كيف لا وهنَّ أزواج أشرف رسول، وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليقسمهنَّ لأحب عباده إليه إن لم يكنَّ طاهرات النفس {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} } ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 سبب النزول 1 - روى ابن جرير الطبري عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} [النور: 11] الآية في عائشة وفيمن قال لها ما قال، قال أبو بكر: - وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً، ولا أنفعه بنفع أبداً، بعد الذي قال لعائشة ما قال، وأدخل عليها ما أدخل، قالت فأنزل الله في ذلك: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى ... } الآية قالت: فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجّع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: «والله لا أنزعها منه أبداً» 2 - وأخرج ابن المنذر عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: (كان مسطح بن أثاثة) ممن تولى كِبْرَه أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر، وكان في عياله، فحلف أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} الآية قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله، وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلاّ تحلّلتها وأتيت الذي هو خير. وفي رواية أخرى أن نبيّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا أبا بكر فتلاها عليه، فقال: ألا تحب أن يغفر الله لك؟ قال: بلى، قال: فاعف عنه وتجاوز، فقال أبو بكر: لا جرم والله لا أمنعه معروفاً كنت أوليه قبل اليوم، وضعّف له بعد ذلك فكان يعطيه ضِعْفي ما كان يعطيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {ولا يأتل} على وزن (يفتعِل) وقرأ الحسن وأبو العالية {ولا يتألّ} بهمزة مفتوحة مع تشديد اللام على وزن (يتعَلَّ) وهو مضارع تألى بمعنى حلف قال الشاعر: تألّى ابن أوس حِلفةً ليردّني ... إلى نسوة لي كأنهن مقائد وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل. وليس كما قال أبو عبيدة إنه من (الألْو) بوزن الدلو بمعنى لا يقصّر، واستشهد بقوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] فإنّ سبب النزول يؤيد الرأي الأول. 2 - قرأ الجمهور {أن يؤتوا} وقرأ أبو حيوة {أن تُؤتوا} بتاء الخطاب على طريق الالتفات. 3 - قوله: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} قراءة الجمهور بالياء، وقرأ الحسن، وسفيان بن الحسين {ولتَعْفوا ولتَصْفحوا} بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} . 4 - قرأ الجمهور {يوم تشهد} بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي {يوم يشهد} بالياء بدل التاء، قال الألوسي: ووجهه ظاهر. 5 - قرأ الجمهور {دينَهم الحقّ} بالفتح على أنه صفة للدّين بمعنى حسابهم العدل، وقرأ مجاهد والأعمش {دينَهم الحقُّ} برفع القاف على أنه صفة للإسم الجليل. (ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته) ويصبح المعنى: يومئذ يوفيهم اللَّهُ الحقّ دينهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة ... } الآية هذه شهادة عظيمة من الله سبحانه بفضل أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة. قال الفخر الرازي: أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل} أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وهذه الآية تدل على أنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز. فتعيّن أن يكون المراد منه الفضل في الدين. ولأنه لو أريد به الفضل في الدنيا لكان قوله (والسعة) تكريراً. فلما أثبت الله له الفضل المطلق وجب أن يكون أفضل الصحابة بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال أبو السعود: قوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} أي في الدين، وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله تعالى عنه. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {أَن يؤتوا} فيه حذف بالإيجاز، فقد حذفت منه (لا) لدلالة المعنى على ذلك، أي على أن لا يؤتوا. قال الزجّاج، إنّ (لا) تحذف في اليمين كثيراً قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ} [البقرة: 224] يعني أن لا تبروا. وقال امرؤ القيس: «فقلت يمين الله أبرح قاعداً» أي لا أبرح. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} هذا خطاب بصيغة الجمع، والمراد به أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وورد الخطاب بهذه الصيغة للتعظيم كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] . قال الإمام الفخر رَحِمَهُ اللَّهُ: «فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه» وحين سمعها أبو بكر قال: بلى أحب أن يغفر الله لي. وأعاد النفقة إلى مسطح. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} قال العلامة ابن الجوزي: فإن قيل: لم أقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟ فالجواب أنّ من رمى مؤمنة فلا بدّ أن يرمي معها مؤمناً، فاستغني عن ذكر المؤمنين. ومثله قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أراد: والبرد، قاله الزجاج. اللطيفة الخامسة: ذكر الله تعالى في أول السورة المحصنات بقوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} [النور: 4] ولم يقيّد المحصنات هناك بوصفٍ وأما هنا فقد قيّده بأوصاف عديدة بقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} والسرُّ في هذا أن هذه الآيات خاصة بأمهات المؤمنين، رضوان الله عليهن أجمعين، وتدخل السيدة عائشة فيهن دخولاً أولياً، فاتهام هؤلاء الأزواج الطاهرات إتهام ل (بيت النبوّة) ، وإيذاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولهذا قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، حين قرأ سورة النور ففسّرها فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: هذه في (عائشة) وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات، من غير أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التوبة، ثم تلا هذه الآية {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فهمّ بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبّل رأسه لحسن ما فسّره. اللطيفة السادسة: أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات} إلى مبدأ هام من مبادئ الحياة الاجتماعية، وهو أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع النفوس الخبيثة من مثلها، والنفوس الطيبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 لا تمتزج إلا بالنفوس الطيبة من مثلها، وحيث كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطيب الأطيبين، وأفضل الأولين والآخرين، تبيّن أنّ الصدّيقة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها من أطيب النساء بالضرورة، وأنّ ما قيل في حقها كذب وبهتان كما نطق بذلك القرآن {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ويا لها من شهادة قاطعة!! قال أبو السعود: «هذا مسوق على قاعدة السنّة الإلهية، الجارية فيما بين الخلق، على موجب أنّ لله ملكاً يسوق الأهل إلى الأهل، لأن المجانسة من دواعي الانضمام ... وما في الإشارة من معنى البعد (أولئك) للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبعد منزلتهم في الفضل، أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن، مبرءون مما تقوّله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة» . اللطيفة السابعة: قال الزمخشري في تفسيره «الكشاف» : «لقد برَأ الله تعالى أربعة بأربعة: برّأ يوسف بلسان الشاهد {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} [يوسف: 26] . وبرّأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. . وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها {إِنِّي عَبْدُ الله} [مريم: 30] . وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علو منزلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والتنبيه على إنافة محل سيد آدم، وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتقدّم قدمه، وإحرازه قَصَب السبق دون كل سابق، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك، وليتأمل كيف غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه» . خصائص السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: «لقد أُعطِيتُ تسعاً ما أعطيتهنّ امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكراً وما تزوّج بكراً غيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 ولقد توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي. ولقد حفّته الملائكة في بيتي. وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنه خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خُلقت طيّبة عند طيّب. ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً «. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يحبط العمل الصالح بارتكاب المعاصي؟ أجمع المفسّرون على أن المراد من قوله تعالى: {أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} مِسْطَح، لأنه كان قريباً لأبي بكر، وكان من المساكين، والمهاجرين البدريّين، وكان قد وقع في حديث الإفك، وقذف عائشة ثم تاب بعد ذلك، ولا شك أن القذف من الذنوب والكبائر، وقد احتج أهل السنة والجماعة بهذه الآية الكريمة على عدم بطلان العمل بارتكاب الذنوب والمعاصي، ووجه الاستدلال أن الله سبحانه وصف (مسطحاً) بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف، وهذه صفة مدح، فدلّ على أنّ ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف. وقالوا: لا يحبط العمل إلا بالإشراك، والردة عن الإسلام والعياذ بالله، أما سائر المعاصي فلا تُحبِط العمل إلا إذا استحل الإنسان المحرّم فحينئذٍ يرتد وبالردة يحبط العمل قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} [المائدة: 5] وقال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة ... } [البقرة: 217] الآية. الحكم الثاني: هل العفو عن المسيء واجب على الإنسان؟ اتفق الفقهاء على أنّ العفو والصفح عن المسيء حسن ومندوب إليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 لقوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} والأمر هنا للندب والإرشاد، وليس للوجوب، لأن الإنسان يجوز له أن يقتص ممّن أساء إليه، فلو كان العفو واجباً لما جاز طلب القصاص، ومما يدل لرأي الفقهاء قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} [الشورى: 40] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه «فيندب العفو عن المسيء لقوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} ؟ فعلّق الغفران بالعفو والصفح، قال الإمام الفخر: ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفى. الحكم الثالث: هل تجب الكفارة على من حنث في يمينه؟ ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير، ثمّ يكفّر عن يمينه لقوله عليه السلام:» من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه «. فتجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء كان الحانث في أمر فيه خير أو غير ذلك. وقال بعضهم: إنه يأتي بالذي هو خير وليس عليه كفارة ليمينه، واستدلوا بظاهر هذه الآية {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} ووجه استدلالهم أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. واستدلوا كذلك بقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 أدلة الجمهور: استدل الجمهور على وجوب الكفارة على الحانث بما يلي: أ - قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية. ب - وقوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره. ح - وقوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] والحنث كان خيراً من تركه، وأمره الله بضرب لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة. د - وبحديث «فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه» وقد تقدم. قال الجصاص: «أم استدلالهم بالآية فليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة، لأن الله قد بيّن إيجاب الكفارة في قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وقوله: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وذلك عام فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره، وأما استدلالهم بالحديث» فليأت الذي هو خير وذلك كفارته «فإن معناه تكفير الذنب. لا الكفارة المذكورة في الكتاب، وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله. فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحنث والتوبة، وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف» . وقال ابن العربي: عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون، هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح، ثم رجَّع إليه نفقته، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأن أبا بكر لم يكفّر حتى يتكلم بهذا الهزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الترجيح: ومن استعراض الأدلة يتبيّن لنا قوة رأي الجمهور في وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً وضعف رأي غيرهم والله أعلم. الحكم الرابع: هل تنعقد اليمين في الامتناع عن فعل الخير؟ تنعقد اليمين إذا حلف الإنسان أن يمتنع عن فعل الخير وتجب عليه الكفارة عند الجمهور كما أسلفنا، ولكنّ هذا النوع من الحلف غير جائز لما فيه من ترك الطاعة لله عَزَّ وَجَلَّ في قوله: {وافعلوا الخير} [الحج: 77] . قال الفخر الرازي: «في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير، لا صارفة عنه» . وقال الألوسي: «وظاهر هذا حمل النهي على التحريم، وقيل: هو للكراهة، وقيل: إن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقاً» . الحكم الخامس: هل يكفر من قذف إحدى أمهات المؤمنين؟ ذهب بعض العلماء إلى كفر من قذف إحدى نساء الرسول (أمهات المؤمنين) رضوان الله عليهن، وذلك لما ورد من الوعيد الشديد في حق قاذفهن كما قال تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} حتى ذهب ابن عباس إلى عدم قبول توبته. وحجة هؤلاء أن قذف أمهات المؤمنين، طعن في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجرح لكرامته ومن استباح الطعن في عرض الرسول فهو كافر مرتد عن الإسلام. قال العلامة الألوسي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عَزَّ وَجَلَّ ّ رتّب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، والذي ينبغي أن يعوِّلَ الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين، بعد نزول الآيات، وتبيّن أنهن طيبات، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم لم يستبح ولم يقصد، وأمّا من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقاً غير ظاهر. والظاهر أن يحكم بكفره إن كان مستبيحاً، أو قاصداً الطعن به عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كابن أُبيّ لعنه الله تعالى، فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسّان. ومِسطَح، وحمنة، فإنّ الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين، ولا قاصدين الطعن بسيّد المرسلين، وإنما قالوا ما قالوا تقليداً، فوبخوا على ذلك توبيخاً شديداً» . أقول: إنّ من استحلّ قذف إحدى المؤمنات كافر، فكيف بمن يستحل قف أمهات المؤمنين الطاهرات وعلى رأسهن الصدّيقة عائشة التي برأها القرآن الكريم، ونزلت براءتها من السماء؟ ولا شك أن الخوض في أمهات المؤمنين بعد نزول القرآن الكريم، تكذيب لله عَزَّ وَجَلَّ في إخباره، وطعن لرسول الله وإيذاء له في نسائه وهنّ العفيفات، الطاهرات، الشريفات، فيكون قاذفهن كافراً بلا تردد. والله تعالى يقول: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب: 57] . الحكم السادس: هل يجوز لعن الفاسق أو الكافر؟ دلّ قوله تعالى: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة} على جواز لعن الفاسق أو الكافر، وقد اتفق الفقهاء على جواز لعن من مات على الكفر كأبي جهل وأبي لهب، وعلى جواز التعميم باللعنة على الكفرة والفسقة والظالمين كقوله: لعنة الله على الظالمين، أو لعنة الله على الفاسقين، أو الكافرين ... أما إذا خصّص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 باللعنة إنساناً معيّناً فلا يجوز حتى ولو كان كافراً، لأن معنى اللعنة: الطرد من رحمة الله. والدعاء عليه بأن يموت على الكفر، ولا يجوز لمسلم أن يتمنى موت غيره على الكفر، لأن الرضى بكفر الكافر كفر، والمسلم يريد الخير للناس، ويتمنى أن يموتوا على الإيمان جميعاً. قال الألوسي: «واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين، تحقّق موته على الكفر، إن لم يتضمن إيذاء مسلم، أما إن تضمّن ذلك حرم، ومن الحرام لعن (أبي طالب) على القول بموته كافراً، بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه، ثمّ أن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمّن مصلحةً شرعية، وأما لعن كافر معيّن حي، فالمشهور أنه حرام، ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر، لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة، وسؤالُ ذلك كفر» . وقال العلامة ابن حجر: «ينبغي أن يقال: إن أراد بلعنة الدعاء عليه بتشديد الأمر، أو أطلق لم يكفر، وإن أراد سؤال بقائه على الكفر، أو الرضى ببقائه عليه كفر، فتدبر ذلك حق التدبر» . أقول: وردت نصوص في السنة المطهّرة تدل على جواز لعن الفاسق المعين، أو العاصي المشتهر الذي كثر ضرره، منها ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرّ بحمارٍ وُسِمَ في وجهه فقال: «لعن الله من فعل هذا» . ومنها ما صح أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال: «اللهم العن رَعْلاً، وذَكوان، وعُصيّة، عصَوا الله تعالى ورسوله» . ومنها حديث «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» . فيجوز لعن من اشتهر بالفسق والمعصية، وخاصة إذا كان ضرره بيناً أو أذاه واضحاً يتعدى إلى الناس، أو كان سيفاً للحجاج مسلطاً بالظلم والطغيان، كزبانية هذا الزمان، الذين يعتدون على عباد الله بدون حق، وقد أصبحنا في زمان لا يأمن فيه الإنسان على نفسه أو ماله وإنا لله وإنّا إليه راجعون، وقد حدّث المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى عن مثل هذا الصنف من الظلمة، وذلك من معجزات النبوة ففي الحديث الصحيح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس» . الحديث. فيجوز لعن مثل هؤلاء الظلمة، المستبيحين للحرمات. . والدعاء لهم بالصلاح أفضل من اللّعن ولكن هيهات أن ينفع الدعاء بالصلاح لأمثال (أبي جهل) و (أبي لهب) !! وقد قال (السراج البلقيني) بجواز لعن العاصي المعيّن، أو الفاسق المستهتر، وذلك ما دلت عليه النصوص النبوية الكريمة والله أعلم. الحكم السابع: هل يقطع لأمهات المؤمنين بدخول الجنة؟ اتفق العلماء على أن العشرة المبشرين بالجنة، الذين أخبر عنهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأحاديث الصحيحة، يقطع لهم بدخول الجنة، لأنّ خبر الرسول حق وهو بوحي من الله تعالى، وقد ألحق بعض العلماء أمهات المؤمنين بالعشرة المبشرين، بأن يقطع لهن بدخول الجنة، واستدلوا بقوله تعالى: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} بناءً على أن الآيات الكريمة نزلت في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عامة وفي شأن عائشة خاصة، والرزق الكريم الذي أشارت إليه الآية يراد منه الجنة بدليل قوله تعالى في مكان آخر {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] وهو استدلال حسن. قال الإمام الفخر: «بيّن الله تعالى أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأزواجه إذن لا يجوز أن يكنّ الاّ طيبات. ثمّ بيّن تعالى أنّ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ويحتمل أن يكون ذلك خبراً مقطوعاً به. فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هنّ معه في الجنة، وهذا يدل على أن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تصير إلى الجنّة، بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفّرونها بسبب حرب يوم الجمل، فإنهم يردّون بذلك نصّ القرآن الكريم» . وقال العلامة الألوسي: «وممّا يرد زعم الرافضة، القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل، قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله وجهه مع الحسن يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة: والله إني لأعلم أنها زوجة نبيّكم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الدنيا والآخرة. ولكن الله تعالى ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها» ؟ ثم قال: «ومما يقضي منه العجب ما رأيته في كتب بعض الشيعة. من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة. لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال للأمير كرّم الله وجهه:» قد أذنت لك أن تُخْرج بعد وفاتي من الزوجيّة من شئت من أزواجي «، فأخرجها من ذلك لما صدر منها معه ما صدر. ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى، وفي حسن معاملة الأمير إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر ما يكذب ذلك. ولو لم يكن في فضلها إلا ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:» إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام «لكفى ذلك، لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 قصة الإفك لم تسترح نفوس المنافقين من الكيد للإسلام، على المسلمين، حتى استهدفوا صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فرموه في أقدس شيء وأعزه، في عرضه المصون، وأهله الطاهرة البريئة، السيدة عائشة بن الصدّيق الأكبر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وقد حاولوا بذلك أن يوجهوا ضربة للإسلام في الصميم، في شخص نبيه الكريم، عن طريق الطعن في عرضه واتهام أهله بارتكابها فاحشة الزنى التي هي من أقبح الجرائم وأشنعها على الإطلاق، وكان الذي تولى كقر هذه التهمة النكراء، وأشاع ذلك الإفك المفتري المزعوم. رأس المنافقين (عبد الله بن أُبيّ بن سلول) لعنه الله، الذي ما فتئ يكيد للإسلام ولرسوله الكريم حتى أهلكه الله تعالى، وخلّص المسلمين من شره وبلائه. وقد أنزل الله تبارك وتعالى في شأن هذا المنافق قرآناً يُتلى، وآيات تسطّر، ليكون ذلك درساً وعبرة للأمة، لتعرف فيه خطر (النفاق والمنافقين) وضررهم على الأمة الإسلامية، فيأخذوا الحيطة والحذر. والقرآن الكريم يكشف لنا عن شناعة الجرم وبشاعته، وهو يتناول بيت النبوّة الطاهر، وعرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكرم إنسان على الله، وعرض صديقه الأول (أبي بكر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أكرم إنسان على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرض رجل من خيرة الصحابة (صفوان بن المعطل) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، يشهد له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه لم يعرف عليه إلا خيراً ... ذلك هو حديث الإفك الذي نزل فيه عشر آيات في كتاب الله تعالى، تبتدئ من قوله تعالى: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] وتنتهي بالبراءة التامة لبيت النبوة في قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون للخبيثات والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون للطيبات أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . هذا الحادث - حادث الإفك - قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق. وكلّف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وزرع في بعض النفوس الشك والريبة والقلق، وعلّق قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق، وقلب صفوان بن المعطل شهراً كاملاً. وجعلها في حالة من الألم الذي لا يطاق، حتى نزل القرآن ببراءة زوج الرسول، الطاهرة العفيفة الشريفة، وببراءة ذلك المؤمن المجاهد المناضل (صفوان) وإدانة أهل النفاق، وحزب الضلال وعلى رأسهم (عبد الله بن أبي بن سلول) بالتآمر على بيت النبوة، وترويج الدعايات المغرضة ضد صاحب الرسالة عليه السلام، واختلاق الإفك والبهتان ضد المحصنات الغافلات المؤمنات، في تلك الحادثة المفجعة الأليمة. ومن المؤسف أن يغترّ بهذه التهمة النكراء بعض المسلمين، وأن يتناقلها السذّج البسطاء منهم، وهم في غفلة عن مكائد المنافقين، ومؤامراتهم ومخططاتهم، الي يستهدفون بها الإسلام. وأن تروج أمثال هذه الفرية المكذوبة، فيقع في حبائل هذا الإفك والبهتان، أناس مؤمنون مشهورون بالتقى والصلاح. كأمثال (مسطح بن أثاثة) و (حسّان بن ثابت) و (حمنة بنت جحش) أخت السيدة زينب زوج الرسول الكريم، فلنترك المجال لأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، تروي لنا قصة هذا الألم، وتكشف عن سرّ هذه الآيات الكريمة التي نزلت بشأنها، وما افتراه عليها أهل الإفك والبهتان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 قصة الإفك كما في «الصحيحين» روى الإمام البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن الزهري عن عروة عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتُهنَّ خرج سهمها خرج بها معه. وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي. فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج وأُنْزَل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظِفَار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم. وإنما نأكل العُلْقَة من الطعام. فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه وكنت جارية حديثة السن. فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش. فجئت منزلهم وليس فيه أحد منهم. فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ. فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان (صفوان بن المعطل السُّلَمي) ثم الذكواني قد عرّس وراء الجيش فادّلج فأصبح عندي منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني - وكان يراني قبل الحجاب - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فاستيقطت باسترجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها فركبها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُعَرِّسين، قالت: فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبر الإثم (عبد الله بن أبيّ بن سلول) فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اللطف الذي كنت منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلّم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت. فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكُنُف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق - وابنها (مسطح بن أثاثة) حتى فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت يا هنتاه: ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبوي - وأنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 حينئذٍ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي، فأتيت أبويّ فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنيّة: هوّني على نفسك الشأن، فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة، عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرفأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي. . فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - حين استلبث الوحي يستبشرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم من الودّ لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله: لم يضيّق الله عليك، والنساءُ سواها كثير، وسل الجارية تخبرك، قالت: فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بريرة فقال لها: أي بريرة: هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبياً، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من يومه واستعذر من (عبد الله بن أبي بن سلول) فقال وهو على المنبر: من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ... ولقد ذكروا لي رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي. قالت: فقام (سعد بن معاذ) فقال يا رسول الله أنا والله أعذرك منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك { فقام (سعد بن عبادة) وهو سيّد الخزرج - وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ: كذبتَ لعمرُ الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام (أُسَيْد بن خُضَيْر) وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل في المنافقين. فثال الحيّان (الأوس) و (الخزرج) حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوماً حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها. فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم جلس - ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء - فتشهّد حين جلس ثم قال: «أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» . فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما قال} ! قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 والله ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما قال!! قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله. قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدّث الناس به، واستقرَّ في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ، واللَّهُ يعلم أني منه بريئة لتصدقُنَّني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ أبا يوسف إذ قال {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ كلاماً يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، فسرّي عنه وهو يضحك ... فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: «يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك» . فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاحمديه - فقلت: والله لا أقوم إليه. ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ... } [النور: 11] الآيات العشر. فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي. قال أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة فأنزل الله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة. . .} إلى قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: بل والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. قالت عائشة: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: «يا زينب ما علمت وما رأيت» «؟ فقالت يا رسول الله: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعصمها الله تعالى بالورع. قالت: فطفقت أختها (حمنة) تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك» . قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط. «رواه البخاري ومسلم» وهكذا يظهر لنا خطر النفاق والمنافقين، وتآمرهم على الإسلام، وكيدهم لصاحب الرسالة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، حيث استهدفوا عرضه وكرامته، وأرادوا أن يلوّثوا سمعته الطاهرة، بالطعن في عفاف زوجه الصدّيقة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ... ولكنّ الله جلّ ثناؤه كشف خبثهم وتآمرهم، وبرّأ أم المؤمنين من ذلك البهتان العظيم، وجعل ذلك درساً للأجيال وعبرة لأولي البصائر، وعنوان مجد وفخار لزوجاته الطاهرات، ودليل طهر ونزاهة لبيت النبوة الكريم {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - وصفُ المرء بالتقى والصلاح جائز إذا لم يدع ذلك إلى العُجب والخيلاء. 2 - إذا حلف الإنسان على ترك فعل الخير فليكفّر عن يمينه وليفعل الخير. 3 - الصفح والعفو عمن أساء من مظاهر الكمال ودلائل الإيمان. 4 - قذف العفائف المحصنات من الكبائر التي توجب سخط الله وغضبه. 5 - الجوارح والحواس تشهد على الإنسان يوم القيامة بما عمل في الدنيا. 6 - الجزاء العادل يلقاه المرء يوم القيامة على ما اقترف من سيِّئ الأعمال. 7 - اتهام زوجات الرسول الطاهرات إيذاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعدوان على الدين نفسه. 8 - براءة أم المؤمنين السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مما نسب إليها أهل الإفك والبهتان. 9 - بيت النبوة بيت الطهر والعفة فلا يتصور أن تخرج منه رائحة الخنا أو الفجور. 10 - السُنّة الإلهية قضت بالامتزاج الروحي فالنساء الخبيثات للرجال الخبيثين والعكس بالعكس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 [5] آداب الاستئذان والزيارة التحليل اللفظي {تَسْتَأْنِسُواْ} : أي تستأذنوا، قال الزجاج: (تستأنسوا) في اللغة بمعنى تستأذنوا وكذلك هو في التفسير كما نقل عن ابن عباس. وأصل الاستئناس: طلب الأنس بالشيء وهو سكون النفس، واطمئنان القلب وزوال الوحشة قال الشاعر: عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وقال بعضهم: الاستئناس هو الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً. ومنه قوله تعالى: {إني آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] أي أبصرت ناراً. ومعنى الآية: حتى تستعلموا أيريد أهلها أن تدخلوا أم لا؟ قال الزمخشري: هو من (الاستئناس) ضد الاستيحاش. لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش فإذا أذن له يستأنس. قال الطبري: والصواب عندي أن (الاستئناس) استفعال من الأنس وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، ويؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم ويأنسوا إلى استئذانه. {على أَهْلِهَا} : المراد بالأهل السكان الذين يقيمون في الدار سواء كانت سكناهم بالملك، أو بالإجارة، وبالإعارة، وقد دل على هذا معنى قوله تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} قال الألوسي: والمراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها. لأنه كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فلا حاجة إلى القول بأن ذلك خارج مخرج العادة. {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} : الإشارة راجعة إلى الاستئذان والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : أي كي تتعظوا وتتذكروا وتعملوا بموجب تلك الآداب الرفيعة وهي مضارع حذف منه إحدى التاءين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 {أزكى لَكُمْ} : أي أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والعناد والوقوف على الأبواب فالرجوع في مثل هذه الحال أشرف وأطهر للإنسان العاقل. {جُنَاحٌ} : أي إثم وحرج قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] . {غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} : المراد البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تخص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات فهذه وأمثالها لا حرج في دخولها بغير إذن. {متاع لَّكُمْ} : المتاع في اللغة يطلق على (المنفعة) أي فيها منفعة لكم كالاستظلال من الحر وحفظ الرحال والسّلع والاستحمام وغيره. ويطلق ويراد منه (الغرض والحاجة) أي فيها لكم غرض من الأغراض، أو حاجة من الحاجات. المعنى الإجمالي يؤدب المولى تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالآداب الجليلة، ويدعوهم إلى التخلق بكل أدب رفيع فيامرهم بالاستئذان عند إرادة الدخول إلى بيوت الناس، وبالتلطف عند طلب الاستئذان، وبالسلام على أهل المنزل لأن ذلك مما يدعو إلى المحبة والوئام، وينهاهم عن الدخول بغير إذن لئلا تقع أعينهم على ما يسوءهم فيطلعوا على عورات الناس أو تقع على مكروه لا يحبه أهل المنزل، فإن في الاستئذان والسلام ما يدفع خطر الريبة أو القصد السيِّئ ويجعل الزائر محترماً مكرماً مستأنساً به. وإذا لم يؤذن له فعليه بالرجوع فذلك خير له من الوقوف على الأبواب أو الإثقال على أهل المنزل فقد يكون أهل البيت في شغل شاغل عن استقبال أحد من الزائرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وإذا لم يكن في البيوت أحد فلا يجوز الدخول أو الاقتحام لأن البيوت حرمة، ولا يحل دخولها إلا بإذن أربابها، وربما كان أهل البيت لا يرغبون أن يطلع أحد على ما عندهم في المنزل من مال أو متاع وربما أدى الدخول إلى فقدان شيء أو ضياعة ووقعت التهمة على ذلك الإنسان. أما البيوت التي ليس بها ساكن، أو التي فيها للإنسان منفعة أو مصلحة فلا مانع من دخولها بغير إذن. ذلك هو أدب الإسلام وتربيته الحميدة الرشيدة التي أدّب بها المؤمنين. وجه الارتباط بين الآيات الكريمة الآيات التي تقدمت في صدر السورة كانت في بيان (حكم الزنى) وبيان ضرره وخطره. وبيان أنه قبيح ومحرم وأنَّ مرتكبه يستحق العذاب والنكال. ولما كان الزنى طريقُه النظر، والخلوة، والاطلاع على العورات ... وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مَظِنَّة حصول ذلك كله، أرشد الله عَزَّ وَجَلَّ عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل، والخطر الجسيم، الذي يقضي على أواصر المجتمع، ويدمر الأسر، ويشيع الفحشاء بين الناس. وقد تحدثت الآيات السابقة عن (حادثة الإفك) التي اتهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها تلك المرأة العفيفة الطاهرة التي برّأها القرآن مما نسبها إليه أهل النفاق والبهتان، ولم يكن لأصحاب الإفك متكأ في رميها إلا أنها بقيت مع صفوان فيما يشبه الخلوة، لذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء الأطهار، ويكون المجتمع في منجاة عن ذلك الشر الخطير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 سبب النزول أ - روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت يا رسول الله: إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولا والد ولا ولد فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع؟ فنزلت الآية الكريمة {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ... } الآية. ب - وروى ابن حاتم عن (مقاتل) أنه لما نزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ ... } إلخ قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يا رسول الله: فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة، والمدينة، والشام، وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلِّمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ. . .} الآية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: تصدير الخطاب بلفظ (الإيمان) مشعر بعلو مكانة المؤمن عند الله فالمؤمن أهل للتكليف والخطاب، والكافر كالدابة والحيوان ليس بأهل للتكريم أو الخطاب وصدق الله {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وهذا هو السر في نداء المؤمنين بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} . اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} خارج مخرج العادة إذْ الأصل في الأصل أن يسكن في بيته الذي هو ملكه، والتنكير في قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 {بُيُوتاً} يفيد العموم والشمول. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} فيه معنى دقيق، فليس المراد من اللفظ مجرد الإذن وإنما المراد معرفة أنس أهل البيت بدخول الزائر عليهم هل هم راضون بدخوله أم لا؟ قال العلامة المودودي: (وقد يخطئ الناس إذ يجعلون كلمة (الاستئناس) بمعنى الاستئذا فقط مع أن الكلمتين بينهما فرق لطيف لا ينبغي أن ينصرف عنه النظر، فكلمة (الاستئناس) أعم وأشمل من كلمة (الاستئذان) كما لا يخفى بأدنى تأمل والمعنى: حتى تعرفوا أنس أهل البيت بدخولكم عليهم) . اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} هذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق، فربما كان في البيت صاحبه ولم يردّ على الزائر، أو لم يأذن له فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحداً، ولو قال (فإن لم يكن فيها أحد) لما كان هذا المنزع اللطيف، والسر الدقيق، والحاصل أن الآية تنهى عن الدخول في حالتين: أ - في حالة الاعتذار الضمني {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً} وهي إشارة إلى عدم الإذن. ب - في حالة الاعتذار الصريح {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} وهي تصريح بعدم الإذن صريح. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى {فارجعوا} قال العلامة ابن كثير: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها ... أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: إرجعْ، فأرجع وأنا مغتبط لقوله تعالى: {وَإِن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ} . اللطيفة السادسة: قال الزمخشري: فإذا نُهي الزائر عن الإلحاح لأنه يؤدي إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيه وعيد شديد لأهل الريبة والنوايا الخبيثة الذين لا يقصدون إلا التطلع على عورات الناس أو غيرها من الأغراض السيئة. حكمة التشريع يقول شهيد الإسلام سيد قطب تغمده الله برحمته في تفسيره «ظلال القرآن» ما نصه: (لقد جعل الله البيوت سكنا، يفيء إليها الناس فتسْكن أرواحهم، وتطمئن نفوسهم، ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب) . والبيوتُ لا تكون كذلك إلا حين تكون حَرَماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس، ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان يجعل أعينهم تقع على عورات، وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات، وتهيئ الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات العابرة، والنظرات الطائرة، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقطتها اللقاءات الأولى على غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قصد ولا انتظار، وتحولها إلى علاقات آثمة، أو إلى شهوات محرمة، تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات. ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً فيدخل الزائر البيت وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد، وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل، وكان ذلك يؤذي ويجرح، ويَحرِم البيوت أمنَها وسكينتها، كما يعرّض النفوس من هنا وهناك للفتنة حين تقع العين على ما تثيره. من أجل هذا أو ذاك أدَّب الله المسلمين بهذا الأدب العالي «أدب الاستئذان» على البيوت والسلام على أهلها لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم - قبل الدخول - وعبر عن الاستئذان ب (الاستئناس) وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به. واستعداداً لاستقباله، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل السلام قبل الاستئذان أم بعده؟ ظاهر الآية الكريمة يدل على تقديم الاستئذان على السلام، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء، وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان حتى قال النووي: الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان لحديث «السلام قبل الكلام» . أ - استدل الجمهور بما روي أن رجلاً من بني عامر استأذن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وهو في البيت فقال: أألج؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: السلام عليكم أأدخل؟ ب - واستدلوا بحديث أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلِّم قال: لا يؤذن له حتى يسلِّم. . ج - واستدلوا بما روي عن (زيد بن أسلم) قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فجئت فقلت: أألج؟ فقال: ادخل فلما دخلت قال مرحباً يا ابن أخي، لا تقل أألج، ولكن قل: السلام عليكم، فإذا قيل: وعليك فقل أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل فادخل. د - واستدلوا بما روي أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه استأذن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم، أيدخل عمر؟ . وفصَّل بعض العلماء المسألة فقال: إن كان القادم يرى أحداً من أهل البيت سلّم أولاً ثم استأذن في الدخول، وإن كانت عينه لا ترى أحداً قدذم الاستئذان على السلام، وهذا اختيار (الماوردي) وهو قول جيد وفيه جمع بين الأدلة كما نبه عليه (الألوسي) . ولا يشترط أن يكون الإذن صريحاً بلفظ (أألج أو أأدخل) بل يجوز بكل لفظ يشير إلى الاستئذان كالتسبيح، والتكبير، أو التنحنح فقد روى الطبراني عن أبي أيوب أنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت قول الله {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة، وتكبيرةٍ، وتحميدةٍ، ويتنحنح فيؤذن أهل البيت. أقول: ومثل هذا في عصرنا أن يطرق الباب أو يقرع الجرس فهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 نوع من الاستئذان مشروع لأن الدور في عصر الصحابة لم يكن لها هذه الستور والأبواب فيكفي للقادم أن يقرع الجرس ليدل على طلبه الاستئذان والله أعلم. الحكم الثاني: كم عدد الاستئذان؟ لم توضح الآية الكريمة عدد الاستئذان، وظاهرها يدل على أن من استأذن مرة فأجيب دخل، وإلاّ رجع. ولكنّ السنة النبوية قد بيَّنت أن الاستئذان يكون ثلاثاً، لما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: (الاستئذان ثلاث: بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردون) . ومما يدل على أن الاستئذان يكون ثلاثاً قصة (أبي موسى الأشعري) مع عمر بن الخطاب وتفصيل القصة كما رواها البخاري ومسلم في «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: (كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبي موسى فزعاً، فقلنا له ما أفزعك؟ فقال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي وقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» فقال: لتأتينِّي على هذه البينة أو لأعاقبنك، فقال (أُبيُّ بن كعب) لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال أبو سعيد: وكنتُ أصغرَهم فقمتُ معه، فأخبرت عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ذلك) . وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى: إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأردت أن أثبت. والراجح أن إكمال العدد (ثلاثاً) إنما هو حق المستأذن، وأما الواجب فإنما هو مرة وذكر (أبو حيان) أنه لا يزيد على الثلاث، إلا إن تحقَّق أن من في البيت لم يسمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الحكم الثالث: ما الحكمة في إيجاب الاستئذان؟ الحكمة هي التي نبه الله تعالى عليها في قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} فدل بذلك على أن الذي حرم من أجله الدخول هو كون البيوت مسكونة، إذ لا يأمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يرى عورات الناس، وما لا يحل النظر إليه، وربما كان الرجل مع امرأته في فراش واحد، فيقع نظره عليهما، وهذا بلا شك يتنافى مع الآداب الإجتماعية التي أرشد إليها الإسلام. الحكم الرابع: هل يستأذن على المحارم؟ ومن الآداب السامية أن يستأذن الإنسان على المحارم لما روي أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غير أفأستأذن عليها كما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عُريانة؟ قال الرجل: لا، قال فاستأذن عليها. قال الفخر الرازي: واعلم أن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز، إلا أنه أيسر، لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء، والتحقيق فيه أن المنع من الهجوم على الغير إن كان لأجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف الأعضاء فهذا دخل فيه الكل إلا (الزوجات) و (ملك اليمين) . وإن كان لأجل أنه ربما كان مشتغلاً بأمر يكره اطلاع الغير عليه وجب أن يعمّ في الكل، حتى لا يكون له أن يدخل إلاّ بإذن. الحكم الخامس: هل الاستئذان والسلام واجبان على الداخل؟ ظاهر الآية الكريمة أنه لا بد قبل الدخول من (الاستئذان والسلام) معاً، وعليه جمهور الفقهاء غير أنهما ليسا بمرتبة واحدة، فالاستئذان واجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 والسلام مستحب، وذلك لأن الاستئذان من أجل البصر لئلا يقع نظره على عورات الناس، وقد جاء في الحديث الشريف «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» فكان واجباً. وأما السلام فهو من أجل المحبة والمودة كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم» فكان ذلك مندوباً، وقد أرشد إليه القرآن الكريم في مواطن عديدة فقال جل ثناؤه {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ... } [النور: 61] الآية. الحكم السادس: كيف يقف الزائر على الباب؟ من الآداب الشرعية في الاستئذان، ألا يستقبل الزائر الباب بوجهه، بل يجعله عن يمينه أو شماله، فقد صح أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور. وروي عن (سعيد بن عبادة) قال: جئت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في بيته فقمت مقابل الباب فاستأذنت فأشار إلي أن تباعد، وقال: هل الاستئذان إلا من أجل النظر؟ وهذا الأدب ينبغي أن يلتزم به المسلم في عصرنا هذا فإن الدور ولو كانت مغلقة الأبواب فإن الطارق إذا استقبلها فإنه قد يقع نظره عند فتح الباب على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه. الحكم السابع: هل يجب الاستئذان على النساء أو العميان؟ ظاهر الآية الكريمة يدل على أنه يجب الاستئذان على كل طارق سواء كان رجلاً أو امرأة، مبصراً أو أعمى، وبهذا قال جمهور العلماء وحجتهم في ذلك أن من العورات ما يدرك بالسمع ففي دخول الأعمى على أهل بيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 بغير إذنهم ما يؤذيهم فقد يستمع الداخل إلى ما يجري من الحديث بين الرجل وزوجته فأما قوله عليه السلام: «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» فذلك محمول على الغالب، ولا يقصد منه الحصر. قال الزمخشري في «الكشاف» : (إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطَّلع المرء على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط) . والحكمة التي شرع من أجلها الاستئذان متحققة في الرجال والنساء معاً ولهذا قال العلماء أن التعبير باسم الموصول {ياأيها الذين} فيه تغليب الرجال على النساء كما هو المعهود في الأوامر والنواهي القرآنية المبدوءة بمثل هذا النداء، أو المراد بالخطاب الوصف ويكون معنى الآية: (يا من اتصفتم بالإيمان) فيدخل فيه الرجال والنساء على السواء. ومما يدل على أن المرأة تستأذن كما تستأذن الرجل ما روي عن (أم إياس) قالت: «كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقلت: ندخل؟ فقالت: لا، فقالت واحدة: السلام عليكم؟ قالت: ادخلوا، ثم قالت {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} . . الآية. فدل هذا على أن المرأة تستأذن كما يستأذن الرجل. الحكم الثامن: ما هي الحالات التي يباح فيها الدخول بدون إذن؟ ظاهر الآية يدل على النهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع الأزمان والأحوال ولكن يستثنى منه الحالات التي تقضي بها الضرورة وهي حالات اضطرارية تبيح الدخول بغير إذن وذلك إذا عَرَض أمر في دار من حريق، أو هجوم سارق، أو ظهور منكر فاحش، فإنَّ لمن يعلم ذلك أن يدخلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 بغير إذن أصحابها كما نبه على ذلك الفخر الرازي في تفسيره الشهير. الحكم التاسع: هل يجب الاستئذان على الطفل الصغير؟ أحكام الاستئذان خاصة بالبالغين من الرجال والنساء، وأما الأطفال فإنهم غير مكلفين بهذه التكاليف الشرعية، وليس هناك محظور يخشى من جانبهم لأنهم لا يدركون أمور العورة، ولا يعرفون العلاقات الجنسية فيجوز لهم الدخول بدون إذن إلا إذا بلغوا مبلغ الرجال لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59] . وهناك أوقات ثلاثة يجب على الأطفال الاستئذان فيها وهي: (وقت الفجر) ، و (وقت الظهيرة) ، و (وقت العشاء) كما سيأتي إن شاء الله. الحكم العاشر: لو اطلع إنسان على دار غيره بغير إذنه فما الحكم؟ اختلف الفقهاء في مسألة هامة تتعلق بالنظر وهي: إذا رأى أهل الدار أحداً يطلع عليهم من ثقب الباب فطعن أحدهم عينه فقلعها، فهل يجب القصاص؟ وما الحكم؟ 1 - ذهب الإمامان (الشافعي وأحمد) إلى أنه لو فقئت عينه فهي هدر ولا قصاص. 2 - وذهب مالك وأبو حنيفة إلى القول بأنها جناية يجب فيها الأرش أو القصاص. دليل الشافعية والحنابلة: أ - حديث أبي هريرة (من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 ب - حديث سهل بن سعد قال: (اطَّلع رجل في حُجْرة من حجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومع النبي مِدْرَى (آلة رفيعة من الحديد) يحك بها رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر) . دليل المالكية والأحناف: أ - عموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين ... } [المائدة: 45] فمن أقدم على هذا النحو كان جانباً، وعليه القصاص، إن كان عامداً، والأرش إن كان مخطئاً. ب - واستدلوا بإجماع العلماء على أن من دخل داراً بغير إذن أهلها فاعتدى عليه بعض أهلها بقلع عينه فإن ذلك يعتبر جناية تستوجب القصاص. قالوا: فإذا كان دخول الدار واقتحامها على أهلها مع النظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين ذلك الداخل، فلا يكون النظر وحده من ثقب الباب مبيحاً لقلع عينه من باب أولى. ج - وتأولوا الحديث الذي استدل به (الشافعية والحنابلة) على أنّ من اطَّلع في دار قوم ونظر إلى حُرَمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع وقاوم وقاتل فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر، لأنه ظالم معتد في هذه الحالة. قال أبو بكر الرازي: «والفقهاء على خلاف ظاهر الحديث وهذا من أحاديث أبي هريرة التي تُرَدّ لمخالفتها الأصول مثل ما روي أن ابن الزنى لا يدخل الجنة، ومن غسّل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ. . ثم قال: ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً وعليه القصاص ... إلخ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 قال الفخر الرازي من فقهاء الشافعية وصاحب التفسر المسمى «التفسير الكبير» : «واعلم أن التمسك بقوله تعالى: {والعين بالعين} [المائدة: 45] في هذه المسالة ضعيف. وأما قوله: إنه لو دخل لم يجز فقأ عينه فكذا إذا نظر. قلنا: الفرق بين الأمرين ظاهر، لأنه إذا دخل علم القوم دخوله عليهم فاحترزوا عنه وتستَّروا، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطَّلع على ما لا يجوز الاطلاع عليه، فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسماً لباب هذه المفسدة» . أقول: ولعلّ ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح، لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - وجوب الاستئذان عند دخول ببيت الغير. ثانياً - حرمة الدخول إذا لم يكن في البيت أحد. ثالثاً - وجوب الرجوع إذا لم يؤذن للداخل. رابعاً - السلام مشروع للزائر لأنه من شعائر الإسلام. خامساً - لا يجوز لإنسان أن يطلع على عورات الناس. سادساً - البيوت إذا لم تكن مسكونة فلا حرج من دخولها. سابعاً: على المسلم أن يرعى حرمة أخيه المسلم فلا يؤذيه في نفسه أو ماله. ثامناً - في هذه الآداب التي شرعها الله طهارة للمجتمع والأفراد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 [6] آيات الحجاب والنظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 التحليل اللفظي {يَغُضُّواْ} : غضّ بصره بمعنى خفضه ونكّسه قال جرير: فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا وأصل الغض: إطباق الجفن على الجفن بحيث تمنع الرؤية، والمراد به في الآية: كف النظر عما لا يحل إليه بخفضه إلى الأرض، أو بصرفه إلى جهة أخرى وعدم النظر بملء العين، قال عنترة: وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} : قال بعض المفسرين: المراد سترها من النظر إليها أي النظر إلى العورات. . وقال آخرون: المراد حفظها من الزنى، والصحيح ما ذكره القرطبي أن الجميع مراد لأن اللفظ عام، فيطلب سترها عن الأبصار، وحفظها من الزنى، قال تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5 - 6] وفي الحديث: «إحفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: إن استطعت ألاّ يراها فافعل: قلت: فالرجل يكون خالياً؟ فقال: والله أحق أن يستحيا منه» . {أزكى لَهُمْ} : أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم، مأخوذ من الزكاة بمعنى الطهارة والنقاء النفسي، قال تعالى: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} [فاطر: 18] وفي الحديث: «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 {خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} : الخبرة العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء، ويكشف دخائلها فالله خبير بما يصنعون، عليم علماً تاماً بظواهر الأعمال وبواطنها لا تخفى عليه خافية وهو وعيد شديد لمن يخالف أمر الله أو يعصيه في ارتكاب المحرمات. {زِينَتَهُنَّ} : الزينة: ما تتزين به المرأة عادة من الثياب والحليّ وغيرها مما يعبر عنه في زماننا بلفظ (التجميل) : قال الشاعر: يأخذ زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عَطِلْنَ فهنّ خير عواطل قال العلامة القرطبي: الزينة على قسمين: خلقية، ومكتسبة ... فالخلقية: وجهُهَا فإنه أصل الزينة وجمال الخِلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع، وأما الزينة المكتسبة: فهي ما تحاول المرأة في تحسين خلقتها كالثياب، والحلي، والكحل، والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] . {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : قال بعضهم: المراد بقوله {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ما دعت الحاجة إلى ظهوره كالثياب والخضاب والكحل والخاتم مما لا يمكن إخفاؤه وقيل: بل المراد ما ظهر منها بدون قصد ولا تعمد، وقيل: المراد به الوجه والكفان وسنبين ذلك بالتفصيل عند ذكر الأحكام. {بِخُمُرِهِنَّ} : قال ابن كثير: الخمُرُ: جمع خمار، وهو ما يخمّر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس (المقانع) وفي «لسان العرب» : الخمر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وكل مغطى مخمّر ومنه حديث (خمّروا آنيتكم) أي غطوها وخمّرت المرأة رأسها غطته. ويسمَّى الخمار (النصيف) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 قال الشاعر: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد ويجمع الخمار على (خُمُر) جمع كثرة مثل: كتاب، وكُتُب قال الشاعر: «كرؤوس قطعت فيها الخُمُر» ... ويجمع على أخمرة جمع قلة أفاده (أبو حيان) . {جُيُوبِهِنَّ} : يعني النحور والصدور، فالمراد بضرب النساء بخمرهن على جيوبهن أن يغطين رؤوسهنَّ وأعناقهنَّ وصدورهن بكل ما فيها من زينة وحلي. والجيوب جمع (جيب) وهو الصدر وأصله الفتحة التي تكون في طوق القميص، قال القرطبي: والجيب هو موضع القطع من الدرع والقميص وهو من (الجَوْب) بمعنى القطع وقد ترجم البخاري رَحِمَهُ اللَّهُ (باب جيب القميص من عند الصدر وغيره) . قال الألوسي: وأما إطلاق الجيب على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره (ابن تيمية) ولكنه ليس بخطأ بحسب المعنى، والمراد بالآية كما رواه (ابن أبي حاتم) : أمرهن الله بستر نحورهن وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء. {بُعُولَتِهِنَّ} : قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن. والبعولة جمع بعل بمعنى الزوج، قال تعالى: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] . وفي القرطبي: البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث جبريل: «إذا ولدت الأمة بعلها» يعني سيدها إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 {مَلَكَتْ أيمانهن} : يعني الإماء والجواري، وقال بعضهم المراد: العبيد والإماء ذكوراً وإناثاً وروي عن (سعيد بن المسيب) أنه قال: لا تغرنكم هذه الآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} إنما عنى بها (الإماء) ولم يعن بها (العبيد) وهو الصحيح. {الإربة} : الحاجة، والأرَبُ، والإرْبةُ والإربُ ومعناه الحاجة والجمع مآرب قال تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وقال طرفة: إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا ... تقدَّم يوماً ثمَّ ضاعت مآربه والمراد بقوله تعالى: {غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} أي غير أولي الميل والشهوة أو الحاجة إلى النساء كالبُلْه والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً. {الطفل} : الصغير الذي لم يبلغ الحلم قال الشاعر: والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطهم قال الراغب: كلمة طفل تقع على الجمع كما تقع على المفرد كما تقع على المفرد فهي مثل كلمة (ضيف) والدليل أن المراد به الجمع {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} حيث جاء بواو الجماعة. {لَمْ يَظْهَرُواْ} : أي لم يطَّلعوا يقال: ظهر على الشيء أي اطَّلع عليه ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف: 20] ومعنى الآية أن الأطفال الذين لا يعرفون الشهوة ولا يدركون معاني الجنس لصغرهم لا حرج من إبداء الزينة أمامهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 المعنى الإجمالي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويكفوها عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، ولا ينظروا إلا إلى ما أبيح لهم النظر إليه، وأن يحفظوا فروجهم عن الزنى ويستروا عوراتهم حتى لا يراها أحد، فإن ذلك أطهر لقلوبهم من دنس الريبة، وأنقى لها وأحفظ من الوقوع في الفجور، فالنظرة تزرع في القلب الشهوة، ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً، فإن وقع البصر على شيء من المحرمات من غير قصد، فليصرفوا أبصارهم عنه سريعاً ولا يديموا النظر، ولا يرددوه إلى النساء، ولا ينظروا بملء أعينهم فإن الله رقيب عليهم مطلع على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19] . ثم أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وزادهنّ في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فإن ذلك أولى بهن وأجمل إلا إذا ظهرت هذه الزينة بدون قصد ولا نية سيئة فلا إثم عليهن فالله غفور رحيم. وقد كانت المرأة في الجاهلية كما هي اليوم - في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى صدورُهنّ مكشوفة عارية فأمرت المؤمنات بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار، وأمرن بألاّ يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض. ثم ختم تعالى تلك الأوامر والنواهي بالأمر (للرجال والنساء) جميعاً بالإنابة والرجوع إلى الله لينالوا درجة السعداء، ويكونوا عند الله من الفائزين الأبرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 سبب النزول أولاً: أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: مر رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط (صُدم به) فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأعلمه أمري؟ فأتاه فقصّ عليه قصته، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (هذا عقوبة ذنبك) وأنزل الله: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... } الآية. ثانياً: وروى ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ، عن مقاتل بن حيان، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير مؤتزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخل، ويبدوا صدروهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا؟ فأنزل الله في ذلك {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... } الآية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: السر في تقديم غض البصر على حفظ الفروج هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور وهو مقدمة للوقوع في المخاطر كما قال الحماسي: وكنتَ إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر ولأنّ البلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه وهو الباب الأكبر الذي يوصل إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته. ولله در شوقي: نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء وقد قال أحد الأدباء: وما الحب إلا نظرة إثر نظرةٍ ... تزيد نمواً إن تزده لَجَاجا اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} المراد غض البصر عما حرم الله، لا غضّ البصر عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاء بفهم المخاطبين وهو من باب (الإيجاز بالحذف) . اللطيفة الثالثة: قال العلامة الزمخشري: فإن قلت كيف دخلت (من) التي هي للتبعيض في (غضّ البصر) دون (حفظ الفرج) ؟ قلت: لأن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثُديِّهن، وأما أمر الفرج فمضيّق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني فيه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {أزكى لَهُمْ} أفعل التفضيل هنا ليس على بابه وإنما هو (للمبالغة) أي أن غض البصر وحفظ الفرج طهرة للمؤمن من دنس الرذائل أو نقول (المفاضلة) على سبيل الفرض والتقدير. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المراد بالزينة مواقعها من باب (اطلاق اسم الحال على المحل) كقوله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] المراد بها الجنة لأنها مكان الرحمة وإذا نهي عن إبداء الزينة فالنهي عن إبداء أماكنها من الجسم يكون من باب أولى. قال الزمخشري: وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر فإنه ما نهى عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع فكان إبداء المواقع نفسها متمكناً في الحظر ثابت القدم في الحرمة. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} في لفظ الضرب (مبالغة) في الصيانة والتستر وقد عدى اللفظ ب (على) لأنه ضُمِّن معنى الإلقاء ويكون المراد أن تسدل وتلقي بالخمار على صدرها لئلا يبدوا شيء من النحر والصدر. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} قال أبو السعود: مفعول الأمر أمر آخر قد حذف تعويلاً على دلالة جوابه عليه أي قل لهم غضوا يغضوا من أبصارهم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن المؤمن يسارع إلى تنفيذ أمر الله فهو لا يحتاج إلا إلى تذكير. اللطيفة الثامنة: قال بعض العلماء: كما يكون التلذُّذ بالنظر يكون بالسمع أيضاً وقد قيل (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) وهذا هو السر في نهي المرأة عن الضرب برجلها على الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك شهوة الرجال. وقد دل على أن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ في الزجر. وعلى أن كل ما يحرك الشهوة أو يثيرها منهي عنه، كالتعطر، والتطيب، والتبختر في المشية. والتلاين في الكلام {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] وقيل: إذا نهي عن استماع صوت حليهن، فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى. وهو استدلال لطيف. اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {وتوبوا إِلَى الله} هو من باب (الالتفات) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وتلوين الخطاب فقد كان الكلام في صدر الآية موجهاً للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم صرف عن الرسول إلى الجميع بطريق (الالتفات) . اللطيفة العاشرة: قال الإمام (ابن القيم) رَحِمَهُ اللَّهُ: في غض البصر فوائد عديدة أحدها: امتثال أمر الله الذي هو غاية السعادة. ثانيها: أنه يمنع وصول أثر السهم لمسموم. ثالثها: أنه يقوي القلب ويفرحه. رابعها: أنه يورث في القلب أنساً في الله واجتماعاً عليه. خامسها: أنه يكسب القلب نوراً. سادسها: أنه يورث الفراسة الصادقة. سابعها: أنه يسد على الشيطان مداخله ثامنها: أنَّ بين العين والقلب منفذاً يوجب انفعال أحدهما بالآخر. وقد أحسن من قال: قالوا: جُننتَ بمن تهوى فقلت لهم ... العشقُ أعظم ممَّا بالمجانين العشق لا يستفيق الدهرّ صاحبه ... وإنّما يُصرع المجنون في الحين الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو حكم النظر إلى الأجنبيات؟ حَرَّمت الشريعة الإسلامية النظر إلى الأجنبيات فلا يحل لرجل أن ينظر إلى امرأة غير زوجته أو محارمه من النساء. أما نظرة الفجأة فلا إثم فيها ولا مؤاخذة لأنها خارجة عن إرادة الإنسان، فلم يكلفنا الله جل ثناؤه ما لا نطيق ولم يأمرنا أن نعصب أعيننا إذا مشينا في الطريق، فالنظرة إذا لم تكن بقصد لا مؤاخذة فيها وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية» وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. والنظرة المفاجئة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 إنما تكون في أول وهلة ولا يحل لأحد إذا نظر إلى امرأة نظرة مفاجئة وأحس منها اللذة والاجتلاب أن يعود إلى النظرة مرة ثانية فإنْ ذلك مدعاة إلى الفتنة وطريق الفاحشة وقد عبر عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بزنى العين؛ فقد ورد في «الصحيحين» : «كُتِبَ على ابن آدم حظُه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنيين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين الخُطى، والنفس تمَنَّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه» . والمؤمن يؤجر على غض البصر لأنه كف عن المحارم وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها» . وعدَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من حقوق الطريق ففي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا يا رسول الله: ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، قال: غضُّ البصر، وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» . الحكم الثاني: ما هو حد العورة بالنسبة للرجل والمرأة؟ أشارة الآية الكريمة {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} إلى وجوب ستر العورة فإن حفظ الفرج كما يشمل حفظه عن الزنى، يشمل ستره عن النظر، يشمل ستره عن النظر، كما بيناه فيما سبق وقد اتفق الفقهاء على حرمة كشف العورة ولكنهم اختلفوا في حدودها وسنوضح ذلك بالتفصيل إن شاء الله مع أدلة كل فريق فنقول ومن الله نستمد العون: 1 - عورة الرجل مع الرجل. 2 - عورة المرأة مع المرأة. 3 - عورة الرجل مع المرأة وبالعكس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 أما عورة الرجل مع الرجل: فهي من (السرة إلى الركبة) فلا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل فيما بين السرة والركبة وما عدا ذلك فيجوز له النظر إليه. وقد قال النبي «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة» . وجمهور الفقهاء على أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة كما صحّ في الأحاديث الكثيرة، وقال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: الفخذ ليس بعورة: ومما يدل لقول الجمهور ما روي عن (جرهد الأسلمي) وهو من أصحاب الصفة أنه قال: «جلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندنا وفخذي منكشفة فقال: أما علمت أن الفخذ عورة» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لا تبرز فخذك» وفي رواية «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» بل إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى أن يتعرى المرء ويكشف عورته حتى إذا لم يكن معه غيره فقال: «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يُفْضي الرجل إلى أهله» . وأما عورة المرأة مع المرأة: فهي كعورة الرجل مع الرجل أي من (السرة إلى الركبة) ويجوز النظر إلى ما سوى ذلك ما عدا المرأة الذمية أو الكافرة فلها حكم خاص سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة: ففيه تفصيل فإن كان من (المحارم) ك (الأب والأخ والعم والخال) فعورته من السرة إلى الركبة. وإن كان (أجنبياً) فكذلك عورته من السرة إلى الركبة. وقيل جميع بدن الرجل عورة فلا يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 أن تنظر إليه المرأة وكما يحرم نظرة إليها يحرم نظرها إليه والأول أصح، وأما إذا كان (زوجاً) فليس هناك عورة مطلقاً لقوله تعالى: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] . وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل: فجميع بدنها عورة على الصحيح وهو مذهب (الشافعية والحنابلة) وقد نص الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ على ذلك فقال: (وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر) . . وذهب (مالك وأبو حنيفة) إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا (الوجه والكفين) ولكل أدلة سنوضحها بإيجاز إن شاء الله تعالى. أدلة المالكية والأحناف: استدل المالكية والأحناف على أن (الوجه والكفين) ليسا بعورة بما يلي: أولاً: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد استثنت الآية ما ظهر منها أي ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره وهو الوجه والكفان وقد نقل هذا عن بعض الصحابة والتابعين، فقد قال (سعيد بن جبير) في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الوجه والكف، وقال (عطاء) : الكفان والوجه وروي مثله عن الضحاك. ثانياً: واستدلوا بحديث عائشة ونصه: (أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال لها: «يا أسماء إنَّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه. ثالثاً: وقالوا: مما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة أن المرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وتكشفهما أيضاً في الإحرام فلو كانا من العورة لما أبيح لها كشفهما لأن ستر العورة واجب لا تصح صلاة الإنسان إذا كان مكشوف العورة. أدلة الشافعية والحنابلة: استدل الشافعية والحنابلة على أنّ الوجه والكفين عورة بالكتاب والسنة والمعقول: أولاً: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فقد حرمت الآية الكريمة إبداء الزينة، والزينةُ على قسمين: خلقية، ومكتسبة، والوجه من الزينة الخلقية بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحلي والكحل والخضاب. . والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقاً، وحرمت عليها أن تكشف شيئاً من أعضائها أمام الرجال أو تظهر زينتها أمامهم وتأولوا قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن المراد ما ظهر بدون قصد ولا عمد مثل أن يكشف الريح عن نحرها أو ساقها أي شيء من جسدها، ويصبح معنى الآية على هذا التأويل (ولا يبدين زينتهن أبداً وهنّ مؤاخذاتٍ على إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها بنفسه وانكشف بغير قصد ولا عمد، فلسن مؤاخذاتٍ عليه فيكون الوجه والكف من الزينة التي يحرم إبذاؤها) . ثانياً: وأما السنة فما ورد من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على حرمة النظر منها: أ - حديث جرير بن عبد الله «سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن نظر الفجأة فقال: اصرف نظرك» . ب - حديث علي «يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ج - حديث الخثعمية الذي رواه ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وفيه: (أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فجاءته امرأة من خثعم تستفيته فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر) الحديث في حجة الوداع. فجميع هذه النصوص تفيد حرمة النظر إلى الأجنبية، ولا شك أن الوجه مما لا يجوز النظر إليه فهو إذاً عورة. د - واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] فإن الآية صريحة في عدم جواز النظر. والآية وإن كانت قد نزلت في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنَّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن، والعلة هي أن المرأة كلها عورة. وأما المعقول: فهو أن المرأة لا يجوز النظر إليها خشية الفتنة، والفتنةُ في الوجه تكون أعظم من الفتنة بالقدم والشعر والساق. فإذا كانت حرمة النظر إلى الشعر والساق بالاتفاق فحرمة النظر إلى الوجه تكون من باب أولى باعتبار أنه أصل الجمال، ومصدر الفتنة، ومكمن الخطر وقد قال الشاعر: كلُّ الحوادث مبداها من النظر ... ومعظمُ النار من مستصغر الشرر أقول: الآية الكريمة قد عرفتَ تأويلها على رأي (الشافعية والحنابلة) فلم يعد فيها دليل على أن الوجه ليس بعورة. وأما حديث أسماء (إن المرأة إذا بلغت المحيض) فهو حديث منقطع الإسناد وفي بعض رواته ضعف وفيه كلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وهو في «سنن أبي داود» ، قال أبو داود: «هذا مرسل خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري، نزيل دمشق مولى ابن نصر وقد تكلم فيه غير واحد» انتهى. فإذا كان هذا كلام (أبي داود) فيه ولم يروه غيره فكيف يصلح للاحتجاج وعلى فرض صحته فإنه يحتمل أنه كان قبل نزول آية الحجاب ثم نسخ بآية الحجاب، أو أنه منحمول ما إذا كان النظر إلأى لاوجه والكفين لعذر كالخاطب، والشاهد، والقاضي. قال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللَّهُ: (ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها فإنه ينظر في الحالتين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها، وسواءٌ في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن. فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟ فالجواب: أن في تغطيته مشقة فعفى عنه. أقول: الأئمة الذين قالوا بأن (الوجه والكفين) ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة وألا يكون هناك فتنة أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة، ثم إن قول بعضهم: أن الوجه والكفين ليسا بعورة ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة فإن ذلك ما لا يقول به مسلم وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند الضرورة، وبشرط أمن الفتنة. أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان، وانتشر فيه الفسق والفجور، فلا يقول أحد بجواز كشفه، لا من العلماء، ولا من العقلاء، إذ من يرى هذا الداء والوباء الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فشى في الأمة وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب، فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق ودعاء السوء منتشرون، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة ويستمع لمثل قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إصرف بصرك» فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. الحكم الثالث: ما هي الزينة التي يحرم إبداؤها: دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} على حرمة إبداء المرأة زينتها أمام الأجانب خشية الافتتان، والزينة في الأصل اسم لكل ما تتزين به المرأة وتتجمل من أنواع الثياب والحلي والخضاب وغيرها ثم قد تطلق على ما هو أعم وأشمل من أعضاء البدن. . والزينةُ على أربعة أنواع: (خلقية، ومكتسبة، وظاهرة، وباطنة) فمن الزينة ما يقع على محاسن الخلقة التي خلقها الله تعالى كجمال البشرة، واعتدال القامة، زسعة العيون كما قال الشاعر: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخِلْقة لأنه لا يقال في الخِلْقة إنها من زينتها وإنما يقال فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره، والقرب أن الخلقة داخلة في الزينة فإن الوجه أصل الزينة وجمال الخلقة وبه تعرف المليحة من القبيحة وقد قال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} فإن ضرب الخمار وسدله على الوجه والصدر إنما هو لمنع هذه الأعضاء فدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة ... فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار ... وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا: إنه سبحانه ذكر الزينة، ومن المعلوم أنه لا يراد بها الزينة نفسها المنفصلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 عن أعضاء المرأة فإن الحُليَّ والثياب والقرط والقلادة لا يحرم النظر إليها إذا كانت المرأة غير متزينة فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن الخلقية إلا أنهم متفقون على حرمة النظر إلى بدن المرأة وأعضائها فكان إبداء مواقع الزينة ومواضعها من الجسم منهياً عنه من باب أولى. وأما الزينة الظاهرة فقد قال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ظاهر الزينة الثياب. وقال مجاهد: الكحل والخاتم والخضاب. وقال سعيد بن جبير: الوجه والكفان وقد عرفت ما فيه من الأقوال للفقهاء. قال بان عطية: (ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، أن المرأة مأمورة بألا تبدي شيئاً وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء - فيما يظهر - بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ف {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه) . وأما الزينةُ الباطنة فلا يحل إبداؤها إلا لمن سمَّاهم الله تعالى في هذه الآية {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية وهم الزوج والمحارم من الرجال كما سنذكره قريباً. . وقد كان نساء الجاهلية يشددن خمرهن من خلفهن فتنكشف نحورهن وصدروهن فأمرت المسلمات أن يشددنها من الأمام ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط بالرأس من شعر وزينة من الحلي في الأذن والقلائد في الأعناق وذلك قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} الآية. الحكم الرابع: من هم المحارم الذين تبدي المرأة أمامهم زينتها؟ استثنى القرآن الكريم من الرجال الذين منعت أن تكشف المرأة أمامهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 زينتها (الخفية) أصنافاً هم جميعاً من (المحارم) ما عدا الأزواج. والعلة في ذلك هي الضرورة الداعية إلى المداخلة والمخالطة والمعاشرة حيث يكثر الدخول عليهن والنظر إليهن بسبب القرابة، والفتنةُ مأمونة من جهتهم وهم كالآتي: أولاً: البعولة (الأزواج) فهؤلاء يباح لهم النظر إلى جميع البدن والاستمتاع بالزوجة بكل أنواعه الحلال. قال القرطبي: (فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محلٍ من بدنها حلالٌ له لذة ونظراً ولهذا المعنى بدأ بالبعولة) . ثانياً: الآباء وكذا الأجداد سواء كانوا من جهة الأب أو الأم لقوله تعالى: {أَوْ آبَآئِهِنَّ} . ثالثاً: آباء الأزواج لقوله تعالى: {أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} . رابعاً: أبناؤهن وأبناء أزواجهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن نزلوا لقوله تعالى: {أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} . خامساً: الإخوة مطلقاً سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم لقوله تعالى: {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} . سادساً: أبناء الإخوة والأخوات كذلك لأنهم في حكم الإخوة لقوله تعالى: {أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهؤلاء كلهم من المحارم. تنبيه: لم تذكر الآية (الأعمام، والأخوال) وهم من المحارم كما لم تذكر المحارم من الرضاع، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية ... أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فالسر في ذلك أنهم بمنزلة الآباء فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال وكثيراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ما يطلق الأب على العم قال تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] وإسماعيل عم يعقوب. . وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرها للاكتفاء ببيان السنة المطهرة (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) . وأما الأنواع الباقية التي استثنتهم الآية الكريمة فهم (النساء، المماليك، التابعين غير أولي الأربة، الأطفال) وسنوضح كل نوع من هذه الأنواع مع بيان ما يتعلق بها من أحكام. الحكم الخامس: هل يجوز للمسلمة أن تظهر أمام الكافرة؟ اختلف الفقهاء في المراد من قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} فقال بعضهم: المراد بهن (المسلمات) اللاتي هنَّ على دينهن وهذا قول أكثر السلف. قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني المسلمات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمَةً لها. . وكره بعضهم أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها وكتب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى (أبي عبيدة بن الجراح) يقول: (إنه بلغني أن نساء أهل الذميَّة عِرْيَةَ المسلمة فقام عند ذلك أبو عبيدة وابتهل) وقال: (أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إلا أن تبيّضَ وجهها فسوّد الله وجهها يوم تبيض الوجوه) . وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: (لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها) . . وقال بعضهم المراد بقوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} جميع النساء فيدخل في ذلك المسلمة والكافرة. قال الألوسي: وذهب الفخر الرازي إلى أنها كالمسلمة فقال: والمذهب أنها كالمسلمة والمراد بنسائهن جميع النساء، وقولُ السلف محمول على الاستحباب ثم قال: وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات. وقال ابن العربي: (والصحيح عندي أن ذلك جائز لجميع النساء. وإنما جاء بالضمير للإتباع فإنها آية الضمائر إذ فهيا خمسة وعشرون ضميراً لم يَرَوْا في القرآن لها نظيراً فجاء هذا للإتباع) . وقال الأستاذ المودودي: والذي يجدر بالذكر في هذا المقام أن الله تعالى لم يقل (أو النساء) ولو أنه قال كذلك لحل للمرأة المسلمة أن تكشف عورتها وتظهر زينتها لكل نوع من النساء من المسلمات، والكافرات، والصالحات والفاسقات ولكنه تعالى جاء بكلمة {نِسَآئِهِنَّ} فمعناها أنه حدّ حرية المرأة المسلمة في إظهار زينتها إلى (دائرة خاصة) ، وأما ما هو المراد بهذه الدائرة الخاصة؟ ففيه خلاف بين الفقهاء والمفسرين؟ تقول طائفة: إن المراد بها النساء المسلمات فقط، وهذا ما رآه ابن عباس ومجاهد وابن جريج في هذه الآية واستدلوا بما كتبه عمر لأبي عبيدة بن الجراح. وتقول طائفة أخرى: إن المراد (بنسائهن) جميع النساء وهذا هو أصح المذاهب عند الفخر الرازي. إلا أننا لا نكاد نفهم لماذا خص النساء بالإضافة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وقال (نسائهن) . وتقول طائفة ثالثة: إن المراد (بنسائهن) النساء المختصات بهن بالصحبة والخدمة والتعارف سواء أكن مسلمات أو غير مسلمات وأن الغرض من الآية أن تخرج من دائرة النساء (الأجنبيات) اللاتي لا يعرف شيء عن أخلاقهن وآدابهن وعاداتهن فليست العبرة (بالاختلاف الديني) ، بل هي (بالاختلاف الخلقي) فللنساء المسلمات. أن يظهرن زينتهن بدون حجاب ولا تحرج للنساء الكريمات الفاضلات ولو من غير المسلمات. وأما الفاسقات اللاتي لا حياء عندهن ولا يعتمد على أخلاقهن وآدابهن فيجب أن تحتجب عنهن كل امرأة مؤمنة صالحة ولو كنَّ مسلمات لأن صحبتهن لا تقل عن صحبة الرجال ضرراً على أخلاقها) . أقول: هذا الرأي وجيه وسديد وحبذا لو تمسكت به المسلمات في عصرنا الحاضر إذاً لحافظن على أخلاقهن وآدابهن، وكفين شر هذا التقليد الأعمى للفاسقات الفاجرات في الأزياء والعادات الضارة الذميمة، التي غزتنا بها الحضارة المزيفة (حضارة الغرب) التي يسميها البعض حضارة القرن العشرين، وما هي بحضارة وإنما هي قذارة وفجارة ولقد أحسن من قال: إيه عصر العشرين ظنوك عصراً ... نيّرَ الوجهِ مسعد الإنسان لست (نوراً) بل أنت (نارٌ) وظلم ... مذ جعلتَ الإنسان كالحيوان الحكم السادس: هل يباح للحرة أن تنكشف أمام عبدها؟ ظاهر قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} أنه يشمل (العبيد والإماء) وبهاذ قال بعض العلماء وهو مذهب (الشافعية) ؛ فقد نصّ ابن حجر في المنهاج على أن نظر العبد العدل إلى سيدته كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة. وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة (وهو قول للشافعي أيضاً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 إلى أن العبد كالأجنبي فلا يحل نظره إلى سيدته لأنه ليس بمحرم. وتأولوا الآية بأنها في حق الإماء فقط، واستدلوا بما روي عن سعيد بن المسيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: (لا تغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور) يعني قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} فإنها في الإماء دون العبيد. وعلَّلوا ذلك بأنهم فحول ليسوا أزواجاً ولا محارم، والشهوةُ متحققة فيهم فلا يجوز التكشف وإبداء الزينة أمامهم. وقالوا إنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء لأن الذين تقدم ذكرهم أحرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال. قال ابن عباس: لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته (وهذا مذهب مالك) . ومما استدل به الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ ما روي عن أنس «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتى فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطَّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأسٌ إنما هو أبوك وغلامك» . الحكم السابع: من هم أولة الإربة من الرجال؟ استثنت الآية الكريمة {التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة} فسمحت للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم وهم الرجال البُله المغفّلون. الذين لا يعرفون من أمور النساء شيئاً وليس لهم ميل نحو النساء أو اشتهاء لهن، بحيث يكون عجزهم الجسدي، أو ضعفهم العقلي، أو فقرهم ومسكنتهم، تجعلهم لا ينظرون إلى المرأة بنظر غير طاهر أو يخطر ببالهم شيء من سوء الدخيلة نحوهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ونحن ننقل هنا بعض أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين ليتوضح لنا المعنى الصحيح للآية الكريمة، وندرك المراد من قوله تعالى: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال ... } . قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا حاجة له في النساء. وقال قتادة: هو التابع يتبعك ليصيب من طعامك. وقال مجاهد: هو الأبلة الذي لا يهمه إلا بطنه ولا يعرف شيئاً من النساء. وهناك أقوال أخرى: تشير كلها إلى أن (أولي الإربة) المراد به غير أولي الحاجة إلى النساء وليس له شهوة أو ميل نحوهن إما لأنه أبله مغفل لا يعرف من أمور الجنس شيئاً أو لأنه لا شهوة فيه أصلاً. قصة المخنث: روى البخاري وغيره عن عائشة وأم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أم سلمة وعندها هذا المخنث وعندها أخوها (عبد الله بن أبي أمية) والمخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليك الطائف فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان فسمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «يا عدو الله لقد غلغلت النظر فيها، ثم قال لأم سلمة:» لا يدخلنَّ هذا عليك «» . يقول الأستاذ المودودي: «ولعمر الحق إن كل من يقرأ هذا الحكم بنية الطاعة لا بنية أن ينال لنفسه سبيلاً إلى الفرار من الطاعة لا يلبث أن يعرف لأول وهلة أن هؤلاء الخدام والغلمان المكتملين شباباً في البيوت، أو المطاعم والمقاهي، والفنادق، لا يشملهم هذا التعريف للتابعين غير أولي الإربة بحال من الأحوال» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الحكم الثامن: من هو الطفل الذي لا تحتجب منه المرأة؟ اختلف العلماء في قوله تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} فقال بعضهم: المراد الذين لم يبلغوا حد الشهوة للجماع وقال آخرون: بل المراد الذين لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر. ولعلَّ هذا الأخير أقرب للصواب، وأنَّ المراد بهم الأطفال الذين لا يثير فيهم جسم المرأة أو حركاتها وسكناتها شعوراً بالجنس، لأنهم لصغرهم لا يعرفون معاني الجنس، وهذا لا يصدق إلا على من كان سنة دون (العاشرة) أما الطفل المراهق فإن الشعور بالجنس يبدأ يثور فيه ولو كان لم يبلغ بعد سنَّ الحلم فينبغي أن تحتجب منه المرأة. الحكم التاسع: هل صوت المرأة عورة؟ حرم الإسلام كل ما يدعو إلى الفتنة والإغراء. فنهى المرأة أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك الشهوة في قلوب بعض الرجال {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} . وقد استدل الأحناف بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة فإذا منعت عن صوت الخلخال فإن المنع عن رفع صوتها أبلغ في النهي. قال الجصاص في تفسيره: (وفي الآية دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذا كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها. ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأةُ منهية عن ذلك، وهو يدل على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة) . . ونقل بعض الأحناف أن نغمة المرأة عورة واستدلوا بحديث (التكبير للرجال والتصفيق للنساء) فلا يحسن أن يسمعها الرجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وذهب الشافعية وغيرهم إلى أن صوت المرأة ليس بعورة لأن المرأة لها أن تبيع وتشتري وتُدْلي بشهادتها أمام الحكام، ولا بد في مثل هذه الأمور من رفع الصوت بالكلام. قال الألوسي: (والمذكور في معتبرات كتب الشافعية - وإليه أميل - أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة) . والظاهر أنه إاذ أمنت الفتنة لم يكن صوتهن عورة فإن نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كُنَّ يروين الأخبار، ويحدِّثن الرجال، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم. وذهب ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن المرأة منهية عن كل شيء يلفت النظر إليها، أو يحرك شهوة الرجال نحوها، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها لقوله عليه السلام «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية ومثل ذلك أن تحرك يديها لإظهار أساورها وحليها. أقول: ينبغي على الرجال أن يمنعوا النساء من كل ما يؤدي إلى الفتنة والإغراء، كخروجهن بملابس ضيقة، أو ذات ألوان جذابة، ورفع أصواتهن وتعطرهن إذا خرجن للأسواق وتبخترهن في المشية وتكسرهن في الكلام وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] وأمثال ذلك ممّا لا يتفق مع الآداب الإسلامية، ولا يليق بشهامة الرجل المسلم، فإن الفساد ما انتشر إلا بتهاون الرجال، والتحلل ما ظهر إلا بسبب فقدان (الغيرة) والحمية على العرض والشرف، والذي لا يغار على أهله لا يكون مسلماً وقد سماه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ديوثاً فقال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها: الرجلة من النساء (أي المتشبهة بالرجال) ومُدْمِنُ الخمر والديوث، قالوا: من هو الديوث يا رسول الله؟ قال الذي يُقِرُّ الخبث في أهله» وفي رواية الذي يغار على أهله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وقديماً قال شاعرنا العربي: جرد السيف لرأس ... طارت النخوة منه نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وشرفنا وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه سميع مجيب الدعاء. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - النظر بريد الزنى ورائد الفجور فلا ينبغي للمؤمن ان يسلك هذا الطريق. ثانياً - في غض البصر وحفظ الفرج طهارة للإنسان من الرذائل والفواحش. ثالثاً - لا يجوز للمسلمة أن تبدي زينتها إلا أمام الزوج أو المحارم من أقاربها. رابعاً - على المسلمة أن تستر رأسها ونحرها وصدرها بخمارها لئلا يطلع عليها الأجانب. خامساً - الأطفال والخدام والغلمان الذين لا يعرفون أمور الجنس لصغرهم لا مانع من دخولهم على النساء. سادساً - يحرم على المسلمة أن تفعل ما يلفت أنظار الرجال إليها أو يثير بواعث الفتنة. سابعاً - على جميع المؤمنين والمؤمنات أن يرجعوا إلى الله بالتوبة والإنابة ويتمسكوا بأداب الإسلام. ثامناً - الآداب الإجتماعية التي أرشد إليها الإسلام، فيها صيانة لكرامة الأسرة، وحفظ للمجتمع المسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 حكمة التشريع أمر الله تعالى المؤمنين بغض الأبصار، وحفظ الفروج كما أمر المؤمنات بمثل ما أمر به المؤمنين تزكية للنفوس وتطهيراً للمجتمع من أدران الفاحشة والتردي في بؤرة الفساد والتحلل الخلقي، وتجنيباً للنفوس من أسباب الإغراء والغواية. وقد زاد الإسلامُ المرأة تزكية وطهراً، أن كلَّفها زيادة على الرجل بعدم إبداء الزينة لغير المحارم من الأقرباء وفرض عليها الحجاب الشرعي ليصون لها كرامتها، ويحفظها من النظرات الجارحة، والعيون الخائنة، ويدفع عنها مطامع المغرضين الفجار. ولما كان (إبداء الزينة) والتعرض بالفتنة من أهم أسباب (التحلل) الخلقي و (الفساد) الاجتماعي لذلك فقد أكد الباري جل وعلا ذلك الأمر للمؤمنات بتجنب إظهار الزينة أمام الأجانب ليسد نوافذ الفتنة ويغلق أبواب الفاحشة ويحول دون وصول ذلك السهم المسموم فالنظرة بريد الشهوة ورائد الفجور ولقد أحسن من قال: كلُّ الحوادث مبداها من النظر ... ومعظمُ النار من مستصغر الشرر والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين (الغيد) موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرور جاء بالضرر كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتر يقول شهيد الإسلام (سيد قطب) عليه رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسيره «ظلال القرآن» ما نصُّه: (إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار، فعمليات (الاستثارة) المستمرة تنتهي إلى سُعَار شهواني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون. وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء (مجتمع نظيف) هي الحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً. دون استثارة مصطنعة، وتصريفُه في موضعه المأمون النظيف. ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواطن الفتنة المخبوءة. . شاع أن كل هذا (تنفيس) وترويح ووقاية من الكبت ومن العقد النفسية ... شاع هذا على أثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه عن الحيوان والرجوع إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين - وبخاصة نظرية فرويد - ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية. رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية، والدينية، والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس. نعم شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها إنما انتهى إلى سعار مجنون، لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع. وشاهدت من الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان. شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه ثمرة مباشرة (للاختلاط) الذي لا يقيده قيد ولا يقف عنده حد. إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق، وإثارته في كل حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 تزيد من عرامته فالنظرة تثير، والحركة تثير، والضحكة تثير، والدعابة تثير، والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات. وذلك هو المنهج الذي يختاره الإسلام مع تهذيب الطبع وتشغيل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة غير تلبية دافع اللحم والدم. خاتمة البحث: بدعة كشف الوجه ظهرت في هذه الأيام الحديثة، دعوة تطورية جديدة، تدعو المرأة إلى أن تسفر عن وجهها، وتترك النقاب الذي اعتادت أن تضعه عند الخروج من المنزل، بحجة أن النقاب ليس من الحجاب الشرعي، وأن الوجه ليس بعورة. دعوة (تجددية) من أناس يريدون أن يظهروا بمظهر الأئمة المصلحين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة ليجددوا للأمة أمر دينها، ويبعثوا فيها روح التضحية، والإيمان، والكفاح. دعوة جديدة، وبدعة حديثة من أناس يدعون العلم، ويزعمون الاجتهاد ويريدون أن يثبتوا بآرائهم (العصرية الحديثة) أنهم أهل لأن يُنافِسوا الأئمة المجتهدين وأن يجتهدوا في الدين كما اجتهد أئمة المذاهب ويكون لهم أنصار وأتباع. لقد لاقت هذه الدعوة (بدعة كشف الوجه) رواجاً بين صفوف كثير من الشباب وخاصة منهم العصريين، لا لأنها (دعوة حق) ولكن لأنها تلبي داعي الهوى، والهوى محبَّب إلى النفس وتسير مع الشهوة، والشهوة كامنة في كل إنسان، فلا عجب إذاً أن نرى أو نسمع من يستجيب لهذه الدعوة الأثيمة ويسارع إلى تطبيقها بحجة أنها «حكم الإسلام» وشرع الله المنير. يقولون: إنها تطبيق لنصوص الكتاب والسنة وعمل بالحجاب الشرعي الذي أمر الله عَزَّ وَجَلَّ به المسلمات في كتابه العزيز، وأنهم يريدون أن يتخلصوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 من الإثم بكتمهم العلم {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} [البقرة: 159] إلى آخر دعاواهم الطويلة العريضة. ولست ادري أي إثم يتخلصون منه، وهم يدعون المرأة إلى أن تطرح هذا النقاب عن وجهها وتُسفر عن محاسنها في مجتمع يتأجج بالشهوة ويصطلي بنيران الهوى ويتبجح بالدعارة، والفسق، والفجور؟! ولقد سبقهم بهذه (البدعة المنكرة) بعض أهل (الهوى) من الشعراء حين قال: قل للمليحة في الخمار المذهب ... أذهبتِ دينَ أخ التُّقى المتعبد نور الخمار ونور وجهك ساطع ... عجباً لوجهك كيف لم يتوقد ولو أن هؤلاء (المجدِّدين) اقتصرت دعوتهم على النساء العاريات، المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى، اللواتي خالفن تعاليم الإسلام بخلعهن للحجاب فدعوهن إلى التستر والاحتشام وارتداء الجلباب الذي أمرهن به الله عَزَّ وَجَلَّ وقالوا لهن: إن أمر (الوجه والكفين) فيهما سعة وإن بإمكانهن أن يسترن أجسادهن ويكشفن وجوههن لهان الخطب، وسهل الأمر، وكانت دعوتهم مقبولة لأنها تدرج بالتشريع بطريق الحكمة، ولكنهم يدعون المرأة المؤمنة المحتشمة الساترة لما أمر الله عَزَّ وَجَلَّ ستره، فيزينون لها أن تكشف عن وجهها وتخرج عن حيائها ووقارها فتطرح النقاب تطبيقاً للكتاب والسنة بحجة أن الوجه ليس من العورة؟ وإنه لتحضرني قصة تلك المرأة المؤمنة الطاهرة التي استشهد ولدها في إحدى الغزوات مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاءت تبحث عن ولدها بين القتلى وهي متنقبة فقيل لها: تبحثين عنه وأنت متنقبة؟ فأجابت بقولها: لأن أرزأ ولدي فلن أرزأ حيائي؟ . . عجباً والله لهؤلاء وأمثالهم أن يدعوا (المرأة المسلمة) إلى كشف الوجه باسم الدين، وأن يزينوا لها طرح النقاب في مثل هذا العصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 الذي فسد رجاله، وفسق شبابه، إلا من رحم الله وكثر فيه الفسق والفجور والمجون. ونحن نقول لهؤلاء (المجدِّدين) من أئمة العصر المجتهدين: رويدكم فقد أخطأتم الجادة وتنكبتم الفهم السليم الصحيح للإسلام وأحكامه التشريعية، ونخاطبهم بمنطق العقل والشرع، وكفى بهما حجة وبرهاناً. لقط شرط الفقهاء - الذين قالوا بأن الوجه ليس بعورة - أمن الفتنة فقالوا: الوجه ليس بعورة، ولكن يحرم كشفه خشية الفتنة، فهل الفتنة مأمونة في مثل هذا الزمان؟ والإسلام قد حرم على المرأة أن تكشف شيئاً من عورتها أمام الأجانب خشية الفتنة، فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها؟ وأيهما تكون فيه الفتنة أكبر الوجه أم القدم؟ يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها، فهل يسمح لها أن تشكف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر؟ . كلمة العلامة المودودي وأختم هذه الكلمة بما ذكره العلامة المودودي في تفسيره لسورة النور حيث قال أمد الله في عمره: «وهذه الجملة في الآية الكريمة {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن، أو ما كان ظاهراً بنفسه لا يمكن إخفاؤه كالرداء الذي تجلل به النساء ملابسهن (يعني الملاءة) لأنه لا يمكن إخفاؤه وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى وهذا هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 المعنى الذي بينه عبد الله بن مسعود والحسن البصري. أما ما يقوله غيرهم إن معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما يظهره الإنسان على العادة الجارية. ثم هم يدخلون فيه (وجه المرأة وكفيها) بكل ما عليها من الزينة، أي أنه يصح عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمساحيق والصبغ، ويديها بالحناء والخاتم والأسورة، ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها ... أما نحن فنكاد نعجز عن أن نفهم قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما يُظْهره الإنسان فإن الفرق بين أن يَظْهر الشيء بنفسه، أو أن يُظهره الإنسان بقصده واضح لا يكاد يخفى على أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في حد هذه الرخصة إلى حد إظهارها (عمداً) مخالف للقرآن ومخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كن يبرزن إلى الأجانب سافرات الوجوه، وأن الأمر بالحجاب كان شاملاً للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءاً من لباس النساء إلا في الإحرام. وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذين يبحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفها للأجانب، يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة مع أن الفرق كبير جداً بين (الحجاب) و (ستر العورة) فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 [7] الترغيب في الزواج والتحذير من البغاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 التحليل اللفظي {الأيامى} : جمع أيّم وهو من لا زوج له رجلاً كان أو امرأة، ذكراً أو أنثى قال في «لسان العرب» : الأيامى: الذين لا أزواج لهم من الرجال أو النساء، وقولُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الأيمّ أحقّ بنفسها» فهذه الثيب لا غير، وكذا قول الشاعر: لا تنكحنَّ الدهر ما عشتَ أيما ... مجرّبة قد مُلّ منها وملّت وفي الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يتعوذ من الأيمة وهي طول الغُزْبة، وأنشد ابن بري: لقد إمت حتى لامني كل صاحب ... رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت وآمت المرأة: إذا مات عنها زوجها. ومنه قول علي (مات قيّمها وطال تأيّمها) وفي التنزيل: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} أدخل فيه الذكر والأنثى والبكر والثيب. {عِبَادِكُمْ} : بمعنى العبيد وقرأ مجاهد (من عبيدكم) وأكثر استعماله في الأرقاء والمماليك وإذا أضيف إلى الله فيراد منه الخلائق قال تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية. . {واسع} : ذو غنى وسعة يبسط الرزق لمن يشاء من عباده وهوالغني الحميد. {عَلِيمٌ} : عالم بحاجات الناس ومصالحهم فيجري عليهم من الرزق ما قسم لهم. {وَلْيَسْتَعْفِفِ} : أمر من العفة واستعفف وزنه: استفعل ومعناه: طلب أن يكون عفيفاً، قال في «لسان العرب» العفة: الكف عما لا يحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ويجمل، يقال عفّ عن المحارم يعِفُّ عفة وعفافاً وامرأة عفيفة أي عفيفة الفرج، وفي الحديث «من يستعفف يعفه الله» وقيل الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء. ومن دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى» . {الكتاب} : قال الزمخشري: الكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، وهي أن يقول الرجل لمملوكه: (كاتبتك على ألف درهم فإن أداها عتق) ، والمكاتبة (مفاعلة) لا تكون إلا بين اثنين لأنها معاقدة بين (السيد وعبده) فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع، والمكاتبة هيَ: العقد الذي يجري بين (السيد وعبده) على أن يدفع له شيئاً من المال مقابل عتقه وسمي مكاتبة لأن العادة جارية بكتابته لأن المال فيه مؤجل، وهي لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية نبه عليه العلاّمة ابن حجر. {خَيْراً} : لفظ الخير يطلق على المال {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] أي لحب المال، ويطلق على فعل الصالحات وقد فسره بعضهم بالمال وهو ضعيف، والصحيحُ أن المراد به: الصلاح والأمانة والوفاء، والمعنى: إن علمتم فيهم القدرة على الكسب والوفاء والأمانة فكاتبوهم على تحرير أنفسهم. قال الطحاوي: وقول من قال إن المراد به (المال) لا يصح، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟ وانكر بعضهم ذلك من حيث اللغة فقال: لا يقال علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال. والأصح أن المراد بالخير الأمانة والقدرة على الكسب وبه فسره الشافعي كما مر معنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 {فتياتكم} : المراد به (المملوكات من الإماء) وهو جمع فتاة، قال الألوسي وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن (العبد والأمة) . وفي الحديث: «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي» وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كره العبودية لغير الله عَزَّ وَجَلَّ وعلّم السادة أن يتلطفوا عند مخاطبة العبيد. {البغآء} : مصدر بغت المرأة تَبْغي بغاءً إذا زنت وفجرت، وهو مختص بزنى النساء فلا يقال للرجل إذا زنى: إنه بغى قاله (الأزهري) . والجمع بغايا، والمراد بالآية إكراه الإماء على الزنى، وفي الحديث «نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن مهر البغي» . {تَحَصُّناً} : أي تعففاً ومنه المُحْصنة بمعنى العفيفة وقد تقدم. {عَرَضَ الحياوة} : أي متاع الحياة الدنيا وسمي عرضاً لأنه يعرض للإنسان ثم يزول، فهو متاع سريع الزوال وشيك الاضمحلال {وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20] . {آيات مبينات} : أي آيات واضحات، وحكم باهرات، ودلائل ظاهرة، تدل على حكمة الله العلي الكبير، قال الزمخشري: هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت معاني الأحكام والحدود. المعنى الإجمالي يأمر المولى تبارك وتعالى بتزويج الشباب وتحصين الأحرار من الرجال، فيقول تعالى ذكره ما معناه: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 ونسائكم، ومن أهل الصلاح والتقى من عبيدكم ومواليكم، إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقة وفقر، فإن الله تعالى يغنيهم من فضله، فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم. فالله واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء من عباده، ولا تخفى عليه خافية من شؤونهم وأحوالهم. ثم يأمر تعالى الشباب الذين لا تتيسر لهم سُبل الزواج - لأسباب مادية أو عقبات اجتماعية - بالعفة عن الفواحش والابتعاد عما حرم الله، حتى يوسّع الله عليهم، ويسهل لهم أمر الزواج. فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] كما أمر السادة بمكاتبة العبيد الأرقاء، الذين يريدون أن يتحرروا من رق العبودية فقد أرشدهم أن يقبلوا منهم فكاك أنفسهم بما يدفعونه من مال، ونهاهم أن يُكْرهوا فتياتهم (الإماء) على البغاء، كما كان يفعل أهل الجاهلية، ليحصُلوا من وراء ذلك على الثروة الطائلة، ويجمعوا حُطَام هذه الحياة الزائل، ويتمعوا عن طريق - الفحش والرذيلة - بعرض الدنيا، ثم حذر تعالى الظالمين المعتدين المُكْرهين للفتيات بالعذاب الأليم، وأنه سينتقم منهم ويعفو ويغفر للمُكْرَهات على الزنى، لأنه لاإرادة لهن ولا اختيار، وإثمهن على من أكرههن. ثم ختم تعالى هذه الآيات الكريمة بأنه قد أنزل على عباده آياتٍ واضحات وأحكاماً وحدوداً مفصَّلات، ليسيروا عليها، فيها خيرهم وسعادتهم، وتَرَكهم على المحجَّة البيضاء، وضرب لهم الأمثال ليتعظوا ويعتبروا بمن سبقهم من الأمم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . سبب النزول أولاً: روى السيوطي عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتاب فأبى فأنزل الله {والذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] . الآية. قال القرطبي: بعد أن ذكر القصة: فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل بحنين في الحرب. ثانياً: وروى مسلم في «صحيحه» عن جابر بن عبد الله أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها (مُسَيْكة) وأخرى يقال لها (أمَيْمة) وكان يريدهما على الزنى فشكتا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء} الآية. وروي أن عبد الله بن أبيّ بن سلول كان يكرههما على الزنى ويضربهما فقالت إحداهما: إن كان خيراً فقد استكثرنا منه، وإن كان شراً فقد آن لنا أن ندعه فنزلت الآية. ثالثاً: وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: (كانوا يأمرون ولائدهم يباغين يفعلن ذلك فيصبن فيأتينهم بكسبهن فكانت لعبد الله بن أبيّ سلول جارية فكانت تباغي فكرهت وحلفت ألا تفعله فأكرهها أهلها فانطلقت فباغت ببرد أخضر فأتتهم به فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء ... } الآية. وقال مقاتل: إنها نزلت في ست جوار كنّ لعبد الله بن أبيّ (معاذة، ومسيكة، وأميمة، وقتيلة، وعمرة، وأروي) فكان يأمرهن بالزنى ليستدرّ من ورائهن المال. فنزلت الآية الكريمة، وكل الروايات ذكرت أن الذي كان يكرههنَّ هو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وجه الارتباط بالآيات السابقة في الآيات السابقة حذر الله جل ثناؤه من مقارفة الفواحش وارتكاب الموبقات فنهى عن الزنى ودواعيه القريبة والبعيدة، من النظر إلى النساء، والاختلاط بهن، وكشف العورات، وإبداء الزينة، ودخول البيوت بغير استئذان. وغير ذلك مما يدعو إلى الفساد وضياع الأخلاق والوقوع في المهالك، وفي هذه الآيات الكريمة رغب المولى جل وعلا في النكاح وأمر بالإعانة عليه وتسهيل سبله، لأن النكاح من خير ما يحقق العفة، ويعصم المؤمن من الزنى، ويبعده عن آثامه وهو الطريق الوحيد لبقاء النوع الإنساني. وبناء المجتمع الفاضل ولهذا وردت هذه الآيات الكريمة تحثُّ على إعفاف الشباب والفتيات عن طريق الزواج. وتدعو إلى تذليل كل العقبات التي تعترض طريق الزواج سواء كانت هذه العقباتُ مالية، أو غير مالية. وهذا وجه الارتباط بين الآيات الكريمة. والله أعلم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قال تعالى: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} فيه إشارة إلى قيمة التقى والصلاح في الإنسان. فلا يكرم الإنسان لماله أو جاهه، وإنما يُكرَّم لدينه وصلاحه كما قال تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 في هذه الآية وعد من الله بإغناء من سلك طريق الزواج وقصد إعفاف نفسه به. وقد نقل عن عدد من الصحابة أنهم فهموا ذلك حتى قال أبو بكر: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، يُنْجزْ لكم ما وعدكم من الغنى) وعن عمر وابن عباس: (التمسوا الرزق بالنكاح) . فإن قيل: فنحن نرى كثيراً من الفقراء يتزوجون ويستمر فقرهم ولا يستغنون ونرى من كان غنياً فيتزوج يصبح فقيراً؟ فالجواب: أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ} [التوبة: 28] ومما يدل على إضماره أن الله تعالى ختم الآية بقوله: {والله واسع عَلِيمٌ} ولم يقل (واسع كريم) وهذا يفيد أنه تعالى يعلم مصلحة عباده فيبسط لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، حسب الحكمة والمصلحة. وقد ورد (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لفسد حاله) وحكمة هذا الربط بين (الغنى والنكاح) أنه قد يخيل إلى بعض الناس أن الأولاد والذرية سبب الفقر حتماً وأن عدمهم سبب لكثرة المال جزماً، فأريد قلع هذا الخيال من الأوهام، بأن الله قادر على إغناء العبد مع كثرة عياله، وإفقاره ولو كان عزباً في داره، ولا أثر للزواج في فقر الإنسان ولا للغزوبة في غناه فالله هو الرازق ذو القوة المتين وصدق الله {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] . اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} في الآية دعوة للشباب الذين لا يتيسر لهم أمر الزواج بإعفاف النفس حتى يهيئ الله لهم أسبابه فهو على سبيل (المجاز) أو تقدير مضاف أي لا يجدون أسباب النكاح أو استطاعة النكاح أو المراد بالنكاح: ما ينكح به من المال. قال الشهاب: فإن (فِعَالاً) يكون صفة بمعنى مفعول، ككتاب بمعنى مكتوب، واسم آلة كركاب لما يركب به، وهو كثير كما نص عليه أهل اللغة. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله} فيه إشارة لطيفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 إلى أن المال الذي في أيدي الأغنياء إنما هو وديعة عندهم، استخلفهم الله عليها ليحسنو التصرف فيها {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] فالمالك الحقيقي هو الله رب العالمين، وليس الغني مالكاً للمال حقيقة وإنما هو مؤتمن عليه وهو وديعة بين يديه. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} جملة معترضة فائدتها (التشنيع والتقبيح) على السادة في ارتكاب هذه الرذيلة والإكراه عليها، فالأصل في الأمة المملوكة أن يحصنها سيدها إذا مالت نحو الفجور، أما أن يدعوها إلى عمل الفاحشة وتأبى وتمتنع وتريد العفة، فذلك منتهى الخسة والدناءة منه. فالأمة في هذه الحالة خير من السيِّد، لأنها آثرت التحصن على الفاحشة وهي أشرف من السيّد وأطهر. قال أبو السعود: فإن من له أدنى مرؤءة لا يكاد يرضى من يحويه حرمه من إمائه فضلاً عن أمرها به أو إكراهها عليه لا سيما عند إرادة التعفف فليس هو إذاً «للقيد أو الشرط» وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته فتدبره فإنه دقيق. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياوة الدنيا} هذا التعليل فيه إشارة إلى تفاهة وحقارة ما صنعوا، فإن أقدس وأشرف ما يملكه الإنسان هو (العرض والشرف) فهم يقدمون هذا الشيء (النفيس) مقابل النزر (الخسيس) فيا لها من خسة ونذالة. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إكراههن غَفُورٌ رَّحِيمٌ} المغفرة والرحمة مخصصة بالمكرَهات من الإماء وأما المُكْرهُون فعليهم اللعنة والسخط، وقد كان الحسن البصري إذا قرأ هذه الآية يقول: لهنَّ والله، أي إن الله غفور لهن، لا لأولئك المجرمين الذين أكرهوا النساء على البغاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ففي الآية (مجاز بالحذف) أي غفور لهن رحيم بهن. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: (من بعد إكراههن) أي لأنهن مكرهات لا إرادة لهن ولا اختيار فقد رفع الله عنهن العذاب وبقي الإثم على المكره وما قاله بعض المفسرين: إن المغفرة والرحمة للمكرِهين إنْ تابوا وأصلحوا فإنه ضعيف يأباه السياق. قال أبو السعود: وفي تخصيص المغفرة والرحمة بهن وتعيين مدارهما دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية كأنه قيل: لهنَّ (لا للمكِرهين) فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة ستقلالاً، أو معهن إخلالٌ بجزالة النظم الجليل، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل. الأحكام الشرعية الحكم الأول: من المخاطب في الآية الكريمة؟ ذهب بعض العلماء إلى أن الخطاب في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} عام لجميع الأمَّة أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال الأحرار والنساء الحرائر. . وقال بعضهم إن الخطاب (للأولياء والسادة) فقط أي لأولياء الأحرار، كالآباء وغيرهم ممن يتولون شؤون غيرهم، ولسادات العبيد والإماء الذين يملكونهم ملك اليمين. وقال آخرون: إنه للأزواج لأنهم هم المأمورون بالنكاح. قال القرطبي: والخطاب للأولياء وقيل للأزواج والصحيح الأول؛ إذ لو أراد الأزواج لقال (وانكحوا) بغير همز، وكانت الألف للوصل. والذي نختاره هو أن الأمر موجه إلى جميع الأمة، وأنَّ عليهم أن يسهلوا أسباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الزواج، ويسعوا سعياً حثيثاً لتزويج الشباب، وإزالة العوائق والعقبات من الطريق لأن الزواج هو طريق الإحصان والعفة، فالخطاب إذاً للجميع ... وليس المراد بالتزويج في الآية هو أجراء (عقد الزواج) لأن لفظ الأيامى يشمل كل من لا زوج له من الرجال والنساء، صغاراً كانوا أو كباراً، كما تقدم. ومن المعلوم أن الرجل الكبير لا ولاية لأحد عليه فالوجه ما قلنا إن الخطاب موجه للأمة، وإن المراد بالتزويج هو الإعانة والمساعدة على النكاح وتسهيل أسبابه، وقد قال عليه السلام «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» . الحكم الثاني: هل الزواج واجب أو مستحب؟ اختلف الفقهاء في حكم الزواج على مذاهب نبينها فيما يلي: أ - مذهب الظاهرية: أن الزواج واجب، ويأثم الإنسان بتركه. ب - مذهب الشافعية: أن الزواج مباح ولا إثم بتركه. ج - مذهب الجمهور (المالكية والأحناف والحنابلة) : أن الزواج مستحب ومندوب وليس بواجب. دليل الظاهرية: استدل أهل الظاهر بأن الصيغة وردت بلفظ الأمر (وانكحوا) والأمر للوجوب فيكون النكاح واجباً، وبأن الزواج طريق لإعفاف النفس عن الحرام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيأثم تاركه. دليل الجمهور: واستدل الجمهور من علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن الزواج ليس بواجب وأنه مندوب بعدة أدلة نوجزها فيما يلي: أ - لو كان الزواج واجباً لكان النقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن السلف شائعاً مستفيضاً لعموم الحاجة إليه، ولما بقي أحد لم يتزوج في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو عهد الصحابة، فلما وجدنا في عصره عليه السلام وسائر الأعصار بعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 (أيامى) من الرجال والنساء لم يتزوجوا ولم ينكر عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك دل على أنه ليس بواجب. ب - لو كان الزواج واجباً لكان للولي إجبار الثيب على الزواج مع أن الإخبار غير جائز شرعاً لقوله عليه السلام: «ولا تُنْكَح الثيب حتى تستأمر» أي تأمر وترضى بالزواج. ج - قال الجصاص: (ومما يدل على أنه على الندب اتفاق الجميع على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على (الأيامى) فدل على أنه مندوب في الجميع) . د - قوله عليه السلام: «من أحب فطرتي فليستن بسنتي وإن من سنتي النكاح» . هـ - قوله عليه السلام: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» . دليل الشافعي: واستدل الإمام الشافعي على أن النكاح مباح بانه قضاء لذة ونيل شهوة فكان مباحاً كالأكل والشرب. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أنّ الزواج مندوب للحديث الصحيح: «من رغب عن سنتي فليس مني» . واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو في الحالات العادية التي يأمن فيها الإنسان على نفسه من اقتراف المحارم، أما إذا خشي على نفسه الوقوع في الزنى، فإنه لا خلاف في أن النكاح يصبح عليه (واجباً) لأن صيانة النفس وإعفافها عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 الحرام واجب فيتعين عليه الزواج. قال القرطبي: قال علماؤنا: يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت (الزنى) ، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر، وزوال خشية العنت عنه. وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا فالنكاح حتم ومن تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطَّوْل فالمستحب له أن يتزوج. وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم لأن الصوم له وِجاءٌ كما جاء في الخبر الصحيح. الحكم الثالث: هل يجوز للولي إجبار البكر البالغة على الزواج؟ استدل الشافعية من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} على أن للولي إجبار البكر البالغة على الزواج بدون رضاها لعموم الآية، ولولا قيام الدلالة على أنه لا تُزَوَّج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزاً له تزويجها أيضاً بغير رضاها. قال الجصاص: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} لا يختص بالنساء دون الرجال، فلما كان اللفظ شاملاً للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم، فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء، وقد أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باستئمار البكر وقال «وإذنها صُمَاتها» فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها. وأيضاً حديث ابن عباس في فتاة بكر زوَّجها أبوها بغير أمرها فاختصموا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أجيزي ما فعل أبوك» وهو يدل على وجوب الاستئذان. الحكم الرابع: هل يجوز للمرأة أن تتولى عقد الزواج بنفسها؟ استدل فقهاء الشافعية والحنابلة على أن المرأة لا تلي عقد النكاح وإلى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 النكاح لا ينعقد بعبارتها لقوله تعالى {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} [البقرة: 221] ووجه الاحتجاج بالآيتين أن الله تعالى خاطب الرجال بالنكاح ولم يخاطب به النساء، ولأنه لو جاز لها أن تتولى النكاح بنفسها لفوَّتت على وليها حق الولاية عليها، ولأن الزواج له مقاصد متعددة والمرأة كثيراً ما تخضع لحكم العاطفة فلا تحسن الاختيار، فجعل الأمر إلى وليها لتتحقق مقاصد الزواج على الوجه الأكمل. أقول: هذا الذي ذهب إليه الشافعية والحنابلة هو الرأي الصحيح الراجح الذي عليه أكثر أهل العلم، ولكنك قد علمت أن الأولى في الآية الكريمة حمل الخطاب على أنه للناس جميعاً لا للأولياء فقط، بمعنى أن الله تعالى يندب المؤمنين إلى المساعدة في النكاح والإعانة عليه، وأن على المسلمين عامة أن يهتم بعضهم ببعض حتى لا يبقى في مجتمعهم رجل ولا امرأة بدون زواج وعلى هذا فحكم مباشرة عقد الزواج، لا يؤخذ من الآية وإنما يؤخذ من أدلة أخرى من السنة المطهرة مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا نكاح إلا بولي» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» . قال الألوسي: والذي أميل إليه أن الأمر لمطلق الطلب وإن المراد من الإنكاح: المعاونة والتوسط، وتوقّفُ صحة النكاح في بعض الصور على الولي يُعلم من دليل آخر. الحكم الخامس: هل يجوز للحر التزوج بالأمة؟ استدل بعض الحنفية بظاهر قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} على أنّ الحر يجوز له التزوج بالأمة مطلقاً ولو كان مستطيعاً طَوْل الحرة أخذاً بالعموم في الآية الكريمة ... وذهب الشافعية إلى أن هذا العموم غير مراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 بدليل آية النساء التي قيدت ذلك بعدم الاستطاعة في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات} [النساء: 25] الآية فهذه الآية خاصة، والخاص مقدم على العام، فلا يجوز لمن وجدَ طول الحرة أن يتزوج أمة. والأدلةُ بالتفصيل يُرْجَع إليها في سورة النساء وليس هذا محل ذكرها فافهم ذاك رعاك الله. الحكم السادس: هل للسيد إجبار عبده أو أمته على الزواج؟ استدل العلماء بقوله تعالى: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} على أن للسيد أن يزوج عبده وأمته بدون رضاهما لأن الآية جعلت للسيد حق تزويج كل منهما ولم تشترط رضاهما، وكذلك أخذوا من الآية أنه لا يجوز للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن السيد. والعلّةُ في ذلك أنه لو جاز لهما الزواج بغير إذنه لفوّتا عليه استعمال حقه، ويؤيد ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أيما عبدٍ تزوّج بغير إذن مواليه فهو عاهر» . قال العلامة القرطبي: (أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح وهو قول (مالك وأبي حنيفة) وغيرهما وروي نحوه عن الشافعي: أنه ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح، وقال النخعي كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب. تمسك أصحاب الشافعي فقالوا: العبد مكلف فلا يجبر على النكاح لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية وإنما تتعلق به المملوكية من جهة الرقبة والمنفعة ولعلمائنا: أنَّ مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع والنكاح إنما هو من المصالح، ومصلحةُ العبد موكولة إلى السيد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الحكم السابع: هل يفرق بين الزوجين بسبب الإعسار؟ استدل بعض العلماء بالآية الكريمة {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} على أن النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة، لأنه تعالى لم يجعل الفقر مانعاً من الإنكاح، بل حث على تزويج الفقراء، ووعدهم بالغنى، فإذا كان الفقر ليس مانعاً من ابتداء النكاح، فإنه لا يكون مانعاً من استدامته من باب أولى. قال النقاش: هذه الآية حجة على من قال: إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيراً لا يقدر على النفقة لأن الله تعالى قال: {يُغْنِهِمُ الله} ولم يقل يفرق. قال القرطبي: وهذا انتزاع ضعيف وليست هذه الآية حكماً فيمن عجز عن النفقة، وإنما هو وعد بالإغناء لمن تزوج فقيراً، فأما من تزوج موسراً وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما قال الله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] ونفحات الله مأمولة في كل حال. . وهذه الآية دليل على تزويج الفقير، ولا يقول: كيف أتزوج وليس لي مال؟ فإن رزقه على الله وقد زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه، وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسراً، أو طرأ الإعسار بعدذلك لأن الجوع لا صبر عليه. أقول: إن غاية ما تفيده الآية الكريمة أنه يندب لأهل الزوجة ألا يردّوا خاطباً فإذا خطب ابنتهم شاب صالح، حسن السيرة والأخلاق فعليهم ألا يرفضوه لمجرد فقره، فإن المال غاد ورائح، وفي فضل الله ما يغني الجميع. وعلى الشاب نفسه ألا يرجئ أمر زواجه انتظاراً للمزيد من الغنى واليسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 بل عليه أن يُقْدم على الزواج متوكلاً على الله ولو كان كسبه قليلاً، فإن الزواج كثيراً ما يكون السبب في إصلاح حال الإنسان، بسبب ما يبذله من جهد في سبيل الكسب بعد الزواج. والله عَزَّ وَجَلَّ قد وعد بالعون من أراد أن يُعفَّ نفسه على الحرام ففي الحديث الصحيح «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» . وليس في الآية ما يدل على فسخ النكاح بالإعسار أو عدم فسخه والله تعالى أعلم. الحكم الثامن: ما هو حكم نكاح المتعة؟ استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} على بطلان انكاح المتعة، لأنه لو كان صحيحاً لم يتعين الاستعفاف سبيلاً للتائق العاجز عن أسباب النكاح. ولم تجعل الآية سبيلاً لمث لهذه الحالة إلا (الاستعفاف) يعني الصبر علىترك الزواج حتى يغنيه الله من فضله ويرزقه ما يتزوج به، فالأمر بالاستعفاف متوجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه من الوجوه ولو كان (نكاح متعة) صحيحاً لأمر الله تعالى به. وهو استدلال دقيق فتدبره. الحكم التاسع: هل تجب مكاتبة العبد؟ معنى المكاتبة في الشرع: هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجّماً عليه فإذا أداه فهو حر لوجه الله تعالى وللمكاتبة حالتان: أ - أن يطلبها العبد ويجيبه السيد عليها وهذا الذي أشارت إليه الآية الكريمة {والذين يَبْتَغُونَ الكتاب} . ب - أن يطلبها العبد ويأباها السيد وهذا الذي اختلف فيه الفقهاء على مذهبين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 1 - مذهب الظاهرية: قالوا يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك. 2 - مذهب جمهور الفقهاء: قالوا: لا يجب على السيد أن يكاتب مملوكه بل يندب له المكاتبة. أدلة الظاهرية: استدل أهل الظاهر على وجوب المكاتبة بالآية والأثر. أ - أما الآية فقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} فإنه أمر وظاهر الأمر للإيجاب، وقالوا: مما يدل عليه أيضاً سبب النزول فقد نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له (صبيح) وقد تقدم. ب - وأما الأثر فهو ما روي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: سألني (سيرين) المكاتبة فأبيت عليه، فأتى (عمر بن الخطاب) فأخبره فأقبل عليَّ بالدرّة وتلا قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فكاتبه أنس. قال داود الظاهري: وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس لو لم تكن الكتابة واجبة. وهذا المذاهب منقول عن بعض التابعين كعطاء، وعكرمة، ومسروق، والضحاك بن مزاحم. أدلة الجمهور: واستدل جمهور الفقهاء (المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة) على أنه مندوب بما يأتي: أ - إن الله عَزَّ وَجَلَّ قيَّد المكاتبة بشرط علم الخير فيه فقال: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} . فعلّق الوجوب على أمر باطن، وهو علم السيد بالخيرية، فإذا قال العبد: كاتبنْي، وقال له السيد: لم أعلم فيك خيراً كان القول للسيد فدلّ على عدم وجوبه. ب - حديث «لا يحل مال امرئٍ مسلم إلاّ بطيبٍ من نفسه» والعبدُ مالٌ فلا يجوز إلاّ برضى السيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ج - وتمسّكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبدُ سيده أن يبيعه من غيره، لم يجب عليه ذلك، ولم يجبر عليه فكذا الكتابة لأنها معاوضة. قال الجصاص: فإن قيل: لو لم يكن يراها واجبة لما رفع لعيه الدِرّة ولم يضربه؟ قلنا: لأن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان كالوالد المشفق على الرعية، فكان يأمرهم بما لهم فيه الأفضل في الدين، وإن لم يكن واجباً، على وجه التأديب والمصلحة! والصحيح ما قاله الجمهور إن الأمر للندب والاستحباب، لا للوجوب والله أعلم. الحكم التاسع: من هم المخاطبون بإيتاء المال؟ وما مقداره؟ اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} من هم المخاطبون به؟ على قولين. أحدهما: أنه خطاب للأغنياؤ الذين تجب عليهم الزكاة، أُمروا أن يُعْطوا المكاتبين من سهم (الرقاب) وقد روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو سهم الرقاب يعطى منه المكاتبون، أي المراد أن يدفعوا لهم من مال الزكاة. والثاني: أنه خطاب للسادة أمروا أن يُعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئاً. ولعلّ هذا أصح لأن سياق الآية يدل على ذلك حيث أمر السادة بطريق (الندب والاستحباب) أن يكاتبوا عبيدهم، وأمروا أيضاً أن يحطوا عنهم شيئاً من مال الكتابة عوناً لهم على فكاك أنفسهم من ربقة العبودية. قال القرطبي: هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة، إمَّا بأن يعطوهم شيئاً مما في أيديهم أعني (أيدي السادة) أو يحطوا عنهم شيئاً من مال الكتابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وقد اختلف الفقهاء في حكم الإيتاء هل هو واجب؟ وفي مقداره؟ على مذهبين: 1 - مذهب (الشافعية والحنابلة) : أنه واجب وقدّره أحمد بربع بمال الكتابة ... وقال الشافعي: ليس محدوداً ويكفي في أقل شيء يقع عليه اسم المال. 2 - مذهب (المالكية والأحناف) : أنه ليس بواجب وأنّ هذا الأمر على الندب. حجة الشافعية والحنابلة: أ - ظاهر قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله} والأمر للوجوب. ب - واستدلوا بما روي أن عمر بن الخطاب كاتب غلاماً يقال له (أبو أمية) فجاءه بنجمةِ حين حلّ فقال: اذهب يا أبا أمية فاستعن به في مكاتبتك، قال: يا أمير المؤمنين: لو أخّرته حتى يكون في آخر النجوم؟ فقال: يا أبا أمية: إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} . قال عكرمة: وكان ذلك أول نجمٍ أُدّي في الإسلام. حجة المالكية والحنفية: 1 - احتج المالكية والحنفية بأن الأمر في الكتابة للندب فكيف يكون الأمر بالإيتاء للوجوب؟ وقالوا: قد جاء في الآية أمرانِ (فكاتبوهم) و (آتوهم) فإمّا أن يكونا للوجوب، أو للندب. قال ابن العربي: ولو أن الشافعي حين قال: إن الإيتاء واجب يقول: إنّ الكتابة واجبة لكان تركيباً حسناً ولكنه قال: إنّ الكتابة لا تلزم، والإيتاء يجب فجعل الأصل غير واجب. والفرع واجباً. وهذا لا نظير له فصارت دعوى محضة. ب - واستدلوا من السنة بحديث «أيما عبدٍ كاتبَ على مائةِ أوقيةٍ فأدّاها إلا عشر أواق فهو عبد» فلو كان الحطّ واجباً لسقط عنه بقدَره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 واستدلوا كذلك بحديث عائشة حين جاءتها (بريرة) تستعينها على أداء كتابتها فقالت لها عائشة: إنْ أحبّ أهلك أن أعطيهم ذلك جميعاً ويكون ولاؤك لي فأبوا، فذكرتْ ذلك للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لها عليه السلام: «إبتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق» قالوا: فلم ينكر عليها الرسول ولم يقل إنها تستحق أن يحطّ عنها من كتابتها أو يعطيها المولى شيئاً من ماله. الحكم العاشر: ما هو الإكراه وهل يرتفع به الحد عن الرجل والمرأة؟ أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء ... } إلى أنّ الإكراه يسقط التكليف عن الإنسان، وبالتالي يبقى العبد غير مؤاخذ، ويصبح الإثم على المُكْرِه. والإكراه إنما يحصل متى وجد التخويف بما يقتضي تلف النفس كالتهديد بالقتل، أو بما يوجب تلف عضو من الأعضاء، واما باليسير من الخوف فلا تصير مكرهة. فحال الإكراه على الزنى كحال الإكراه على (كلمة الكفر) ، وقد قال الله تعالى فيه {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] وقد ذكر بعض المفسرين أنّ الله تعالى إنما ذكر إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصوّر الإكراه، فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يُتصور إكراه وقال بعضهم: خرج مخرج الأغلب إذ الغالب أن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن. والصحيح ما ذكرناه سابقاً أنّ المقصود به (التقبيح والتشنيع) على هذا المنكر الفظيع الذي كان يعمله أهل الجاهلية، حيث كانوا يُكْرهو الفتيات على البغاء مع إرادتهن للتعفف. واختلف العلماء فيمن أكره على الزنى من الرجال هل يرتفع عنه الحد كما يرتفع عن المرأة؟ فذهب الجمهور: إلى أنّ الإكراه يرفع الحد عن الرجل والمرأة كما يرفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الإثم للآية الكريمة، فإن حكم الرجل كحكم المرأة، ولقوله عليه السلام «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما اسْتُكرهوا عليه» . وذهب (أبو حنيفة) إلى أنّ الرجل إذا أكره على الزنى فإنه يحد إلا إذا أكرهه سلطان وأما المرأة فلا حدّ عليها، وحجّتُه في ذلك أنّ الإكراه ينافي الرضى، وما وقع عن طوع ورضى فغير مكره عليه. ومعلوم أن حال الإكراه هي حال خوف وتلفٍ على النفس، والانتشارُ والشهوةُ ينافيهما الخوفُ والوجل. فلمّا وجد منه الانتشار والشهوة في هذه الحال عُلِمَ أنه فعله غير مكره لأنه لو كان مكرهاً خائفاً لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة وفي ذلك دليل على ان فعله ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحد. طريقة الزنى في الجاهلية: والبغاء الذي كان منتشراً في الجاهلية كان على نوعين: الأول: البغاء في صورة النكاح. الثاني: البغاء العام في الإماء والحرائر. أما الأول: فكانت تحترفه بعض الإماء اللواتي لم يكن لهن من يكفلهن، أو الحرائر اللواتي لم يكن لهن بيت أو أسرة تضمهن، فكانت إحداهن تجلس في بيت، وتتفق في آن واحد مع عدة رجال، على أن ينفقوا عليها ويقوموا أمرها ويقضوا منها حاجتهم. فإذا حملت ووضعت أرسل إليهم حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد وَلَدْتُ وهو ابنُك يا فلان، فتسمي من أحبّت باسمه، فيلتحق نسبه به. فهذا نوع من البغاء كان يتناكح به أهل الجاهلية وهو البغاء في صورة النكاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وأما البغاء العام: فكان معظمه بواسطة الإماء وربما وقع من بعض الحرائر أيضاً وهو أيضاً على وجهين: الأول: أن بعض السادة كانوا يفرضون على إمائهم مبلغاً كبيراً من المال يتقاضونه منهن في كل شهر، فكنّ يكسبْن بالفجور، لأنه لا يمكنهن أن يدفعن ما فرضه عليهن سادتهن بحرفة طاهرة فكنَّ يحترفن البغاء. والوجه الثاني: أنّ بعض العرب كانوا يُجْلسون الفتيات الشابات من إمائهن في الغرفات، وينصبون على أبوابهم رايات، تكون علماً لمن أراد أن يقضي منهن حاجته، وكانت بيوتهن تسمى (المواخير) وكانوا يستدرُّون من ورائهن المال فإذا أبت إحداهن أو تعففت عن ممارسة هذه الرذيلة ضربها سيدها وأكرهها على مزاولة الحرفة حتى لا ينقطع عنه ذلك المورد الخبيث الذي كان يُكْسبه المال الوفير. وهذا (عبد الله بن أبيّ) رأس النفاق كان له ست إماء شابات جميلات يكرههن على البغاء، طلباً لكسبهن، وفيه نزلت الآيات الكريمة المتقدمة. أقول: ما أشبه جاهلية (القرن العشرين) في زماننا بتلك الجاهلية الأولى حيث تنظّم بيوت الدعارة تحت حماية القانون، وتحميها الشرطة ويقصدها الراغبون بأجرٍ معلوم، وليس فيها ما يختلف عن الأولى إلا أنها (أشنع وأفظع) لأنها في (الحرائر) وبشكل فاضح مكشوف، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما ظهرت الفاحشة في قوم فعملوا بها إلاّ أصيبوا بالأمراض والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم!!» وهذا من أعلام النبوّة. وإنّا لله وإنَّا إليه راجعون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 خاتمة البحث: حكمة التشريع شرع الله الزواج لحكم سامية، وغايات نبيلة، وفوائد جليلة. وأمر بتيسير أسبابه لأنه هو الطريق السليم للتناسل. وعمران الأرض بالذرية الصالحة. ولم يشأ الله تبارك وتعالى أن يترك الإنسان كغيره من المخلوقات. فيدع غرائز تنطلق دون وعي. ويترك الاتصال بين الذكر والأنثى فوضى، لا ضابط له كما هو الحال عند الحيوان. بل وضع النظام الملائم الذي يحفظ للإنسان كرامته، ويصون له شرفه. فجعل اتصال الرجل بالمرأة اتصالاً نظيفاً طاهراً قائماً على أساس التراضي والتفاهم. وبهذا وضع للغريزة طريقها المأمون، وحمى النسل من الضياع، وصان المرأة أن تكون دُمْيةً بين أيدي العابثين أو كلأً مباحاً لكل راتع. والغريزة الجنسية من أقوى الغرائز وأعنفها فما لم يكن لها متنفّس عن طريق نظيف شريف تمردت وطغت. ونزعت بالإنسان إلى شر منزع، والزواجُ هو أحسن وضع طبيعي لها. وأسلم طريقة لإرواء الغريزة وإشباعها ليهدأ البدن من الاضطراب. وتسكن النفس عن الصراع. ويكف النظر عن التطلع إلى الحرام. وتطمئن العاطفة إلى ما أحل الله لها وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] . والزواجُ أحسنُ وسيلة لإنجاب الأولاد. وتكثير النل. واستمرار الحياة، مع المحافظة على الأنساب التي يوليها الإسلام عناية فائقةً. وقد خصّ الإسلام عليه ورغّب فيه. بطرق شتى. وصور عديدة. وعدّه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير متاعٍ في هذه الحياة فقال صلوات الله عليه «الدنيا متاعٌ وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة» بل عدّه خيرَ كنزٍ يكنزه الإنسان في حياته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله» . وقد أمر الإسلامُ بتيسير أسباب الزواج، وتسهيل طرقه، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها، وأمر بإزالة جميع العقبات من وجهه، والعقبةُ المالية هي (العقبة الأولى) في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس، لذلك نبه الباري جلّ وعلا إلى أنه لا يجوز أن يكون الفقر عائقاً عن التزويج، فالرزق بيد الله، وقد تكفّل بإغنائهم إن هم اختاروا طريق العفة النظيف، فيجب على الأمة أن تعينهم على الزواج، وأن تهيئ لهم أسبابه، وتبذل كل ما لديها من جهودٍ حتى لا يبقى في المجتمع عضو أشل، أو عضو غير نافع. وإلى أن تتهيأ للشباب فرصة الزواج، جاء الأمر الإلهي لهم بالاستعفاف عن الحرام حتى يغنيهم الله من فضله {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} . ومن الكذب والزور ما يقوله بعض أدعياء العلم اليوم من أن الكَبْتَ والحرمان يولِّدان عن الإنسان عُقداً نفسية وأضراراً جسمية، وأنّ عليه أن يخفف طغيان الغريزة بالاتصال الجنسي ولو عن طريق البغاء. إنهم يجعلون الزنى (ضرورة اجتماعية) لاتقاء الأمراض الجسدية والتخلص من أضرار (الكبت والحرمان) ويزعمون أنّ هذا هو الطريق السليم، لمعالجة طغيان الغريزة، وحماية الإنسان من العقد النفسية، التي قد تؤدي به إلى الجنون. والمتحلِّلون وعلى رأسهم الإباحي (فرويد) يرون أن خير علاج هو إباحة الزنى وأنّ فيه حماية للفرد والمجتمع من مخاطر الجنس، وهم يستقون نظرياتهم (التربوية) فيما يزعمون من علم النفس ويقولون: يجب أن يعيش الإنسان حراً مطلقاً من كل قيد وشرط، حتى لا يتعقد ولا تنتابه الهواجس والأمراض النفسية. إنهم يقيسون الإنسان على الحيوان الذي نعيش طليقاً بدون قيود ولا حدود، يأتي شهوته متى شاء، وينال غريزته بأي طريق أحب، وما دروا أن بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الإنسان والحيوان فرقاً كبيراً وبوناً شاسعاً، فالحيوان تسيطر عليه شهوته وتتحكم فيه غريزته، بينما الإنسان يتحكم فيه عقله ويضبطه إدراكه وإحساسه، ولولا العقل في الإنسان لكان الحيوان خيراً منه وأفضل. يقول شهيد الإسلام (سيد قطب) عليه رحمة الله ورضوانه في تفسيره «الظلال» ما نصه: «وهذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهنّ يردن الغفة - ابتغاء المال الرخيص، كان جزءاً من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي، ذلك أنّ وجود البغاء يُغري الكثيرين لسهولته ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف. ولا عبرة بما يقال: من أنّ» البغاء «صمام أمن يحمي البيوت الشريفة لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج، أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض إن لم تجد هذا الكلأ المباح. إن في التفكير على هذا النحو قلباً للأسباب، فالميلُ الجنسي يجبُ أن يظلّ نظيفاً، بريئاً موجهاً إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة، وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج، فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجاً خاصاً، وبذلك لا يحتاج إلى (البغاء) وإلى إقامة (مقاذر إنسانية) يمرّ بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس فيلقي فيها بالفضلات تحت سمع الجماعة وبصرها. إنّ النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تُعالج بحيث لا تُخْرِجُ مثلَ هذا النتن. ولا يكون فسادها حجةًعلى ضرورة وجود (المقاذر العامة) في صور آدمية ذليلة ... وهذا يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل، النظيف، العفيف، الذي يصل الأرض بالسماء ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 [8] الاستئذان في أوقات الخلوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 التحليل اللفظي {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} : اللام لام الأمر، واستأذن طلب الإذن، لأن السين والتاء للطلب مثل استنصر طلب النُصرة، واستغفر طلب المغفرة، والاستئذان المذكور في الآية يراد منه الإعلام بالحضور، والسماح للمستأذن بالدخول. والمعنى: ليستأذنْكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم، والصغار من الأطفال. {الحلم} : بضم اللام الاحتلام ومعناه: الرؤيا في النوم، والحلْم بكسر الحاء الأناة والعقل، تقول: حلُم الرجل بالضم إذا صار حليماً. وفي «القاموس» : الحُلْم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام، وحلم به رأى له رؤيا أو رآه في النوم، والحُلْم بالضم والاحتلام: الجماع في النوم والاسم منه الحُلُم كعنق. وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ سمي الحلم لكون صاحبه جديراً بالحِلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب. والصحيح أن الحلم هنا بمعنى (الجماع في النوم) وهو الاحتلام المعروف، وأن الكلام (كناية) عن البلوغ والإدراك، يقال: بلغ الصبي الحلم أي أصبح في سن البلوغ والتكليف. {عورات} : جمع عورة ومعناها الخلل وفي «الصحاح» : أعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب: وأعور المكان إذا اختل حاله وبدا فيه خلل يخاف منه العدو، ومنه قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] والأعور المختل العين فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها. وعورة الإنسان (سوأته) سميت عورة لأنها من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من المذمة والعار. قال القرطبي: وعورات جمع عورة وبابه في التصحيح أن يجيء على فعَلات (بفتح العين) كجَفنة وَجَفَنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات لأن فتحة داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك. {العشآء} : المراد بها العشاء الأخيرة والعرب تسميها العَتَمة وفي حديث مسلم «لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يُعْتمون بالإبل» والمغرب تسمى العشاء الأولى وفي الحديث: فصلاها (يعني العصر) بين العشاءين المغرب والعشاء. قال القرطبي: فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تسمى بما سماها الله تعالى به فكأنه نَهْيُ إرشاد إلى ما هو الأولى وليس له جهة التحريم والعرب كانوا يسمونها العتمة وهي الحلبة التي كانوا يحْلِبونها في ذلك الوقت ويشهد لذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنها تعتِم بحلاب الإبل. أقول: قد ورد تسميتها في الكتاب والسنة (بالعشاء) فالأفضل الاقتصار على ذلك ففي الحديث الصحيح «من صلى العشاء في جماعة فكأنه قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله» . كما اشتهر في الشعر تسميتها بالعشاء قال حسان: فدع هذا ولكن مَن لِطَيْف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 {طوافون} : جمع طوّاف بالتشديد وهو الذي يدور على أهل البيت للخدمة، والطوافُ في الأصل الدوران ومنه الطواف حول الكعبة، ووصف هؤلاء الخدم بالطواف لأنهم يذهبون في خدمة السادة ويرجعون ومنه الحديث في الهرة «إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات» والمراد في الآية أنهم خدمكم يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة فلا حرج عليكم ولا عليهم في الدخول بغير استئذان في غير هذه الأوقات. {والقواعد} : جمع قاعد بغير هاء، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث. قال القرطبي: وحذفها يدل على أنه (قعودُ الكِبَر) كما قالوا امرأة حامل ليدل على أنه حَمل الحَبل، قال الشاعر: فلو أنّ ما في بطنه بين نسوة ... حبِلنَ وإنْ كنّ القواعدَ عُقّراً وقالوا: في غير ذلك قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها. قال في القاموس: إنها التي قعدت عن الولد وعن الحيض وعن الزوج. والمراد بهن في الآية: العجائز اللواتي لم يبق لهن مطمع في الأزواج لكبرهن، ولا يرغب فيهن الرجال لعجزهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال وهي محل للشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية. {غَيْرَ متبرجات} : أصل التبرج: التكلف في إظهار ما يخفى من الأشياء ومادة (تبرّج) تدل على الظهور والانكشاف، ومنه بروج مشيدة وبروج السماء، والمراد بالتبرج في الآية: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال قال تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33] . قال الزمخشري: فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت: تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم: سفينة بارج أي لا غطاء عليها، والبَرَج سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله، لا يغيب منه شيء إلا أنه اختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 المعنى الإجمالي يقول جل ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون الذين صدقوا بالله ورسوله وأيقنوا بشريعة الله نظاماً، ودستوراً، ومنهاجاً، ليستأذنْكم في الدخول عليكم هؤلاء العبيد والإماء الذين تملكونهم بملك اليمين، والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال من الأحرار فلا يدخلوا عليكم في هذه الأوقات الثلاثة (وقت الفجر) و (وقت العشاء) إلا بإذن منكم لأن هذه الأوقات أوقات خلودكم إلى النوم والراحة، وهي أوقات يختل فيها تستركم، والتكشف فيها غالب، فعلّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في مثل هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان، وأما في غير هذه الأوقات فلا إثم ولا حرج عليكم ولا عليهم في الدخول بغير إذن، لأنهم يقومون على خدمتكم والله لا يكلفكم ما فيه حرج أو ضيق عليكم، لأن تشريعه من أجل صالحكم وهو جل وعلا العليم الحكيم. وأما إذا بلغ هؤلاء الأطفال مبلغ الرجال فعلموهم الأدب السَّامي ألاّ يدخلوا عليكم إلا بعد الاستئذان كما أُمر الكبارُ من قبل، وذلك هو أدب الإسلام الذي ينبغي أن يتمسك به المؤمنون، وأما النساء العجائز اللاتي لا يرغبن في الزواج ولا يطمع فيهن الرجال لكبرهن وقد انعدمت فيهن دوافع الشهوة والفتنة والإغراء، فلا حرج ولا جناح عليهن أن يضعن بعض ثيابهن كالرداء والجلباب ويظهَرْنَ أمام الرجال بملابسهنَّ المعتادة التي لا تلفت انتباهاً، ولا تثير شهوة. وإذا بالغن في التستر والتعفف ولبسن الجلباب الذي تلبسه الشابات من النساء فذلك خير لهن وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر، والله يعلم خفايا النفوس، ومجازٍ كلّ إنسانٍ على ما قدَّم فاتقوه واجتنبوا سخطه وعقابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 سبب النزول أولاً: روي ان أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله تعالى: {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ... } الآية. وروي عن مقاتل بن حيّان أنه قال: بلغنا أن رجلاً من الأنصار وامرأته (أسماء بنت أبي مرثد) صنعا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طعاماً، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا؟ إنه ليدخل على المرأة وزوجها غلامهما وهما في ثوب واحد بغير إذن، فأنزل الله في ذلك هذه الآية يعني بها العبيد والإماء. ثانياً: وروي ان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث غلاماًمن الأنصار يقال له (مُدْلج) إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائماً، قد أغلق عليه الباب فدقّ عليه الغلام الباب فناداه ودخل فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر (وددت أنّ اللَّهَ نهى أبناءنا ونساءنا، وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلاّ بإذن) ثم انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرّ ساجداً شكراً لله تعالى. قال الألوسي: وهذا احد موافات رايه الصائب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه للوحي. ثالثاً: وروى ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن فذلك قوله تعالى: {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ... } الآية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {مِنكُمْ} يدل على أن المراد به الأطفال من الأحرار، لأن الله سبحانه قد ذكر العبيد والإماء بقوله: {مَلَكَتْ أيمانكم} ثم عقّب ذلك بقوله (منكم) فدلت هذه المقابلة على أن المراد به الصغار من الأحرار. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {ثلاث مرات} ليس المقصود الاستئذان ثلاث مرات، وإنما المراد به في (ثلاثة أوقات) بدليل ذكره تعالى الأوقات بعدها (الظهيرة، العشاء، والفجر) وهي أوقات الراحة والنوم. قال أبو السعود: والتعبير عن (الأوقات) بالمرات للإيذان بأنّ مدار وجوب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة} صرّح تعالى في هذا الوقت بخلع الثياب وهو وقت القيلولة وعبّر بقوله: (حين) للإشارة بقلة زمانها ولم يذكر وضع الثياب في الوقتين الآخيرين (العشاء) و (الفجر) وفي ذلك إشارة إلى أن أمرهما ظاهر بيّن لا يحتاج إلى تصريح، فإذا كان وقت الظهيرة لا يحل الدخول فيه إلا بعد الاستئذان فوقت العشاء والفجر من باب أولى، لأنهما وقت الخلود إلى الراحة والنوم، والتكشفُ فيهما غالب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {ثلاث عورات لَّكُمْ} إطلاق (العورات) على الأوقات الثلاثة التي يكثر فيها التكشف (للمبالغة) حتى كأن هذه الأوقات هي نفسها عورات، والجملة مسوقة لبيان علة (وجوب الاستئذان) فكأن الله تعالى يقول هذه هي أوقات ظهور العورات فلا تدخلوا إلا بعد الاستئذان وفي التعبير من المبالغة ما فيه. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {والقواعد مِنَ النسآء} المراد بها العجائز كما أسلفنا قال ابن قتيبة: سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن من القعود في البيت لكبر سنهن قال الشاعر: أُطوِّفُ ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لَكَاع وقال ابن ربيعة: سميت العجائز قواعد لقعودهن عن الاستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج، ويدل عليه قوله تعالى: {اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} . اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} ليس المقصود بذلك أن يضعن جميع ثيابهن وإنما المراد بعضها كالجلباب والرداء وهي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة، فهو من باب (إطلاق الكل وإرادة الجزء) ويسميه علماء البلاغة (المجاز المرسل) . اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} قال بعض العلماء: (إذا كان استعفاف العجائز عن وضع الثياب خيراً لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب؟ وأبلغ من هذا أن التستر والتحفظ إذا كان مطلوباً من القواعد فكيف بالكواعب) ؟! والمرأة ولو كانت عجوزاً لا تشتهي فإنّ بعض النفوس قد تميل إليها وتشتهيها ولهذا ينبغي لها الاستعفاف. وفي الأمثال (لكل ساقطة لاقطة) وقد قال الشاعر في هذا المعنى: لكل ساقطةٍ في الحي لاقطة ... وكلّ كاسدةٍ يوماً لها سوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 الأحكام الشرعية الحكم الأول: من المخاطب في الآية الكريمة؟ ظاهر قوله تعالى: {ياأيها الذينءَامَنُواْ} أنه خطاب للرجال، وقد قال المفسرون: إنّ الآية نزلت في (أسماء بنت أبي مرثد) فيكون المراد فيها (الرجال والنساء) لأن التذكير يغلب التأنيث. ودخولُ سبب النزول في الحكم قطعي كما هو الراجح في الأصول فيكون الخطاب للرجال والنساء بطريق (التغليب) . وقال الفخر الرازي: والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي وذلك لأن النساء في باب حفظ العورة أشد حالاً من الرجال، فهذا الحكم لمَّا ثبت في الرجال فثبوتهُه في النساء بطريق الأولى، كما أنَّا نثبت حرمة الضرب بالقياس الجلي على حرمة التأفيف. وقال أبو السعود: والخطاب إما للرجال خاثة، والنساءُ داخلات في الحكم بدلالة النص أو (للفريقين) جميعاً بطريق التغليب. أقول: اختار بعض المفسرين رأياً آخر خلاصته: أن قوله تعالى: {ياأيها الذينءَامَنُواْ} ليس خطاباً للذكور بطريق التغليب وإنما هو خطاب لكل من اتصف بالإيمان رجلاً كان أن امرأة فيدخل فيه (الرجال والنساء) معاً ويكون المعنى يا من اتصفتم بالإيمان وصدقتم الله ورسوله ليستأذنْكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم. . إلخ، ولعل هذا الرأي أوجه فكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 نداء بالإيمان يراد منه الوصف فيشمل الذكور والإناث والله أعلم. الحكم الثاني: ما المراد بقوله: {مَلَكَتْ أيمانكم} في الآية الكريمة؟ المراد به (العبيد والإماء) وظاهر قوله تعالى: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} أن الحكم خاص بالذكور، سواء أكانوا كباراً أم صغاراً، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد. والجمهور على أنه عام في (الذكور والإناث) من الأرقاء الكبار منهم والصغار وهو الصحيح الذي اختاره الطبري وجمهور المفسرين. فكما أن الأطفال الصغار لا يحسن دخولهم بدون استئذان على الكبار في أوقات الخلوة، فكذلك لا يحسن دخول الخادم الأنثى، لأن هذه الأوقات أوقات تكشُّف في الغالب، والإنسان كما يكره اطلاع الذكور على أحواله فقد يكره اطلاع النساء عليها كذلك. قال ابن جرير الطبري: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال عني به (الذكور والإناث) لأن الله عمّ بقوله {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} جميع أملاكِ أيماننا ولم يخصص منهم ذكراً ولا أنثى فذلك على جميع من عمّه ظاهر التنزيل. الحكم الثالث: كيف يخاطب الصغار ولا تكليف قبل البلوغ؟ الخطاب وإن كان ظاهره للصغار الذين لم يبلغوا الحلم، إلا أنَّ المراد به الكبار، فقد أمر الله الرجال أن يعلِّموا مماليكهم وخدمهم وصبيانهم، ألاّ يدخلوا عليهم إلا بعد الاستئذان، فهو في (الظاهر) متوجه للصغار وفي (الحقيقة) للمكلفين الكبار، مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مروا أولادكم بالصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» وكقولك: للرجل: لِيَخَفْك أهلُكَ وولَدُك، فظاهر الأمر لهم وحقيقةً الأمر له بفعل ما يخافون عنده. الحكم الرابع: هل الاستئذان على سبيل الوجوب أو الندب؟ ظاهر الأمر في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} أنه للوجوب وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. والجمهورُ على أنه أمر (استحباب وندب) وأنه من باب (التعليم والإرشاد) إلى محاسن الآداب. فالبالغُ يستأذنُ في كلّ وقت، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث. وقد رُويَ عن ابن عباس أنه قال: (آيةٌ لا يؤمنُ بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن علي) وأشار إلى جارية عنده صغيرة. والآية محكمة لم ينسخها شيء على رأي الجمهور، وزعم بعضهم أنها منسوخة لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جارياً على خلافه. وقال آخرون: إنما كان هذا في العصر الأول لأنه لم تكن لهم أبواب تغلق ولا ستور تُرْخى واستدلوا بما رواه عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس: كيف ترى هذه الآية التي أُمِرْنا فيها بما أُمِرْنا، ولا يعمل بها أحد؟ قوله تعالى: {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ. . .} . قال ابن عباس: (إنّ الله حليم رحيم بالمؤمنين، يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم سترٌ ولا حجاب، فربما دخل الخادم، أو الولد، أو يتيمة الرجل، والرجلُ على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذك بعد) . . والصحيح أن الآية ليست بمنسوخة كما قال القرطبي: وكلامُ ابن عباس لا يدل على النسخ، فالأمر بالاستئذان عنده كان متعلقاً بسبب فلما زال السبب زال الحكم. وهذا يدل على أنه النسخ، فالأمر بالاستئذان عنده كان متعلقاً بسبب فلما زال السبب زال الحكم. وهذا يدل على أنه لم ير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 الآية منسوخة، وأنَّ مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم وهذا ليس بنسخ. الحكم الخامس: ما هو سن البلوغ الذي يلزم به التكليف؟ أشارت الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} إلى أن الطفل يصبح مكلفاً بمجرد الاحتلام وقد اتفق الفقهاء على أن الصبيّ إذا احتلم فقد بلغ وكذلك الجارية (الفتاة) إذا احتلمت أو حاضت أو حَمَلت فقد بلغت. فالاحتلام علامة واضحة على بلوغ الصبي أو الجارية سن التكليف وهذا بإجماع الفقهاء لم يختلف فيه أحد. . ولكنهم اختلفوا في تقدير السن التي يصبح بها الإنسان مكلفاً على رأيين: 1 - مذهب الحنفية في المشهور: إلى أن الطفل لا يكون بالغاً حتى يتم له ثماني عشرة سنة ودليله قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وأشدُّ الصبي كما روي عن ابن عباس: أنه ثماني عشرة سنة، وأما الإناث فنشوءهن وإدراكهن يكون أسرع فنقص في حقهن سنة فيكون بلوغهن سبع عشرة سنة. 2 - مذهب الشافعية والحنابلة (الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد) إلى أنه بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً. واستدلوا بما روي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما (أنه عُرِض على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أُحدٍ وله أربع عشرة سنة فلم يُجِزْه، وعُرِض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه) . وقالوا: إنّ العادة جارية ألاّ يتأخر البلوغ في (الغلام والجارية) عن خمس عشرة سنة فيكون هو سن البلوغ الذي يصبح به الإنسان مكلفاً وذلك بحكم العادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 قال الجصاص في تفسيره «أحكام القرآن» : قوله تعالى: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم} يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم قبل ذلك، لأن الله تعالى لم يفرّق بين من بلغها وبين من قصّر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم، وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جهات كثيرة «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُقيق، وعن الصبي حتى يحتلم» ولم يفرّق بين من بلغ خمس عشرة وبين من لم يبلغها. وأما حديث ابن عمر: أنه عرض على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أُحد. . إلخ فإنه مضطرب لأن الخندق كان في سنة خمس، وأُحد في سنة ثلاث، فكيف يكون بينهما سنة؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تَعلُّق لها بالبلوغ لأنه قد يُرَدّ البالغ لضعفه، ويجاز غير البالغ لقوته على القتال. وطاقته لحمل السلاح كما أجاز (رافع بن خديج) وردّ (سمرة بن جندب) ويدل عليه أنه يسأله عن الاحتلام ولا عن السن. وقد تكلم بكلام كثير انتصر فيه لمذهب الإمام حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ. الترجيح: والصحيح هو قول الجمهور لما علمنا أن مثل هذا إنما يثبت بحكم العادة، وقد جرت العادة في الأغلب على الاحتلام في مثل هذا الس، فيكون هو سن البلوغ المعتبر في التكليف. وقد نص فقهاء الحنفية على أن الفتوى بقول (الصاحبين) وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ أيضاً فيكون هو المعتبر، وكفى الله المؤمنين القتال. الحكم السادس: هل يعتبر الإنباتُ دليلاً على البلوغ؟ الراجح من أقوال الفقهاء أن البلوغ لا يكون إلا بالاحتلام أن بالسن وهي سن الخامس عشرة كما مر معنا، وقد روي عن الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ أنه اعتبر الإنبات دليلاً على البلوغ، واستدل بما روي عن (عطية القرظي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إليّ فلم أكن قد أنبتُّ فاستبقاني. وما روي أيضاً أن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سئل عن غلام فقال: هل أخضرّ عذاره؟ وهذا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة. وبقية الفقهاء لا يعتبرون الإنبات دليلاً على البلوغ حتى قال الجصاص إن حديث (عطية القرظي) لا يجوز إثبات الشرع بمثله لوجوه: أحدها: أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر ولا سيما مع اعتراضه على الآية والخبرِ في نفي البلوغ إلاَّ بالاحتلام. وثانيها: أنه مختلف الألفاظ ففي بعض الروايات أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى، وفي بعضها من أخضرّ عذاره، ومعلومٌ أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدّم بلوغة. وثالثها: أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر للقتل لذلك لا للبلوغ. والصحيح أن الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ جعل الإنبات دليلاً على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر، والجزية، والمعاهدة، وغيرها من الأحكام لا أنه جعله دليلاً على البلوغ مطلقاً، كما نبّه على ذلك بعض العلماء. قال الألوسي: ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله (خمسة أشبار) وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتصّ له، ويقتصّ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: أُتي أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلّى عنه وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله: ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... وسما فأدرك خمسة الأشبار وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب، لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلاً، وفوق البلوغ ويكون قصيراً، فلا عبرة بذلك، ولعلّ الأخبار السابقة لا تصح، وما نقل عن الفرزدق لا يتعيَّن إرادة البلوغ فيه فمن الناس من قال إنه أراد بخمسة أشبار (القبر) كما قال الآخر: عجباً لأربع أذرع في خمسة ... في جوفه جبل أشم كبير الحكم السابع: هل يؤمر الطفل بفعل الفرائض والطاعات؟ استدل بعض الفقهاء من قوله تعالى: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح - وإن لم يكن من أهل التكليف - على وجه التعليم، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات، وقال عليه السلام «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع» . وروي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «نعلِّم الصبي إذا عرف يمينه من شماله» . وروي عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم» . قال أبو بكر الرازي: إنما يؤمر بذلك على وجه (التعليم والتأدب) ليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفوراً منه. وكذلك يجنّب شرب الخمر، ولحم الخنزير، ويُنْهى عن سائر المحظورات، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 لو لم يمنع في الصغر، لصعب عليه الامتناع في الكبر، وقد قال الله تعالى: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] قيل في التفسير أي أدبوهم وعلموهم. الحكم الثامن: ما المراد من وضع الثياب في الآية الكريمة؟ دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} على أن المرأة العجوز التي لا تُشْتهى والتي لا يُرغب فيها في العادة أنه لا إثم عليها في وضع الثياب أمام الأجانب من الرجال، بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة، وليس المراد أن تخلع المرأة كل ما عليها من الثياب حتى تتعرى فإن ذلك لا يجوز للعجوز ولو كان أمام محارمها فكيف بالأجانب؟ ولذلك فقد اتفق الفقهاء والمفسرون على أن المراد بالثياب في هذه الآية (الجلباب) التي أُمِرت المسلمةُ أن تخفي به زينتها في قوله تعالى في سورة الأحزاب [59] {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} وهذا الإذن في وضع الجلابيب والخُمُر ليس إلا لأولئك النسوة العجائز اللاتي لم يعدن يرغبن في التزين، وانعدمت فيهن الغرائز الجنسية، غير أنه إذا كان لا يزال في هذه النار قبس يتقد، ويكاد يميل بالمرأة إلى إظهار زينتها فلا يصح لها أن تضع جلبابها. قال القرطبي: (ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها فقد روي في «الصحيح» عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما. . وذكر: ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسْنِمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» . وفي رواية: من مسيرة خمسمائة عام) . قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثوب إذا رقَّ يصفهن ويبدي محاسنهن وذلك حرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى، والثاني: أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله فيه: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] وأنشدوا: إذا المرءُ لم يلبس ثياباً من التُّقى ... تقلّب عُرياناً وإن كان كاسيا وخيرُ لباسِ المرءِ طاعةُ ربه ... ولا خيرَ فيمن كان لله عاصيا ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: ضرورة استئذان الخدم من العبيد، والإماء في أوقات الخلوات. ثانياً: تعليم الأطفال الآداب الإسلامية منها (الاستئذان عند الدخول) في الأوقات الثلاثة. ثالثاً: لا يطلب من الخادم أن يستأذن في كل وقت لضرورة قيامه بالخدمة لسيده. رابعاً: إذا بلغ الطفل سن (المراهقة) فعليه أن يستأذن قبل الدخول في جميع الأوقات. خامساً: لا يجوز للمسلمة أن تنكشف أمام الخدم من الغلمان إذا بلغوا مبلغ الرجال. سادساً: النساء العجائز لا يجب عليهن المبالغة في التستر والبس الجلباب لرفع الحرج عنهن. سابعاً: التبرج وإظهار الزينة أمام الأجانب يستوي فيه العجائز والأبكار. ثامناً: شرعُ اللَّهِ حكيم، ونظامه رحيم، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 حكمة التشريع الإسلام رسالة إصلاحية فاضلة، وآداب اجتماعية سامية، ومُثُل إنسانية رفيعة، حوى خير ما في التشاريع من نظم ومبادئ، وخير ما في الأديان من سمو وأخلاق، فتعاليمُه الرشيدة تدعو إلى الكمال، ومبادئه الإنسانية تهدف إلى الإصلاح، وإن شئت فقل: إنه رسالة (الفضائل والآداب) بل إنه رسالة الحياة. وفي هذه الآيات الكريمة دعوة إلى الآداب الإنسانية (آداب البيوت) وتعليم للأمة أن يتمسكوا بالأخلاق الفاضلة التي ربَّاهم عليها الإسلام، وأن يعلِّموا أطفالهم وخَدَمهم هذه الآداب الحميدة، لتبقى الأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، في منأى عن المفاسد التي تعجُّ بها المجتمعات الأخرى. وأول ما يجده الإنسان من (الآداب الاجتماعية) أدب الاستئذان عند دخول البيوت، وقد تقدم في الآيات الكريمة السابقة {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] . ثم يأتي أدب الاستئذان (داخل البيوت) وهو للخدم والأطفال لئلا يطَّلعوا على العورات، فقد يكون الإنسان في حالة لا يحِبّ أن يطلع عليه أحد، وقد يكون مع أهله في حالة لا يصح أن يدخل عليه فيها أحد. لذلك فقد أوجب الإسلام الاستئذان حتى على (الخدم والصغار) في ثلاثة أوقات وسماها (عورات) لانكشاف العورات فيها وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم، وأن يستأذن الخدم، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحُلُم، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم وهو أدب رفيع يُغْفله الكثيرون في حياتهم، مستهينين بآثاره النفسية والخلقية، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة، وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 المناظر بينما يقرر - علماء النفس - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في مستقبل حياتهم وقد تصيبهم بأمراض نفسية، وخلقية، وتوجد فيهم عقداً يصعب شفاؤهم منها. وهذا الأدب الإسلامي الرفيع لا نجده عند غير المسلمين، ويكفي الإسلام فخراً وشرفاً أنه دين (الأدب والستر) ودين الحشمة والوقار، فهو يأمر بغض الأبصار عن عورات الناس ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات، ولا يجعل استئذان الخدم والصغار في كل حين منعاً للحرج؛ فهم كثيروا الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة وبذلك يجمع بين (الحرص) على ستر العورات وإزالة (الحرج) والمشقة عن الناس. وأخيراً يدعو النساء إلى إخفاء الزينة منعاً لإثارة الفتن والشهوات ويأمر بالتحجب الكامل والتستر الشامل. ويستثني النساء العجائز اللواتي لا يحركن شهوة، ولا يثرن فتنة، فيسمح لهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية على ألا تنكشف عوراتهن ولا تظهر زينتهن، وخير لهن وهنَّ العجائز المسنات أن يبقين كاسيات متسترات محتشمات بثيابهن الفضفاضة فذلك هو أدب الإسلام وذلك هو استعفاف المؤمنة الطاهرة التي تريد أن تحفظ نفسها، وتصون كرامتها، وهو ما سماه القرآن (بالاستعفاف) أي طلب العفة وإيثارها على حب الظهور وذلك لما بين (التبرج والفتنة) من صلة، وبين (التحجب والعفة) من صلة وكفى بذلك برهاناً على سمو الشريعة وطُهْر مقصدها ونيل غايتها والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 [9] إباحة الأكل من بيوت الأقرباء التحليل اللفظي {حَرَجٌ} : قال الزجّاج: الحَرَج في اللغة الضيق، وفي الشرع: الإثم. قال تعالى: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} [الأحزاب: 37] والمتحرّج: الكافّ عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الإثم، وفي الحديث «حدّثُوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وتحرّج تأثّم، والتحريجُ: التضييق. قال ابن الأثير: الحرج في الأصل الضّيقُ ويقع على الإثم والحرام، وقيل الحَرَج: أضيق الضيق، ومعنى الحديث لا بأس ولا إثم عليكم أن تحدّثوا عنهم ما سمعتم. وقد ورد الحرج في أحاديث كثيرة وكلها راجعة إلى هذا المعنى. وفي التنزيل: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] أي شديد الضيق لا ينشرح لخير. {مَّفَاتِحهُ} : جمع مِفْتحَ، وأمّا المفاتيح فجمع مفتاح، قال في «لسان العرب» : والمفتح، بكسر الميم والمفتاح: مفتاح الباب وكل ما فتح به الشيء، قال الجوهري: وكل مستغلق. وفي التنزيل {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} [القصص: 76] قيل هي مفاتيح الخزائن التي تفتح بها الأبواب، وقيل: هي الكنوز والخزائن. قال الأزهري: والأشبه في التفسير أن قوله تعالى: {مَّفَاتِحهُ} خزائن ماله، والله أعلم بما أراد. {أَشْتَاتاً} : متفرقين جمع شَتّ، والشتات: الفرقة، وتشتّت جمعهم: أي تفرّق جمعهم، قال الطرماح: شتّ شعبُ الحيّ بعدَ التئامِ ... وشَجَاكَ الرّبْعُ ربعُ المُقَام قال في «لسان العرب» : الشَتّ: الافتراق والتفريق، والشّتيتُ المتفرّق، وفي التنزيل {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً} [الزلزلة: 6] أي يصدرون متفرقين، منهم من عمل صالحاً، ومنهم من عمل شراً. وجاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 القوم أشتاتاً: متفرقين، واحدهم شَتّ. ومعنى الآية؛ أي ليس عليكم إثم أو جناح أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين. {فَسَلِّمُواْ} : من التسليم بمعنى التحية، والمعنى: حيّوا بعضكم بعضاً بتحية الإسلام، وتحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله) وفي الحديث «وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» والتسليم: مشتق من السّلام اسم الله تعالى، لسلامته من العيب والنقص. قال في «للسان» : السلام والتحية معناهما واحد، وهو السلامة من جميع الآفات، وفي حديث التسليم: «قل السلام عليك، فإن عليك السلام تحيةُ الموتى» وقد جرت به عادتهم في المراثي كانوا يقدّمون ضمير الميت على الدعاء له كقوله: «عليك سلام الله قيسَ بن عاصم» . وفي حديث أبي هريرة: (لما خلق الله آدم قال: اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة، فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال: «السلام عليكم ... » ) الحديث. {تَحِيَّةً} : قال الزجّاج: هي منصوبة على المصدر كقولك: قعدت جلوساً، لأن قوله: (فسلّموا) بمعنى فحيّوا، ومعنى الآية: فحيّوا بعضكم بعضاً تحية من عند الله مباركة طيبة. والتحية في اللغة: السلام، قال تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} [المجادلة: 8] . قال الأزهري: والتحية (تَفْعِلة) من الحياة، وإنما أدغمت لاجتماع الأمثال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 والهاء لازمة لها والتاء زائدة، وروي عن أبي الهيثم أنه قال: التحية في كلام العرب ما يحيّي بعضهم بعضاً إذا تلاقَوْا قال الشاعر: «تحيةُ بَيْنِهِم ضربٌ وَجيعُ» ... {مباركة} : بالأجر والثواب، والبركة في اللغة أصلها: النماء والزيادة. {طَيِّبَةً} : حسنة طابت بالدعاء والإيمان أو تطيب نفس المحيّى بها، قال أبو بكر الجصاص: يعني أن السلام تحية من عند اله، لأن الله أمر به، وهي مباركة طيبة، لأنه دعاء بالسلامة، فيبقى أثره ومنفعته، وفيه الدلالة على أن قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} [النساء: 86] قد أريد به السلام. المعنى الإجمالي يقول الله جلّ ذكره ما معناه: ليس على أهل الأعذار ولا على ذوي العاهات (الأعمى، والأعرج، والمريض) حرج أن يأكلوا مع الأصحاء، فإن الله تعالى يكره الكِبْر والمتكبرين، ويحب من عباده التواضع. وليس عليكم أيها المؤمنون حرج أن تأكلوا من بيوت أقربائكم أو أصدقائكم، أو البيوت التي توكّلون عليها، وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها، ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، فإذا دخلتم بيوت إخوانكم أو أصدقائكم، فابدءوهم ابالسلام، وسلذموا عليهم بتحية الإسلام، التي هي شعار المؤمنين، تحية من عند الله مباركة طيبة، ذلك شرع الله وحكمه إليكم، لتتأدبوا بآداب الإسلام، وتتمسكوا بتعاليمه الرشيدة، التي فيها سعادتكم وصلاح دينكم ودنياكم، كذلك يبيّن الله لكم طريق الخير والسعادة لعلكم تعقلون الخير والحق في جميع الأمور وتكونون من المؤمنين المتقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 سبب النزول أولاً: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لمّا نزل قوله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى، والزَّمنى، والعُمْي، والعُرْج وقالوا: الطعام أفضل الأموال وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب، والمريض لا يستوفي الطعام بسبب مرضه، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت الآية الكريمة {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} . ثانياً: وعن سعيد بن المسيّب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: إن ناساً كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا فكانوا يتقون أن يأكلوا منها، ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيّبة، فنزلت هذه الآية. ثالثاً: وروي عن مجاهد في هذه الآية أنه قال: كان رجال زمنى وعميان وعرجان وأولو حاجة، يستتبعهم رجال إلى بيوتهم، فإن لم يجدوا لهم طعاماً ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم وبعض من سمّى الله عزّ وجلّ في هذه الآية، فكان أهل الزّمانة يتحرجون من أكل ذلك الطعام، لأنه أطعمهم غير مالكة فنزلت هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وجوه القراءات أولاً - قرأ الجمهور {مَلَكْتُمْ} بالبناء للمعلوم، وقرأ سعيد بن جبير، وأبو العالية {مُلِّكْتُمْ} بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها بالبناء للمجهول. ثانياً - قرأ الجمور {مَفَاتِحَه} بالجمع، وقرأ أنس بن مالك، وقتادة {مِفْتَاحَه} بكسر الميم على الإفراد، وقرأ بن جبير {مفاتيحه} جمع مفتاح. ثالثاً - قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قرئ بكسر الصاد اتباعاً لحركة الدال وقراءة الجمهور بفتح الصاد، ومثلها (أُمّهاتكم) بضم الهمزة وقرأ طلحة (إمّهاتكم) بكسر الهمزة. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} الآية رفع الله تعالى الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض، ولم يذكر في الآية متعلق الحرج فذهب جمهور المفسّري على أن نفي الحرج عن أهل العذر ومن بعدهم في (المَطَاعم) ويكون معنى الآية «ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه، ولا في الأعرج حرج، ولا في المريض حرج وتكون (على) بمعنى (في) » ذكره ابن جرير. وقال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد: الحرج المنفي عن أهل العذر هو في القعود عن الجهادفي سبيل الله، وهو مقطوع ممّا قبله، إذ متعلّق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الحرجين، مختلف ويكون معنى الآية: «ليس على الأعمى، ولا على الأعرج ولا على المريض حرج في تركهم للجهاد وعدم خروجهم مع المجاهدين بسبب أعذارهم» ويكون الكلام قد تمّ هنا، وأنّ ما بعده مستأنف لا تعلّق له به، وهذا ما اختاره (أبو حيّان) في تفسيره «البحر المحيط» . ثانياً: قوله تعالى: {جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} قال أبو حيّان: انتصب «جميعاً» و «أشتاتاً» على الحال. أي مجتمعين، أو متفرقين. ثالثاً: قوله تعالى: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً} . قال الزجّاج: تحيّة منصوبة على المصدر، لأن قوله (فسلّموا) بمعنى فحيّوا فتكونمفعولاً مطلقاً. وقوله (مباركة طيّبة) صفتان للمصدر (تحيّةً) والجار والمجرور متعلق ب (مباركة) أو بنفس التحية والله أعلم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ذكر الله تعالى بيوت الأقارب (الآباء، الأمهات، الإخوان، الأخوات، الأعمام، العمات) إلخ ولم يذكر بيوت الأولاد، والسّر في ذلك أن مال الولد مال الأب، وبيته بيته كما ورد (أنت ومالك لأبيك) فلم يذكر اكتفاءً بذكر (بيوتكم) فما يملكه الولد كأنه ملك للأب، لقوة حقّ القرابة وفي الحديث الشريف (إنَّ أطيبَ ما يأكل الرجل من كسب ولده، وإنَّ ولده من كسبه) . قال أبو حيان: ولم يذكر بيوت الأولاد اكتفاءً بذكر بيوتكم، ومعنى قوله تعالى: {مِن بُيُوتِكُمْ} أي من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم. والولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 أقرب من عدّد من القرابات، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة، كان الذي هو أقرب منهم أولى. اللطيفة الثانية: قيل لبعضهم من أحبّ إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحبّ أخي إلا إذا كان صديقي. وقد أكل جماعة من أصحاب الحسن من بيته وهو غائب، فجاء فرآهم فسُرّ بذلك وقال: هكذا وجدناهم، يعني كبراء الصحابة. وكان الرجل يدخل بيت صديقه، فيأخذ من كيسه، فيعتق جاريته التي مكنته من ذلك. قال ابن عباس: الصديق أوكد من القرابة، ألا ترى استغاثة الجهنّميّين حيث يقولون: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات. اللطيفة الثالثة: اشتهر العرب بالكرم. وكان قوم من الأنصار لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم، وكات قبيلة (كنانة) يتحرّج الرجل أن يأكل وحده، فربما قدع والطعام بين يديه من الصباح إلى المساء، فإذا لم يجد من يؤاكله اضطر إلى الأكل وحده، وقد قال بعضهم مفتخراً: إذا ما صَنَعْتِ الزّاد فالتمسي لهُ ... أكيلاً فإنّي لستُ آكلُهُ وَحْدي اللطيفة الرابعة: قال الزمخشري: (فإذا دخلتم بيوتاً) فابدأوا بالسلام على أهلها، الذين هم فيها منكم ديناً وقرابة. و (تحية من عند الله) أي ثابتة بأمره ومشروعة من لدنه، أو لأن التسليم والتحية طلب للسلامة، وحياة للمسلّم عليه. ووصفُها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يُرْجى بها من الله زيادة الخير، وطيب الرزق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {بُيُوتاً} التنكير يفيد العموم، أي إذا دخلتم أيّ بيت من البيوت فسلّموا على أنفسكم، قال الفخر الرازي: (فسلّموا على أنفسكم) قال ابن عباس: فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل: السلام علينا من قبل ربنا. وقال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتاً من بيوت المسملين، فليسلّم بعضكم على بعض، قال: وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله جلّ ثناؤه قال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً} ولم يخصّص من ذلك بيتاً دون بيت، وقال: (فسلّموا على أنفسكم) يعني: بعضكم على بعض، فكان معلوماً إذ لم يخصص ذلك على بعض البيوت دون بعض، أنه معنيّ به جميعها، مساجدها وغير مساجدها. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد بالأكل من البيوت؟ دلت الآية الكريمة على إباحة الأكل من بيوت الأقرباء، وذلك جار مجرى المؤانسة والمباسطة وعدم الكلفة، وقد جرت العادة ببذل الطعام للأقرباء، لأنه بذلك يسرّهم، فكان جريان العادة بالإذن كالنطق الصريح، فيباح للإنسان أن يأكل من بيوت من سمّى الله عَزَّ وَجَلَّ من الأقارب. وقد اختلف المفسّرون في قوله تعالى: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بها بيوت الأولاد، أي بيوت أولادكم لأنها في حكم بيوتكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الثاني: أن المراد بها البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم، فيكون الخطاب لأهل الرجل، وولده، وخادمه، ومن يشتمل عليه منزله، ونسبها إليهم لأنهم سكّانها. الثالث: أن المراد بها بيوتهم، والمقصود من الآية أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم، لأن بيت المرأة بيت الرجل. واختار أبو بكر (الجصّاص) الرأي الثاني فقال: «يعني والله أعلم من البيوت التي هم سكّانها، وهم عيال غيرهم فيها مثل: أهل الرجل، وولده، وخادمه، ومن يشتمل عليه منزله، فيأكل من بيته، ونسبها إليهم لأنهم سكانها، وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل، لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباجة للرجل أن يأكل من مال نفسه، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره. وقال الله: {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم} فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم، وفقد التمانع في أمثاله» . الحكم الثاني: هل للوكيل أن يأكل من مال موكّله؟ ظاهر قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} يدل على أنه يرخّص للوكيل أن يأكل من مال الموكل، بغير شطط ولا عدوان، وقد روي عن (عكرمة) أنه قال: «إذا ملك المفتاح فهو جائز، ولا بأس أن يَطْعم الشيء اليسير» . وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} هو وكيل الرجل يُرخَّص له أن يأكل من التمر، ويشرب من اللبن. وقيل: المراد به وليّ اليتيم، يتناول من ماله بالمعروف دون إضرار باليتيم كما قال تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الحكم الثالث: هل يباح الأكل من بيت الصّديق بغير إذنه؟ أباحة الآية الكريمة الأكل من بيوت من سمّى الله عَزَّ وَجَلَّ ّ من الأقارب، ومن بيوت الأصدقاء. وقد كان الواحد لا يأكل من بيت غيره تأثماً، فرخّص الله تعالى لأهل الأعذار (العمي، والعرج، والمرضى) أولاً ثمّ رخّص للنَّاس عامة، فلو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالاً. قال الجصاص: «وهذا أيضاً مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه، فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها، من غير استئذانها إيّاه، لأنه متعارف أنهم لا يمنعون مثله، كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما، ويتصدقان باليسير ممّا في أيديهما، فيجوز بغير إذن المولى. وقد روي عن نافع عن ابن عمر أنه قال:» لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم «. وروى إسحاق بن كثير عن الرصافي قال:» كنا عند أبي جعفر يوماً فقال: هل يُدْخل أحدكم يده في كُمّ أخيه أو في كيسه فيأخذ ماله؟ قلنا: لا، قال: ما أنتم بإخوان «. أقول: يباح للإنسان أن يأكل من بيت صديقه في غيبته لما بينهما من المودّة والصداقة، وقد جرت العادة بذلك، ودلت الآية عليه. والصديق يفرح بأكل صديقه عنده ويُسرّ غاية السرور. اللهم إلا إذا كان ممن قال فيهم الشاعر: سِيَانِ كَسْرُ رغيفِهِ ... أو كَسْرُ عظم من عظَامِه نسأله تعالى أن يقينا مرض البخل والشح إنه سميع مجيب الدعاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الحكم الرابع: ما هو حكم الشركة في الطعام؟ يجوز للإنسان أن يشارك غيره في الطعام، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} أي مجتمعين أو منفردين. فإذا اشترك جماعة في طعام جاز لهم أن يأكلوا منه مجتمعين. وقد كان الرجل يخاف إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام. فرخّص لهم القرآن الكريم وأباح لهم الأكل حتى ولو كان بعضهم أشهى نفساً، وأوسع معدة. وقد دلّ على هذا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعاً. ونحو هذا قوله تعالى عن أصحاب الكهف {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} [الكهف: 19] . فكان الورِق (الفضة) لهم جميعاً. والطعام بنهم فاستجازوا أكله وهذا ما يسميه الفقهاء (المناهدة) وهي الشركة التي يفعلها الناس في الأسفار. الحكم الخامس: هل تقطع اليد في السرقة من بيت المحارم؟ قال ابو بكر الجصّاص رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه «أحكام القرآن» : «قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع؛ لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم، ودخولها من غير إذنهم، فلا يكون ماله مُحْرَزاً منهم. فإن قيل: فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه، لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه؟ قيل له: من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 أقول: الحدود تُدْرأ بالشبهات، ولمّا كانت السرقة من بيت ذي الرحم المحرم، وبينهما هذه القرابة القوية وهي (قرابة الرحم) فقد وجدت الشبهة، فلا قطع حينئذٍ وإنما فيه التعزير والله تعالى أعلم. الحكم السادس: هل الآية الكريمة منسوخة بآية الاستئذان؟ ذهب بعض المفسّري إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] وبقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» والصحيح أنها غير منسوخة وهو رأي جمهور المفسّري ومذهب الإمام أبي بكر الجصّاص والرازي وغيرهما. وقد قال أبو بكر: ليس في ذلك ما يوجب النسخ، لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها - أي من أهل الأعذار والأقارب - وقوله {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] في سائر الناس غيرهم، وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» فإنه في غير هؤلاء المذكورين في الآية الكريمة والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - رفع الحرج عن أهل الأعذار في ترك الجهاد أو في الأكل من بيوت الناس. ثانياً - إباجة الأكل من بيوت الأقارب للمؤانسة والمباسطة التي تكون في العادة بينهم. ثالثاً - حق الصداقة عظيم ولذلك رخّص الله في الأكل من بيت الصديق بغير إذنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 رابعاً - جواز الشركة في الطعام والأكل مع بقية الشركاء مجتمعين أو متفرقين. خامساً - ضرورة التقيد بآداب الإسلام ومنها السلام على أهل المنزل عند الدخول. سادساً - تحية المسلم لأخيه المسلم شرعها الباري جلّ وعلا وهي بلفظ السلام عليكم ورحمة الله. سابعاً - الأحكام التي شرعها الله لعباده المؤمنين فيها خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدراين. حكمة التشريع حرّم الله تعالى الاعتداء على الناس وأكل أموالهم بالباطل، فلا يجوز لإنسان أن يأكل مال غيره إلاّ بإذنه، وبطيب نفسٍ منه كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه، ومالُه، وعرضُه» . وقد أباح الباري جلّ وعلا للإنسان أن يأكل من بيت أقاربه بدون إذن، وهم الذين سمّاهم في كتابه العزيز وعدّد أصنافهم وهم (الآباء، الأمهات، الإخوان، الأخوات، الأعمام، العمات، الأخوال، الخالات) وذلك لما بين هؤلاء من صلة الرحم، ولأنه يستدعي المحبة والوداد والوئام، فإنَّ أكل الإنسان من بيت أقربائه، يقوّي أواصر القرابة، ويزيل الكُلْفة، ويدعو إلى المؤانسة والانبساط. كما أباح الأكل من بيت الصديق بدون إذن أيضاً، لأن الصداقة بمنزلة القرابة؛ وحق الصديق على صديقه عظيم وكبير، وكم من صديق أنفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 من أخٍ قريب. وقد قيل في الأمثال: «ربّ أخٍ لك لم تلده أمّك» . ولهذا رخّص المولى جلّ ثناؤه بالأكل من بيوت الأصدقاء. وجعلهم في عداد الأقرباء، حتى تدوم الألفة، وتتمكن الصداقة والمودّة. وتتقوى روابط (الأخوّة الدينيّة) بين المسلمين، وذلك من أغراضالشريعة الإسلامية، وأهدافها الإنسانية السامية. وصدق الله: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . وقد أمر سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، عند دخولهم لبيوت الآخرين، أن يبدءوهم بالتحية والسلام. فذلك من الآداب الإجتماعية الرفيعة. التي دعا إليها الإسلام. وأمر بإشاعة السلام لأنه تحية المؤمن وشعار الإسلام. وهو طريق المحبة بين المؤمنين. الذي يربط بين أفراد الأمة الإسلامية. كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» . وقد كان أهل الجاهلية إذا لقي الرجل منهم صديقه أو أخاه. يقول له: أنعم صباحاً، أو أنعم مساءً. وأنعم الله بك عيناً إلخ. فجاء الإسلام بما هو خير وأزكى وأطهر. جاءهم بالتحية المباركة الطيبة، بلفظ كريم لطيف «السلام عليكم ورحمة الله» وهذه التحية شرعها الله لعباده كما قال تعالى: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً} والسلام اسم من أسماء الله تعالى فلا يليق بالمسلم أن يدع هذه التحية إلى تحية الجاهلية. أو ما شابهها من ألفاظٍ مستحدثة كقولهم: احترماتي، تحياتي. صباح الخير، إلى غير ما هنالك من ألفاظ وعبارات ليس فيها ذلك المعنى اللطيف أو المغزى الدقيق الذي قصد إليه الإسلام، دين الإنسانية الخالد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 سورة لقمان [1] «طاعة الوالدين» أو «بر الوالدين» التحليل اللفظي {الحكمة} : الإصابة في القول والعمل. وأصل الحكمة: وضع الشيء في موضعه قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] . قال الرازي: الحكمة عبارة عن التوفيق بين العلم والعمل، فكلّ من أوتي توفيق العلم بالعمل فقد أوتي الحكمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وفي «اللسان» : أحكم الأمر: أتقنه، ويقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب، والحكيم: المتقن للأمور. وقد كان لقمان حكيماً على الرأي الراجح ولم يكن نبياً. {غَنِيٌّ} : مستغنٍ عن الخلق ليس بحاجة إلى أحد، والعبادُ محتاجون إليه جلّ وعلا {ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد} [فاطر: 15] . {حَمِيدٌ} : فعيل بمعنى (مفعول) أي محمود يحمده أهل السماء وأهل الأرض. قال أبو السعود: (حميد) أي حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد، والمعنى أنه تعالى مستحق للحمد سواء شكره الناس أو لم يشكروه. {يَعِظُهُ} : العظة والموعظة بمعنى (النصيحة) و (الإرشاد) بالأسلوب الحكيم {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] . وفي حديث العرباض بن ساريه (خطبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بموعظةٍ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب ... .) . {وَهْناً} : مصدر وَهَن بمعنى ضعف، والوهن الضعف، وفي التنزيل {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] . قال الزجّاج: (وهناً على وهنٍ) أي ضعفاً على ضعف، والمعنى: لزمها بحملها إيّاه أن تضعف مرة بعد مرة، فلا يزل ضعفها يتزايد من حين الحمل إلى الولادة، لأن الحمل كلما عظم ازدادت به ثقلاً وضعفاً. ثم هي في أصل خلقتها ضعيفة البنية والحمل يزيدها ضعفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 {وفصاله} : فطامه، والفِصال: يراد منه ترك الإرضاع، وهو لفظ يستعمل في الرضاع خاصة، وأما الفصل فهو أعمّ منه، لأنه يستعمل في الرضاع وغيره، وقيل: هما بمعنى واحد. قال في «اللسان» : والفصال: الفطام، قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً} [الأحقاف: 15] . وفصلت المرأة ولدها أي فطمته، وفي الحديث (لا رضاع بعد فصال) قال ابن الأثير: أي بعد أن يفصل الولد عن أمه، وبه سُمّي الفصيل من أولاد الإبل، فعيل بمعنى مفعول. ومعنى الآية: أي فطامه يتم في انقضاء عامين. {المصير} : المرجع والمآب قال تعالى: {وَإِلَيْهِ المصير} [المائدة: 18] أي الرجوع والمآب، وصِرْت إلى فلان مصيراً، قال الجوهري: وهو شاذ والقياس مَصَار مثل معاش، وفي كلام الفَزَاري لعمه (ابن عنقاء) : ما الذي أصارك إلى ما أرى يا عم؟ قال: بخلك بمالك، وبخل غيرك من أمثالك، وصوني أنا وجهي عن مثلهم وتسآلك! {جاهداك} : أي بذلا أقصى ما في وسعهما من أجل حملك على الإشراك بالله، يقال: جاهد أي بذل جهده قال تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] والجهاد المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة، ولهذا يسمى المحارب (مجاهداً) لأنه يبذل ماله ونفسه وروحه في سبيل الله. فهو قد بذل كل ما لديه قال الشاعر: يقولونَ جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ ... وأي جهادٍ غيرهنّ أريد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 {مَعْرُوفاً} : أي صاحبهما مصاحبة بالمعروف، والمعروف ما يستحسن من الأفعال. {أَنَابَ} : أي رجع إلى ربه وتاب إليه، والمنيب: الراجع إلى ربه، السالك طريق الاستقامة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [سبأ: 9] . قال الطبري: وقوله {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتّبع محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. المعنى الإجمالي نبّه الباري جلّ وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى المقام الرفيع الذي أُعطيه العبد الصالح (لقمان) . . وذكّر بحق الوالدين، وحذّر من الشرك، الذي هو أعظم الجرائم عند الله، فالله جلّ ثناؤه يخبرنا عن أمر ذلك العبد الصالح، الذي رزقه الله الحكمة، وآتاه العقل والرشد، فكان ينطق بالحكمة ويعلّمها الناس. وقد عدّد سبحانه وتعالى بعض هذه النصائح، التي أوصى بها (لقمان الحكيم) ولده، وكان من أهمها وأخطرها، التحذير من (الكفر والإشراك) لأنه نهاية القبح والشناعة {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اذكر يا محمد لقومك. موعظة لقمان لابنه، وهو أشفق الناس عليه، وأحبّهم لديه، حين نبَّهه إلى خطر الشرك بالله، وجحود نعمائه. وحذّره من ضرره، لأنه ظلم صارخ، وعدوان مبين، لما فيه من وضع الششيء في غير موضعه. فمن سوّى بين الخالق والمخلوق، وبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الإله الرازق، والصنم الذي لا يسمع ولا ينفع ولا يغني عن صاحبه شيئاً. فهو - بلا شك - أحمق الناس. وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة. وحريّ به أن يوصف بالظلم، ويجعل في عداد البهائم. وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم، وذكر ما في الشرك من الشناعة. أتبعها سبحانه بوصيةٍ مستقلةٍ عن وصايا لقمان ألا وهي (الوصية بالوالدين) ليشير إلى قبح الشرك، ويؤكد حكمة الرجل الصالح (لقمان) لابنه في نهيه عن الشرك فكأنه تعالى يقول: مع أننا أوصينا الإنسان بوالديه، وأمرناه بالعطف عليهما، والإحسان إليهما، وألزمناه طاعتهما لما تحملا في سبيله من المتاعب والمصاعب، مع كل هذا فقد حذَّرناه من طاعتهما في حالة الشرك والعصيان، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالوضع السليم بين (الأب وابنه) هي الطاعة والإحسان، وامتثال كمال الأدب مع من ربّاه وتعب في شأن تربيته. {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] فإذا تغيّر الوضع، وأصبح الأب والأم مدعاةً للشرك، ومصدراً للعصيان، فلا سمع ولا طاعة ولا استجابة لصوت الضلال، مهما بذلا من جهدٍ، ومع كل ذلك فقد ختم الله جلّ ثناؤه الآية الكريمة بوجوب صحبتهما بالمعروف والإحسان إليهما في الدنيا حتى ولو كانا مشركَيْن، لأنّ حقهما على ولدهما عظيم، وكفرُهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمّلاها في تربية الولد، فالإحسان إليهما واجب، وطاعتهما في معصية الله ممنوعة، واتباع سبيل المؤمنين الصادقين هو الطريق السوي الذي يوصل إلى رضوان الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 سبب النزول روى الحافظ (ابن كثير) في تفسيره عن (سعد بن أبي وقاص) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: (كنتُ رجلاً براً بأمي، فلما أسلمتُ، قالت يا سعد: ما هاذ الدين الذي أراك قد أحدثت {لتَدَعن دينك هذا، أو لا آكل، ولا أشرب، حتى أموت فتعيّر بي، فيقال: يا قاتل أمه، فقلتَ لها: يا أمّهْ لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء أبداً) } ! قال: فمكثتْ يوماً وليلة ولم تأكُلْ، فأصبحتْ وقد جَهِدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتدّ جهدها. . فلما رأيتُ ذلك جئتُ إليها فقلت: يا أُمّهْ، تعلمينَ واللَّهِ، فإن شئتِ فكلي وإن شئت فدعي. . فلما رأت صلابته في دينه أكلت فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ّ {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ... } الآية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ذَكَرَ اللَّه سبحانه وتعالى في الوصية (أمر الوالدين) ثمّ نوّه بشأن الأم خاصة، فهو من باب ذكر (الخاص بعد العام) لزيادة العناية والاهتمام، ولبيان أن حق الأم على الولد أعظم من حق الأب، وقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} هذه جملة اعتراضية. قال الزمخشري: في «الكشاف» : فإن قلت: قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} كيف اعترض به بين المفسَّر والمفسِّر؟ قلتُ: لمّا وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاقّ والمتاعب، في حملة وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً، ومن ثمّ قال بعد ذلك: أباك. وروي عن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره، وهو يقول في حدائه: (أحمل أمي وهي الحمّالة، ترضعني الدرّة والعُلاَلة، ولا يُجَازَى والدٌ فِعَاله) . اللطيفة الثانية: حين أمر سبحانه بشكر الوالدين قدّم شكره تعالى على شكرهما فقال {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} وفي هذا التقديم إشارة إلى أن حقّ الله أعظم من حق الوالدين، وشكره أوجب وألزم، لأنه تعالى هو المنعم الحقيقي، المتفضل على عباه بالنعم، وشكر الوالدين جزء من شكر المنعِم، والله جلّ وعلا هو السبب الحقيقي في الخلق والايجاد، والوالدان سبب ظاهري، فينبغي أن يُقدَّم السبب الحقيقي على السبب الظاهري. اللطيفة الثالثة: تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر فقوله تعالى: {إِلَيَّ المصير} وقوله {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} تقدّم الجار والمجرور على المتعلّق به فأفاد معنى الحصر والمعنى: إليّ المرجع والمآب لا إلى غيري، وإليّ مرجع الخلائق جميعاً لا إلى أحدٍ سواي. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فِي الدنيا} ذكرُ الدنيا في الآية الكريمة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 فيه إشارة إلى (تهوين) أمر الصحبة، وتقليل مدتها لأنها في أيام قلائل، وشيكة الزوال والانقضاء، فلا يصعب على الإنسان تحمّلها. ولقد أحسن من قال: دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له ... إنّ الحياةَ دقائقٌ وثواني اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} في الآية الكريمة إشارة إلى سلوك طريق الصالحين والاقتداء بالسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. وفسّره بعضهم بأن المراد بقوله تعالى: {وَهْناً على وَهْنٍ} هو أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أي أتّبع سبيله في الإيمان لأن إسلام (سعد) كان بسببه. والصحيح كما قال الألوسي: أنها عامة تعمُ كل من اتصف بهذا الوصف. وجوه القراءات 1 - قوله تعالى: {وَهْناً على وَهْنٍ} قراءة الجمهور بسكون الهاء، وقرأ الضحاك وعاصم {وَهْناً على وَهْنٍ} بفتح الهاء فيهما. 2 - قوله تعالى: {وفصاله فِي عَامَيْنِ} قرأ النخعي والأعمش {وفَصَاله} بفتح الفاء، والجمهور بكسرها، وقرأ الحسن وأبو رجاء {وفَصْله} بفتح الفاء وسكون الصاد من غير ألف. 3 - قوله تعالى: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] قراءة الجمهور بفتح الياء على تقدير {يا بُنَيّا} والاجتزاء بالفتحة عن الألف، وقرأ البزي {يَا بْنِي} بالسكون، وقرأ بعضهم {يا بُنَيِّ} بكسر الياء مع التشديد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لقمان} إذْ ظرف متعلق بفعل مقدر، وتقديره: إذكر إذ قال لقمان، و (لقمان) ممنوع من الصرف للتعريف والألف والنون الزائدتين كعثمان، وعمران، ويجوز أن يكون أعجمياً، فلا ينصرف للعجمة والتعريف. 2 - قوله تعالى: {وَهُوَ يَعِظُهُ} وهناً: حال من الفاعل، والمعنى حملته أمُمه ذات وهن أو واهنة، وهذا اختيار أبي حيّان والزمخشري. والمصدر يأتي (حالاً) بكثرة كما قال ابن مالك: ومصدرٌ منكّرٌ حالاً يقع ... بكثرةٍ كبغتةً زيدٌ طلع واختار ابن الأنباري أن يكون منصوباً بنزع الخافض وتقديره: حملته أمه بوهنٍ، فحذف حرف الجر فاتصل الفعل به فنصبه. والأرجح الأول لعدم احتياجه للتأويل بخلاف الثاني. 4 - قوله تعالى: {أَنِ اشكر للَّهِ} قال الزجّاج: هي في موضع نصب على حذف حرف الجر، وتقديره، بأن اشكر، وقيل (أنْ) مفسّرة بمعنى (أيْ) كقوله تعالى: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} [ص: 6] قال النحّاس: والأجود أن تكون مفسّرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 5 - قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} انتصب (معروفاً) على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: صحاباً معروفاً أو بنزع الخافض والتقدير: وصاحبهما بالمعروف. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي مدة الرضاع المحرِّم؟ استدل الفقهاء على أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم هو سنتان بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وفصاله فِي عَامَيْنِ} فإنّ المراد بالفصال الفطام فتكون السنتان هي تمام مدة الرضاع. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى في سورة البقرة [233] {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ... } الآية. على أن أقصى مدة الرضاع سنتان فقط. وهذا رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) رحمهم الله تعالى. وذهب الإمام (أبو حنيفة) رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن مدة الرضاع المحرِّم سنتان ونصف، ودليله قوله تعالى في سورة الأحقاف [15] : {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً ... } الآية. وله في الاستدلال من الآية الكريمة وجهان: الوجه الأول: أن المراد بالحمل هنا ليس حمل الجنين في بطن أمه، وإنما حمله على اليدين من أجل الإرضاع فكأن الله تعالى يقول: تحمل الأم ولدها بعد الولادة لترضعه مدة ثلاثين شهراً، فتكون المدة المذكورة في الآية الكريمة لشيءٍ واحد وهو الرضاع. الوجه الثاني: أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في الآية الكريمة أمرين وهما: (الحمل) و (الفِصال) ، وأعقبهما بذكر بيان المدة، فتكون هذه المدة لكلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 من الأمرين استقلالاً ويصبح المعنى على هذا التأويل: حملة ثلاثون شهراً، وفصاله ثلاثون شهراً أي إن المدة لكلٍ منهما (عامان ونصف) وبذلك يثبت أن مدة الرضاع عامان ونصف، وهو كما إذا قال إنسان عليه دين (لفلانٍ وفلان عندي مائة إلى سنة) فتكون السنة هي أجل كلٍ من الدَيْنَيْن، وكذلك هنا تكون الثلاثون شهراً مدة كلٍ من الحمل والرضاع. وهذا الرأي الذي ذهب إليه (أبو حنيفة) رحمة الله لم يوافقه عليه تلميذاه (أبو يوسف) و (الإمام محمد) بل قالوا بمثل قول الجمهور وهو أن مدة الرضاع المحرِّم عامان فقط. الترجيح: ولعلنا بعد استعراض الأدلة نرجح قول الجمهور، لا سيّما وأنّ تلميذيه قد خالفاه فيما ذهب إليه، ودليل أبي حنيفة وإن كان وجيهاً إلا أن يحتاج إلى تكلفٍ في التأويل بخلاف دليل الجمهور. والله أعلم. الحكم الثاني: كم هي مدة الحمل الشرعي؟ أجمع الفقهاء على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر، وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً} [الأحقاف: 15] ومن قوله تعالى في الآية الأخرى {وفصاله فِي عَامَيْنِ} فمن مجموع الآيتين الكريمتين يبتيَّن أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور. . قال (ابن العربي) في تفسيره: روي أن امرأة تزوجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوجت، فأتي بها عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فأراد أن يرجمها، فقال (ابن عباس) لعثمان: إنها إن تخاصمْكم بكتاب الله تخصِمْكم، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً} [الأحقاف: 15] وقال: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ... } [البقرة: 233] فالحمل ستة أشهر، والفصال أربع وعشرون شهراً، فخلّى عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه سبيلها. وفي رواية أنّ (علي بن أبي طالب) قال له ذلك. قال ابن العربي: وهو استنباط بديع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الحكم الثالث: هل يقتص من الوالد بجنايته على الولد؟ ذهب الجمهور الفقهاء إلى أن الولد لا يستحق القوَد على أحد والديه بجناية أحدهما عليه، ولا يقتص منهما بسبب الولد، كما لا يحدّ إذا قذفه أحدهما ولا يحبس له بدين عليه. ودليلهم أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالصحبة لهما بالمعروف فقال {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} وليس من المعروف أن يقتص من الوالد للولد، ولا أن يحبس في دينه، ولا أن يحدّ إذا قذفه لأن ذلك كلّه مما يتنافى مع صحبتهما بالمعروف. ولأنهما كانا سبباً في حياته، فلا يصح أن يكون الولد سبباً في إهلاك والديه. وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا حيث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لا يقاد للولد من والده» . الحكم الرابع: هل تلزم طاعة الوالدين في الأمور المحظورة؟ قال العلامة القرطبي: (إن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة، ولا في ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات، ونقل عن (الحسن) أنه قال: إن منعته أُمّه من شهود صلاة العشاء شفقةً فلا يطعها) . ثم قال: والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق. وقد قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة فقالت: «يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم» . وهذه الأحكام استنبطها العلماء من قوله تعالى: {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} فكما تحرم طاعة الوالدين في الشرك تحرم في كل معصية، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وهذا المعنى قد سَنّه الخليفة الراشد (أبو بكر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في خطبته الأولى حين تولى الخلافة على المؤمنين. فكان فيما قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 (أما بعد. أيها الناس: إني قَدْ وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيتُه فلا طاعة لي عليكم) . الحكم الخامس: هل يصح سلوك طريق غير المؤمنين؟ ظاهر قوله تعالى: {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} وجوب الاقتداء بالسلف الصالح وسلوك طريق المؤمنين، وتحريم السير في اتجاه يخالف اتجاههم كطريق المنافقين والكافرين. وقد صرّح بهذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] . فلا بدّ من الانضواء تحت رأية أَهل التوحيد والإيمان واتباع سبيلهم، فالخير كله في الاقتداء بهم، والسير على منوالهم. ولقد أحسن من قال: فكلّ خيرٍ في اتباع من سَلَف ... وكلّ شرٍّ في ابتداعِ من خلَف ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الحكمة هبة إليهة لا تنال إلا بطريق التقوى والعمل الصالح. 2 - شكر النعمة واجب على المرء. ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله. 3 - الشرك من أعظم الذنوب، وأكبر الجرائم عند الله وهو محبط للعمل. 4 - طاعة الوالدين من طاعة الله، وبرهما مقرون بعبادة الله تعالى. 5 - حق الأم على ولدها أعظم من حق الأب لأنّ أتعابها عليها أكثر. 6 - لا تجوز الطاعة في المعصية. إنما الطاعة في المعروف كما بينَّه عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 حكمة التشريع أوصى الله تعالى بالوالدين إحساناً، وأمر ببرّهما وطاعتهما والإحسان إليهما، وخصّ (الأم) بمزيد من العناية والاهتمام، فجعل حقّها أعظم من حق الأب، لما تحملته من شدائد وأهوال تجاه طفلها الوليد، ولما قاسته من آلام في سبيل تربيته وحياته. فمن أحق بالعناية والرعاية من الأم؟ {الأم التي حنت عليه فغذته بلَبَانها، وغمرته بحنانها، وآثرته على نفسها وراحتها فشقيت من أجل سعادته، وتعبت من أجل راحته، وتحمّلت الأثقال والآلام في سبيل أن ترى وليدها زهرة يانعة، تعيش بين أزهار الربيع، فكم من ليلة سهرت من أجل راحته، لتطرد عنه شبح الخوف، أو تزيل عنه ألم المرض، وكم من ساعة قضتها بين جدران البيت تحمله على يديها، متعبة مثقلة لتواسيه في وقت شدته ومحنته ... فهل يليق بعد كل هذا أن يسلك طريق العقوق، أو يجنح إلى الإساءة والعصيان؟} فحق الأم على ولدها عظيم، وفضلها عليه كبير وجسيم، إذ هي السبب المباشر في حياة هذا الطفل بعد الله عزّ وجلّ، فلولا رعايتها وحنانها، ولولا تحملها المتاعب والآلام، لَمَا تَربّى وليد، ولا عاش إنسان! { وقد أمر الله تعالى بشكر الوالدين، وطاعتهما وبرّهما حتى ولو كانا (مُشْركَيْن) ، ولكنّه جلّ ثناؤه حذّر من اتّباعهما ومسايرتهما في أمر الكفر والإشراك {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} إذْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله عَزَّ وَجَلَّ ّ. . فطاعتهما مشروطة بطاعة الله، وفي الحدود التي يقرّها الشرع الحنيف، ولا يكون فيها تضييع لحق الخالق، أو حقّ المخلوق، فشكرُ الوالدين من شكر الله، وطاعتهما - فيما ليس فيه معصية - من طاعة الله} ! وصدق الله حيث يقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً} [الأحقاف: 15] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 سورة الأحزاب [1] التبني في الجاهلية والإسلام التحليل اللفظي {اتق الله} : أي أثبت على تقوى الله ودم عليها، والتقوى لفظ جامع يراد منه فعلُ كلّ خير، واجتنابُ كل شر، وأصله من (الوقاية) بمعنى الحفظ والصيانة. قال في «اللسان» : التقوى، والإتّقاء، والتّقاة، والتّقيّة كله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 واحد، ورجل تقيّ: معناه يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح. قال ابن الوردي: واتّقِ اللَّهَ فتقوى اللَّهِ مَا ... جاورتْ قلبَ امرئٍ إلاّ وصَل ليس كم يقطعُ طرقاً بطَلاً ... إنَما مَنْ يَتَّق اللَّهَ البطل {الكافرين} : جمع كافر، وهو الجاحد لنعم الله، مشتق من (الكَفْر) وهو الستر، وكل من ستر شيئاً فقد كفره، ولهذا يسمّى الزارع (كافراً) لأنه يستر الحب في الأرض ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] أي أعجب الزرّاع. ويسمى الليل كافراً لأنه يستر بظلامه الأشياء. وفي الصحاح: والكافر: الليلُ المظلم لأنه يستر بظلمته كل شيء، وكفر النعمة جحدها. وقال الجوهري: ومن ذلك سُمّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله عَزَّ وَجَلَّ ّ، ونعمُه آياته الدالة على توحيده. قال بعض العلماء: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به، ويكفر بقلبه ولسانه. وكفر جحود وهو أن يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس، وكفر أهل الكتاب {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] . وكفر عناد وهو: أن يعترف بقلبه، ويقرّ بلسانه ولا يدين به حسداً وبغياً ككفر أبي جهل وأضرابه. وكفر نفاق وهو: أن يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه فلا يعتقد بما يقول وهو فعل المنافقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 {والمنافقين} : جمع منافق وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، مشتق من (النَّفَق) وهو سَرَب في الأرض، والنافقاء: جُحْرُ الضبّ واليربوع، قال أبو عبيد: سمّي المنافق منافقاً للنّفق وهو السّرَب في الأرض، وقيل: إنما سُمّي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه. فإذا طُلِبَ خرج من القاصعاء، فهو يدخل من (النافقاء) ويخرج من (القاصعاء) أو بالعكس، وهكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه. وقال في «اللسان» : وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق، وهو اسم اسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويُظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً. {وَكِيلاً} : الوكيل: الحافظ، الكفيل بأرزاق العباد، والمتوكل على الله: الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره، فيركن إليه وحده، ولا يتوكل على غيره، وفي التنزيل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وتوكّلَ بالأمر إذا ضمن القيام به. والتوكل: اللجوء والاعتماد يقال: وكلتُ أمري إلى فلان أن ألجأته إليه، واعتمدت فيه عليه قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] . والمعنى: اعتمد على الله والجأ إليه، وكفى به حافظاً وكفيلاً. قال أبو السعود: {وَتَوَكَّلْ على الله} أي فوّض جميع أمورك إليه {وكفى بالله وَكِيلاً} أي حافظاً موكلاً إليه كل الأمور. {تظاهرون} : نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب (ظاهر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 زوجته) أنه قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة، وكان الظّهار عندهم طلاقاً، فلما جاء الإسلام نُهوا عنه، وأُوجِبت الكفارة على من ظاهر من امرأته. قال في «اللسان» : وأصل الظّهار مأخوذ من الظَّهْر، وإنما خصّوا الظهر دون البطن والفخذ، لأنّ الظهر موضع الركوب، فكأنه قال: ركوبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية. {أَدْعِيَآءَكُمْ} : جمع دَعيّ، وهو الذي يُدعى ابناً وليس بابن، وهو النبي الذي كان في الجاهلية وأبطله الإسلام، وقد تبنّى عليه السلام (زيد بن حارثة) قبل النبوة لحكمة جليلة نبينها بعد إن شاء الله. قال في «اللسان» : والدّعي: المنسوب إلى غير أبيه، والدِّعوة بكسر الدال: أدّعاء الولد الدّعيّ غير أبيه، وقال ابن شُميل: الدَّعوة بالفتح في الطعام، والدِّعوة بالكسر في النسب. وقد أنكر بعضهم هذه التفرقة. وقال الشاعر: دعيّ القوم ينصرُ مدّعيه ... ليُلحقه بذي النسب الصّميم أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه ... إذا افتخروا بقَيْسٍ أو تميم {أَقْسَطُ} : بمعنى أعدل أفعل تفضيل، يقال: أقْسَط إذا عدل، وقَسَط إذا جار وظلم، فالرباعي (أقسط) يأتي اسم الفاعل منه (مُقْسِط) بمعنى عادل ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] والثلاثي (قَسَط) يأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 اسم الفاعل منه (قاسط) بمعنى جائر ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] فكأن الهمزة في أقسط للسلب، كما يقال: شكا إله فأشكاه، أي أزال شكواه. والقِسط: العدل قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} [الرحمن: 9] . {ومواليكم} : أي أولياؤكم في الدين، جمع مولى وهو الذي بينه وبين غيره حقوق متبادلة كما بين القريب وقريبه، والمملوك سيّده. ومعنى الآية: فإن لم تعرفوا آباءهم أيها المؤمنون فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم: يا أخي، أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوّة والولاية في الدين. {غَفُوراً} : يغفر ذنوب عباده، ويكفّر عنهم السيئات إذا تابوا {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82] . {رَّحِيماً} : بعباده ومن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه. المعنى الإجمالي أمر الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم بالتقوى واجتناب المحارم، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، لأنهم اعداء الله ورسوله، وأعداء المؤمنين، لا يؤتمنون على شيء، ولا يستشارون في أمر، فظاهرهم غير باطنهم، وصورتُهم غير حقيقتهم، لذلك ينبغي الحذر منهم، وعدم الاستجابة لهم، والإعراض عنهم لأنهم فسقة خارجون عن طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ ّ. والخطاب وإن كان في صورته موجهاً للنبي عليه السلام، لكنّه في الحقيقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 تعليم للأمة، وإرشاد لها؛ لتسلك طريق التقوى، وتعمل تهدي القرآن. وقد استحدث أهل الجاهلية بدعاً غريبة، ومنكراتٍ كثيرة، زعموا أنّها من الدين، فنزل القرآن الكريم مبطلاً لهذه البدع، مغيّراً تلك الخرافات والأباطيل، بالحق الساطع، والبرهان القاطع، مقرراً الأمر على أساس المنطق السليم. يقول الله تعالى ما معناه: «يا أيها النبي تحل بالتقوى، وتمسّك بطاعة الله، ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل وعدم التعرض لآلهتهم بسوء، فإنّ الله عالم بأحوال العباد، لا تخفى عليه خافية، واتّبْع ما يوحيه إليك ربك، من الشرع القويم، والدين الحكيم، ولا تخش وعيد أحدٍ من المشركين، فإنّ الله معك فتوكل عليه، والجأ في جميع أمورك إليه، فهو الحافظ والناصر. ثم ردّ تعالى مزاعم أهل الجاهلية، وما هم عليه من ضلالٍ وعنادٍ، فبيّن أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً، ولا الولد المتبنّى ابناً، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] والابن الحقيقي هو الذي جاء من صلب ذلك الرجل فلا يمكن لإنسان أن يكون له أبوان، فكيف يزعمون أنّ هؤلاء الزوجات أمهات! {وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم، مع أنهم ليسوا من أصلابهم} ! ذلك هو محض الكذب والافتراء على الله، والله يقول الحق ويهدي إلى أقوم طريق. ثم أمر تعالى بنسبة هؤلاء إلى آبائهم، لأنه أعدل وأقسط فقال: فإن لم تعرفوا - أيها المؤمنون - آباءهم، فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم: يا أخي ويا مولاي يقصد أخوّة الدين وولايته، وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به ولكنّ الذنب والإثم فيما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً، يغفر لعباده زلاتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 سبب النزول روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أسباباً عديدة نذكر أصحها وأجمعها: أولاً: رُوي أنّ أبا سفيان بن حرب، وعكرمه بن أبي جهل، وأبا الأعور السّلمي، قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، ومُعتّب بن قُشَيْر، والجدّ بن قيس، فتكلموا فيما بينهم، وأتو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فدعوه إلى أمرهم، وعرضوا عليه أشياء، وطلبوا منه أن يرفض ذكر (اللاَّت والعُزى) بسوء. وأن يقول: إنّ لها شفاعة، فكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، ونزلت هذه الآية: {ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} . ثانياً: وروي أنّ رجلاً من قريش يُدعى (جميل بن مَعْمَر الفِهْري) كان لبيباً، حافظاً لما سمع، فقالت قريش: ما حفظ هذه الأشياء إلاّ وله قلبان في جوفه، وكان يقول:» إن لي قلبين أعقل بكلّ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد «، فلمّا كان يوم بدر، وهُزِم المشركون - وفيهم يومئذٍ جميل بن مَعْمر - تلقَّاه (أبو سفيان) وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له: ما حال الناس؟ فقال: انهزموا، قال: فما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعَرْتُ إلاّ أنهما في رجليّ!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فعرفوا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان لما نسيَ نعله في يده فأنزل الله تعالى {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. . .} الآية. ثالثاً: وروى السيوطي عن مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تبنّى (زيد بن حارثة) وأعتقه قبل الوحي، فلمذا تزوّج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون: تزوّج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} . رابعاً: وروى البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: ما كنّا ندعو (زيد بن حارثة) إلاّ زيد بن محمد، حتى نزلت الآية الكريمة {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ... } . وجوه القراءات أولاً: قرأ الجمهور {إنّ اللَّهَ بما تَعْملون} بتاء الخطاب، وقرأ أبو عمرو {يعملون} بياء الغَيْبة، قال أبو حيّان: وعلى قراءة أبي عمرو يجوز أن يكون من باب الالتفات. ثانياً: قرأ الجمهور {اللاّئي تُظَاهرون منهنّ} بالهمز وياء بعدها، وقرأ (أبو عمرو) بياء ساكنة {واللايْ} بدلاً من الهمزة، وهي لغة قريش وقرأ (ورش) بياء مختلسة الكسرة. ثالثاً: قرأ الجمهور {تُظَاهرون منهنّ} بضم التاء، وفتح الظّاء، من ظاهر وقرأ (أبو عمرو) بشدّ الظاهر {تَظّاهرون} وقرأ هارون {تَظْهَرون} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 بفتح التاء والهاء، وقد ذكر أبو حيّان في تفسيره «البحر المحيط» أنّ فيها تسع قراءات. رابعاً: قرأ الجمهور {وهو يَهْدي السّبيلَ} بفتح الياء مضارع هدى، وقرأ قتادة {يُهَدِّي} بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الدال ... وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} جعل هنا بمعنى (خلق) فهي تنصب مفعولاً واحداً، بخلاف قوله {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} فإنها بمعنى: (صيّر) تنصب مفعولين، وقوله: (من قلبين) مِنْ صلة (أي زائدة) و (قلبين) مفعول جعل، و (في جوفه) متعلق بجَعَل. ثانياً: قوله تعالى: {والله يَقُولُ الحق} ... الحقّ: منصوب لوجهين: أحدهما: أن يكون مفعولاً ل (يقول) . والثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره: والله يقول القول الحق. ثالثاً: قوله تعالى: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (ما) يجوز فيها وجهان: الجرّ بالعطف على (ما) في قوله تعالى: {فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} . والرفعُ على الابتداء وتقديره: ولكنْ ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: نادى الله تعالى نبيّه بلفظ النبوة {ياأيها النبي} كما ناداه جلّ ثناؤه بوصف الرسالة {ياأيها الرسول} [المائدة: 41] ونداءُ اللَّهِ تعالى لنبيّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 الكريم بلفظ (النبوة) أو وصف (الرسالة) فيه تعظيم لمقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه إشارة إلى أفضليته عليه السلام على جميع الأنبياء. كما فيه تعليم لنا الأدب معه، فلا نذكره إلاّ بالإجلال والإكرام، ولا نصفه إلاّ بما يدل على التوقير والتعظيم {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ... } [النور: 63] . قال أبو حيان في تفسيره «البحر المحيط» ما نصُّه: «نداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ب (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول) هو على سبيل التشريف والتكرمة، والتنويه بمحلّه وفضيلته، وجاء نداء غيره باسمه كقوله: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى. . وحيث ذكره على سبيل الإخبار عنه بأنه رسوله، صرّح باسمه فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 29] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144] أعلم أنّه رسوله، ولقّنهم أن يسمّوه بذلك. وحيث لم يقصد الإعلام بذلك جاء اسمه كما جاء في النداء - يعني بوصف النبوة أو الرسالة - كقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] وقوله: {وَقَالَ الرسول يارب} [الفرقان: 30] وقوله: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] . اللطيفة الثانية: فإن قيل: ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى، وهو سيّد المتقين؟! فالجواب أنه أمرٌ بالاستدامة على التقوى كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] أي أثبتوا على الإيمان، وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] بمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم. وقيل: إن الأمر خطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موجه إليه في الظاهر. والمراد به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 أمته، بدليل صيغة الجمع التي ختمت بها الآية الكريمة {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . قال الإمام الفخر رَحِمَهُ اللَّهُ:» الأمرُ بالشيء لا يكون إلاّ عند عدم اشتغال المأمور، بالمأمور به، إذ لا يصلُح أن يقال للجالس: اجلس، وللساكت: اسكت، والنبيّ عليه السلام كان متقياً لله فما الوجه فيه؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أمر بالمداومة، فإنه يصح أن يقول القائلُ للجالس: اجلس هاهنا إلى أن أجيئك، ويقول الفائلُ للساكت: قد أصبتَ فاسكتْ تسلَمْ، أي دمْ على ما أنتَ عليه. والثاني: أن النبيّ عليه السلام كلّ لحظة كان يزداد علمثه ومرتبتُه، فكان له في كل ساعة تقوى متجدّدة. فقوله: (اتق الله) يراد منه الترقي الدائم، فحاله فيما مضى كأنه بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فناسب الأمر به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتقوى. اللطيفة الثالثة: السرّ في تقديم القلبين في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} على بقية الأمور التي كان يعتقد بها أهل الجاهلية، هو أنه بمثابة ضرب مثل، والمثلُ ينبغي أن يكون أظهر وأوضح فهناك أمور ثلاثة باطلة هي من مخلّفات الجاهلية، فكونُ الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع، وجعلُ (المُظَاهَر) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من أمر لا حقيقة له في الواقع، وجعلُ (المُظَاهَر) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من مخترعات الجاهلية، وجعل (المتبنّى) باناً في جميع الأحكام مما لا يقرّه شرع. ولمّا كان أظهرَ هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كونث الرجل له قلبان، قدّم الله جلّ ثناؤه ذلك، وضربه مثلاً للظهار، والتبني. فكأنّ الآية تقول: كما لا يكون لرجلٍ قلبان، لا تكون المظاهَرث منها أمّاً، ولا المتبنّى ابناً، والله أعلم بأسرار كتابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 اللطيفة الرابعة: التنكير في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ} وإدخال (مِنْ) على الجملة بعده في قوله (مِنْ قلبين) يفيد العموم والاستغراق، ومعنى الآية: ما خلقَ اللَّه لرجلٍ إطلاقاً، أي رجلٍ كان قلبين في جوفه. فهو نفي للشيء بطريق (التأكيد والاستغراق) . وذكرُ الجوف وإن كان من المعلوم أن ّ القلب لا يكون إلا بالجوف لزيادة التصوير في الإنكار، والتكذيب للمدّعى، فهو كقوله تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] . فإذا سمع الإنسان ذلك، تصوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين. فسارع عقله إلى إنكاره. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {ذلكم قَوْلُكُم بأفواهكم} فيه إشارة لطيفة إلى أنّ هذا القول مجرّد كلام صادر من الأفواه فقط، وليس له ظلّ من الحقيقة أو مصداق من الواقع. كما نقول: (هذا خبرٌ على ورق) أي ليس له وجود أو تطبيق. قال الزمخشري: (من المعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالفم. فلماذا ذكر قوله (بأفواهكم) ؟ الجواب: أنّ فيه إ شارة إلى أنّ هذا القول. ليس له من الحقيقة والواقع نصيب. إنما هو مجرد إدعاء باللسان. وقول مزعوم باطل نطقت به شفاههم دون أن يكون له نصيب من الصحة) والله أعلم. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {والله يَقُولُ الحق} الآية. قال الإمام الفخر: فيه إشارة إلى معنى لطيف. وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل. وإمّا عن شرع. وفي الدّعي (الولد المتبنّى) لم توجد الحقيقة. ولا ورد الشرع. فإنّ قولهم: هذه زوجة الابن المتبنّى فتحرم. والله تعالى يقول: هي لك حلال. فقولهم لا اعتبار به لأنه قول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 من الأفواه مجرد عن الحقيقة كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه. وهو خير من أقوالكم التي عن قلوبكم. فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم!؟ . اللطيفة السابعة: صيغة (فعيل) في اللغة العربية تفيد المبالغة، فقوله تعالى: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] إنما يقصد به المبالغة، لأن الصيغة تقتضي ذلك، ففرق في التعبير بين قولك (عالم، وعليم، وعلاّم) فالأولى ليس فيها إلا إثبات العلم، وأما الثانية والثالثة ففيهما المبالغة، لأنّ (فعّال وفعيل) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك: فَعَالٌ أو مِفْعَالٌ أو فَعُولُ ... في كَثْرةٍ عن فَاعِلٍ بديلُ فيستحقّ مالَهُ منْ عَمَل ... وفي فَعِيلٍ قلّ ذا وفعِل فالمراد في الآية الكريمة من لفظه (عليم) أنه جلّ جلاله قد أحاط علمه بكل الأشياء، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. و (الحكيم) المبالغ في الحكمة الذي تناهت حكمته فشملت الأمر العظيم والشيء اليسير وكل ما جاء على ذلك الوزن إنما يقصد به المبالغة فتدبره. اللطيفة الثامنة: كانت العرب تزعم أنّ كل لبيبٍ أريب له في جوفه قلبان، وقد اشتهر (جميل بن مَعْمر) عند أهل مكة بذكائه وقوة حفظه، فكانوا يسمونه بذي القلبين، وكانوا يخصونه بالمديح في أشعارهم كما قال بعض الشعراء: وكيفَ ثَوَائي بالمدينَةِ بعدَما ... قَضَى وَطْراً منها جميلُ بن مَعْمر وكان هذا الجهول يقول: أنا أذكى من محمد وأفهم منه. فلمّا بلغته هزيمة بدر طاش لبه، وحدّث أبا سفيان بحديثٍ كان فيه كالمختل. وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 يحمل إحدى نعليه بيده، والأخرى يلبسها في رجله وهو لا يدري، فظهر للناس كذبه. وافتضح على رؤوس الأشهاد أمره. اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} . . أفعل التفضيل ليس (على بابه) لأنّ نسبتهم إلى غير آبائهم ظلم وعدوان، فلا يقصد إذن التفضيل وإنما يقصد به الزيادة مطلقاً. والمعنى: دعاؤهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق نهايته. وهو القسط والعدل في حكم الله تعالى وقضائه. . وجوّز بعضهم أن يكون (على بابه) جارياً على سبيل التهكّم بهم. والمعنى: دعاؤهم لغير آبائهم إذا كان فيه خير وعدل فهذا أقسط وأعدل ويكون ذلك جارياً مجرى التهكم والله أعلم. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل تقع المعصية من الأنبياء؟ من المعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن ارتكاب الذنوب والمعاصي. فإنّ (العصمة) من صفاتهم. فلا يمكن أن تقع معصية من الأنبياء أو تحصل منهم مخالفة لأوامر الله عَزَّ وَجَلَّ ّ. لأنهم القدوة للخلق وقد أُمِرْنا باتّباعهم. فلو جاز عليهم الوقوع في المعصية لأصبحت طاعتهم غير واجبة أو أوصبحنا مأمورين باتباعهم في الخير والشر. لذلك عصمهم الله من الذنوب والآثام، فكل ما ورد في القرآن الكريم مما ظاهره يخالف (عصمة الأنبياء) فلا بدّ من فهمه على الوجه الصحيح حتى لا يتعارض مع الأصل العام. فقوله تعالى هنا {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} لا يفهم منه أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مال إلى طاعتهم، أو أحبّ موافقتتهم على ما هم عليه من نفاقٍ وضلال. وإنما هو تحذيرٌ للأمة جاء في صورة خطابٍ للرسول عليه السلام ومما يدل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} حيث جاء بصثغة الجمع وقد عرفت ما فيه. الحكم الثاني: هل الظهارمحرّم في الشريعة الإسلامية؟ دلت الآيات الكريمة على أن الظهار كان من العادات المتّبعة في الجاهلية وكان من أشدّ أنواع الطلاق. حيث تثبت به (الحرمة المؤبدة) وتصبح الزوجة المظاهَرُ منها - في اعتقادهم - أماً كالأم من النسب، فأبطل الإسلام ذلك، واعتبره بهتاناً وضلالاً، وحرّم الظهار ولكنه جعل حرمته مؤقتة إلى أن يكفّر عن ظهاره. قال تعالى: {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] فالظهار في الإسلام منكر ولكن له كفارة يتخلص بها الإنسان من الإثم، وستأتي أحكام الظهار مفصّلة إن شاء الله عند تفسير سورة المجادلة. الحكم الثالث: هل يجوز التبني في الإسلام؟ كما أبطل الإسلام الظهار أبطل (التبني) وجعله محرماً في الشريعة الإسلامية لأن فيه سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من ادّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه صَرْفاً ولا عدلاً» . وجاء في الحديث الصحيح: «ليس من رجلٍ ادّعى لغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من ادّعى إلى غير أبيه - وهو يعلم أنه غير - فالجنة عليه حرام» . قال في «تفسير روح المعاني» : «وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعلّ ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية. . وأما إذا لم يكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل (التحنن والشفقة) يا ابني، وكثيراً ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة» . وقال (ابن كثير) في تفسيره: (فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبُّب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما روي عن (ابن عباس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: قدمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) . كما نادى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنساً فقال له: يا بنيّ. الحكم الرابع: ما المراد بالخطأ والعمد في الآية الكريمة؟ نفى الله سبحانه وتعالى الجُناح (الإثم) عمن أخطأ، وأثبته لمن تعمّد دعوة الرجل لغير أبيه وقد اختلف المفسرون في المراد من (الخطأ والعمد) في الآية الكريمة على قولين: أ - ذهب (مجاهد) إلى أنّ المراد بالخطأ هنا ما كان قبل ورود النهي والبيان، والعمد ما كان بعد النهي والبيان. ب - وذهب (قتادة) إلى أن الخطأ هنا ما كان من غير قصد فقد أخرج (ابن جرير) عن قتادة أنه قال في الآية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 (لو دعوت رجلاً لغير أبيه، وأنت ترى أي (تظنّ) أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدتَ دعاءه لغير أبيه) أي فعليك فيه الإثم. فعلى الرأي الأول يكون المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم (الأدعياء) أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم هو ما كان بعد ورود النهي، ويصبح معنى الآية: ليس عليكم إثم أو حرج فيما فعلتموه بعد الإسلام، وبيان الأحكام. وعلى الرأي الثاني يكون المراد بالخطأ ما وقع منهم عن غير قصد أو تعمد، والعمد ما كان عن إصرار وقصح، ويصبح معنى الآية: ولا جناح عليكم فيما سبق إليه اللّسان على سبيل الغلط من نسبة الإنسان إلى غير أبيه بطريق الخطأ أو النسيان، وأمّا ما تقصّدتم نبته إلى غير أبيه مع علمكم بأنّ هذا الولد من غيره فعليكم الإثم والحرج. وقد رجّح أبو حيّان في تفسيره «البحر المحيط» الرأي الثاني، وضعّف الأول وقال: (قوله تعالى: {فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} قيل: المراد به رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي، وهذا ضعيف، لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي. وقيل: فيما سبق إليه اللسان، إمّا على سبيل الغلط، أو على سبيل التحنّن والشفقة، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير: يا بني، كما يقول للكبير: يا أبي على سبيل التوقير والتعظيم) . الحكم الخامس: ما هو حكم الاستلحاق في الشريعة الإسلامية؟ الاستلحاق الذي أباحه الإسلام، ليس من التبنّي المحرم المنهيّ عنه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 شيء، فإنّ من شرط الحلّ في الاستلحاق الشرعي أن يعلم (المستلحق) بكسر الحاء أنّ (المستلحَق) بفتح الحاء ابنه. أو يظنّ ذلك ظناً قوياً، وحينئذٍ شرع له الإسلام استلحاقه. وأحلّه له. وأثبت نسبه منه. بشروط مبينة في كتب الفقه. أمّا التبنّي المنهيّ عنه فهو دعوى الولد مع القطع بأنه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟ الحكم السادس: هل يباح قول: يا أخي أو يا مولاي؟ ظاهر الآية الكريمة {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فإخوانكم فِي الدين ومواليكم} أنه يباح أن يقال في دعاء من لم يُعْرف أبوه: يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوّة في الدين، والولاية فيه، لا أخوّة النسب وقرابته، فإن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ومعلوم أنه لا يراد بها أخوّة النسب فدلّ على جواز قول المسلم: هذا أخي يقصد بها أخوّة الإسلام وقرابة الدّين. وخصّ بعض العلماء ذلك بما إذا لم يكن المدعوّ فاسقاً. وكان دعاؤه ب (يا أخي) أو (يا مولاي) تعظيماً له فإنه يكون حراماً، لأننا نُهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يُدْعى باسمه، أو بقولك: يا عبد الله، أو يا هذا، ففي الحديث الشريف (لا تقولوا للمنافق يا سيّد، فإنه إن يك سيّداً فقد إغضبتم ربكم) . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ زاد المؤمن. ووصية الله في الأولين والآخرين. ثانياً - من شروط الإيمان التوكل على الله، والالتجاء إليه في جميع الأحوال والأوقات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 ثالثاً - الخرافات والأساطير ليس لها وجود في شريعة الإسلام ولذلك حذّر الإسلام منها. رابعاً - ادعاء أنّ الرجل الأريب اللبيب له في جوفه قلبان دعوى باطلة مخالفة للشرع والعقل. خامساً - الاعتقاد بأن الزوجة (المظاهَر منها) تصبح أماً من مزاعم الجاهلية الجهلاء. سادساً - حرمة (التبنّي) في الإسلام، ووجوب دعوة الأبناء ونسبتهم إلى آبائهم. سابعاً - جواز قول الإنسان يا (أخي) ويا (مولاي) إذا قصد أخوّة الدين وولايته. ثامناً - الله تعالى رحيم لا يؤاخذ العبد على ما صد منه عن خطأ بل يعفو عنه ويغفر. خاتمة البحث: حكمة التشريع «بدعة التبني في الجاهلية» أشرقت شمس الإسلام على الإنسانية، والمة العربية لا تزال تتخبّط في ظلمات الجاهلية، وتعيش في ضلالات وأوهام، وتعتقد بخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، هي من بقايا مخلّفات (العصر الجاهلي) التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم. وما كان الإسلام ليتركهم في ضلالهم يتخبَّطون، وفي سَكْرتهم يعمهون دون أن ينقذهم مما هم فيه من سفهٍ، وجهالة، وكفر، وضلالة!! فكان من رحمة الله تعالى أن أنتشل الأمة العربية، من أوحال الجاهلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وخلّصها من تلك العقائد الزائغة، والأوهام الباطلة، وغذاها بلَبَان الإيمان، حتى أصبحت خير أُمّة أُخْرجت للناس. ولقد كانت (بدعة التبنّي) من أظهر بدع الجاهلية، وتفشّت هذه البدعة حتى أصبحت ديناً متوارثاً، لا يمكن تعطيله أو تبديله لأنه دين الآباء والأجداد، {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . كان العربي في الجاهلية. يتبنّى الرجل منهم ولد غيره، فيقول له: (أنتَ ابني أرثك وترثني) فيصبح ولده وتجري عليه أحكام البنوّة كلها. من الإرث، والنكاح، والطلاق، ومحرمات المصاهرة، وغير ذلك مما يتعلق بأحوال الابن الصلبي على الوجه الشرعي المعروف. ولحكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ ألهم نبيّه الكريم - قبل البعثة والنبوة - أن يتبنى أحد الأبناء. جرياً على عادة العرب في التبني. ليكون ذلك تشريعاً للأمة في إنهاء التبني. وإبطال تلك البدعة المنكرة، التي درج عليها العرب ردحاً طويلاً من الزمن. فتبنى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحد الأبناء، هو (زيد بن حارثة) وأصبح الناس منذ ذلك الحين يدعونه (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم فتخلّى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن تبنّيه، وعاد نسبه إلى أبيه فأصبح يدعى زيد بن حارثة بن شرحبيل. أخرج البخاري ومسلم في «صحيحهما» عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: «إنّ زيد بن حارثة، مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل» . أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة - مع كراهته الشديدة لعادات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الجاهلية - فهو لحكمةٍ يريدها الله، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وخلاصة القصة: أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طي، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب، فسلبتهم أموالهم وذراريهم - على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب - فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه، فاشترته السيدة (خديجة بنت خويلد) فلما تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه. وكان أبوه (حارثة بن شرحبيل) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار، وينشد فيه الأشعار، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها: بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل ... أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها ... وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل وبلغ (حارثةَ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مكة، فقدم مع عمه، حتى دخل على رسول الله، فقال يا محمد: إنكم أهل بيت الله، تفكّون العاني وتطعمون الأسير، ابني عندك فامنن علينا فيه، وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيّد قومه، ولك ما أحببت من المال في فدائه!! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أعطيكم خيراً من ذلك، قالوا ما هو؟ قال: أخيّره أمامكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً، فقالوا: أحسنتَ فجزاك الله خيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا زيد: أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال يا زيد: هذا أبوك، وهذا عمك، وأنا من عرفت، فاختر من شئت منا، فدمعت عينا زيد وقال: ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً، أنت مني منزلة الوالد والعم. فقال له أبوه وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال زيد: لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان، ما يجعلني لا استيطع فرقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الناس وقال: اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه، ويرثني. . فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فلم يزل في الجاهلية يدعى (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن الكريم. {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} فدُعي زيد بن حارثة. ونزل قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين ... } [الأحزاب: 40] الآية. وانتهى بذلك حكم التبني. وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 [2] الإرث بقرابة الرحم التحليل اللفظي {النبي أولى} : الإخبار بلفظ النبوّة مشعر ب (التعظيم والتكريم) لمقامه الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكلُّ ما ورد من الخطاب، أو الإخبار بلفظ النبوة، أو الرسالة فإنما هو لإظهار شرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفع مقامه، ومعنى (أولى) أي أحق وأجدر وهو (أفعل تفضيل) ، لبيان أن حق الرسول أعظم الحقوق فهو أولى بالمؤمن من نفسه، ومهما كانت ولاية الإنسان على نفسه عظيمة فولايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليها أعظم، وحكمه أنفذ، وحقه ألزم. {وأزواجه أمهاتهم} : أي منزّلات منزلة الأمهات في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح أما فيما عدا ذلك من الأمور كالنظير إليهن، والخلوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 بهن، وإرثهن فهنَّ كالأجنبيات. قال (ابن العربي) : ولسن لهم بأمهات، ولكن أنزلن منزلتهن في الحرمة، وكلّ ذلك تكرمة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحفظاً لقلبه من التأذي بالغيْرة، وذلك من خصوصياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {وَأُوْلُو الأرحام} : أي أهل القرابة وأصحاب الأرحام. والأرحام جمع رَحِم وهو في الأصل مكان تكوّن الجنين في بطن أمّه ثم أطلق على القرابة. ومعنى الآية: أهل القرابة مطلقاً أحق بإرث قريبهم من المؤمنين والمهاجرين لأنّ لهم صلة القرابة به، وقوله تعالى: {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} متعلّق (بأولى) أي أحق بالإرث من المؤمنين والمهاجرين، وليست متعلقة (بأولو الأرحام) نبَه عليه ابن العربي والقرطبي. {أولى بِبَعْضٍ} : أي في التوارث، وقد كان الإرث في صدر الإسلام بالهجرة والمؤاخاة في الدين، فنسخ الله ذلك وجعل التوارث بالنسب والقرابة، روي عن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: لمّا قدمنا معشرَ قريش المدينة، قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر (خارجة بن زيد) وآخيتُ (كعب بن مالك) فوالله لو قد مات عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله} فرجعنا إلى موارثنا. {فِي كتاب الله} : المراد بالكتاب هنا (القرآن العظيم) أي فيما أنزله في القرآن من أحكام المواريث وقيل: المراد به (اللوح المحفوظ) ، والقول الأول أظهر وأرجح. {أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} : المراد بالأولياء هنا هم (المؤمنون والمهاجرون) المذكورون في أول الآية والمراد بالمعروف (الوصية) والاستثناء في الآية هو (استثناء منقطع) على الرأي الراجح، ويصبح معنى الآية: أولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الأرحام أحق بالإرث من غيرهم فلا تورّثوا غير ذي رحم لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب بأن توصوا لهم فإنّ ذلك جائز بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام الوراثين. {مَسْطُوراً} : أي مثبتاً بالأسطار في القرآن الكريم، أو حقاً مثبتاً عند الله تعالى لا يُمْحَى. المعنى الإجمالي أخبر الباري تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن مقام النبي الرفيع، وشرفه السامي فبيّن أنه أحق بالمؤمنين من أنفسهم، وأن حقه أعظم من حقوق أنفسهم عليهم، وأن أمره ينبغي أن يقدّم على كل أمر، وحبّه ينبغي أن يفوق كل حبّ، فلا يُعصى له أمر، ولا يُخالف في صغيرة أو كبيرة، لأنّ ذلك من مقتضى ولايته العامّة عليهم، فإذا دعاهم إلى الجهاد عليهم أن يلبّوا أمره مسرعين ولا ينتظروا أمر والد أو والدة، فإنه صلوات الله عليه بمنزلة الوالد لهم، لا يريد لهم إلا الخير، ولا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم. وكما شرّف الله رسوله الكريم فجعل حقه أعظم الحقوق كذلك فقد شرّف زوجات الرسول الطاهرات فجعلهن أمهات للمؤمنين فأوجب احترامهم وتعظيمهن، وحرّم نكاحهن على الرجال، إكراماً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحفظاً لحرمته في حياته وبعد وفاته، وذلك من الخصوصيات التي خصّ الله تعالى بها رسوله الكريم، ثم بيّن تعالى أن ذوي الأرحام أحق بإرث بعضهم البعض من الغير، فالقريب النسيب أحق بميراث قريبه من الأجنبي البعيد إلا إذا أراد الإنسان الوصية فإنّ الأجنبي يكون أحق من القريب لأنه لا وصية لوارث، وهذا الحكم ألا وهو توريث القريب دون الأجنبي هو حكم الله العادل الذي أنزله في دستوره وكتابه المبين، وجعله حكماً لازماً مسطّراً لا يُمْحى، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وجه الارتباط بالآيات السابقة في الآيات السابقة أمر الله المؤمنين بالتخلي عن التبني، كما أمر بدعوة الأبناء الأدعياء لآبائهم ونسبتهم إليهم، وقد كان الرسول الكريم متبنياً (زيد بن حارثة) فلما أمر بالتخلّي عنه وبدعوته إلى أبيه أصابت زيداً وحشة، فجاءت هذه الآية عقبها تسلية لزيد، ولبيان أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن تخلّى عن أبوته فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعاً دون تفريق بين ابن من الصلب وغيره، لأن ولايته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باقية دائمة، فالرسول أحق بالمؤمن من نفسه، وهو كذلك أحق من كل قريبٍ، فهو الآمر الناهي بما يحقق للناس السعادة، وهو (الأب الروحي) لكل مؤمن ومؤمنة، وزوجاته الطاهرات هن أمهات للمؤمنين، فلا ينبغي للمؤمن أن يحزن إن تخلّى النبي عن أبوّته من التبني لأن أبوّته الروحية باقية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على لامؤمنين أن يكون الرسول أحبّ إليهم من أنفسهم، وأن حكمه عليه السلام أنفذ من حكمها، وحقّه آثر لديهم من حقوقها وصدق عليه السلام حين قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبّ إليه من والده وولده والناس أحمعين» . اللهم ارزقنا محبته، وارزقنا اتباعه، واجعله شفيعاً لنا يوم الدين. سبب النزول 1 - روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالتجهيز والخروج، فقال أناسٌ منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فأنزل الله تعالى فيهم {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 2 - وروى القرطبي في تفسيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا حضرته جنازة سأل هل على صاحبها دين؟ فإن قالوا: لا، صلى عليها، وإن قالوا نعم قال: صلوا على صاحبكم، قال: فلما فتح الله عليه الفتوح قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالاً ضويق العصبة فيه، وإن ترك ديناً، أو ضياعاً (عيالاً ضياعاً) فلياتني فأنا مولاه» . قال ابن العربي: فانقلبت الآن الحالُ بسبب الذنوب. فإن تركوا مالاً ضويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعاً أُسْلِموا إليه. . فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتبيينه، ولا عطر بعد عروس. ملاحظة: الأول هو السبب والثاني أي ما رواه البخاري هو تفسير لمعنى الولاية فتنبّه. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: لم يذكر في الآية الكريمة ما تكون في الأولوية بل أطلقت إطلاقاً ليفيد ذلك أولويته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في جميع الأمور، ثم إنه ما دام أولى من النفس فهو أولى من جميع الناس بالطريق الأولى. اللطيفة الثانية: ذكر الله تعالى أن أزواج النبي هنّ (أمهات المؤمنين) فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هذا هو الأب للمؤمنين وقد جاء في مصحف أبيّ بن كعب (وهو أب لهم) وقد سمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حكّها يا غلام (أي أمحها) فقال ابن عباس إنها في مصحف أبيّ، فذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 إليه عمر فسأله فقال له أبيّ: إنه كان يلهيني القرآن، ويلهيك الصفق بالأسواق. وأمّا قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} ففيه تشبيه يسمى (التشبيه البليغ) فقد حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه وأصل الكلام: أزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، وهذا كما تقول: محمد بحر أي أنه كالبحر في الجود والعطاء. اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} مجاز بالحذف تقدير الكلام: أولى بميراث بعضٍ أو بنفع بعض كما قال الألوسي، وإنما يفهم تخصيص الأولوية هنا بالميراث من سياق الكلام إذ المسلمون جميعاً بعضهم أولى ببعض في التناصر والتراحم، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم كما ورد في الحديث الشريف؛ فلا تكون الأولوية بين أولى الأرحام إلا بالإرث إذ لا وجه لتخصيصهم بالنصرة أو الجماعة أو التعاون فإن ذلك واجب لجميع المسلمين. تنبيه: جمهور المفسرين على أن (مِنْ) في قوله تعالى: {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} هي (ابتدائية) وليست (بيانية) وأنّ المفضل عليه هم (المؤمنون والمهاجرون) والمفضّل هم {وَأُوْلُو الأرحام} كما تقول: زيد أفضل من عمرو، فالمفضّل زيد والمفضّل عليه هو عمرو، ويكون المعنى كما أسلفنا (أولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين) . وأجاز الزمخشري أن تكون (مِنْ) (بيانية) ويكون المعنى: أولو الأرحام أي الأقرباء من المؤمنين والمهاجرين أحق بميراث بعضهم بعضاً من الأجانب، وقد ردّ هذا القول (ابن العربي) في كتابه «أحكام القرآن» . وقال ما نصه: إن حرف الجر يتعلق (بأوْلى) لما فيه من معنى الفعل لا بقوله (أولو الأرحام) بإجماع لأن ذلك كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 يوجب تخصيصها ببعض المؤمنين ولا خلاف في عمومها، وهذا حلّ إشكالها. وجوه القراءات قرأ الجمهور {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم} . قال أبو السعود: وقُرئ: {وأزواجُه أمّهاتُهم وهو أبٌ لهم} أي في الدين، فإنّ كلّ نبيّ أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية، ولذلك صار المؤمنون إخوة. أقول: هذه القراءة تحمل على أنها تفسير لقوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} وهي قراءة عبد الله وكذلك في مصحف (أبيّ بن كعب) فإذا كان أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، فهو عليه السلام أبٌ للمؤمنين، ولا شك أن الأب الروحي أعظم قدراً من الأب الجسدي، وقد قال مجاهد: كل نبيِّ أبٌ لأمته، يعني في الدين. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين} النبيّ مبتدأ و (أولى) خبر والجار والمجرور متعلق ب (أولى) لأن أفعل التفضيل يعمل عمل الفعل. ثانياً: قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} مبتدأ وخبر، على حدّ قولهم: أبو يوسف أبو حنيفة، أي يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، والمعنى: إنهن بمنزلة الأم في التحريم، فلا يجوز لأحدٍ أن يتزوج بهنّ، احتراماً للنبي عليه السلام. أفاده ابن الأنباري. ثالثاً: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} الاستثناء هنا يحتمل أن يكون متصلاً، ويحتمل أن يكون منقطعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فعلى الأول: يكون استثناءً من أعم الأحوال، ويكون المعنى: إن أولى الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين في جميع الأحوال. إلاّ أن يكون لكم في هؤلاء وصيٌ تريدون أن توصوا إليه فذلك جائز. وعلى الثاني: يكون تخصيص الأولوية بالميراث، ويكون المعنى: أولو الأرحام أولى بميراث بعضهم بعضاً، لكن إذا أسديتم إلى أوليائكم معروفاً فذلك جائز، بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام، وهذا الوجه اختاره ابن الأنباري وغيره من العلماء. قال ابن الجوزي: وهذا الاستثناء ليس من الأول أي أنه ليس متصلاً بل هو منقطع والمعنى: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز، فالمعروف هاهنا الوصية. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يجب على الإمام قضاء دين الفقراء من المسلمين؟ قال بعض أهل العلم إنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال ديون الفقراء اقتداءً بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنه قد قال في الحديث الشريف: «وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه» . أي فعليّ قضاء دينه ورعاية أولاده، والإمام خليفة عن رسول الله يجب عليه قضاء ديون الفقراء من المسلمين. ولا شك أنّ هذا استنباط دقيق فعلى الدولة أن ترعى أمور الفقراء وتكفل مصالح الناس، وترعى شؤونهم وذريتهم. الحكم الثاني: هل زوجات الرسول أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟ قال (ابن العربي) : اختلف الناس هل هنّ أمهات الرجال والنساء؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 أم هنّ أمهات الرجال؟ خاصة على قولين: أ - فقيل إنه عام في الرجال والنساء. ب - وقيل إنه خاص بالرجال فقط. قال ابن العربي: وهو الصحيح، لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة، والحلُّ غير متوقع بين النساء فلا يحجبن بينهن بحرمة، وقد روي أن امرأةً قالت لعائشة: يا أماه، فقالت لها: لستُ لك بأم إنما أنا أمّ رجالكم. قال القرطبي: قلتُ لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء، يدل على صدر الآية {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل عليه قراءة أبيّ (وهو أب لهم) أقول: لعلّ الأرجح ما ذهب إليه القرطبي والله أعلم. الحكم الثالث: هل تثبت الحرمة لجميع زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ استدل العلماء على حرمة نكاح زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الآية الكريمة وبقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53] واختلف العلماء هل الحرمة ثابتة لكل زوجاته الطاهرات سواءً من طلّقت منهن ومن لم تطلّق؟ وسواءً أكانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها؟ على مذهبين: أ - ذهب الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سواءً طلَّقها أم لم يطلقها فيثبت الحكم لكلهن، وهذا ظاهر الآية الكريمة. ب - وصحّح إمام الحرمين قصر التحريم على المدخول بها فقط، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 واستدل بما روي أنّ (الأشعث بن قيس) نكح المستعيذة في زمن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فهمّ برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولاً بها، فكفّ عنه، وفي رواية: أنه همّ برجمها فقالت: ولمَ هذا؟ وما ضُرِبَ عليّ حجاب، ولا سُمّيتُ للمسلمين أماً، فكفّ عنها. الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه إمام الحرمين من أنّ الحرمة قاصرة على المدخول بها فقط، فلو طلَّقها بعد الدخول تثبت لها الحرمة كذلك، أمّا مجرد العقد عليها فلا يوجب الحرمة كما هو الحال في شأن «المستعيذة» وهي التي تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما أراد الدخول عليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذتِ بمَعاذ فألحقها بأهلها، وكانت تقول: أنا الشقية، لأنها حرمت من ذلك الشرف الرفيع، شرف الانتساب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الحكم الرابع: هل يورّثُ ذوو الأرحام؟ المراد من قوله تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} أنّ أصحاب القرابة مطلقاً أولى بميراث بعض الأجانب، وهذه الآية نسخت التوارث الذي كان بين المسلمين بسبب (المؤاخاة والنصرة) أو بسبب الهجرة، فقد كان المهاجريُّ يرث أخاه الأنصاري بعد موته، ثم نسخ الحكم وأصبح التوارث بالقرابة النسبية. وقد أخذ بعض الفقهاء من هذه الآية الكريمة أن (ذوي الأرحام) - وهم الذين ليسوا بأصحاب فروض ولا عصبات - كالخال والعمة وأولاد البنات وغيرهم أحق بالإرث من بيت مال المسلمين، وهذا هو مذهب (الحنفية) وجمهور الفقهاء، ودليلهم في ذلك أنّ الآية اقتضت بأنّ ذوي القرابة مطلقاً (سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم أصحاب قرابة رحمية) أحقُّ بالإرث من الأجانب، فالآية تشمل كل قريب للميت. كما استدلوا بأنّ بيت مال المسلمين تربطه مع الميت رابطة الأخوَّة في الدين، وذوو الأرحام تربطهم معه أخوًّة الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 مع شيء آخر وهو (قرابة الرحم) فأصبح لهم قرابتان: قرابة الدين، وقرابة الرحم، وهذا يشبه ما إذا مات إنسان عن أخ شقيق، وأخ لأب فإنّ المال كله يكون للشقيق لأنّ قرابته من جهتين: من جهة الأب ومن جهة الأم فتكون أقوى من قرابة الأخ لأب لأنه من جهة واحدة فكذلك (ذوو الأرحام) . وذهب الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ إلى عدم توريث (ذوي الأرحام) وقال: إن بيت مال المسلمين أحق بالإرث فيما إذا لم يكن للميت عصبة أو أصحاب فروض أو من يردّ عليه منهم فيصبح المال من نصيب المسلمين ويعطى لبيت المال، وحجته في ذلك أن التوريث لا بدّ فيه من نصّ في كتابٍ أو سنّة ولا يمكن أن يكون بالعقل أو الرأي ولم يرد في توريث (ذوي الأرحام) نصّ قاطع، فلا يورّثون إذاً ويكون الإرث لبيت المال. الترجيح: والصحيح هو ما ذهب إليه الحنفية وجمهور الفقهاء من توريث ذووي الأرحام فهو الظاهر من النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة. والبحث مفصّل في علم الفرائض فليرجع إليه. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: ولاية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العامّة على جميع المؤمنين. ثانياً: حرمة نكاح زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعظيماً لشأنه. ثالثاً: تكريم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأهل بيته واجب على المسلمين. رابعاً: نسخ التوارث بالمؤاخاة والنصرة وجعله بالقرابة النسبية. خامساً: أحكام الشريعة الغراء منزلة من عند الله مسطّرة في القرآن العظيم. سادساً: توريث ذوي الأرحام مقدم على ميراث بيت مال المسلمين على الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 خاتمة البحث: حكمة التشريع من حكمة الباري جلّ وعلا أن ربط بين أفراد المجتمع الإسلامي برباط (العقيدة والدين) وعزّز تلك الروابط ب (الأخوّة الإسلامية) التي هي مظهر القوة والعزة. وسبيل السعادة والنجاح. وقد كان التوارث في صدر الإسلام بسبب تلك الرابطة (رابطة العقيدة) و (رابطة الدين) وبسبب الهجرة والنصرة، فكان الأنصاري يرث أخاه المهاجري، ويرث المهاجري أخاه الأنصاري دون ذوي قرباه، حتى توثّقت بين المؤمنين روابط العقيدة والإيمان، وتمثّلت فيهم أخوة الإسلام {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وأصبحت لحمة الإسلام أقوى من لحمة النسب، ورابطة الدين أقوى من رابطة الدم، وأصبح المسلمون كالجسد الواحد، وكالبنيان يشدّ بعضُه بعضاً. ثم نسخ الله تبارك وتعالى التوارث بين المؤمنين بسبب الدين، وبسبب الهجرة والنصرة، وجعل التوارث بسبب القرابة والنسب، وذلك تمشياً مع نظرة الإسلام المثلى، في توطيد دعائم الأسرة، لأنه أساس المجتمع الفاضل. فإذا تمكنت العلاقات الأخوية بين أفراد الأسرة تقوّي بنيان المجتمع. وإذا انحلّت هذه العلاقات، تزعزع المجتمع وانحلت أواصره. ولكنّ الله جل ثناؤه لم يورث كلّ قريب، بل أوجب أن تكون مع القرابة رابطة الإيمان. فالابن إذا كان كافراً لا يرث أباه، والأخ غير المسلم لا يرث أخاه، وبذلك جمع الإسلام بين (رابطة الإيمان) و (رابطة النسب) وجعل القرابة غير نافعة إلا مع الإيمان. فحفظ للأسرة كرامتها، وللدين حرمته، وللقريب حقوقه، ونزل القرآن الكريم بحكمه العادل {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وبقوله جل ثناؤه: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين ... } . وبذلك نُسِخَ الإرث بسبب الهجرة والنصرة، وأصبح بسبب النسب، بعد أن تقوّى الإيمان وتوطّدت دعائمه. روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ... فأيُّما مؤمنٍ ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا. فمن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 [3] الطلاق قبل المساس التحليل اللفظي {نَكَحْتُمُ} : يطلق النكاح تارة ويراد به العقد، ويطلق تارةً ويراد به الوطء. والمراد به هنا العقد باتفاق العلماء بدليل قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وأصل النكاح في اللغة: الضمّ والجمع قال الشاعر: ضممتُ إلى صدري معطّرَ صَدْرها ... كما نَكَحَتْ أُم الغلام صَبَّيها قال القرطبي: النكاح حقيقة في الوطء. وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في القرآن إلا في معنى العقد لأنه في معنى العقد لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن الكناية عنه بلفظ (الملامسة، والمماسّة، والقربان، والتغشي، والإتيان) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 {المؤمنات} : فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيار الأزواج على المؤمنات. وليس لفظ الإيمان في قوله: (المؤمنات) للقيد أو الشرط بل هو لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، وهذا مما اتفق عليه الفقهاء ولو كان للقيد أو الشرط لكان حكم (الكتابيات) مختلفاً عن حكم المؤمنات مع أن الحكم واحد. قال الألوسي: (وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن من شأنه أن يتخيّر لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة، وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق) . {تَمَسُّوهُنَّ} : المراد بالمسّ هنا (الجماع) بإجماع الفقهاء. وقد اشتهرت الكناية به وبلفظ الملامسة والمماسّة ونحوها في لسان الشرع عن الجماع، وهو كما أسلفنا من آداب القرآن لأن القرآن العظيم يتحاشى ذكر الألفاظ الفاحشة فيكني عنها مثل قوله تعالى: {أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} [النساء: 43] وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] وهكذا كنّى عن الجماع باللمس أو المماسّة، ولو كان المراد في الآية حقيقة المسّ باليد وهي إلصاق اليد بالجسم للزمت العدّة فيما لو طلّقها بعد أمسّها بيده من غير جماع ولا خلوة، ولم يقل بذلك أحد من الفقهاء. {عِدَّةٍ} : العدّة في اللغة مأخوذة من العَدّ لأن المرأة تعدّ الأيام التي تجلسها بعد طلاق زوجها لها أو وفاته، وهي شرعاً: المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو للتفجع على زوج مات. {تَعْتَدُّونَهَا} : أي تعدّونها عليهن، أو تستوفون عددها عليهن، يقال: عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها ومثله قولك: كلته فاكنلته، ووزنته فاتّزنته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 {فَمَتِّعُوهُنَّ} : أي اعطوهن المُتْعةُ في الأصل ما يَمتّع به من مالٍ أو ثياب، وقد حدّدها بعض الفقهاء بأنها (قميص وخمار ومِلْحَفةً) والصحيح أن المتعة لا تختص بالكسوة بل هي في لسان الشرع: كل ما يعطيه الزوج لمطلقته ارضاءً لها وتخفيفاً من شدة وقع الطلاق عليها. {وَسَرِّحُوهُنَّ} : أي طلقوهن، قال القرطبي: التسريح إرسال الشيء ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض، وسرّح الماشية: أرسلها. وقال الألوسي: أصل التسريح أن ترعى الإبل السّرْح وهو شجر له ثمره ثم جعل لكل إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج. والمراد هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية. {سَرَاحاً جَمِيلاً} : أي طلاقاً بالمعروف فهو مثل قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقوله كذلك {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] والسراح الجميل يكون بالتلطف مع المطلقة بالقول، وترك أذاها، وعدم حرمانها مما وجب لها من حقوق، والإحسان إليها. المعنى الإجمالي يخاطب الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول: يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن، ثم طلقتموهن من قبل أن تقربوهنّ فليس لكم عليهن حق في العدّة تستوفون عددها عليهنّ لأنكم طلقتموهن قبل المِساس وهذا لا يستلزم احتباس المرأة في البيت وجلوسها في العدّة من أجل صيانة تسبكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل، فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لهن. وتكرموهنّ بشيءٍ من المال أو الكسوة تطييباً لخاطرهن وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن وأن تفارقوهنّ بالمعروف فلا تؤذوهن بقول أو عمل، ولا تحرموهن مما وجب لهن عليكم من حقوق. فإنّ ذلك من مقتضى إيمانكم وطاعتكم لله عَزَّ وَجَلَّ ّ والله تعالى أعلم. وجه الارتباط بالآيات السابقة كان الحديث في الآيات السابقة عن نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما ينبغي أن يكنّ عليه من طاعة لله ورسوله، وزهدٍ في الدنيا، وطهارة وكمال، لأنهن لسن كبقية النساء، والله تبارك وتعالى يريد لهنّ أن يحافظن على ذلك الشرف الرفيع وهو انتسابهن إلى رسول الله حيث أصبحن أمهاتٍ للمؤمنين وزوجات الرسول الطاهرات، وقد أعقب ذلك بذكر قصة (زيد بن حارثة) وتطليقه (زينب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْها التي تزوجها الرسول بعد ذلك بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى وذلك لحكمة جليلة وهي إبطال (بدعة التبني) ثم جاء الخطاب هنا للمؤمنين بحكم الزوجة تطلّق قبل المساس وكيف يجب على المؤمنين أن يفعلوا فيما إذا وقع منهم الطلاق قبل المعاشرة، وما هي الأحكام الشرعية التي ينبغي عليهم أن يتمسكوا بها في مثل هذه الأحوال، فهذا وجه الارتباط والله أعلم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {نَكَحْتُمُ المؤمنات} فيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يتخيّر لنطفته وأن ينكح المؤمنة الطاهرة، لأن إيمانها يجعلها تحافظ على عفتها ويحجزها عن الوقوع في الفاحشة والشرّ. فتصون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 عرض زوجها وتحفظه في حضرته وغيبته وصدق الله {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] . اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} التعبير (بثم) دون الفاء أو الواو، والعطف بها (التراخي) للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يكون بعد تريث وتفكير طويل، ولضرورة ملحّة لأن الطلاق من الأمور التي يبغضها الله حيث فيه هدم وتحطيم للحياة الزوجية ولهذا قال بعض الفقهاء: إن الآية ترشد إلى أن الأصل في الطلاق الحظر، وأنه لا يباح إلا إذا فسدت الحياة الزوجية، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين. والحكم واحد لا يختلف فيمن تزوّج امرأة فطلّقها على الفور، أو طلّقها على التراخي. (انظر روح المعاني) . اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} كنّى بالمسّ عن الجماع وهذا - كما أسلفنا - أدب من آداب القرآن، ينبغي على المسلم أن يتأدب به فيكنى عن كل شيء قبيح أو فاحش. وما أجمل أدب الرسول حين قال للمرأة المطلّقة المبتوتة التي جاءت تستأذنه في العودة إلى زوجها الأول: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» . اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} في إسناد العدّة إلى الرجال إشارة إلى أنها حقّ للمطلّق، فوجوب العدّة على المرأة من أجل الحفاظ على نسب الإنسان فإنّ الرجل يغار على ولده، ويهمه ألا يُسْقَى زرعُه بماء غيره، ولكنّها على المشهور ليست حقاً خالصاً للعبد، بل تعلّق بها حقّ الشارع أيضاً، فإن منع الفساد باختلاط الانساب من حق الشارع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 والصحيح أنّ وجوب العدة فيها (حق الله، وحق العبد) ؛ ولهذا قال الفقهاء العدّةُ تجب لحكم عديدة: لمعرفة (براءة الرحم، وللتعبد، أو للتفجع) فتدبره. وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {من قبل أن تمسّوهنّ} أي تقربوهن. وقرأ حمزة والكسائي {من قبل أن تُمَاسّوهنّ} بزيادة ألف، والمعنى واحد. 2 - قرأ الجمهور {من عدّة تَعْتَدّونها} بتشديد الدال من العدّ أي تستوفون عددها، من قولك: عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها، وقرأ ابن كثير وغيره بتخفيف الدال {تَعْتَدُونها} قال الزمخشري: أي تعتدون فيها كقوله: ويوماً شهدناه. والمراد بالاعتداء ما في قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} [البقرة: 231] . قال أبو حيان: المعنى تعتدون عليهن فيها، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدّة كقوله: ويوماً شهدناه سليماً وعامراً، أي شهدنا فيه. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية. (ما) نافية حجازية تعمل عمل ليس، و (لكم) جار ومجرور خبرها مقدم. و (من) صلة تأدباً. و (عدة) اسم ليس مؤخر مجرور لفظاً مرفوع محلاً. قال ابن مالك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وزيد في نفيٍ وشبهه فجّر ... نكرة كما لباغٍ من مفر والمعنى: ليس لكم عليهن عدّة توجبونها عليهن. ثانياً: قوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} . (سراحاً) مفعول مطلق و (جميلاً) صفة له منصوب. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يقع الطلاق قبل النكاح؟ أجمع الفقهاء على أن الطلاق لا يقع قبل النكاح استدلالاً بقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فقد رتّب الطلاق على النكاح وعطفه (بثمّ) التي تفيد الترتيب مع التراخي، واستدلالاً بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا طلاق قبل النكاح» واختلفوا فيمن علّق الطلاق مثل قوله: (إن تزوجت فلانة فهي طالق) ، أو قوله: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) على مذهبين: أ - مذهب الشافعي وأحمد: أنه لا يقع الطلاق وهو مروي عن (ابن عباس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. ب - مذهب أبي حنيفة ومالك: أنه يقع الطلاق بعد عقد الزواج وهو مروي عن (ابن مسعود) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. أدلة الشافعية والحنابلة: أ - استدل الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله على أن التعليق مثل التنجيز، طلاقٌ قبل النكاح، وإذا طلّق الإنسان امرأة، لا يملكها لايقع الطلاق، لأن الطلاق لا بد أن يعتمد على الملك، وهو يشبه ما لو قال لأجنبية لا يملكها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 (أنت طالق) فإنه لا يقع باتفاق فكذا المعلّق من الطلاق لا يقع به طلاق. ب - واستدلوا بحديث «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» . وهذا الرأي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين وقد عدّ البخاري منهم أربعة وعشرين في باب (لا طلاق قبل النكاح) وهو منقول عن (ابن عباس) رَحِمَهُ اللَّهُ، فقد روي أنه سئل عن ذلك أي (عن الطلاق المعلَّق) فقال: هو ليس بشيء. فقيل له إن (ابن مسعود) يخالفك يقول: إذا طلّق ما لم ينكح فهو جائز. فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال لقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن) ولكن إنما قال {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} . أدلة المالكية والحنفية: واستدل الحنفية والمالكية بأنّ الطلاق يعتمد الملك، أو الإضافة إلى الملك، لكنه في حالة الإضافة إلى الملك يبقى معلّقاً حتى يحصل شرطه، فإذا قال للأجنبية (إن تزوجتك فأنت طالق) كان هذا تعليقاً صحيحاً، ولا يقع الطلاق به الآن إنما يقع بعد أن يتزوجها، فهو مثل قوله: (إن دخلتِ الدار فأنت طالق) لا يقع الطلاق إلا بعد الدخول، فكذا هنا لا يقع الطلاق إلاّ بعد أن يعقد عقد الزواج عليها، فيكون الطلاق واقعاً في الملك بالضرورة فكأنه أوقعه عليها حينذاك، وقالوا: الفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية وبين تعليق طلاقها على النكاح فإن قول الرجل لامرأةٍ أجنبية (هي طالق) كلام لغو، لأنها ليست زوجته وقد طلّق ما لم يملك فهو طلاق قبل النكاح لا يقع أصلاً. أما قوله: (إن تزوجت فلانة فهي طالق) فهو معلّق على الملك والفرق واضح بينهما. وهذا القول قال به جمع غفير من العلماء منهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 (ابن مسعود) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ودليله قوي وهو الأحوط كما نبّه عليه (ابن العربي) والجصاص. والخلاصة فإنَّ الطلاق بعد النكاح يقع باتفاق الفقهاء، والطلاق المنجّز قبل النكاح لا يقع باتفاق، والطلاق المعلّق على النكاح يقع عند الحنفية والمالكية ولا يقع عند الشافعية والحنابلة، ولكل وجهة هو موليها والله تعالى أعلم. الحكم الثاني: هل الخلوة الصحيحة توجب العدّة والمهر؟ ظاهر الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} الذي هو كناية عن الجماع أنَّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدّة والمهر، وهذا مذهب الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، ودليله: أن الله سبحانه وتعالى نفى وجوب العدّة إذا طلقت قبل الجماع، والخلوةُ ليست جماعاً فلا يجب بها العدّة ولا المهر. وذهب الجمهور (المالكية والحنفية والحنابلة) إلى أن الخلوة كالجماع توجب المهر كاملاً، وتوجب العدّة. 1 - واستدلوا بما رواه الدارقطني عن ثوبان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من كشف خمار امرأةٍ ونظر إليها وجب الصَدَاق دخل بها أو لم يدخل» . ب - وروي عن عمر أنه قال: (إذا أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصَدَاق وعليها العدة ولها الميراث) ج - وروي عن زُرَاة بن أبي أوفى أنه قال: (قضى الخلفاء الراشدون المهديُّون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملاً وعليها العدّة دخل بها أو لم يدخل) . الترجيح: وأنت ترى أن أدلة الجمهور أقوى، وحجتهم أظهر، إذ يحتمل أن يبقى الرجل مع زوجته عاماً كاملاً، يبيت معها في فراش واحد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ولكنَّه لم يجامعها طيلة هذه المدة فلا بدَّ أن نوجب عليه دفع المهر كاملاً، ونلزمها بالعدّة وذلك اعتباراً بالخلوة الصحيحة ودفعاً للنزاع والخلاف. وقد اختلف القائلون بوجوب العدّة بالخلوة الصحيحة فمنهم من يقول: إنها واجبة (يانةً، وقضاءً) ومنهم من يقول بوجوبها قضاءً لا ديانةً لأن القاضي إنما يحكم بالظاهر والرأي الأول أصحّ. الحكم الثالث: ما هو حكم المطلّقة رجعياً هل تستأنف العدّة إذا راجعها زوجها ثم طلقها قبل المساس؟ اختلف الفقهاء في المرأة المطلّقة رجعياً فيما إذا طلقها زوجها بعد المراجعة قبل أن يمسّها على أقوال: أ - مذهب الظاهرية: أنه لا عدة عليها جديدة والعدة الأولى قد بطلت بالطلاق الثاني، فلا يجب عليه أن تكمّل العدة الأولى. (وهذا رأي ضعيف) ب - مذهب الشافعي: تبني على عدة الطلاق الأول وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة. ح - مذهب مالك وأبي حنيفة: عليها أن تستأنف عدة جديدة، قال القرطبي: وعلى هذا أكثر أهل العلم. دليل الظاهرية: استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها، أنه ليس عليه أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية. دليل الشافعي: استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية. دليل الشافعي: استدل الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ بأن المطلّقة تبني على عدتها الأولى وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة، بأنّ الطلاق الثاني لا عدة له لأنه طلاق قبل المساس، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فإنه طلاق بعد دخول يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب العدة. فطلاقه لها قبل أن يمسّها في حكم من طلّقها في عدتها قبل أن يراجعها، ومن طلّق امرأته في كل ظهر مرةً بنَتْ ولم تستأنف. دليل المالكية والحنفية: قالوا إن عليها أن تستأنف عدةً جديدة، لأن الطلاق الثاني وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة مسّ ولا خلوة، لكنه لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق، إذا المفروض أن المرأة كان مدخولاً بها من قبل، فيجب عليها أن تستأنف عدةً كاملة لأنها في حكم الموطوءة. قال القرطبي: نقلاً عن الإمام مالك: إنها تنشئ عدةً مستقبلة، وقد ظلم زوجُها نفسَه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها، وعلى هذا أكثر أهل العلم لأنها في حكم الزوجات المدخول بهنّ في النفقة والسكنى وغير ذلك، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام. الحكم الرابع: هل تجب المتعة لكل مطلّقة؟ ظاهر قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول سواءً فرض لها مهر أو لم يفرض لها مهر، ويقوّي هذا الظاهر قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 241] فقد أوجبت لكل مطلقة (المتعة) وقد اختلف الفقهاء في وجوب المتعة على أقوال: أ - إنها واجبة لكل مطلّقة فرض لها مهر أم لم يفرض لها مهر عملاً بظاهر الآية وهو مذهب (الحسن البصري) . ب - إن المتعة واجبة للمطلّقة قبل الدخول التي لم يفرض لها مهر وهو مذهب (الحنفية والشافعية) . وبهذا قال (ابن عباس) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وأما التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 ح - إن المتعة مستحبة للجميع وليست واجبة لأحدٍ من النساء وهو مذهب (المالكية) . وسبب الخلاف بين الفقهاء في (وجوب لمتعة) أو استحبابها هو أنه قد ورد في القرآن الكريم آيات كريمة ظاهرها التعارض، فمنها ما يوجب المتعة على الإطلاق، ومنها ما يوجب المتعة عند عدم ذكر المهر المفروض لها، ومنها ما لم ينصّ على المتعة أصلاً فلهذا وقع الخلاف بين الفقهاء. أما الآيات الكريمة فهي آية الأحزاب {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وآية البقرة [236] {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين} وآية البقرة [237] كذلك {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الآية. فالآية الأولى مطلقة. والثانية مقيّدة بقيدين (عدم المسّ، وعدم الفرض) وأول الآية هو قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] الآية. والثالثة أوجبت نصف المهر فقط ولم تذكر المتعة، فمن الفقهاء من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب ويكون المعنى (فمتعوهن إن لم يكن مفروضاً لهن المهر في النكاح) وبهذا التفسير قال (ابن عباس) ويؤيده أن المتعة إنما وجبت دفعاً لإيحاش الزوج لها بالطلاق، فإذا وجب للمطلّقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابراً للوحشة فلا تجبُ لها المتعة. الترجيح: ويظهر من الأدلة أن حجة الفريق الثاني وهم (الحنفية والشافعية) أقوى وأظهر وهو مذهب ابن عباس وفيه جمع بين الأدلة والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً - على الإنسان أن يختار في الزواج المرأة المؤمنة الطاهرة. ثانياً - الطلاق هدم للحياة الزوجية فلا يصح أن يقع إلا في الحالات الضرورية. ثالثاً - لا تجب العدة بالإجماع إذا طلقت المرأة قبل الدخول بها. رابعاً: على الزوج أن يجبر خاطر زوجته المطلّقة بالمتعة. خامساً - حرمة إيذاء المطلّقة وتسريحها بالمعروف والإحسان. خاتمة البحث: حكمة التشريع شرع الله تعالى الزواج لبقاء النوع الإنساني، وعزّز من روابطه وأركانه وأحاط الأسرة بسياج مقدس من التكريم والتقدير. وأقام الحياة بين الزوجين على أساس التفاهم والتعاون والمحبّة والمودّة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] . وقد أباح الإسلام الطلاق في ظروف استثنائية ضرورية، وذلك ليخلّص الإنسان من شقاء محتّم، وينقذه من مشكلةٍ قد تحرمه السعادة، أو تكلفه حياته. والطلاق: في الإسلام أبغض الحلال إلى الله، لأن فيه خراب البيوت، وضياع الأسرة. وتشريد الأولاد. ولكنّه ضرورة لا بدّ منها عند اللزوم، فلا بدّ أن تكون الأسباب فيه جليَّة. والدوافع قاهرة، وألاّ يكونه ثمة طريق إلى الخلاص من ذلك الشقاء إلاّ بالطلاق، وقد قيل في الأمثال: «آخر الدواء الكيّ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وقد أرشد الإسلام إلى الاستعمال الحكيم لهذا العلاج، بألاّ يقدم عليه الإنسان إلاّ بعد درسٍ وتمحيص. وروّية وبصيرة. فإنّ الطلاق ما شرع إلاّ ليحقّق الطمأنينة والسعادة للإنسان. ويدفع عنه مرارة العيش، وقساوة الحياة. وإذا لم يستعمله المرء في الطريق المأمون انقلب إلى إعصارٍ مخرّب مدمّر، فحرم الأسرة الأمن والاستقرار. فهو إذاً سلاح ذو حدين: فإما أن يستعمله الإنسان فيما يجلب إليه الشقاء. أو يستعمله فيما يخلّصه من الشقاء. وقد حكم الباري جلّ وعلا بأنّ من طلّق زوجه قبل المسيس. فليس له عليها حق أن يمنعها من الزواج. لأنها لا عدّة عليها. والعدّة إنما تجب لمعرفة براءة الرحم. صيانةً لحق الزوج. لئلا يختلط نسبه بنسب غيره، أو يُسقى زرعه بماء غيره ... ولمّا كان هذا الطلاق قبل المعاشرة والاتصال الزوجي، إذاً فلا عدة ولا سبيل له عليها. فيجب أن يحسن معاملتها. بمنعها من الزوج {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} . وبذلك صان المولى جلّ وعلا كرامة المرأة، ودفع عنها عدوان الزوج وطغيانه، وحفظ لكلٍ حقّه، فلم يظلم المرأة، ولم يفرّط في حقّ الرجل، وفسح المجال لكل من الزوجين في الحياة السعيدة الكريمة. فما أسمى تعاليم الإسلام؟ وما أعدل نظمه وأحكامه!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 [4] أحكام زواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 التحليل اللفظي {أَحْلَلْنَا} : الإحلال معناه الإباحة، يقال: أحللت له الشيء: أي جعلته له حلالاً، وكل شيء أباحه الله فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام. قال في «لسان العرب» : والحِلّ والحلال والحليل: نقيض الحرام. وأحلّه الله وحلّله. وقوله تعالى في النَّسيء: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [التوبة: 37] وهذا لك حلّ أي حلال. وقال ابن عباس عن ماء زمزم: هي حِلّ وبلّ أي حلال محلّل. {أُجُورَهُنَّ} : مهورهنّ، والمراد في الآية: الأزواج اللواتي تزوجهنّ عليه السلام بصداق، وسمّي المهر أجراً لأنه مقابل الاستمتاع بالمرأة في الظاهر. وأمّا في الحقيقة فهو بذل وعطيّة، لإظهار (خطر المحل) وشرفه، كما قال تعالى: {وَآتُواْ النسآء صدقاتهن نِحْلَةً} [النساء: 4] أي هبة وعطيّة عن طيب نفس. فالمهر تكريم للمرأة، وإيناس لها، وتطييب لخاطرها. وليس هو مقابل المنفعة أو الاستمتاع كما نبّه عليه الفقهاء. {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} : يعني الجواري والإماء، لأنهنّ يُتملكْن عن طريق الحرب والجهاد، بالجهد والتضحية، وبذل النفس والمال في سبيل الله، ولذلك أُطلق عليهن (ملك اليمين) . {أَفَآءَ الله} : أي ممّا غنمته منهنّ، وممَّا ردّه الله عليك من الكفار، كصفية وجويرية، فإنه عليه السلام أعتقهما وتزوجهما. وأصل الفيء: الرجوع، وسمّي هذا المال فيئاً لأنه رجع إلى المسلمين من أموال الكفار بدون قتال، فكأنه كان في الأصل للمسلمين فرجع إليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 بدون حرب ولا قتال. {هَاجَرْنَ مَعَكَ} : المراد بالهجرة هي هجرته عليه السلام إلى المدينة المنورة، والمعية هنا (معك) يراد بها الاشتراك في الهجرة، لا في الصحبة، فمن هاجرت حلّت له سواءً هاجرت في صحبته أو لم تهاجر في صحبته. قال أبو حيان: تقول: دخل فلان معي، وخرج معي. أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان. وإن قلت: فرجعنا معاً اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل. والاشتراك في الزمان. {يَسْتَنكِحَهَا} : الاستنكاح طلب النكاح، لأن السين والتاء للطلب، مثل اسنتصر طلب النصرة، واستعجل طلب العجلة، والمراد من قوله: (إن أراد النبي) أي إن رغب النبي في نكاحها، فالإرادة هنا بمعنى الرغبة في النكاح. {خَالِصَةً} : أي خاصة لك لا يشاركك فيها أحد، يقال: هذا الشيء خالصة لك: أي خالص لك خاصة. قال ابن كثير في قوله: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} أي لا تحل الموهوبة لغيرك. ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل، لم تحلّ له حتى يعطيها شيئاً. وكذا قال مجاهد والشعبي. {مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} : أي ما أوجبنا على المؤمنين من نفقة، ومهر وشهود في العقد، وعدم تحاوز أربع من النساء. وما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور. {حَرَجٌ} : أي ضيق ومضقة، ومعنى قوله تعالى: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك. حيث اختصصناك بما هو أولى وأفضل، وأحللنا لك أجناس المنكوحات توسعة لك، وتيسيراً عليك، لتتفرع لشئون الدعوة والرسالة. {تُرْجِي} : قال في «لسان العرب» : أرجأ الأمر: أخّره، وتركُ الهمزة لغة، يقال: أرجأتُ الأمر وأرجيتُه إذا أخرتَه، والإرجاء: التأخير ومنه سمّيت المرجئة، وهم صنف من المسلمين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، فهم يرون أنهم لم لم يصلّوا ويصوموا لنجّاهم إيمانهم. قال ابن عباس في معنى الآية: تطلّق من تشاء من نسائك، وتمسك من تشاء منهن، لا حرج عليك. وقال مجاهد والضحاك: المعنى تَقْسم لمن شئت، وتؤخر عنك من شئت. وتقلّل لمن شئت، وتكثر لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أنّ هذا حكم الله وقضاؤه زالت الإحنة والغيرة عنهن، ورضين وقرّت أعينهنّ. {وتؤوي} : أي تضمّ، يقال أوى وآوى بمعنى واحد قال تعالى: {آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] أي ضمّه إليه وأنزله معن. وفي حديث البيعة أنه قال للأنصار «أبايعكم على أن نُؤووني وتنصروني» أي تضموني إليكم وتحوطوني بينكم كذا في «اللسان» . وقال ابن قتيبة: يقال: آويت فلاناً إليّ بمدّ الألف: إذا ضممتَه إليك، وأويت إلى بني فلان، بقصر الألف: إذا لجأت إليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 قال ابن الجوزي: (وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصاحَبة نسائه كيف شاء، من غير إيجاب والقسمة عليه والتسوية بينهنّ، غير أنه كان يسوّي بينهن) . {تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} : أي تطيب نفوسهن بتلك القسمة ومعنى الآية: ذلك التخيير الذي خيّرناك في ضحبتهن، أقرب إلى رضاهنّ وانتفاء حزنهنّ، لأنهنّ إذا علمن أنّ هذا أمر من الله كان ذلك أطيب لأنفسهن، فلا يشعرن بالحزن والألم. قال أبو السعود: {ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي أقرب إلى قرّة عيونهن، ورضاهنّ جميعاً، لأنه حكم كلهنّ فيه سواء، ثمّ إن سوّيت بينههن وجدن ذلك تفضلاً منك، وإن رجّحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن) . {وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً} : أي بمالغاً في العلم فيعلم كل ما تبدونه وتخفونهه، حليماً لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بتأخيرها، فإنه تعالى يمهل ولا يمهل. المعنى الإجمالي أحلّ الله تعالى لنبيّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صنوفاً من النساء، صنفاً يدفع له المهر (المهورات) وصنفاً يتمتع به بملك اليمين (المملوكات) ، وصنفاً من أقاربه من نساء قريش، ونساء بني زُهرة (المهاجرات) ، وصنفاً رابعاً ينكحه بدون مهر (الواهبات) أنفسهنّ ... وقد خص الباري جلّ وعلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 رسوله الكريم في أحكام الشريعة بخصائص لم يشاركه فيها أحد، وذلك توسعة عليه، وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة، فتزوجطه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأكثر من أربع، واختصاصه بنكاح الواهبات أنفسهن بدون مهر، وعدم وجوب القَسْم عليه بين الأزواج، كل ذلك خاص به صلوات الله عليه تشريفاً له وتكريماص، وإظهاراً لمقامه السامي عند الله تعالى. روى مسلم في «صحيحه» عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: (كنتُ أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأقول: أما تستحي امرأة أن تهب نفسها لرجل!! حتى أنزل الله تعالى {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} فقلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك) . ومعنى الآيات الكريمة: يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الاتي أعطيتهن مهورهن، وأحللنا لك ما مالكت يدك من السبي في الحرب. وأحللنا لك قريباتك من بنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك، اللاتي هاجرن معك، وأحللنا لك النساء المؤمنات الصالحات، اللواتي وهبن أنفسهنّ، حباً في الله وفي رسوله، ورغبة في التقرب لك. إن أردت أن تتزوّج من شئت منهن، بدون مهر خالصة لك من دون المؤمنين، قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في زوجاتهم ورفيقاتهم من شرائط العقد، ووجوب المهر في غير المملوكات، وأمّا أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك، لكيلا يكون عليك ضيق أو حرج، ولك - أيها الرسول - أن تترك من زوجاتك من تشاء، وتضم إليك من تشاء، وتقسم لمن تشاء منهن، وان تراجع بعد الطلاق من تريد، ذلك أقرب أن ترتاح قلوبهن لعلمهنّ أنه بأمر الله وترخيصه لك، فيرضَيْن بكل ما تفعل، ويقبَلْن به عن طيب نفس، وكان الله عليماً بما انطوت عليه القلوب، حليماً لا يعاجل بالعقوبة لمن خالف أمره وعصاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 سبب النزول لما نزلت آية التخيير {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] . أشفق نشاء النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يطلقهنّ فقلن: يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا في عصمتك فنزلت هذه الآية {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} الآية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: الإحلال معناه الإباحة والحلّ، وإسناده إلى الله جل جلاله {أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} دال على أن التحليل والتحريم خاص به سبحانه والتشريع لله وحده والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبلّغ عن الله ولا يملك أحد سلطة التشريع {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40] . اللطيفة الثانية: في وصفه تعالى النساء بقوله: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} تنبيه على أن الله عَزَّ وَجَلَّ ّ اختار لنبيّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأفضل والأكمل، فإنّ إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره، والتعجيل كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره، وقد شكا بعض الصحابه عدم القدرة على التزوج، فقال له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 عليه السلام: (فأين درعك الحطمية؟) . وليس تأخير بعض المهر وتقسيمه إلى (معجّل ومؤجّل) إلا شيء استحدثه العرف، واقتضاه التغالي بالمهور، أو الحذر على مستقبل الفتاة من الطلاق بعد أن فسد حال الناس. فذكرُ الأجور ليس للقيد أو الشرط وغنما هو لبيان الأفضل. اللطيفة الثالثة: تخصيص ما ملكت يمينه في قوله تعالى: {مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ} للإشارة إلى أنها أحلّ وأطيب مما تشتري من الجلب. فما سُبي من دار الحرب قيل فيه (سبي طيبة) ، وما كان عن طريق العهد قيل (سبي خبيثة) والله تعالى لا يرغب لنبيّه إلا في الطيّب، دون الخبيث. أفاده أبو حيان في «البحر المحيط» . اللطيفة الرابعة: ذُكرَ العم والخال مفرداً، وجُمعَ العمات والخالات في قوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك} قال ابن العربي: والحكمة في ذلك أن العم، والخال في الإطلاق (اسم جنس) كالشاعر، والراجز، وليس كذلك في العمة والخالة، وقد جاء الكلام عليه بغاية البيان، على العرف الذي جرى عليه العرب كما قيل: (قالت بنات العم يا سلمى) . وكقولهم: (إنّ بني عمك فيهم رماح) وهذا دقيق فتأملوه. اللطيفة الخامسة: العدول عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: (إن أراد النبيّ) ثمّ الرجوع إلى الخطاب في قوله (خالصة لك) وذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموضعين بعنوان (النبوّة) للدّلالة على أنّ الاختصاص كان من الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 تكرمةً له لأجل النبوَّة، والتكريرُ للتفخيم من شأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبيان استحقاقه الكرامة لنبوته. قال الزجّاج: وإنما قال: (إن وهبتْ نفسها للنبيّ) ولم يقل: لك، لأنه لو قال: «لك» جاز أن يتوهّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما جاز في بنات العم وبنات العمات. وجوه القراءات أولاً: قوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} قرأ الجمهور {وامرأةً} بالنصب عطفاً على مفعول (أحلَلْا) و (إنْ وهبت) بكسر الهمزة شرطية، وقرأ أبو حيْوة (وامرأةٌ مؤمنةٌ) بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف أي أحللناها لك. وقرأ الحسن {أنْ وهبت} بفتح الهمزة وتقديره: لأن وهبت نفسها للنبيّ. ثانياً: قرأ نافع وحمزة والكسائي {تُرجي} بغير همز، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر {تُرْجئ} مهموزاً والمعنى واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 ثالثاً: قرأ ابن محيصن، والجوْني {أنْ تُقِرّ} بضم التاء وكسر القاف {أعينَهُن} بنصب النون، وقرأ الجمهور {أنْ تَقَرّ أعينُهنّ} فالأولى من (أقرّ) الرباعي، والثانية من (قرّ) الثلاثي فتنبه. رابعاً: قوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء} قرأ الجمهور {يحلّ} بالياء، وقرأ أبو عمرو (تَحلّ) بالتاء. قال ابن الجوزي: والتأنيث ليس بحقيقي، إنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} اللاتي: اسم موصول للمؤنث في محل نصب صفة لقوله (أزواجك) و (أجورهنّ) مفعول ثانٍ لآتيت لأنها بمعنى أعطيت، والمفعول الأول محذوف تقديره: آيتتُهنّ. ثانياً: قوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً} في نصب (امرأةً) وجهان: أحدهما: أن يكون منصوباً بالعطف على قوله (أزواجَك) والعامل فيه (أحللنا) . والثاني: أن يكون منصوباً بتقدير فعل، وتقديهر: ونُحلّ امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، وليس معطوفاً على المنصوب ب (أحللنا) لأن الشرط والجزاء لا يصح في الماضي، ألا ترى انك لو قلت: إن قُمتَ غداً قُمتُ أمسِ، كنت مخطئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 قال أبو البركات بن الأنباري: وهذا الوجه أوجه الوجهين. ثالثاً: قوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} هنا شرطان، والثاني في معنى الحال، والمعنى: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تنكحها، وإذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ، متقدّم في الوقوع ما لم تدلّ قرينه على الترتيب، أفاده أبو حيان. رابعاً: قوله تعالى: {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} كلُّهُنَّ: مرفوع لأنه توكيد لنون النسوة في (يرضين) وليس توكيداً للضمير في (آتيتهنّ) ومعنى الآية: ويرضين كلّهنّ بما آتيتهن. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يجوز النكاح بلفظ الإجارة أو الهبة؟ لا خلاف بين الفقهاء على أن عقد النكاح ينعقد باللفظ الصريح. وهو لفظ (النكاح أو الزواج) وبكل لفظ مشتق من هذه الصيغة، إذا لم يقصد به الوعد لقوله تعالى: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» فصيغة النكاح والتزويج وردت في الكتاب والسنة. وهي من الصيغ الصريحة في النكاح. وقد اتفق الفقهاء أيضاً على أنّ ألفاظ (الإباحة، والإحلال، والإعارة، والرهن والتمتع) لا يجوز بها عقد النكاح. ومثلها لفظ (الإجارة) فلا يجوز به عقد النكاح عند جمهور الفقهاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وقال أبو الحسن الكرخي: يجوز بلفظ الإجارة لقوله تعالى: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} وحجته أن الله عَزَّ وَجَلَّ سمّى المهر أجراً. والأجر يجب بعقد يتحقق بلفظ الإجارة، فيصح به النكاح. الرد على الكرخي: والجواب: أنّ معنى (الإجارة) يتنافى مع عقد النكاح. إذ النكاح مبني على التأبيد. والتوقيقُ يبطله. وعقد الإجارة مبنيٌ على التوقيت. حتى لو أطلق كان مؤقتاً ويتجدّد ساعة فساعة. فكيف يصح جعل ما هو موضوع على التوقيت دالاً على ما يبطله التوقيت؟ ومن جهة ثانية فإن الإجارة عقد على لامنافع بعوض، والمهر ليس مقابل العوض. بل هو عطية أوجبها الله تعالى إظهاراً لخطر المحل. ولذلك يصحّ النكاح مع عدم ذكر المهر. ويجب مهر المثل بالدخول. ولا يصح النكاح بلفظ الإجازة حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل. ولهذا لم يوافق أحد من فقهاء الحنفية الكرخيَّ فيما ذهب إليه. أما النكاح بلفظ الهبة فقد أجازه الحنفية. ومنعه جمهور الفقهاء. أدلة الحنفية: استدل الحنفية على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة بما يلي: أ - قوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} ووجه الاستدلال أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ وسمّى العقد بلفظ الهبة نكاحاً فقال: (أن يستنكحها) فدلّ على جواز النكاح بلفظ الهبة، وإذا جاز هذا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد جاز لنا أيضاً لأننا أمرنا باتباعه والإقتداء به. ب - وقالوا أيضاً: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمتَّه في عقد النكاح بلفظ (الهبة) سواء. وخصوصيتُه التي أشارت إليها الآية الكريمة {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 المؤمنين} إنما هي في جواز النكاح بدون مهر بدليل قوله تعالى في آخر الآية {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} وذلك يشير إلى أنّ الخصوصية دفعت حرجاً، والحرجُ إنما يكون في إلزام المهر؛ لأنه يلزمه مشقة السعي في تحصيل المال، وهو عليه السلام مشغول بشؤون الرسالة، وليس ثمة حرج أن يكون العقد بلفظ النكاح أو التزويج فتكون الخصوصية له عليه السلام في النكاح بدون مهر. ح - وقالوا: مما يؤيد هذا ما روي عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتقول: (ألا تستحيي أن تعرض نفسها بغير صداق) !! فلما نزل قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ... } [إلى قوله] {فَلاَ جُنَاحَ} قالت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد تقدّم الحديث. د - واستدلوا بحديث سهل بن سعد «أن امرأة جاءت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت يا رسول الله: جئت لأهب نفسي لك. . وفيه فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله: إن لم تكن لك بها حاجة فزوِّجْنيها، وذكر الحديث إلى قوله: إذهب فقد مَلّكتكها بما معك من القرآن» . ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك. والهبة من ألفاظ التمليك. فوجب أن يجوز بها عقد النكاح. فلكُّ ما كان من ألفاظ (الإباحة) لم ينعقد به عقد النكاح قياساً على المتعة، وكلُّ ما كان من ألفاظ (التمليك) ينعقد به عقد النكاح قياساً على سائر عقود التمليكات. حجة الجمهور: واستدل الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) على عدم جواز النكاح بلفظ الهبة بما يأتي: أ - أنّ الله تعالى خصّ رسوله بهذه الخصوصية، وهي جواز النكاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 بلفظ الهبة بدون مهر فقال جل ثناؤه: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} . فقوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقوله {خَالِصَةً لَّكَ} دليل على أنّ إحلال المرأة عن طريق الهبة إنما كان خاصاً بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدليل قوله تعالى {مِن دُونِ المؤمنين} فالخصوصية له عليه السلام كانت بالهبة (لفظاً ومعنى) لأنّ اللفظ تابع للمعنى. ب - وقالوا: ما كان من خصوصياته عليه السلام، فلا يجوز أن يشاركه فيها أحد. والآية دلت على أن هذا خاص بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي أن النكاح بدون مهر، وبلفظ الهبة معاً، من خصائصه عليه السلام، فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟ ج - وأما استدلال الحنفية بحديث (سهل بن سعد) أن النبي عليه السلام زوّج الصحابي بلفظ التمليك بقوله: «اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن» فليس فيه ما يدل لهم، فقد جاء في بعض الروايات «اذهب فقد زوّجتُكها» وليس كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح. فلفظ الإجارة يدل على التمليك ومع ذلك لا ينعقد به النكاح باتفاق. الترجيح: أقول: أدلة الحنفية كما بسطها الإمام (الجصاص) وإن كانت قوّية، إلاّ أنّ النصّ ورد بالخصوصية للرسول عليه السلام في (نكاح الهبة) والظاهر أنّ المراد منه (اللفظ والمعنى) ، وحمله على لامعنى دون اللفظ يحتاج إلى دليل. وصيَغُ النكاح لا يجري فيها القياس، فما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح كما قال الإمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: إنّ الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن كانت هبة نكاح، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الحكم الثاني: هل الهجرة شرط في النكاح؟ ظاهر الآية الكريمة يدل على أنّ من لم تهاجر معه من النساء لا يحلّ له نكاحها لقوله تعالى: {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية وإلى هذا الظاهر ذهب بعض العلماء، قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يحلّ له نكاحها، قالت أم هانئ بنت أبي طالب: خطبني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إلى قولك {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قالت: فلم أكن لأحلّ له، لأني لم أهاجر معه، كنتُ من الطّلقاء. وجمهور المفسرين على أن الهجرة ليست بقيد ولا شرط، وإنما هي لبيان الأفضل. كما في قوله تعالى: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} فالآية ذكرت الأصناف التي يباح للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتزوج منها، وبيّن ما هو أفضل له وأكمل، فكما أنّ ذكر (الأجور) ليس للقيد وإنما هو لبيان الأفضل فكذا هنا. قال أبو حيّان: (والتخصيص باللاتي هاجرن معك، لأنّ من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات، وقيل: شرط الهجرة في التحليل منسوخ) . وحكى المارودي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق. والثاني: أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات. الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسّرين أن تقييد القريبات بكونهنّ مهاجرات لبيان الأكمل والأفضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 الحكم الثالث: هل كان عند النبي امرأة موهوبة؟ ذهب أكثر العلماء إلى أن الهبة وقعت من كثير من النساء، وقد وردت روايات كثيرة منها القوي ومنها الضعيف في أسماء الواهبات أنفسهنّ، منهنّ (أم شريك) و (خولة بنت حكيم) و (ليلى بنت الخطيم) ولكن لم يكن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهنّ أحد، وقيل (ميمونة بنت الحارث) و (زينب بنت خزيمة) كذلك من الواهبات أنفسهنّ والصحيح هو الأول. قال أبو بكر ابن العربي: (وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امرأة موهوبة) . قال ابن كثير: «اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثير، كما قال البخاري عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلمّا أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ} قلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك» . الحكم الرابع: هل كان القسم واجباً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنه كان يقسم بينهن بالعدل ويقول: «اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك» يريد بقوله (ما لا أملك) ميل القلب نحو بعض نسائه كعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. واستدلوا بأنّ القسم كان واجباً عليه بأنه عليه السلام كان يستأذن بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 نسائه فيقول: أتأذنّ لي أن أبيت عند فلانه، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة. وذهب أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة نزلت مبيحة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معاشرة من شاء من نسائه دون أن يكون القسم عليه واجباً، ومع ذلك فقد كان يعدل بينهنّ ويسوّي في القسمة. قال الجصاص: «وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجباً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنه كان مخيراً في القسم لمن يشاء، وترك من شاء منهن» . وقال ابن كثير: «وذهب طائفة من العلماء من الشافعية وغيرهم، إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وقال البخاري عن معاذ عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستأذننا في يوم المرأة منا، بعد أن نزلت هذه الآية {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فقلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت كنت أقول: إن كان ذلك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً» . والصحيح أن القسم لم يكن واجباً عليه وهو اختيار الجمهور. شبهة والردُّ عليها لقد درج أعداء الإسلام منذ القديم، على التشكيك في نبي الإسلام، والطعن في رسالته والنيل من كرامته، ينتحلون الأكاذيب والأباطيل، ليشككوا المؤمنين في دينهم، ويبعدوا الناس عن الإيمان برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا عجب أن نسمع مثل هذا البهتان والافتراء والتضليل في حق الأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 والمرسلين، فتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاص. وصدق الله حيث يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31] وقبل أن نتحدث عن «أمهات المؤمنين الطاهرات» ، وحكمة الزواج بهن نحب أن نردّ على شبهة سقيمة، طالما أثارها كثير من الأعداء، من الصليبيين، الحاقدين، والغربيّين المتعصبين. ردّدوها كثيراً ليفسدوا بها العقائد، ويطمسوا بها الحقائق. ولينالوا من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله، صلوات الله عليه. إنهم يقولون: «لقد كان محمد رجلاً شهوانياً، يسير وراء شهواته وملذاته، ويمشي مع هواه، لم يكتف بزوجةٍ واحدة أو بأربع، كما أوجب على أبتاعه، بل عدّد الزوجات فتزوّج عشر نسوةٍ أو يزيد، سيراً مع الشهوة، وميلاً مع الهوى! كما يقولون أيضاً:» فرقٌ كبير وعظيم بين «عيسى» وبين «محمد» ، فرقٌ بين من يغالب هواه، ويجاهد نفسه كعيسى بن مريم، وبين من يسير مع هواه، ويجري وراء شهواته كمحمد {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] . حقاً إنهم لحاقدون كاذبون، فما كان «محمد» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، رجلاً شهوانياً، إنما كان نبياً إنسانياً، تزوّج كما يتزوّج البشر، ليكون قدوة لهم في سلوك الطريق السويّ، وليس هو إلهاً، ولا ابن إله - كما يعتقد النصارى في نبيّهم - إنما هو بشر مثلهم، فضّله الله عليهم بالوحي، والرسالة {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ ... } [الكهف: 110] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه بدعاً من الرسل، حتى يخاف سنتهم، أو ينقض طربقتهم، فالرسل الكرام قد حكى القرآن الكريم عنهم بقول الله جلّ وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً ... } [الرعد: 38] . فعلام إذاً يثيرون هذه الزوابع الهوج في حقّ خاتم النبيين عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ ولكن كما يقول القائل: قد تنكر العين ضوء الشمس من رَمَد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم وصدق الله حيث يقول: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] «ردُّ الشبهة» هناك نقطتان جوهريتان، تدفعان الشبهة عن النبي الكريم، وتلقمان الحجر لكل مقتر أثيم، يجب ألاّ يغفل عنهما، وأن نضعهما نَصْبَ أعيننا حين نتحدث عن أمهات المؤمنين، وعن حكمة تعدّد زوجاته الطاهرات، رضوان الله عليهن أجمعين. هاتان النقطتان هما: أولاً: لم يعدّد الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زوجاته إلا بعد بلوغه سنَّ الشيخوخة أي بعد أن جاوز من العمر الخمسين. ثاناً: جميع زوجاته الطاهرات ثيبات (أرامل) ما عدا السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فهي بكر، وهي الوحيدة من بين نسائه التي تزوجها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي في حالة الصبا والبكارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 ومن هاتين النقطتين ندرك - بكل بساطة - تفاهة هذه التهمة، وبطلان ذلك الادعاء، الذي ألصقه به المستشرقون الحاقدون. فلو كان المراد من الزواج الجريَ وراء الشهوة، أو السيرَ مع الهوى، أو مجرد الاستمتاع بالنساء، لتزوّج في سنّ (الشباب) لا في سنّ (الشيخوخة) ولتزوج (الأبكار الشابات) ، لا (الأرامل المسنّات) ، وهو القائل لجابر بن عبد الله حين جاءه وعلى وجهه أثر التطيب والنعمة: «هل تزوجت؟ قال: نعم، بكراً أم ثيباً؟ قال: بل ثيباً، فقال له صلوات الله عليه: فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك» ؟ فالرسول الكريم أشار عليه بتزوج البكر، وهو عليه السلام يعرف طريق الاستمتاع وسبيل الشهوة، فهل يعقل أن يتزوج الأرامل ويترك الأبكار. ويتزوج في سن الشيخوخة، ويترك سنّ الصّبا، إذا كان غرضه الاستمتاع والشهوة؟! إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفدون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمهجهم وأرواحهم، ولو أنه طلب الزواج لما تأخر أحد منهم عن تزويجه بمن شاء من الفتيات الأبكار الجميلات، فلماذا لم يعدّد الزوجات في مقتبل العمر، وريعان الشباب، ولماذا ترك الزواج بالأبكار، وتزوّج الثيبات؟ إنّ هذا - بلا شك - يدفع كل تقوّل وافتراء، ويدحض كل شبهة وبهتان. ويردّ على كل آفّاك أثيم، يريد أن ينال من قدسية الرسول، أو يشوّه سمعته فما كان زواج الرسول بقصد (الهوى) أو (الشهوة) وإنما كان لحكم جليلة، وغايات نبيلة، وأهداف سامية، سوف يقر الأعداء بنبلها وجلالها، إذا ما تركوا التعصب الأعمى، وحكّموا منطق العقل والوجدان. وسوف يجدون في هذا الزواج (المثل الأعلى) في الإنسان الفاضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الكريم، والرسول النبي الرحيم، الذي يضحّي براحته في سبيل مصلحة غيره، وفي سبيل مصلحة الدعوة والإسلام. حكمة تعدد زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن الحكمة من «تعدّد زوجات الرسول» كثيرة ومتشعبة، ويمكننا أن نجملها فيما يلي: أولاً: الحكمة التعليمية. ثانياً: الحكمة التشريعية. ثالثاً: الحكمة الاجتماعية. رابعاً: الحكمة السياسة. ولنتحدث باختصار عن كلٍ من هذه الحِكَم الأربع، ثم نعقبها بالحديث عن أمهات المؤمنين الطاهرات، وحكمة الزواج بكل واحدة منهن استقلالاً فنقول ومن الله نستمد العون. أولاً: الحكمة التعليمية: لقد كانت الغاية الأساسية من تعدد زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي تخريج بضع معلمات للنساء، يعلمنهن الأحكام الشرعية، فالنساء نصيف المجتمع، وقد فُرِضَ عليهن من التكاليف ما فرض على الرجال. وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بعض الأمور الشرعية وخاصة المتعلقة بهن، كأحكام الحيض، والنفاس، والجنابة، والأمور الزوجية، وغيرها من الأحكام، وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تريد أن تسأل الرسول الكريم عن بعض هذه المسائل. كما كان من خلق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحياء الكامل، وكان - كما تروي كتب السنّة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، فما كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 يستطيع أن يجيب عن كل سؤالٍ يعرض المرأة عن طريق (الكناية) مراده عليه السلام. تروي السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن امرأة من الأنصار، سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن غسلها من المحيض، فعلّمها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كيف تغتسل، ثمّ قال لها: خذي فرصة ممسّكةً (أي قطعة من القطن بها أثر الطيب) فتطهّري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهّري بها، قالت: كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ فقال لها: سبحان الله تطهّري بها! . قالت السيدة عائشة: فاجتذبتها من يدها، فقلت: ضعيها في مكان كذا وكذا، وتتبعي بها أثر الدم، وصرحت لها بالمكان الذي تضعها فيه. فكان صلوات الله عليه يستحيي من مثل هذا التصريح، وهكذا كان القليل أيضاً من النساء من تستيطع أن تتغلّب على نفسها، وعلى حيائها، فتجاهر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالسؤال عمّا يقع لها. نأخذ مثلاً لذلك حديث (أم سلمة) المرويّ في «الصحيحين» وفيه تقول: (جاءت أم سُلَيْم (زوج أبي طلحة) إلى الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت له: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غُسْل إذا هي احتلمت؟ فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم إذا رأت الماء. فقالت أم سلمة: لقد فضحتِ النساء، ويحك أو تحتلم المرأة؟ فأجابها النبي الكريم بقوله: إذاً فبم يشببها الولد؟) مراده عليه السلام أن الجنين يتولد من ماء الرجل، وماءِ المرأة، ولهذا يأتي له شبه بأمه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 قال ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ: «أمشاج: أي أخلاط. والمشج والمشيج الشيء المختلط بعضه في بعض، قال ابن عباس: يعني ماءَ الرجل، وماء المرأة، إذا اجتمعا واختلطا ... » . وهكذا مِثْلُ هذه الأسئلة المحرجة، كان يتولى الجواب عنها فيما بعد زوجاتُه الطاهرات. ولهذا تقول السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «رحم الله نساء الأنصار، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين» . وكانت المرأة منهن تأتي إلى السيدة عائشة في الظلام لتسألها عن بعض أمور الدين، وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام، فكان نساء الرسول خيرَ معلّمات وموجهات لهن، وعن طريقهن تفقّه النساء في دين الله. ثمّ إنه من المعلوم أنّ السنّة المطهّرة ليست قاصرة على قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحسب، بل هي تشمل قوله. وفعله، وتقريره، وكل هذا من التشريع الذي يجب على الأمة اتباعه، فمن ينقل لنا أخبارَه وأفعالَه عليه السلام في المنزل غيرُ هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكنّ أمهات للمؤمنين، وزوجاتٍ لرسوله الكريم في الدنيا والآخرة؟! لا شك أن لزوجاته الطاهرات رضوان الله عليهن أكبر الفضل في نقل جميع أحواله وأطواره، وأفعاله المنزلية عليه السلام أفضل الصلاة والتسليم. ولقد أصبح من هؤلاء الزوجات معلّمات ومحدثات نقلن هدية عليه السلام. واشتهرن بقوة الحفظ والنبوغ والذكاء. ونتحدث الآن عن (الحكمة التشريعية) التي هي جزء من حكمة تعدد زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وهذه الحكمة ظاهرة تدرك بكل بساطة، وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 أنها كانت من أجل إبطال بعض العادات الجاهلية المستنكرة، ونضرب لذلك مثلاً (بدعة التبني) التي كا ن يفعلها العرب قبل الإسلام، فقد كانت ديناً متوارثاً عندهم، يتبنّى أحدهم ولداً ليس من صلبه، ويجعله في حكم الولد الصلبي، ويتخذه ابناً حقيقياً له حكم الأبناء من النسب، في جميع الأحوال: في الميراث، والطلاق، والزواج، ومحرمات المصاهرة، ومحرمات النكاح، إلى غير ما هنالك مما تعارفوا عليه وكان ديناً تقليدياً متبعاً في الجاهلية. كان الواحد منهم يتبنَّى ولد غيره فيقول له: «أنت ابني، أرثك وترثني» وما كان الإسلام ليقرّهم على باطل، ولا ليتركهم يتخبّطون في ظلمات الجهالة، فمهّد لذلك بأن ألهم رسوله عليه السلام أن يتبنّى أحد الأبناء - وكان ذلك قبل البعثة النبوية - فتبنّى النبي الكريم (زيد بن حارثه) وأصبح الناس يدعونه بعد ذلك اليوم (زيد بن محمد) . روى البخاري ومسلم: عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: إنّ زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنت زيد بن حارثه بن شراحبيل «. وقد زوّجه عليه السلام بابنة عمته (زينب بنت جحش الأسدية) وقد عاشت معه مدةً من الزمن، ولكنها لم تطل فقد ساءت العلاقات بينهما، فكانت تغلظ له القول، وترى أنها أشرفُ منه، لأنه كان عبداً مملوكاً قبل أن يتبناه الرسول، وهي ذات حسبٍ ونسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 ولحكمة: يريدها الله تعالى طلّق زيد زينب، فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل (بدعة التبني) ويقيم أسس الإسلام، ويأتي على الجاهلية من قواعدها. ولكنه عليه السلام كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجّار، أن يتكلموا فيه ويقولوا: تزوّج محمد امرأة ابنه، فكان يتباطأ حتى نزل العتاب الشديد لرسول الله عليه السلام، وفي قوله جلّ وعلا: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] . وهكذا انتهى حكم التبني، وبطلت تلك العادات التي كانت متبعة في الجاهلية. وكانت ديناً تقليدياً لا محيد عنه، ونزل قوله تعالى مؤكداً هذا التشريع الإلهي الجديد: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] . وقد كان هذا الزواج بأمرٍ من الله تعالى، ولم يكن بدافع الهوى والشهوة كما يقول بعض الأفّاكين المرجفين من اعداء الله، وكان لغرضٍ نبيل، وغاية شريفة هي إبطال عادات الجاهلية، وقد صرّح الله عَزَّ وَجَلَّ بغرض هذا الزواج بقوله: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ... } [الأحزاب: 37] . وقد تولى الله عزّ وجل تزويج نبيه الكريم بزينب، امرأة ولده من التبني ولهذا كانت تفخر على نساء النبي بهذا الزواج الذي قضى به رب العزّة من فوق سبع سماواته. روى البخاري: يسنده أن (زينب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كانت تفخر على أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتقول: زوجكُنّ أهاليكن، وزوّجني الله من فوق سبع سموات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وهكذا كان هذا الزواج للتشريع، وكان بأمر الحكيم العليم، فسبحان من دقت حكمته أن تحيط بها العقول والأفهام وصدق الله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] . ثالثاً: الحكمة الاجتماعية: أما الحكمة الثالثة فهي (الحكمة الاجتماعية) وهذه تظهر بوضوح في تزوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بابنة الصّديق الأكبر (أبي بكر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وزيره الأول، ثمّ بابنة وزيره الثاني الفاروق (عمر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه، ثمّ باتصاله عليه السلام بقريش اتصال مصاهرة ونسب. وتزوجه العديد منهن، ممّا ربط بين هذه البطون والقبائل برباط وثيق، وجعل القلوب تلتف حوله، وتلتقي حول دعوته في إيمان، وإكبار، وإجلال. لقد تزوّج النبي صلوات الله عليه بالسيدة (عائشة) بنتِ أحبّ الناس إليه، وأعظمهم قدراً لديه، ألاوهو أبو بكر الصدّيق، الذي كان أسبق الناس إلى الإسلام، وقدّم نفسه وروحه وماله، في سبيل نصرة دين الله، والذود عن رسوله، وتحمّل ضروب الأذى في سبيل الإسلام، حتى قال عليه السلام - كما في الترمذي - مُشيداً بفضل أبي بكر: «ما لأحد عندنا يدٌ وقد كافيناه بها، ما خلا أبا بكر، فإنّ له عندنا يداً يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر. وما عرضت الإسلام على أحدٍ إلاّ كانت له كبوة (أي تردد وتلكؤ) إلا أبا بكر فإنه لم يتعلثم، ولو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، أإلا وإنّ صاحبكم خليل الله تعالى» . فلم يجد الرسول صلى الله عله وسلم مكافأة لأبي بكر في ادلنيا، أعظم من أن يُقرَّ عينه بهذا الزواج بابنته، ويصبح بينهما (مصاهرة) وقرابة، تزيد في صداقتهما وترابطهما الوثيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 كما تزوج صلوات الله عليه بالسيدة (حفصة بنت عمر) فكان ذلك قرّة عين لأبيها عمر على إسلامه، وصدقه، وإخلاصه، وتفانيه في سبيل هذا الدين، وعمر هو بطل الإسلام، الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، ورفع به منار الدين، فكان اتصاله عليه السلام به عن طريق المصاهرة، خيّرَ مكافأة له على ما قدّم في سبيل الإسلام، وقد ساوى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينه وبين وزيره الأول أبي بكر في تشريفه بهذه المصاهرة، فكان زواجه بابنتيهما أعظم شرفٍ لهما، بل أعظم مكافأة ومنّة، ولم يكن بالإمكان أن يكافئهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الشرف، فما أجلّ سياسته؟ وما أعظم وفاءه للأوفياء المخلصين! . كما يقابُل ذلكَ اكرامَه لعثمان وعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بتزويجهما ببناته، وهؤلاء الأربع هم أعظم أصحابه، وخلفاؤه من بعده في نشر ملته، وإقامة دعوته، فما أجلّها من حكمة، وما أكرمها من نظرة؟ رابعاً: الحكمة السياسية: لقد تزود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببعض النسوة، من أجل تأليف القلوب عليه، وجمع القبائل حوله، فمن المعلوم أنّ الإنسان إذا تزوج من قبيلة، أو عشيرة، يصبح بينه وبينهم قرابة و (مصاهرة) وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك لتتضّح لنا الحكمة، التي هدف إليها الرسول الكريم من وراء هذا الزواج. أولاً: تتزوّج صلوات الله عليه بالسيدة (جويرية بنت الحارث) سيّد بني المصطلق، وكانت قد أُسِرت مع قومها وعشيرتها، ثمّ بعد أن وقعت تحت الأسر أرادت أن تفتدي نفسها، فجاءت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تستعينه بشيء من المال، فعرض عليها الرسول الكريم أن يدفع عنها الفداء وأن يتزوج بها فقبلت ذلك فتزوجها، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تحت أيدينا؟ (أي أنهم في الأسر) فأعتقوا جميع الأسرى الذين كانوا تحت أيديهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 فلما رأى بنو المصطلق هذا النبل والسمو، وهذه الشهامة والمروءة أسلموا جميعاً، ودخلوا في دين الله، وأصبحوا من المؤمنين. فكان زواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بها بركة عليها وعلى قومها وعشيرتها، لأنه كان سبباً لإسلامهم وعتقهم، وكانت (جويرية) أيمن امرأة على قومها. أخرج البخاري في «صحيحه» : عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: «أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نساءَ بني المصطلق، فأخرج الخُمُس منه ثمّ قسمه بين الناس، فأعطى الفرس سهمين، والرجل سهماً، فوقعت (جويرية بنت الحارث) في سهم ثابت بن قيس، فجاءت إلى الرسول فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيّدِ قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمتَ، وقد كاتبني ثابت على تسع أواق، فأعنّي على فَكَاكي، فقال عليه السلام: أو خير من ذلك؟ فقالت: ما هو؟ فقال: أوْدي عنك كتابَتاَك وأتزوجُك. فقالت: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله قد فعلت» . وخرج الخبر إلى الناس فقالوا: أصهار رسول الله يُسْترقّون؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق، فبلغ عتقُهم مائةً بيت، بتزوجه عليه السلام بنتَ سيدِ قومه. ثانياً: - وكذلك تزوجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالسيدة (صفية بنت حُيّي بن أخطب) التي أسرت بعد قتل زوجها في (غزوة خيبر) ووقعت في سهم بعض المسلمين فقال أهل الرأي والمشورة: هذه سيّدة بني قريظة، لا تصلح إلاّ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعرضوا الأمر على الرسول الكريم، فدعاها وخيّرها بين أمرين: أ - إمّا أن يعتقها ويتزوجها عليه السلام فتكون زوجة له. ب - وأمّا أن يُطْلِقَ سراحها فتلحق بأهلها. فاختارت أن يعتقها وتكون زوجة له، وذلك لما رأته من جلالة قدره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وعظمته وحسن معاملته، وقد اسلمت وأسلم بإسلامها عدد من الناس، روي أن (صفية) رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لما دخلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لها: لم يزل أبوك من أشدّ اليهود لي عداوة حتى قتله الله، فقالت يا رسول الله: إن الله يقول في كتابه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] . فقال لها الرسول الكريم: اختاري، فإن اخترَت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك، فقالت يا رسول الله: لقد هويتُ الإسلام، وصدقتُ بك قبل أن تدعوني إلى رَحْلك، ومالي في اليهودية أرَب، ومالي فيها والد ولا أخ، وخيّرتني الكفرَ والإسلامَ، فاللَّهُ ورسولُه احبّ إليّ من العَتْق، وأن أرجع إلى قومي، فأمسكها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنفسه. ثالثاً: وكذلك تزوجه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالسيدة أم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) الذي كان في ذلك الحين حامل لواء الشرك، وألدّ الأعداء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد أسلمت ابنته في مكة، ثمّ هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فراراَ بدينها، وهناك مات زوجها فبقيت وحيدة فريدة، لا معين لها ولا أنيس، فلما علم الرسول الكريم بأمرها أرسل إلى (النجاشي) ملكِ الحبشة ليزوجه أيّاها، فأبلغها النجاشي ذلك فسُرّت سروراً لا يعرف مقدراه إلا الله سبحانه، لأنها لو رجعت إلى أبيها أو أهلها لأجبروها على الكفر والردَّة، أو عدبّوها عذاباً شديداً، وقد أصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسه، ولما عادت إلى المدينة المنورة تزوجها النبي المصطفى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. ولما بلغ (أبا سفيان) الخبرُ أقرَ ذلك الزواج وقال: «هوالفحل لا يُقدع أنفُه» فافتخر بالرسول ولم ينكر كفاءته له، إلى أن هداه الله تعالى للإسلام. ومن هنا تظهر لنا الحكمة الجليلة في تزوجه عليه السلام بابنة أبي سفيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 فقد كان هذا الزواج سبباً لتخفيف الأذى عنه وعن أصحابه المسلمين، سيّما بعد أن أصبح بينهما نسب وقرابة، مع أن أبا سفيان كان وقت ذاك من ألدّ بني أمية خصومة لرسول الله، ومن أشدّهم عداء له وللمسلمين، فكان تزوجه بابنته سبباً لتأليف قلبه وقلب قومه وعشيرته، كما أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اختارها لنفسه تكريماً لها على إيمانها لأنها خرجت من ديارها فارة بدينها، فما أكرمها من سياسة، وما أجلها من حكمة؟؟ أمهات المؤمنين الطاهرات بعد أن تحدثنا عن حكمة تعدد زوجات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نتحدث الآن عن (أمهات المؤمنين) الطاهرات رضوان الله تعالى عليهن. فقد اختارهنّ الله لحبيبه المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأكرمهن بهذا الشرف العظيم، شرف الانتساب إلى سيِّد المرسلين، واختارهن من صفوة النساء، وجعلهنَّ أمهات المؤمنين، في وجوب الاحترام والتعظيم، وفي حرمة الزواج بهن حتى بعد وفاته عليه السلام تكريماً لرسوله فقال وهو أصدق القائلين: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ... } [الأحزاب: 6] . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} [الأحزاب: 53] . قال العلامة القرطبي: في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) ما نصه: «شرّف الله تعالى أزواج نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين، أي في وجوب التعظيم، والمبرّة، والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، فكان ذلك تكريماً لرسوله، وتشريفاً لهن» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 أسماء أمهات المؤمنين وأمهات المؤمنين اللواتي تزوجهن الرسول الكريم هنَّ كالآتي: أولاً: السيدة خديجة بنت خويلد رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. ثانياً: السيدة سودة بنت زمعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. ثالثاً: السيدة عائشة بنت أبي بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. رابعاً: السيدة حفصة بنت عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. خامساً: السيدة زينب بنت جحش الأسدية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. سادساً: السيدة زينب بنت خزيمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. سابعاً: السيدة أم سلمة (هند بنت أبي أمية المخزومية) رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. ثامناً: السيدة أم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. تاسعاً: السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. عاشراً: السيدة جويرية بنت الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. وأخيراً: السيدة صفية بنت حُيّي بن أخطب رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. 1 - السيدة خديجة بنت خويلد رَضِيَ اللَّهُ عَنْها هي أول أزواجه عليه السلام. تزوجها الرسول الكريم قبل البعثة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ثيِّب (أرملة) بنت أربعين سنة، وقد كانت عند (أبي هالة) ابن زرارة أولاً، ثمّ خلف عليها بعد أبي هالة (عتيق بن عائذ) ثم خلف عليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما في «الإصابة» . وقد اختارها صلوات الله عليه لسداد رأيها، ووفرة ذكائها، وكان زواجه بها زواجاً حكيماً موفقاً، لأنه كان زواج العقل للعقل، ولم يكن فارق السن بينهما بالأمر الذي يقف عقبة في طريق الزواج، لأنه لم يكن الغرض منه قضاءَ (الوطر والشهوة) وإنما كان هدفاً إنسانياً سامياً، فمحمد رسول الله قد هيأه الله لحمل الرسالة، وتحمل أعباء الدعوة، وقد يسّر الله تعالى له هذه المرأة التقيّة النقيّة، العاقلة الذكية، لتعينه على المضي في تبليغ الدعوة، ونشر الرسالة، وهي أول من آمن به من النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ومما يشهد لقوة عقلها، وسداد رأيها، أن الرسول عليه السلام حين جاءه جبريل وهو في غار حراء رجع إلى زوجه يرجف فؤاده، فدخل عليها وهو يقول: «زَمِّلوني زَمِّلوني» ، حتى ذهب عنه الروع، فحدّث خديجة بالخبر وقال لها: لقد خشيتُ على نفسي، فقالت له: (أبشر، كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) . والحديث في «الصحيحين» . قضى الرسول مع خديجة زهرة شبابه، فلم يتزوج عليها، ولا أحبّ أحداً مثل حبه لها، وكانت السيدة عائشة تغار منها مع أنها لم تجتمع معها ولم ترها، حتى تجرأت مرة عليه عند ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لها فقالت: «وهل كانت إلا عجوزاً في غابر الأزمان، قد أبدلك الله خيراً منها» ؟ «تعني نفسها» فغضب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من هذه الكلمة وقال لها: «لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء» قالت: «فلم اذكرها بسوءٍ بعده أبداً» . وروى الشيخان عنها أنها قالت: «ما غرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما عرتُ على خديجة، وما رأيتها قطَ، ولكن النبي يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول:» إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد «. عاشت مع الرسول خمساً وعشرين سنة، خمس عشرة قبل البعثة، وعشراً بعدها، ولم يتزوج الرسول الكريم امرأة عليها، ورُزِق منها جميع أولاده ما عدا إبراهيم. وحين انتقلت إلى رحمة الله راضية مرضية كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بلغ الخمسين من العمر، وليس عنده سواها، فلم يعدّد زوجاته إلا بعد وفاتها، لبعض تلك الحكم التي ذكرناها، رضي الله تعالى عنها وأرضاها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 2 - السيدة سودة بنت زمعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تزوجها عليه السلام بعد وفاة خديجة. وهي أرملة (السكران بن عمرو الأنصاري) ، والحكمة في اختيارها مع أنها أكبر سناً من رسول الله، أنها كانت من المؤمنات المهاجرات، توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، فأصبحت فريدة وحيدة، لا معيل لها ولا معين، ولو عادت إلى أهلها - بعد وفاة زوجها - لأكرهوها على الشرك، أو عذّبوها عذاباً نكراً ليفتنوها عن الإسلام، فاختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كفالتها فتزوجها، وهذا هو منتهى الإحسان والتكريم لها على صدق إيمانها وإخلاصها لله ولرسوله. ولو كان غرض الرسول الشهوة - كما زعم المستشرقون الأفاكون - لاستعاض عنها - وهي الأرملة المسنَّة التي بلغت من العمر الخامسة والخمسين - بالنواهد الأبكار، ولكنه عليه السلام كان المثل الأعلى في الشهامة، والنجدة، والمروءة، ولم يكن غرضه إلا حمايتها ورعايتها، لتبقى تحت كفالته عليه أفضل الصلاة والتسليم. 3 - عائشة بنت أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تزوجها عليه السلام وكانت بكراً، وهي البكر الوحيدة من بين نسائه الطاهرات فلم يتزوج بكراً غيرها، وكانت عائشة أذكى أمهات المؤمنين وأحفظهن، بل كانت أعلم من أكثر الرجال، فقد كان كثير من كبار علماء الصحابة، يسألونها عن بعض الأحكام التي تشكل عليهم فتحلُّها لهم. روي عن أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: (ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديث قطُّ، فسألنا عائشة إلاّ وجدنا عندها منه علماً) . وقال أبو الضحى عن مسروق: (رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 يسألونها عن الفرائض) . وقال عروة بن الزبير: (ما رأيتُ امرأة أعلم بطب، ولا فقه، ولا شعر من عائشة) . ولا عجب فهذه كتب الحديث تشهد بعلمها الغزير، وعقلها الكبير، فلم يَرْو في الصحيح أحد من الرجال أكثر مما روي عنه إلا شخصان هما: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وكان عليه السلام يحب عائشة أكثر من بقية نسائه وكان يعدل بينهن في القسمة ويقول: اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تؤخذني فيما لا أملك. ولما نزلت آية التخيير بدأ بعائشة فقال لها: إني ذاكر لك أمراً فلا تَعْجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه فقرأ عليها: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الآية، فقالت: أوفي هذا استأمر أبوي!! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ولقد كانت مصاهرة الرسول للصّديق أبي بكر، أعظم منّة ومكافأة له في هذه الحياة الدنيا، كما كان خير وسيلة لنشر سنته المطهّرة، وفضائله الزوجية، وأحكام شريعته، ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء كما بينا عند ذكر الحكمة التعليمية. 4 - السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تزوجها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي أرملة، وكان زوجها (خنيس بن حذافَة) الأنصاري قد استشهد في غزوة بدر، بعد أن أبلى بلاءً حسناً، فقد كان من الشجعان الأبطال، الذين سجّل لهم التاريخ أنصع الصفحات في البطولة والرجولة، والجهاد. وقد عرضها أبوها (عمر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على عثمان بعد وفاة زوجته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 (رقية) بنت الرسول، ثم تزوجها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان ذلك أعظم إكرام ومنّة وإحسان لأبيها عمر بن الخطاب. أخرج الإمام البخاري عن عبد الله به عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أنّ عمر حين تأيمت حفصة من (خنيس بن حذافة) - وكان شهد بدراً وتوفي بالمدينة - لقي عثمان فقال: إن شئت أنكحتك حفصة؟ قال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي، فقال: قد بدا لي لا أتزوج، قال عمر: فقلت لأبي بكر إن شئتَ أنكحتك حفصة، فصمتَ، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبث ليالي ثم خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنكحتها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئاً؟ قلت: نعم، قال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلاّ أني علمت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكرها. «فلم أكن لأفشي سرّه، ولو تركها لقبلتها» . أقول: هذه لعَمْرُ الحق هي الشهامة الحقة، بل هذه هي الرجولة الصادقة، تظهر في فعل الفاروق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه فهو يريد أن يصون عرضه، فلا يرى في نفسه غضاضة أن يعرض ابنته على الكفء الصالح، لأنّ الزواج خير وسيلة للمجتمع الفاضل، فأين نحن اليوم من جهل المسلمين بأحكام الإسلام وجماله الناصع؟ يتركون بناتهم عوانس حتى يأتي الخاطب، ذو المال الكثير، والثراء الوفير؟! 5 - السيدة زينب بنت خزيمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تزوجها عليه السلام بعد حفصة بنت عمر، وهي أرملة البطل المقدام شهيد الإسلام (عبيدة بن الحارث) بن عبد المطلب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه، الذي استشهد في أول المبارزة في غزوة بدر، وقد كانت حين استشهاد زوجها تقوم بواجبها في إسعاف الجرحى، وتضميد جراحهم، لم يشغلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 استشهاد زوجها عن القيام بواجبها، حتى كتب الله النصر للمؤمنين في أول معركة خاضوها مع المشركين. ولما علم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بصبرها وثباتها وجهادها وأنه لم يعد هناك من يعولها خطبها لنفسه وآواها، وجبر خاطرها بعد أن انقطع عنها الناصر والمعين. يقول فضيلة الشيخ (محمد محمود الصواف) في رسالته القيمة «زوجات النبي الطاهرات» بعد أن ذكر قصة استشهاد زوجها وما فيها من سموّ وعظمة: (وكانت قد بلغت الستين من عمرها حينما تزوج بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم تعمّر عند النبي الكريم سوى عامين، ثم توفاها الله إليه راضية مرضية. فما رأي الخراصين بهذا الزواج الشريف، وغايته النبيلة؟ وهل يجدون فيه شيئاً مما يأفك الأفّاكون؟ أيجدون فيه أثراً للهوى والشهوة؟ أم هو النبل، والعفاف، والعظمة والرحمة، والفضل، والإحسان، من رسول الإنسانية الأكبر، الذي جاء رحمة للعالمين. فليتق الله المستشرقون المغرضون، وليؤدوا أمانة العلم ولا يخونوها في سبيل غايات خبيثة استشرقوا ودرسوا العلوم الإسلامية خاصة للدس، والكيد، والنيل من سيد الأنسانية محمد عليه السلام) . 6 - السيدة زينب بنت جحش رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تزوجها عليه السلام وهي ثيب وهي ابنة عمته، وكان قد تزوجها (زيد بن حارثة) ثمّ طلّقها فتزوجها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحكمة لا تعلوها حكمة في زواج أحدٍ من أزواجه، وهي إبطال (بدعة التبني) كما مرّ معنا عند ذكر الحكمة التشريعية. وهنا يحلو لبعض المغرضين، الحاقدين على الإسلام وعلى نبي الإسلام، من المستشرقين الماكرين، وأذنابهم المارقين، أن يتخذوا من قصة تزوج الرسول الكريم بزينب منفذاً للطعن في النبي الطاهر الزكيّ، ويلِّفقوا الشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 والأباطيل، بسبب بعض الروايات الإسرائيلية، التي ذكرت في بعض كتب التفسير. فقد زعموا - وبئسما زعموا - أن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مرّ ببيت زيد وهو غائب، فرأى زينب فأحبها ووقعت في قلبه، فقال: سبحان مقلّب القلوب، فسمعت زينب ذلك فلما جاء زوجها أخبرته بما سمعت من الرسول، فعلم أنها وقعت في نفسه، فأتى الرسول يريد طلاقها فقال له: أمْسك عليك وفي قلبه غير ذلك. فطلّقها زيد من أجل أن يتزوج بها الرسول. يقول ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسيره (أحكام القرآن) رداً على هذه الدعوى الأثيمة: فأمّا قولهم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رآها فوقعت في قلبه فباطل، فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذٍ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج، قد وهبته نفسها، فكيف يتجدّد له هوى لم يكن، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال الله له: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] وقد تعقَّب - عليه رحمة الله - تلك الروايات الإسرائيلية وبيّن أنها كلها ساقطة الأسانيد. إن نظرة بسيطة إلى تاريخ (زينب) وظروفها في زواج (زيد) تجعلنا نؤمن بأنّ سوء العشرة التي كانت بين زيد وزينب إنما جاءت من اختلافهما اختلافاً بيناً في الحالة الاجتماعية، فزينب شريفة، وزيد كان بالأمس عبداً وقد أراد الله امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ (العصبيَّة القبليَّة) والشرف الجاهلي، وجعل الإسلام الشرف في (الدين والتقوى) فحين عرض الرسول على (زينب) الزواج من (زيد) امتنعت واستنكفت اعتزازاً بنسبها وشرفها فنزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36] . فخضعت زينب لأمر الرسول، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان من وراء ذلك الألم والضيق. ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعرف زينب من الصغر، لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه؟ وكيف يقدّم إنسان امرأة لشخص وهي (بكر) حتى إذا تزوجها وصارت (ثيباً) رغب فيها؟! حقاً إنهم قوم لا يعقلون، فهم يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون على الرسول كذباً وزوراً، وبهتاناً وضلالاً، ثم انظر إليهم وهم يقولون: إنّ الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ولهذا عوتب، فهل يعقل مثل هذا البهتان؟ وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره؟ {سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] . ثمّ إن الآية صريحة كلّ الصراحة، وواضحة كل الوضوح، في هذا الشأن، فقد ذكرت الآية الكريمة أنّ الله سيظهر ما أخفاه الرسول: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] فماذا أظهر الله تعالى؟ هل أظهر حبّ الرسول أو عشقه لزينب؟ كلا ثم كلا، إنما الذي أظهره هو رغبته عليه السلام في تنفيذ أمر الله بالزواج بها لإبطال (حكم التبني) ، ولكنه كان يخشى من ألسنة المنافقين أن يقولوا: تزوج محمد حليلة ابنه، ولهذا صرّح الباري جلّ وعلا بهذا الذي أخفاه الرسول: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ ... } [الأحزاب: 37] . وهكذا تبطل مزاعم المفترين أمام الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، التي تدل على عصمة سيِّد المرسلين، وعلى نزاهته وطهارته مما ألصقه به الدسّاسون المغرضون. 7 - السيدة هند أم سلمة المخزومية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تزوج الرسول الكريم بأم سلمة وهي أرملة (عبد الله بن عبد الأسد) وكان زوجها من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكانت زوجته معه خرجت فراراً بدينها، وولدت له (سلمة) في أثناء ذلك، واستشهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 زوجها في غزوة أحد، فبقيت هي وأيتامها الأربعة بلا كفيل ولا معيل، فلم ير عليه السلام عزاءً ولا كافلاً لها ولأولادها غير أن يتزوج بها. ولما خطبها لنفسه اعتذرت إليه، وقالت: «إني مسنّة، وإني أم أيتام، وإني شديدة الغيرة» . فأجابها عليه السلام وأرسل لها يقول: أما الأيتام فأضمهم إليّ، وأدعو الله أن يذهب عن قلبك الغيرة، ولم يعبأ بالسنّ، فتزوجها عليه السلام بعد موافقتها، وقام على تربية أيتامها، ووسعهم قلبه الكبير، حتى أصبحوا لا يشعرون بفقد الأب، إذ عوّضهم أباً أرحم من أبيهم صلوات الله وسلامه عليه. وقد اجتمع لأم المؤمنين النسب الشريف، والبيت الكريم، والسبق إلى الإسلام، على أنّ لها فضيلة أخرى هي (جودة الرأي) ويكفينا دليلاً على ذلك استشارة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لها في أهم ما حزَنه وأهمّه من أمر المسلمين، وما أشارت به عليه، وذلك في (صلح الحديبية) فقد تأثر المسلمون بالغ التأثر من ذلك الصلح مع المشركين، على ترك الحرب عشر سنين بالشروط التي قدَّموها، ورأوا في ذلك هضماً لحقوقهم، مع أنهم كانوا ف يأوج عظمتهم، وكان من أثر هذا الاستياء، أنهم تباطئوا عن تنفيذ أمر الرسول حين أمرهم بالحلق أو التقصير لأجل العودة إلى المدينة المنورة، فلم يمتثل أمره أحد، فدخل الرسول على زوجه (أم سلمة) وقال لها هلك الناس، أمرتُهم فلم يمتثلوا فهوّنت عليه الأمر، وأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويحلق رأسه أمامهم، وجزمت بأنهم لا يتردّدون حينذاك عن الاقتداء به. لأنهم يعلمون أنه صار أمراً مبرماص لا مرد له، وكذلك كان، فما أن خرج الرسول وأمر الحلاق بحلق رأسه، حتى تسابقوا إلى الاقتداء به صلوات الله عليه فحلقوا وتحلّلوا وكان ذلك بإشارة أم المؤمنين أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأرضاها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 8 - السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وفي سنة سبع من الهجرة تزوج الرسول الكريم بالسيدة (أم حبيبة) رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وهي أرملة (عبيد الله بن جحش) مات زوجها بأرض الحبشة، فزَّوجها النجاشي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة، وقد تقدمت الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها فيما سبق. 9 - 10 - السيدة جويرية بنت الحارث والسيدة صفية بنت حيي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وتزوج الرسول الكريم بالسيدة (جويرية بنت الحارث بن ضرار) سيَّد بني المصطلق، وهي أرملة (مُسَافع بن صفوان) الذي قتل يوم المريسيع، وترك هذه المراة فوقعت في الأسر بيد المسلمين، وكان زوجها من ألدّ أعداء الإسلام وأكثرهم خصومة للرسول، وقد تقدم معنا الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها، كما تقدم الحديث عن (صفية بنت حُيّي بن أخطب) عند الكلام على الحكمة السياسية. 11 - السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كان اسمها برّه فسمّاها عليه السلام (ميمونة) وهي آخر أزواجه صلوات الله عليه، وقد قالت فيها عائشة: أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم، وهي أرملة (أبي رهم بن عبد العزى) وقد ورد أن العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هو الذي رغّبه فيها، ولا يخفى ما زواجه بها من البر وحسن الصلة وإكرام عشيرتها الذين آزروا الرسول ونصروه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 خاتمة البحث: وبعد: فهذه لمحة عن أمهات المؤمنين، زوجات الرسول الطاهرات، اللواتي أكرمهن الله بصحبة رسوله، وجعلهن أمهات للمؤمنين، وخاطبهن بقوله جل وعلا: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 32] وقد كان زواج الرسول بهنَّ لحكم كثيرة، راعى فيها الرسول مصلحة الدين والتشريع، وقصد تأليف القلوب، فجذب إليه كبار القبائل، وكرام العشائر. وجميع زوجات الرسول (أرامل) ما عدا السيدة عائشة، وقد عدّد الرسول زوجاته بعد الهجرة في السنة التي بدأت فيها الحروب بين المسلمين والمشركين، وكثر فيها القتل والقتال، وهي من السنة الثانية للهجرة إلى السنة الثامنة التي تمّ فيها النصر للمسلمين، وفي كل زواج ظهر لنا الدليل الساطع على نبل الرسول، وشهامته، وسموّ غرضه، وجميل إحسانه، خلافاً لما يقوله الأفّاكون الدسّاسون فلو كان للهوى سلطان على قلب النبي لتزوج في حال الشباب، رؤية ضياء الحق الساطع، وصدق الله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 [5] من آداب الوليمة التحليل اللفظي {يُؤْذَنَ لَكُمْ} : أي تُدْعوا إلى تناول الطعام، والأصل أن يتعدى ب (في) تقول: أذنت لك في الدخول، ولا تقول أذنت لك إلى الدخول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 ولكنّ اللفظ لما ضُمّن معنى (الدعوة) عُدّي ب (إلى) بدل (في) ومعنى الآية: لا تدخلوا بيوت النبي إلاّ إذا دعيتم إلى تناول الطعام. قال الزمخشري: (إلا أن يُؤذن) في معنى الظرف تقديره: وقت أن يُؤذن لكم. {ناظرين إِنَاهُ} : أي متظرين نصجه، قال في اللسان: وإنى الشيء: بلوغُه وإدراكه، وفي التنزيل: {غَيْرَ ناظرين إِنَاهُ} أي غير منتظرين نضجه وإدراكه وبلوغه، تقول: أنى يأني إذا نضِج إنىً أي نضجاً، والإنى بكسر الهمزة والقصر: النضجُ. فهو على هذا مصدر مضاف إلى الضمير. ويرى بعض المفسّرين أنه ظرف بمعنى (حين) وهو مقلوب (آن) بمعنى (حان) فعلى الأول يكون المعنى: غير منتظرين نضجه، وعلى الثاني يكون المعنى: غير منتظرين وقته أي وقت إدراكه ونضجه، وهما متقاربان. {فانتشروا} : أي اخرجوا وفترقوا، يقال انتشر القوم: أي تفرقوا ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10] أي تفرقوا في الأرض لطلب الرزق والكسب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 {مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} : معنى الاستئناس: طلب الأنس بالحديث لأن السين والتاء للطلب تقول استأنَسَ بالحديث: أي طلب الأنس والطمأنينة والسرور به. وتقول: ما بالدار أنيس، أي ليس بها أحد يؤانسك أو يسليّك، وقد كان من عادة الناس أنهم يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلاً، ويأنسون بحديث بعضهم بعضاً فعلّمهم الله الأدب، وهو أن يتفرقوا بعد تناول الطعام، ولا يثقلوا على أهل البيت، لأن المكث بعده فيه نوع من الإثقال. {إِنَّ ذلكم} : اسم الإشارة راجع إلى الدخول بغير إذن، والمكث عقب الطعام للاستئناس بالحديث، وقيل: هو راجع إلى الأخير خاصة، ومعنى الآية: إن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي. {فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} : أي يستحي من إخراجكم من بيته، والله لا يستحي من بيان الحق فهو على حذف مضاف. {متاعا} : المتاع: الغرض والحاجة كالماعون وغيره، وهو في اللغة: ما يستمتع به حسياً كان كالثوب والقدر والماعون، أو معنوياً كمعرفة الأحكام الشرعية والسؤال عنها، وقد يأتي المتاع بمعنى التمتع بالشيء والانتفاع به كما قال تعالى: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20] وفي الحديث الشريف: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة» . {حِجَابٍ} : أي ساتر يستره عن النظر، قال في «اللسان» : حجبَ الشيءَ يحجبُه أي ستره، وقد احتجب وتحجّب إذا اكتنّ من وراء حجاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وامرأة محجوبة قد سترت بستر، والحجاب: اسم ما احتجب به، وكل ما حال بين شيئين فهو حجاب. قال تعالى: {بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] . ومعنى الآية: إذا سألتموهن شيئاً مما يستمتع به وينتفع فاسألوهن من وراء ستر وحجاب. {أَطْهَرُ} : أي أسلم وأنقى، أفعل تفضيل من الطهارة بمعنى النزاهة والنقاء، والمعنى: سؤالكم للنساء من وراء حجاب أكثر نقاءً وتنزيهاً لقلوبكم وقلوبهن من الهواجس والخواطر التي تتولد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء، وأبعد عن الريبة وسوء الظنّ. المعنى الإجمالي أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يتأدبوا بالآداب الإسلامية الكريمة، ويتمسكوا بما شرعه لهم من التوجيهات والإرشادات الحكيمة، التي بها صلاح دينهم ودنياهم وخاصة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمقام النبوّة لا يعادله مقام، وإيذاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سواء كان بالقول أو الفعل - منأعظم الكبائر عند الله، وقد ألزمنا الله سبحانه بتلك الآداب الفاضلة، وأمرنا بالتمسك بها، حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام، وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمرين هامين: الأول: الأدب في أمر الطعام والاستئذان ودخول البيوت (أدب الوليمة) . الثاني: الأدب في مخاطبة النساء، وعدم الاختلاط بهن أو الخلوة أدب (الحجاب الشرعي) . يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اي أيها المؤمنون لا تدخلوا بيوت النبي إلا بعد الإذن، ولا تترقبوا أوقات الطعام فتدخلوا عليه فيها، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 تنتظروا أن يحين وقت نضج الطعام فتستأذنوا عليه في الدخول، إلا إذا كنتم مدعوَّين إلى وليمة قد أعدّها لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومع ذلك إذا دعيتم وطعمتم فاخرجوا وتفرقوا ولا تثقلوا على الرسول الكريم بالجلوس بعد الطعام، فإن حياءه يمنعه أنيأمركم بالانصراف، أو يظهر لكم الامتعاض من جلوسكم في بيته، فهو ذو الخلق الرفيع، والقلب الرحيم، لا يصدر منه إلا ما يسرّكم، فلا يليق بكم أن تثقلوا عليه، أو تؤذوه في نفسه أو أهله، وإذا أردتم حاجةً من أزواجه الطاهرات، فاسألوهن من وراء حاجز وحجاب، لأن ذلك أزكى لقلوبكم وقلوبهن، وأنفى للريبة، وأبعد عن التهمة، وأطهر لبيت النبوة. ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تؤذوا رسولكم، الذي هداكم الله به وأخرجكم من الظلمات إلى النور، فهو كالوالد لكم، وأزواجه كالأمهات لكم، وهل يصح لمؤمن أن يتزوج أمه؟ فلا تؤذوه في حياته ولا بعد مماته، ولا تتزوجوا بأزواجه من بعده أبداً، فإن إيذاء الرسول، ونكاح أزواجه من بعد وفاته، ذنب عظيم عند الله لا يغفره الله لكم أبداً، وهو عند الله بالغ الذنب والعقوبة. سبب النزول تعرضت الآية الكريمة لأمرين هامين هما «آداب الدعوة» و «مشروعية الحجاب» ولكل منهما سبب نزول. أما الأول: فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: تزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فدخل بأهله فصنعت (أم سليم) أمي حَيْساً فجعلته في تَوْر وقالت يا أنس إذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقل بعثت به إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول لك: إن هاذ منا قليل يا رسول الله!! قال: فذهبت به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقلت له: إن أمي تقرئك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 السلام وتقول لك: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فقال: ضعه ثم قال: إذهب فادع لي فلاناً وفلاناً، ومن لقيتَ وسمَّى رجالاً، فدعوت من سَمَّى ومن لقيتُ، قيل لأنس: عدد كَمْ كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، قال أنس: فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا أنس هات التور، قال فدخلوا حتى امتلأت الصُفَّة والحجرة فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي يا أنس: ارفع، فما أدري حين وضعتكان أكثر أم حين رفعت؟ وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس وزوجُه موليَّة وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخرج فسلم على نسائه ثم رجع فلما، رأوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه فابتَدرُوا الباب وخرجوا كلهم، وجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحُجْرة فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزل الله هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقرأها على الناس. ثانياً: وأما بالنسبة لمشروعية الحجاب فقد كان سبب النزول ما روي في الصحيح عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} الآية. وهذه إحدى الموافقات الثلاثة التي نزل القرآن الكريم فيها موافقاً لرأي عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وقد روي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزل: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وفي الحجاب فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغيرة فقلت: عسى ربه إن طلقكُنَّ أن يُبْدِلَه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك» . وقد ذكرت روايات أخرى في أسباب النزول ولكنها كما قال ابن العربي كلُّها ضعيفة واهية ما عدا الذي ذكرنا. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {بُيُوتَ النبي} إضافة البيوت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إضافة تشريف، مثل {نَاقَةَ الله} [الشمس: 13] و (بيت الله) الإضافة فيها للتكريم والتشريف فلبيوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الحرمة ما ليس لغيرها من البيوت، وهذه الأحكام ملذكورة هنا خاصة ببيوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكريماً له عليه السلام وتشريفاً. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ} في الكلام باء محذوفة تسمّى (باء المصاحبة) أي إلاّ بأن يؤذن لكم. وتضمين (الإذن) معنى (الدعوة) للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة وإن وجد صريح الإذن بالدخول، حتى لا يكون الإنسان (طفيلياً) يحضر الوليمة بدون سابق دعوة. وممّا يدل على هذا التضمين قوله تعالى بعدها: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا} فإنها صريحة في أن المرا د بالإذن (الدعوة) فتنبه لهذا السّر فإنه دقيق. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} قال الإمام الرازي: «فيه لطيفة وهي أن في العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير أذن: لا تدخلها إلاّ بإذن، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً ولا بالدعاء، فقال: لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين سامعين، إذا قيل لكم: لا تدخلوا فلا تدخلوا، وإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 قيل لكم ادخلوا فادخلوا» . وهذا معنى لطيف. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} فيه إشارة لطيفة أن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، فالأمر أمر وليمة وقد انتهت، ولم يبق إلاّ أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك فيه نوع من الأثقال غير محمود. قال بعض العلماء: هذه الآية نزلت في الثقلاء، وقرأها بعضهم فقال: «هذا أدب من الله تعالى أدَّب به الثقلاء» ويروى عن عائشة وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «حسبُك في الثقلاء أنّ الشرع لم يحتملهم» . وأنشد بعض الفضلاء: وثقيلٍ أشدّ من ثِقَل المو ... ت ومن شدّة العذابِ الأليم لو عصت ربَّها الجحيمُ لما كا ... ن سواهُ عقوبةً للجحيم وقال آخر: ربّما يثقُل الجليس ولو كا ... ن خفيفاً في كِفّة الميزان ولقد قلتُ حين وتّد في البي ... تِ ثقيل أربى على سهلان كيف لم تحمل الأمانة أرضٌ ... حملت فوقها أبا سفيان؟! اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} الاستحياء لا يكون من الذات، وإنما يكون من الأفعال، بدليل قوله تعالى: {والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} ولم يقل: والله لا يستحيي منكم والكلام فيه حذف تقديره: فيستحيي من إخراجكم أو من أمركم بالانصراف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 والله لا يستحيي من بيان الحق، وأطلق استحياء الله وأراد منه عدم السكوت عن بيانه، فسمّي السكوت عليه استحياءً على (طريق المشاكلة) لوقوعه بجانب استحياء الرسول على حد قول القائل: قالوا اقترحْ شيئاً نُجد لك طبخه ... قلتُ اطبخوا لي جُبّة وقميصاً اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} فيه إشارة دقيقة إلى ما بين العين والقلب من صلة وثيقة، فالعين طريق الهوى والنظرة بريد الشهوة، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، وكما قال بعض الأدباء: وما الحبّ إلاّ نظرة إثر نظرةٍ ... تزيد نمواً إن تزدْه لَجَاجاً فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذٍ أظهر. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} الإشارة في قوله {ذلكم} يعود إلى ما ذُكر من إيذائه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ونكاح أزواجه من بعده، وقد جاء التعبير بلفظ {ذلكم} ولم يأت بلفظ (هذا) للتهويل والتعظيم. قال أبو السعود: «وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرّ والفساد. وقوله: {كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} أي أمراً عظيماً، وخطباً هائلاً، لا يُقادر قدرُه، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإيجاب حرمته حيّاً وميتاً ما لا يخفى، ولذلك بالغ تعالى في الوعيد» . وجوه القراءات أولاً: قرأ الجمهور {غيرَ ناظرين} بفتح راء (غيرَ) نصباً على الحال، وقرأ (ابن أبي عبلة) بالكسر صفة لطعام، قال الزمخشري وليس بالوجه لأنه جرى على غير من هوَ له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، قال أبو حيان: وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيّين إذا لم يلبس. ثانياً: قرأ الجمهور (إناه) مفرداً، وقرأ الأعمش (إناءه) بمدّة بعد النون، وعلى الأول يكون المعنى: غير ناظرين نضجه، وعلى الثاني يكون المعنى غير ناظرين وقته أو حِينه والله أعلم. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ} الآية. الاستثناء هنا استثناء مفرّع من عموم الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلاّ حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم، وتكون (باء المصاحبة) مقدرة في الكلام. وذهب الزمخشري: إلى عدم تقدير الباء، وإلى أن الاستثناء مفرغ من عموم الأوقات، والمعنى: لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلاّ وقت الإذن. وقد ردّ (أبو حيان) هذا فقال: وهذا ليس بصحيح، وقد نصوا على أنّ (أنْ) المصدرية لا تكون في معنى الظرف، تقول: أجيئك صياح الديك، وقدوم الحاج، ولا يجوز أجيئك أن يصيح الديك، ولا أن يقدم الحاج. والمسألة خلافية في خلافيات النحاة: والأشهر أنه لا يجوز، وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، فتقول: ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 ثانياً: قوله تعالى: {غَيْرَ ناظرين إِنَاهُ} الآية. غيرَ، منصوب على الحال من الواو في {تَدْخُلُواْ} وإن أُجري وصفاً لطعامٍ {غَيْرَ ناظرين} على القراءة الثانية وجب إبراز الضمير، فكان ينبغي أن يقال: إلى طعامٍ غير ناظرين إناه أنتم، وقد بينا ما فيه عند ذكر وجوه القراءات. ثالثاً: قوله تعالى: {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} الآية. {مُسْتَأْنِسِينَ} عطف على {غَيْرَ ناظرين} و (لا) لتأكيد النفي، وجوّز بعض المفسّرين أن تكون (لا) بمعنى غير معطوفة على غير ناظرين إناه ويصبح المعنى: غير ناظرين إناه، وغير مستأنسين لحديث. ويرى البعض أن {مُسْتَأْنِسِينَ} حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، واللام في قوله (لحديث) لام التعليل أي لأجل استماع الحديث، أو هي لام التقوية. رابعاً: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} الآية. أنْ وما بعدها في تأويل مصدر اسم كان، والتقدير: وما كان لكم إيذاء رسول الله، وكذلك قوله تعالى: {وَلاَ أَن تنكحوا} لأنه عطف عليه، أفاده ابن الأنباري. خامساً: قوله تعالى: {إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} اسم الإشارة اسم (إنَّ) وجملة {كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} خبرها والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يجوز تناول الطعام بدون دعوة؟ اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز دخول البيوت إلا بإذن. ولا يجوز تناول طعام الإنسان إلا بإذن صريح أو ضمني، لقوله عليه السلام: «لا يحل مال أمرئ مسلم إلا عن طيب نفسه» . وقد دلت الآية الكريمة على حرمة دخول بيوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بعد الإذن، وعلى حرمة (التطفل) وهو أن يحضر إلى الوليمة بدون دعوة، وفاعله يسمى ب (الطفيلي) ، والحكم عام في جميع البيوت، فلا يجوز لإنسان أن يدخل بيت أحد بدون إذنه، ولا أن يتناول الطعام بدون رضى صاحبه، وهذا أدب رفيع من الآداب الاجتماعية التي أرشد إليها الإسلام. قال ابن عباس: كان ناس يتحيَّنون طعامه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فيدخلون عليه قبل الطعام، وينتظرون إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتأذى بهم فنزلت هذه الآية. وقال ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ: «حظر الله تعالى على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى لهذه الأمة، ومعنى الآية: أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإنّ هذا مما يكرهه الله ويذمه. . ثمّ قال: وهذا دليل على تحريم التطفل، وهو الذي تسميه العرب» الضيفن «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 الحكم الثاني: هل الجلوس بعد تناول طعام الوليمة حرام؟ دلّ قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} على ضرورة الخروج بعد تناول الطعام، وهذا من الآداب الإسلامية التي أدّب الله بها المؤمنين، فالمكث والجلوس بعد تناول الطعام ليس بحرام، ولكنّه مخالف لآداب الإسلام، لما فيه من الإثقال على أهل المنزل سيما إذا كانت الدار ليس فيها سوى بيت واحد، اللهمَّ إلا إذا كان الجلوس بإذن صاحب الدار أو أمره، أو كان جلوساً يسيراً تعارفه الناس، لا يصل إلى حدّ الإثقال المذموم. ومع ذلك فالأفضل الخروج، ولهذا جاء التعبير بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب {فانتشروا} . فالمكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ولم يبق إلا أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك نوع من الإثقال غير محمود، يتنافى مع الأدب الرفيع، والذوق السليم. الحكم الثالث: هل الأمر بالحجاب خاص بأزواج النبي أم هو عام؟ الآيات الكريمة وردت في شأن بيوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة، تعظيماً لرسول الله، وتكريماً لشأنه، ولكنّ الأحكام التي فيها عامّة تعمُّ جميع المؤمنين، لأنها آداب اجتماعية، وإرشادات إلهية، يستوي فيها جميع الناس، فالأمر بعدم الاختلاط بالنساء، وبسؤالهن من وراء حجاب، ليس قاصراً على أزواج الرسول، ولكنه عام يشمل جميع نساء المؤمنين، فإذا كان نساء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يجوز الاختلاط بهن، ولا النظر إليهن، مع أنهن (أمهات المؤمنين) يحرم الزواج بهن، ولا يجوزسؤالهن إلا من وراء حجاب، فلا شكَّ أن الاختلاط بغيرهن من النساء، أو التحدث إليهن بدون حجاب، يكون حراماً من باب أولى، لأن الفتنة بالنساء متحققة. ثمّ إنّ أمر الحجاب ليس خاصاً بأزواج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل هو عام لجميع نساء المؤمنين، بدليل قوله تعالى في آخر السورة {ياأيها النبي قُل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] . فهل خرجت مؤمنة من هذا الخطاب؟ وهل أمر الحجاب خاص بنساء الرسول حتى يزعم بعض المضِلّين، أن الحجاب مفروض على نساء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة دون سائر النساء؟! وسنتحدث بالتفصيل إن شاء الله عن هذا الموضوع عند بحث (الحجاب الشرعي) ونبيّن تلك المزاعم الواهية التي احتج بها بعض المتحللين، ونبطلها بالحجج الدامغة، فارجع إليها هناك واله يتولاّك. الحكم الرابع: هل الطعام المقدّم للضيف على وجه التمليك أم الإباحة؟ أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} إلى أنّ الطعام الذي يقدّم للضيف لا يكون على وجه التمليك، وإنما هو على وجه الإباحة، فلو أراد الضيف أن يحمل معه الطعام إلى بيته لا يجوز له ذلك لأن المضيف إنما أباح له الأكل فقط دون التملك له أو أخذه أو إعطائه لأحد. قال العلامة القرطبي: «في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف، لا على ملك نفسه لأنه تعالى قال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله» . الحكم الخامس: هل زال النكاح عن أمهات المؤمنين بموت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال القرطبي: ف يتفسيره «الجامع لأحكام القرآن» : اختلف العلماء في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد موته، هل بقين أزواجاً أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة، لأنه تُوفي عنهن، والعدة عبادة. وقيل: لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. قال: والقول الثاني هو الصحيح لقوله عليه السلام: «ما تركتُ بعد نفقة عيالي» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وروي (أهلي) وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجاً له في الآخرة قطعاً، بخلاف سائر الناس، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة، والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق، وبقي في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد قال عليه السلام: «كلُّ سببٍ ونسبٍ ينقطع، إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة» . فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكَلْبيّة وغيرها، فهل كان حيل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف، والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تزوجها (عكرمة بن أبي جهل) على ما تقدم، وقيل: إن الذي تزوجها (الأشعث بن قيس الكندي) . قال القاضي أبو الطيب: الذي تزوجها (مهاجر بن أبي أمية) ولم ينكر ذلك أحد، فدلّ على أنه إجماع. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - النهي عن دخول بيوت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بغير إذن، وبدون سابق دعوة. 2 - لا ينبغي الحضور قبل نضج الطعام، ولا المكث بعد تناول اطعام الوليمة. 3 - وجوب احترام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتعظيمه، وأمتثال أوامره وتقديم طاعته على كل شيء. 4 - حرمة إيذاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالأقوال أو الأفعال، والتأدب معه في جميع الأحوال. 5 - حرمة نكاح أمهات المؤمنين من بعد وفاته لأنهن أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 6 - خلق الرسول الرفيع يمنعه من أمر الناس بالخروج من منزلة فينبغي عدم الإثقال عليه. 7 - نساء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هنّ القدوة والأسوة الحسنة لسائر النساء فينبغي مخاطبتهن من وراء حجاب. 8 - في عدم الاختلاط بالنساء صفاء النفس، وسلامة القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن مظان التهم. 9 - الآداب التي أرشد إليها القرآن ينبغي التمسك بها وتطبيقها تطبيقاً كاملاً. خاتمة البحث: حكمة التشريع حرّم الله تعالى على المؤمنين دخول بيوت النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدون إذن، تكريماً لرسول الله عليه السلام وتعظيماً لشأنه، ومنع الناس من الإثقال على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سواءً بالدخول إلى بيوته دون سابق دعوة، أو المكث فيه بعد تناول طعام الوليمة لأن في ذلك إثقالاً على الرسول الكريم، وإيذاءً له، والتطفلُ والإثقال على أهل الدار ليس من أوصاف المؤمنين، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شديد الحياء، وكان - كما تقول السيدة عائشة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، ولم يكن من خلقة الكريم أن يجابه أحداً بما يكره، مهما أصابه الأذى والضرر، ولا من عادته أن يأمر الزائر بالانصراف مهما طال المكث والبقاء، لأنّ هذا لا يتفق مع خُلُق الداعية، فكيف بخلق النبوة وأوصاف سيد المرسلين!! {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وان بعض الناس - ممن لم تتهذب أخلاقهم بعد - يتحينون طعام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، ويقعدون إلى أن ينضج، ثم يأكلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 ولا يخرجون. . فكان الناس بحاجة إلى أن يتعلموا الآداب الرفيعة، وأن يكون عندهم (ذوق اجتماعي) وشعور رقيق، يمنعهم عن ارتكاب النقائض، وفعل ما يخل بالمروءة، لذلك أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة تعلمياً للأمة وإرشاداً لها إلى سلوك الطريق القويم، وقد قال إسماعيل بن أبي حكيم: «هذا أدبٌ أدّب الله به الثقلاء» . وقال آخر: هذه الآية نزلت في الثقلاء، وحسبُكَ من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. ولقد كان هناك من بعض المنافقين إيذاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالفعل أو القول، حتى قال رجل من المنافقين حين تزوّج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم سلمة بعد وفاة زوجها أبي سلمة: ما بال محمد يتزوج نساءنا! {والله لو قد مات لأجلنا السّهام على نسائه، يريد اقتسمناهن بالقرعة، فنزلت الآية في هذا، فحرّم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات تطييباً لخاطره الشريف وهذا من خصائصه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أب للمؤمنين، وهل يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وهي أُمّه بنصّ القرآن الكريم} ! وصدق الله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أزواجه مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 [6] الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التحليل اللفظي {يُصَلُّونَ} : الصلاة في اللغة معناها: الدعاء والاستغفار، ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] أي أدع لهم بالمغفرة والرحمة قال الأعشى: عليكِ مثلَ الذي صلّيتِ فاغتمضي ... نوماً فإنّ لجنب المرء مضطجعاً مضجعاً ... أي لك من الدعاء مثل ما دعوتِ لي به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وسميت الصلاة المفروضة صلاة لما فيها من الدعاء والاستغفار، وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» ، قال الأزهري: هي بمعنى الرحمة، أي ارحم آل أبي أوفى، وقال الشاعر: صلّى على عزّة الرحمن وابنتِها ... ليلى وصلّى على جاراتها الأخر قال ابن عباس: «أراد أنّ الله تعالى يرحمه، والملائكة يدعون له ويبرّكون» . وقال أبو العالية: «صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاتهم دعاؤهم له» . {النبي} : قال الجوهري: والنبي: المخبر عن الله عَزَّ وَجَلَّ ّ، لأنه أنبأ عنه وجمعه أنبياء، وفي «النهاية» : يجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه. قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلاّ ويقول تنبّأ مسيلمة بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرّية والبريّة، إلا أهل مكة فإنهم يهمزون هذه الأحرف، ثم قال: والهمز في (النبيّ) لغة رديئة، واشتقاقه من نبأ وأنبأ أي أخبر. وجمع النبيء: أنْبِئَاء ونُبَآء. قال ابن مرداس: يا خاتم النّبَآء إنّك مرسلٌ ... بالخبر كلّ هُدى السبيل هُداكا إنّ الألاه ثَنَى عليك محبةً ... في خلقِهِ ومحمّداً أسماكا أقول: كل ما ورد في القرآن من خطاب للنبي أو الرسول فإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 يقصد به محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. {يُؤْذُونَ الله} : إيذاء اللَّهَ: وصفُه بما لا يليق به جلّ وعلا كقول اليهود: (يد الله مغلولة) ، و (عزير بن الله) ، وقول النصارى: المسيح ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة، وقول كفار قريش: الملائكة بنات الله، وسائر ما لا يرضي الله عَزَّ وَجَلَّ ّ من الكفر والعصيان. وإيذاء الرسول كقولهم عنه بمجنون، شاعر، ساحر، كذّاب، أو إلحاق الأذى به كشجّ وجهه الشريف وكسر رباعيته في أُحد، وأمثال ذلك من الأذى الحسي أو الأدى المعنوي، الذي كان يحلقه به المنافقون والكفار. {لَعَنَهُمُ الله} : اللعن: الطرد والإبعاد من رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ ّ، قال تعالى: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61] . {بُهْتَاناً} : البهتان: الافتراء والكذب الواضح، وهو من البهت بمعنى التحيّر. قال في اللسان: بهت الرجل يبهتُه بهتاناً، وباهته: استقبله بأمرٍ يقذفه به وهو منه برئ، والبهتان: الباطل الذي يتحير من بطلانه. {مُّبِيناً} : بيناً ظاهراً لأنه واضح الكذب والبهتان، تقول: بان الشيء، وبان الأمر، وبان الحق، إذا ظهر جلياً واتضح، قال الشاعر: فبان للعقل أن العلم سيِّدُه ... فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا وتسمّى البيّنة لأنها تكشف الحق وتظهره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 المعنى الإجمالي يخبر المولى جلّ وعلا بما ناله الرسول الكريم، من جاهٍ عظيم، ومنزلة سامية، ومكانة رفيعة عند الله اتعالى، وما له من السيادة والمقام المحمود في الملأ الأعلى، وما خصّه الله تعالى به من الثناء العاطر، والذكر الحسن، فيقول الله تعالى ما معناه: «إن الله تعالى يرحم نبيه، ويعظم شأنه، ويرفع مقامه، وملائكته البرار، وجنده الأطهار، يدعون للنبي عليه السلام ويستغفرون له، ويطلبون من الله أن يبارك ويمجّد عبده ونبيّه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويُنيله أعلى المراتب، ويُظْهر دينه على جميع الأديان، ويُجْزل له الأجر والثواب، على ما قدّم لأمته من خير عميم، وفضل جسيم ... في أيها المؤمنون: صلّوا أنتم عليه، وعظّموا أمره، واتبعوا شرعه، وأكثروا من الصلاة عليه والتسليم، فحقه عليكم عظيم، ومهما فعلتم فلن تؤدوه حقه، فقد كان المنقذ لكم من الضلالة إلى الهدى، وبه أخرجكم الله من الظلمات إلى النور {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 9] فقولوا كلما ذكر اسمه الشريف: اللهم صل على محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وادعوا الله أن يجزيه عنكم خير الجزاء. ثمّ أخبر تعالى أن الذين يؤذون الله ورسوله قد استحقوا غضب الله ولعنته عليهم في دنياهم وآخرتهم، وأنّ الله أعدّ لهم عذاباً شديداً لا يُدْرك كنهه ولا يُعْرف هوله، وكذلك الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات، فنسبوا إليهم ما لم يفعلوه، واتهموهم بالكذب، والزور، والبهتان، وتقوّلوا على ألسنتهم، ما لم يقولوه، هؤلاء الذين فعلوا ذلك لهم أيضاً عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ما اقترفوا من سيِّئ الأعمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وجه الارتباط بالآيات الكريمة السابقة في الآيات الكريمة السابقة كان الحديث عن حرمة دخول بيوت النبي. وعن حرمة نكاح أزواجه الطاهرات، وقد بيّن تعالى فيها أن شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لما له عليهم من حق عظيم، وفي هذا توجيه وإرشاد إلى تكريمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحياطة لمقامه الشريف وهنا بيّن تعالى أن الله يكرّم نبيّه ويرحمه ويعلى شأنه، وملائكتُه كذلك، فكيف لايكرّمه المؤمنون مع أن الله يصلّي عليه؟ وهو لا يستحق إلا كلّ تكريم وتمجيد، فكأنه قيل لهم: لا ينبغي لكم أن تؤذوه، فإن الله يصلّي عليه وملائكته، فهذا وجه الارتباط والله تعالى أعلم. وجوه القراءات قرأ الجمهور {إنّ اللَّهَ وملائكتُه} بالرفع ويكون الخبر محذوفاً تقديره: إنَّ الله يصلي، وملائكته يصلّون. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {يُصَلُّونَ عَلَى النبي} الجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) . 2 - قوله تعالى: {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (سلّموا) أمر، و (تسليماً) مفعول مطلق منصوب. 3 - قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} اسم الموصول اسم (إنّ) والخبر جملة {لَعَنَهُمُ الله} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ} . ورد ذكر الثناء على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الصيغة، فجاء الخبر مؤكداً ب (إنّ) اهتماماً به، وجيء بالجملة اسمية لإفادة الدوام، وكانت الجملة إسمية في صدرها، {إِنَّ الله} فعليه في عجزها {يُصَلُّونَ} للإشارة إلى أن هذا الثناء من الله تعالى، والتمجيد الدائم يتجدّد وقتاً فوقتاً على الدوام، فتدبّر هذا السرّ الدقيق. اللطيفة الثانية: قد يقول قائل: إذا صلّى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا عليه؟ نقول: الصلاة عليه ليس لحاجته إليها، وإلاّ فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه عليه السلام ليثيبنا الله تعالى عليه، ولهذا قال عليه السلام: «من صلّى عليّ مرة صلّى الله عليه بها عشراً» فصلوات ربي وسلامه عليه. اللطيفة الثالثة: قال الإمام الفخر: الصلاة الدعاء، يقال في اللغة صلّى عليه: أي دعا له، وهذا المعنى غير معقول في حقّ الله تعالى، فإنه لا يدعو له، لأنّ الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث، والجوابُ: أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً، وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظٍ جائز وهذا مذهب الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ، فالصلاة من الله بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الاستغفار، وهما يشتركان في العناية بحال المرحوم، والمستغفر له، والمراد هو القدر المشترك. اللطيفة الرابعة: أمرنا الله بالصلاة على نبيه المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 يكفي أن نقول صلينا عليه أو يقول الإنسان: أصلي عليه، فلماذا نقول عند الصلاة عليه: اللهم صلِّ على محمد؟ والجواب: أنَّ الله لما أمرنا بالصلاة عليه، ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك، أحلناه على الله تعالى، وقلنا: اللهم صلّ أنت على محمد، لأنك أعلم بما يليق به، فنحن عاجزون عن توفيته حقه، وقاصرون عن معرفة الثناء الذي يليق بقدره، وقد أوْكّلْنا الأمر إليك. فتدبر سرّ هذه الجملة (اللهم صل على محمد) فإنه نفيس ودقيق. اللطيفة الخامسة: قال بعض العلماء: معنى قولنا: اللهم صل على محمد أي عظِّمْه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وإعطائه المقام المحمود. فضائل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ 1 - عن أبي طلحة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ذات يوم والبشرى في وجهه، فقلنا إنّا لنرى البشرى في وجهك!! فقال: «إنه أتاني الملك فقال يا محمد: إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصل عليك أحد إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلّم عليك أحد إلا سلّمت عليه عشراً؟ ... » . - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» . - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البخيل الذي من ذكرتُ عنده فلم يصلّ عليّ» . اللهمّ اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك، على سيّد المرسلين، وإمام المتقين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، إنك سميع مجيب الدعاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي صيغة الصلاة والتسليم على النبي عليه السلام؟ صيغة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وردت فيها طرق كثيرة من السنة النبوية المطهَّرة، وقد ذكرت فيها صور مختلفة عن كيفية الصلاة عليه من المؤمنين، واختلافُها يشعر بأن الغرض ليس تحديد (كيفية خاصة) وإنما هي ألوان من التعظيم والثناء له عليه السلام، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات، لأنّ استيعابها يطول، فنقول ومن الله نستمد العون: أولاً: روى الشيخان عن كعب بن عُجْرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رجل يا رسول الله: أمّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال قل: «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» . ثانياً: وروى مالك وأحمد والشيخان عن أبي حميد الساعدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنهم قالوا يا رسول الله: كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قولوا: «اللهمّ صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» . ثالثاً: وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: أتانا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونحن في مجلس (سعد بن عُبادة) فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ فسكت حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال قولوا: «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم» . وفي بعض رواياته: «اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد» . وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة. وما دام المراد تعظيم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأي عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها. وأما التسليم فصيغته معروفة وهي أن يقول المؤمنون: السلام عليك يا رسول الله. وفي التشهد يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ومعنى التسليم: الدعاء بالسلامة من جميع البلايا والآفات والأسقام، وذهب ابن السائب إلى أن معنى التسليم: الانقياد وعدم المخالفة أي سلّموا لما يأمركم به والله أعلم. الحكم الثاني: ما معنى صلاة الله والملائكة على النبي عليه السلام؟ تقدّم معنا أن الصلاة في اللغة تأتي بمعنى (الدعاء) وتأتي بمعنى (الرحمة) وتأتي بمعنى (التمجيد والثناء) ومن الأخير قوله تعالى: {أولئك عَلَيْهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] . وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة من الله تعالى على نبيه معناها تمجيده والثناء عليه وإلى هذا ذهب البخاري وطائفة من العلماء وهو أظهر. وقال آخرون: المراد بالصلاة على النبي رحمته ومغفرته إلى هذا ذهب الحسن البصري وسعيد بن جبير، وقيل: المراد بها البركة والكرامة. وأما صلاة الملائكة فمعناها: الدعاء له عليه السلام والاستغفار لأمته، وعلى جميع الأقوال فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة. ولما جاء اللفظ مجموعاً مضافاً إلى واو الجماعة {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} وكانت الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة لذلك فقد اختلف المفسّرون في تأويل الآية على أقوال: أ - فذهب بعضهم إلى أنّ في الآية حذفاً دلّ عليه السياق تقديره: إن الله يصلي على النبي، وملائكته يصلون على النبي، فتكون واو الجماعة راجعة إلى الملائكة خاصة ويؤيد هذا قراءة الرفع (وملائكتُه) وليس اللفظ مشتركاً بين الله تعالى وملائكته. ب - وذهب بعضهم إلى أنه من باب (الجمع بين الحقيقة والمجاز) وهو اختيار الفخر الرازي ومذهب الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ، فعنهد يجوز استمال اللفظ المشترك في معنييه معاً كما يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز، فيكون لفظ (يُصلُّون) عائداً إلى الله وإلى الملائكة بالمعنيين معاً ويصبح معنى الآية: (إن الله تعالى يرحم نبيّه وملائكته يدعون له) . ج - وذهب جماعة إلى القول بأنه من باب (عموم المجاز) لا من باب (الجمع بين الحقيقة والمجاز) فيقدِّرون معنى مجازياً عاماً، ينتظم أفراداً كثيرة يشملها هذا اللفظ، وهذا المعنى العام هو مثلاً (العناية بشأن النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) فالاعتناء يكون من الله تعالى على وجه، ويكون من الملائكة على وجه آخر، وهذا اختيار أبي السعود وأبي حيان والزمخشري، وغيرهم من مشاهير المفسرين. قال أبو السعود: قوله تعالى: {يُصَلُّونَ عَلَى النبي} قيل: الصلاة من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، وقال ابن عباس: أراد أن الله يرحمه، والملائكة يدعون له. . فينبغي أن يراد في {يُصَلُّونَ} معنى مجازي عام، يكون كل واحد من المعاني المذكورة فرداً حقيقاً له، أي يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره، ويهتمون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه، وذلك من الله سبحانه بالرحمة، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار. وقال أبو حيان في «البحر المحيط» : «وصلاة الله غير صلاة الملائكة فكيف اشتركا؟ والجواب: اشتركا في قدّرٍ مشترك وهو إرادة وصول الخير إليهم، فالله تعالى يريد برحمته إياهم وصول الخير إليهم، والملائكة يريدون بالاستغفار ذلك» . الحكم الثالث: هل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سبيل الندب أو الفرض؟ أمر الله سبحانه المؤمنين بالصلاة على نبيه الكريم، وهذا لأمر للوجوب فتكون الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجبة، ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر، بل لقد حكى (القرطبي) الإجماع على ذلك، عملاً بما يقتضيه الأمر (صلّوا) من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك كالتلفظ بكلمة التوحيد، حيث لا يصح إسلام الإنسان إلا بالنطق بها. وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجبه، ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر، بل لقد حكى (القرطبي) الإجماع على ذلك، عملاً بما يقتضيه الأمر (صلّوا) من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك كالتلفظ بكلمة التوحيد، حيث لا يصح إسلام الإنسان إلا بالنطق بها. وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هل تجب في كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 مجلس، وكلما ذكر اسمه الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ أم هي مندوبة؟ وذلك بعد اتفاقهم على أنها واجبة في العمر مرة. أ - فقال بعضهم: إنها واجبة كلَّما ذُكر اسم النبي عليه السلام. ب - وقال آخرون: تجب في المجلس مرة واحدة ولو تكرَّر ذكره عليه السلام في ذلك المجلس مرات. ج - وقال آخرون: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد أو مجلس، ولا يكفي أن يكون في العمر مرة. وحجة القائلين بالوجوب في المجلس، أو كلما ذكر اسم الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أن الله عَزَّ وَجَلَّ ّ أمر بها، والأمر يفيد التكرار، ثمّ ما ورد من الوعيد الشديد لمن لم يصلّ على رسول الله عليه السلام، كقوله: «البخيل الذي من ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ» رواه الترمذي. وقوله عليه السلام: «ما من قوم يجلسون في مجلسٍ ثم يقومون منه لا يذكرون الله ولا يصلُّون على نبيه إلاّ كان تِرَةً عليهم يوم القيامة» . وقول جبريل للنبي عليه السلام: «بَعُدَ من ذكرتَ عنده فلم يصلّ عليك، فقلت آمين» . فهذه تفيد الوجوب عندهم. وذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قربة وعبادة، كالذكر والتسبيح والتحميد، وأنها واجبة في العمر مرة، ومندوبة ومسنونة في كل وقت وحين، وأنه ينبغي الإكثار منها لما صحّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «من صلى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً» وغير ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 من الأحاديث الكثيرة الشهيرة في فضل الصلاة على النبي عليه السلام، فهي مطلوبة ولكن لا على سبيل (الوجوب) بل على سبيل (الندب) والاستحباب. قال العلامة أبو السعود: «والذي يقتضيه الاحتياط، ويستدعيه معرفة علو شأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أن يصلي عليه كلما جرى ذكره الرفيع» . وما ذهب إليه الجمهور هو الصح والأرجح والله تعالى أعلم. الحكم الرابع: هل تجب الصلاة على النبي عليه السلام في الصلاة؟ اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصلاة على مذهبين: أ - مذهب الشافعي وأحمد: أنها واجبة في الصلاة ولا تصح الصلاة بدونها. ب - مذهب مالك وأبي حنيفة: أنها سنّة مؤكدة في الصلاة وتصح الصلاة بدونها مع الكراهة والإساءة. أدلة الشافعية والحنابلة: استدل الشافعية والحنابلة على أن الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجبة في الصلاة بأدلة نوجزها فيما يلي: أ - الأمر الوارد في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} والأمر يقتضي الوجوب، ولا وجوب في غير التشهد، فتكون الصلاة على النبي واجبة في الصلاة. ب - حديث كعب بن عجرة: (قلنا يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) الحديث وقد تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 قال ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ: «ذهب الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصحّ صلاته، وهو ظاهر الآية، ومفسّر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وهو مذهب الإمام أحمد، وإليه ذهب ابن مسعود وجابر بن عبد الله» . أدلة المالكية والأحناف: واستدل المالكية والأحناف على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي: أ - قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} قالوا: قد تضمنت هذه الآية الأمر بالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وظاهره يقتضي الوجوب، فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدّى فرضه، وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه، والأمر يقتضي الوجوب لا التكرار. ب - حديث ابن مسعود حين علّمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التشهد فقال: «إذا فعلتَ هذا، أو قلتَ هذا، فقد تمت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت» ولم يأمره بالصلاة على النبي عليه السلام. ج - حديث معاوية السلمي وفيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» ولم يذكر الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. د - ما روي عن كثير من الصحابة أنهم كانوا يكتفون بالتشهد في الصلاة وهو (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) ولا يوجبون الصلوات الإبراهيمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 قال أبو بكر الرازي: «وزعم الشافعي أن الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرض في الصلاة، وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم - فبما نعلمه - وهو خلاف الآثار الواردة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لفرضها في الصلاة ... » . ثم ساق بعض الأدلة في تفسيره «أحكام القرآن» - وقد ذكرنا بعضها - ثم قال: وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في «شرح مختصر الطحاوي» . الحكم الخامس: هل تجوز الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ يرى بعض العلماء أن الصلاة تجوز على غير الأنبياء، لأن الصلاة معناها الدعاء، والدعاء يجوز للأنبياء ولغير الأنبياء، واستدلوا بما ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قوله: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى» . وذهب الأكثرون إلى أن الصلاة (شعار) وهي خاصة بالأنبياء، فلا تجوز لغيرهم فلا يصح أن تقول: اللهم صلّ على الشافعي مثلاً أو على أبي حنيفة، وإنما تترحم عليهما، ويجوز الترضي عن الصحابة والتابعين ولا تجوز الصلاة عليهم لأنها شعار الأنبياء والمرسلين. قال العلامة أبو السعود: «وأمّا الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتجوز تبعاً، وتكره استقلالاً، لأنه في العرف شعار ذكر الرسل، ولذلك لا يجوز أن يقال:» محمدٌ عزَّ وجل «مع كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عزيزاً جليلاً» . والمراد بقوله تبعاً أن تقول مثلاً: اللهم صلّ على محمد وآله وذريته وأتباعه المؤمنين، فلا يصح أن تقول: اللهم صل على ذرية محمد، ولا اللهم صلّ على أزواج محمد، وإنما إذا صليت على الرسول يجوز لك أن تضيف تبعاً من شئت من عباد الله الصالحين، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - منصب النبوة منصب عظيم، ومكانة الرسول مكانة عظيمة عند الله تعالى. 2 - ثناء الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيه الكريم وثناء الملائكة الأطهار مظهر من مظاهر رفعه الرسالة. 3 - احترام الرسول وتعظيم أمره واجب على المؤمنين لأنه من تعظيم أمر الله وطاعته جلّ وعلا. 4 - الصلاة على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينبغي أن تكون بالصيغة الشرعية «اللهم صلي على محمد» الخ. 5 - يندب للمسلم أن يصلي على الرسول كلما ذكر اسمه الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امتثالاً للأمر الإلهي. 6 - إيذاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيذاء لله تعالى وهو سبب لسخط الله وغضبه. 7 - إيذاء المؤمنين واتهامهم بما ليس فيهم من الكبائر التي ينبغي أن يبتعد عنها المسلم. خاتمة البحث: حكمة التشريع مجّد الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأثنى عليه الثناء العاطر، ورفع مكانته على جميع الأنبياء والمرسلين، وأحله المحل الرفيع الذي يليق بمنزلته السامية، ومرتبته العالية، وأمر المؤمنين بالتأدب مع الرسول الكريم، وبتعظيم أمره، وتمجيد شأنه، وصلى عليه في الملأ الأعلى مع الملائكة الأطهار، وكل ذلك ليعلّم المؤمنين مكانة هذا النبي العظيم، ليجلّوه ويحترموه، ويطيعوا أمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 لأنه سبب سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9] . وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصلاة على الرسول الكريم، وجعل ذلك فرضاً لازماً لا يتم إيمان بدونه، وحرّم إيذاءه بالقول أو الفعل، ونهى عن كل ما يمسّ مقامه الشريف من إساءة أو عدوان، وجعل ذلك إيذاء له تعالى، لأنّ في تكذيبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكذيباً لله تعالى، وفي الاستهزاء بدعوته استهزاءً بالله تعالى، لأنه رسول رب العالمين. فيجب أن يُطاع في كل أمر، أن يحترم قوله لأنه مبلّغ عن الله وصدق الله حيث يقول {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] . وقد حكم الله جلّ وعلا باللعنة والغضب على من آذى الرسول عليه السلام، لأنه كفرانٌ للنعمة، وجحودٌ للفضل الذي أسداه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمته، وكيف يليق بالمؤمن أن يؤذي رسول الله مع أنه صلوات الله عليه سبب لإنقاذنا من الضلالة، وإخراجنا من الظلمات إلى النور؟! وهو باب الرحمة الإلهية، ومظهر الفضل والإحسان والجود: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آله وأصحابه والطيبين الطاهرين. وصدق من قال: إذا الله أثنى بالذي هو أهلُه ... عليه، فما مقدارُ ما تمدح الورى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 [7] حجاب المرأة المسلمة التحليل اللفظي {لأزواجك} : المراد بكلمة الأزواج (أمهات المؤمنين) الطاهرات رضوان الله عليهن، ولفظ الزوج في اللغة يطلق على الذكر والأنثى، قال تعالى: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] ، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] . وإطلاق لفظ (الزوجة) صحيح ولكنه خلاف الأفصح. وأنكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 الأصمعي لفظ (زوجة) بالهاء، وقال: هي زوج لا غير، واحتجّ بأنه لم يرد في القرآن إلا بدون هاء {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] والصحيح أنه خلاف الأفصح وليس بخطأ قال الفرزدق: وإن الذي يسعى يحرّش زوجتي ... كساعٍ إلى أُسْد الشّرى يستبيلها وفي حديث عمّار بن ياسر قوله عن السيدة عائشة (والله إني لأعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكنّ الله ابتلاكم لها ليعلم أتطيعونه أو تطيعونها) . {يُدْنِينَ} : أي يسدلن ويرخين. وأصل الإدناء التقريب، يقال للمرأة إذا زلّ الثوب عن وجهها: أدني ثوبك على وجهك، والمراد في الآية الكريمة: يغطين وجوههن وأبدانهن ليميزن عن الإماء والقينات، ولما كان متضمناً معنى الإرخاء والسّدل عدّي بعلى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} . {جلابيبهن} : جمع جلباب، وهو الثوب الذي يستر جميع البدن، قال الشهاب: هو إزار يلتحف به، وقيل: هو المِلحفة وكل ما يغطي سائر البدن. قال في «لسان العرب» : الجلباب ثوب أوسع من الخمار، دون الرداء، تغطي به المرأة رأسها وصدرها، وقيل: هو الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها: تمشي النُّسوْر إليهِ وهي لا هيةٌ ... مشيَ العذَارَى عليهنّ الجلابيبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وقيل جلباب المرأة: ملاءتها التي تشتمل بها، واحدها جلباب، والجماعة جلابيب، وأنشدوا: مُجلْببٌ من سوادِ الليل جلباباً ... وفي «الجلالين» : الجلابيب جمع جلباب، وهي المِلاءة التي تشتمل بها المرأة. قال ابن عباس: أُمر نساءُ المؤمنين أن يغطّين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب، إلا عيناً واحدة ليُعْلم أنهنّ حرائر. والخلاصة: فإن الجلباب هو الذي يستر جميع بدن المرأة، وهو يشبه الملاءة (الملحفة) المعروفة في زماننا، نسأله تعالى الستر والسلامة. {أدنى} : أفعل تفضيل بمعنى أقرب، من الدّنوّ بمعنى القرب، يقال: أدناني منه أي قرّبني منه، وقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] أي قريبة المنال، وتأتي كلمة (أدنى) بمعنى أقل، وقد جُمع المعنيان في قول الشاعر: لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان {غَفُوراً} : أي ساتراً للذنوب، ماحياً للآثام، يغفر لمن تاب ما فرط منه {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} [طه: 82] . {رَّحِيماً} : يرحم عباده، ويلطف بهم، ومن رحمته تعالى أنه لم يكلفهم ما لا يطيقون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 المعنى الإجمالي يأمر الله تعالى نبيه الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أن يوجه النداء إلى الأمة الإسلامية جمعاء، بأن تعمل على التمسك بآداب الإسلام، وإرشاداته الفاضلة، ونظمه الحكيمة، التي بها صلاح الفرد وسعادة المجتمع، وخاصة في أمر اجتماعي هام، يتعلق بالأسرة المسلمة، ألا وهو (الحجاب الشرعي) الذي فرضه الله على المرأة المسلمة، ليصون لها كرامتها، ويحفظ عليها عفافها، ويحميها من النظرات الجارحة، والكلمات اللاذعة، والنفوس المريضة، والنوايا الخبيثة، التي يُكِنّها الفسّاق من الرجال للنساء غير المحتشمات، فيقول الله تعالى ما معناه. يا أيها النبي بلّغ أوامر الله إلى عباده المؤمنين، وابدأ بنفسك فمر زوجاتك أمهات المؤمنين الطاهرات، وبناتك الفضليات الكريمات أن يرتدين الجلباب الشرعي، وأن يحتجبن عن أنظار الرجال، ليكنّ قدوة لسائر النساء، في التعفّف، والتستّر، والاحتشام، حتى لا يطمع فيهن فاسق، أو ينال من كرامتهن فاجر، وأمُر سائر نساء المؤمنين، أن يلبسن الجلباب السابغ، الذي يستر محاسنهنّ وزينتهنّ، ويدفع عنهنّ ألسنة السوء، وأمُرْهنّ كذلك أن يغطين وجوههنّ وأجسامهن بجلابيبهن، ليميّزن عن الإماء والقينات، فلا يكنّ هدفاً للمغرضين، وليكنّ بعيدات عن التشبه بالفواجر، فلا يتعرض لهن إنسان بسوء، فذلك أقرب إلى أن يعرفن بالعفة والتصون، فلا يطمع فيهن من في قلبه مرض، {وَكَانَ الله غَفُوراً} يغفر لمن امتثل أمره، رحيماً بعباده حيث لا يشرّع لهم إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 سبب النزول روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة، أنّ الحرة والأمة كانتا تخرجان ليلاً لقضاء الحاجة في الغيطان، وبين النخيل، من غير تمييز بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فسّاق، لا يزالون على عاداتهم في الجاهلية يتعرضون للإماء، وربّما تعرضوا للحرائر، فإذا قيل لهم يقولون: حسبناهنّ إماءً. فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزيّ فيتسترن ليحتشمن ويُهَبْن فلا يطمع فيهن ذوو القلوب المريضة، فأنزل الله {ياأيها النبي قُل لأزواجك ... } الآية. وقال ابن الجوزي: «سبب نزولها أن الفسّاق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل، فإذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا: هذه حرّة، وإذا رأوها بغير قناع قالوا: أمة، فآذوها، فنزلت هذه الآية: قاله السدي» . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {ياأيها النبي ... } أيّ: منادى، والهاء للتنبيه، و {النبي} صفة ل {أَيُّ} قال ابن مالك: وأيّها مصحوبَ أل بعدُ صفة. 2 - قوله تعالى: {قُل لأزواجك ... } قلْ: أمر، و {يُدْنِينَ} مضارع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، وجملة {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} مقول القول في محل جزم جواب الطلب. 3 - قوله تعالى: {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ} أي بأن يُعْرفن مجرور بحرف جر محذوف، واسم الإشارة مبتدأ، وما بعده خبر، والتقدير: ذلك أقرب بمعرفتهنّ أنهنّ حرائر، والله أعلم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: بدأ الله تعالى بنساء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبناته في الأمر ب (الحجاب الشرعي) وذلك للإشارة إلى أنهنّ قدوة لبقية النساء فعليهن التمسك بالآداب الشرعية ليقتدي بهنّ سائر النساء، والدعوة لا تثمر إلاّ إذا بدأ الداعي بها في نفسه وأهله، ومن أحقّ من (بيت النبوة) بالتمسك بالآداب والفضائل؟ وهذا هو السرُّ في تقديمهنَّ في الخطاب في قوله تعالى: {قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ} . اللطيفة الثانية: الأمر بالحجاب إنما جاء بعد أن استقرّ امر الشريعة على وجوب (ستر العورة) ، فلا بدّ أن يكون الستر المأمور به هنا زائداً على ما يجب من ستر العورة، ولهذا اتفقت عبارات المفسّرين على - اختلاف ألفاظها - على أن المراد بالجلباب: الرداء الذي تستر به المرأة جميع بدنها فوق الثياب، وهو ما يسمّى في زماننا ب (الملاءة) أي الملحفة، وليس المراد ستر العورة كما ظنّ بعض الناس. اللطيفة الثالثة: في هذا التفصيل والتوضيح (أزواجك، بناتك، نساء المؤمنين) ردّ صريح على الذين يزعمون أن الحجاب إنما فرض على أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة، فإنّ قوله تعالى {وَنِسَآءِ المؤمنين} يدل دلالة قاطعة على أنّ جميع نساء المؤمنين مكلفات بالحجاب، وأنهن داخلات في هذا الخطاب العام الشامل، فكيف يزعمون أن الحجاب لم يفرض على المرأة المسلمة؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 اللطيفة الرابعة: أمرُ الحرائر بالتستّر ليُميّزن عن الإماء، قد يفهم من أنّ الشارع أهمل أمر الإماء، ولم يبال بما ينالهن من الإيذاء، وتعرّض الفُسّاق لهن، فكيف يتفق هذا مع حرص الإسلام على طهارة المجتمع؟ والجواب: أنّ الإماء بطبيعة عملهن، يكثر خروجهنّ وتردّدهن في الأسواق، لقضاء الحاجات وخدمة سادتهن، فإذا كُلّفن بلبس الجلباب السابغ كلمَّا خرجن، كان في ذلك حرج ومشقة عليهنّ، وليس كذلك الحرائر لأنهن مأمورات بالاستقرار في البيوت {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وعدم الخروج إلاّ عند الحاجة، فلم يكن عليهن من الحرج والمشقة في التستر ما على الإماء، وقد وردت الآية السابقة {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات} [الأحزاب: 58] وهي تتوعد المؤذين بالعذاب الأليم، وهذا يشمل الحرائر والإماء. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} فيه ذكر للعلة أي (الحكمة) التي فُرض من أجلها الحجاب، والأحكامُ الشرعية كلها مشروعة لحكمة وجمهورُ المفسّرين موجهاً إلى جميع النساء، سواء منهن (الحرائر والإماء) وفسّر قوله تعالى: {أَن يُعْرَفْنَ} أي يعرفن بالعفة والتستر والصيانة، فلا يطمع فيهنّ أهل السوء والفساد، وإليك نصّ كلامه كما في «البحر المحيط» : «والظاهر أن قوله تعالى: {وَنِسَآءِ المؤمنين} يشمل الحرائر والإماء، والفتنةُ بالإماء أكثر لكثرة تصرفهنّ بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهنّ من عموم النساء إلى دليل واضح. وقوله: {أدنى أَن يُعْرَفْنَ} أي يعرفن لتسترهنّ بالعفة فلا يُتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن، لأنّ المرأة إذا كانت في غاية التستّر بالعفة فلا يُتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن، لأنّ المرأة إذا كانت في غاية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 التستّر والانضمام لم يقدم عليها، بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها» . وهو رأي تبدو عليه مخايل الجودة، والدقة في الاستنباط. وما اختاره (أبو حيان) هو الذي نختاره لأنه يحقّق غرض الإسلام في التستّر والصيانة والله أعلم. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يجب الحجاب على جميع النساء؟ يدل ظاهر الآية الكريمة على أنّ الحجاب مفروض على جميع المؤمنات (المكلفات شرعاً) وهنّ: (المسلمات، الحرائر، البالغات) لقوله تعالى: {ياأيها النبي قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين ... } الآية. فلا يجب الحجاب على الكافرة لأنها لا تكلّف بفروع الإسلام، وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون، ولأنّ (الحجاب) عبادة لما فيه من امتثال أمر الله عزّ وجلّ، فهو بالنسبة للمسلمة كفريضة الصلاة والصيام، فإذا تركته المسلمة جحوداً فهي (كافرة) مرتدة عن الإسلام، وإذا تركته - تقليداً للمجتمع الفاسد - مع اعتقادها بفرضيته فهي (عاصية) مخالفة لتعاليم القرآن {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية} [الأحزاب: 33] . وغير المسلمة - وإن لم تُؤمر بالحجاب - لكنّها لا تُترك تفسد في المجتمع، وتتعرّى أمام الرجل، وتخرج بهذه الميوعة والانحلال الذي نراه في زماننا، فإنّ هناك (آداباً اجتماعية) يجب أن تُراعى، وتطبّق على الجميع، وتستوي فيها المسلمة وغير المسلمة حماية للمجتمع، وذلك من السياسات الشرعية التي تجب على الحاكم المسلم. وأمّا الإماء فقد عرفتَ ما فيه من أقوال للعلماء، وقد ترجّح لديك رأي العلاّمة (أبي حيّان) : في أنّ الأمر بالستر عام يشمل الحرائر والإماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وهذا ما يتفق مع روح الشريعة في صيانة الأغراض، وحماية المجتمع، من التفسخ والانحلال الخلقي، وأمّا البلوغ فهو شرط التكليف كما تقدم. أقول: يطلب من المسلم أن يعوّد بناته منذ سنّ العاشرة على ارتداء الحجاب الشرعي حتى لا يصعب عليهن بعدُ ارتداؤه، وإن لم يكن الأمر على وجه (التكليف) وإنما هو على وجه (التأديب) قياساً على أمر الصلاة (مُروا أولادكم بالصلاة وهم أنباء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) . الحكم الثاني: ما هي كيفية الحجاب؟ أمر الله المؤمنات بالحجاب وارتداء الجلباب صيانة لهنّ وحفظاً، وقد اختلف أهل التأويل في كيفية هذا التستر على أقوال: أ - فأخرج ابن جرير الطبري عن ابن سيرين أنه قال: (سألتُ عَبيدةَ السّلماني) عن هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} فرفع مِلْحفة كانت عليه فتقنّع بها، وغطّى رأسه كلّه حتى بلغ الحاجبين، وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شقّ وجهه الأيسر. ب - وروى ابن جرير وأبو حيّان عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: (تلوي الجلباب فوق الجبين، وتشدّه ثمّ تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنّه يستر الصدر ومعظم الوجه) . ج - وروي عن السّدي في كيفيته أنه قال: (تغطّي إحدى عينيها وجبهتها، والشقّ الآخر إلا العين) . قال أبو حيّان: «وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلاّعينها الواحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 د - وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت:» لما نزل هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغُربان من أكسية سودٍ يلبسنها «. الحكم الثالث: هل يجب على المرأة ستر وجهها؟ تقدّم معنا في سورة النور أنّ المرأة منهية عن إبداء زينتها إلا للمحارم {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ} [النور: 31] الآية ولمّا كان الوجه أصل الزينة، ومصدر الجمال والفتنة، لذلك كان ستره ضرورياً عن الأجانب، والذين قالوا إن الوجه ليس بعورة اشترطوا ألاّ يكون عليه شيء من الزينة كالأصباغ والمساحيق التي توضع عادة للتجمّل، وبشرط أمن الفتنة، فإذا لم تؤمن الفتنة فيحرم كشفه. وممّا لا شك فيه أن الفتنة في هذا الزمان غير مأمونة، لذا نرى وجوب ستر الوجه حفاظاً على كرامة المسلمة، وقد ذكرنا بعض الحجج الشرعية على وجوب ستره في بحث (بدعة كشف الوجه) من سورة النور، ونزيد هنا بعض أقوال المفسّرين في وجوب ستر الوجه. طائفة من أقوال المفسّرين في وجوب ستر الوجه أولاً: قال ابن الجوزي في قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} أي يغطين رؤوسهنّ ووجوههنّ ليعلم أنهن حرائر، والمراد بالجلابيب: الأردية قاله ابن قتيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 ثانياً: وقال أبو حيّان في «البحر المحيط» : وقوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} شامل لجميع أجسادهن، أو المراد بقوله {عَلَيْهِنَّ} أي على وجوههنّ، لأنّ الذي كان يبدوا منهنّ في الجاهلية هو الوجه. ثالثاً: وقال أبو السعود: الجلباب: ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها، ومعنى الآية: أي يغطين بها وجوههنّ وأبدانهنّ إذا برزن لداعية من الدواعي. وعن السّدي: تغطّي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين. رابعاً: وقال أبو بكر الرازي: وفي هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} دلالة على أنّ المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبييين. وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع فيهن أهل الريب. خامساً: وفي «تفسير الجلالين» : الجلابيب جمع جلباب، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب إلاّ عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر. سادساً: وفي «تفسير الطبري» : عن ابن سيرين أنه قال: «سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} فرفع ملحفة كانت عليه فتقنّع بها وغطّى رأسه كله حتى الحاجبين، وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» وقد تقدّم الحديث سابقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 فهذا وأمثاله كثير من أقوال مشاهير المفسّرين، يدل دلالة واضحة على وجوب ستر الوجه وعدم كشفه أمام الأجانب، اللهم إلاّ إذا كان الرجل خاطباً، أو كانت المرأة في حالة إحرام بالحج، فإنه وقت عبادة والفتنة مأمونة، فلا يقاس على هذه الحالة كما يفعل بعض الجهلة اليوم، حيث يقولون: إذا جاز لها أن تكشف عن وجهها في حالة الإحرام فمعناه أنه يجوز لها أن تكشف في غيره من الأوقات لأن الوجه ليس بعورة، فهذا كلام من لم يفقه شريعة الإسلام. ومن درس حياة السلف الصالح، وما كان عليه النساء الفضليات - نساء الصحابة والتابعين - وما كان عليه المجتمع الإسلامي في عصره الذهبي من التستر، والتحفظ، والصيانة عرف خطأ هذا الفريق من الناس، الذين يزعمون أن الوجه لا يجب ستره بل يجب كشفه، ويدعون المرأة المسلمة أن تسفر عن وجهها بحجة أنه ليس بعورة، لأجل أن يتخلصوا من الإثم - بزعمهم - في كتم العلم، وما دروا أنها مكيدة دبّرها لهم أعداء الدين، وفتنة من أجل التدرج بالمرأة المسلمة إلى التخلص من الحجاب الشرعي، الذي عمل له الأعداء زمناً طويلاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. الحكم الرابع: ما هي شروط الحجاب الشرعي؟ يشترط في الحجاب الشرعي بعض الشروط الضرورية وهي كالآتي: أولاً: أن يكون الحجاب ساتراً لجميع البدن لقوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} . وقد عرفت معنى (الجلباب) وهو الثوب السابغ الذي يستر البدن كله، ومعنى (الإدناء) وهو الإرخاء والسدل فيكون الحجاب الشرعي ما ستر جميع البدن. ثانياً: أن يكون كثيفاً غير رقيق، لأنّ الغرض من الحجاب السترُ، فإذا لم يكن ساتراً لا يسمّى حجاباً لأنه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر، وفي حديث عائشة أنّ (أسماء بنت أبي بكر) دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ... الحديث. ثالثاً: ألاّ يكون زينة في نفسه، أو مبهرجاً ذا ألوان جذابه يلفت الأنظار لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] الآية ومعنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي بدون قصد ولا تعمد، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه، ولا يسمى (حجاباً) لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب. رابعاً: أن يكون فضفاضاً غير ضيّق، لا يشفّ عن البدنن ولا يجسّم العورة، ولا يظهر أماكن الفتنة في الجسم، وفي «صحيح مسلم» عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» . وفي رواية أخرى: وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام. «رواه مسلم» . ومعنى قوله عليه السلام: «كاسيات عاريات» أي كاسيات في الصورة عاريات في الحقيقة، لأنهنّ يلبسن ملابس لا تستر جسداً، ولا تخفي عورة، والغرض من اللباس السترُ، فإذا لم يستر اللباس كان صاحبه عارياً. ومعنى قوله: «مميلات مائلات» أي مميلات لقلوب الرجال مائلات في مشيتهن، يتبخترن بقصد الفتنة والإغراء، ومعنى قوله: «كأسنمة البخت» أي يصفّفن شعورهن فوق رؤوسن، حتى تصبح مثل سنام الجمل، وهذا من معجزاته عليه السلام. خامساً: ألاّ يكون الثوب معطّراً فيه إثارة للرجال لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «كلّ عينٍ نظرت زانية، وإنّ المرأة استعطرت فمرّت بالمجلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 فهي كذا وكذا يعني زانية» . وفي رواية (أن المرأة استعطرت فمرّت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية) . وعن موسى بن يسار قال: «مرّت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيّبتِ؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: لا يقبل الله من امرأة صلاة، خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع وتغتسل» . سادساً: ألاّ يكون الثوب فيه تشبه بالرجال، أو ممّا يلبسه الرجال لحديث أبي هريرة: (لعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرجل يلبس لبسة الرجل) . وفي الحديث «لعن الله المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء» أي المتشبهات بالرجال في أزيائهن وأشكالهنّ كبعض نساء هذا الزمان نسأله تعالى السلامة والحفظ. ما ترشد إليه الآيات الكريمة 1 - الحجاب مفروض على جميع نساء المؤمنين وهو واجب شرعي محتّم. 2 - بنات الرسول ونساؤه الطاهرات هنّ الأسوة والقدوة لسائر النساء. 3 - الجلباب الشرعي يجب أن يكون ساتراً للزينة والثياب ولجميع البدن. 4 - الحجاب لم يفرض على المسلمة تضييقاً عليها، وإنّما بشريفاً لها وتكريماً. 5 - في ارتداء الحجاب الشرعي صيانة للمرأة، وحماية للمجتمع من ظهور الفساد، وانتشار الفاحشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 6 - على المسلمة أن تتمسّك بأوامر الله، وتتأدب بالآداب الاجتماعية التي فرضها الإسلام. 7 - الله رحيم بعباده يشرع لهم من الأحكام ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدارين. حكمة التشريع قد يظن بعض الجهلة أن الحجاب لم يفرضه الإسلام على المرأة المسلمة وأنه من العادات والتقاليد التي ظهرت في العصر العباسي، وهذا الظن ليس له نصيب من الصحة وهو إن دل فإنما يدل على أحد أمرين: أ - أما الجهل الفاضح بالإسلام وبكتاب الله المبين. ب - وإما الغرض الدفين في قلوب أولئك المتحللين. وأحب أن أكشف الستار لتوضيح الحقيقة حتى لا يلتبس الحق بالباطل ولا يختلط الخبيث بالطيب، وحتى يظهر الصبح لذي عينين. فما أكثر هؤلاء المضلين في هذا الزمان الذين يزعمون أنهم أرباب المدنية ودعاة التقدمية!! وما أشد خطرهم على الأخلاق والمجتمع لأنهم يفسدون باسم الإصلاح ويهدمون باسم البناء، ويدجلون باسم الثقافة والعلم، ويزعمون أنهم مصلحون. النصوص الواردة في الحجاب 1 - يقول الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33] الآية. 2 - ويقول جلّ شأنه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] الآية. 3 - ويقول سبحانه مخاطباً نبيه العظيم: {ياأيها النبي قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} الآية. 4 - ويقول سبحانه أيضاً: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية. فمن هذه النصوص الكريمة نعلم أن الحجاب مفروض على المرأة المسلمة بنصوص في كتاب الله قطعية الدلالة، وليس كما يزعم المتحلّلون أنه من العادات والتقاليد التي أوجبها العصر العباسي ... الخ فإن حبل الكذب قصير. ومن خلال هذه الآيات الكريمة نلمح أن الإسلام إنما قصد من وراء فرض الحجاب أن يقطع طرق الشبهات ونزغات الشيطان أن تطوف بقلوب الرجال والنساء وفي ذلك يقول الله سبحانه: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] وهدفه الأول إنما هو صون «الشرف» والمحافظة على «العفة والكرامة» ولا ننسى أن هناك كثيراً من ضعفاء القلوب ومرضى الضمائر يتربصون بالمرأة السوء ليهتكوا عنها ستر الفضيلة والعفاف. ولا يشك عاقل أن تهتك النساء وخلاعتهن هو الذي أحدث ما يسمونه «أزمة الزواج» ذلك لأن كثيراً من الشباب قد أحجموا عن الزواج لأنهم أصبحوا يجدون الطريق معبَّداً لإشباع غرائزهم من غير تعب ولا نصب، فهم في غنى عن الزواج، وهذا بلا شك يعرَّض البلاد إلى الخراب والدمار، وينذر بكارثه لا تبقي ولا تذر، وليس انتشار الخيانات الزوجية وخراب البيوت إلا أثراً من آثار هذا التبرج الذميم. يقول (سيّد سابق) في كتابه «فقه السُنّة» : «إنّ أهم ما يتميّز به الإنسان عن الحيوان اتخاذُ الملابس، وأدوات الزينة، يقول الله تعالى: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 والملابسُ والزينةُ هما مظهران من مظاهر المدنيّة والحضارة، والتجرّدُ عنهما إنما هو ردّة إلى الحيوانية، وعودة إلى الحياة البدائية، وإنّ أعزّ ما تملكه المرأة الشرفُ، والحياءُ، والعفافُ، والمحافظةُ على هذه الفضائل محافظةٌ على إنسانية المرأة في أسمى صورها، وليس من صالح المرأة، ولا من صالح المجتمع أن تتخلى المرأة عن الصيانة والاحتشام، ولا سيّما وأن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز، وأشدّها على الإطلاق» . امنعوا الاختلاط ... وقيّدوا حرية المرأة وتحت هذا العنوان نشرت صحيفة (الجمهورية) بالقاهرة مقالاً لصحفية أمريكية تدعى (هيلسيان ستانسبري) قالت هذه الكاتبة الأمريكية بعد أن مكثت شهراً في الجمهورية العربية ما نصه: «إنّ المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيّد الفتاة والشاب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي، فعندكم تقاليد موروثه تحتّم تقييد المرأة وتحتّم احترام الأب والأم، وتحتّم أكثر من ذلك عدم» الإباحيّة الغربية «التي تهدّد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا. إن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة صالحة ونافعة، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيّدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا. امنعوا الاختلاط فقد عانينا منه في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً، مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإنَّ ضحايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 الاختلاط والحرية قبل سنّ العشرين، يملأون السجون والأرصفة، والبارات والبيوت السرية؛ إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار، قد جعلت منهم عصابات أحداث، وعصابات (جميس دين) وعصابات للمخدّرات والرقيق. إن الاختلاط، والإباحية، والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي هدّد الأسر، وزلزل القيم والأخلاق، فالفتاة الصغيرة - تحت سن العشرين - في المجتمع الحديث، تخالط الشبان، وترقص، وتشرب الخمر، وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والحرية والإباحية ... وهي تلهو وتعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها، بل وتتحدى والديها، ومدرّسيها، والمشرفين عليها. . تتحدّاهم باسم الحرية والاختلاط، تتحداهم باسم الإباحية والانطلاق، تتزوّج في دقائق، وتطلّق بعد ساعات، ولا يكلّفها أكثر من إمضاء وعشرين قرشاً وعرّيس ليلة. أقول: هذا رأي الكاتبة الأمريكية والفضل ما شهدت به الأعداء. .! وصدق الله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى ... } [الأحزاب: 33] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 سورة سبأ [1] حكم التماثيل والصور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 التحليل اللفظي {فَضْلاً} : أي أمراً عظيماً فضّلناه به على غريه، والمراد به النبوة والزبور، وقيل: ما خصّه الله تعالى به على سائر الأنبياء من النعم كتسخير الجبال، والطير، وإلانة الحديد، وحسن الصوت، وغير ذلك من النعم. {أَوِّبِي مَعَهُ} : أي سبّحي معه، ورجّعي معه التسبيح قال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق} [ص: 18] . قال القرطبي: فكان إذا قرأ الزبور صوّتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. قال ابن قتيبة: وأصل التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً، فكأنه أراد: ادأبي النهار كله بالتسبيح معه إلى الليل. وقيل المعنى: سيري معه حيث شاء، من التأويب وهو السير، قال ابن مقبل: لحقنا بحّيٍ أوّبوا السّيْر بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح {سابغات} : أي دروعاً واسعات، فذكر الصفةَ لأنها تدل على الموصوف، والسابغات: الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى تفضل عنه فيجرّها على الأرض. قال أبو حيّان: السابغات: الدروع، وأصله الوصف بالسبوغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وهو التمام والكمال، وغلب على الدروع فصار كالأبطح قال الشاعر: عليها أسودٌ ضارباتٌ لبَوسُهم ... سوابغُ بيضٌ لا يخرّقُها النبلُ وقال القرطبي: أي كوامل تامات واسعة، يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطّى كل ما هو عليه وفضل منه. {وَقَدِّرْ فِي السرد} : أي في النسج، والمراد: اجعله على قدر الحاجة، لا تجعل حِلَق الدرع صغيرة فتنفصم الحَلْقة، ولا واسعة فلا تقي صاحبها السهم والرمح. قال قتادة: كانت الدروع قبل داود صفائح فكانت ثقالاً، فأُمر بأن يجمع بين الخفّة والحصانة، ويقال لصانع الدروع سرّاد، وزرّاد بإبدال السين بالزاي، والسّرْد: إتباع الشيء بالشيء من جنسه قال الشمّاخ: فظلّت تِباعاً خيلُنا في بيوتكم ... كما تابعت سرْدَ العِنَان الخوارز والسُّراد: السّير الذي يخرز به النعل. قال القرطبي: وأصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلَقها وِلاءً غير مختلف قال لبيد: صنع الحديدَ مضاعفاً أسرادُه ... لينال طولَ العيش غير مروم {عَيْنَ القطر} : قال الزجاج: القِطر الصُّفْر وهو النحاس: أذيب لسليمان وكان قبل سليمان لا يذوب لأحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 قال المفسّرون: أجرى الله لسليمان عين الصُّفْر، حتى صنع منها ما أراد من غير نار، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم مما أعطي سليمان. قال القرطبي: «وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدري ما حدّه، ولعله وَهَم من الناقل، والظاهر أنه جُعل النحاس لسليمان في معدنه عيناً تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته» . {يَزِغْ} : أي يعدل عن أمرنا به من طاعة سليمان، يقال: زاغ أي مالَ وانصرف. {محاريب} : أي قصور عظيمة، ومساكن حصينة، قال القرطبي: المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع، وقيل للذي يُصلّى فيه: محراب، لأنه يجب أن يرفع ويعظّم، قال الشاعر: جمع الشجاعة والخضوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب وروي عن أبي عبيدة أنه قال: المحراب أشرف بيوت الدار، وأنشد عدّي بن زيد: كدُمَى العاج في المحاريب أوكالْ ... بيْض في الرّوض زهرة مستينر وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة، قال تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21] . وقيل المراد بالمحاريب: المساجد، ونقل عن قتادة: أنها المساجد والقصور الشامخة. وسمي القصر بالمحراب لأنه يحارب من أجله، ومما يرجح هذا الرأي أن الله تعالى ذكر أنها من عمل الجن، ولعلّ عمل القصور الضخمة الشامخة كان مما يستعصي على الناس في ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الزمن لجهلهم بفن العمارة، فكانت الجن مسخّرة لسليمان لتعمل له تلك الأعمال التي يعجز عنها البشر. {وتماثيل} : جمع تمثال وهو في اللغة: الصورة، ومثّل الشيء: صوَّره حتى كأنه ينظر إليه، قال في اللسان: ومثّل الشيء بالشيء، سوّاه وشبّهه به، وجعله مثله وعلى مثاله، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله، وأصله من مثَّلْت الشيء بالشيء: إذا قدرته على قدره، ومثال الشيء ما يماثله ويحكيه، ولم يرد في القرآن هذا الوزن (تِفْعال) إلا في لفظين: (تِلْقاء، وتِبْيان) . وقال القرطبي: «التمثال: كل ما صوّر على مثل صورة من حيوان، أو غير حيوان» . {وَجِفَانٍ} : جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة قال الشاعر: وإذا هاجت شمالاً أطعموا ... في قدورٍ مشبعات لم تُجَع وجفانٍ كالجوابي مُلئت ... من سمينات الذّرى فيها تَرَع وقال الآخر: ثقال الجفون والحلوم رحاهم ... رحا الماء يكتالون كيلاً عذمذماً قال أبو عبيدة: كان لعبد اله بن جدعان جفنة يأكل منها القائم والراكب، وذكر المدائني أنه وقع فيها صبي فغرق. {كالجواب} : جمع جابية، وهي الحوض الكبير يُجبى فيه الماء، أي يجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 قال الأعشى: نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقيّ تَفْهَقُ قال المفسرون: كان الجن يصنعون لسليمان القصاع كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. {راسيات} : أي ثوابت، يقال: رسا الشيء يرسو: إذا ثبت، والمراد أنها لعظمها لا تنقل فهي ثابتة في أماكنها، ومنه قيل للجبال: رواسي، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27] . قال ابن العربي: «راسيات: أي ثوابت لا تُحمل ولا تُحرّك لعظمها، وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان، يُصعد إليها في الجاهلية بسُلم، وعنها عبّر (طرفة بن العبد) بقوله: كالجوابي لا تَني مُتْرعةً ... لِقرى الأضياف أو للمحتَضر وقال ابن الجوزي: وفي علة ثبوتها في مكانها قولان: أحدهما أن أثافيّها منها قال ابن عباس، والثاني: أنها لا تنزل لعظمها، قاله ابن قتيبة. الأثافي (جمع الأثفية) : ما توضع عليها القدر من حجارة وغيرها. {دَابَّةُ الأَرْضِ} : هي حشرة تسمّى (الأرَضَة) تأكل الخشب وتنخره. {مِنسَأَتَهُ} : المنسأة: العصا، وهي (مِفْعَلة) من نسأتُ الدابة: إذا سقتَها. قال الشاعر: ضربنا بمنسأة وجهَه ... فصار بذاكَ مهيناً ذليلا قال الزجّاج: وإنّما سميت منسأة لأنه يُنْسأ بها: أي يُطْرد ويُزجر، وقال الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون (المنسأة) وتميم وفصحاء قيس يهمزونها، قال الشاعر في ترك الهمزة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 إذا دببتَ على المِنْساة من كِبَر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل وقال آخر مع الهمز والفتح: أمن أجل حَبْل لا أبَاكَ ضربتَه ... بمنسَأةٍ قد جرّ حبلُك أحْبُلا وقال أبو عمرو: وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقاً، فإن كانت لا تهمز فقد احتطت، وإن كانت تهمز فيجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز. {خَرَّ} : سقط على الأرض أي سقط ميتاً. {العذاب المهين} : المراد به التكاليف والأعمال الشاقة التي كلّف سليمان عليه السلام بها الجن. قال المفسرون: كانت الإنس تقول: إن الجن يعلمون الغيب، الذي يكون في المستقبل، فوقف سليمان عليه السلام في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه، فمات ومكث على ذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته، حتى أكلت الأرَضة عصا سليمان، فسقط على الأرض فعلموا موته، وعلم الإنس أن الجنّ لا تعلم الغيب، ولو علموا الغيب لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 المعنى الإجمالي يخبر المولى تعالى بما أنعم على عبده ورسوله (داود) عليه السلام، من الفضل المبين، والجاه العظيم، حيث جمع له بين (النبوة والملك) والجنود ذوي العَدَد والعُدَد، وما منحه إياه من الصوت الرخيم، الذي كان إذا سبّح به تسبّح معه الجبال الراسيات، وإذا قرأ الزبور تقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات، تكفّ عن طيرانها ثم تردّد معه الزبور مع التسبيح والتمجيد معجزة له عليه السلام، وقد ألان الله تعالى له الحديد، حتى كان بين يديه كالعجين يصنع منه الدروع السابغة، التي تقي الإنسان شر الحروب، كما قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] . وكما أنعم الله على (داود) أنعم على ولده (سليمان) عليهما الصلاة والسلام، فسخّر له الريح، وسخَّر الجن، وعلّمه لغة الطير، وأسال له عين النحاس فكانت عيناً جارية تسيل بقدرة الله، وكانت الريح تقطع به المسافات الشاسعة الواسعة، في ساعات معدودات، تحمله مع جنده فتنتقل به من بلد إلى بلد،، وتسير به مسيرة شهرين في أقل من نهار واحد {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي تغدو به مسيرة شهر إلى نصف النهار، وترجع به مسيرة شهر آخر النهار، وكأنها (طائرة نفاثة) تحمل ذلك الجيش العرمرم وتنتقل به في ساعات محدودات، تقطع به مسيرة شهرين. كما سخّر له الجن تعمل بأمره وإرادته، ما يعجر عنه البشر، من القصور الشامخة، والتماثيل العجيبة والقصاع الضخمة التي تشبه الأحواض، والقدور الراسيات التي لا تتحرك لكبرها وضخامتها، وأمره أن يشكر الله على هذه النعم. ثمّ أخبر تعالى عن كيفية موت سليمان عليه السلام، وكيف عمّى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 موته على الجانّ المسخّرين له في الأعمال الشاقة، فإن مكث متوكئاً على عصاه نحو سنة وهو ميت، والجن لا تعلم ذلك حتى أكلت الأرَضة العصا فكُسرت وسقط على الأرض فعلموا حينئذٍ موته، ولو كانوا يعلمون الغيب ما مكثوا هذه المدة الطويلة مسخرين في الأعمال الشاقة التي كلفهم بها سليمان عليه السلام. وجه المناسبة لما سبق من الآيات مناسبة قصة (داود) وولده (سليمان) عليهما السلام لما سبق من الآيات الكريمة هي: أن الكفار لما أنكروا البعث والنشور لاستحالته في نظرهم، أخبرهم الله عزّ وجل بوقوع ما هو مستحيل في العادة، مما لا يمكنهم إنكاره من تأويب الجبال والطير، وإلانة الحديد لداود حتى كان بين يديه كالشمع أو كالعجين مع أنه جرم صلب، وكذلك تسخير الريح لسليمان تحمله مع جنده، وإسالة النحاس له حتى كان يجري بقدرة الله كجري الماء، وتسخير الجن تعمل له ما شاء من الأعمال الشاقة ممّا ليس في طاقة البشر، وكل هذا أثر من آثار قدرة الله عزّو وجلّ، فلا استحالة إذاً لأنّ الله على كل شيء قدير، وهذه هي وجه المناسبة بين هذه الآيات الكريمة والآيات السابقة، والله أعلم. وجوه القراءات أولاً: قرأ الجمهور {أوّبي} بالتشديد من التأويب أي رجّعي معه التسبيح، وقرأ بعضهم {أُوبي} بضم الهمزة وتخفيف الواو، من الأوب، أي عودي معه في التسبيح كلّما عاد. قال أبو السعود: «كان كلّما سبّح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يسمع من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 الجبال ما يسمع من المسبّح معجزة له» . ثانياً: قرأ الجمهور {والطّيرَ} بالنصب، وقرأ أبو العالية، وابن أبي عبلة {والطيرُ} بالرفع، فأمّا قراءة النصب فهي عطف على قوله (فضلاً) أي وسخرنا له الطيرَ، وأما قراءة الرفع فله وجهان: الأول: أن يكون عطفاً على الجبال، والمعنى: يا جبال رجّعي التسبيح معه أنتِ والطيرُ، والثاني: أن يكون على النداء، والمعنى: يا جبالُ ويا أيّها الطيرُ سبّحي معه. ثالثاً: قوله تعالى: {أَنِ اعمل سابغات} قراءة الجمهور بالسين، وقرئ بالصاد {صابغات} مثل: (سوط و (صوط) ، و (مسيطر) و (مسيطر) تبدل من الصاد السين. رابعاً: قوله تعالى: {ولسليمان الريح} قرأ الجمهور بنصب الريح على معنى: وسخرنا لسليمان الريحَ، وقرأ المفضّل عن عاصم (الريحُ) بالرفع على معنى: لسليمان الريحُ مسخرةٌ، وقرأ أبو جعفر {الرياحُ} على الجمع. خامساً: قوله تعالى: {وَمَن يَزِغْ} قرأ الجمهور بالبناء للفاعل {يَزغْ} وقرئ بالبناء للمفعول {يُزَغ} من أزاغ الرباعي. سادساً: قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كالجواب} قرأ الجمهور {كالجواب} بدون ياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {كالجوابي} بياء، إلاّ أنَّ ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمروا يثبتها في الوصل دون الوقف. قال الزجّاج: «وأكثر القراء على الوقف بدون ياء، وكان الأصل الوقف بالياء، إلاّ أن الكسرة تنوب عنها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 سابعاً: قوله تعالى: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} قرأ لجمهور بالهمز {منسأته} وقرأ نافع وأبو عمرو {منساته} من غير همز وهي لغة أهل الحجاز. ثامناً: قوله تعالى: {تَبَيَّنَتِ الجن} قرأ الجمهور بالبناء للفاعل، وقرأ يعقوب {تُبُيّنت} بالبناء للمفعول. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} آتى: تنصب مفعولين لأنها بمعنى أعطى، و {دَاوُودَ} مفعول أول، و {فَضْلاً} مفعول ثان، و {مِنَّا} الجار والمجرور متعلق بمحذوف متعلق بمحذوف صفة ل {فَضْلاً} أي فضلاً كائناً منا. ثانياً: قوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سابغات} قال أبو البركات ابن الأنباري: (أنْ) فها وجهان: أحدهما: أن تكون مفسِّرة بمعنى أي، ولا موضع لها من الإعراب. والثاني: أن تكون في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: لأن تعمل، أي ألنّا له الحديد لهذا الأمر، و {سابغات} أي دروعاً سابغات فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامة. ثالثاً: قوله تعالى: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} أي بعضهم لأنّ {مِنَ} للتبعيض. والجار والمجرور {مِنَ الجن} في محل رفع خبر مقدم، و {مَن يَعْمَلُ} الجملة في محل رفع مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومن الجن عمّال مسخرون له، وجوّز النحاة أن يكون قوله: {مَن يَعْمَلُ} في موضع نصب بفعل محذوف مقدر، والتقدير: سخّرنا من الجنّ من يعمل بين يديه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 أقول: وفيه تكلف والوجه الأول أوضح. رابعاً: قوله تعالى: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} {مَن} : شرطية في موضع رفع على الابتداء، و {نُذِقْهُ} جواب الشرط والجملة في محل رفع خبر المبتدأ. خامساً: قوله تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} . . {شُكْراً} منصوب لأنه مفعول له أي أعملوا من أجل شكر الله، ويحوز أن تكون حالاً أي اعملوا شاكرين لله. أقول: وهذا أرجح، قال ابن مالك: ومصدرٌ منكرٌ حالاً يقع ... بكثرة كبغتةً زيد طلع وجوّز بعض النحاة: أن تكون مفعولاً به أي أعملوا الشكر، وردّ ابن الأنباري هذا الوجه فقال: «ولا يكون منصوباً ب (اعملوا) لأن (اشكروا) أفصح من (اعملوا الشكر) اهـ، وهذا القول وجيه فتدبره. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: خصّ الله تعالى نبيه (داود) عليه السلام ببعض الخصوصيات فسخّر له الجبال والطير تسبح معه، وألان له الحديد، وجمع له بين (النبوة والملك) كما جمع ذلك لولده (سليمان) عليه السلام، وذلك من الفضل الذي أعطيه آل داود. قال ابن عباس: كانت الطير تسبّح مع داود إذا سبّح، وكان إذ قرأ لم تبق دابة إلاّ استمعت لقراءته، وبكت لبكائه. وقال وهب بن منبّه: كان يقول للجبال: سبّحي، وللطير: أجيبي ثمّ يأخذ ف تلاوة الزبور بصوته الحسن، فلا يرى الناسُ منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 اللطيفة الثانية: التنكير في قوله تعالى: {فَضْلاً} للتفخيم أي فضلاً عظيماً خصصناه به من بين سائر الأنبياء، وقوله: {مِنَّا} فيه إشارة إلى أن هذا الفضل هائل، لأنه صادر من الله تعالى مباشرةً تكريماً لنبيه داود، كما قال تعالى عن العبد الصالح: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] . قال أبو السعود: وتقديم داود على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم، والتشويق إلى المؤخر، فإنّ ما حقه التقديم إذا أُخّر، تبقى النفس مترقبة له، فإذا ورد يتمكن عندها فَضْل تمكن. اللطيفة الثالثة: ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة، ولم يجئ ذكره لتوفيه قصة بتمامها، وإنما هو لتعداد آلاء الله على سليمان، فمنها ذكاؤه وبصره النافذ في الحكم والقضاء {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} [الأنبياء: 78 - 79] إلى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78 - 79] ومنها تعليمه منطق الطير {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} [النمل: 16] ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب، وفي القرآن إشارة إلى عملية صهر المعادن الصلبة {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} ومنها تسخير الجن يعملون له ما يعجز عنه البشر {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 37] وقوله: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} وقد أعطاه الله الجاه الكبير، والسلطان الواسع، والملك العظيم الذي لم يُعطَه أحد بعده {قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي} [ص: 35] . وكلّ هذا من الفضل الذي خصّ الله تبارك وتعالى به آل داود عليه السلام. اللطيفة الرابعة: قال العلامة أبو السعود رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله تعالى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير} . «في تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المخاطبين، المطيعين لأمره تعالى، المذعنين لحكمه، المشعر بأنه ما من حيوان وجماد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وصامت وناطق، إلاّ وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته، من الفخامة المعربة عن غاية عظمة شأنه تعالى، وكمال كبرياء سلطانه ما لا يخفى على أولى الألباب» . اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} فيه إيجاز بالحذف أي مسيرة شهر فهو على حذف مضاف والتقدير: غدوّها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر، وإنما وجب هذا التقدير لأنّ الغدوّ والرواح ليسا بالشهر، وإنما يكونان فيه، فتنبه له فإنه دقيق. قال قتادة: «كانت الريح تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين» . اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} الآية فإن قيل: إن الاجماع بالجن فيه مفسدة للإنسان ولهذا قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98] فكيف سخّرت الشياطين لسليمان عليه السلام؟ فالجواب: أن ذلك الاجتماع والتسخير كان بأمر الله عَزَّ وَجَلَّ وتسخيره بدليل قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} فلم يكن فيه مفسدة وإنما كان فيه مصلحة لسليمان عليه السلام، ولفظ الرب ينبئ عن التربية والحفظ والرعاية، فسليمان عليه السلام كان في حفظ الله ورعايته، فلذلك لم يصله ضرر من جهتهم. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} في الآية الكريمة إشارة دقيقة إلى أنّ الجن الذين كانوا مسخّرين لسليمان، لم يكونوا من المؤمنين وإنما كانوا من المردة الكافرين، لأنّ سليمان لا يعذِّب المؤمنين ولا يذيقهم أنواع العذاب، لأن كلّ رسول يكون رحيماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 بأتباعه. ودلّ على هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: {مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين. اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} فيه إشارة إلى أن الشكر الوافر الكامل، بالقلب واللسان والجوارح لا يمكن أن يتحقق، لأن التوفيق لشكر الله تعالى نعمة من الله تستدعي شكراً آخر، لا إلى نهاية، ولذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه و {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . ومع ذلك فإن الشكر بقدر الطاقة قليل في الناس، والكفرانَ لنعم الله أكثر ولا حول ولا قوة إلا بالله. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل كانت التماثيل مباحة في شريعة سليمان عليه السلام؟ يدل ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن محاريب وتماثيل} على حل اتخاذ التماثيل، وعلى أنها كانت مباحة في شريعة سليمان عليه السلام، فالقرآن الكريم صريح في امتنان الله تعالى على (سليمان) بأن سخّر له الجن لتعمل له ما يشاء من (محاريب، وتماثيل، وجفان كالجواب، وقدور راسيات) وتخصيصُ هذه الأشياء بالذكر في معرض الإمتنان دليل على جوازها، وإذنٌ من الله تعالى باتخاذها، وللعلماء في هذه الآية الكريمة أقوال - نجملها فيما يلي: أ - إن التماثيل الي أشار إليها القرآن كانت مباحة في شريعة سليمان، وقد نسخت في الشريعة الإسلامية، ومن المعلوم أن شريعة من قبلنا إنما تكون شريعة لنا إذا لم يرد ناسخ، وقد وجد هذا الناسخ فيكون اتخاذ التماثيل محرماً في شريعتنا قطعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 ب - إن التماثيل التي كانت في عهد نبي الله سليمان عليه السلام، لم تكن تماثيل لذي روح من إنسان أو طير أو حيوان، وإنما كانت تماثيل لما لا روح له كالأشجار والبحار والمناظر الطبيعية، فتكون شريعته عليه السلام موافقة لشريعتنا كما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى. الحكم الثاني: ما هو حكم التماثيل والصور في الشريعة الإسلامية؟ نعى القرآن الكريم على التماثيل وشنذع على من كان يعكف عليها {مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وندّد بمن يتخذ الأصنام والأوثان آلاهة {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96] ؟ . وفي القرآن الكريم من قصص إبراهيم عليه السلام في تحطيم الأصنام ما هو معروف، وقد ورد أنّ رسولنا الأعظم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حطّم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة، والتي كانت على الصفا والمروة. والدين الإسلامي دين التوحيد، وعدوّ الشرك، وليس في الإسلام ذنب أعظم من الشرك، ولذلك فقد كانت حملته شديدة على الوثنية وعبادة الأصنام، وحرّمت الشريعة الإسلامية (التماثيل) لأنها تؤدي إلى ذلك المنكر الفاحش. والسنَّةُ المطهّرة جاءت بالنعي على التصوير والمصورين، والنهي عن اتخاذ الصور والتنفير منها، ولذلك فإنّ من المقطوع به أن الإسلام حرّم التماثيل والتصاوير تحريماً قاطعاً جازماً. وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على التحريم، حتى كادت تبلغ حد التواتر، وسنعرض إلى ذكر بعض هذه النصوص فنقول ومن الله نستمد العون. الأدلة القاطعة على تحريم التصوير النص الأول: روى البخاري ومسلم عن عائشة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله» . النص الثاني: روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن اصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيو ما خلقتم» . النص الثالث: روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي زُرعة قال: دخلتُ مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم، فرأى فيها تصاوير وهي تُبنى، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: قال الله عزّ وجلّ: «ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرّة، أو فليخلقوا حبة، أو فليخلقوا شعيرة» . النص الرابع: روى البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أن رجلاً قال له: إني أصوّر هذه الصور فأفْتني فيها، فقال له: ادن مني فدنا، ثم قال: ادن مني فدنا، حتى وضع يده على رأسه وقال: إنبئك بما سمعت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، سمعته يقول: «كلّ مصوّر في النار، يُجعل له بكل صورة صوّرها نفس فيعذبه في جهنم» . قال ابن عباس: (فإن كنت لا بدّ فاعلاً فصوّر الشجر، وما لا روح فيه) . وفي رواية أخرى عنه: سمعته يقول: «من صوّر صورة فإنّ الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبداً» ثم قال له ابن عباس: (إن أبيت إلاّ أن تصنع، فعليك بهذه الشجر، كل شيء ليس فيه روح) . النص الخامس: روى الشيخان وأصحاب السنن عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قام على الباب فلم يدخل، قالت: فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت يا رسول الله: أتوب إلى الله ورسوله ماذا أذنبت؟ فقال: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسّدها، فقال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 يوم القيامة، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة. النص السادس: روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألاّ تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته» . النص السابع: (روى الستة عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزاة فأخذت نمطاً فسترته على الباب، فلما قدم ورأى النمط عرفت الكراهة في وجهه، فجذبه حتى هتكه وقال: «إنّ الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين!!» قالت عائشة: فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفاً، فلم يعب ذلك عليّ) . النص الثامن: روى الشيخان والنسائي عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: لما اشتكى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر بعضُ نسائه كنيسةً يقال لها (مارية) وكانت أم سلمة، وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأسه فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجلُ الصالحُ، بنوا على قبره مسجداً، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرارُ خلق الله» «. أقول: هذه النصوص وأمثَالها كثير، تدل دلالة قاطعة على حرمة التصوير، وكلُ من درس الإسلام علِمَ عِلْمَ اليقين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرّم التصوير، واقتناء الصور وبيعها، وكان يحطّم ما يجده منها، وقد ورد تشديد الوعيد على المصوّرين، واتفق أئمة المذاهب على تحريم التصوير لم يخالف في ذلك أحد، ولبعض العلماء استثناء شيء منها، سنذكره فيما بعد، كما نذكر علة التحريم، ونعرّج بعد ذلك على حكم التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) وننقل آراء العلماء فيه على ضوء النصوص الكريمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 العلة في تحريم التصوير يظهر لنا من النصوص النبوية السابقة، أنّ العلة في تحريم التماثيل والصور، هي (المضاهاة) والمشابهة لخلق الله تعالى، يدل على ذلك: أ - حديث:» أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله «. ب - وحديث:» إن أصحاب هذه الصور يُعذّبون ... يقال لهم: أحيوا ما خلقتم «. ج - وحديث:» ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ... فليخلقوا حبة، أو فليخلقوا شعيرة «. فالعلة هي إذاً: التشبه بخلق الله، والمضاهاة لصنعه جل وعلا. كما أن الحكمة أيضاً في تحريم التصوير هي: البعد عن مظاهر الوثنية، وحماية العقيدة من الشرك، وعبادة الأصنام، فما دخلت الوثنيّة إلى الأمم الغابرة إلاّ عن طريق (الصور والتماثيل) كما دل عليه حديث أم سلمة وأم حبيبة السابق وفيه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، ثمّ صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار خلقِ الله يوم القيامة» . وقد روي أن الأصنام التي عبدها قوم نوح (وَدّ، وسُوَاغٌ، ويغُوثُ، ويعُوقُ، ونسْرُ) التي ذكرت في القرآن الكريم، كانت اسماءً لأناسٍ صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا اتخذ قومُهم لهم صوراً، تذكيراً بهم وبأعمالهم، ثمّ انتهى الحال آخر الأمر إلى عبادتهم. ذكر الثعلبي عن ابن عباس: في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] أنه قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 أنصاباً، وسموها بأسمائهم تذكروهم بها، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك، ونُسخ العلم عبدت من دون الله «. قال أبو بكر ابن العربي:» والذي أوجب النهي في شريعتنا - والله أعلم - ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصوّرون ويعبدون، فقطعَ اللَّهُ الذريعة، وحَمَى الباب «. قال ابن العربي:» وقد شاهدت بثغر الإسكندرية، إذا مات ميّت صوّروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته وكسوه بزيّه إن كان رجلاً، وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب واحداً منهم كرب أو تجدّد له مكروه، فتح الباب عليه وجلس عنده يبكي ويناجيه، حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه، ثمّ يغلق الباب عليه وينصرف، وإن تمادى بهم الزمان تَعْبدوها من جملة الأصنام «. أنواع الصور قسم العلماء الصّور إلى قسمين: أ - الصور التي لها ظل وهي المصنوعة من جبس، أو نحاسٍ، أو حجر أو غير ذلك وهذه (التماثيل) . ب - الصور التي ليس لها ظل، وهي المرسومة على الورق، أو المنقوشة على الجدار، أو المصوَّرة على البساط والوسادة ونحوها وتسمى (الصور) . فالتمثال: ما كان له ظل، والصورة: ما لم يكن لها ظل، فكل تمثال صورة، وليس كل صورة تمثالاً. قال في» لسان العرب «:» والتمثال: الصورة، والجمع التماثيل، وظلّ كل شيء تمثاله، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبّهاً بخلقٍ من خلق الله، وأصله: من مثّلت الشيء بالشيء إذا قدّرته على قدره، ويكون تمثيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 الشيء بالشيء تشبيهاً به، واسم ذلك الممثّل تمثال «. وقال القرطبي: قوله تعالى: {وتماثيل} جمع تمثال، وهو كلّ ما صُوّر على مثل صورة من حيوان، وقيل: كانت من زجاج، ونحاس، ورخام، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصوّر في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهاداً. فإن قيل: كيف استجاز الصور المنهيّ عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزاً في شرعه، ونسخ ذلك بشرعنا. ما يحرم من الصور والتماثيل يحرم من الصور والتماثيل ما يأتي: أولاً: التماثيل المجسّمة إذا كانت لذي روح من إنسان أو حيوان يحرم بالإجماع للحديث الشريف: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، ولا صورة، ولا تماثيل، ولا جنب» . ثانياً: الصورة المصوّرة باليد لذي روح: حرام بالاتفاق لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» ولحديث: «من صوّر صورة أُمر أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ» . ثالثاً: الصورة إذا كانت كاملة الخلق بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح حرام كذلك بالاتفاق لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحديث السابق: «أُمِرَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ» . ولحديث عائشة: (دخل عليّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا مستترة بقرامٍ فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 صورة، فتلوّن وجهه ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُشبّهون خلق الله» قالت عائشة: فقطعته فجعلت منه وسادتين، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرتفق بهما) . فهتْكُه عليه السلام للستر يدلُّ على التحريم، وتقطيع عائشة له وجعله وسادتين بحيث انفصلت أجزاء الصورة ولم تعد صورة كاملة يدل على الجواز، فمن هنا استنبط العلماء أن الصورة إذا لم تكن كاملة الأجزاء فلا حرمة فيها. رابعاً: الصورة إذا كانت بارزة تشعر بالتعظيم، ومعلّقة بحيث يراها الداخل حرام أيضاً بلا خلاف لحديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: (كان له ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حوّلي عني هذا، فإني كلّما رأيته ذكرتُ الدنيا) . ولحديث أبي طلحة عن عائشة قالت: (خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزاة فأخذت نَمَطاً فسترته على الباب، فلما قدم ورأى النّمَط عرفت الكراهية في وجهه، فجذبه حتى هتكه وقال: إنّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين، قالت: فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفاً، فلم يعب ذلك عليَّ) . ما يباح من الصور والتماثيل ويباح من الصور والتماثيل ما يأتي: أ - كل صورة أو تمثال لما ليس بذي روح كتصوير الجمادات، والأنهار والأشجار، والمناظر الطبيعية التي ليست بذات روح فلا حرمة في تصويرها لحديث ابن عباس السابق حين سأله الرجل إني أصوّر هذه الصور فأفتني فيها؟ ... فأخبره بحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال له ابن عباس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 (إن كنت لا بدَ فاعلاً فصوّر الشجر، وما لا روح له) . ب - كل صورة ليست متصلة الهيئة كصورة اليد وحدها مثلاً، أو العين، أو القدم، فإنها لا تحرم لأنها ليست كاملة الخلق، لحديث عائشة: (فقطتعها فجعلت منها وسادتين فلم يعب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك علي) وقد تقدم. ح - ويستثنى من التحريم (لعب البنات) لما ثبت عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزُفَت إليه وهي بنت تسع ولُعَبُها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وروي عنها أنها قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا دخل ينقمعن منه فيسرّبُهنّ إليّ فيلعبن معي. قال العلماء: وإنما أبيحت لعب البنات للضرورة إلى ذلك، وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهنّ، ثم إنه لا بقاء لذلك، ومثله ما يصنع من الحلاوة أو العجين لا بقاء له، فرُخّص في ذلك والله أعلم. أقوال العلماء في التصوير قال القاضي ابن العربي: مقتضى الأحاديث يدل على أن الصور ممنوعة، ثم جاء:» إلاّ ما كان رقماً في ثوب «فخُص من جملة الصور، ثمّ ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب المصوّر،» أخّريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا «، ثمّ بهتكه الثوب المصوّر على عائشة منع منه، ثمّ بقطعها له وسادتين تغيّرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإنّ جواز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز، لقولها في النّمرقة المصورة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوَسّدها، فمنع منه وتوعدّ عليه، وتبيّن بحديّث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب، ثم نسخه المنع منه، فهكذا استقرّ الأمر فيه. وقال أبو حيان:» والتصوير حرام في شريعتنا، وقد ورد تشديد الوعيد على المصورين، ولبعض العلماء استثناء في شيء منها، وفي حديث (سهل بن حنيف) : لعن الله المصورين، ولم يستثن عليه السلام، وحكي أن قوماً أجازوه، قال ابن عطية: وما أحفظ من إئمة العلم من يجوّزه «. وقال الألوسي:» الحقُّ أنَّ حرمة تصوير الحيوان كاملاً لم تكن في شريعة سليمان عليه السلام، وإنما هي في شرعنا، ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل، أو لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد، أو جدارٍ مثلاً، وقد ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصوّرين ما ورد، فلا يُلْتفت إلى غيره، ولا يصح الاحتجاج بالآية «. وقال القرطبي:» لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المصورين ولم يستثن، وقال: «إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم» وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خرج عُنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكّلت بثلاث: بكلّ جبَّارٍ عنيد، وبكلّ من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين» . وفي البخاري «أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون» يدل على المنع من تصوير أيّ شيء كان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وقال الإمام النووي: إنَّ جواز اتخاذ الصور إنما هو إذا كانت لا ظل لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس، أو يمتهن بالاستعمال كالوسائد. وقال العلامة ابن حجر في شرحه للبخاري: «حاصل ما في اتخاذ الصور إنها إن كانت ذات أجسام حَرُمَ بالإجماع، وإن كانت رقماً في ثوب فأربعة أقول: الأول: يجوز مطلقاً عملاً بحديث إلا رقماً في ثوب. الثاني: المنع مطلقاً عملاً بالعموم. الثالث: إن كانت الصورة باقية بالهيئة، قائمة الشكل حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس، أو تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح. الرابع: إن كانت مما يمتهن جاز وإلاّ لم يجز، واستثني من ذلك لعب البنات. اهـ. حكم التصوير الفوتوغرافي يرى بعض المتأخرين من الفقهاء أن التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) لا يدخل (دائرة التحريم) الذي يشمله التصوير باليد المحرّم، وأنه لا تتناوله النصوص النبوية الكريمة التي وردت في تحريم التصوير، إذ ليس فيه (مضاهاة) أو مشابهة لخلق الله، وأن حكمة حكم الرقم في الثوب المستثنى بالنص. يقول فضيلة الشيخ السايس ما نصه:» ولعلك تريد أن تعرف حكم ما يسمى بالتصوير الشمسي فنقول: يمكنك أن تقول إنّ حكمها حكم الرقم في الثوب، وقد علمت استثناءه نصاً، ولك أن تقول: إنّ هذا ليس تصويراً، بل حبساً للصورة، وما مَثَلُه إلا كمثل الصورة في المرآة، لا يمكنك أن تقول إن ما في المرآة صورة، وإن أحداً صوّرها. والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة، غايةُ الأمر أن المرآة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 (الفوتوغرافيه) تثبت الظل الذي يقع عليها، والمرآة ليست كذلك، ثم توضع الصورة أو الخيال الثابت (العفريته) في حمض خاص فيخرج منها عدة صور، وليس هذا بالحقيقة تصويراً، فإنه إظهار واستدامة لصور موجودة، وحبس لها عن الزوال، فإنهم يقولون: إن صور جميع الأشياء موجودة غير أنها قابلة للانتقال بفعل الشمس والضوء، ما لم يمنع من انتقالها مانع، والحمض هو ذلك المانع، وما دام في الشريعة فسحة بإباحة هذه الصور، كاستثناء الرقم في الثوب فلا معنى لتحريمها خصوصاً وقد ظهر أن الناس قد يكونون في أشد الحاجة إليها «اهـ. أقول: إن التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) لا يخرج عن كونه نوعاً من أنواع التصوير، فما يخرج بالآلة يسمّى (صورة) ، والشخص الذي يحترف هذه الحرفة يسمى في اللغة والعرف (مصوّراً) فهو وإن كان لا يشمله النص الصريح، لأنه ليس تصويراً باليد، وليس فيه مضاهاة لخلق الله، إلاّ أنه لا يخرج عن كونه ضرباً من ضروب التصوير، فينبغي أن يقتصر في الإباحة على (حدّ الضرورة) ، وما يتحقق به من المصلحة، قد يكون إلى جانبها مفسدة عظيمة، كما هو حال معظم المجلات اليوم، التي تنفث سمومها في شبابنا وقد تخصّصت للفتنة والإغراء، حيث تُصَوَّر فيها المرأةُ بشكل يندى له الجبين، بأوضاع وأشكال تفسد الدين والأخلاق. فالصور العارية، والمناظر المخزية، والأشكال المثيرة للفتنة، التي تظهر بها المجلات الخليعة، وتملأ معظم صفحاتها بهذه الأنواع من المجون، مما لا يشك عاقل في حرمته، مع أنه ليس تصويراً باليد، ولكنه في الضرر والحرمة أشد من التصوير باليد. ثمّ إن العلة في التحريم ليست هي (المضاهاة) والمشابهة لخلق الله فحسب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 بل هناك نقطة جوهرية ينبغي التنبه لها وهي أن (الوثنية) ما دخلت إلى الأمم السابقة إلاّ عن طريق (الصور) ، حيث كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح، صوّروه تخليداً لذكراه، واقتداءً به، ثمّ جاء مَنْ بعدَهم فعبدوا تلك الصورة من دون الله، فما يفعله بعض الناس من تعليق الصور الكبيرة المزخرفة في صدر البيت، ولو كانت للذكرى، وليست تصويراً باليد، مما لا تجيزه الشريعة الغراء، لأنه قد يجر في المستقبل إلى تعظيمها وعبادتها، كما فعل أهل الكتاب بأنبيائهم وصلحائهم. فإطلاق الإباحة في التصوير الفوتوغرافي، وأنه ليس بتصوير وإنما هو حبس للظلّ، مما لا ينبغي أن يقال، بل يقتصر فيه على حد الضرورة، كإثبات الشخصية، وكلِّ ما فيه مصلحة دنيوية مما يحتاج الناس إليه والله تعالى أعلم. الشبه الواردة على تحريم التصوير يذهب بعض أدعياء العلم، ممن تأثروا بالثقافة الغربية، إلى إثارة بعض الشبه على تحريم التصوير، بقصد التزلف إلى الحضارة الغربية، والاندماج فيما خيّل لهم أنه فنّ راق، وذوق سليم، أو بقصد التقرب إلى المترفين ومسايرتهم على أهوائهم، لينالوا بعض المناصب. الشبهة الأولى: يزعمون أنّ ما ورد من نصوص في تحريم التصوير، إنما هو إجراء مؤقت اقتضته ظروف الدعوة الإسلامية، لمجابهة الشرك والوثنية، وأنّ الغاية هي قطع الطريق على الوثنية، فلمّا زال الخوف من عباده الأوثان والأصنام زالت الحاجة إلى تحريم التصوير. وللرد على هذه الشبهة سنكتفي بنقل كلام فضيلة الشيخ أحمد شاكر رَحِمَهُ اللَّهُ في دحض هذه الشبهة، حيث جاء في تعليقه على الحديث (7166) من «المسند» ما نصه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 «وكان من حجة أولئك. . أن تأولوا النصوص بعلة لم يذكرها الشارع، ولم يجعلها مناط التحريم - في ما بلغنا - أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد بالوثنية. أمّا الآن وقد مضى على ذلك دهر طويل، فقد ذهبت علة التحريم، ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان. وقد نسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة، بالتقريب إلى القبور وأصحابها، واللجوء إليها عند الكروب والشدائد، وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر بها أصحابها. وكان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة: أن ملئت بلادنا بمضاهر الوثنية الكاملة، فنصبت التماثيل وملئت بها البلاد، تكريماً لذكرى من نسبت إليه وتعظيماً، ثمّ يقولون لنا: إنها لم يقصد بها التعظيم، ثم صنعت الدولة - وهي تزعم أنها إسلامية - معهداً للفنون الجميلة ... معهداً للفجور الكامل الواضح، يدخله الشبان الماجنون، من الذكور والإناث، يقفن عرايا، ويجلسن عرايا ويصطجعن عرايا، وعلى كل وضع من الأوضاع الفاجرة، لا يسترون شيئاً، ثمّ يقولون لنا: هذا فن. .!؟ . الشبهة الثانية: يقولون: إن الأحاديث الدالة على التحريم، هي أحاديث آحاد ولا تفيد القطع، وإنه لا يمكن أن ننسب إلى الإسلام تحريم (فنّ) من الفنون ما لم يكن هناك نصٌ قطعيٌ بالحرمة. وللرد على هذه الشبهة نقول: «هذا جهل فاضح بأحكام الشريعة الغراء، فإن كل ما ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قول، أو فعل، أو عمل، يجب الأخذ به سواء كان النقل بطريق الآحاد، هذا متفق عليه بين العلماء، ومن المعلوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 بالضرورة أن أكثر الأحكام الفقهية الشرعية إنما ثبتت بخبر الآحاد، فلو كانت أخبار الآحاد لا تفيد القطع - كما زعموا - لضاعت أكثر أحكام الشريعة، وهذا كلام لا يصدر عن فقيه عالم، إنما يصدر عن جاهل بأصول الشريعة الغراء، وطرق استنباط الأحكام. ومن المفارقات العجيبة أنّ الذين يحتجون بأمثال هذه الحجج الواهية، يأخذون بأحاديث - لإثبات رأيهم - لا تصلح للاحتجاج لنكارتها، وضعف سندها، وجهل رواتها، ولكنها لما كانت موافقة لأهوائهم يتمسكون بها، لأن في إبطالها إبطالاً لأكثر أحكام الشريعة. ومن جهة ثانية: فإنّ النصوص الواردة في تحريم التصوير بلغت حدّ التواتر، وتناقلها المسلمون جيلاً عن جيل، فلا مجال للمتشككين أن يدخلوا من هذا الباب، ونزيدك علماً بأن الشعوب الإسلامية لم يوجد فيها تصوير أو نحت بقدر كبير، وأنّ الفنّانين المسلمين انصرفوا عن التصوير، وصنع التماثيل، إلى استخدام النقش الهندسي، والتزيين العربي، والتشكيل النباتي وغيرها. . وكلّ ذلك بسبب ما يعلمون من تحريم الإسلام للتصوير، فلو لم يكن في اعتقادهم محرماً لما تركوه وانصرفوا إلى غيره، ويكفي هذا للرد على أولئك الزاعمين. الشبهة الثالثة: يستشهدون على إباحة التصوير بآيات من القرآن الكريم، لا يصح الاحتجاج بها لأنها ليست من شريعتنا، وإنما هي من الشرائع السابقة المنسوخة بشريعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 الإسلام، منها الآية الكريمة التي هي موضوع بحثنا وهي قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] . فإن هذه الآية الكريمة ليس فيها ما يدل على حل التصوير، لأنها إخبار عمّا كان يعمله الجن لسليمان عليه السلام، وليس فيها ما يدل على أن التماثيل كانت لذي روح، ومع ذلك فإنها شريعة سابقة، وقد نصّ العلماء على أنّ (شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم يرد ناسخ) ، وقد ورد الناسخ في الشريعة الإسلامية فلا حجة فيها. وهذه القاعدة: متفق عليها علماء المسلمين، فالسجود بقصد التحية لغير الله تعالى كان جائزاً في شريعة يوسف عليه السلام، وقد حرّمه شرعنا فلا يصح الاحتجاج بما ذكره الله من سجود أخوة يوسف له على إباحة السجود لغير الله، وشريعتنا ناسخة لما قبلها من الشرائع وقد حرمت التماثيل فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية الكريمة والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: الفضل العظيم الذي خصّ الله تعالى به نبيه داود عليه السلام. ثانياً: تسبيح الجبال والطير مع النبي (داود) كان معجزة له عليه السلام. ثالثاً: الصناعات والحِرَف لا تحط من قدر الأنبياء، فداودُ عليه السلام علّمه الله صنعة الدروع. رابعاً: سخّر الله لسليمان الريح تجري بأمره، كما سخر لأبيه الجبال والطير تكريماً له عليه السلام. خامساً: الجن كانت تعمل لسليمان عليه السلام ما يعجز عنه البشر من الأعمال بأمر الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 سادساً: صنعُ التماثيل كان مباحاً في شريعة النبي سليمان عليه السلام ثم نسخ في الشريعة الإسلامية. سابعاً: منصب «النبوّة» أعلى من منصب «المُلْك» وقد جمع الله لسليمان بين النبوة والملك. ثامناً: فضل الله عظيم على عباده وخاصة منهم الأنبياء فعليهم أن يشكروا الله على نعمه. تاسعاً: الجن لا تعلم الغيب ولو كانت تعلمه لعرفت موت سليمان عليه السلام وما بقيت في الأعمال الشاقة. خاتمة البحث: حكمة التشريع جاءت الشريعة الإسلامية الغراء، والناس في وثنيّة غارقة، قد تدهورت أحوالهم، وانحطت أوضاعهم، حتى وصلوا إلى درجة عبادة (الأوثان والأصنام) ، وقد كان حول الكعبة المعظمة ثلاثمائة وستون صنماً - بعدد أيام السنة - كلُّها آلهة تُعْبد من دون الله، فلما فتح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مكة حطَّمها بنفسه فلم يبق لها أثراً وهو يردّد قوله تعالى: {جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] . وقد دخلت هذه الوثنية إلى العرب، عن طريق أهل الكتاب، وبسبب التماثيل والتصاوير، وانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم، حتى غدت الجزيرة العربية مهداً للوثنيّة، ومركزاً لعبّاد الأوثان والأثنام، فلمّا جاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 الإسلام حرّم الصور والتماثيل، وكال ما يدعو إلى (الوثنية) من قريب أو بعيد، وحمل حملة شعواء على المصورين، فمنع من تصوير كل ذي روح، حماية للعقيدة، وصيانة للأمة، وتطهيراً للمجتمع من لوثة الشرك وعبادة الأوثان، وبذلك اقتلع الإسلام الوثنية من جذورها، وقضى على الشرك في مهده، وطهّر الجزيرة من كل مظاهر الوثنية والإشراك. وقد يقول قائل: إن الوثنية قد انقضى زمانها بالتقدم الفكري عند الإنسان، فلم يعد هناك من يعبد الأصنام والأوثان، فَلِمَ إذن تبقى حرمة التصوير؟ { والجواب: أنَّ العقل البشري معرّض للانتكاس في كل حين وزمان، ولا يستبعد أبداً أن يؤدي نصب التماثيل في الشوارع العامة، وانتشار الصور في المحلات والبيوت، إلى تعظيمها وعبادتها في المستقبل، كما فعل من سبقنا من الأمم حيث كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح صوّروه ونصبوا هذه الصور في أماكن بارزة ليتذكروا سيرته وأعماله، ثمّ جاء من بعدهم فعظَّموها ثمّ جاء من بعدهم فعبدوها من دون الله. وإذا كنا نجد في هذا العصر بالذات من المتناقضات ما يطير له عقل الإنسان فرقاً، حيث طغت الرذائل على الفضائل، وتبدّلت المفاهيم والقيم الأخلاقية، وأصبحت مظاهر (الهمجية) من التكشف والعري، والخلاعة والمجون، تعبر في هذا العصر من مظاهر (الرقي والتقدمية) ، فأي إنسان لا يخاف على مستقبل البشرية وهو يرى هذه العجائب والغرائب، تتمثل لعينيه والصور المضحكة والمبكية} { ثمّ إننا لا نزال نرى في هذا العصر الذي يسمونه - عصر النور - من لا يزال يعبد البقر ويتبرّك بأرواثها، فكيف نطمئن على العقلية البشرية من التردي نحو الهاوية؟} إن الذي يعبد البقر لا يستبعد عليه أن يعبد الصور؟! لذلك فإن التحريم شريعة الله وسيظل هذا التشريع فوق عقول البشر لأنه شرع الله ودينه الخالد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 سورة ص [1] موقف الشريعة من الحيل التحليل اللفظي {بِنُصْبٍ} : النُصْب بضم النون وسكون الصاد بمعنى التعب كالنّصَب. قال الفراء: هما كالرُشْد والرَشد، والحُزْن والحزن معناهما واحد. قال في اللسان: والنَّصْب، والنّصْب والنُّصُب: والبلاء والشر، والنّصَب: الأعياء من العناء. وفي التنزيل: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [الحجر: 48] أي تعب. وقال أبو عبيدة: النُصْب: الشر والبلاء، والنّصَب: التعب والإعياء. والمراد في الآية: مرضُ أيوب وما كان يقاسيه من أنواع البلاء في جسده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 {اركض} : الركض: الدفع بالرجل، يقال: ركض الدابةَ إذا ضربها برجله لتعدو، وقال المبرّد: الركض التحريك والضرب، ولهذا قال الأصمعي: يقال رُكِضَت الدابةُ، ولا يقال: ركَضَت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك. والمراد في الآية: اضرب برجلك ينبع الماء فتغتسل وتشرب منه. {مُغْتَسَلٌ} : المغتسل الماء الذي يُغتسل به، وقيل: الموضع الذي يغتسل فيه، والصحيح الأول. {ضِغْثاً} : الضّغْث في أصل اللغة: الشيء المختلط ومنه (أضغاث أحلام) للرؤيا المختلطة. قال في اللسان: الضغث: قبضة من قضبان مختلفة يجمعها أصل واحد مثل الأسَل والكرّاث قال الشاعر: كأنّه إذْ تدلّى ضِغْث كُرّاث ... وقيل: هي الحزمة من الحشيش، مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس: هو عُشْكال النخل الجامع بشماريخه. أي عنقود النخل المتفرّع الأغصان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 والمعنى: أمره الله أن يأخذ حزمة من العيدان فيها مائة عود، ويضربها بها ضربة واحدة، ليبرّ في يمينه ولا يحنث فيها. {تَحْنَثْ} : الحنثُ: الخُلْف في اليمين، يقال: حنث في يمينه، يحنث إذا لم يبرّ بها. قال في اللسان: الحنيث في اليمين: نقضُها والنكثُ فيها، وهو من الحِنْث بمعنى الإثم وفي الحديث: «اليمين حنْثٌ أو مندمة» ومعناه: إمّا أن يندم على ما حلف عليه، أو يحنث فتلزمه الكفارة. والحنْث: الذنب العظيم، وفي التنزيل العزيز: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46] . {أَوَّابٌ} : الأوْب: الرجوع، والأوّاب: التّوَّاب، الرجّاع، الذي يرجع إلى التوبة والطاعة، ويرجع إلى الله في جميع أمورة، وهي من صيغ المبالغة مثل (ظلاّم) و (قتّال) . المعنى الإجمالي اذكر يا محمد لقومك قصة عبدنا (أيوب) إذ نادى ربه مستغيثاً به، ضارعاً إليه، فيما نزل به من البلاء، راجياً أن يكشف الله عنه الضر حيث قال: ربّ إني أُصبتُ ببلاء وشدّة، وتعب وضنى، وأنت أرحم الراحمين ورب المستضعفين ... فاستجاب الله الحليم الكريم دعاءه، وكشف عنه شدته، فأذهب عنه الآلام والأسقام، وأمره أن يضرب برجله الأرض، حتى تنبع له عين ماء يكون فيها شفاؤه، وقلنا له: هذا مغتسل بارد وشراب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 تغتسل منه وتشرب فتشفى بإذن الله، فلما ضرب الأرض نبعث له عين ماء، فاغتسل منها فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منها فذهب الداء من باطنه، فعادت إليه الحياة الطبيعية التي كان يعيشها، وشعر بأهله وأولاده، ونعم بأسرته التي كانت بالنسبة إليه كالمفقودة، ومتّعه الله بصحته وقواه حتى كثر نسله وتضاعف عدد أولاده، ورزقه من الأموال فضلاً منه ونعمة، وإكراماً لعبده الصابر الطائع، وتذكيراً لعباد الله بفضل الله وإكرامه لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب - وهو أفضل أهل زمانه - وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا ومصائبها، واللجوء إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ّ فيما يحيق بهم كما لجأ أيوب ليفعل الله بهم ما فعل به من حسن العاقبة، وعظيم الإكرام. وما كان الله - جلت حكمته - ليكرمه ويدع زوجه التي أحسنت إليه، وأعانته في بلائه ومحنته، وكان قد حلف لأمر فعلته ليضربنها مائة جلدة، فجزاها الله بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها تسهيلاً عليه وعليها فأمره أن يجمع لها (مائة عود) ويضربها ضربة واحدة، لا يحنث في يمينه. ثم شهد الله تعالى لأيوب عليه السلام شهادة تبقى على مر الأزمان، مظهره أنه كان في بلائه صابراً، لا تحمله الشدة على الخروج عن طاعة ربه، والدخول في معصيته، فكان من خيره خلق الله وعبّاده، مقبلاً على طاعته، رجَّاعاً إلى رضاه، فلم يكن دعاؤه عن تذمر وشكوى، وإنما كان لجوءاً إلى الله العليّ القدير الذي بيده مقاليد السموات والأرض. الغرض من ذكر القصة المقصود من ذكر قصة (أيوب) عليه السلام، وما قبلها من قصص الأنبياء الاعتبار بما يقع في هذه الحياة، كأنّ الله تعالى يقول: يا محمد، إصبر على سفاهة قومك، وشدتهم في معاملتك، ومقابلة دعوتك بالصدود والإعراض، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالاً وجاهاً من (داود) و (سليمان) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 - عليهما السلام - وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب - عليه السلام - فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أنّ أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره. وجوه القراءات أولاً: قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ} قرأ الجمهور بفتح همزة {أنّي} وقرأ عيسى بن عمر (إنّي) بكسرها على تقدير: قال إني. ثانياً: قوله تعالى: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} قرأ الجمهور {بنُصْبٍ} بضم النون وسكون الصاد، وقرأ الحسن {بنَصَبٍ} بضمهما. وقرأ بعضهم {بنَصْب} بفتح النون وسكون الصاد، ونسبها جماعة إلى أبي جعفر. قال الطبري: «والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراءة الأمصار وذلك الضم في النون والسكون في الصاد» وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} عطف على قوله {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ص: 17] من عطف جملة على جملة. و (أيوب) عطف بيان، أو بدل من (عبدنا) بدل كل من كل. ثانياً: قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} [الأنبياء: 83] منصوب بنزع الخافض أي (بأني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 مسَّني) حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك قوله لقال: بأنه مسّه، لأنه غائب. ثالثاً: قوله تعالى: {رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى} رحمة مفعول لأجله، ومثلها {وذكرى} أي لرحمتنا إيّاه وليتذكّر أرباب العقول بما يحصل للصابر من الفضل والأجر. رابعاً: قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} عطف على {اركض} أو على {وَهَبْنَا} بتقدير قلنا خذ بيدك ضغثاً. قال الألوسي: «والأول أقرب لفظاً، وهو أنسب معنى، فإنَّ الحاجة إلى هذا الأمر لا تكون إلا بعد الصحة واعتدال الوقت» . لطائف التفسير اللطيفة الأولى: في قصة أيوب عليه السلام كان قد حصل له نوعان من البلاء: (المشقة الشديدة) بسبب زوال النعم والخيرات، وحصول المكروه و (الألم الشديد) في الجسم، ولما كان كل منهما قد لحق به وأصابه الضرُّ بسببه، أحدهما مادي، والآخر جسدي، ذكر الله تعالى في الآية الكريمة لفظين (النُّصْب) و (العذاب) ليقابل بذلك الضر الذي أصابه، فالنُّصْب الضرُّ في الجسد، والعذاب البلاء في الأهل والمال. اللطيفة الثانية: وصف الله تعالى نبيّه (أيوب) عليه السلام بالصبر، وأثنى عليه بقوله: {إِنَّا وجدناه صَابِراً} مع أن أيوّب كان قد اشتكى إلى ربه من الضر الذي أصابه فقال: {مَسَّنِيَ الضر} في سورة الأنبياء [83] ، وقال هنا: {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فدلّ ذلك على أنّ الشكوى إلى الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 لا تنافي الصبر، وقد قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] ولهذا مدحه الله بقوله: {نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} ولو كانت الشكوى إلى الله تعالى تنافي الصبر لما استحق هذا الثناء. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان} أسند الضُرَّ الذي أصابه في جسمه وأهله، وماله، إلى الشيطان أدباً مع الله تعالى، مع أن الفاعل الحقيقي هو الله رب العالمين، فالخيرُ والشرُ، والنفع والضُّر، بيد الله جلَّ وعلا. ولكن لا ينسب الشر إلى الله وإنما ينسب إلى النفس أو الشيطان، ولهذا راعى عليه السلام الأدب في ذلك فنسبه إلى الشيطان، وهو على حدّ قول إبراهيم عليه السلام: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79 - 80] حيث نسب الإطعام إلى الله ونسب المرضَ إلى نفسه أدباً. قال الزمخشري: «لمّا كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سبباً فيما مسّه الله به من النّصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو» . اللطيفة الرابعة: سئل سفيان عن عبدين، ابتلى أحدهما فصبر، وأُنْعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء، لأن الله تعالى أثنى على عبدين: أحدهما صابر، والآخر شاكر ثناءً واحداً فقال في وصف أيوب {نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقال وفي وصف سليمان {نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] . وفضّل بعض العلماء: الغنيّ الشاكر، على الفقير الصابر، لأن الغنَى ابتلاء وفتنة، والشاكرُ من عباد الله قليل {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] بخلاف الصابر فإنه كثير والمسألة فيها نظر. اللطيفة الخامسة: يضرب المثل بصبر أيوب عليه السلام فيقال: (صبرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 كصبر أيوب) وقد صبر على البلاء في جسمه، وأهله، وولده مدة ثمان عشرة سنة على الراجح من الأقوال، ويروى أن زوجه لما طلبت منه أن يدعو الله أن يشفيه سألها: كم مكثنا في الرخاء؟ قالت سبعين عاماً، فقال لها: ويحك كنّا في النعيم سبعين عاماً، فاصبري حتى نكون في الضُرّ سبعين عاماً. ويروى أنه قال لها: إني لأستحيي من الله أن أسأله أن يشفيني وما قضيتُ في بلائي ما قضيتُه في رخائي!! ولهذا يضرب به المثل في الصبر. اللطيفة السادسة: روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بينما أيوب يغتسل عرياناً خرّ عليه رِجْلُ جرادٍ من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه يا أيوب: ألم أكن أغنيك عمّا ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك» . قال بعض العلماء: حين صبر أيوب أكرمه الله بالمال الوفير، والأجر الجزيل، وعوّضَه عن الأهل والولد، بضعفهم وبارك فيهم كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84] . الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو سبب حلف أيوب عليه السلام بضرب أهله؟ دلّ ظاهر قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} على أن أيوب عليه السلام كان قد صدر منه يمين على ضرب أهله، ويقول المفسّرون إنه حلف لئن شفاه الله ليجلدنّ زوجته مائة جلدة، فأمره الله أن يأخذ قبضة من حشيش، أو حزمة من الخلال والعيدان، فيضرب بها ليبرّ بيمينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 ولا يحنث، ولم تذكر الآية سبب هذا الحلف، وقد ذكر بعض المفسرين كلاماً طويلاً في سبب هذا اليمين، فقيل: إن امرأة أيوب كانت تخدمه وضجرت من طول مرضه، فتمثّل لها الشيطان بصورة طبيب، وجلس في طريقها فقالت له: يا عبد الله إنّ هاهنا إنساناً مبتلى، فهل لك أن تداويه؟ قال: نعم إن شاء شفيته، على أن يقول إذا برأ: أنتَ شفيتني، فجاءت إلى أيوب فأخبرته فقال: ذاك الشيطان، لله عليّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة. وزعم بعضهم أن إبليس لقي زوجه أيوب فقال لها: أنا الذي فعلتُ بأيوب ما فعلت، وأنا إله الأرض، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله، فجاءت فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله. وكتابُ الله تعالى لم يأت فيه تفصيل للقصة، ولهذا انطلقت الخيالات تنسج قصصاً في سبب بلائه وفي سبب حلقه على زوجه، منها ما هو باطل لا يصح اعتقاده ومنها ما هو ضعيف واهن. يقول أبو بكر ابن العربي: «ما ذكره المفسّرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة، وأنه طلب من ربه أن يسلّطه على أيوب فقال له: قد سلّطتك على أهله وماله. . إلخ إن هذا قول باطل، لأن إبليس أهبط منها بلعنة الله وسخطه، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء، ويخترق السموات العلى!! إنَّ هذا لخطب من الجهالة عظيم. وأما قولهم: إن الله تعالى قال له: هل قدرت من عبدي أيوب على شيء؟ فباطل قطعاً، لأن الله عَزَّ وَجَلَّ ّ لا يكلِّم الكفار الذين هم من جند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 إبليس اللعين، فكيف يكلّم من تولّى إضلالهم؟! وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده، فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة، وكذلك قولهم: إنه نفخ في جسده حين سلّطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان كسب فيه حتى تقر له - لعنةُ الله عليه - عينٌ بالتمكن من الأنبياء في أموالهم، وأهليهم، وأنفسهم. وأما قولهم: إنه قل لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت لي لعافيته. . فاعلموا أنه لو عَرَض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام، ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافى من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبي؟ ولو كانت زوجة سوادي أو فَدْم بربريّ ما ساغ ذلك عندها» . ثم قال: «ولم يصّح عن أيوب في أمره إلاّ ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين: الأولى قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} [الأنبياء: 83] والثانية في ص: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يصحّ عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله:» بينا أيوب يغتسل إذ خرّ عليه رِجْلٌ من جرادٍ من ذهب «الحديث وقد تقدم. وإذا لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلاّ ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامعَ إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيلياتُ مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرضْ عن سطورها بصرك، وأصمم عن سمعها أُذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خَيالاً، ولا تزيد فؤادك إلاّ خبالاً» . أقول: «ليس بلازم في ثبوت صبر أيوب اعتقاد أمثال هذه القصص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 الإسرائيلية، التي حشا بها بعض المفسّرين كتبهن، ولا أمثال هذه الغرائب التي لا يصح سندها ولا نسبتها إلى الأنبياء الكرام لأنها تنافي» العصمة «ولا تتفق من المناصب الرفيعة للأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، ويكفي أن نقتصر على ما ذكره الله تعالى في كتابه، ونعرض عن مثل هذه الخرافات والأباطيل، كزعم بعضهم أنّ أيوب تساقط لحمه من شدة المرض، وأصبح الدود يخرج من جسمه حتى استقذره القريب والبعيد، وملّه الصديق والغريب ولم يصبر عليه إلا امرأته، وأنه عظم بلاؤه حتى أخرج من بيته وألقي على كُناسة (مزبلة) . . . إلى آخر ما هنالك من حكايات مكذوبة وقصص إسرائيلية تلقّفها بعض القُصّاص، ودخلت إلى بعض كتب التفسير وهي مما تنافي (عصمة الأنبياء) . والذي ينبغي أن يقتصر عليه المسلم أنّ ما أصاب (أيوب) من ضر إنما كان مرضاً من الأمراض المستعصية، التي ينوء بحملها الناس عادة، ويضجرون من ثقلها، وخصوصاً إذا امتد الزمن بها، وأن هذا المرض لم يصل إلى حدّ الاستقذار والنفرة، وأنه غضب على زوجه لأمرٍ من الأمور فحلف ان يضربها مائة جلدة، فجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً، وسهّل عليه الأمر فجمع لها (مائة عود) فضربها بها ضربة واحدة ولم يحنث في يمينه، وكشف الله عنه ضُرّه وبلاءه. الحكم الثاني: هل يباح للرجل ضرب امرأته تأديباً؟ استدل بعض العلماء بالآية الكريمة على جواز ضرب الرجل امرأته تأديباً، وذلك لأن امرأة أيوب أخطأت في حق زوجها فحلف ليضربنّها مائة جلدة، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخيل أو بحزمةٍ من العيدان، وذلك ليبرّ في يمينه ولا يحنث، ولو كان الضرب غير جائز لما أقرَّه القرآن عليه ودلّه على ما هو أرحم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز ضرب المرأة فوق حدود الأدب، ولهذا قال عليه السلام في حجة الوداع: «واضربوهنّ ضرباً غير مبرِّح» ، والجوازُ لا ينافي الكراهة فقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ذأرن النساء على أزواجهن، فرخّص في ضربهن، فأطاف بآل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد طاف بآل محمد نساء يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم» . قال الجصاص: «والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزاً بقوله: {والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] إلى قوله {واضربوهن} [النساء: 34] وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديباً لغير نشوز وقوله تعالى: {الرجال قوامون عَلَى النسآء} [النساء: 34] فما روي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب، لأنه روي أن رجلاً لطم امرأته على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأراد أهلها القصاص فأنزل الله: {الرجال قوامون عَلَى النسآء} [النساء: 34] . الحكم الثالث: هل الحكم خاص بأيوب أم هو عام لجميع الناس؟ اختلف العلماء في هذا الحكم الذي أرشده الله تعالى إليه نبيّه (أيوب) عليه السلام هل هو خاص به أم عام لجميع الناس؟ فذهب (مجاهد) إلى أنه خاص بأيوب عليه السلام، وهو منقول عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، وهو مذهب (مالك، وأحمد بن حنبل) رحمهما الله تعالى. وذهب عطاء بن أبي رباح: وابن أبي ليلى إلى أن الحكم عام، وأنّ هذه الرخصة لجميع الناس فضلاً من الله تعالى وكرماً، وهذا مذهب الشافعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى. الحكم الرابع: هل يشترط في الضرب أن يكون مفرّقاً؟ وبناءً على ما سبق فقد اختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط، فجمعها كلَّها وضربه بها ضربة واحدة، هل يكفي ذلك أم لا بدّ في الضرب أن يكون مفرقاً؟ فقال مالك وأحمد: لا يبرّ بيمينه حتى يفرّق الضرب. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا أصابه واحد منها فقد برّ في يمينه ولا يشترط التفريق. حجة المذهب الأول: 1 - إن هذا الأمر خاص بأيوب وزوجه لأن الله تعالى قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] ولأن زوجة أيوب لم تفعل أمراً تستحق معه جلد مائة، فجعل الله سبحانه لأيوب فرجاً ومخرجاً بذلك. 2 - ولأنه إذ أقسم بالضرب إنما أراد الإيلام، وليس في الضرب بالجميع إيلام. 3 - الأيمان مبناها على النية، فإن لم توجد فعلى اللغة والعرف، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضارباً مرات بعدد الشعب، وكذا العرف فوجب أن تجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة. حجة المذهب الثاني: 1 - عموم قصة أيوب عليه السلام، وشرعُ من قبلنا شرع لنا ما لم يأت ناسخ، وقد جاء في الشرع ما يؤيدها، ولم يثبت الناسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 2 - واستدلوا بحديث أبي أمامة عن بعض الصحابة من الأنصار: أنه أشتكى رجل منهم فعاد جلدةً على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهشَّ لها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فذكروا له ذلك، وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به، ولو حملناه لك لتفسَّخت عظامه، ما هو إلا جلدٌ على عظم. فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يأخذوا له مائة سمراخ فيضربونه بها ضرة واحدة. ودلالة الآية ظاهرة على صحة هذا القول. وذلك لأن فاعل ذلك يسمى ضارباً لما شرط من العدد، وذلك يقتضي البر في يمينه. 3 - وقالوا: إن القرآن حكم بأنه لا يحنث بفعله لقوله تعالى: {فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} . ولكن يجب أن لا يطبق ذلك في الحدود إلا مقيداً بما ورد الحديث به، فيكون ذلك حد المريض الذي وصل من المرض إلى الحد الذي وصف في الحديث الشريف. الحكم الخامس: هل تجوز الحيلة في الشريعة الإسلامية؟ 3 - قال الجصاص: في تفسيره «أحكام القرآن» : (وفي الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله، ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر) . أقول: هذا هو الحد المقبول من الحيل الشرعية التي توصل إلى ما يجوز فعله وتدفع المكروه عن نفسه وغيره. أما الحيل التي يتوصل بها إلى الهرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 من فرائض الله، والتخلص مما أوجبه الله على الإنسان، فهذه لا يقبلها ذو قلب سليم ولا يقرها مسلم عاقل، لأنَّ فرائض الله إنما فرضت لتؤدَّى، والواجبات إنما شرعت لتقام على وجه الأرض، لا لتكون طريقاً للتلاعب في أحكام الله. وقد استدل بعض العلماء على جواز الحيلة مطلقاً بهذه الآية. وبقول الله تعالى في قصة يوسف: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] ، وليس الأمر كما زعموا فإن ذلك بإذن الله ليظهر فضله على سائر إخوته بدليل قوله تعالى: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [يوسف: 76] . قال الألوسي: «وعندي أنَّ كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة (سقوط الزكاة) وحيلة (سقوط الاستبراء) وهذا كالتوسط في المسألة فإن من العلماء من يجوِّزُ الحيلة مطلقاً ومنهم من لا يجوِّزها مطلقاً» . الحكم السادس: هل أفعال الإله جلّ وعلا تابعة للمصالح؟ قال الإمام الفخر رَحِمَهُ اللَّهُ: (وفي قصة أيوب عليه السلام دلالة على أن أفعال ذي الجلال والإكرام منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . وذلك لأن أيوب لم يقترف ذنباً حتى يكون ابتلاؤه في مقابلة ذلك الجرم، وإن كان البلاء ليجزل له الثواب، فإن الله تعالى قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام والأسقام، وحينئذٍ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة. وهذه كلمات ظاهرية جلية والحق الصريح أنه لا يُسأل عما يفعل) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 الحكم السابع: هل البرّ في اليمين أفضل أم الكفارة عن اليمين؟ في الآية الكريمة دليل على أن البر باليمين ما لم يكن في إثم أفضل من الكفارة. وقد قال ابن تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن الكفارة لم تكن مشروعة في زمنه وإلا لأمره الله تعالى بها ... وذكره ابن العربي قبله. قال القرطبي: قوله إنه لم يكن في شرعهم كفارة، ليس بصحيح، فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة - كما في حديث ابن شهاب - قال له صاحباه: لقد أذنبتَ ذنباً ما أظن أحداً بلغه. فقال أيوب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما أدري ما تقولان، غير أن ربي عَزَّ وَجَلَّ ّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكلٌّ يحلف بالله، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي فأكفِّر عن أيمانهم إرادة أن لا يأثم أحد يذكره، ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} [الأنبياء: 83] . فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب، وأن من كفّر عن غيره بغير إذه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: إبتلاء الله تعالى لنبيّه أيوب عليه السلام كان امتحاناً لإيمانه، ورفعاً لمقامه. ثانياً: الإنسان يُبتلى في هذه الحياة على قدر إيمانه، ولهذا كان الأنبياء أعظم الناس ابتلاءً. ثالثاً: التضرع إلى الله والشكوى إليه سبحانه لا ينافي مقام الصبر الممدوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 رابعاً: كما يبتلي الله سبحانه بالفقر يبتلي بالغنى، والمؤمن من يشكر الله في السراء والضراء. خامساً: إذا اتقى الإنسان ربه جعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً، كما صنع بأيوب عليه السلام. سادساً: زوجة أيوب جازاها الله بحسن صبرها، فأفتاه في ضربها بمائة عود جملة واحدة. سابعاً: اتخاذ الحيلة جائز إذا لم يكن فيها إبطال حق أو هدم أمرٍ من أمور الشرع الحنيف. ثامناً: على الإنسان أن يبرّ في يمينه أو يكفر عنها إذا كان ثمة مصلحة وكان الحنث أفضل من البر. حكمة التشريع لقد نزل الإسلام بتشريعاته وتعالميه ليحكم المجتمع البشري في كل ظروفه وأحواله، فلهذا أعطى لكل أمر حكماً، وراعى المصالح في أحكامه وتشريعاته كما راعى اختلاف الطباع الإنسانية، فعندما أجاز الشارع ضرب المرء زوجه إنما أجازه أولاً وقبل كل شيء في حدود، وأن يكون الضرب مبرِّحاً، ولا يتعدى حدود التأديب والتهذيب، ومع ذلك فقد اعتبر ضرب الأزواج غير ممدوح فاعله، وتبدو حكمة الترخيص بالضرب جلية في نساء مخصوصات تعوَّّدن عليه، ونشأن في ظلاله، فلم يعد من الممكن تأديبهن إلا بهذه الطريق فأجازها الشارع لذلك. يقول شهيد الإسلام سيد قطب في كتابه «الظلال» ما نصه: «وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة، وهي تضرب مثلاً للابتلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 والصبر ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، والحد المأمون في هذه القصَّة هو أن أيوب عليه السلام كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً، وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له. وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له، ومنهم زوجته بأنَّ اللَّهَ لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، وكانوا يحدِّثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد ما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربها عدداً عيَّنه، قيل مائة. وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} . فلما عرف ربُّه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان وتأذيه بها، أدركه برحمته، وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} . ويقول القرآن الكريم: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب} . وتقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه، ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتِّم أنه أحيا له من مات، وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين، وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه، وترضى نفوسهم بقضائه. فأما قسمه ليضربن زوجه، فرحمة من الله، وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه وبلائها به، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده فيضربها به ضربة واحدة تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} هذا التيسير وذلك الإنعام، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء {إِنَّا وجدناه صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 سورة محمد [1] الحرب في الإسلام التحليل اللفظي {أَثْخَنتُمُوهُمْ} : أكثرتم فيهم القتل والجراح، يقال: أثخن العدو: إذا أكثر فيه الجراح، قال في «اللسان» : والإثخان في كل شيء قوّته وشدّته، يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه ووهَنه، وأثخنته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 الجراحة: أوهنته، وقوله تعالى: {حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] معناه حتى يبالغ في قتل أعدائه. {الوثاق} : الوَثاق: في الأصل مصدر كالخلاص، وأريد به هنا ما يوثق به أي ما يربط كالحبل وغيره. قال في اللسان: والوَثاق اسم الإيثاق، تقول: أوثقته إيثاقاً ووَثاقاً، والحبل أو الشيء الذي يوثق به (وِثاق) والجمع الوُثُق بمنزلة الرّباط والرّبُط. وقال الجوهري: وأوثقه في الوَثَاق: أي شدّه، ومنه قوله تعالى {فَشُدُّواْ الوثاق} والوِثاق بكسر الواو لغة فيه. اهـ. والمراد في الآية الكريمة: أسر الأعداء لئلا يفلتوا. {مَنًّا} : مصدر منّ ومعناه: أن يطلق سَراح الأسير بدون فداء، وبدون مقابل. قال الشاعر: ما كان ضرّك لو مَنَنْتَ وربما ... منّ الفتى وهو المَغيط المُحْنَقُ {فِدَآءً} : مصدر فادى: والفداء أن يطلق الأسير مقابل مالٍ يأخذه منه. قال في اللسان: الفِداء بالكسر: فكاك الأسير، والعرب تقول: فاديت الأسير وتقول: فديته بمالي، وفديته بأبي وأمي، إذا لم يكن أسيراً، وإذا كان أسيراً مملوكاً قلتَ: فاديته، قال الشاعر: ولكنّني فاديتُ أمّي بعدما ... علا الرأسَ منها كَبْرةٌ ومشيبُ {أَوْزَارَهَا} : الأوزار جمع وِزْر، وهو في الأصل: الإثم والذنب، ويطلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 على الحمل الثقيل، والمراد به آلات الحرب وأثقالها من السلاح، والخيل، والعتاد، وسمي السلاح «أوزاراً» لأنه يُحمل لثقله، قال الأعشى: وأعددتُ للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً، وخيلاً ذكوراً وإنما جاء الضمير مؤنثاً (أوزارها) لأن الحرب مؤنثة. ومعنى الآية: حتى تنتهي الحرب، وتضع سلاحها، فلا يكون قتال مع المشركين لضعف شوكتهم. {ذلك} : اسم الإشارة «ذلك» جيء به للفصل بين كلامين، وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين والانتقال من الكلام الأول للثاني، كأنه قيل: ذلك ما كنا نريد أن نقول في هذا الشأن، ونقول بعده كذا. . وكذا. {لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} : أي انتصر منهم بدون أن يكلِّفكم بحرب أو قتال، فالله سبحانه قادر على إهلاك الكفار بدون حرب المسلمين لهم، ولكنه ابتلاء من الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] . قال الألوسي: قوله تعالى: {وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسفٍ، أو رجفةٍ، أو غرقٍ، أو موتٍ جارف. {لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} : أي أمركم سبحانه بالحرب {لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} فيثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 والابتلاء في اللغة: الامتحان والاختبار. {يُضِلَّ أعمالهم} : أي فلن يضيع أعمالهم بل ستحفظ وتخلّد لهم، ويُجزون عليها الجزاء الأوفى يوم الدين. {عَرَّفَهَا لَهُمْ} : أي بيّنها لهم وأعلمهم منازلهم فيها فلا يخطئونها، أو عرّفها لهم في الدنيا بذكر أوصافها كما قال تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ ... } [محمد: 15] الآية. المعنى الإجمالي يأمر الله سبحانه المؤمنين عند لقاء الكفار في الحرب، الاّ تأخذهم شفقة عليهم، بل ينبغي أن يُحكِّموا السلاح في رقابهم، ويحصدونهم بسيوفهم حصداً، حتى إذا غلبوهم، وقهروهم، وكسروا شوكتهم، عند ذلك عليهم أن يشدوا الوثاق وهو كناية عن وقوعهم أسرى في أيدي المؤمنين، فإذا انتهت الحرب فالمؤمنون عند ذلك بالخيار، إمّا أن يمنّوا على الأسرى فيطلقوا سراحهم بدون عوض، وإمّا أن يأخذوا منهم الفداء ليستعين به المسلمون على مصالحهم، بعد أن تضعف عزائم المشركين وتكسر شوكتهم. ثم بيّن الله سبحانه الحكمة من مشروعية القتال مع قدرته تعالى أن ينتصر من أعدائه من غير أن تكون حرب بين المؤمنين والكافرين، وتلك الحكمة هي امتحان الناس، واختبار صبرهم على المكاره، واحتمالهم للشدائد في سبيل الله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] . ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك أنّ الذين أكرمهم الله بالشهادة في سبيله، ستحفظ أعمالهم. وتخلّد لهم، ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يُحبرون وفي ذلك حضّ على الجهاد، وترغيب للخروج في سبيل الله لينال المؤمن إحدى الحسنَيْين: إما النصر والعزة في الدنيا، وإمّا الشهادة في سبيل الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وجوه القراءات أولاً: قوله تعالى: {فَشُدُّواْ الوثاق} قرأ الجمهور {الوَثَاق} بفتح الواو، وقرئ {الوِثاق} بالكسر وهو اسم لما يوثق به. قال الألوسي: «ومجيء (فِعال) اسم آلة كالحِزام والركاب نادر على خلاف القياس، وظاهر كلام بعضهم أنّ كلاً من المفتوح والمكسور اسم بما يوثق به» . ثانياً: قوله تعالى: {وَإِمَّا فِدَآءً} قرأ الجمهور بالمدّ، وقرأ ابن كثير {وإمّا فَدَى} بالفتح والقصر كعصا. قال أبو حاتم: لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته. قال الشهاب: ولا عبرة به فقد حكى الفراء فيه أربع لغات الفتح والكسر، مع المد والقصر. ثالثاً: قوله تعالى: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} قرأ الأعمش وحفص عن عاصم {قُتلوا} بتخفيف التاء مبنياً للمجهول، وقرأ الجمهور {قاتلوا} بألف مبيناً للمعلوم. رابعاً: قوله تعالى: {فَلَن يُضِلَّ أعمالهم} قرأ عليّ كرم الله وجهه {يُضَل} مبنياً للمفعول، و {أعمالُهم} بالرفع نائب فاعل، وقرئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 {يَضلّ} بفتح الياء من ضلّ وأعمالُهم فاعل. وقراءة الجمهور {يُضِلَّ أعمالَهم} أي لن يُضلّ الله أعمالهم بمعنى لن يضيِّعها. خامساً: قوله تعالى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} قرأ الجمهور بتشديد الراء، وقرأ أبو رجاء وابن محيصن {عَرَفها لهم} بتخفيف الراء. وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} منصوب على المصدرية، أي اضربوا ضرب فهو مفعول مطلق لفعل محذوف، وهو من إضافة المصدر للمفعول، والأصل: اضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وقُدّم المصدر، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، وحذف الفعل في مثله واجب كما نبّه عليه علماء النحو. ثانياً: قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} مناً وفداء منصوبان على المصدر إمّا أن تمنوا عليهم مناً، أو تفادوهم فداءً، فهو كسابقه مفعول مطلق لفعل محذوف. وحذف الفعل الناصب للمصدر واجب كذلك ومنه قول الشاعر: لأجهدَنّ فإمّا درءَ واقعةٍ ... تُخشى وإمّا بلوغَ السُّؤل والأمل وجوّز أبو البقاء كون كل من (منّاً) و (فداءً) مفعولاً به لمحذوف تقديره: تولوهم مناً، أو تقبلوا منهم فداءً، ولكنّ أبا حيان ردّ هذا بأنه ليس إعرابَ نحويّ. ثالثاً: قوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ} ذلك، في موضع رفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره: الأمر ذلك أو الحكم ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 رابعاً: قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} جملة {عَرَّفَهَا لَهُمْ} في موضع نصب على الحال، والتقدير ويدخلهم الجنة معرّفة لهم. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: عبّر القرآن الكريم عن القتل بقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} والسرّ في ذلك أنّ في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ (القتل) لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن، وأشرب أعضائه، ومجمع حواسه، وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى، ولو قال: (فاقتلوهم) لَمَا كان هذا المعنى الدقيق. والتعبير أيضاً: يوحي بشجاعة المؤمنين وأنهم من الكفار كأنهم متمكنون من رقابهم، يعملون فيهم سيوفهم بضرب الأعناق، وهو (مجاز مرسل) علاقته السببيّة لأن ضرب الرقبة سبب الموت. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {فَشُدُّواْ الوثاق} كناية عن الأسر أي اجعلوهم أسرى واحفظوهم رهائن تحت أيديكم، حتى تروا فيهم رأيكم، ولما كانت العادة أن يربط الأسير لئلا يهرب جاء التعبير بقوله: {فَشُدُّواْ الوثاق} وفيه الإشارة إلى الكفّ عن القتل والاكتفاء بالأسر، لأنّ الشريعة الغراء تنهى عن الإجهاز على الجريح، وذلك من آداب الإسلام وتعاليمه الإنسانية الرشيدة. اللطيفة الثالثة: تقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} ذكر تعالى (المن والفداء) ولم يذكر القتل والاسترقاق، وفي ذلك إرشاد من الله تعالى إلى أن الغرض من الحرب كسر (شوكة المشركين) ، لا إراقة الدماء والتشفي بإزهاق الأرواح، فإذا ضعفت شوكة المشركين ووهَنت قواهم فلا حاجة إلى القتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وتقديم (المن) على (الفداء) في الآية الكريمة للإشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال، فالمجاهد في سبيل الله يقاتل لإعلاء كلمة الله، لا للمغنم المادي والكسب الدنيوي. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} في الآية الكريمة إشارة إلى أن الإسلام يكره الحرب ويمقتها، لأنها مخرّبة مدمّرة، والتعبير ب {أَوْزَارَهَا} للإشارة إلى أنّ ما فيها من آثام إنما ترجع على الذين أشعلوها وهم الكفار، المحاربون لله ورسوله، فلولا كفرُهم وإفسادُهم في الأرض لما كانت هناك حرب. قال الإمام الفخر: «والمقصود من وضع الحرب أوزارها، انقارض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر، يحارب حزباً من أحزاب الإسلام، وإنما قال: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} ولم يقل: حتى لا يبقى حرب، لأن التفاوت بين العبارتين كالتفاوت بين قولك: انقرضت دولة بني أمية، وقولك لم يبق من دولتهم أثر، ولا شك أن الثاني أبلغ، فكذا هاهنا» . اللطيفة الخامسة: فإن قيل: لماذا لم يهلك الله الكافرين مع قدرته عليهم وأمرَ المؤمنين بالجهاد؟ فالجواب: أن الله عَزَّ وَجَلَّ ّ أراد بذلك أن يختبرعباده، فابتلى المؤمنين بالكافرين، ليختبر صبرهم على المكاره، واحتمالهم للشدائد، وابتلى الكافرين بالمؤمنين، ليطهّر الأرض من رجسهم، وينيل المؤمنين الشهادة في سبيله بسببهم، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} . فإن قيل: إن الله يعلم المؤمن من الكافر، والبّرّ من الفاجر، والمطيع من العاصي، فما هي فائدة هذا الابتلاء؟ فالجواب أن الابتلاء من الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 ليس بقصد العلم والمعرفة، وإنما هو بقصد إثابة المؤمن، وتعذيب الكافر، بعد إقامة الحجة عليه، حتى يقطع العذر على الإنسان، أو نقول: إن الابتلاء غرضه الكشف للناس، أو للملائكة، ليظهر لهم الصادق من المنافق، والتقي من الشقي، وليس بالنسبة له تعالى، لأنه بكل شيء عليم. اللطيفة السادسة: أمر الله تعالى بالمنّ أو الفداء، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، روي أن الحجّاج حين أسر أصحاب (عبد الرحمن بن الأشعث) وكانوا قريباً من خمسة آلاف رجل، قتل منهم ثلاثة آلاف فجاءه رجل من (كِنْدة) فقال يا حجّاج: لا جزاك الله عن السُنَّة والكرم خيراً {قال: لأن الله تعالى يقول: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} في حق الذين كفروا ... فوالله ما مننتَ، ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم ... إذا أثقلَ الأعناق حملُ المغارم فقال الحجاج: أفٍّ لهذه الجيف} {أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام} ؟ خلّوا سبيل من بقي، فخُلّي يومئذٍ عن بقية الأسرى وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل. الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد ب {الذين كَفَرُواْ} في الآية الكريمة؟ اختلف المفسرون في المراد من قوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ} على قولين: 1 - القول الأول: أن المراد بهم المشركون الكفار عبدة الأوثان. وهذا مروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 2 - القول الثاني: أن المراد بهم كل من خالف دين الإسلام من مشركٍ، أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، فيدخل فيه كلّ الكفار بدون استثناء وهو ظاهر الآية، واختيار جمهور المفسرين. قال ابن العربي: وهو الصحيح لعموم الآية فيه، والتخصيصُ لا دليل عليه. الحكم الثاني: ما المراد من قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} في الآية الكريمة؟ ذهب (السّدي) وجمهور المفسرين إلى أن المراد منه (قتل الأسير صبراً) . والراجح هو الأول: لأن الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق} قد جعلت (الإثخان) وهو الإضعاف لشوكة العدو غايةً لضرب الرقاب، فأين هو قتل الأسير صبراً؟ مع العلم بأنه إنما يقع في الأسر بعد إثخانه وضعفه، فيكون قول جمهور المفسرين هو الأرجحُ، بل هو الصحيح. الحكم الثالث: ما المراد من الفداء وما هي أنواعه؟ ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد إطلاق سراح الأسير في مقابل ما يأخذه المسلمون منهم، وقد يكون المقابل (أسرى) من المسلمين عند الكفار بطريق التبادل. وقد يكون المقابل (مالاً) أو عتاداً يأخذه المسلمون في نظير إطلاق الأسرى. وقد يكون العوض (منفعة) كما كان في غزوة بدر، فقد كان من ليس عنده مال يفدي به نفسه أمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يعلّم عشرة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أولاد المسلمين القراءة والكتابة. فالمراد من الفداء كل ما يأخذه المسلمون من أعدائهم من مال، أو عتاد، أو منفعةٍ، أو مبادلة أسرى بأسرى وغير ذلك. الحكم الرابع: ما معنى قوله تعالى: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} ؟ اختلف المفسرون في معنى الآية الكريمة على عدة أقوال: أ - قال ابن عباس: تحتى لا يبقى أحد من المشركين يقاتل. ب - وقال مجاهد: حتى لا يكون دين إلاّ دين الإسلام. ج - وقال سعيد بن جبير: حتى ينزل المسيح بن مريم وحينئذٍ ينتهي القتال. والقول الأخير ضعيف، لأنّ نزول عيسى ابن مريم ليس في الآية ما يدل عليه، وإنما يؤخذ من الأحاديث الشريفة، فبنزوله يدخل الناس في الإسلام ولا يبقى على ظهر الأرض كافر، كما دلت عليه السنة المطهرة، ولكنّ الآية ليس فيها ما يشير إلى هذا المراد من قريب أو بعيد. ومما يدل على أن المراد بالآية الكريمة ظهور الإيمان، واندحار الكفر بحيث تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى قوله تعالى: في سورة الأنفال [39] : {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} الحكم الخامس: هل يجوز قتل الأسير؟ اتفق الفهاء على جواز قتل الأسير، حتى قال: «الجصّاص» لا نعلم في ذلك خلافاً فيه، وقد تواترت الأخبار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قتله لبعض الأسرى منها: أ - ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قتل (أبا عزة) الشاعر يوم أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 ب - وقتل (عُقْبة بن أبي مُعَيط) صبراً، و (النضر بن الحارث) بعد الأسر في بدر. ج - وقتل (بني قُرَيظة) بعد نزولهم على حكم (سعد بن معاذ) الذي حكم فيهم بالقتل، وسبي الذرية. د - وفتح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيبر بعضَها صُلحاً، وبعضَها عَنْوة، وشرط على (ابن أبي الحُقَيْق) ألا يكتم شيئاً، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله عليه السلام. هـ - وفتح مكة وأمر بقتل (هلال بن خَطَل) و (عبد الله بن أبي سَرْح) و (مقيس بن حبابة) وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. فكلُّ هذه الأخبار تدل على جواز قتل الأسير، ولأنّ في قتله حسمَ مادة الفساد في الأرض. قال الألوسي: «وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيراً بنفسه، فإن فعل كان للإمام أن يعزّره، ولكنْ لا يضمن شيئاً، وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم، لاندفاع شرهم بالإسلام، ولكن يجوز استرقاقهم، فإنّ الإسلام لا ينافي الرق جزاءً على الكفر الأصلي، بخلاف ما لو اسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحراراً، لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم. .» . وقال القرطبي: «وقيل: ليس للإمام أن يقتل الأسير، وقد روي عن الحجّاج أنه دفع أسيراً إلى (عبد اله بن عمر) ليقتله فأبى وقال: ليس بهذا أمَرنا اللَّهُ، وقرأ {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق} . قلنا: قد قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفَعَله، وليس في تفسير الله للمنّ والفداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 منع من غيره، ولعلّ ابن عمر كره ذلك من بد الحجّاج فاعتذر بما قال وربك أعلم» . الحكم السادس: هل يجوز أخذ الفداء من الأسير؟ اختلف الفقهاء في أخذ الفاء من الأسير على أقوال: أولاً: مذهب الحنفية: أن الأسير لا يُفادى بالمال، ولا يباع لأهل الحرب، لأنه يرجع حرباً علينا، أمّا فداؤه بأسرى من المسلمين فجائز عند الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) وقال: (أبو حنيفة) : لا يُفادَوْن بأسرى المسلمين أيضاً. ثانياً: مذهب الجمهور (الشافعي ومالك وأحمد) جواز أخذ الفداء من الأسرى. دليل الحنفية: استدل الحنفية على عدم جواز الفداء بما يلي: أ - قالوا: إن الآية الكريمة: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وبقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] نُقل ذلك عن مجاهد. وروي عن (قتادة) أنه قال: نسختها آية الأنفال [57] : {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} ووجه الاستدلال: أنّ سورة براءة من آخر ما نزل، فوجب أن يُقتل كل مشرك، إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن يؤخذ منه الجزية، والمتأخر ينسخ المتقدم كما هو المعلوم من أصول الشريعة الغراء. ب - وقالوا: لا يجوز المنّ ولا الفداء، لأن فيه تقوية لأهل الشرك على أهل الإسلام، حيث يرجعون حرباً علينا، وقد أُمرنا بتطهير الأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 من الكفر ومن رجس المشركين. ج - وقالوا: إنّ ما روي في (أسرى بدر) منسوخ أيضاً بما تلونا، سيّما وأنه قد نزل العتاب في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] . فلا يجوز الاستدلال به على جواز أخذ الفداء. د - وقالوا: إنّ ما كان من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صلح الحديبية: «أنّ من جاء منهم رددناه عليهم» إنما كان في بدء الدعوة، وقد نسخ ذلك، ونَهَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الإقامة بين أظهر المشركين وقال: «من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذمة» . أدلة الجمهور: واستدل الجمهور على جواز فداء الأسير بعدة أدلة نوجزها فيما يلي: أ - قوله تعالى: {فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} فقد أجازت الآية الكريمة الفداء مطلقاً بدون قيد ولا شرط، فللإمام أن يمنّ أو يفدي، أو يسترقَّ، عملاً بالآية الكريمة. ب - وقالوا: إنَّ الآية محكمة ولا نسخ فيها، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ، والجمعُ ممكن فإنّ آية براءة وهي قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] أمرٌ لنا بقتل المشركين عند اللقاء، فإذا وقعوا في الأسر كففنا عن القتل إلى المنّ أو الفداء عملاً بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} . ج - واستدلوا أيضاً بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فادى أسرى بدر بالمال، ومن لم يكن عنده مال منهم أمره عليه السلام بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وهذا قد ثبت بفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. د - واستدلوا بما روى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 «أسرَتْ ثقيف رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأسر أصحابُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً من بني عامر بن صعصعة فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في الأسر فقال الأسير: علام أُحبس؟ فقال: بجريرة حلفائك، فقال: إني مسلم، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كلّ الفلاح، ثم مضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فناداه الأسير، فقال: إني جائع فأطعمني {فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نعم هذه حاجتك. . ثمّ فداه بالرجلين اللّذين كانت ثقيف أسرتهما» . قالوا: فهذا دليل على جواز فداء المسلم بغيره من المشركين. هـ - واستدلُوا با رواه مسلم عن عمران بن الحصين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين. وواستدلوا بما رواه مسلم أيضاً عن (إياس بن سلمة) عن أبيه قال: «خرجنا مع أبي بكرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وأمّره علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن قال: فلقيني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الغد في السوق فقال يا سَلَمة: هبْ لي المرأة - يعني التي نفّله أبو بكر إيّاها - فقلت يا رسول الله: لقد أعجبتني وما كشفتُ لها ثوباً. ثم لقيني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الغد في السوق، فقال يا سلمة: هب لي المرأة لله أبوك} ! فقلت: هي لك يا رسول الله، فوالله ما كشفتُ لها ثوباً. . فبعث بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ففدى بها ناساً من المسلمين أُسرُوا بمكة «. ز - واستدلوا بالمعقول وهو: أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر، للانتفاع بالمسلم، لأنّ حرمته عظيمة، وأما الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إلى المشركين، فيدفعه نفع المسلم الذي يتخلّص من فتنتهم وعذابهم، وضررُ واحد يقوم بدفعه واحد مثله فيتكافئان، وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 من عبادة الله تعالى، وفيها زيادة ترجيح. هذه خلاصة أدلة الجمهور بالنسبة (للفداء) سواءً كان بالمال أو بالرجال على ما عرفت. وأمّا (المنّ) على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز (عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد) وأجازه الإمام الشافعي لما ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منّ على (ثُمامة بن أُثال) سيّد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لو كان المطعم بن عدي حيّاً ثمّ كلمني في هؤلاء النتنى - يعني أسارى بدر - لتركتهم له «. فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك دليل على جواز المنّ على الأسرى. الترجيح: وبعد استعراض هذه الأدلة من الفريقين نرى أنَّ الأرجح أن يفوّض أمر الحرب لأهل الاختصاص من ذوي الرأي والبصر، يفعلون ما تقتضي به المصلحة العامة، فإن رأوا قتل الأسرى قتلوهم، وإن رأوا أخذ الفداء بالمال أو بالأسرى، فادْوهم، وإن رأوا إبقاءهم في الأسر تركوهم تحت أيدي المسلمين، فيترك لهم تقدير المصلحة حسب الظروف التي هم فيها، وهذه من (السياسة الحكيمة) التي ينبغي أن تتوفر في قادة المسلمين. والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد فعل ذلك كلّه، فأسر من أسر، وقتل من قتل، وفادى منهم، وأطلق سراح من أطلق دون مالٍ ولا فداء. وما نزل من آيات العتاب في سورة الأنفال فإنما كان بتوجيهٍ إلهي حكيم - حسب المصلحة أيضاً - حيث نزلت هذه الآيات الكريمة في (غزوة بدر) وهي أول حرب يخوضها المسلمون مع أعدائهم، فكانت المصلحة تقضي بترجيح جانب الشدّة على جانب الرحمة، بالقتل، والإثخان، وإراقة الدماء، حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 لا يطمع المشركون بالإقدام على حرب المسلمين مرة أخرى، وحتى تُقَلَّم أظافر الكفر منذ اللحظة الأولى، فإذا علم المشركون أن لا رحمة في قلوب المسلمين عليهم، هابوهم وتخوّفوا من الإقدام على حربهم، وهذا ما كان قد أشار به الفاروق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونزل القرآن موافقاً لرأية. ولمّا كثر عدد المسلمين، وقويت شوكتهم، وأصبحت الدولة بأيديهم نزل القرآن الكريم بالمنّ والفداء على الأسرى، بعد أن توطّدت دعائم الدولة الإسلامية، وأصبح صرح الإسلام شامخاً عتيداً، فكان المنّ عن قوّة، لا عن ضعف، وعن عزة، لا عن ذلة واستكانة. فالمصلحة العامة هي التي ينبغي أن تراعى في مثل هذه الحالات، والحربُ مكر وخديعة، ولا عزة للضعفاء المستكينين. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: المؤمن يقاتل في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، فينبغي أن يكون شجاعاً مقداماً. ثانياً: إثخان العدو بكثرة القتل فيهم والجروح، من أجل إضعاف شوكتهم وتوهين قوتهم. ثالثاً: الحرب في الإسلام حرب مقدسة، غرضها تطهير الأرض من رجس الكفرة المشركين. رابعاً: الاكتفاء بالأسر بعد إثخان العدو مظهر من مظاهر رحمة الإسلام بأعدائه. خامساً: إطلاق سراح الأسرى بدون عوض، أو أخذ الغداء منهم يبنغي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 أن تراعى فيه مصلحة المسلمين. سادساً: الجهاد في سبيل الله ماضٍ في هذه الأمة حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك. سابعاً: الله جل ثناؤه قادر على أن ينتقم من المشركين ولكنه أراد أن يُنيل المؤمنين أجر الاستشهاد في سبيله. ثامناً: الحياة ابتلاء للمؤمن والكافر، يبتلي بعضهم ببعض ليعذب الكافر ويثيب المؤمن. حكمة التشريع أقر الإسلام الحرب - مع علمه بما تجره على البلاد من ويلات ونكبات - لضرورة وقائية، وعلاج اضطراري، لا مناص منه لمجابهة الطغيان، ودفع الظلم والعدوان، وتطهير الأرض من رجس المشركين الغادرين، على حد قول القائل: إذا لم تكن إلاّ الأسنّة مركباً ... فلا بدّ للمضطر إلاّ ركوبُها ولكنّ الإسلام في الوقت الذي يدعو فيه إلى الجهاد، ويحض على القتال، ويبيح الحرب كضرورة من الضرورات، تجده يأمر بالرحمة والشفقة في (معاملة الأسرى) الواقعين في أسر العبودية، فيحرّم تعذيبهم أو إيذاءهم كما يحرم التمثيل بالقتلى، أو الإجهاز على الجرحى، أو تقتيل النساء والصبيان. إن الغرض من الجهاد ليس إراقة الدماء، وسلب الأموال، وتخريب الديار، ولكنه غرض إنساني نبيل، هو حماية المستضعفين في الأرض، ودفع عدوان الظالمين، وتأمين الدعوة، والوقوف في وجه الاستعلاء والطغيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 كما قال جل ثناؤه {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] . ولقد كان من وصايا النبي الأكرم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، للجند والجيش المجاهدين في سبيل الله، أن يأمرهم بطاعة الله، وعدم الغدر والخيانة حتى بالأعداء. فقد روى مسلم في صحيحة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «أُغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أُغزوا ولا، تَغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً» . وكذلك فعل الخلفاء الراشدون، ففي وصية أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأسامة بن زيد حين بعثه إلى الشام: «لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرّقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكله، وسوف تمرّون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم له» . وهكذا كانت رحمة الإسلام في الحرب، ممثلة بمبادئه الإنسانية الرحيمة، فالإسلام حين يبيح الحرب يجعلها مقدرة بقدرها، فلا يقتل إلاّ من يقاتل في المعركة، وأمّا من تجنّب الحرب فلا يحل قتله أو الاعتداء عليه {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [البقرة: 190] . لقد حرّم الإسلام قتل النساء، والشيوخ، والأطفال، وقتل المرضى والرهبان. وحرّم (المُثْلَة) والإجهاز على الجريح، وتتبّع الفارَّة، وتحريق البيوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 والأشجار. وذلك تمشياً مع نظرته الإنسانية المثلى، في حماية المستضعفين، ودفع الظلم والعدوان، ولأن الحرب كعملية جراحية، يجب ألاّ تتجاوز موضع المرض من جسم الإنسان. فلا عجب أن نرى هذه الرحمة ممثّلة في تعاليم القرآن، تدعو إلى الإحسان إلى الأسرى ثمّ إلى المنّ عليهم والفداء، حتى تنتهي المعركة لما فيه خير الإنسانية بانتصار الحق واندحار الباطل وصدق الله العظيم: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} . فللَّه ما أرحم الإسلام {وما أسمى مبادئه وأحكامه} ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 [2] ترك العمل بعد الشروع التحليل اللفظي {تبطلوا} : تضيعوا ثوابها من بَطَل الشيء يَبْطُل بُطْلاً وبطلاناً: ذهب ضياعاً وخسراً. {وَصَدُّواْ} : أعرضوا من الصد: وهو الإعراض والصدوف، قال تعالى: {رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 61] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 {فَلاَ تَهِنُواْ} : أي لا تفْتُروا، ولا تضعُفُوا، ولا تجبُنوا عن قتال العدو من الوهن أي الضعف في النفس والعمل قال تعالى: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 146] . {وَلَن يَتِرَكُمْ} : أي لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً، ولن يظلمكم من وتَرَه حقَّه وماله نقصه إياه وفي حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله» . قال أبو عبيدة: وترثُ الرجل إذا قتلتَ له قتيلاً من ولدٍ أو أخ، أو حميم، أو قريب، أو ذهبتَ بماله. المعنى الإجمالي نادى الله سبحانه وتعالى المؤمنين مخاطباً إياهم بوصف الإيمان تذكيراً لهم بأن هذا الوصف يدعوهم إلى طاعة أوامر الله تعالى، الآتية بعد هذا النداء، ثم جاء الأمر بطاعة الله جل جلاله في أوامره ونواهيه، فطاعته هي السبيل إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، وطاعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من طاعة المولى سبحانه فعلى المؤمن أن يتَّبعه في كل سُنَّة سنَّها. ثم نهى الله المؤمن عن إبطال عمله، فقد يقدِّم أعمالاً كثيرة من الطاعة، ولكنه قد يضيع عمله بالمعاصي والرياء والعجب ... إلى غير ما هنالك، فنهاه الله عن ذلك، فعلى المؤمن أن يحافظ على ما يقدم من الطاعات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 ثم بين الله تعالى أنه لا يغفر الشرك، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، حتى لا يظن الظان أن المؤمن إن أبطل عمله بالمعاصي فقد هلك، بل فضلُ الله باق يغفر له بفضله، وإن لم يغفر له بعمله. وإذا كان أمر الكفار في الآخرة هذا، فأمرهم في الدنيا كذلك من الذلة والحقارة، فلا تضعفوا أيها المؤمنون في ملاقاتهم، ولا تجنبوا عن قتالهم، فالنصر لك آجلاً أو عاجلاً، فلا تدعوا الكفار إلى الصلح خوراً، وإظهاراً للعجز فإن ذلك إعطاء للدنية، وأنتم الأعلون عزةً وقوةً ورفعة مكانة، وذلك لأن الله معكم يؤيدكم بنصرة، ويؤيدكم بقوته، ولن ينقصكم من أعمالكم شيئاً بل يعطيكم ثوابها كاملاً خير منقوص. فائدة أولاً: أخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: «كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرون أنه لا يضر مع (لا إله إلا الله) ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أعمالكم} فخافوا أن يبطل الذنب العمل. ولفظ عبد بن حميد» فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالكم «. ثانياً: وأخرج ابن نصر المروزي وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: كنا معاشر أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولاً حتى نزلت {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أعمالكم} فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات، والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا: قد هلك، حتى نزلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 هذه الآية: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاً خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له. وجوه القراءات أولاً: قوله تعالى: {وتدعوا إِلَى السلم} قرأ الأكثرون بفتح السين {السّلْم} . وقرأ الحسن وحمزة وغيرهما بكسر السين {السِّلْم} . ثانياً: قوله تعالى: {تدعوا} قرأ الجمهور تدعوا مضارع دعا. وقرأ السّلمي بتشديد الدال تدَّعوا: أي تفتروا. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {وَأَنتُمُ الأعلون} جملة حالية وكذا (والله معكم) . ويجوز أن يكونا جملتي استئناف أخبر أولاً بقوله أنتم الأعلون فهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود، ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها وهي كون الله تعالى معهم. فلا تهنوا: الفاء فصيحة في جواب شرط مفهوم مما قبله أي إذا علمتم أن الله مبطل أعمالهم ومعاقتهم فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفاً. وقيل: هي لترتيب النهي على ما سبق من الأمر بالطاعة. وتدعوا إلى السلم: عطف على تهنوا داخل في حيّز النهي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وجُوِّز أن يكون منصوباً بإضمار أن فيعطف المصدر المسبوك على مصدر متصيّد مما قبله. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قال الفخر الرازي: «قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الرسول} العطف ها هنا من باب عطف المسبب على السبب يقال اجلس واسترح وقم وامش، لأن طاعة الله تَحْمل على طاعة الرسول» . وقال الألوسي: «وإعادة الفعل في قوله: {وَأَطِيعُواْ الرسول} للاهتمام بشأن إطاعته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» . اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {وَلاَ تبطلوا أعمالكم} الآية. قال الفخر الرازي: يحتمل وجوهاً: أحدها: دوموا على ما أنتم عليه ولا تشركوا فتبطل أعمالكم قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . الوجه الثاني: لا تبطلوا أعمالكم بترك طاعة الرسول كما أبطل أهل الكتاب أعمالهم بتكذيب الرسول وعصيانه ويؤيده قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] . الثالث: لا بتطلوا أعمالكم بالمنّ والأذى كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} [الحجرات: 17] . وقد اختلف فيما يبطل الأعمال على أقوال: قال الحسن: المعاصي والكبائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وقال عطاء: الشك والنفاق ونقل عن ابن عباس. وقال ابن عباس: الرياء والسمعة ونقل عن ابن جريج. وقال مقاتل: المن. وقيل: العُجْب فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وقيل المراد بالأعمال الصدقات أن تعطلوها بالمن والأذى. قال القرطبي: وكله متقارب وقول الحسن يجمعه. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَأَنتُمُ الأعلون} : استعمال العلو في رفعة المنزلة مجاز مشهور، أي أنتم أعز منهم لأنكم مؤمنون والحجة لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات وذلك كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] . وقيل {وَأَنتُمُ الأعلون} : أي أنتم أعلم بالله منهم. وقال الجصاص: أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقال الجصاص: أي وأنتم أولى بالله منهم. وكلها متقاربة فالإيمان يرفع منزلة أهله ويعزهم. اللطيفة الرابعة: قال الفخر الرازي: قوله {وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم} وعد لأن الله تعالى لما قال: {والله مَعَكُمْ} كان فيه أن النصر بالله لا بكم، فكأَن القائل يقول: لم يصدر مني عمل له اعتبار، فلا استحق تعظيماً، فقال: هو ينصركم ومع ذلك لا يَنْقُص من أعمالكم شيئاً، ويجعل كأن النُصرة جعلت بكم، ومنكم، فكأنكم مستقلون في ذلك، ويعطيكم أجر المستبد. اللطيفة الخامسة: في الآية الكريمة دعوة إلى العزّة والكرامة، وتشجيع للمؤمنين للجهاد والنصال، لمجابهة أعدائهم دون وهن أو خور، لأن المؤمن لا يرضى بحياة الذلك والهوان، وقد أحسن من قال: عش عزيزاً أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 الأحكام الشرعية الحكم الأول: قوله تعالى: {وَلاَ تبطلوا أعمالكم} يدل على أن كل من دخل في قُربة، لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها. واختلف العلماء في هذا الحكم على مذهبين. فذهب (الشافعي وأحمد) إلى أن للمرء أن يترك النافلة إذا شرع فيها ولا شيء عليه ما عدا الحج فيجب عليه الإتمام، وأما في الصلاة والصوم فيستحب له الإتمام ولا يجب. وذهب (أبو حنيفة ومالك) إلى أنه ليس له ذلك، فإذا أبطله وجب عليه القضاء. أدلة المذهب الأول: قالوا: هو تطوع، والمتطوع أمير نفسه، وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع قال تعالى: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . وقالوا في جواب الاستدلال بالآية: المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض. فنهي الرجل عن إحباط ثوابه، فأما ما كان نفلاً فلا، لأنه ليس واجباً عليه. واللفظ في الآية وإن كان عاماً، فالعام يجوز تخصيصه، ووجه تخصيصه أن النفل تطوع والتطوع يقتضي تخييراً. أدلة المذهب الثاني: قوله تعالى: {وَلاَ تبطلوا أعمالكم} أفاد أن التحلل من التطوع بعد التلبس به لا يجوز لأن فيه إبطال العلم وقد نهى الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: كنت أنا وحفصة صائمين فأهدي لنا طعام، فأكلنا منه فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالت حفصة وبدرتني، وكانت بنت أبيها: يا رسول الله، إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه فقال: «اقضيا مكانه يوماً» . وقالوا في جواب دليل المذهب الأول: المتطوع أمير نفسه، ولا سبيل عليه قبل أن يشرع أما إذا شرع فقد ألزم نفسه، وعقد عزمه على الفعل، فوجب أن يؤدي ما التزم وأن يوفي بما عقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] . ثم اللفظ عام في الآية يشمل التطوع وغيره. الحكم الثاني: قوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} . فيه دلالة على أنه لا يجوز طلب الصلح من المشركين، فأما إذا كان في الكفار قوة وكثرة بالنسبة إلى جمع المسلمين، ورأى الإمام المسلم في المهادنة، والمعاهدة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين صده كفار قريش عن مكة ودعوة إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى ذلك. فائدة: دلّ قوله تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون ... } الآية على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يدخل مكة صلحاً، وإنما فتحها عَنوةً، لأن الله تعالى قد نهاه عن الصلح في هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 سورة الحجرات [1] التثبت من الأخبار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 التحليل اللفظي {فَاسِقٌ} : الفاسق: الخارج من حدود الشرع، والفسقُ في أصل الاشتقاق موضوع لما يدل على معنى (الخروج) مأخوذ من قولهم: فسقت الرُطبةُ إذا خرجت من قشرها، وسمّي الفاسق فاسقاً لانسلاخه عن الخير. وفي اللسان: الفسق: العصيان والترك لأمر الله عَزَّ وَجَلَّ، والخروج عن طريق الحق، ومنه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي خرج من طاعة ربه، والفواسق من النساء: الفواجر قال الشاعر: فواسقاً من أمره جوائراً ... قال الراغب: والفسق أعم من الكفر، لأنه يقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تعورف فيما كان بالكثير، وأكثر ما يقال لمن كان مؤمناً ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها. {بِنَبَإٍ} : النبأ في اللغة: الخبر، والجمع أنباء كذا في «القاموس» و «اللسان» ، ويرى بعض اللغويين أنه لا يقال للخبر: نبأ حتى يكون هامّاً، ذا فائدة عظيمة، فكل خبر هام يسمّى (نبأ) قال تعالى: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] وقال عَزَّ وَجَلَّ ّ {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67 - 68] وأمّا إذا لم يكن هاماً فلا يقال له نبأ. قال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل (نبأ) حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 {فتبينوا} : التبيّن: طلب البيان والتعرّف، وقريب من التثبت، والمراد به هنا التحقق والتثبت من الخبر حتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره. ومعنى الآية الكريمة: إن جاءكم فاسق بنبأ عظيم له نتائج خطيرة، فلا تقبلوا قوله حتى تتثبّتوا وتتحققوا من صدقه، لتأمنوا العاقبة. {بجهالة} : أي جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتكم أمرهم. {نادمين} : الندم: الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، يقال: ندم على الشيء، وندم على ما فعل ندماً وندامة، وتندّم أسِف، كذا في «اللسان» . والمراد بالندم: الهمّ الدائم، والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام كما في قولهم: أدمن في الشرب، ومَدَنَ أي أقام ومنه المدينة. {لَعَنِتُّمْ} : أي لوقعتم في العَنَت، قال ابن الأثير: العنت: المشقة، والفساد، والهلاك. وقال في «اللسان» : العنت: الهلاك، وأعنَتَه: أوقعه في الهلكة، وقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في الفساد والهلاك. يقال: فلان يتعنّت فلاناً أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك، ويقال أعنَتَ العظمُ إذا كسر بعد الجبر. {الراشدون} : جمع راشد، وهو المهتدي إلى محاسن الأمور ومنه سمي الخلفاء الراشدون، والرَشَد الاستقامة على طريق الحق مع تصلّب فيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 من الرشّاد وهو الصخر. {بَغَتْ} : البغي: التطاول والفساد قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] . وأصل البغي: مجاوزة الحد في الظلم والطغيان، والفئة الباغية: هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل وفي الحديث (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) . قال في اللسان: وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بغيٌ، وفي التنزيل: {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} [ص: 22] . {تفياء} : أي ترجع إلى الطاعة، وفاء إلى الشيء: رجع إليه ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 226] أي رجعوا. والفيء: ما رجع إلى المسلمين من الكفار بدون حرب. {المقسطين} : العادلين المحقين، من الرباعي (أقسط) بمعنى عدل، وأمّا (قَسَطَ) فمعناه ظلم وقد تقدّم. المعنى الإجمالي يقول الله تبارك وتعالى ما معناه: يا أيها المؤمنون، يا من أتصفتم بالإيمان، وصدّقتم بكتاب الله، وآمنتم برسوله، وعلمتم علم اليقين أنّ ما جاءكم به الرسول حق لأنه من عند الله، لا تسمعوا لكل خبر، ولا تصدّقوا كل إنسان، بل تحقّقوا وتثبتوا من الأمر، قبل أن تصيبوا إخوة لكم مؤمنين، بسبب خبر لم تتحققوا من صحته، وكلام لم تتأكدوا من صدقه، فتندموا على ما فرط منكم، ولكن لا ينفعكم حينئذٍ الندم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 واعلموا - أيها المؤمنون - أن فيكم السيّد المبجّل، والنبيّ المعظّم (رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، الذي يطلعه الله على الخفايا، فلا تحاولوا أن تستميلوه لرأيكم، ولو أنه استجاب لكم، وأطاعكم في غالب ما تشيرون به عليه، لوقعتم في الجهد والهلاك، ولكنّ الله - بمنّة وفضله - حفظه وحفظكم، ونوّر بصائر أتباعه المؤمنين، وحبّب إليهم الإيمان، وبغّض إليهم الكفّر والفسوق والعصيان، وأرشدهم إلى سبيل الخير والسعادة. ثمّ عقّب تعالى بما يترتب على سماع مثل هذه (الأنباء المكذوبة) من تخاصم، وتباغض، وتقاتل، فقال: إذا رأيتم أيها المؤمنون طائفتين من إخوانكم جنحتا إلى القتال والعدوان، فابذلوا جهدكم للتوفيق بينهما، وادعوهما إلى النزول على حكم الله، فإن اعتدت إحدى الطائفتين على الأخرى وتجاوزت حدّها بالظلم والطغيان، وأرادت أن تبغي في الأرض، فقاتلوا تلك الطائفة الباغية، حتى تثوب إلى رشدها، وترضى بحكم الله عَزَّ وَجَلَّ ّ، وتقلع عن البغي والعدوان، فإذا كفّت عن العدوان فأصلحوا بينهما بالعدل، لأنهم إخوتكم في الدين، ومن واجب المسلمين أن يَصْلحوا بين الإخوان، لا أن يتركوا البغضاء تدبّ، والفرقة تعمل عملها، لأنّ المؤمنين جميعاً إخوة، جمعتهم (رابطة الإيمان) وليس ثمة طريق إلى إعادة الصفاء إلاّ بالإصلاح بين المتخاصمين، فهو سبيل الفلاح وطريق الفوز والنجاح، واتقوا الله لتنالكم رحمته، وتسعدوا بمرضاته ولقائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 سبب النزول أولاً: روى الإمام أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي أنه قال: «قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فدعاني إلى الإسلام، فدخلتُ فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً لإبّان كذا، وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة. . فلمّا جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ زمان الوعد الذي أراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبعث إليه، احتبس الرسول فلم يأت، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطه من الله ورسوله، فدعا سَرَوَات قومه فقال لهم: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانَ وقَّت لي وقتاً يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة، وليس من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخُلْف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطةٍ عليَّ، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ وبعث رسول الله (الوليد بن عقبة) إلى الحارث ليقبض ما كان عنده ممّا جُمع من الزكاة، فلمّا سار حتى بلغ بعض الطريق، فَرِق فرجع، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البَعْث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتى استقبله البعث وقد فصل عن المدينة، قالوا: هذا الحارث. فلما غشيهم قال إلى أين؟ قالوا: إليك، قال: ولم، قالوا: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان بعث إليك (الوليد بن عقبة) فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته، ولا أتاني، فلما دخل الحارث على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلتُ إلاّ حين احتبس عليّ رسولُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، خشية من أن تكون سخطة من الله ورسوله عليّ، فنزلت الآية: {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} . قال الإمام الفخر: ما ذكره المفسّرون من أنها نزلت بسبب (الوليد بن عقبة) حين بعثه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بني المصطلق ليقبض صدقاتهم ... الخ إن كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبت في خبر الفاسق، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهذا ضعيف، لأن الوليد لم يتقصّد الإساءة إليهم، ورواية الإمام أحمد تدل على أنّ الوليد خاف وفَرق حين رأى جماعة الحارث - وقد خرجت في انتظاره - فظنّها خرجت لحربة فرجع وأخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما أخبره ظناً منه أنهم خرجوا لقتاله. يقول الإمام الفخر: «ويدل على ضعف قول من يقول إنها نزلت لكذا أن الله تعالى لم يقل: إني أنزلتها لكذا والنبي عليه السلام لم ينقل عنه أنه بيّن أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل التاريخ لنزول الآية، ويتأكد ما ذكرنا أن اطلاق لفظ (الفاسق) على الوليد شيء بعيد، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المرادُ به من خرج من ربقة الإيمان لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المنافقون: 6] وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وقوله تعالى: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار} [السجدة: 20] إلى غير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 ب - وأمَّا قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} فقد ذُكِر في سبب نزولها ما يأتي: أولاً: أخرج البخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو أتيتَ (عبد الله بن أُبَي) فانطلَقَ إليه وركب حماراً، وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: واللَّهِ لحمارُ رسول الله أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنّعال، فأنزل الله فيهم: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} . ثانياً: وروى الشيخان عن أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج يعود (سعد بن عُبادة) فمرّ بمجلس فيهم عبد الله بن أُبَيّ، وعبد الله بن رواحة، فخمّر ابن أُبيّ وجهه برادائه، وقال: لا تغبّروا علينا، فقال عبد الله بن رواحة: لحمار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطيب ريحاً منك، فتعصّب لكل أصحابه فتقاتلوا حتى كان بينم ضرب بالنعال والأيدي والسّعف فنزلت الآية. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: سورة الحجرات تسمّى سورة (الأخلاق والآداب) فقد أرشدت إلى مكارم الأخلاق، وجاء فيها النداء بوصف الإيمان بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا} خمس مرات، وفي كل مرة إرشاد إلى مكرمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 من المكارم، وفضيلة من الفضائل، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات وهي: 1 - وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعدم التقدم عليه برأي أو قول: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ ... } [الحجرات: 1] أي لا تَعْجَلوا بقولٍ أو فعل قبل أن يقول فيه رسول الله أو يفعل. 2 - احترام الرسول وتعظيم شأنه وعدم رفع الصوت في حضرته {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ... } [الحجرات: 2] الآية. 3 - وجوب التثبت من صحة الأخبار، وعدم الاعتماد على أقوال الفسقة المفسدين {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا ... } الآية. 4 - النهي عن السخرية بالناس وعن التنابز بالألقاب {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ... } [الحجرات: 11] الآية. 5 - النهي عن التجسّس، والغيبة، وسوء الظن، وعن سائر الأخلاق الذميمة {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ... } [الحجرات: 12] الآية. فهذه السورة الكريمة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، قد جمعت الفضائل والآداب الإنسانية، فلا عجب أن تسمى (سورة الآداب) أو (سورة الأخلاق) فهي تتناول الأدب مع الله، والأدب مع الرسول، والأدب مع النفس، والأدب مع المؤمنين، والأدب مع الناس عامة، وكلها بهذا الشكل الرتيب. اللطيفة الثانية: تصدير الخطاب بالنداء {ياأيها الذين آمنوا} لتنبيه المخاطبين على أنّما بعده أمر خطير، يستدعي مزيد العناية والاهتمام بشأنه، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه، ووازع عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الإخلال به. أفاده العلامة أبو السعود. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون حذراً يقظاً، لا يقبل كلّ كلام يلقى على عواهنه، دون أن يعرف المصدر، وتنكير (فاسق) للتعميم، لأنه نكرة في سياق الشرط، وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرّره علماء الأصول، والمعنى إن جاءكم أيّ فاسق فتثبتوا من خبره، وجاء بحرف التشكيك (إن) ولم يقل (إذا) التي تفيد التحقيق، ليشير إلى أنّ وقوع مثل هذا إنما هو على سبيل (النّدرة) إذْ الأصل في المؤمن أن يكون صادقاً ولمَّا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من (الوليد بن عقبة) إلاّ في النّدرة قيل: {إِن جَآءَكُمْ} بحرف الشك. فتدبر أسرار الكتاب العزيز. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} تقديم خبر أنّ على اسمها ليفيد معنى الحصر، المستتبع لزيادة التوبيخ لهم على ما فرط منهم في حقّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي الكلام إشعار بأنّهم زيّنوا بين يدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الايقاع بالحارث وقومه، وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه السلام بين أظهرهم. قال الإمام الفخر رَحِمَهُ اللَّهُ: «والذي اختاره وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال: {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} أي فتثبّتوا واكشفوا قال بعده: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} . أي الكشفُ سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإنه فيكم مبيّن مرشد، وهذا كما قال القائل عند اختلاف تلاميذ شيخٍ في مسألة، هذا الشيخ قاعد. . لا يريد به بيان قعوده، وإنما يريد أمرهم بالرجوع إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 فكأن الله تعالى يقول: استرشدوا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن يعلم ولا يطيع أحداً، فلا يوجد فيه حيف، ولا يروج عليه زيف، لأنه لا يعتمد على كثير من آرائكم التي تبدونها، وإنما يعتمد على الوحي الذي يأتيه من عند الله. اللطيفة الخامسة: صيغة المضارع تفيد (الاستمرار والتجدّد) بخلاف الماضي، فالعدول عن الماضي إلى المضارع في قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} ليفيد هذا المعنى على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول لهم إطاعة مستمرة بدليل قوله تعالى: {فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار، تقول: فلانَ يقري الضيف، ويحمي الحريم، تريد أن ذلك شأنه وأنه مستمر على ذلك. قال العلامة الألوسي: «وفي هذا التعبير {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} مبالغات من أوجه: أحدها: إيثار (لو) ليدلّ على الفرض والتقدير. والثاني: ما في العدول إلى المضارع من إرادة استمرار ما حقه أن يفرض للتهجين والتوبيخ. والثالث: ما في لفظ (العنت) من الدلالة على أشدّ المحذورة، فإنه الكسر بعد الجبر. والرابع: ما في الخطاب، والجدير به غير (الكُمّل) ليكون أردع لمرتكبه وأزجر. وكأنّ الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ولا تكونوا أمثال هؤلاء الذين استفزهم النبأ قبل التعرف على صدقه، ثم لم يكتفوا حتى أرادوا أن يحملوا الرسول على رأيهم، ليوقعوا أنفسهم ويوقعوا غيرهم في العنت والإرهاق، واعلموا جلالة قدر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتفادّوْا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 عن أمثال هذه الأخطاء. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {أولئك هُمُ الراشدون} التفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39] وهذا الالتفات من المحسّنات البديعية كما قرّره علماء البلاغة، كما قرّره علماء البلاغة، ويقصد به التعظيم أي هؤلاء الذين حبّب الله إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق العصيان، هم الذين بلغوا أرفع الدرجات وأعلى المناصب، ونالوا هذه الرتبة العظيمة (رتبة الرشاد) فضلاً من الله وكرماً. اللطيفة السابعة: قوله تعالى {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} الطائفة في اللفظ مفرد، وفي المعنى جمع، لأنها تدل على عدد كبير من الناس، ولهذا جاء التعبير بقوله (اقتتلوا) رعايةً للمعنى فإن كلّ طائفةٍ من الطائفتين جماعة، ثم قال تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} ولم يقل بينهم رعايةَ للفظ، والنكتة في هذا هو ما قيل: إنهم عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة وهم مختلطون فلذا جمع الضمير، وفي حال الصلح تتفّق كلمة كل طائفة حتى يكونوا كنفسين فلذا ثُنّي الضمير. اللطيفة الثامنة: قال الإمام الفخر رَحِمَهُ اللَّهُ: قال تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} ولم يقل (منكم) مع أنّ الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله: {ياأيها الذين آمنوا} تنبيهاً على قبح ذلك، وتبعيداً لهم عنهم. كما يقول السيد لعبده: إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطَب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول: أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك هاهنا قال: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين} ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 اللطيفة التاسعة: قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} فيه تشبيه لطيف يسمى (التشبيه البليغ) وأصل الكلام: المؤمنون كالإخوة في وجوب التراحم والتناصر فحذف وجه الشبه وأداة الشبة فأصبح بليغاً، قال بعض أهل اللغة: الإخوة جمع الأخ من النسب، والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} تأكيداً للأمر وإشارة إلى أنّ ما بينهم كما بين الإخوة من النسب، والإسلام لهم كالأب فأخوّة (العقيدة) فوق أخوة (الجسد) ورابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب، وقد قال الشاعر العربي: أبي الإسلام لا أب ليسواه ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم اللطيفة العاشرة: سئل بعض العلماء عمّا وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من قتال فقال: تلك دماء قد طهّر الله منها أيدينا، فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيلُ ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته. وسئل (الحسن البصري) عن قتالهم فقال: (قتالٌ شَهِدَهُ أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغبنا، وعلموا، وجهلنا، واجتمعوا فاتّبعنا، واختلفوا فوقفنا) . وقال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ولا نبتدع رأياً منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا وجه الله عَزَّ وَجَلَّ ّ. وجوه القراءات 1 - قوله تعالى: {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} قرأ الجمهور {فتبيّنوا} من التبيّن، وقرأ خمزة والكسائي {فتثبتوا} من التثبت، والمعنى واحد لأن التبيّن معناه في اللغة التثبت والتحقق. 2 - قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} قرأ الجمهور {اقتتلوا} بصيغة الجمع، وقرأ أُبي بن كعب، وابن مسعود {اقتتلا} بالتثنية على فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 اثنين مذكّرين، وقرأ أبو المتوكل، وابن أبي عبلة {اقتتلتا} بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنتين مؤنثتين. 3 - قوله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} قرأ الأكثرون {بين أخويكم} بياء التثنية، وقرأ أبي بن كعب، وابن جُبير {بين إخوتكم} بالتاء على الجمع، وقرأ الحسن وابن سيرين {بين إخوانكم} بالنون وألف قبلها ويكون المراد بين الأوس والخزرج. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {فتبينوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بجهالة} في تقديره وجهان: أحدهما: أن يكون التقدير لئلا تصيبوا وهو مذهب الكوفيّين. والثاني: أن يكون التقدير كراهية أن تصيبوا أو خشيَة أن تصيبوا وهو مذهب البصريين. 2 - قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} عطف على ما قبله و (أنّ) وما بعدها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي (اعلموا) . 3 - قوله تعالى: {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} في إعرابه وجهان: أحدهما: أن يكون منصوباً على المفعول له. والثاني: أن يكون مصدراً مؤكداً لما قبله أي تفضلاً من الله. 4 - قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} (إنْ) شرطية جازمة، و (طائفتان) فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور تقديره: إن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وإنما قدّرنا ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 لأنّ الشرط في (إنْ) أن يليها الفعل، فإن وليها اسم قدّروا لها فعلاً يفسّره ما بعده. قال ابن الأنباري: ولا يجوز أن يحذف الفعل مع شيء من كلمات الشرط العاملة إلاّ مع (إنْ) لأنها الأصل في كلمات الشرط، ويثبت للأصل ما لا يثبتُ للفرع. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل يُقبل خبر الواحد إذا كان عدلاً؟ استدل العلماء بهذه الآية الكريمة {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً ووجه الاستدلال من جهتين: الأولى: أن الله تعالى أمر بالتثبت في خبر الفاسق، ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لم كان ثمة فائدة من ذكر التثبّت، لأن خبر كلٍ من العدل والفاسق مردود، فلما دلّ الأمر بالتثبت في خبر الفاسق، وجب قبول خبر العدل، وهذا الاستدلال كما يقول علماء الأصول من باب (مفهوم المخالفة) . الثانية: أن العلة في ردّ الخبر هي (الفسق) لأن الخبر أمانة، والفسقُ يبطلها، فإذا انتفت العلة النتفى الرد، وثبت أن خبر الواحد ليس مردوداً، وإذا ثبت ذلك وجب حينئذٍ قبوله والعمل به. وأمّا المجهول: الذي لا تُعلم عدالته ولا فسقه فقد استدل فقهاء الحنفية على قبول خبره، وحجتهم في ذلك أن الآية دلت علىأنّ الفسق شرط وجوب التثبت، فإذا انتفى الفسق فقد انتفى وجوبه، ويبقى ما وراءه على الأصل وهو قبول خبره، لأن الأصل في المؤمن العدالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 وأنت ترى أنّ هذا الاستدلال مبيٌ على أنّ الأصل العدالة، ولكنّ بعض الفقهاء يعارض في هذا ويقول: الأصل الفسق لأنه أكثر، والعدالة طارئة فلا يقبل قوله حتى يثبت من عدالته. الترجيح: والظاهر أن مسألة قبول خبر المجهول مبنيّة على هذا، فإن صحّ أن الأصل العدالة فهو باق على عدالته حتى يتبيّن خلافها، وإن كان الأصل عدمها فهو داخل في حكم الفسق حتى تتبيّن عدالته، والمسألة تطلب بالتفصيل من كتب الأصول. الحكم الثاني: هل يجب البحث عن عدالة الصحابة في الشهادة والرواية؟ استدل بعض العلماء بالآية الكريمة على أنّ من الصحابة من ليس بعدل، لأنّ الله تعالى أطلق لقب الفاسق على (الوليد بن عقبة) فإنها نزلت فيه، وسببُ النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق، وقد أمر الله بالتثبت من خبره، فلا بدّ من البحث عن عدالة الصحابة في الشهادة والرواية. والمسألة خلافية وفيها أقوال كثيرة نذكرها بإيجاز: الأول: أن الصحابة كلّهم عدول، ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة، وهذا رأي جمهور العلماء سلفاً وخلفاً. الثاني: أن الصحابة كغيرهم يُبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين (أبي بكر) و (عمر) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. الثالث: أنهم عدول إلى زمن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ويبحث عن عدالتهم من مقتله، وهذا رأي طائفة من العلماء. الرابع: أنهم عدول إلاّ من قاتل علياً كرّم الله وجهه لفسقه بالخروج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 على الإمام الحق وهذا مذهب المعتزلة. الترجيح: والحق ما ذهب إليه جمهور العلماء سلفاً وخلفاً من أن الصحابة كلهم عدول، ببركة صحبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومزيد ثناء الله عزّ وجلّ عليهم في كتابه العزيز كقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي عدولاً، وقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقوله جلّ ذكره: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . وقوله جلّ وعلا: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون} [الحشر: 8] وقوله جلّ وعلا: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119] إلى آخر ما هناك من الآيات الكثيرة. وكذلك ما ثبت في السنة المطهرة من مدحهم، والثناء عليهم، وبيان أنهم أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإطلاق، ونحن نذكر بعض هذه الأحاديث الشريفة التي تشير إلى فضيلتهم باختصار. أ - قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خير الناس قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم» الحديث. ب - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تسبُّوا أصحابي فالوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه» . ج - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي، لا تتّخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبّهم فبحبي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 فهذه الأخبار التي وردت في الكتاب والسنة كلها متضافرة على عدالة الصحابة وأفضليتهم على سائر الناس، وما وقع من بعضهم من مخالفات فليس يسوغ لنا أن نحكم عليهم بالفسق، لأنهم لا يصرّون على الذنب، وإذا تاب الإنسان رجعت إليه عدالته ولا يحكم بفسقه على التأبيد، فهذا (ماعز الأسلمي) الذي ارتكب الفاحشة يقول عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن أمر برجمه «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» . والقولُ: بأنَّ بعض الصحابة قد وقع في الذنب والمخالفة - بناء على الاعتقاد بعدم عصمتهم - لا يعني أنهم غير عدول، لن الفاسق الذي ترد شهادته وروايته هو الذي يصرّ على الذنب والمعصية، وليس في الصحابة من يصر على ذلك. وقد عرفتَ ما ذكره الإمام الفخر أنها لم تنزل خاصة بسبب (الوليد بن عقبة) وإنما نزلت عامة في بيان حكم كل فاسق، وأنها نزلت في ذلك الوقت الذي حدثت فيه تلك القصة، فهي مِثْل التاريخ لنزول الآية، وكلامُ الإمام الفخر نفيس فارجع إليه. الحكم الثالث: هل تقبل شهادة الفاسق أو المبتدع؟ أتفق العلماء على أن شهادة الفاسق لا تقبل عملاً بالآية الكريمة {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} ، وكذلك لا تقبل روايته، لأن الرواية عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمانة ودين، والفسقُ يبطلها لاحتمال كذبه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال القرطبي: «ومن ثبتَ فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعاً، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وقال الجصّاص: «وقوله تعالى: {فتبينوا} اقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقاً، إذ كان كل شهادة خبراً، وكذلك سائر أخباره، فلذلك قلنا: شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق، وكذلك أخباره في الرواية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكلّ ما كان من أمر الدين، يتعلّق به إثبات شرع، أو حكم، إو إثبات حق على إنسان» . وقد استثنى العلماء من قبول خبر الفاسق أموراً تتعلّق بالمعاملات وليس فيها شهادة على الغير منها: أ - قبول قوله في الإقرار على نفسه مثل: لفلان عندي مائة درهم فيقبل قوله كما يقبل في ذلك قول الكافر، لأنه إقرار لغيره بحق على نفسه فلا تشترط فيه العدالة. ب - قبول قوله في الهدية والوكالة مثل إذا قال: إنّ فلاناً أهدى إليك هذا، يجوز له قبوله وقبضه، ونحوه قوله: وكّلني فلان ببيع عبده هذا فيجوز شراؤه منه. ج - وكذلك في الإذن بالدخول ونحوه كما إذا استأذن إنسان فقال له: ادخلْ لا تشترط فيه العدالة. ومثل هذا جميع أخبار المعاملات إذا لم يكن فيها شهادة على الغير. واختلف العلماء في أمر الولاية بالنكاح، «فذهب الشافعي» وغيره إلى أن الفاسق لا يكون وليّاً في النكاح، لأنه يسيء التصرف، وقد يضرّ بمن يلي أمر نكاحها بسبب فسوقه. وقال أبو حنيفة ومالك: تصح ولايته، لأنه يلي مالها فيلي بُضْعها كالعدل، وهو - وإن كان فاسقاً - إلاّ أنّ غيرته موفّرة، وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحُرمة، وإذا ولي المال فالنكاح أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 أما المبتدع: وهو الفاسق الذي يكون فسقه بسبب الاعتقاد، وهو متأول للنصوص كالجبرية والقدرية ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليّين من ردّ شهادته وروايته كالإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ ومنهم من قبلهما، وفرّق الحنفيّة فقالوا: تقبل منه الشهادة، ولا تقبل منه الرواية، لأنّ من ابتدع بدعة بسبب الدين فلا يبعد أن ينتصر لهواه ويدعو الناس إلى ذلك فنردّ روايته دون شهادته، لأنّ الدعوة إلى مذهبه داعية إلى النقل فلا يؤتمن على الرواية. وهذا مذهب جمهور أئمة الفقه والحديث. الحكم الرابع: هل تصحّ ولاية الفاسق؟ قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: «ومن العجب أن يجوّز الشافعيّ ونظراؤه إمامة الفاسق، ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دَيْن؟! وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلّون بالناس، لمّا فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صُلّي معهم ووراءهم، كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسنْ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. ثمّ كان من الناس من إذا صلى معهم تقيّة أعادوا الصلاة لله، ومنهم من كان يجعلها صلاته، وبوجوب الإعادة أقول، فلا ينبغي لأحدٍ أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة، ولكنْ يعيدُ سرّاً في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره. وأمّا أحكامه إن كان والياً فينفذ منها ما وافق الحقّ، ويردّ ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تُؤْثر، أو قول يُحْكى، فإنّ الكلام كثير، والحقّ ظاهر «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الحكم الخامس: هل يجب قتال أهل البغي؟ ذهب جمهور العلماء إلى وجوب قتال أهل البغي، الخارجين على الإمام أو أحد المسلمين، ولكنْ بعد دعوتهم إلى الوفاق والصلح، والسير بينهم بما يصلح ذات البين، فإن أقاموا على البغي وجب قتالهم عملاً بقوله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فقاتلوا التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} . وذهب جماعة منَّن يدَّعي العلم إلى عدم جواز قتال البغاة من المؤمنين، واحتجوا بقوله عليه السلام:» سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر «. وهذا الحديث لا ينهض حجة لهم، لأنّ من بغى من المؤمنين فقد أمر القرآن بقتاله، فكيف يحتج بمثل هذا الحديث لإبطال حكم الله عَزَّ وَجَلَّ ّ؟ قال القرطبي: وهذه الآية دليل على فساد قول من منع من قتال المؤمنين، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك!! وقد قاتل الصدّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من تمسّك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألاّ يُتبع مولٍّ، ولا يُجهز على جريح، ولا تَحِلّ أموالهم بخلاف الكفار. وقال الطبري:» لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهربَ منه ولزوم المنازل، لما أُقيم حد، ولا أُبطل باطلٌ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزّبوا عليهم، ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام: «خذوا على أيدي سفهائكم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 أدلة الجمهور: استدل الجمهور على وجوب قتال البغاة بعدة أدلة نوجزها فيما يلي: أ - قوله تعالى: {فقاتلوا التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} الآية. ب - حديث: «سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز إيمانُهُم حناجِرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» . ج - حديث: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قومٌ يحسنون القول ويسيئون العمل، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، لا يرجعون حتى يرتدّ على فوقه، هم شرّ الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، قالوا يا رسول الله: ما سيماهم؟ قال: التحليق» د - وقال عليه السلام في عمار: «تقتله الفئة الباغية» . فهذه الأحاديث صريحة في وجوب قتال أهل البغي ومن شايعهم على باطلهم من أهل الفجور والضلال. قال الجصّاص: «ولم يختلف أصحاب رسول الله في وجوب قتال (الفئة الباغية) بالسيف إذا لم يردعها غيره، ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنهم لتقلوهم وسبوا ذراريهم ونساءهم. فإن قيل قد جلس عن علي جماعة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم: (سعد، وأسامة بن زيد، وابن عمر) !! قيل له: لم يقعدوا عنه لأنهم لم يروا قتال الفئة الباغية، وجائزٌ أن يكون قعودهم عنه لأنهم رأوا الإمام مكتفياً بمن معه، مستغنياً عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك، ألا ترى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 أنهم قعدوا عن قتال الخوارج، لا على أنهم لم يروا قتالهم واجباً، لكنهم لما وجدوا من كفاهم قتل الخوارج استغنوا عن مباشرة قتالهم» . الحكم السادس: هل تكون أموال البغاة غنيمة للمسلمين؟ اختلف العلماء في حكم أموال البغاة هل تكون غنيمة للمسلمين؟ أم تردّ إليهم بعد الصلح وانتهاء الحرب؟ أ - فقال محمد بن الحسن الشيباني: إنّ أموالهم لا تكون غنيمة، وإنما يستعان على حربهم بسلاحهم وخيلهم عند الاستيلاء عليه، فإذا وضعت الحرب أوزارها رُدّ عليهم السلاح والمال. ب - وقال أبو يوسف: إنّ ما وجد في أيدي أهل البغي من سلاح وعتاد فهو (غنيمة) يقسم ويخمّس. ج - وقال مالك: لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم، وهو مذهب الشافعي. حجة أبي يوسف: أنهم باغون معتدون فيقسم مالهم غنيمة بين المسلمين. حجة الجمهور: أنّ بغيهم يُحلّ قتالهم ولا يُحلّ أموالهم وذراريهم لأنهم ليسوا كفاراً، وإنما هم مؤمنون باغون، أو فاسقون خارجون عن الطاعة، والأمر بقتالهم من أجل ردّهم إلى صف المؤمنين. واستدلوا بحديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «يا عبد الله أتدري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 كيف حُكْم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال: لا يُجهز على جريحها، ولا يُقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يُقسم فيئها» . قال القرطبي: «والمعوّل في ذلك عندنا أن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم في حروبهم لم يتبعوا مدبراً، ولا ذفَّفوا على جريح، ولا قتلوا أسيراً، ولا ضمّنوا نفساً ولا مالاً، وهم القدوة» . الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأنهم ليسوا كفاراً، ولأننا لو أخذنا أموالهم وسبينا ذراريهم بألبوا علينا ولم يمكن ردّهم إلى صف المسلمين والله أعلم. فائدة هامة: حول ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. قال العلامة القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: «لا يجوز أن يُنسب إلى إحدٍ من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عَزَّ وَجَلَّ ّ، وهم كلّهم بنا أئمة، وقد تعبّدنا بالكف عمّا شجر بينهم، وألاّ نذكرهم إلاّ بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن سبّهم، وأنّ غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم» . هذا مع قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً، لأن الشهادة لا تكون إلا بالقتل في الطاعة. وممّا يدل على ذلك ما قد صحّ بأن قاتل الزبير في النار، وقوله عليه السلام: «بشّر قاتل ابن صفية بالنار» ، وإذا كان كذلك فقد ثبت أن (طلحة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 و (الزبير) غير عاصيين، ولا آثمين بالقتال، وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: وجوب التثبت من الأخبار وعدم الوثوق بخبر الفاسق الخارج عن طاعة الله. ثانياً: ضرورة التريث قبل الحكم على الأشخاص لمجرد سماع الأنباء خشية الظلم والعدوان عليهم. ثالثاً: الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو المرجع للمؤمنين، فلا يجوز لأحدٍ من أهل الإيمان أن يقطع بأمرٍ دونه. رابعاً: وجوب الإصلاح بين طوائف المؤمنين عند حصول النزاع خشية تصدُّعِ الصف، وتفرُّقِ الكلمة. خامساً: إذا بغت إحدى الطائفتين على الأخرى ولم يمكن الاصلاح وجبَ قبر الفتنة بحدّ السيف. سادساً: المؤمنون إخوة جمعتهم رابطة (العقيدة والإيمان) وهذه الرابطة أقوى من رابطة النسب والدم. سابعاً: يجب على المؤمنين مقاومة أهل البغي إبقاءً لوحدة الأمة الإسلامية ودفعاً للظلم عن المستضعفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 خاتمة البحث: حكمة التشريع يدعو الإسلام إلى التثبت في الخبر، وأخذ الحيطة والحذر، في كل أمرٍ من أمور المؤمنين، ليجتنبوا المزالق التي يدبّرها لهم أعداؤهم، ويكونوا على بيّنةٍ من أمرهم، فكم من فتنة حصلت بسبب خبر كاذب، نقله فاسق فاجر؟ وكم من دماء أريقت بسبب فتنةٍ هوجاء، أشعلَ نارَها أناسٌ ماكرون؟ لا يريدون للأمة الخير، ولا يضمرون للمسلمين إلاّ كل شرّ، وبلاءٍ، وفتنة، ليفسدوا عليهم وحدتهم، ويكدّروا عليهم صفاءهم وسرورهم. لذلك أمر الإسلام بمبدأ كريم فاضل (مبدأ التمحيص) والتثبت من كل خبر، وخاصة خبر الفاسق، الذي لا يقيم حرمةً للدين، ولا يبالي بما يحدث من جراء كذبه وبهتانه، من أضرار فادحة، ونتائج وخيمة، تشلّ حركة المجتمع، وقد تفضي إلى فجيعة عظيمة تودي بحَياة أناسٍ بريئين، كما كان سيحدث في قصة (الوليد بن عقبة) لولا أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ أطلع رسوله على جليّة الأمر، بواسطة الوحي المنزل، فكان في ذلك صيانة الدماء البريئة، وحفظ وحدة المسلمين. كما أمر الإسلام بمقاومة الظلم والطغيان، أيّاً كان مصدره، فدعا إلى الإصلاح بين الطوائف المتنازعة، والفئات المتخاصمة، فإن لم ينفع الصلح، ولم تثمر دعوته، كان السيف هو الحكم الفاصل تقاتل به الفئة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، وتفيء إلى رشدها. وهذه الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام قاعدة تشريعية وقائية، لصيانة المجتمع المسلم من الخصام، والتفكك، والاندفاع وراء الأهواء الطائشة، التي لا تجني منها الأمة إلاّ كل شر، وبلاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 سورة الواقعة [1] حرمة مس المصحف التحليل اللفظي {بمواقع النجوم} : المواقع جمع موقع وهو المسقط الذي يسقط فيه الشيء، قال في «اللسان» : والموقع والموقوعة: موضعُ الوقوع، ويقال: وقع الشيء موقعه، ومواقع الغيث: مساقطه. والمراد بمواقع النجوم: مواضعها ومنازلها من بروجها، فلكل نجم مدار يدور فيه، وموضع لا يتعدّاه {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 {مَّكْنُونٍ} : المكنون: المستور قال تعالى: {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 23] والمراد أنه مصون مستور عن غير الملائكة المقربين لا يطّلع عليه من سواهم، أو مصون محفوظ عن التبديل والتغيير بحفظ الله تعالى له: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقال مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا. {المطهرون} : الملائكة الأطهار، أو المطهّرون من الأحداث، من الجنابة والبول والغائط وأشباهها مما يمنع من الصلاة، والمراد على الثاني أنه لا يمسّ القرآن إلا طاهر من الجنابة والحدث. {مُّدْهِنُونَ} : متهاونون مكذّبون، قال القرطبي: والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره ولهذا يقال للرجل المتهاون أو المتلاين في أمر الدين «مداهن» أي أنه يلين جانبه. قال في «اللسان» : والمداهنة والإدهان: المصانعة واللين، وقيل: المداهنة إظهار خلاف ما يضمر. {بَلَغَتِ الحلقوم} : أي بلغت النفس أو الروح الحلقوم، ولم يتقدم لها ذكر لدلالة الكلام عليه ولأن المعنى معروف، وأنشدوا في ذلك: أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 5] : أي محاسبين أو مجزيّين بأعمالكم، مأخوذ من دان بمعنى جازى ومنه الحديث الشريف: «اعمل ما شئت كما تدين تُدان» أي كما تفعل تُجزى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وقال ابن قتيبة: غير مدينين أي غير مملوكين ولا مقهورين من قولهم: دنت له بالطاعة. وقال الفراء: دنته أي ملكته وأنشد للحطيئة: لقد دُيّنتِ أمرَ بنيكِ حتّى ... تركتهِم أدقّ من الطحين {تَرْجِعُونَهَآ} : ترجعون الروح إلى الجسد، والمعنى: إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم فهلاَّ تردّون هذه الروح إلى الجسد؟ فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر بيد الله تعالى. وجه الارتباط بالآيات السابقة ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الأدلة والبراهين على (الوحدانية) وعلى البعث والنشور، ثمّ أعقب ذلك بذكر الأدلة على (النبوّة) ومصدر الرسالة، وصِدقِ هذا القرآن الذي نزل على خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فكان معجزة خالدة له على مدى الزمان. وقد بيَّن تعالى أنَّ هذا القرآن ليس - كما يزعم المشركون - من تأليف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما هو تنزيل الحكيم العليم، وقد أقسم على ذلك بهذا القسم العظيم، وهذا هو وجه الارتباط بين الآيات السابقة وبين هذه الآيات الكريمة. المعنى الإجمالي يقول جلّ ثناؤه ما معناه: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} لا أقسم بهذه الأفلاك، لا أقسم بمواضعها ومنازلها، بمداراتها التي تدور فيها، فإنّ الأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم، والقسم بها - لو علمتم - شيء عظيم، لما فيه من الدلائل الباهرة على قدرة خالقها جلّ وعلا، ومع ذلك أقسم بأنّ هذا القرآن كتاب كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو تنزيل الحكيم العليم، في كتابٍ مصونٍ عند الله تعالى، محفوظٍ عن الباطل، محفوظ عن التبديل والتغيير. وهذا الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين، فالشياطين لا تمسّ هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار، ولا ينبغي أن يمسّه إلاّ من كان مثلهم طاهراً، لأنه كلام ربّ العزّة جلّ وعلا، ومن تعظيم كلام الله ألاّ يمسّه إلا من كان طاهراً مطهّراً. أفبهذا القرآن - أيها الناس - تكذّبون وتكفرون؟ وتجعلون شكر النعم أنكم تنكرون فضل الله المنعم المتفضّل عليكم؟ فماذا أنتم فاعلون حين تبلغ الروح الحلقوم، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟ هل تملكون العودة إلى الدنيا أو دفع الموت عنكم؟ أو تستطيعون أن تردّوا إلى أحد روحه بعد أن تنفصل عن جسده؟ فلو كنتم غير محاسبين، أو كان الأمر كما تقولون: لا حساب ولا جزاء، ولا بعث ولا نشوز، فأنتم حينئذٍ طلقاء غير مدينين ولا محاسبين، فدونكم إذن فلترجعوها - وقد بلغت الحلقوم - لتردّوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء، وأنتم حولها تنظرون، وملائكتنا أقرب إليها منكم ولكن لا تبصرون، وهي ماضية إلى (الدينونة الكبرى) وأنتم ساكنون عاجزون، وهناك تلقون الجزاء الأوفى من أحكم الحاكمين. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: السرّ في القسم بمواقع النجوم هو الإشارة إلى عظيم قدرة الله، وكمل حكمته، وبديع صنعه، بما لا يحيط به نطاق البيان، فإنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 عظمة الصنعة تدل على عظمة الصانع فالسماء بما حوته من شموس وأقمار، أثر من آثار قدرة الله، التي تدل على وجود الخالق، المبدع، الحكيم، وهي آية على الوحدانية كما قال أبو العتاهية: وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنّه واحدُ اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} جاءت هذه الجملة الاعتراضية (لو تعلمون) بين الصفة والموصوف، وفائدة هذا الاعتراض هي التهويل من شأن القسم، والتنبيه إلى عظمة الكون كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] . والمقسم عليه هو (القرآن العظيم) وأصل الكلام: (وإنه لقسم عظيم، إنه لقرآن كريم) فاعترض بين الصفة والموصوف لهذا السرّ الدقيق. اللطيفة الثالثة: فإن قيل: أين جواب (لَوْ) في الجملة الاعتراضية؟ نقول: لا جواب لها لأنه أريد به نفي علمهم وكأنه قال: وإنه لقسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 ولكن لا تعلمون، أو إنه محذوف ثقة بظهوره أي لو تعلمون حق العلم لعظّمتموه، أو لعملتم بموجبه، والفعل المضارع (تعلمون) ليس له مفعول على حدّ قولهم: فلانٌ يعطي ويمنع، وهو أبلغ وأدخل في الحسن ممّا لو كان له مفعول فتدبره. اللطيفة الرابعة: قال الإمام الفخر: رَحِمَهُ اللَّهُ في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} : «القرآن مصدر أريد به المفعول وهو المقروء، كما في قوله تعالى {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] أي مخلوق الله، ووصفُه بالكريم فيه لطيفة، وهي أنَّ الكلام إذا قرئ كثيراً يهون في الأعين، والآذان، ولهذا ترى من قال شيئاً في مجلس الملوك، لا يذكره ثانياً، ولو قيل لقائله لم تكرّر هذا؟ اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} إطلاق الحديث على القرآن الكريم، كثيرٌ بمعنى كونه (اسماً) لا (وصفاً) فإنّ الحديث اسمٌ لما يُتحدث به، وهو وصفٌ يوصف به ما يتجدّد، فيقال: أمر حادث، ورسم حديث أي جديد، ويقال: أعجبني حديث فلان بمعنى كلامه، والقرآن قديم له لذة الكلام الجديد، فصحّ أن يسمّى (حديثاً) . والإدْهان: تليين الكلام لاستمالة السامع، من غير اعتقاد صحة الكلام، كما يقول العدوّ لعدوّه: أنا أدعو لك، وأثني عليك، مداهنة منه وهو كاذب، فصار استعمال المدهن في المكذّب من هذا القبيل. قال الزجّاج: معناه: أفبهذا القرآن أنتم تكذبون؟ . اللطيفة السادسة: المناسبة بين المقسم به وهو (النجوم) ، وبين القسم عليه وهو (القرآن) أنّ النجوم جعلها الله ليهتدي بها في ظلمات البرّ والبحر، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الجهل والغواية، وتلك ظلمات حسيّة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وهذه ظلمات معنوية، فالقسم هنا قد جمع فيه بين الهدايتين (الحسيّة) للنجوم، و (المعنوية) للقرآن فتدبّر هذا السرّ الدقيق. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} ظاهر الكلام النفي، ومعناه النهي كقوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] يراد منه النهي، وكقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] خبر بمعنى الأمر، والمراد بالآية أنهم المطهّرون من الأحداث. قال ابن كثير: قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} قال بعضهم: أي من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناه الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحفُ، كما روى مسلم في» صحيحه «عن ابن عمر:» أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى أن يُسافَرَ بالقرآن إلى أرض العدو «مخافة أن يناله العدوّ، واحتجوا بما رواه مالك في الموطأ أنّ في الكتاب الذي كتبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعمر بن حزم:» ألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر «. اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} هو على حذف مضاف أي وتجعلون شكر رزقكم تكذيبكم بالقرآن، أي تضعون الكفر مكان الشكر، فهو على حد قول القائل: «تحيةُ بينهم ضربٌ وجيع» ... قال ابن عباس: في تفسير الآية: وتجعلون شكركم التكذيب. قال الألوسي: «إنّ في الكلام مضافاً مقدّراً أي شكر رزقكم، أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر» . وقال الثعلبي المعنى: وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذِّبون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {فلا أقسم} بمدّ (لا) على أنها نافية، وقرأ الحسن {فلأقسم} بغير ألفٍ بين اللام والهمزة فتكون اللام (لام القسم) وهذا مبني على رأي بعض النحاة الذن يجوّزون القسم على فعل الحال فيقال: والله لَيَخرجُ زيد، وعليه قول الشاعر: «ليَعلمُ ربيّ أنّ بيتي واسع» . 2 - قرأ الجمهور {بمواقع} على الجمع، وقرأ حمزة والكسائي {بموقع} على الإفراد لأنه اسم جنس. 3 - قرأ الجمهور {المُطَهّرون} اسم مفعول من (طهّر) مشدّداً، وقرأ نافع {المُطْهَرون} مخففاً من أطهر، وقرأ سلمان الفارسي {المُطَّهَّرون} بشدّ الطاء والهاء أصله {المتطهرون} فأدغمت التاء في الطاء. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} لا زائدة والمعنى فأقسم، وهذا مذهب سعيد بن جبير، وقيل إنها (لام القسم) ومعناه فلأقسم وقد ردّه في «الكشاف» . قال الزمخشري: «ولا يصح أن تكون اللام (لام القسم) لأمرين: أحدهما: أنّ حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 والثاني: أنّ لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. 2 - قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} جملة (لا يمسّه) صفة ل (قرآنٌ كريمٌ) وقيل صفة ل (كتابٍ مكنون) وعلى كلا القولين تكون (لا) نافية، وقيل إنها ناهية، بمعنى (لا يمسَسْهُ) مثل قوله عليه السلام:» المسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُهُ ... «الحديث. قال ابن عطية:» والقول بأن (لا يمسَّه) نهي قول فيه ضعف، وذلك أنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك {تَنزِيلٌ} صفة، فإذا جعلناه نهياً جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل في قسم حقيقي؟ وما هي طريقة هذا القسم؟ اختلف المفسرون في قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} وكيف نجمع بين هذا اللفظ الذي صورته «نفي القسم» وبين قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} الذي هو صريح في إثبات القسم؟ على عدة أقوال: 1 - قال بعضهم: وهم الجمهور إنّ (لا) زائدة زيدت للتأكيد، مثلها في قوله تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] أي ليعلم، وقول الشاعر: تذكَّرتُ ليلى فاعترتْني صَبَابةٌ ... وكان نياطُ القلب لا يتقطَّع أي كاد يتقطع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ب - وقال آخرون: إنّ (لا) هنا هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت الألف نظير الألف في قول الشاعر: «أعوذ بالله بمن العقراب» ويكون معنى الآية: «لأَقْسِمٌ» . وهذا الرأي ضعيف لأن النحاة يقولون: إذا كان الفعل مستقبلاً في حيّز القسم وجب اتصال نون التوكيد به وحذفها ضعيف جداً تقول مثلاً «لأفعلنّ» ومثله قوله تعالى: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ولا تقول: لأفعلُ. ج - وقال آخرون: هي (للنفي) وهو نفي لمحذوف هو ما كان يقوله الكفار: إن القرآن سحر، أو شعر، أو كهانة، ويكون حاصل لمعنى: لا صحة لما يقولون، أُقْسمُ بمواقع النجوم، ويكون الأمر فيه نفياً لكلام سابق، وابتداءً بكلام مستأنف. وهذا الرأي ضعيف أيضاً لأن النحاة يقولون: إنّ اسم (لا) وخبرها لا يصح حذفهما إلاّ إذا كانا في جواب سؤال، ثم إنه في مثل هذه الحالة يتعين العطف بالواو كما يقال: هل شفي فلانٌ من مرضه؟ فيقال: لا وشفاه الله ... إلخ. د - واختار الفخر الرازي رأياً آخر خلاصته: أنّ (لا) نافية باقية على معناها، وأنّ في الكلام «مجازاً تركيبياً» وخلاصة المعنى أن نقول: لا حاجة إلى القسم لأنّ الأمر أظهر وأوضح من أن يقسم عليه، وهذا الرأي جميل لأنه لا يراد به نفي القسم حقيقة بل الإشارة إلى أنه من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 الحكم الثاني: ما المراد بالكتاب المكنون في الآية الكريمة؟ اختلف الفسرون في المراد بالكتاب المكنون. فقيل: هو (اللوح المحفوظ) ومعنى أنه مكنون أي أنه مستور عن الأعين، لا يطّلع عليه إلا بعض الملائكة، كجبريل وميكائيل عليهما السلام. وقيل إن الكتاب: لا يراد به اللوح المحفوظ، وإنما يراد به القرآن الكريم «المصحف» فهذا القرآن العظيم كما أنه محفوظ في الصدور، كذلك هو مسجل في السطور كما قال تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] وعلى هذا التفسير يكون معنى {مَّكْنُونٍ} أي أنه محفوظ من التبديل والتغيير، ويكون على حدّ قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . الحكم الثالث: ما المراد من قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} ؟ اختلف المفسرون في الضمير في هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ} هل هو راجع إلى القرآن العظيم؟ أم إلى الكتاب الذي هو على رأي بعضهم (اللوح المحفوظ) فإذا أعيد الضمير على القرآن الكريم يكون المراد من قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ} أي لا يمسّ هذا القرآن إلاّ طاهر من الحدثين: الأصغر والأكبر. ويكون النفي على معنى أنه لا ينبغي أن يمسه كما في قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] . ويرى البعض أنّ (لا) ناهية وليست نافية، والضمة التي فيه للإتباع لا للإعراب، والذين قالوا إن المراد باللفظ هو اللوح المحفوظ فسروا المطهّرين بالملائكة واستدلوا بقوله تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16] فقالوا هذه الآية تشبه تلك فالمراد بها إذاً الملائكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 الحكم الرابع: ما هو حكم مسّ المصحف الشريف؟ القرآن الكريم كتاب الله المقدس يجب تعظيمه واحترامه، ومن تعظيمه وإجلاله ألاّ يمسه إلاّ طاهر، ومسألة عدم جواز مسّ المصحف للمحدث أمر يكاد يجمع عليه الفقهاء، ومن أجازه من الفقهاء فإنما أجازه لضرورة (التعلم والتعليم) فالمحدث والجنب، والحائض، والنفساء، كلّ هؤلاء يحرم عليهم مس المصحف لعدم الطهارة. رأي ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ: استدل ابن تيمية على الحكم الشرعي من وجه لطيف فقال: إنّ الآية تدل على الحكم من باب «الإشارة» فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أنَّ الصحف المطهَّرة في السماء لا يمسُها إلا المطهّرون فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألاّ يمسّها إلا طاهر «انتهى. أقول: هذا هو الحق الذي ينبغي التعويل عليه، وهو ما اتفق عليه الفقهاء من حرمة مسّ المصحف الشريف بدون طهارة. تنبيه هام قلنا إن مسَّ المصحف لغير المتطهر حرام، وهذا الحكم لا اعتراض عليه، إنما الاختلاف بين الفقهاء هل هو مستنبط من الآية الكريمة؟ أم مأخوذ من دليل آخر؟ فيرى بعض الفقهاء أن الحكم الشرعي بحرمة مسّ القرآن مأخوذ من نفس هذه الآية الكريمة، لأنه (خبر) يقصد به (النهي) فكأنه تعالى يقول:» لا تمسّوه إلاّ إذا كنتم على طهارة «. وقال آخرون الحكم ثبت من السنة لا من الآية الكريمة وقد ذكروا بعض الوجوه التي يُرجَّح بها هذا الرأي منها: أ -» إنّ الآيات هاهنا مكية، ومعلوم أن القرآن في مكة كانت عنايته موجهة إلى أصول الدين لا إلى فروعه. ب - قالوا الآية خبر وتأويلكم لها يخرجها عن (الخبر) إلى (الإنشاء) الذي يراد به النهي، والأصلُ أن يحمل اللفظ على الحقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 ج - قالوا إنّ لفظ «المطهّرون» يشير إلى ما قلنا وهو الذي تكون طهارته ذاتية وهم (الملائكة) وأما المتطهرين فهم الذين تكون طهارتهم بعملهم نظراً لقوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] فلو أراد الله سبحانه الإخبار عن وجوب الطهارة لقال: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} ! {. والخلاصة: فإن السنة والآثار تنصّ على وجوب الطهارة لمسّ القرآن فقد ثبت فيما رواه ابن حبان وأصحاب السنن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كتب كتاباً إلى أهل اليمن وجاء فيه: «وألاّ يمسّ القرآن إلا طاهرٌ» . وبهذا قال الجمهور من الفقهاء منهم: (مالك وأبو حنيفة والشافعي) رحمهم الله وقد كان كثير من الصحابة يأمرون أولادهم بالوضوء لمس المصحف، وقصة عمر معروفة وفي هذا القدر كفاية وغُنيةٌ عن التطويل. الحكم الخامس: ما هي الحكمة من القسم؟ جرت العادة عند العرب أن يستعملوا القسم عند إرادة توكيد الكلام، والقرآنُ الكريم نزل بلغة العرب، وقد كانت آياته الكريمة تحوي أنواعاً من القسم وضرورياً من التفنّن البديع في توكيد الكلام، وليس المراد من القسم إثبات الدعوى، فالدعاوى لها ما يثبتها من الأدلة القطعية التي ثبتت عن طريق الحجة والبرهان. ثمّ إنّ المخاطب أحد رجلين: إمَّا مؤمن بالقرآن، أو مكذب به، فالمؤمن لا يحتاج إلى قسم فهو مصدِّقٌ بما أخبر عنه الله تعالى بدون يمين، والمكذّب الذي لم تغنه الآيات والنّذُر لن يصدّق بمجرد القسم بعد أن لم يؤثر فيه الدليل، فثبت أنّ المراد بالقسم إنما هو توكيد الكلام ليس إلاّ ولفتُ النظر إلى أهمية الموضوع، وأهمية الأمر، فحين يقسم الله تعالى بشيء من الأشياء تتوجه النفس إلى سرّ هذا القسم بهذا المخلوق متسائلة ما سرّه؟ وما معناه؟ ولم أقسم به دون غيره؟ وحينئذٍ تبحث عن الحكمة والسرِّ في ذلك القسم} ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الحكم السادس: ما هي أنواع القسم المذكورة في القرآن الكريم؟ ورد القسم في القرآن الكريم على أنواع عديدة، وضروب شتى، إمَّا من ناحية القسم نفسه، أو من ناحية المقسم عليه. 1 - فجاء القسم بالذات العلية مثل قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] . 2 - وجاء القسم بأشياء من خلقه سبحانه مثل: {والتين والزيتون} [التين: 1] {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2] . 3 - وجاء القسم بالقرآن الكريم مثل: {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] {حم والكتاب المبين} [الزخرف: 1 - 2] {ق والقرآن المجيد} [ق: 1] . 4 - وجاء أيضاً على الشكل الذي معنا في الآيات الكريمة بلا النافية وفعل القسم مثل قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس الجوار الكنس} [التكوير: 15 - 16] وقوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} [القيامة: 1] وقوله: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] هذا من ناحية القسم. أما من ناحية المقسم عليه فإمّا أن يكون. 1 - أصول الإيمان كوحدانية الله سبحانه مثل قوله تعالى: {والصافات صَفَّا ... إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} [الصافات: 1 - 4] . 2 - أو يكون المراد إثبات أن القرآن حق مثل الآية التي معنا {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم ... إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . 3 - أو يكون المراد إثبات نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل قوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 1 - 3] . 4 - أو يكون المراد نفي صفة ذميمة أتهم بها المشركون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثل قوله: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1 - 2] . الحكم السابع: هل يجوز القسم بغير الله سبحانه؟ أجمع العلماء على حرمة القسم بغير الله سبحانه، أو صفةٍ من صفاته تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر» هذا بالنسبة للخلق، أما بالنسبة للخالق فله أن يقسم بما شاء من خلقه، لأن في القسم بالشيء تنبيهاً إلى عظمته وأهميته، والله سبحانه وتعالى قد أقسم بكثير من الآيات كما مر معنا تنبيهاً إلى شرفها وما حوت من إبداع وإتقان ليكون ذلك دليلاً على عظمة خالقها جل وعلا. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو فليذر» . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: القسم بالنجوم والأفلاك تنبيه على عظمة الخالق، المدبّر الحكيم الذي أبدع هذا الكون. ثانياً: القرآن كلام الله ليس بشعر، ولا بسحر، ولا كهانة، بل تنزيل الحكيم العليم. ثالثاً: الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار، فلا ينبغي أن يمسّه إلا طاهر. رابعاً: القرآن مصون عن التبديل والتغيير، محفوظ عن الباطل، لأنّ الله تعالى قد تكفّل بحفظه. خامساً: ينبغي أن تقابل النعمة بالشكر والثناء لا بالجحود، والإنكار، والتكذيب. سادساً: لو كان الإنسان غير مجازى بعمله لاستطاع أن يدفع عن نفسه شبح الموت. سابعاً: لا بدّ من دار الجزاء وراء هذه الدنيا ليلقى فيها الإنسان نتيجة عمله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 خاتمة البحث: حكمة التشريع القرآن الكريم كتاب الله المجيد، ودستوره إلى عباده، ووحيه المنزل على خاتم المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو آخر الكتب السماوية نزولاً، وأشرفها مكانة ومنزلة، أودع فيه منزلُهُ هداية البشرية، وسعادة الإنسانية، وجعله نوراً وضياء للعالمين. ومن حقّ هذا القرآن المجيد أن يُعظم، ومن واجب المسلمين أن يطبّقوه في حياتهم، وأن يحلّوه محل الصدارة من أنفسهم، تلاوة، وعملاً وتطبيقاً؛ ليسعدوا كما سعد آباؤهم من قبل. ومن تعظيم القرآن الكريم ألا يمسّه الإنسان إلاّ على طهارة، لأنه كلام الله، وكلام الله عظيم بعظمة الله، فلا يصح للمؤمن أن يتساهل في أمره، وأن يمسّه بدون وضوء، فقد كتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وصيته لعمرو بن حزم «وألاّ يمسّ القرآن إلاّ طاهر» وكفى بتعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمر القرآن تعظيماً، وكفى ببيانه بياناً! { وإذا كان القرآن الكريم قد عظّم الله شأنه، فأنزله في أفضل الشهور (شهر رمضان) وفي أفضل الليالي (ليلة القدر) واختار الواسطة له الروح الأمين (جبريل) عليه السلام، وأخبر أنه {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16] أفلا يكون من واجب المسلمين أن يعظّموا هذا الكتاب المبين غاية التعظيم، ويجلّوه غاية الإجلال؟} وإذا كان الملائكة الأطهار، والسفرة الأبرار هم الذين تشرفوا بمسّ هذه الصحف المطهّرة، فأولى بأهل الأرض ألا يمسّوه إلى على طهارة، تشبهاً بالملائكة الأطهار، وتفخيماً لشأن هذا الكتاب العظيم الذي حفظه الله وصانه من التحريف والتبديل وصدق الله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 سورة المجادلة [1] الظهار وكفارته في الإسلام التحليل اللفظي {سَمِعَ الله} : السمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما. ومعنى السميع: المدرك الأصوات من غير أن يكون له أذن لأنها لا تخفى عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 قال أبو السعود: ومعنى سمعه تعالى لقولها: إجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك: كما هو المعنيُّ بقوله تعالى: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} أي يعلم تراجعكما الكلام. {تجادلك} : أي تراجعك في شأن زوجها، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة وفي الحديث: «ما أوتي قوم الجدل إلاّ ضلّوا» والمراد بالحديث الجدل على الباطل، وطلب المغالبة به، لا إظهار الحق فإنّ ذلك محمود لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] والمراد هنا: المراجعة في الكلام. {وتشتكي} : الشكوى إظهار البث وما انطوت عليه النفس من الهمّ والغم، وفي التنزيل: {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وشكا واشتكى بمعنى واحد. {تَحَاوُرَكُمآ} : المحاورة المراجعة في الكلام، من حار الشيء يحور حوراً أي رجع يرجع رجوعاً، ومنه حديث: «نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر» ومنه فما أحار بكلمة أي فما أجاب. قال عنترة: لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلّمي يريد به فرسه أي لو كان يعلم الكلام لكلَّمني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 {يظاهرون} : الظهار مشتق من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي. ومعناه الأصلي: مقابلة الظهر بالظهر يقال: ظاهر فلان فلاناً أي قابل ظهره بظهره، ثم استعمل في تحريم الزوجة بجعلها كظهر أمه. قال الألوسي: الظهار لغة مصدر ظاهر، وهو (مفاعلة) من الظهر، ويراد به معانٍ مختلفة، راجعة إلى الظهر معنى ولفظاً باختلاف الأغراض. فيقال: ظاهر زيد عمراً أي قابل ظهره بظهره حقيقة. وظاهره إذا غايظه وإن لم يقابل حقيقة، باعتبار أن المغايظة تقتضي ذلك. وظاهره إذا ناصره، باعتبار أنه يقال: قوّى ظهره إذا نصره. وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر. وظاهر من امرأته إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات. قال في «الفتح» : «وإنما خصّ الظهر بذلك دون سائر الأعضاء، لأنه محل الركوب غالباً، ولذلك سُمّي المركوب ظهراً، فشبهت المرأة بذلك لأنها مركوب الرجل» . {اللائي} : جمع التي، فيقال: اللاتي، واللائي قال تعالى: {والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] . {مُنكَراً} : المنكر من الأمر خلاف المعروف، وكلّ ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرهه فهو منكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 {وَزُوراً} : الزور: الكذب، والباطل الواضح، ومنه شهادة الزور. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} : حرّرته أي جعلته حراً لوجه الله. والرقبة في الأصل: العُنُق ثم اطلقت على ذات الإنسان تسمية للشيء ببعضه، والمراد بها المملوك عبداً أو أمة. قال الألوسي: وذلك من تسمية الكل باسم الجزء. {يَتَمَآسَّا} : المسّ: مسكُ الشيء باليد، ثم استعير للجماع لأنه لمس والتصاق، لأن فيه التصاقَ الجسم بالجسم، والتماس هنا: كناية عن الجماع. {مِسْكِيناً} : المسكين الذي لا شيء له، وقيل الذي لا شيء له يكفي عياله، وأصل المسكين في اللغة الخاضع ... والمراد به هنا ما يعم الفقير، والمسكينُ أحسن حالاً من الفقير. وقد قالوا: المسكينُ والفقيرُ إذا اجتمعا يعني (في اللفظ) افترقا (في المعنى) وإذا افترقا اجتمعا. {حُدُودُ} : الحد: الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر وجمعه حدود. وحدود الله: الأشياء التي بيّن تحريمها وتحليلها، وأمرَ أن لا يتعدى شيء منها فيتجاوز إلى غير ما أمر فيها أو نهى عنه منها ومنع من مخالفتها. وهنا قوله {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} يعني الحدود بين معصيته وطاعته، فمعصيتُه الظهارُ، وطاعتهُ الكفارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 المعنى الإجمالي إن الله تعالى سميع قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهذه امرأة جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تشكو ظلم زوجها لها، حيث حرّمها على نفسه بلفظٍ كانت الجاهلية تستعمله، أفيبقى هذا اللفظ محرماً في الإسلام؟! جادلت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتوجّهت بالدعاء إلى المولى جلّ وعلا، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، تشكو إليه وحدتها، فلا أهل لها، ولا معيل ولا نصير، وقد كبر سنّها، وأولادُها صغارٌ، إن أبقتهم عنده ضاعوا، وإن ضمّتهم إليها جاعوا ... ورسولُ الله صلوات الله عليه لا يشرّع من قبل نفسه، وإنما يتّبع الوحي الذي يأتيه من ربه، ولم يوح إليه في الظهار بشيء، ولذلك ما كان يجزم بالتحريم، وإنما كان يقول: «ما أُرَاك إلا قد حَرُمتِ عليه» فكانت تجادله. استجاب الله دعاء هذه المرأة الضعيفة الوحيدة، ونزل الوحي ليقول للزوج: زوجُكَ التي ظاهرت منها ليست بأمك، فأمك هي التي ولدتك حقيقة، وحرّمت عليك بذلك، فكيف تصف ما أباحه الله لك بما حرَّمه عليك؟ إنك تقول قولاً يمقته الشرع فضلاً عن كونه كذباً وزوراً، ومع ذلك فإن الله عفوّ عمن أخطأ ثمّ تاب، غفور لمن وقف عند حدود الشرع، واتَّبع أمر الله الذي أنزله على نبيّه. فمن ظاهر من زوجه وقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، ثمّ أراد أن ينقض قوله، ويعود إلى ما أحلّه الله له من زوجه، فالواجب عليه أن يحرّر عبداً مملوكاً قبل أن يمسّ زوجه، هذا حكمُ مَنْ ظاهر ليتعظ به المؤمنون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 ويعلموا أن الله جلّ وعلا خبير بكل ما يعملونه، فعليهم أن ينتهوا عما نهاهم عنه. فمن لم يجد الرقبة بأن كان لا يملك ثمنها، أو لا يجد عبداً يشتريه ويعتقه فليصم شهرين متتابعين من قبل أن يقرب زوجه، فإذا كان ضعيفاً لا يقوى على الصوم، أو مريضاً يُضعفه الصوم، فعليه أن يطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم، ذلك هو حكم الله في الظهار، لتؤمنوا بأن هذا منزّل من عند الله تعالى وتتبعوه، وتقفوا عند حدود ما شرع لكم فلا تتعدوها. سبب النزول أولاً: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «تبارك الذي وسمع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة، فكلَّمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله: أَبْلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سنِّي، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحتْ حتى نزل جبريل بهذه الآيات» . ثانياً: وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنتِ علي كظهر أمي، حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام (أوس) ثمّ ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 ثالثاً: وعن خولة بن مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشكو إليه وهو يجادلني فيه ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك. فما برحتُ حتى نزل القرآن {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تجادلك فِي زَوْجِهَا ... } إلى الفرض قال: يعتق رقبة، قلت لا يجد، قال: فليطعم ستين مسكيناً. قلت: ما عنده شيء يتصدق به، قال: فإني سأعينه بعَرَقَ من تمر. قلت: يا رسول الله وإني أعينه بعَرَق آخر. قال: قد أحسنتِ اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك. قال: والعَرَق ستون صاعاً. وجوه القراءات أولاً: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله} بإظهار الدال. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين. قال الكسائي: من قرأ {قَدْ سَمِعَ} فبيَّنَ الدَّال فلسانه أعجمي ليس بعربي. قال الألوسي: «ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر، بل الجمهور على البيان» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 ثانياً: قوله تعالى: {تجادلك فِي زَوْجِهَا} قراءة الجمهور تجادلك من المجادلة وهي المراجعة في الكلام. وقرئ {تحاروك} أي تراجعك الكلام. ثالثاً: قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ} قرأ حفص وعاصم {يُظَاهِرون} بضم الياء وكسر الهاء. وقرأ نافع وابن كثير وعمر {يَظَّهَّرون} بتشديد الظاء والهاء وحذف الألف وفتح الياء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف {يَظّاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ الحسن وقتادة {يَظَهّرون} بفتح الياء وفتح الظاء مخففة مكسورة الهاء مشددة، والمعنى (يقولون لهنَّ أنتُنَّ كظهور أمهاتنا) . رابعاً: قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} الجمهور بكسر التاء وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ المفضل عن عاصم {أمهاتُهم} بالرفع على لغة تميم. وقرأ ابن مسعود {بأمهاتِهم} بزيادة الباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 وجوه الإعراب أولاً: قوله تعالى: {وتشتكي إِلَى الله} عطف على {تجادلك} فهو من عطف الجمل لا محل لها من الإعراب لكونها صلة للتي. وجوّز بعضهم أن تكون حالاً، أي تجادلك شاكية حالها إلى الله ويقدر مبتدأ أي وهي تشتكي؛ لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية. ثانياً: قوله تعالى: {الذين يظاهرون مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ} اسم الموصول {الذين} مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون، وأقيم دليله هو قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} مقامه. وقال ابن الأنباري: خبره (ما هن أمهاتهم) أي ما نساؤهم أمهاتهم. ثالثاً: قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم إِنْ أمهاتهم} . قال الفراء: وانتصابُ الأمهات هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله {ما هن بإمهاتهم} ومثله {ما هذا بشراً} أي ما هذا ببشر، فلما ألقيت الباء أبقى أثرها، وهو النصب، وعلى هذا كلام أهل الحجاز، فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا رفعوا وقالوا: (ما هنّ أمهاتُهم) و (ما هذا بشرٌ) . وقال أبو حيان: أجرى (ما) مُجْرَى (ليس) في رفع الاسم ونصب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 الخبر كما في قوله تعالى: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] وقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] . أقول: هذا هو الصحيح لأن (ما) بمعنى ليس فهي نافية حجازية وهي لغة القرآن. رابعاً: قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} انتصب (منكراً وزوراً) على الوصف لمصدر محذوف، وتقديره وإنهم ليقولون قولاً منكراً، وقولاً زوراً. خامساً: قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} اسم الموصول (الذين) مبتدأ، وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة، أو فكفارتهم تحرير رقبة. والجملة من المبتدأ وخبره خبر الموصول، ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. سادساً: قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} . قال ابن الأنباري: الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب (يعودون) و (ما) مصدرية، وتقديره (يعودون لقولهم) . والمصدر في موضع المفعول كقولك (هذا الثوب نسج اليمن) ، أي منسوجه، ومعناه يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلِّق. وقيل: اللامُ في {لِمَا قَالُواْ} بمعنى (إلى) أي يعودون إلى قول الكلمة التي قالوها أولاً من قولهم: أنت علي كظهر أمي وهذا من مذهب أهل الظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: يقول علماء اللغة: (قَدْ) حرف يُوجَب به الشيء وهي إذا دخلت على الماضي تفيد (التحقيق) وإذا دخلت على المضارع تفيد (التقليل) لأنها تميل إلى الشك تقول: قد ينزل المطر، وقد يجود البخيل، وأمّا في كلام الله فهي للتحقيق سواءً دخلت على الماضي أو المضارع كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} [الأحزاب: 18] . قال الجوهري: (قد) حرف لا يدخل إلاّ على الأفعال. قال الزمخشري: «معنى (قد) التوقع لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمجادِلة كانا متوقعين أن ينزل الله في شكواها ما يفرّج عنها» . ومعنى سمعه تعالى لقولها إجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع الله لمن حمده. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} قال الإمام الفخر: هذه الواقعة تدل على أنّ من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له فيما أهمّه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك الأمر. وصيغةُ المضارع (يسمع) تفيد التجدّد، للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدّده، وذكْرُهَا مع الرسول في سلك الخطاب (تحاوكما) تشريف لها بهذا الخطاب الكريم، وإظهارُ الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 اللطيفة الثالثة: قال ابن منظور: كانت العرب تطلّق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة (أنت عليّ كظهر أمي) وإنما خصّوا (الظَّهر) دون البطن، والفخذ، والفرج - وهذه أولى بالتحريم - لأنّ الظهر موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه أراد أنْ يقول: ركوُبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمّي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية. وقال الفخر الرازي: ليس الظهار مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد، لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء، التي هي مواضع المباضعة والتلذذ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العلو ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي يعلوه، وكلّ من علا شيئاً فقد ظهره، ومنه سُمّي المركوب ظهراً لأنَّ راكبَه يعلوه، وكذا امرأة الرجل ظهره لأنه يعلوها بملك البضع، فكأن امرأة الرجل مركوب للرجل وظهر له. ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي أي طلَّقتُها، وفي قولهم: أنتِ عليّ كظهر أمي (حذف وإضمار) لأن تأويله: ظهرك عليّ أيملكي إيّاك، وعلوّي عليك حرام، كما أنّ علوّي على أمي وملكها حرام عليّ. اللطيفة الرابعة: المظاهِر شبّه الزوجة بالأم، ولم يقل هي أم، فكيف كان ذلك منكراً وزوراً؟ قال الإمام الفخر في الجواب عن ذلك: إن الكذب إنما لزم لأن قوله: (أنتِ عليّ كظهر أمي) إمّ أن يكون إخباراً، أو إنشاءً. فعلى الأولى: إنه كذب لأن الزوجة محلّلة، والأم محرمة، وتشبيه المحلّلة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 وعلى الإنشاء: كان ذلك أيضاً كذباً، لأن معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة، فلمّا لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاءً في وقوع هذا الحكم كذباً وزوراً. اللطيفة الخامسة: روي أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مرّ في خلافته على امرأة، وكان راكباً على حمار والناس معه، فاستوفقته تلك المرأة طويلاً، ووعظته وقالت له: عهدي بك يا عمر وأنت صغير تدعى عميراً، ثمّ قيل لك: يا عمر، ثمّ قيل لك: يا أمير المؤمنين، فاتّق الله يا عمر في الرعيّة، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره، لا زِلتُ إلاّ للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ {هذه (خولة بنت ثعلبة) التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمح ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟} . أقول: رَضِيَ اللَّهُ عَنْك يا عمر فهذه أخلاق الصدّيقين. اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {الذين يظاهرون مِنكُمْ} الخطاب بلفظ (منكم) فيه مزيد توبيخ للعرب، وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم. اللطيفة السابعة: روى الإمام الترمذي عن (سلمة بن صخر البياضي) أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح، فظاهرات منها حتى ينسلخ رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثتُ أن نزوتُ عليها، فلما أصبحتُ أخبرتُ قومي، فقلت: امشوا معي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: لا والله. فانطلقت فأخبرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» أنتَ بذاك يا سلمة {قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين، وأنا صابر لأمر الله، فاحكم فيما أراك الله؟ قال: «حرّر رقبة» ، قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبةً غيرها وضربت صفحة رقبتي. قال: «فصم شهرين متتابعين» . قالت: وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلاّ من الصيام؟ قال: «فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً» . قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وَحْشين ما لنا طعام} ! قال: «فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر، وكُلْ أنت وعيالك بقيتها» . فرجعت إلى قومي فقلتُ: وجدت عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل لاظهار مشروع كالطلاق أم هو محرَّم؟ كان الظهار في الجاهلية طلاقاً، بل هو أشد أنواع الطلاق عندهم، لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التيّ تحرم حرمة على التأبيد، بل لا تجوز بحالٍ من الأحوال، وجاء الإسلام فأبطل هذا الحكم، وجعل الظهّار محرّماً قربان المرأة حتى يكفّر زوجها، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتبرونه في الجاهلية. فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق كان ظهاراً، ولو طلّق يريد به الظهار كان طلاقاً، العبرةُ باللفظ لا بالنيّة، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر. قال ابن القيم:» وهذا لأنّ الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فنسخ، فلم يجز أن يُعاد إلى الحكم المنسوخ، وأيضاً فإنّ (أوس بن الصامت) إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضاً فإنه صريح في حكمه، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله الله بشرعه، وقضاءُ الله أحقُّ، وحكمُ الله أوجب «. وقد دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} على أن الظهار حرام، بل لقد قال فقهاء الشافعية إنه من الكبائر، فمن أقدم عليه اعتبر كاذباً معانداً للشرع. وقد اتفق العلماء على حرمته فلا يجوز الإقدام عليه، لأنه كذب وزور وبهتان، وهو يختلف عن الطلاق، فالطلاقُ مشروع، وهذا ممنوع، ولو أقدم الإنسان عليه يكون قد ارتكب محرماً ويجب عليه الكفارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 الحكم الثاني: ماذا يترتب على الظهار من أحكام؟ إذا ظاهر الرجل من امرأته ترتّب عليه أمران: الأول: حرمة إتيان الزوجة حتى يكفّر كفارة الظهار لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} . والثاني: وجوب الكفارة بالعود لقوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ... } الآية وسنتحدث عن معنى العود في الحكم الثالث إن شاء الله. وكما يحرم المسيس فإنه يحرم كذلك مقدماته، من التقبيل، والمعانقة وغيرها من وجوه الاستمتاع، وهذا مذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية، والحنابلة) . وقال الثوري والشافعي (في أحد قوليه) : إن المحرّم هو الوطء فقط، لأن المسيس كناية عن الجماع. حجة الجمهور: أ - العموم الوارد في الآية (من قبل أن يتماسّا) فإنه يشمل جميع وجوه الاستمتاع. ب - مقتضى التشبيه الذي هو سبب الحرمة (كظهر أمي) فكما يحرم مباشرة الأم والاستمتاع بها بجميع الوجوه، فكذلك يحرم الاستمتاع بالزوجة المظاهر منها بجميع الوجوه عملاً بالتشبيه. ج - أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للرجل الذي ظاهر من زوجته بالاعتزال حتى يكفّر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 حجة الشافعي والثوري: أ - الآية ذكرت المسيس وهو كناية عن الجماع فيقتصر عليه. ب - الحرمة ليست لمعنى يُخلُّ بالنكاح فأشبه الحيض، الذي يحرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة. أقول: رأي الجمهور أحوط لأنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، سيّما وقد نقل الإمام الفخر أنّ للشافعي فيه قولين: (أحدهما) أنه يحرم الجماع فقط. (والثاني) أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات، قال: وهو الأظهر. وكفى الله المؤمنين القتال. الحكم الثالث: ما المراد بالعود في الآية الكريمة؟ اختلف الفقهاء في المراد من العود في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} على عدة أقوال. أ - قال أبو حنيفة: العود: هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة. ب - وقال الشافعي: العود: هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدر على الطّلاق. ج - وقال مالك وأحمد: العود: هو العزم على الوطء، أو على الوطء والإمساك. د - وقال أهل الظاهر: العود: أن يكرّر لفظ الظهار مرة ثانية فإن لم يكرّر لا يقع الظهار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى لأن العود إلى الإمساك، أو الوطء، أو إبقاءها بعد الظهار بدون طلاق، كلّها تدل على معنى الندم وإرادة المعاشرة لزوجه التي ظاهر منها فاللام في (لما) بمعنى (إلى) . والمعنى: يرجعون إلى تحليل ما حرّموا على أنفسهم بالعزم على الوطء، وقد عدّد (القرطبي) فيها سبعة أقوال. قال الفراء: معنى الآية يرجعون عمّا قالوا، وفي نقض ما قالوا. دليل الظاهرية: قال أهل الظاهر: إن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلاّ إذا أعاد اللفظ - يعني ظاهر مرة ثانية - وقالوا: الذي يعقل من قولهم: عاد إلى الشيء أي أنه فعله مرة ثانية كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم. قال الزجّاج: وهذا قول من لا يدري اللغة. وقال أبو علي الفارسي: ليس هو كما ادّعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل، وسميت الآخرة معاداً ولم يكن فيها أحد ثم عاد الناس إليها، قال الهُذلي: وعاد الفتى كالكهل ليس بقائلٍ ... سوى الحقّ شيئاً واستراح العواذل وقال ابن العربي: «ويشبه أن يكون هذا من جهالة داود وأشياعه، وهو باطل قطعاً، لأنه قد رويت قصص المظاهرين وليس فيه ذكرٌ لعودِ القول منهم، وأيضاً فإن المعنى يقضه؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له: إذا أعدت القول المحرّم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة» . أقول: ما قاله جمهور الفقهاء أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ، إنما هو العود إلى معاشرتها والعزم على وطئها هو الصحيح المعقول لغة وشرعاً لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 المظاهر قد حرّم على نفسه قربان الزوجة، فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه فيلزمه التكفير بهذا العزم. وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبّط فيه هؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية ويكفي لبطلانه حديث (أوس بن الصامت) فإنه لم يكرّر الظهار وقد ألزمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكفارة؛ وحديث (سلمة بن صخر) فقد أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالكفارة مع أنه لم يكرّر اللفظ وقد تقدّما، وكفى بذلك حجة قاطعة، لا رأي لأحدٍ أمام قول المعصوم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الحكم الرابع: هل يصح ظهار غير المسلم كالذمي والكتابي؟ ذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) إلى أن ظهار الذمي لا يقع لأن الله تعالى يقول: (الذين يظاهرون منكم) وظاهرُ قوله: (منكم) أنَّ غير المسلم لا يتناوله الحكم. وقالوا أيضاً: إن الذميّ ليس من أهل الكفارة، لأن فيها إعتاق رقبة، والصوم، ولما كان (الصوم) عبادة لا يصحّ من غير المسلم إذن فلا يصح ظهاره. فالظهار عندهم لا يكون إلاّ من الزوج العاقل البالغ المسلم. مذهب الشافعي: قال الشافعية: كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، كذلك يقع ظهاره. وقالوا: يكفّر بالإعتاق، والإطعام، ولا يكفّر بالصوم لأنه عبادة لا تصح إلاّ من المسلم. قال الألوسي: والعجب من الإمام الشافعي عليه الرحمة أن يقول بصحته مع أنه يشترط النيّة في الكفارة، والإيمان في الرقبة، والكافر لا يملك المؤمن؟ أقول: الراجح رأي الجمهور، واستدلالهم بالكفارة في (العتق والصيام) قوي، وأمّا استدلالهم بمفهوم الصفة في الآية الكريمة (منكم) فليس بذاك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 لأن الآية وردت مورد (التهجين والشنيع) لما مرّ أن الظهار لم يعرف إلاّ عند العرب فليس فيها ما يدل لهم والله أعلم. الحكم الخامس: هل يصح الظهار من الأمة؟ . أ - ذهب (الحنفية والحنبلية والشافعية) إلى أن الرجل لو ظاهر من أمته لا يصح، ولا يترتب عليه أحكام الظهار، لقوله تعالى: {مِّن نِّسَآئِهِمْ} لأن حقيقة إطلاق النساء على (الزوجات) دون (الإماء) بدليل قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] فقد غاير بينهنّ، فالمراد بالنساء في الآية الحرائر. ب - وذهب مالك: إلى صحة الظهار في الأمة مطلقاً لأنها مثل الحرّة. ج - وروي عن الإمام أحمد: أنه لا يكون مظاهراً، ولكن تلزمه كفارة الظهار. الحكم السادس: هل يقع ظهار المرأة؟ اتفق الفقهاء على أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها بقولها: (أنت عليّ كظهر أمي فلا كفارة عليها ولا يلزمها شيء) وكلامها لغو. قال ابن العربي: وهو صحيح في المعنى، لأن الحَلَّ والعقد، والتحليل التحريم في النكاح من الرجال ليس بيد النساء منه شيء. وروي عن الإمام أحمد (في أحد قوليه) أنه يجب عليها الكفارة إذا وطئها وهي التي اختارها الخرقي. الحكم السابع: هل الظهار مختص بالأم؟ أ - ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم، كما ورد في القرآن الكريم، وكما جاء في السنة المطهّرة، فلو قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 أمي كان مظاهراً، ولو قال لها: أنت عليّ كظهر أختي أو بنّتي لم يكن ذلك ظهاراً. ب - وذهب أبو حنيفة (والشافعي في أحد قوليه) : إلى أنه يقاس على الأم جميع المحارم. فالظهار عندهم هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم، بإحدى المحرمات عليه على وجه التأبيد بالنسب، أو المصاهرة، أو الرضاع، إذ العلة هي التحريم المؤبد. وأمّا من قال لامرأته: يا أختي أو يا أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهراً، ولكن يكره له ذلك لما رواه أبو داود عن (أبي تميمة الهجيمي) أنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أُخَيّة، فكرة ذلك ونهى عنه. الحكم الثامن: ما هي كفارة الظهار؟ الكفارة هي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً كما دلت عليه الآية. أ - الإعتاق: وقد أطلقت الرقبة في الآية فهل تجزئ أي رقبة ولو كانت كافرة؟ ذهب الحنفية: إلى أنه يجزئ في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة، والذكر والأنثى، والكبير والصغير، ولو رضيعاً لأن الاسم ينطلق على كل ذلك. وذهب الشافعية والمالكية: إلى اشتراط الإيمان في الرقبة، فلا يصح عتق غير المؤمن حملا للمطلق على المقيد في آية القتل لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] بجامع عدم الإذن في السبب في كل منهما. وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة، لأنه حينئذٍ يلزم ذلك لزوماً عقلياً إذ الشيء لا يكون نفسه مطلوباً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 إدخاله في الوجود مطلقاً ومقيداً، كالصوم في كفارة اليمين، ورد مطلقاً ومقيداً بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها. والمناقشة: بين القولين تنظر في كتب الأصول والفروع. وأما الإمام أحمد: ففي المسألة عنه روايتان. ب - صيام شهرين متتابعين: من عجز عن إعتاق الرقبة فعليه صوم شهرين متتابعين. ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص، وإن صام بغير الأهلة فلا بد من ستين يوماً عند الحنفية. وعند الشافعية والمالكية: يصوم إلى الهلال ثم شهراً بالهلال ثم يتم الأول بالعدد. ج - إطعام ستين مسكيناً: من لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع أصل الصيام، أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من كبر أو مرض لا يرجى زواله عادة أو بقول طبيب فعليه إطعام ستين مسكيناً. واختلف الفقهاء في قدر الإطعام لكل مسكين. قال أبو حيان: والظاهر مطلق الإطعام وتخصّصه ما كانت العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يشبع من غير تحديدٍ بمد. ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكيناً. وقال أبو حنيفة وأصحابه لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 الحكم التاسع: هل تتغلّظ الكفارة بالمسيس قبل التكفير؟ أ - ذهب أبو حنيفة: إلى أن المظاهر إذا جامع زوجته قبل أن يكفر أثم وعصى الله، وتسقط عنه الكفارة لفوات وقتها. ب - وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه أثم وعصى ويستغفر ويتوب ويمسك عن زوجه حتى يكفِّر كفارة واحدة. قال أبو بكر الرازي: «إن الظهار لا يوجب كفارة، وإنما يوجب تحريم الوطء، ولا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط مؤقتاً بأداء الكفارة، وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه، فإن وطئ سقط الظهار والكفارة، وذلك لأنه علَّق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية، لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط، فإنه متى فات الوقت، وعُدِم الشرط، لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني، فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير إلا أنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: استغفر الله ولا تعد حتى تكفِّر، فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة» . الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم بهذا الفعل وتجب عليه كفارة واحدة والله أعلم. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: استجابة الله دعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء. ثانياً: عدم جواز تشبيه الزوجة بمحرم من المحرمات على التأبيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 ثالثاً: عدم جواز مس المرأة قبل أداء كفارة الظهار. رابعاً: خصال الكفارة مرتبة لا يصار إلى التالية قبل العجز عن التي قبلها. خامساً: حدود الله يجب التزامها، ولا يجوز تعديها. حكمة التشريع لقد شرع الإسلام الزواج عقداً دائماً غير مؤقت، لا يقطعه إلا هاذم اللذات، أو أبغض الحلال إلى الله، وبالزواج يَحِلُّ للرجل كلُّ شيء من زوجه، في حدود ما أباحه الله تعالى له، فإذا جاء الإنسان يريد أن يغيَّر ما أباحه الله له فيجعل الحلال حراماً، فقد ارتكب كبيرة لا محالة، وتجاوز بذلك الحدود التي شرعها الله له، فلهذا كان عقابه كبيراً، وكانت أولى خصال الكفارة ما فيه فائدة للمجتمع، ألا وهي تحرير رقاب العبيد، وهذه إحدى سبل تحريرهم، فإذا لم يستطع شراء العبد وعتقه، فليصم شهرين متتابعين، والصوم مدرسة تهذب خلقه، وتربيَّ نفسه، وتقوّم ما أعوج من تربيته. هذا إن كان صحيح الجسم، موفور الصحة، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالمريض الذي لا يستطيع الصوم، ينتقل الواجب في حقه إلى المجتمع أيضاً فيطعم ستين مسكيناً، وهكذا تنتقل خصال الكفارة بين فائدة المجتمع، وفائدة الرجل نفسه. هذا جزاء من حرَّم حلالاً، فليتعظ المؤمنون بهذا الجزاء الزاجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 [2] نجوى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 التحليل اللفظي {تَفَسَّحُواْ} : توسّعوا في المجلس وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: إفسح عني أي تنحّ، يقال: بلدة فسيحة، ومفازه فسيحة، ولك فيه فسحة أي سعة. قال القرطبي: وفَسَح يَفْسَح مث مَنَع يَمْنَع، أي وسّع في المجلس، وفَسُح يَفْسُح مثل كَرُم يكْرُم، أي صار واسعاً، ومنه مكان فسيح. {انشزوا} : انهضوا وارتفعوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض، قال في «اللسان» : النّشْز: المرتفع من الأرض، ونشز الشيء: ارتفع، وتلّ ناشز: مرتفع، وفي التنزيل: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} قرأها الناس بكسر الشين، وأهلُ الحجاز يرفعونها، وهي لغتان ومعناه: إذا قيل انهضوا وقوموا. {درجات} : أي منازل رفيعة، جمع درجة وهي الرفعة في المنزلة، مأخوذ من الدّرج الذي يُرقى به إلى السطح. قال في اللسان: والدّرجة: الرفعة في المنزلة، والدّرجة واحدة الدرجات، وهي الطبقات من المراتب، ودرجات الجنة: منازل أرفع من منازل. {نَجْوَاكُمْ} : النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من (النّجوة) وهي ما ارتفع من الأرض، فالمتناجيان يخلوان بسرّهما كخلوّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 المرتفع من الأرض عما يتصل به. وقيل: النجوى من المناجاة وهي الخلاص، وكأنّ المتناجيَيْن يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر. ومعنى الآية: إذا أردتم مناجاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمرٍ من الأمور فتصدقوا قبلها. {وَأَطْهَرُ} : أي أزكى لأنفسكم وأطيب عند الله. {ءَأَشْفَقْتُمْ} : الإشفاق: الخوف من المكروه، والمعنى: أخفتم وبخلتم بالصدقة، وشقّ ذلك عليكم؟ قال ابن عباس: «أأشفقْتُم» أي أبخلتم بالصدقة. وهو استفهام معناه التقرير. المعنى الإجمالي يقول الله جلّ ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون إذا قيل لكم توسعوا في المجلس لإخوانكم القادمين فتوسّعوا لهم، وافسحوا لهم، حتى يأخذ القادم مكانه في المجلس، فإن ذلك سبب المودة والمحبة بينكم، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس، وإذا فسحتم لهم فإنّ الله تعالى يفسح لكم في رحمته، وينوّر قلوبكم، ويوسّع عليكم في الدنيا والآخرة. وإذا قيل لكم - أيها المؤمنون - انهضوا إلى الصلاة، والجهاد، وعمل الخير فانهضوا، أو قيل لكم قوموا من مقاعدكم للتوسعة على غيركم فأطيعوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 فإنّ الله تعالى يحبّ من عباده الطاعة، ويرفع درجات المؤمنين، والعلماء العاملين، الذين يبتغون بعلمهم وجه الله، فالعلماء ورثة الأنبياء، ومن يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدين، وليست الرفعة عند الله تعالى بالسبق إلى صدور المجالس، وإنما هي بالعلم والإيمان. ثم أمر تعالى عباده المؤمنين إذا أرادوا مناجاته عليه السلام لأمر من الأمور، أن يتصدقوا قبل هذه المناجاة، تعظيماً لشأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونفعاً للفقراء، وتمييزاً بين المؤمن المخلص، والمنافق المراوغ، فإنّ ذلك أزكى للنفوس، وأطهر للقلوب، وأكرم عند الله تعالى، فإذا لم يتيسر للمؤمن الصدقة فلا بأس عليه ولا حرج. ثم أخبر تعالى بأنّ عمل الخير كالصدقة وغيرها لا ينبغي أن يخاف منها الإنسان، فقال ما معناه: أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال، فإذا لم تفعلوا ما أُمرتم به، وتاب الله عليكم ورخّص لكم في الترك، فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة ولا تفرِّطوا فيهما وفي سائر الطاعات لأن الله خبير بما تعملون. سبب النزول أ - روي أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يوم جمعة في الصفّة، وفي المكان ضيق، وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يكرم أهل بدر من (المهاجرين والأنصار) فجاء ناس من أهل بدر، منهم (ثابت بن قيس بن شمّاس) وقد سُبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فردّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم سلّموا على القوم فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لبعض من حوله: قم يا فلان، ويا فلان، فأقام نفراً مقدار من قدم، فشقّ ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لبعض من حوله: قم يا فلان، ويا فلانن فأقام نفراً مقدار من قدم، فشقّ ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم، وقال المنافقون: ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه، وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور، فأنزل الله تعالى هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ ... } . ب - وروي عن ابن عباس وقتادة: «أنّ قوماً من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، في غير حاجة إلاّ لتظهر منزلتهم وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سمحاً لا يردّ أحداً فنزلت هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول ... } الآية. ج - وروي عن مقاتل: أنّ الأغنياء كانوا يأتون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت الآية: {إِذَا ناجيتم الرسول} . وجوه القراءات 1 - قوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} قرأ الجمهور {تفسّحوا) بتشديد السين، وقرأ قتادة والحسن {تفاسحوا} . 2 - قرأ الجمهور (في المجلس) بالإفراد على إرادة معنى الجمع، وقرأ عاصم وقتادة (المجالس) بالجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 3 - قوله تعالى: {انشزوا فَانشُزُواْ} : قرأ الجمهور بضم الشين فيهما، وقرأ حمزة والكسائي {انشِزُوا فانشِزُوا} بكسر الشين فيهما، قال الفراء: وهما لغتان مثل يعكفُون ويعرِشُون. 4 - قرأ الجمهور (فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة) بالإفراد، وقرئ (صدقات) بالجمع لجمع المخاطبين. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} يفسحْ مضارع لأنه جواب الطلب، وحرّك بالكسر للتخلُّص من التقاء الساكنيْن، ومثله {يَرْفَعِ الله} مجزوم لأنه جواب الأمر كأنه قيل: إن تنشُزوا يرفع الله عَزَّ وَجَلَّ ّ المؤمنين جزاء امتثالهم درجات. 2 - قوله تعالى: {والذين أُوتُواْ العلم درجات} قال أبو حيان: معطوف على الذين آمنوا عطف صفات. والمعنى: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات، فالوصفات لذاتٍ واحدة. واختار الطيبي: أن يكون في اللفظ تقدير يناسب المقام نحو أن يقال: يرفع الله الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيماً لهم. 3 - قوله تعالى: {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} أنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ل {ءَأَشْفَقْتُمْ} والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: لما نهى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباعض والتنافر، أمرهم في هذه الآيات بما يكون سبباً لزيادة المحبة والمودّة، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدي الحرص على القر من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والجلوس بين يديه حرصاً على استماع كلامه، فأمروا بالتوسعة على إخوانهم في المجلس تطييباً لقلوبهم، وهذا هو السرّ في مجيء الآيات عقب آيات النهي عن التناجي بالإثم والعدوان. اللطيفة الثانية: ذكر تعالى في أول الآية مكانة المؤمنين، ثمّ عطف عليها بذكر مكانة العلماء، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب (عطف الخاص على العام) تعظيماً لشأن العلماء، والعطفُ في مثل هذا الموطن هو من باب (عطف الخاص على العام) تعظيماً لشأن العلماء كأنهم جنس آخر، ولذا أعيد اسم لموصول في النظم الكريم في قوله تعالى: {والذين أُوتُواْ العلم درجات} . اللطيفة الثالثة: الأمر للمؤمنين بالصدقة عند مناجاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيه فوائد عديدة: أولها: تعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتعظيم مناجاته. ثانيها: نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة. ثالثها: الزجر عن الإفراط في الأسئلة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. رابعها: التمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الدنيا ومحب الآخرة. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} : في هذا اللفظ استعارة يسميها علماء البلاغة (استعارة تمثيلية) وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان كالإنسان فقد استعار اليدين للنجوى، وقيل إنها (استعارة مكنية) حيث شبّه النجوى بإنسان، وحذف المشبّه به وهو الإنسان، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو اليدان على سبيل الاستعارة المكنية ومثله قوله تعالى: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وذكر اليدين تخييل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 اللطيفة الخامسة: أشاد القرآن بمنزلة العلماء الرفيعة، ومكانتهم السامية عند الله تعالى، ويكفيهم هذا الشرف والفخر وقد قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام، فبَيْنه وبين النبيّين درجة» وقد ذكر بعض الظرفاء مناظرة رمزية بين (العقل والعلم) نذكرها لطرافتها قال بعض الأدباء: علمُ العليم وعقلُ العاقل اختلفا ... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا؟ فالعلم قال: أنا أدركتُ غايته ... والعقل قال: أنا الرحمن بي عُرفا فأفصح العلمُ إفصاحاً وقال له: ... بأيّنا الله في فرقانه اتصفا؟ فبان للعقل أنَّ (العلمَ) سيّدُه ... فقبّلَ (العقلُ) رأسَ العلم وانصرفا الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما المراد ب (المجالس) في الآية الكريمة؟ اختلف المفسّرون في المراد بالمجلس على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد به مجلس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة، وهو قول مجاهد. والثاني: أنّ المراد به مجلس الحرب، ومقاعد القتال، حيث كانوا لحرصهم على الشهادة يأبون التوسع، وهو قول ابن عباس، والحسن. والثالث: أن المراد به مجالس الذكر كلّها، وهو قول قتادة وهو الأرجح. قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تعالى ذكرهُ أمر المؤمنين، أن يتفسّحوا في المجلس، ولم يخصّص بذلك مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون مجلس القتال، وكلا الموضعين يقال له: مجلس، فذلك على جميع المجالس، من مجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومجالس القتال» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وقال القرطبي: «والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة، فإنّ كل واحد أحقّ بمكانه الذي سبق إليه» . الحكم الثاني: هل يباح الجلوس مكان الشخص بدون إذنه؟ دلّت الآية الكريمة على وجوب التوسع في المجلس للقادم، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، ولكن لا يباح للإنسان أن يأمر غيره بالقيام ليجلس مجلسه لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثمّ يجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» . وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به، والمجلسُ من هذا المباح، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس، إلاّ أن الآداب الاجتماعية تقضي على الناس بتقديم أولي (الفضل والعلم) وبذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث. ولقد كان هذا الأدب السامي شأن الصحابة في مجلس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكانوا يُقدّمون بالهجرة، وبالعلم، وبالسنِّ، وما فعله النبي عليه السلام في جماعة (ثابت بن قيس) من أهل بدر، فإنما كان لتعليم الناس مكارم الأخلاق، وخاصة من أهل الفضل والعلم، من المهاجرين والأنصار. أ - روى ابن العربي بسنده عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المسجد وقد طاف به أصحابه، إذ أقبل علي بن أبي طالب فوقف وسلّم، ثمّ نظر مجلساً يشبهه، فنظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وجوه أصحابه أيّهم يوسّع له، وكان أبو بكر جالساً على يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتزحزح له عن محله، وقال: ها هنا يا أبا الحسن! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 فجلس بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين أبي بكر، فقال يا أبا بكر: إنما يعرف الفضل، لأهل الفضل، ذوو الفضل» . ب - وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة، فكلّموه في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلمه إيّاه، فقال عمر: ما أعلم منها إلاّ ما تعلم، ثم قال: بهذا قدمت الفتى. وإذا قام الإنسان من مجلسه لحاجة ثمّ رجع إليه فهو أحقّ بالمجلس لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» . الحكم الثالث: هل يجوز القيام للقادم إذا كان من أهل الفضل والصلاح؟ ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز القيام للقادم إذا كان مسلماً من أهل الفضل والصلاح على وجه التكريم لأن احترام المسلم واجب، وتكريمه لدينه وصلاحه ممّا يدعو إليه الإسلام، لأنه سبيل المحبّة والمودة، وقد قال عليه السلام: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تُكلّم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك» . فالقيام للقادم جائز على وجه التكرمة، إن لم يكن فاسقاً، ولم يكن سبيلاً للكبرياء والخيلاء، وما لم يصبح ديدناً للإنسان عند كل دخول أو خروج، وفي كل حين وآن فعند ذلك يكره. قال العلامة ابن كثير: «وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال، فمنهم من رخّص في ذلك محتجاً بحديث (قوموا إلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 سيّدكم) . ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث:» من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً فليتبَوّأ مقعده من النار «ومنهم من فصّل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلّ عليه قصة (سعد بن معاذ) فإنه لما استقدمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاكماً في بني قريظة فرآه مقبلاً قال للمسلمين: قوموا إلى سيّدكم، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم. أقول: جمهور العلماء على جواز القيام للقادم، إلا إذا كان فاسقاً، أو عاصياً، أو مرتكباً لكبيرة، أو مشهوراً بالكبر، وحب الظهور، وأمّا ما استدل به بعضهم من منع القيام بحديث:» من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً ... «الحديث فليس فيه دليل لهم، لأن الرسول عليه السلام لم يُطْلق اللفظ وإنما قيّده بوصفٍ يدلّ على الكبرياء وحب الظهور» من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياماً «ولم يقل صلوات الله» من قام له الناس فليتبوأ مقعده من النار «ولا شكّ أنّ هذا الوصف لا ينطبق إلا على المتكبر المغرور، والفرق دقيق بين اللفظين فلا ينبغي أن يغفل عنه. وأما ما يقوله بعضهم: من أنّ القيام ركن من أركان الصلاة، فلذلك يحرم، لأنه يشبه العبادة ... إلخ فهذا جهل مطبق لا يصدر من فقيه عالم يتصدى لاستنباط الأحكام! { كيف والصلاة تشتمل على أركان كثيرة كالقعود، وقراءة القرآن، والتشهد، والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بعض الأقوال - كما هو مذهب الإمام الشافعي - فهل يقول أحد: إن الجلوس بين يدي العالم حرام لأنه ركن من أركان الصلاة؟ وإن تلاوة القرآن لا تجوز أمام أحد لأنها ركن من أركان الصلاة؟ وإن الصلاة على النبي عليه السلام حرام في حضرة الناس لأنها ركن من أركان الصلاة؟} ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وقياسُ القيام على الركوع والسجود في الحرمة، قياسٌ مع الفارق، وهو قياس باطل، لأن الركوع والسجود لا يجوز لغير الله كما قال عليه السلام: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقد ورد في تحريمه النص القاطع، أمّا القيام، والقعود، والاضطجاع، فليس من هذا القبيل، وكفانا الله شرّ الجهل، وحماقة المتطفلين على العلم والعلماء!! الحكم الرابع: هل الصدقة عند مناجاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجبة؟ اختلف العلماء في قوله تعالى: {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} هل الأمر للوجوب أو الندب؟ فقال بعضهم: إنَّ الأمر للوجوب، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ومثل هذا لا يُقال إلا في الواجبات التي لا يصح تركها. وقال آخرون: إن الأمر للندب والاستحباب، وذلك لأنّ الله تعالى قال في الآية: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} ومِثلُ هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض. ومن جهة أخرى: فإنّ الله تعالى قال في الآية التي بعد هذه مباشرة {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صدقات} ؟ وهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب، ويبقى الأمر للندب. واتفق العلماء على أن الآية منسوخة، نسختها الآية التي بعدها {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقيل: بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وقيل: ما بقي إلاّ ساعة من النهار ثم نسخ. وقد روي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال: (إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فاشتريت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 به عشرة دراهم، فكلّما ناجيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قدّمت بين يدي نجواي درهماً، ثمّ نُسختْ فلم يعمل بها أحد) . قال القرطبي: (وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ضعيف، لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وهذا يدلّ على أنّ أحداً لم يتصدّق بشيء، والله أعلم) . ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: وجوب التوسعة في المجلس للقادم لأنها من مكارم الأخلاق. ثانياً: التوسعة للمؤمن في المجلس سببٌ لرحمة الله عَزَّ وَجَلَّ ّ وطريقٌ لرضوانه. ثالثاً: الرفعة عند الله والعزة والكرامة إنما تكون بالعلم والإيمان. رابعاً: وجوب تعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعدم الإثقال عليه في المناجاة. خامساً: تقديم الصدقة قبل المناجاة مظهر من مظاهر تكريم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. سادساً: نسخ الأحكام الشرعية لمصلحة البشر تخفيف من الله تعالى على عباده. سابعاً: الصلاة والزكاة أعظم أركان الإسلام ولهذا قرن القرآن الكريم بينهما في كثير من الآيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 سورة الممتحنة [1] التزاوج بين المسلمين والمشركين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 التحليل اللفظي {مهاجرات} : أي من دار الكفر، والهجرةُ في اللغة: الخروج من أرضٍ إلى أرض، وفي الشرع: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، وفي الحديث: «لا هجرةَ بعد الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ» المراد بعد فتح مكة، حيث أصبحت دار إسلام كالمدينة وانقطعت الهجرة. قال الأزهري: وأصل الهجرة عند العرب خروج البدويّ من باديته إلى المدن، وسُمّي المهاجرون ومهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم ابتغاء مرضاة الله، ولحقوا بدارٍ ليس لهم بها أهل ولا مال. {فامتحنوهن} : الامتحان في اللغة الاختبار، والمراد اختبارهنّ على الإيمان، بما يغلب على الظنّ، أما حقيقة الإيمان فلا يمكن أن تعلم، لأنه لا يطّلع على القلوب إلاّ علاّم الغيوب، فلنا الظاهر والله سبحانه يتولى السرائر، ويدل عليه قوله: {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} . {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} : يعني أعطوا أزواجهنَّ الكفار مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور. قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد، فليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة: الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل العهد، فأمّا من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يردّ إليه الصداق، قال القرطبي: والأمر كما قاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 {أُجُورَهُنَّ} : يعني مهورهن، وسمي المهر أجراً لأنه في الظاهر أجر البضع، وأمّا في الحقيقة فهو بذل وعطيّة لإظهار خطر المحل وشرفه، كما تقدّم. {بِعِصَمِ الكوافر} : جمع عِصْمة، وهي ما يعتصم به من عهد وسبب، وأصل العصمة: الحبل، وكلّ ما أمسك شيئاً فقد عصمه، والمراد بالعِصْمة هنا النكاح، والكوافر: جمع كافرة. والمعنى: لا تعتدّوا بنكاح زوجاتكم الكافرات فقد انقطعت العلاقة بينكم وبينهنّ. قال ابن عباس: «من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّن بها، فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين. قال الزجاج: إنها إذا كفرت فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن أي قد انبتَّ عقد النكاح. {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ} : أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدّة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر على نسائكم اللاحقات بهم. {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} : يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم، فليسأل أزواجهن المهر. والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصّداق كما يغرمون لكم. {فَاتَكُمْ} : سبقكم وانفلت من أيديكم. {فَعَاقَبْتُمْ} : قال الزجاج: أي أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 {ببهتان} : البهتانُ: الكذب والباطل، والافتراء الذي يُتحيّر من بطلانه، ومنه حديث (فقد بهتّه) أي افتريت عليه ما لم يقله. والمراد به في الآية: اللقيط. قال ابن عباس: لا يُلحِقْن بأزواجهنّ غيرَ أولادهم. وقال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن. وهو قول الجمهور. {مَعْرُوفٍ} : المعروف: ما يستحسنه الشرع، وترتضيه العقول السليمة وهو ضد المنكر. {لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً} : أي لا تتخذوهم أصدقاء، وأولياء، تودّوهم من دون المؤمنين، والمراد بالقوم اليهود، أو جميع الكفرة. {يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} : أي يئسوا من ثواب الآخرة، واليأس: انقطاع الأمل من الشيء، وهو ضد الرجاء. المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه: يا أيها المؤمنون إذا جاءكم المؤمنات المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإيمان، فراراً بدينهنّ، وحباً في الله ورسوله، فاختبروهنّ على هذا الإيمان، لتعلموا هل هنّ راغبات في الإسلام حقاً؟ أم أنهنّ هاربات من أزواجهن طمعاً في دنيا، أو حباً لرجل، فإذا علمتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 - أيها المؤمنون - بالدلائل والأمارات أنهنّ مؤمنات، فلا يحل لكم ردّهن إلى الكفار، لأن الله تعالى لا يبيح مؤمنة لمشرك، وعليكم أن تدفعوا لأزواجهنّ الكفرة ما أنفقوا عليهن من مهر، ولا حرج عليكم أن تتزوجوا بهنّ بصداقٍ جديد، بعد أن تؤدوا لهنّ حقوقهنّ كاملة. من كانت له امرأة كافرة لم تهاجر مع زوجها، فلا يعتدّ بهذه الزوجة، فقد زالت عصمة النكاح بينهما بسبب الكفر، وانبتّ عقد النكاح، لأن الإسلام لا يبيح الزواج بالمشركة، ومن ارتدت بعد إسلامها ولحقت بدار الكفر، فعاملوها معاملة المشركة، فقد زال النكاح وانفصمت الروابط الزوجية بالردّة، وأصبحت غير صالحة لأن تبقى في عصمة المؤمن، ولكم أن تطالبوهم بما دفعتم من مهور نساءكم اللاحقات بالكفار، كما يطالبونكم بمهور أزواجهم المهاجرات إليكم. ذلكم هو حكم الله الذي شرعه لكم، فلا تحيدوا عنه ولا تعتدّوا بغيره، لأن الله عليم حكيم، لا يشرع إلاّ ما تقتضيه الحكمة البالغة. وإن انفلت منكم - أيها المؤمنون - بعض النساء، ولم يدفع لكم المشركون ما تستحقونه من مهورهن، وأصبتموهم في القتال، وغنمتم منهم، فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا منالمهر قصاصاً، واتقوا الله الذي صدّقتم به، وآمنتم بتشريعه الحكيم العادل. وأمّا أنت - يا محمد - فإذا جاءك المؤمنات للبَيْعة، فبايعهنّ على السمع والطاعة، واشرط عليهن ألاّ يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يئدن أولادهم، كما كان يفعل أهل الجاهلية ولا يلحقن بأزواجهنّ لقيطاً من غير أولادهم، ولا يعصينك في طاعة أو معروف، فإذا وافقن على هذه الشروط فبايعهن على ذلك، وعلى سائر أحكام الإسلام، واطلب لهن من الله الرحمة والمغفرة، إذا وفين بالبيعة، فإن الله غفور رحيم، مبالغ في المغفرة والرحمة لمن استقام وتاب وأناب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 سبب النزول أولاً: روي عن ابن عباس أنه قال: إنّ مشركي مكة صالحوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الحديبية، على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه، فجاءت (سُبَيْعة بنت الحارث الأسلميّة) بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية، فأقبل زوجها - وكان كافراً - فقال يا محمد: أردُدْ عليّ امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا، وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد، فنزلت هذه الآية الكريمة. أقول: ذكر في هذه الرواية أنها (سبيعة) والمشهور عند المفسّرين أنها (أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط) كما نبّه عليه القرطبي وابن الجوزي وغيرهما. ثانياً: وروي أنّ ناساً من فقراء المسلمين، كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين، ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم وطعامهم فنزلت الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ ... } الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وجوه القراءات أولاً: قوله تعالى: {إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات} قرأ الجمهور {مهاجرات} بالنصب على الحال، وقرئ {مهاجراتٌ} بالرفع على البدل من المؤمنات، فكأنه قيل: إذا جاءكم مهاجراتٌ. ثانياً: قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} قرأ الجمهور {تُمْسكُوا} بضم التاء والتخفيف من الإمساك، وقرأ أبو عمرو ويعقوب {تُمَسّكوا} بضم التاء والتشديد من التمسيك، وقرأ عكرمة والحسن {تَمَسّكوا} بفتح التاء والميم والسين المشدّدة. ثالثاً: قوله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ} قرأ الجمهور {فعاقبتم} وقرأ ابن مسعود والنخعي {فعقبتم} بغير ألف وبالتخفيف وقرأ ابن عباس والأعمش {فعقّبتُم} بتشديد القاف. قال الزجّاج: والمعنى في التشديد والتخفيف واحد، أي كانت العقبى لكم بأن غلبتم، وقرأ مجاهد {فأعقبتم} . وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات} . مهاجراتٍ: حال منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 2 - قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} لفظ الجلالة مبتدأ، وأفعل التفضيل (أعلم) خبره، والجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب. 3 - قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أنْ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر أي منصوب بنزع الخافض، والتقدير: ولا جناح عليكم في أن تنكحوهنّ. 4 - قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان} : يفترينه؛ جملة فعلية وفي موضعها وجهان من الإعراب: النصب على الحال من المضمر في (يأتين) والجر على الوصف ل (بهتان) . 5 - قوله تعالى: {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور} من أصحاب القبور في موضع نصب لأنه يتعلق ب (يئس) وتقديره: يئسوا من بعث أصحاب القبور، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: ما الفائدة في امتحان المهاجرات مع أنهن مؤمنات؟ الجواب: أن الامتحان إنما هو لمعرفة سبب الهجرة، هل كان حبّاً في الله ورسوله، أم كان من أجل الدنيا؟ قال ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن، لأنّ المرأة إذا غضبت على زوجها بمكة قالت: لألحقنّ بمحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 وقد روي عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يستحلف المرأة فيقول: «بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجتِ من بغض زوج {باللَّهِ ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرض} بالله ما خرجت التماس دنيا {بالله ما خرجت إلاّ حباً لله ورسوله} فإذا حلفت على ذلك أعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يرُدّها» . اللطيفة الثانية: السرّ في ذكر هذه الجملة الاعتراضية (الله أعلم بإيمانهن) هو بيان أنه يكفي لنا العلم الظاهر، أمّا العلم الحقيقي الذي تطمئن به النفس وهو الإحاطة بجليّة الأمر، ومعرفة حقيقة الإيمان فإنّ ذلك مما استأثر به علاّم الغيوب، فنحن لنا الظاهر، والله يتولّى السرائر فسبحانه من إله عليم، يعلم السرّ وأخفى!! اللطيفة الثالثة: الحكمة في عدم ردّ المهاجرات هي أن النساء أرقّ قلوباً، وأسرع تقلباً، وأشدّ فتنةً من الرجال، لأنه لا صبر لهنّ على تحمّل البلاء والأذى في سبيل الله، فرحم الله ضعفهنَّ، ومنع من ردّهن إلى الكفرة المشركين. اللطيفة الرابعة: أمر الله تعالى بردّ المهر على الزوج الكافر إذا أسلمت زوجته، وذلك من الوفاء بالعهد الذي رعاه الإسلام. قال القرطبي: وذلك لئلا يقع على الزوج خسران من الوجهين: (الزوجة، والمال) ، لأنه لمّا مُنع من أهله بحرمة الإسلام، أمر بردّ المال إليه وذلك من الوفاء بالعهد. اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فيه إشارة إلى أنه لا صلة بين الإيمان والكفر، فإذا أسلمت الزوجة وزوجها كافر حرمت عليه لعدم التجانس بينهما، فهي مؤمنة وهو كافر، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 قطعت العلاقة بينهما، وهذا يدل على أن رابطة (العقيدة) أقوى من رابطة (النسب) فتدبره. اللطيفة السادسة: روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمّا أخذ البيعة على النساء كانت (هند بنت عتبة) في النساء المبايعات وهي زوجة (أبي سفيان) وكانت مُنْتقبة خوفاً من أن يعرفها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما صنعته بحمزة يوم أُحد ... فلما قرأ قوله تعالى: {وَلاَ يَسْرِقْنَ} قالت هند: إنّ أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا، فقال أبو سفيان: هو لك حلال، فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرفها، وقال أنتِ هند؟ فقالت: عفا الله عمَّا سلف، أعف يا نبي الله عفا الله عنك! { فلما قرأ: {وَلاَ يَزْنِينَ} قالت هند: أوَتزني الحُرّة؟ فلما قرأ: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} قالت هند: ربّيناهم صغاراً، وقتلتموهم كباراً، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى ... وكان حنظلة ولدها قُتل يوم بدر. فلما قرأ: {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قالت: والله إنّ البهتان لأمر قبيح، ولا تأمرنا إلاّ بالرَّشَدِ ومكارم الأخلاق. فلما قرأ: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء؟} اللطيفة السابعة: قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهنّ. وقال الزمخشري: «كَنَى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً، لأنّ (بطنها) الذي تحمله فيه بين اليدين، و (فرجها) الذي تلده به بين الرِّجْلينِ، وقيل: كَنَى بذلك عن الولد الدعيّ (غير الشرعي) فَنُهينَ عن ذلك لأنه من شعار الجاهلية، المنافي لشعار المسلمات» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل كان عقد الصلح يشمل الرجال والنساء؟ كان صلح الحديبية الذي تمّ بين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين مشركي قريش، قد نصّ على أنّ من أتى محمداً من قريش ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً من عند محمد لم يردّوه عليه، وقد جاءت (أم كلثوم بنت عقبة) بعد أن كُتب عقد الصلح مهاجرةً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجاء أهلها يطلبونها فقالت يا رسول الله: أنا امرأة، وحالُ النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردّني إلى الكفّار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي؟! فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأهلها: كان الشرط في الرجال لا في النساء، فأنزل الله هذه الآية فامتحنها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يردّها إليهم. قال القرطبي: وقد اختلف العلماء هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً، أو عموماً؟ فقالت طائفة: قد كان شرط ردّهن في عقد المهادنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله ردّهن من العقد، ومنع منه، وبقّاه في الرجال على ما كان. وقالت طائفة: لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً، وإنما أُطلق العقد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 ردّ من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن من الرجال، فبيّن الله تعالى خروجهن عن عمومه، وفرّق بينهنّ وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يُحَرّمن عليهم. الثاني: أنهنّ أرقّ قلوباً، وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة على شركها فمردوده عليهم. ثم قال: وأكثر العلماء على أنْ هذا ناسخ لما كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عاهد عليه قريشاً، من أنه يردُ إليهم من جاء منهم مسلماً، فنسخ من ذلك النساء، وهذا مذهب من يرى نسخ السنّة بالقرآن. أقول: ذكر الإمام الفخر نقلاً عن (الضحّاك) أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة، وأنه كان يشتمل على نص خاص بالنساء صورته كالتالي: (لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلاّ رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج رددتَ على زوجها ما أنفق عليها، وللنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الشرط مثل ذلك) . وعلى هذا الرأي تكون الآية موافقة للعهد، مقرّرة له، وهذا الذي تطمئن إليه النفس وترتاح، وما عداه من الأقوال فيحتاج إلى تمحيض وتدقيق، لأنها تنافي روح التشريع الإسلامي، من جهة أن الوفاء بالعهد واجب على المسلمين، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدّ بتخصيص نصوصه إو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني، فما ذهب إليه الضحّاك هو الأولى. يقول سيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ: «ويظهر أن النص لم يكن قاطعاً في موضوع النساء، فنزلت هاتان الآيتان تمنعان ردّ المهاجرات المؤمنات إلى الكفار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 خشية أن يُفتنّ في دينهن وهنّ ضعاف، ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها، تنظّم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته، دون تأثر بسلوك الفريق الآخر، وما فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته، دون تأثر بسلوك الفريق الآخر، وما فيها من شطط وجور، على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية» . الحكم الثاني: ما هو حكم المشركة إذا خرجت إلينا مسلمة؟ دلّ قوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} على أن المرأة إذا أسلمت وقعت الفرقة بينها وبين زوجها، فلا تحلّ له، ولا يحلّ لها. وقد اختلف الفقهاء هل تحصل الفرقة بالإسلام، أم باختلاف الدارين؟ على مذهبين: أ - مذهب أبي حنيفة: أن الفرقة تقع باختلاف الدارين. ب - مذهب الجمهور (الشافعية والمالكية والحنابلة) : أنّ الفرقة تقع بالإسلام وذلك عند انتهاء عدتها، فإن أسلم الزوج قبل انتهاء عدتها فهي امرأته. دليل الحنفية: أ - قوله تعالى: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} فلو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد. ب - قوله تعالى: {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} قالوا: ولو كانت الزوجية باقية لما استحقَّ الزوج ردّ المهر، لأنه لا يجوز أن يستحق البُضع وبدله. ج - قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ولو كان النكاح الأول باقياً لما جاز لأحدٍ أن يتزوج بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 د - قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} لأن معناه عندهم: لا تتمسكوا بعصمة الكافرة، ولا تعتدوا بها، ولا تمنعكم من التزوج بها. هـ - وقالوا أيضاً: لقد اتفق الفقهاء على جواز وطء (المسبيّة) بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج في دار الحرب، ولا سبب يبيح هذا إلاّ اختلافُ الدار، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في السبايا: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تُستبرأ بحيضه» . أدلة الجمهور: أ - قالوا: إنّ سبب الفرقة هو الإسلام، لأنها لم تعد صالحة لأن تكون فراشاً لكافر، ولو كان اختلاف الدار هو سبب الفرقة، لوجب أن تحصل الفرقة بمجيء المشركة إلينا ودخولها بعهد أمان ولو لم تسلم، ولم يقل به أحد. ب - ما روي عن مجاهد أنه قال: «إذا أسلم الكافر وهي في العدّة فهي امرأته، وإن لم يسلم فُرّق بينهما» . ج - ما روي عن ابن عباس أنه قال: (ردّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابنته زينب على (أبي العاص بن الربيع) بالنكاح الأول، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة وبقي زوجها بمكة مشركاً، ثمّ ردّها عليه بعد إسلامه) . قال القرطبي: «قوله تعالى: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي لم يُحلّ الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة. وهذا أدلّ دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرُتها، فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام، وليس باختلاف الدار» . والخلاصة: فإن الحنفيَّة يقولون: إن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً وبقي الآخر حربياً فقد وقعت الفرقة بينهما، ولا يرون العدّة على المهاجرة، ويبيحون نكاحها من غير عدّة إلاّ أن تكون حاملاً، عملاً بالآية الكريمة {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} حيث لم تلزمها العدة، وقد بانت من زوجها بمجرد الهجرة. والجمهور يقولون: لا تقع الفرقة إلاّ بإسلامها، وأمّا بمجرد الخروج فلا، فإن أسلمت قبل أن يدخل بها زوجها تنجّزت الفرقة وبانت منه لأنه لا عدة عليها، وإن أسلمت بعد الدخول بها توقفت إلى انقضاء العدّة، فإن أسلم قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإلاّ بانت منه. وحجتهم في ذلك: الأدلة التي سبقت وما روي أنّ (أبا سفيان) أسلم قبل زوجته (هند بنت عتبة) ثمّ أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأن عدَّتها لم تكن قد انقضت. وقد بسطنا لك أدلة القريقين بإيجاز، وتتمة البحث بالتفصيل يُرجع إليها في كتب الفقه والله الموفق والهادي. الحكم الثالث: هل يجوز الزواج بالمشركة الوثنيَّة؟ دلّ قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} على حرمة النكاح بالكافرة المشركة، لأن معنى الآية: ولا تمسكوا بعصم نسائكم المشركات أي لا تعتدوا بنكاحهنّ فإنه باطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 كما دلّ قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] على حرمة نكاح المشركة، وقد اتفق العلماء على أن هذه الآيات خاصة بالمشركات من غير أهل الكتاب، لأن الكتابيات يجوز الزواج بهن لقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ ... } [المائدة: 5] الآية. قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحدٍ من الأوائل أنه حرم نكاح الكتابيات. أقول: أجمع الفقهاء على حرمة الزواج بالمشركة - وهي التي لا تدين بدينٍ سماوي - وعلى جواز النكاح بالنصرانية أو اليهودية من أهل الكتاب للنصّ السابق، اللهم إلاّ ما روي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه كان إذا سئل عن زواج الرجل بالنصرانية أو اليهودية قال: «حرّم الله المشركات على المؤمنين، وأعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربّها عيسى، أو عبدٌ من عباد الله» . وهذا القول: من عبد الله بن عمر محمول على (الكراهة) لا على (التحريم) ، لأن النصّ صريح بالحلّ، ولعلَّه خشي الفتنة على الرجل في دينه، أو خشي على الأولاد من التنصُّر فكرهه لذلك والله أعلم. الحكم الرابع: كيف كانت بيعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للنساء؟ بايع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ النّساء بعد أن فتح مكة، وكانت بيعته لهن بالشرائط المذكورة في هذه الآية: {ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً. . .} . وقد صحّ في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهنّ بالكلام، ودلّ ذلك على حرمة مصافحة النساء. وقد كانت بيعة الرجال أن يضع الرجل يده في يد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويبايعه على الإسلام والجهاد، والسمع والطاعة، وأما النساء فلم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه صافح امرأة، ولا وضع يده في يدها، إنما كانت البيعة بالكلام فقط، ويدل عليه ما يلي: النصوص الشرعية الدَّالة على حرمة المصافحة أولاً: روى البخاري عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: «كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، بقول الله تعالى {ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات ... } إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قد بايعتُكِ كلاماً، والله ما مَسّت يده يد امرأة قطّ في المبايعة، ما يبايعهنّ إلا بقوله:» قد بايعتك على ذلك «. ثانياً: روي الإمام أحمد عن (أميمة بنت رقيقة) قالت:» أتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: أن لا نشرك بالله شيئاً ... الآية وقال: «فيما استطعتُنّ وأطقتُن» قلنا: اللَّهُ ورسولُه أرحم بنا من أنفسنا. قلنا يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال: «إني لا أصافح النساء، إنما قول لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» . ثالثاً: وفي صحيح مسلم عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بعد أن ذكرت البيعة قالت: «وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهنّ:» انطلقن فقد بايعتُكنّ «ولا والله ما مَسّت يدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن:» قد بايعتكُنّ كلاماً «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 قال الحافظ ابن حجر: قوله:» قد بايعتكِ كلاماً «أي يقول ذلك كلاماً فقط، لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة. أقول: الروايات كلها تشير إلى أن البيعة كانت بالكلام، ولم يثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 أنه صافح النساء في بيعة أو غيرها، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما يمتنع عن مصافحة النساء مع أنَّه المعصوم فإنما هو تعليم للأمة وإرشاد لها لسلوك طريق الاستقامة، وإذا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو الطاهر، الفاضل، الشريف، الذي لا يشك إنسان في نزاهته وطهارته، وسلامة قلبه، لا يصافح النساء، ويكتفي بالكلام في مبايعتهنّ، مع أن أمر البَيْعة أمر عظيم الشأن، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء، مع أن الشهوة فيهم غالبة؟ والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري فيهم مجرى الدم؟ { وكيف يزعم بعض النَّاس أن مصافحة النساء غير محرَّمة في الشريعة الإسلامية؟} {سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ! الحكم الخامس: ما المراد من قوله تعالى: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ؟ اختلف العلماء في المراد من الآية الكريمة على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد به النوح على الميّت، قاله ابن عباس، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرفوعاً. والثاني: أن المراد: أن لا يدعون ويلاً، ولا يخدشن وجهاً، ولا يقطعن شعراً، ولا يشققن ثوباً، قاله زيد بن أسلم. والثالث: جميع ما يأمرهن به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من شرائع الإسلام وآدابه وهذا هو الأرجح. قال العلامة القرطبي: «والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وينهى عنه، فيدخل فيه النّوح، وتخريق الثياب، وجزّ الشعر، والخلوة بغير محرم، إلى غير ذلك، وهذه كلها كبائر، ومن أفعال الجاهلية، وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:» أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية ... وذكر منها النياحة «. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: امتحان المهاجرات المؤمنات للتعرف على سبب الهجرة. ثانياً: نحن نحكم بالظاهر، والله جلّ وعلا يتولى السرائر. ثالثاً: حرمة نكاح المشركات اللواتي لا يؤمنّ بالله تعالى. رابعاً: إسلام المرأة يقطع الصلة بينها وبين زوجها المشرك وتحرم عليه. خامساً: البيعة للنساء تكون بالشرائط التي ذكرها القرآن الكريم. سادساً: الطاعة لأولي الأمر تكون في حدود ما شرع الله تبارك وتعالى. سابعاً: جواز نكاح الكتابيات اللاتي يؤمنّ بكتاب منزل من عند الله. خاتمة البحث: حكمة التشريع حرّمت الشريعة الإسلامية الغراء نكاح المشركات، وحظرت على المسلم أن يُبقي في عصمته امرأة لا تؤمن بالله، ولا تعتقد بكتاب أو رسول، وتنكر البعث والنشور، وذلك لما يترتب على هذا الزواج من مخاطر دينية، واجتماعية، وأضرار عظيمة، تلحق بالزوج والأولاد، وبالتالي تهدّد حياة الأسرة التي هي النواة لبناء المجتمع الأكبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 وقد قضت السنة الإلهية أن تمتزج الأرواح بالأرواح، وتتلاءم الأنفس مع الأنفس عند الزواج، لينعم الزوجان في حياة آمنةٍ سعيدة، يرفرف عليها الحب، وتظلِّلها السعادة، ويخيِّم عليها التعاون والتفاهم والوئام. ولمّا كان هذا الانسجام والتفاهم، لا يكاد يوجد بين قلبين متنافرين ونفسين مختلفين، نفسٍ مؤمنةٍ خيّرة، ونفسٍ مشركةٍ فاجرة، وكان هذا يؤدي بدوره إلى التنافر، والخصام، والنزاع، لذلك حرّم الإسلام الزواج بالوثنية المشركة، وعدّه زواجاً باطلاً لا يستقيم مع شريعة الله. فالمشركة التي ليس لها دين يزجرها عن الشرّ، ويأمرها بالخير، ويحرّم عليها الخيانة، ويوجب عليها الأمانة، هذه الزوجة لا يمكن أن يسعد المرء في حياته معها، ولا تصلح أن تكون (رفيقة الحياة) لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر مع الفارق الكبير بين نفسيهما. والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار، ولا يمكن أن تقوم الحياة بدون هذا الامتزاج، والإيمان هو قوام الحياة السعيدة الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه، ولا أن يأنس به، ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره، وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 سورة الجمعة [1] صلاة الجمعة وأحكامها التحليل اللفظي {نُودِيَ} : النداء: الدعاء بأرفع الصوت تقول: ناديته نداءً ومناداة، وفي الحديث «فإنه أندى صوتاً منك» أي أحسن وأعذب، وقيل: أرفع وأعلى، والمرادُ بالنداء هنا: الأذانُ والإعلام لصلاة الجمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 {الجمعة} : هو اليوم المعروف، وهو يوم عيد المسلمين الأسبوعي قال الفراء: يقال (الجُمْعة) بسكون الميم، و (الجُمُعة) بضم الميم، و (الجُمَعة) بفتح الميم فيكون صفة اليوم، أي تجمع الناس، كما يقال: ضُحَكة للذي يضحك الناس، ففيها ثلاث لغات. والأفصح الأشهر (الجمُعة) بضم الميم، قال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤها جُمُعة. وقد صار يوم الجمعة عَلَماً على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وسميت جمعة لاجتماع الناس فيها للصلاة، وكان العرب تسمي يوم الجمعة (عَروبة) وأول من سمّاها جمعة (كعب بن لؤي) . قال السهيلي: ومعنى العروبة: الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم. {فاسعوا} : السعي: العَدْوُ في المشي والإسراع فيه، والمراد منه في الآية: امشوا إلى الصلاة بدون إفراط في السّرعة لقوله عليه السلام: «إذا أُقيمت الصلاةُ فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن، وأتُوها وأنتم تَمْشُون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» . قال الفراء: المضيّ، والسعي، والذهاب، بمعنى واحد واحتج بقولهم: هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله، معناه يمضي بجد واجتهاد، وليس معناه: العدو والركض. واحتج أبو عبيدة: بقول الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 أسعى على جُلّ بني مالك ... كلّ امرئ في شأنه ساعي وكان ابن مسعود: يقرؤها: (فامضوا إلى ذكر الله) ويقول: «لو كانت من السعي لسعيتُ حتى يسقط ردائي» . قال القرطبي: وقراءةُ ابن مسعود تفسير منه، لا قراءة قرآن منزل، وجائزٌ قراءة القرآن بالتفسير، في معرض التفسير. {ذِكْرِ الله} : المراد بذكر الله صلاةُ الجمعة، بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاوة فانتشروا فِي الأرض} وقيل: المراد به الخطبة. والصحيح الراجح: أن المراد به (الصلاة، والخطبة) جميعاً لاشتمالهما على ذكر الله. {وَذَرُواْ البيع} : أي اتركوا البيع، والمعاملة، وسائر أمور التجارة والأعمال. قال الألوسي: أي اتركوا المعاملة، فيعمّ البيع، والشراء، والإجارة وغيرها من المعاملات. وقال القرطبي: وخصّ البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. {قُضِيَتِ الصلاوة} : أي أديتم الصلاة وفرغتم منها، يقال: قضى الرجل عمله أي أدّاه ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي أديتموها، وقضى دينه أي وفَّاه، وليس من قضاء الفائتة في الصلاة، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على أن لفظ (القضاء) يطلق على (الأداء) وهو استدلال لطيف. {فانتشروا} : أي تفرقوا في الأرض لإقامة مصالحكم، والانتشار معناه التفرق، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} [الأحزاب: 53] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 {وابتغوا} : أي اطلبوا من الابتغاء بمعنى الطلب، قال تعالى: {وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} [القصص: 77] . {فَضْلِ الله} : المراد به الرزق والتجارة، والكسبُ الحلال. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، وإنما هو عيادة المرضى، وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله. {انفضوا إِلَيْهَا} : بمعنى انصرفوا إليها، وتفرقوا عنك، والانفضاض معناه: التفرق والانصراف، قال ذو الرُمّة: تكاد تنقضّ منهنّ الحيازيم ... وأعاد الضمير إلى التجارة، لأنها كانت أهمّ إليهم، وقال الزجّاج: المعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه مثل قوله تعالى: {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33] ، وكما قال الشاعر: نحنُ بما عندنا وأنت بما ... عندكَ راضٍ والرأيُ مختلف {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} : أي على المنبر تخطب، قال بعض العلماء: وفيه دلالة على مشروعية القيام في الخطبة. {خَيْرُ الرازقين} : لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل سواءً كان مؤمناً أم كافراً. قال الطبري: {والله خَيْرُ الرازقين} : يقول: والله خير رازق، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم، وإيّاه فاسألوا أن يوسّع عليكم من فضله دون غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه: «يا أيها المؤمنون يا من صدّقتم بالله ورسوله، إذا سمتعتم المؤذّن، ينادي لصلاة الجمعة ويؤذّن لها، فاتركوا أعمالكم وأشغالكم، ودَعُوا البيع والشراء وامضوا سراعاً إلى ذكر الله وعبادته، وإلى أداء صلاة الجمعة مع إخوانكم المسلمين، فإنّ ذلك خير لكم وأفضل، وأرجى لكم عند الله، وأعود عليكم بالخيرات والبركات، إن كنتم من أهل العلم والفهم السليم، فإذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها، فانبثّوا في الأرض لقضاء مصالحكم، واطلبوا من فضل الله، فإن الرزق بيده، وهو المنعم المتفضّل، الذي لا يخيّب أمل السائل، ولا يضيع عمل العامل، ولا يمنع أحداً من فضله وإحسانه، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. ثم أخبر تعالى أنّ هناك فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية، على الآخرة الباقية، فإذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقة قادمة، أو شيء من لهو الدنيا، وزينتها وبهرجها، تفرّقوا عن رسول الله عليه السلام، وانصرفوا إلى متاع الحياة، وتركوا الرسول قائماً يخطب، ولو عقلوا لعلموا أنّ ما عند الله خير وأبقى، وأن ثوابه خير من اللهو والتجارة، وأن الله - جلّ وعلا - هو خير الرازقين، يرزق من يشاء بغير حساب، وما عند الله خير للأبرار. وصدق الله حيث يقول: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 سبب النزول أ - أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: بينما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب يوم الجمعة قائماً، إذ قدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلاً أنا فيهم، وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} إلى آخر السورة. ب - وروى ابن كثير عن أبي يعلى بسنده إلى جابر بن عبد الله أنه قال: «بينما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب يوم الجمعة، فقدمت عيرٌ إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لم يبق مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا اثنا عشر رجلاً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً «ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة ... } . ج - وروى أبو حيان في تفسيره» البحر المحيط «في سبب هذا الانصراف أنَّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر، فقدم (دحية) بعيرٍ تحمل ميرةً وكان من عُرْفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درى بها. فدخلت بها فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً، قال جابر: أنا أحدهم، فنزلت {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة ... } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {من يوم الجُمُعة} بضم الجيم والميم، وقرأ الزهري والأعمش بضم الجيم وسكون الميم {الجُمْعة} وهي لغة تميم، وقرأ أبو العالية والنخعي {الجُمَعة} بضم الجيم مع فتح الميم، وهي ثلاث لغات. قال الزجاج: من قرأ بتسكين الميم فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين، وأمّا فتح الميم فمعناها: الذي يجمع الناس، كما تقول: رجلٌ لُعَنَة: يُكثر لعنة الناس، وضُحَكَة: يكثر الضحك. 2 - قرأ الجمهور {انفضّوا إليها} بضمير المؤنث عائداً إلى التجارة، وقرأ ابن أبي عَبْلة بضمير المذكّر {انفضّوا إليه} عائداً إلى اللهو. قال الأخفش: وكلاهما جائز عند العرب، وقرئ {انفضُّوا إليهما} بضمير التثنية عائداً إلى التجارة واللهو. 3 - قرأ الجمهور {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} وروي عن ابن مسعود وعمر أنهما كانا يقرآنها {فامضوا إلى ذكر الله} وقراءتهما محمولة على أنها وجه من وجوه التفسير، لا أنها قراءة من القراءات وقد مرّ معك كلام القرطبي فتدبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة} (إذا) شرطية و (نودي) مبني للمجهول، و (مِنْ) بمعنى (في) أي في يوم الجمعة كقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] أي في الأرض. وجوّز أبو البقاء كون (مِنْ) للتبعيض. وفي» الكشاف «: هي بيان ل (إذا) وتفسير له، وقد اعترض عليه في هذا، والصحيح أنها بمعنى (في) . 2 - قوله تعالى: {واذكروا الله كَثِيراً ... } . (اذكروا) فعل أمر مبني على حذف النون لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل، ولفظ الجلالة منصوب على التعظيم تأدباً، و (كثيراً) صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره: (ذكراً كثيراً) ، وقد صرح به في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41 - 42] . 3 - قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} ، قائماً منصوب على الحال، وصاحب الحال هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المشار إليه ب (تركوك) أيها النبيّ حال كونك قائماً. 4 - قوله تعالى: {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة ... } (ما) اسم موصول مبتدأ، و (خير) خبره، والجملة (ما عند الله خير) مقول القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية يوم (العَروبة) . وأوّل من سمّاه جمعة (كعب بن لؤي) وروي في سبب تسميته أن أهل المدينة اجتمعوا قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى، ونشكره، فقالوا: يومُ السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العَروبة، فاجتمعوا إلى (أسعد بن زُرارة) فصلَّى بهم يومئذٍ ركعتين، وذكّرهم، فسميت الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغدّوا وتعشّوا منها، فهي أول جمعة كانت في الإسلام. اللطيفة الثانية: في التعبير بقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} لطيفة وهي أنه ينبغي للمؤمن أن يقوم إلى صلاة الجمعة بجدٍّ ونشاط، وعزيمة وهمَّة، لأن لفظ (السعي) يفيد القصد والجدّ والعزة، وليس المراد منه العَدْو في المشي فإنّ ذلك منهي عنه. قال الحسن: «والله ما هو سعي على الأقدام، ولكنّه سعي بالقلوب وسعي بالنيّة، وسعي بالرغبة، ولقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إلاّ وعليهم السكينة والوقار» . اللطيفة الثالثة: أُطلق لفظ البيع (وذروا البيع) وقصد به جميع أنواع المعاملة من بيع، وشراء، وإجارة، وغيرها من المعاملات فهو على سبيل المجاز المرسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 قال أبو حيان: «وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرَّمات، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، إذ يكثر الوافدون من القرى إلى الأمصار ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار، فأُمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة، ونُهوا عن تجارة الدنيا حتى الفراغ من الصلاة» . اللطيف الرابعة: كان السلف الصالح يقتدون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في جميع أفعاله وحركاته وسكناته، حتى ولوْ لم يدركوا السرّ فيه، وذلك من فرط حبِّهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد روي عن بعضهم أنه كان إذا صلَّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة، ثم رجع إلى المسجد فصلَّى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأيّ شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيّد المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هكذا يصنع، وتلا هذه الآية: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاوة} . اللطيفة الخامسة: كان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: «اللهمّ إني أجبتُ دعوتك، وصلَّيتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين» . اللطيفة السادسة: في قوله تعالى: {واذكروا الله كَثِيراً} لطيفة وهي أن الله عَزَّ وَجَلَّ أمر بالسعي في طلب الرزق، والاشتغال بالتجارة، ولمّا كان هذا قد يسوق الإنسان إلى الغفلة، وربما دفعته الرغبة في جمع المال، إلى الكذب، والغش، والاحتيال، أُمِر المسلمُ أن يذكر الله تعالى، ليعلم أن الدنيا ومتاعها فانية وأن الآخرة وما فيها باقية، وأنّ ما عند الله خير وأبقى، فلا تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة كما قال تعالى في وصف المؤمنين: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] وهذا هو السرّ في الأمر بذكر الله كثيراً فتدبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 اللطيفة السابعة: الأصل في (إذا) أنها للاستقبال، والآية الكريمة نزلت بعد تلك الحادثة وبعد انفضاض الناس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهذا فقد خرجت عن الاستقبال واستعملت في الماضي، على حدِّ قول القائل: ونَدْمانٍ يزيدُ الكأس طيباً ... سَقَيْتُ (إذا) تَغَوّرتِ النَجومُ ما ورد في فضائل يوم الجمعة أ - يومُ الجمعة أفضل الأيام وأشرفها على الاطلاق فقد روى مسلم في «صحيحة» عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» . ب - وروى مالك في «الموطأ» عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة، إلاَّ الإنس والجن، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه إياه» . ج - وروى أبو داود في «سننه» أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ، قالوا يا رسول الله: كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 يعني (بليتَ) فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ ّ حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هو الأذان الذي يجب السعي عنده؟ دلَّ قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} على وجوب السعي إلى المسجد، وترك البيع والشراء، وقد اختلف العلماء في الأذان الذي يجب السعي عنده. 1 - قال بعض العلماء: المراد به الأذان الأول الذي هو على (المنارة) . 2 - وقال آخرون: المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب إذا صعد الإمام المنبر. حجة الفريق الأول: أ - أن المراد من النداء هو الإعلام، والسعيُ إنما يجب عند الإعلام، وهو (الأذان الأول) على المنارة، الذي زاده عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وذلك حين رأى كثرة الناس، وتَباعُدَ مساكنهم عن المسجد، فأمر بالتأذين الأول على دارٍ له بالسوق، يقال لها (الزّوراء) وقد ثبت الأمر على ذلك من عهده إلى عصرنا هذا. ب - واستدلوا بما رواه البخاري في «صحيحه» عن (السائب بن يزيد) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: (كان النداء يوم الجمعة أوَّلُه إذا جلس الإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 على المنبر على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبي بكر، وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، فلما كان زمن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزّوراء فثبت الأمر على ذلك) . ج - وقالوا: السعيُ عند الأذان الثاني، وقت صعود الخطيب المنبر، يفوّت على الناس سماع الخطبة التي م أجلها خفّف الله تعالى الصلاة فجعلها ركعتين، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقرب مساكنهم من المسجد، ولحرصهم الشديد على أن بجيئوا من أول الوقت محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يُسْمعهم فيحضرون سراعاً، ويدركون الخطبة من أولها لقرب المساكن من المسجد. وهذا القول هو الظاهر المعتمد في مذهب الحنفية، وقد نصّ عليه صاحب «الكنز» من أئمة فقهاء الحنفية فقال: «ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاوة} الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب. وقيل: العبرة للأذان الثاني، الذي يكون بين يدي الخطيب على المنبر، لأنه لم يكن في زمنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاّ هو - وهو ضعيف - لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السُنّة القبلية، ومن الاستمتاع، بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى. حجة الفريق الثاني: أ - الأذان الذي يجب فيه السعيُ وتركُ البيع، هو (الأذان الثاني) الذي يكون بين يدي الخطيب، لأنه هو الأذان الذي كان في زمنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 عليه السلام أحرص الناس على أن يؤدي المؤمنون الواجب عليهم في وقته، فلو كان السعي واجباً قبل ذلك لبيّنه لهم، ولجعل بين الأذان والخطبة زمناً يتسع لحضور الناس. ب - ما روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة} قالا:» إذا خرج الإمام وأذّن المؤذن فقد نودي للصلاة «. قالوا: وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره. ج - وقالوا أيضاً: إن المصلي يندب له أن يجيء مبكّراً لفوائد جمّة كما دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة، ولكنّ تحريم البيع والشراء والحكمَ بالإثم شيءٌ، وإدراكَ الأمر المندوب شيءٌ آخر. ثم إن السنة القبلية - على فرض أنها بقيت مطلوبة في الجمعة - فإنه لا يمكننا أن نوجب السعي قبل وقته لتحصيل سنّة لم تثبت، فيبقى النداء الذي يحرم عنده البيع هو (النداء الثاني) الذي يكون عند صعود المنبر، وهو الذي كان في زمنه عليه السلام. وهذا المذهب هو رأي جمهور العلماء، وقولٌ عند فقهاء الحنفية، ولعله يكون الأرجح والله تعالى أعلم. الحكم الثاني: هل يفسخ البيع عند الآذان؟ دلَّ قوله تعالى: {وَذَرُواْ البيع} على حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان، وقد اختلف العلماء في عقد البيع هل هو صحيح أم فاسد؟ فقال بعضهم إنه فاسد لورود النهي {وَذَرُواْ البيع} . وقال الأكثرون إنه حرام ولكنه غير فاسد وهو يشبه الصلاة في الأرض المغصوبة تصحُّ مع الكراهة. قال القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» : «وفي وقت التحريم قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 الأول: أنه من بعد الزوال إلى الفراغ من الصلاة. قاله الضحّاك، والحسن، وعطاء. الثاني: من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة، قاله الشافعي. قال: ومذهب مالك: أن يترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من البيع في ذلك الوقت، ولا يفسخ العتق، والنكاح، والطلاق وغيره، إذا ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع، قالوا: وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. قال ابن العربي: والصحيحُ فسخ الجميع، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به، فكلُّ أمرٍ يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً. مفسوخ رَدْعاً. ورأى بعضُ العلماء البيع في الوقت المذكور جائزاً، وتأّوَّل النّهيَ عنه ندباً، واستدل بقوله تعالى: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} ، وهذا مذهب الشافعي فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ. وقال الزمخشري في تفسيره: إن عامة العلماء على أنّ ذلك لا يؤدي إلى فساد البيع، قالوا: لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد. قال القرطبي: والصحيح فسادُه، وفسخُه، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردّ «أي مردود، والله أعلم. الحكم الثالث: هل الخُطْبة شرط لصحة الجمعة؟ دلّ قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} على أن الخطبة شرط لصحة صلاة الجمعة، لأن ذكر الله سواء قلنا إنه: (الموعظة) أو إنه (الموعظة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 والصلاة معاً) يدخل فيه خطبة الجمعة، فلا بدّ أن تكون شرطاً لصحة الصلاة. ولأن صلاة الجمعة إنما خفّفت من أجل الخطبة وسماع الموعظة، وعليه تكون الخطبة واجبة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء. غير أن فقهاء الحنفية قالوا: لا يشترط في الخطبة أن تكون مشتملة على ما يسمّى (خطبة) عرفاً، لأن الله تعالى ذكر الذّكر من غير تفصيل بين كونه طويلاً، أو قصيراً، يسمّى خطبة أو لا يسمى خطبة، فكان الشرط هو الذكر مطلقاً، ويكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم الذكر، غير أن المأثور عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذكر المسمّى ب (الخطبة) والمواظبة عليه فكان ذلك واجباً أو سنّة، لا أنه الشرطُ الذي لا يجزئ غيره. وفقهاء الشافعية والحنابلة: يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة منها: حمدُ الله، والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقراءة آية من كتاب الله تعالى، والوصيةُ بتقوى الله تعالى. وزاد الشافعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. وفقهاء المالكية: شرطوا في الخطبة شرطاً واحداً وهي أن تكون مشتملة على تحذير أو تبشير ممّا يسمّى في العرف موعظة وخطبة. قال في «الروضة الندية» : «ثمّ اعلم أنَّ الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روحُ الخطبة الذي لأجله شرعت، وأمّا اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسوله، أو قراءة شيء من القرآن، فجميعُه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاقُ مثل ذلك في خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يدل على أنه مقصود متحتم، وشرط لازم. ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كان عُرْف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً، ويقول مقالاً، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما أحسن هذا وأولاه - ولكن ليس هو المقصود، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 بل المقصود ما بعده، ولو قال: إنّ من قام في محفل من المحافل خطيباً، ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد، والصلاة، لما كان هذا مقبولاً بل كل طبع سليم يمجّه ويردّه، إذا تقرّر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلاّ أنه قدّم الثناء على الله وعلى رسوله، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتمّ وأحسن» . الحكم الرابع: ما هو العدد الذي تنعقد به الجمعة؟ لا خلاف بين الفقهاء أن الجماعة شرط من شروط صحة الجمعة، لقوله عليه السلام: «الجمعة حقٌّ واجبٌ على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة: مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض» . ولأن التسمية تقتضي ذلك، فلا يقال لمن صلَّى وحده إنه صلى الجمعة. فلا بدّ من الجماعة، وقد اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة إلى خمسة عشر قولاً ذكرها الحافظ في «الفتح» . والآية الكريمة لم تنصّ على عددٍ معيّن، وكذلك السُنَّةُ المطهّرة لم يرد فيها نص صريح صحيح على العدد الذي تنعقد به، ولهذا اختلف الفقهاء على أقوال عديدة: أ - الحنفية قالوا: يكفي أربعة أحدهم الإمام، وقيل: ثلاثة. ب - الشافعية والحنابلة قالوا: لا بدّ من جمع غفير أقله أربعون. ج - المالكية قالوا: لا يشترط عدد معيّن بل تشترط جماعة تُسْكن بهم قرية، ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم. قال الحافظ ابن حجر: ولعلّ هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل. وهناك أحكام أخرى تطلب من كتب الفروع ضربنا صفحاً عنها لأنّ الآية الكريمة لا تدل عليها والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: الجمعة فريضة على المسلمين المكلفين بالشروط المعروفة. ثانياً: وجوب السعي للاستماع إلى الخطبة وأداء فريضة الجمعة. ثالثاً: حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان. رابعاً: جواز الاشتغال بأمور التجارة والمعاش قبل الصلاة وبعدها. خامساً: الرزق بيد الله ومع ذلك ينبغي أن يأخذ الإنسان بأسباب الكسب. سادساً: لا ينبغي للمؤمن أن تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة. خاتمة البحث: حكمة التشريع الصلاة صلة العبد بربه، وعبادة تشدُّ القلب، وتقوِّي الإيمان فيه، وهي إلى جانب هذا تزيد المجتمع ترابطاً وتآلفاً، يلتقي فيها أفراده على الخير، ويتعاونون على البر والتقوى، وإذا كانت الصلوات الخمس في كل يوم وليلة مفروضة فقد يُشْغل المرء عن بعضها في شغله الدنيوي الذي يُبعده عن المسجد، أو يتساهل في عدم المجيء إليها، لذلك فقد فرض الله صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة واحدة ليسرع إلى الصلاة يستمع إلى كلام الله وحديث المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وموعظة الخطيب، فيكون له زاداً إيمانياً، ويجتمع بإخوانه المؤمنين جميعاً، فيتفقد الغائب، ويعين المحتاج، ويعود المريض، ويصالح المتخاصمين، ويبذل نصحه للمقصِّرين ... كما يتعلم الآداب الإسلامية في الاجتماع من السلام، والاحترام، والبشاشة التي تجعل المجتمع في سلام وأمان، لهذا كله فرض الله سبحانه صلاة الجمعة على كل مسلم، وأمره أن يسعى إليها، وحثه على أدائها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 سورة الطلاق [1] أحكام الطلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 التحليل اللفظي {لِعِدَّتِهِنَّ} : أي لزمان عدتهن، أو لاستقبال عدتهن. قال الجرجاني: اللام بمعنى (في) أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، وعدَّةُ المرأة أيام قروئها، وأيام إحدادها على بعلها، وأصل ذلك كله من العد لأنها تعد أيام أقرائها، أو أيام حمل الجنين، أو أربعة أشهر وعشر ليال. {وَأَحْصُواْ} : أي اضبطوا، واحفظوا، وأكملوا العدَّة ثلاثة قروء كوامل. وأصل معنى الإحصاء: العدُّ بالحصى كما كان معتاداً قديماً، ثم صار حقيقة فيما ذكر. {اتقوا الله} : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية تحميكم وتصونكم، وذلك بالطاعة في الأوامر، واجتناب النواهي. {بفاحشة} : الفاحشة، والفُحْش، والفحشاء: القبيحُ من القول والفعل، وجمعها فواحش، وكلُّ ما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي يسمى (فاحشة) ولهذا يسمى الزنى فاحشة قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] . {حُدُودُ الله} : الحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي، والحدُّ في الحقيقة هو النهاية التي ينتهي إليها الشيء، وحدودُ الله ضربان: ضرب حدَّها للناس في مطاعمهم ومشاربهم مما أحلَّ وحرم، والضرب الثاني عقوبات جعلت لمن ركب ما نُهِيَ عنه كحد السارق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 {ظَلَمَ نَفْسَهُ} : الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . {أَجَلَهُنَّ} : الأجل غاية الوقت ومدَّتُه. والمراد في الآية أي قاربن انقضاء أجل العدّة. {بِمَعْرُوفٍ} : المعروف ما يستحسن من الأفعال، وأصل المعروف ضد المنكر. والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات. والمعروف في الإمساك النَّصَفة وحسن العشرة والصحبة فيما للزوجة على زوجها، وفي المفارقة أداء المهر والتمتيع، والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط. {ذَوَىْ عَدْلٍ} : أي رجلين بيّنا العدالة، والعدل: المرضيُّ قوله وحكمه. قال الحسن: ذوي عدلٍ من المسلمين. {يَتَوَكَّلْ} : يستسلم ويعتمد في أموره على الله، لعلمه أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده، ويصرف أمره إليه. {حَسْبُهُ} : أي كافيه. ومنه قول المؤمن (حسبي الله ونعم الوكيل) . {بالغ} : أي نافذ أمره والمعنى سيبلغ الله أمره فيما يريد منكم. {قَدْراً} : أي تقديراً وتوقيتاً، وهو بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه، لأن العبد إذا علم أن كلَّ شيءٍ من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى، لا يبقى له إلا التسليم للقدر، والتوكل على الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 المعنى الإجمالي يخاطب الله سبحانه نبيه المختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائد الأمة إلى الخير، وهاديها إلى الحق، تشريفاً له وتعظيماً، وتنبيهاً لأمته وتعلياً، بأن المسلم إذا أراد أن يطلِّق زوجه فله ذلك. ولكن عليه أن يراعي في ذلك الوقت الذي يطلَّقها فيه، فلايطلِّقْها إلا في طهر لم يجامعها فيه، فإن فعل ذلك فعليه أن يحصي الوقت، ويضبط أيام العدة ليعرف وتعرف انتهاء عدتها. وانفصام عرى الزوجية بينهما، وعلى المؤمن أن يكون مصاحباً لتقوى الله وخشيته في كل عمل يؤديه، وأمرٍ يقوم به ليكون عمله صحيحاً سليماً. المعتدة تقعد في منزل زوجها لا يجوز له أن يُخرجها، ولا يجوز لها أن تخرج، ولو أذن لها زوجها بذلك إلا إذا ارتكبت فاحشة محققة تعذّرَ معها البقاء في منزل زوجها فتخرج لذلك، هذا أمر الله وحكمه، وحدُّه الفاصل الذي أقامه لطاعته فمن تعدَّاه، فقد ارتكب ما نهاه الله عنه، وجلب الشر والندم لنفسه، فإنه لا يدري لعل الله يحدث في قلبه ما يغيّر حاله، ويجعله راغباً في زوجه، مريداً إبقاءها في بيته، فإذا تمهّل في أمر الطلاق، واتَّبع ما أرشده إليه الكتاب الكريم كان له سعة فيما يريد، وإلاَّ ندم، ولات ساعة مندم. وإذا شارفت المعتدة على نهاية عدتها فالخيار للزوج، والأمر إليه، إذا أراد أن يعيدها إلى منزله فعليه أن يعاملها برفق ولين، وإن أراد أن يفارقها فله ذلك مع توفية جميع حقوقها، وسواء اختار المفارقة أو الإمساك فعليه أن يُشهد على ذلك رجلين عدلين في دينهما، وخلقهما، واستقامتهما. وعلى الشهود أن يؤدوا الشهادة لوجه الله تعالى، ولا يكتموها، أمرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 من عند الله يتبعه المؤمن ويُخْبتُ له، ويعلم أن أمامه يوماً يسأل فيه عما قدّم وأخر. وتقوى الله - سبحانه - تجعل للعبد مخرجاً من المضايق مادية كانت أو معنوية، ويرزق الله - القدير - عبده التقي من حيث لا يؤمل، ولا يتوهم، ومن يرجع إلى الله في أموره، ويتوكل عليه حق التوكل، فالله كافيه همَّه، وميسّر عليه أمره، وأمرُ الله وحكمه في الخلائق نافذ لا محالة، يفعل ما يشاء ويختار، ولكن لكل أجل كتاب، ولكل أمر وقت محدد. وجوه القراءات مُبيِّنَة: قرأ الجمهور بالكسر، وقرأ ابن كثير وأبو بكر {مُبيَّنة} بالفتح. قوله تعالى: {أَجَلَهُنَّ} : قرأ الجمهور {أجلهن} على الإفراد. وقرأ الضحاك وابن سيرين {آجالهن} على الجمع. قوله تعالى: بالغٌ أمرَه: قرأ الجمهور بالتنوين {بالغٌ} . وروي عن حفص {بالغُ أمرِهِ} بالإضافة. وروي {بالغٌ أمرُهُ} . وروي {بالغاً أمرُه} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} هو على حذف مضاف أي لاستقبال عدتهم. واللام للتوقيت نحو كتبته لليلةٍ بقيت من شهر رجب. 2 - قوله تعالى: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} . نصب (لا تدري) على جملة الترجي، فلا تدري معلّقة عن العمل، والجملة المترجاة في موضع نصب بلا تدري. 3 - قوله تعالى: {بَالِغُ أَمْرِهِ} . من قرأ بالتنوين فعلى الأصل، لأن اسم الفاعل هاهنا بمعنى الاستقبال و (أمرَه) منصوب باسم الفاعل (بالغٌ) لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل. ومن قرأ بغير تنوين، حذف التنوين للتخفيف، وجرّ ما بعده بالإضافة. ومن قرأ (أمرُه) بالرفع على أنه فاعل ل (بالغ) التي هي خبر إنَّ. أو مبتدأ وبالغ خبر مقدم له، والجملة خبر إنَّ. ومن قرأ (بالغاً) على أنها حال من فاعل جعل لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه (وقد جعل) خبر (إنَّ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 سبب النزول أولاً: رُوي في «سنن» ابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلّق حفصة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ثم راجعها. وروى قتادة: عن أنس قال: طلّق رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفصة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقيل له راجعها فإنها قوَّامة صوَّامة، وهي من أزواجك في الجنة. وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حفصة لما أسرّ إليها حديثاً، فأظهرته لعائشة، فطلّقها تطليقة فنزلت الآية. ثانياً: وقال السّدي: نزلت في عبد الله بن عمر طلّق امرأته حائضاً تطليقة واحدة، فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، وتحيض، ثمّ تطهر، فإذا أراد أن يطلِّقَها، فليطلِّقْها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدَّةُ التي أمر الله تعالى أن يُطَلَّق لها النساء. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {ياأيها النبي} نداء للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وخطاب له على سبيل التكريم والتنبيه. ويحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوهاً: أحدها: اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطاب لهم إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به، إلا ما خص به دونهم. والثاني: أنّ تقديره: يا أيها النبي قل لأمتك {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء ... } . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 والثالث: خص النداء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إمام أمته، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه. وفيه إظهار لجلالة منصبه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما فيه، ولذلك اختير لفظ (النبي) لما فيه من الدلالة على علو مرتبته. والرابع: الخطاب كالنداء له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا انه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله: (ألا فارحموني يا إله محمد) . والخامس: إنه بعد ما خاطبه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريماً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا في الطلاق من الكراهة فلم يُخَاطبْ به تعظيماً. والسادس: حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم. قال القرطبي: إذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: {ياأيها النبي} فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال: (يا أيها الرسول) . اللطيفة الثانية: فإن قيل: ما السرّ في تسمية الطلاق ب (الطلاق البدعي) ، أو (الطلاق السني) ؟ فالجواب كما قال الإمام الرازي: إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضاً لم تعتد بأيام حيضها من عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء، فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء، وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلّقة التي لا هي معتدة، ولا ذات بعل، والعقولُ تستقبح الإضرار. ففي طلاقة إيَّاها في الحيض سوء نظر للمرأة، وفي الطلاق في الطُّهر الذي جامعها فيه، وقد حملت فيه سوء نظر للزوج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أُمنَ هذان الأمران، لأنها تعتدّ عقيب طلاقه إياها، على أمان من اشتمالها على ولد منه. اللطيفة الثالثة: قال الربيع بن خيثم: «إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكَّلَ عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجّاه، ومن دعاه أجاب له» . وتصديق ذلك في كتاب الله {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ} [التغابن: 17] {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . اللطيفة الرابعة: قال الله تعالى: {واتقوا الله رَبَّكُمْ} ولم يقل (واتقوا الله) . قال الفخر الرازي: فيه من المبالغة ما ليس في ذلك، فإن لفظ الرب ينبِّهُهم على التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذٍ خوفاً من فوت تلك التربية. اللطيفة الخامسة: قال الرازي: ثم في هذه الآية لطيفة، وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وقريب من هذا قوله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النور: 32] اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {وَأَحْصُواْ العدة} إحصاء العدة يكون لمعانٍ: أحدها: لما يريد من رجعة وإمساك، أو تسريح وفراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 والثاني: لكي يشهد على فراقها، ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليها كأختها، أو أربعٍ سواها. والثالث: لتوزيع الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً. اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، أي من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها. والمقصود التحريض على طلاق الواحدة، والنهيُ عن طلاق الثلاث، فإنه إذا طلَّق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق، والرغبةِ في الارتجاع، فلا يجد للرجعة سبيلاً. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل الطلاق مباح أو محظور؟ لقد أباح الله تعالى الطلاق بقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ من أبغض المباحات عند الله عَزَّ وَجَلَّ الطلاق» . وفي لفظ «ابغضُ الحلال إلى الله الطلاق» . قال الحنفية والحنابلة: الطلاق محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لعن الله كلَّ مِذْواق مِطْلاق» وإنما أبيح للحاجة، ويحمل لفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 المباح على ما أبيح في بعض الأوقات التي تتحقق فيه الحاجة المبيحة. وقد نقل عن ابن حجر أن الطلاق: أ - إمّا واجب كطلاق المُوْلي بعد التربص مدة أربعة أشهر وطلاقِ الحكمين في الشقاق بين الزوجين إذا لم يمكن الإصلاح. ب - أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها، أو تكون غير عفيفة. ج - أو حرام وهو الطلاق البدعي. د - أو مكروه بأن سَلِمَ الحالُ عن ذلك كله للحديث. الحكم الثاني: ما هو الطلاق السّني وما هي شروطه؟ روي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتغيظ، فقال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، وإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسّها، فتلك العدة التي أمر الله عَزَّ وَجَلَّ. ولهذا الحديث حصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه إذا لم يجامعها فيه. والجمهور: على أنه لو طلّق لغير العدة التي أمر الله وقع طلاقه وأثمَ، وذلك لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثلاثة جدهن جد وهزلهنّ جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» . واختلف الفقهاء فيما يدخل في طلاق السنة. فقال الحنفية: إن طلاق السنة من وجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 أحدهما: في الوقت وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع، أو حاملاً قد استبان جملها. والآخر: من جهة العدد وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة. وقال المالكية: طلاق السنة ما جمع شروطاً سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهراً، لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدَّمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وقال الشافعية: طلاق السنة أن يطلقها كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثاً في طهر لم يكن بدعة. وقال الحنابلة: طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه. فالاتفاق واقع على أن طلاق السنة في طهر لم يجامعها فيه، وأما من أضاف كونها حاملاً فلما ورد في حديث عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعمر: «مُرْه فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت، أو وهي حامل» . وأما العدد والخلاف فيه فبحثه عند قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] . وأما قول المالكية: «وهي ممن تحيض» فهذا شرط متفق عليه. قال الفخر الرازي: والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها، غير الآيسة، والحامل، إذ لا سنة في الصغيرة وغير المدخول بها، والآيسة، ولا بدعة أيضاً لعدم العدة بالأقراء. وقال أبو بكر الجصاص: والوقتُ مشروط لمن يطلق في العدة لأنَّ من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض. وأما بقية الشروط فمختلف فيها وتنظر في كتب الفروع. الحكم الثالث: هل للمعتدة أن تخرج من بيتها؟ دلّ قوله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ} على أنّ المطلقة لا تخرج من مسكن النكاح ما دامت في العدة، فلا يجوز لزوجها أن يُخرجها، ولا يجوز لها الخروج أيضاً إلاّ لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدّة، والرجعيةُ والمبتوتةُ في هذا سواء. واختلف الفقهاء في خروج المعتدة من بيتها لقضاء حوائجها على مذاهب: أ - قال مالك وأحمد: المعتدة تخرج في النهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل. ب - وقال الشافعي: لا تخرج الرجعيّة ليلاً ولا نهاراً وإنما تخرج المبتوتة في النهار. ج - وقال أبو حنيفة: المطلّقة لا تخرج ليلاً ولا نهاراً، والمتوفّى عنها زوجها لها أن تخرج في النهار. دليل المالكية والحنابلة: استدل مالك وأحمد بحديث (جابر من عبد الله) قال: «طُلّقت خالتي فأرادت أن تَجُدَ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» بلى فجُدّي نخلك، فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 دليل الشافعية: واستدل الشافعي بالآية الكريمة: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} بالنسبة للمطلقة رجعياً فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً. وامّا المبتوتة فاستدل بحديث (فاطمة بنت قيس) فقد ورد في صحيح مسلم أنَّ (فاطمة بنت قيس) قالت يا رسول الله: زوجي طلقني ثلاثاً وأخاف أن يُقْتحم عليّ قال: فأمرها فتحولت. وفي البخاري: عن عائشة أنَّ (فاطمة بنت قيس) كانت في مكانٍ وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لها. دليل الحنفية: واستدل أبو حنيفة بعموم قوله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ} فقد حرمت على المطلّقة أن تخرج ليلاً أو نهاراً، سواءً كانت رجعية أم مبتوتة، وأما المتوفى عنها زوجها فتحتاج للخروج نهاراً لقضاء حوائجها ولا تخرج ليلاً لعدم الضرورة. قال الحنفية: ليس لها أن تخرج لأن السكنى حق للشرع مؤكد لا يسقط بالإذن حتى لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج، ويلزمها أن تكتري بيته، وأما أن يحل لها الخروج فلا. قال الشافعية: إنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن. وقد قال الفخر الرازي: «فلم يكن لها الخروج، وإن رضي الزوج، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 ولا إخراجها وإن رضيت إلا عن ضرورة» . الحكم الرابع: ما هي الفاحشة التي تخرج بها المعتدة من المنزل؟ لقد اختلف السلف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ} وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء. فقال أبو حنيفة: بقول ابن عمر: خُروجُها قبل انقضاء العدة فاحشةٌ. فيكون معنى الآية إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق. والاستثناء عليه راجع إلى {لاَ يَخْرُجْنَ} والمعنى: «لا يُسمع لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يُسمع لهن فيه فيكون ذلك منعاً عن الخروج على أبلغ وجه. قال ابن الهمام: كما يقال:» لا تزن إلاَّ أن تكون فاسقاً، ولا تشتم أُمَّك إلا أن تكون قاطع رحم، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جداً «. وقال أبو يوسف بقول الحسن وزيد بن أسلم: هو أن تزني فتخرج للحد (أي لا تُخْرجوهنَّ إلا إن زنين) . وعن ابن عباس قال: إلا أن تبذو على أهله، فإذا فعلت ذلك حلَّ لهم أن يُخْرجوها، كما ورد عن فاطمة بنت قيس أنها أخرجت لذلك. وعنه أيضاً قال: جميع المعاصي من سرقة أو قذف أو زنا أو غير ذلك واختاره الطبري. وقال الضحاك: الفاحشة المبينة: عصيانُ الزوج. وقال قتادة: إلا أن تَنْشزَ فإذا فعلت حلَّ إخراجها. قال أبو بكر الجصاص: هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون جميعها مراداً، فيكون خروجها فاحشة، وإذا زنت أخرجت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 للحد، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضاً. فأما عصيان الزوج والنشوز، فإن كان في البذاءة وسوء الخلق اللذين يتعذر القيام معها فيه فجائز أن يكون مراداً، وإن كان إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها» . وأما ابن العربي فقال: أما من قال إنه الخروج للزنى، فلا وجه له لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من قال إنه البذاء فهو مفسر في حديث فاطمة بنت عيس، وأما من قال إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام: «لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعاً إلى أن يخرجن تعدياً» . الحكم الخامس: ما حكم الإشهاد في الفرقة والرجعة؟ قال أبو حنيفة: الإشهاد مندوب إليه في الفرقة والرجعة لقوله تعالى: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] فإنَّ الإشهاد في البيع مندوب لا واجب فكذا هنا وهو قول مالك والشافعي وأحمد في أحد قوليهما. وقال الشافعي وأحمد: في القول الآخر: الإشهاد واجب في الرَّجعة، مندوب إليه في الفرقة. أدلة الجمهور: 1 - لما جعل الله تعالى للزوج الإمساك أو الفراق، ثم عقَّبه بذكر الإشهاد، كان معلوماً وقوع الرجعة إذا رجع، وجوازُ الإشهاد بعد ذلك؛ إذ لم يجعل الإشهاد شرطاً في الرجعة. 2 - لم يختلف الفقهاء في أن المراد بالفراق المذكور في الآية إنما هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 تَرْكُها حتى تنقضي عدتها، وأن الفرقة تصح، وإن لم يقع الإشهاد عليها، وقد ذُكر الإشهاد عقيب الفرقة، ثمَّ لم يكن شرطاً في صحتها فكذلك الرجعة. 3 - وأيضاً لما كانت الفرقة حقاً للزوج، وجازت بغير الإشهاد، إذ لا يحتاج فيها إلى رضا غيره، وكانت الرجعة أيضاً حقاً له وجب أن تجوز بغير إشهاد. 4 - وأيضاً لما أمر الله بالإشهاد على الإمساك، أو الفرقة احتياطاً لهما، ونفياً للتهمة عنهما، إذا علم الطلاق ولم يعلم الرجعة، أو لم يعلم الطلاق والفراق، فلا يؤمن التجاحد بينهما، ولم يكن معنى الاحتياط مقصوراً على الإشهاد في حال الرجعة أو الفرقة، بل يكون الاحتياط باقياً وإن أشهد بعدهما وجب أن لا يختلف حكمهما إذا أشهد بعد الرجعة بساعة أو ساعتين. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: الطلاق السني هو الطلاق الذي يكون في طهر لم تجامع فيه المرأة. ثانياً: الطلاق البدعي ما كان في الطهر الذي جومعت فيه المرأة، أو في وقت الحيض. ثالثاً: السكنى واجبة للمطلَّقة على زوجها قبل انتهاء عدتها فقد عصت الله وأثمت. رابعاً: إذا خرجت المرأة من بيت زوجها قبل انتهاء عدتها فقد عصت الله وأثمت. خامساً: حدود الله تعالى يجب التزامها وعدم تعديلها لأنها شريعة الله. سادساً: إقامة الشهادة حق لله تعالى على عباده لدفع الظلم عن الخلائق. سابعاً: التوكل على الله والالتجاء إليه، ملاك الأمر كله، وراحة النفس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 خاتمة البحث: حكمة التشريع الأسرة لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي، وبها قوامه، ففيها تلتقي النفوس على المودة والرحمة، والتعاطف والستر، وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة، ومنه تمتد وشائج الرحمة، وأواصر التكافل. ولكنّ الحياة الواقعية والطبيعة البشرية تُثْبت بين الفينة والأخرى، أنَّ هناك حالاتٍ لا يمكن معها استمرار الحياة الزوجية، لذلك شرع الله الطلاق كآخر حل من حلول تتقدمه، إن لم تُجْدِ كل المحاولات، وأباح للرجل أن يركن إلى أبغض الحلال وهو الطلاق. ولكن ليس من السُّنة أن يُطلِّق الرجل في كل وقت يريد، فليس له أن يطلقها وهو راغب عنها في الحيض، وفي ذلك دعوة له ليتمهل ولا يسرع ليفصل عرى الزوجية، ويتفكر في محاسن زوجه لعلَّها تغلب سيئاتها، فتتغير القلوب، وتعود إلى صفائها بعد موجة من الغضب اعترتها، وسحابة غشيتْ المودة التي يُكنُّها الزوج لزوجه. والطلاق يقع حيثما طلق في الوقت الذي بيَّنه الشرع أو في غيره، لأن فكَّ الزوجية، وهدم اللبنة الأولى للمجتمع ليس لعباً تلوكه الألسنة في كل وقت، وعند أدنى بادرة، بل هو الجد كل الجد فمن نطق به لزمته نتائجه وعصى الله - جلَّت حكمته - لأنه لم يقف عند حدوده، ويتبع تعاليمه. وأمر الله - العليم الخبير - بإحصاء العدة لضبط انتهائها، ومعرفة أمدها بدقة لعدم إطالة الأمد على المطلَّقة، والإضرار بها، ولكيلا تنقص من مدتها مما لا يؤدي إلى المراد منها وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 [2] أحكام العدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 التحليل اللفظي {يَئِسْنَ} : اليأس: القنوط، وقيل: اليأس نقيض الرجاء. {المحيض} : أي الحيض، يقال حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً، والمحيض يكون اسماً ويكون مصدراً، والحيض والمحيض: اجتماع الدم في الرحم ومنه الحوض لاجتماع الماء فيه. {ارتبتم} : أي أشكل عليكم من الريبة أي الشك، وقيل تردَّدتم أو جهلتم، وقيل: تيقنتم فهو من الأضداد. {يُكَفِّرْ} : أي يستر ويمحو الخطيئة، وأصل الكَفْر: تغطية الشيء تغطيةً تستهلكه. {وُجْدِكُمْ} : الوُجُد: المقدرة والغنى واليسار والسعة والطاقة، والمقصود من سعتكم وما ملكتم، وعلى قدر طاقتكم، وقيل من مساكنكم. والوَجْد: يستعمل في الحزن والغضب والحب، يقال: وجدت في المال أي صرت ذا مال، ووجدت على الرجل وجداً وموجدة، ووجدت الضالة وُجْداناً، والوُجد بالضم الغنى والقدرة يقال افتقر الرجل بعد وُجدٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 {وَأْتَمِرُواْ} : افْتعَلُوا - من الأمر - يقال ائتمر القوم وتأمَّروا إذا أمر بعضهم بعضاً. وقال الكسائي: وائْتَمروا أي تشاوروا ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] . وقول أمرئ القيس: أحارُ بنَ عمرو فؤادي خَمِرْ ... ويعدو علي المرء ما يأتمر وحقيقته ليأمر بعضكم بعضاً بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن معاكسة ولا معاسرة. {تَعَاسَرْتُمْ} : أي تضايقتم، وتشاكستم، ولم يتفق الرجل والمرأة بالمشاحة من الرجل، أو طلب الزيادة من المرأة. {ذُو سَعَةٍ} : السعة نقيض الضيق، والوُسع، والوَسع، والسعة: الجدة والطاقة، وأصل السعة وُسْعة فحذفت الواو ونقصت. المعنى الإجمالي بيّن الله سبحانه وتعالى عدة المرأة المطلّقة في سورة البقرة في قوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] فربط العدة بالحيض، وأما المرأة التي لا تحيض لكبر سنها، أو لصغرها أو لحملها، فقد جاءت هذه الآيات لتقول للمؤمنين: إذا جهلتم عدة التي يئست من المحيض وأشكل عليكم أمرها فعدتها ثلاثة أشهر، وكذلك عدة التي طلقت ولم تر الحيض ثلاثة أشهر، وأما الحامل فتنتهي بولادتها عدتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 ومن يخشى الله في ما يفعل، أو يذر، ييسر الله له أمره، ويوفقه إلى الخير، وتلك الأحكام التي مرت في الطلاق، والعدة فرض الله، وحكمه، فرضه على الناس، ومن يتق الله بالتزام ما شرعه، والبعد عما نهى عنه يمح الله سيئاته، ويعطه في الآخرة أجراً عظيماً، وثواباً كبيراً. وعلى الرجل أن يسكن مطلقته في داره التي يسكنها على قدر طاقته، ووسعه، وليس له أن يضيق عليها، ويضارها في النفقة والسكنى ليلجئها إلى الخروج من داره. وإذا كانت المرأة حاملاً فعليه أن ينفق عليها ولو طالت مدة الحمل بعد الطلاق حتى تضع حملها، فإذا ولدت، ورضيت أن ترضع ابنها، فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، وليأمر كل منهما الآخر بالمعروف في أمر الرضاع، وأجره، والحضانة ووقتها، فإن عسر الاتفاق بين الأم والأب، ولم يتوصلا إلى أمر وسط يرضيهما، فللأب حينئذٍ أن يفتش لابنه عمن يرضعه غير أمه. هذا، والإنفاق على المعتدة بحسب طاقة الرجل، فإن كان غنياً فليعطها ما يلائم غناه، وإن كان فقيراً، ضيِّقَ العيش، فليس عليه أن يدفع إلا بقدر ما يستطيع فإن الله - جلت حكمته - لم يكلف الإنسان إلا بقدر ما أعطاه من الرزق، وليعلم أن حال الدنيا لا يبقى على حال، فإن الله سيجعل بعد عسر يسراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 سبب النزول 1 - أخرج الحاكم وصححه وابن جرير الطبري والبيهقي في سننه وجماعة: أنها لما نزلت عدة المطلَّقة، والمتوفَّى عنها زوجُها في البقرة قال أُبيُّ بن كعب: يا رسول الله إنَّّ نساءً من أهل المدينة يقلن: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء قال: وما هو؟ قال: الصغار، والكبار، وذوات الحمل. فنزلت هذه الآية {واللائي يَئِسْنَ ... } الآيات. 2 - وروى الواحدي والبغوي والخازن: أنه لما نزل قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ... } [البقرة: 228] الآية، قال خلاد بن النعمان الأنصاري: يا رسول الله، فما عدة التي لا تحيض، وعدة التي لم تحض، وعدة الحبلى؟ فنزلت هذه الآية: {واللائي يَئِسْنَ ... } . وجوه القراءات 1 - قوله تعالى: {يَئِسْنَ} : قرا الجمهور {يئسن} فعلاً ماضياً. وقرئ {ييئسن} بياءين مضارعاً. 2 - قوله تعالى: {حَمْلَهُنَّ} : قرأ الجمهور {حملهن} مفرداً. وقرأ الضحاك {أحمالهن} جمعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 3 - قوله تعالى: {وَيُعْظِمْ} : قرأ الجمهور {يُعْظم} بالياء مضارع أعظم. وقرأ الأعمش {نعظم} بالنون خروجاً من الغيبة للتكلم. وقرأ ابن مقسم {يُعَظّم} بالياء والتشديد مضارع {عَظّم} مشدداً. 4 - قوله تعالى: {مِّن وُجْدِكُمْ} : قرأ الجمهور {من وُجدكم} بضم الواو. وقرأ الحسن وغيره {من وَجدكم} بفتحها. وقرأ يعقوب وغيره {من وِجدكم} بكسرها. وهي لغات ثلاث بمعنى الوسع. 5 - قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ} : قرأ الجمهور {لينفق} بلام الأمر. وحكى أبو معاذ قراءة {لينفقَ} بلام كي ونصب القاف، ويتعلق بمحذوف تقديره «شرعنا ذلك لينفقَ» . 6 - قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} : قرأ الجمهور {قُدِرَ} مخففاً. وقرأ ابن أبي عبلة {قَدّر} مشدد الدال. وقرأ أبي بن كعب {قُدّر} بضم القاف وتشديد الدال. وجوه الإعراب 1 - {واللائي يَئِسْنَ} مبتدأ، خبره جملة فعتدتهن. 2 - {إِنِ ارتبتم} شرط جوابه محذوف، تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، والشرط وجوابه جملة معترضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 وجوز كون (فعدتهن) إلخ جواب الشرط باعتبار الإعلام والإخبار كما قوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] والجملة الشرطية خبر من غير حذف وتقدير. 3 - قوله تعالى: {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} : قال الأنباري: تقديره واللائي يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، إلا أنه حذف خبر الثاني لدلالة خبر الأول عليه كقولك زيد أبوه منطلق وعمرو، أي وعمرو أبوه منطلق، وهذا كثير في كلامهم. قال أبو حيان: والأولى أن يقدر «مثل أولئك» أو «كذلك» فيكون المقدر مفرداً. وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق، وجعل الخبر لهما من غير تقدير. والجملة معطوفة على ما قبلها فإعرابه مبتدأ كإعراب {واللائي يَئِسْنَ} . 4 - قوله تعالى: {وأولات الأحمال} مبتدأ. وأجلهن: مبتدأ ثان. وأن يضعن حملهن: خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ وخبره خبر عن المبتدأ الأول. ويجوز أن يكون (أجلهن) بدلاً من (أولات) بدل الاشتمال وجملة (أن يضعن) الخبر والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 لطائف التفسير اللطيفة الأولى: قال أبو حيان: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وأحكامهن، من العدة وغيرها، وكنَّ لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهنَّ وكراهة، جاء عقيب بعض الجمل (الأمرُ بالتقوى) حيث المعنى مبرزاً في صورة شرط وجزاء في قوله {وَمَن يَتَّقِ الله ... } إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها، وينفِّر الخُطَّاب عنها، ويوهم أنه فارقها لأمر ظهر له منها، فلذلك تكرَّر قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله} في العمل بما أنزله من هذه الأحكام، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار، والنفقة على المعتدات ... وغير ذلك مما يلزمه يرتب له تكفير السيئات، وإعظام الأجر. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد المشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الفضل، وإفرادُ الكاف مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى: {أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين. اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده استئناف، وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى في قوله: {وَمَن يَتَّقِ الله} . كأنه قيل: كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟! فقيل: اسكنوهن مسكناً من حيث سكنتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 اللطيف الرابعة: إذا كانت كل مطلقة يجب لها النفقة فما فائدة الشرط في قوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ} ؟! نقول: فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها بعد الطلاق، فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار من مدة الحمل، فنقي ذلك الظن بإثبات النفقة للحامل حتى تلد. اللطيفة الخامسة: في قوله تعالى: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} يسير معاتبة للأم إذا تعاسرت كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى «سيقضيها غيرك وأنت ملوم» . قال اين المنبر: «وخص الأم بالمعاتبة لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو جهة الأب، فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذن أجدر باللوم، وأحق بالعتب، والمعنى ليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء» . الأحكام الشرعية الحكم الأول: ما هي عدة المرأة التي لا تحيض؟ المرأة غير الحائض تشمل من بلغت سن اليأس، والصغيرة التي لم تر الحيض بعد، أما من يئست من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر بلا خلاف، وكذا الصغيرة التي لم تحض. واختلف في تقدير سن اليأس على أقوال عديدة: فقدره بعض الفقهاء بستين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وقدَّره بعضهم بخمس وخمسين سنة. وقيل: غالب سن يأس عشيرة المرأة. وقيل: أقصى عادة امرأة في العالم. وقيل: غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه، فإن المكان إذا كان طيَّب الهواء والماء، يبطئ فيه سن اليأس. وأما المرأة إذا كانت تحيض ثم لم تر الحيض في عدتها ولم يُدْر سببه: فقال الحنفية والشافعية: إن عدتها الحيض حتى تدخل في السن التي لا تحيض أهلها من النساء فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر. ونقل عن علي وعثمان، وزيد بن ثابت، وابن مسعود. وقال مالك وأحمد: تنتظر تسعة أشهر لتعلم براءة رحمها لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم، ثم تعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر. ونقل عن عمر أنه قضى ذلك. الحكم الثاني: ما المراد من قوله تعالى: {إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ} ؟ قال الجصاص: غير جائز أن يكون المراد به الارتياب في الإياس؛ لأنَّا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدَّتُها ثلاثة أشهر. واختلف أهل العلم في (الريبة) المذكورة في الآية على أقوال: اختار الطبري: أن يكون المعنى «إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن؟ فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر» وهو قول الجصاص فقد قال: «وذكُر الارتياب في الآية إنما هو على وجه ذكر السبب الذي نُزل عليه الحكم فكان بمعنى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ... » ونقل هذا عن مجاهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة. وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لم يستقيم لها الحيض، تحيض في أول الشهر مراراً وفي الأشهر مرة. وقيل: إنه متصل بأول السورة والمعنى «لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة» . قال القرطبي: وهو أصح ما قيل فيه. وقال الزجاج: المعنى إن ارتبتم في حيضهن، وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن. وقيل: إن ارتبتم أي تيقنتم وهو من الأضداد. الحكم الثالث: ما هي عدة الحامل؟ نصت الآية على أن الحامل تنتهي عدتها بولادتها، ودل قوله تعالى في سورة البقرة: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] على أن عدةاملتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، فإذا كانت المتوفى عنها زوجها حاملاً فبأي الأجليت تأخذ؟ ولم يختلف السلف والخلف أن عدة المطلقة الحامل أن تضع حملها، واختلفوا في المتوفى عنها زوجها. قال الجمهور: عدة المتوفى عنها زوجها الحامل أن تضع حملها. وقال علي وابن عباس: {وأولات الأحمال} في المطَّلقات، وأما المتوفى عنها فعدتها أبعد الأجلين، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها. حجة الجمهور: استدل الجمهور بحديث سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت (سعد بن خوله) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 وهو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تَعلَّت من نفاسها تجمَّلت للخُطَّاب، فدخل عليها رجل من بني عبد الدار فقال لها: مالي أراك متجملة، لعلك ترتجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليك أربعة أشهر وعشراً. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي. وعن ابن مسعود أنه بلغه أن علياً يقول: تعتد آخر الأجلين فقال: ما شاء لاعنته، ما نزلت: {وأولات الأحمال} إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها. قال أبو بكر الجصاص: أفاد قول ابن مسعود أن الآية مكتفية بنفسها في إفادة الحكم على عمومها، غير مضمنة بما قبلها من ذكر المطلّقة فوجب اعتبار الحمل في الجميع، من المطلقات، والمتوفَّى عنهن أزواجهن «. الحكم الرابع: هل للمطلقة ثلاثاً سكنى ونفقة؟ لا خلاف بين العلماء في إسكان المطلقات الرجعيات، واختلفوا في المطلقة ثلاثاً على أقوال: ذهب مالك والشافعي: ورواية عن أحمد إلى أن لها السكنى ولا نفقة لها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة ما دامت في العدة. وذهب أحمد وغيره إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 دليل المذهب الأول: قوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وذلك أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكن مطلَّقة، فلما ذكر النفقة قيَّدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. دليل المذهب الثاني: 1 - قوله تعالى: {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} وترك النفقة من أكبر الإضرار وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا. 2 - ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية. 3 - ولأنها محبوسة عليه لحقِّه فاستحقَّ النفقة كالزوجة. 4 - أن السكنى لا كانت حقاً في مال، وقد أوجبها الله لها بنص الكتاب إذ كانت الآية قد تناولت المبتوتة والرجعية، فقد اقتضى ذلك وجوب النفقة إذا كانت السكنى حقاً في مال وهي بعض النفقة. دليل المذهب الثالث: 1 - حديث فاطمة بنت قيس: أنه طلَّقها زوجها في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن كان لي نفقة أُخذت الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئاً. قالت: فذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «لا نفقة لك ولا سكنى» . وفي رواية «إنما السكنى والنفقة على من له عليها رجعة» . 2 - إن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 وللعلماء في مناقشة الأدلة كلام طويل ينظر في كتب الفروع. الحكم الخامس: على من يجب الرضاع؟ قال المالكية: رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية إلا لشرف الزوجة وموضعها فعلى الأب رضاعة يومئذٍ في ماله، فإن طلقها فلا يلزمها رضاعة إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها رضاعه. وقال الحنفية: لا يجب الرضاع على الأم بحال. وقيل: يجب الرضاع على الأم في كل حال. ما ترشد إليه الآيات الكريمة أولاً: المرأة اليائسة من الحيض، والصغيرة التي لم تحض، إذا طلقتا فعدتهما ثلاثة أشهر. ثانياً: المرأة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل. ثالثاً: تقوى الله تعالى تيسّر أمور المؤمن في الدنيا، وتكفّر السيئات، وتعظم الأجر في الآخرة. رابعاً: المرأة المعتدة تسكن في منزل زوجها حتى تنقضي عدتها. خامساً: على الرجل أن لا يضيّق على المعتدة في النفقة أو السكنى ليجبرها على الخروج من منزله. سادساً: نفقة الحامل تستمر حتى تضع الحمل، وإن طالت المدة. سابعاً: للمرأة الحق الكامل في أن تأخذ أجرة على إرضاع ولدها من الرجل. ثامناً: الإنفاق يكون بحسب مال الرجل غنىً وفقراً. تاسعاً: التكليف منوط بالقدرة التي مكّن الله بها عبده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 حكمة التشريع الزواج هو الأساس في بناء المجتمع الإسلامي، والطلاق هو السبيل لقطع علاقات الزوجين بعضهما من بعض، ولكنَّ للزوجية آثاراً قد يتأخر ظهورها وقتاً، فجعل الله جلّ ثناؤه العدة تمكث المرأة فيها مدة من الزمن ينفق عليها مطلقها، ويسكنها في بيته، ليكون في أمان واطمئنان، وهي تحت نظره، إن ظهر حملها، فالولد ولده، وإن لم يظهر الحمل في مدة العدة، فلم يعد بين الرجل وزوجه أية علاقة تربطهما، هو بالنسبة إليها كسائر الرجال، وهي بالنسبة إليه كسائر النساء، لا تستطيع أن تطالبه بنسب، ولا نفقة، ولا غير ذلك. وبهذا لم يظلم الإسلام المرأة حيث فرض لها النفقة، والسكنى ما دامت محبوسة لصالح الرجل، وأمن الرجل من جهة زوجه حيث كمثت مدة يتبين معها شغل رحمها أو فراغه. وأما الحوامل فقد جعل الله تعالى عدتهن الوضع طال أمد الحمل بعد الطلاق أم قصر، وذلك لأن براءة الرحم بعد الوضع مؤكدة، فلا حاجة إلى الانتظار. وأمر الله عَزَّ وَجَلَّ الرجال أن يسكنوا النساء مما يجدون هم من سكن، وما يستطيعونه حسب مقدرتهم وغناهم، لا أقل مما هم عليه في سكناهم، ونهاهم أن يعمدوا إلى الإضرار بهن بالتضييق عليهن في فسحة المسكن، أو في المعاملة أثناء إقامتهن. وخصت ذوات الأحمال بذكر النفقة مع وجوب النفقة لكل معتدة، لتوهم أن طول مدة الحمل يحدد زمن الإنفاق ببعضه دون بقيته، أو بزيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 المدة إذا قصرت مدة الحمل، فأوجب النفقة حتى الوضع، وهو موعد انتهاء العدة لزيادة الإيضاح التشريعي. وأما الرضاع، فلم يجعله الله سبحانه واجباً على الأم دون مقابل، وما دامت ترضع الطفل المشترك بينهما، فمن حقها أن تنال أجراً على رضاعة تستعين به على حياتها، وعلى إدرار اللبن للطفل، وهذا منتهى المراعاة للأم في هذه الشريعة. وفي الوقت ذاته أمر الأب والأم أن يأتمرا بينهما بالمعروف في شأن هذا الوليد، ويتشاورا في أمره، ورائدهما مصلحته - وهو أمانة بينهما - فلا يكون فشلهما هما في حياتهما نكبة على الصغير البريء. والأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر، فأولى لهما أن يعقدا به الأمر كله، ويتجها إليه، ويراقباه في كل أمرهما، وهو المانح المانع، القابض الباسط. والزوجان يتفارقان - في ظل هذه التوجيهات القرآنية - وفي قلب كل منهما بذور للود لم تمت، وربما جاءها ما ينعشها في يوم من الأيام، إلى أدب رفيع يريد الإسلام أن يصبغ به حياة الجماعة المسلمة ويشيع فيها أرجه وشذاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 سورة المزمل [1] تلاوة القرآن التحليل اللفظي {المزمل} : قال اللغويّون: «المزّمل» الملتف في ثيابه، وأصله (المتزمّل) فأدغمت التاء في الزّاي فثقّلت، وكل من التفّ بثوبه فقد تزمّل قال امرؤ القيس: كأنّ أبانا في أفَانينِ وَدْقِهِ ... كبيرُ أُناسٍ في بجَادٍ مزمّل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 وقال ذو الرمّة: ومن نائمٍ عن ليلها متزمّل. {وَرَتِّلِ القرآن} : قال الزجّاج: رتّل القرآن ترتيلاً: بيّنه تبيناً، والتبيين لا يتم إلاّ بإظهار جميع الحروف، وتوفيتها حقها من الإشباع. وقال المبرّد: أصله من قولهم: ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، وقال الليث: الترتيل تنسيق الشيء، وثغر رتل: حسن التنضيد. ومعنى الآية: اقرأ القرآن على تُؤدة، وتمهّل، وتبيين حروف، مع تدبر المعاني. {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل} : أوقات الليل وساعاته، سميت بذلك لأنها تنشأ شيئاً بعد شيء، يقال: نشأ السحاب إذا ابتدأ، فناشئة (فاعلة) من نشأت تنشأ فهي ناشئة، والمراد ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف ع الاسم. وقال الزمخشري: ناشئة الليل: النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض، وأنشد ابن السكيت: فلمّا أن تَنَشّأ قام خِرْق ... من الفتيان مختَلَق هضوم {أَشَدُّ وَطْأً} : أي أثقلُ على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت علينا وطأةُ السلطان، إذا ثقل عليهم ما حمَّلهم من المؤن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 وفي الحديث: «اللهمّ اشدُدْ وطأتك على مُضَر» فالليل وقت النوم والراحة، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. والمعنى: إن قيام الليل للعبادة، وقضاء ساعاته في الطاعة، أشدّ ثقلاً على النفس، وأرجى عند الله وأقوم. {وَأَقْوَمُ قِيلاً} : أي أشدّ استقامة واستمراراً، وأكثر استقامة على نهج الحق والصواب، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات فتخلص فيه القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل. {سَبْحَاً} : قال المبرّد: سبحاً أي تقلباً وتصرفاً في المهمّات كما يتردّد السابح في الماء قال الشاعر: أباحوا لكم شرقَ البلاد وغربَها ... ففيها لكم يا صَاحِ سبْحٌ من السّبْح قال في «اللسان» : السّبْح: الفراغ وفي التنزيل {سَبْحَاً طَوِيلاً} إنما يعني به فراغاً طويلاً وتصرفاً، وقيل: معناه: لك في النهار ما تقضي حوائجك. وقال الزجاج: إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة، فلك في النهار فراغ فاصرفه إليه. وقال ابن عباس: لك في النهار فراغ لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} : التبتّل الانقطاع إلى العبادة، ومنه قيل لمريم عليها السلام (البتول) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة، وأصل البتل: القطع، ويقال للراهب (متبتّل) لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة قال امرؤ القيس: تضيءُ الظّلامَ بالعشَاء كأنها ... مَنَارة مُمْسى راهبٍ متبتّل {هَجْراً جَمِيلاً} : أي لا تتعرض لهم، وجانبهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم. المعنى الإجمالي يقول الله تعالى ما معناه مخاطباً نبيّه الكريم: يا أيها المتزمّل المتلفّف في ثيابه، قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، قم للجهد والنصب، والكدّ والتعب، فقد مضى وقت الراحة، قم فشمّر عن ساعد الجد، وأحي الليل كلّه أو نصفه أو أقل قليلاً، بالصلاة والتضرع، والعبادة والتخشع، لتستعد لنفحاتنا القدسيّة، لأننا سنوحي إليك بهذا القرآن العظيم، الثقيل في الوزن العظيم في الأجر، الرصين في الجزالة والتعبير، فاقرأه بتدبر وتبصر في قيامك بالليل، ورتّله على مهل بخشوع وإنابة فإن قيام الليل بالصلاة، وقضاء ساعاته في الطاعة، أشدّ ثقلاً على النفس، وأرجى للقبول عند الله. ولك يا محمد في النهار تقلباً طويلاً من مهامّك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، واذكر اسم ربك لتستمدّ قوّتك منه، وانقطع لعبادته ولا تتوجّه لأحد سواه، فهو الناصر والمعين، وهو رب العزّة، ذو الجلال والإكرام الذي لا يخيب من التجأ إليه، فاجعله وكيلاً لك في جميع الأمور. واصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، وعن صدودهم وإعراضهم عن دعوتك، ولا تتعرضّ لهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم، واهجرهم بالحسنى حتى يجعل الله لك من أمرك فرجاً ومخرجاً، بالنصر عليهم ونصر الله قريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 وجوه القراءات 1 - قرأ الجمهور {يا أيها المزَّمّل} بتشديد الزاي والميم، وقرأ أبَيّ بن كعب وأبو العالية {المتزمّل} بإظهار التاء على الأصل. 2 - قرأ الجمهور {هي أشدّ وَطْاً} وقرأ ابن عامر وأبو عمرو {وِطاءً} بكسر الواو مع المدّ وقرأ ابن محيصن {أشدّ وَطَاءً} بفتح الواو، والطاء، وبالمدّ. وجوه الإعراب 1 - قوله تعالى: {ياأيها المزمل قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} . (المزمّلُ) صفة ل (أيّ) قال ابن مالك: وأيّها مصحوبَ (أل) بعدُ صفة. و (نصفَه) بدل من الليل، بدل بعضٍ من كلّ. قال الزمخشري: (نصفَه) بدل من الليل، و (إلاّ قليلاً) استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل، والضمير في (منه) يعود للنصف. 2 - قوله تعالى: (أشدّ وطأ) لفظ (أشدّ) خبر المبتدأ، و (وطأ) تمييز، وجملة (هي أشدُّ وطأً) خبر (إنَّ) . 3 - قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} تبتّلْ: أمر و (تبتيلاً) مفعول مطلق وهو غير جارٍ على فعله، والأصل فيه أن يُقال (تبتّلاً) ولأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 وزن (تفعيل) إنما تجيء في مصدر (فعَّل) كقولهم: رتَل ترتيلاً، وأما وزن (تفعّل) فيأتي المصدر (تفعّلا) إلا أنهم قد يُجرون المصدر على غير فعله كقول الشاعر: وخير الأمر ما استقبلتَ منه ... وليس بأن تتّبعَه اتّباعاً فأجرى اتباعاً مصدراً على (تتبّع) والقياس (تتبّعاً) والشواهد على هذه كثيرة. لطائف التفسير اللطيفة الأولى: الحكمة في ندائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بوصف التزمل هو إرادة (الملاطفة والإيناس) على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم من اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلي كرّم الله وجهه، لمّا غاضب فاطمة وذهب إلى المسجد فنام فيه - وكان قد لصق بجنبه التراب -: قم أبا تراب، قم أبا تراب، للمؤانسة والملاطفة. اللطيفة الثانية: سبب التزمل ما روي في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «جاورتُ بحراء فلمّا قضيتُ جواري هبطت فنوديت، فنظرتُ عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرتُ خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجُثثْتُ (فزعت) منه رعباً فرجعت فقلت: زمّلوني زمّلوني، فأنزل الله {ياأيها المدثر} [المدثر: 1] و {ياأيها المزمل} » . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 فسببُ التزمل هو ما عراه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الرعب والفزع من رؤية الملك على صورته الملكيّة. اللطيفة الثالثة: ذكر الله تعالى في كتابه العزيز ثلاثة أشياء وصفها ب (الجميل) وأمر بها نبيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهي: قوله تعالى: {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج: 5] ... {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} ... {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85] . فالصبرُ الجميل الصبرُ الذي لا شكوى معه. والهجرُ الجميل الهجرُ الذي لا أذيّة معه. والصفح الجميل الصفحُ الذي لا عتاب معه. اللطيفة الرابعة: «في الصحيح أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فقالت له السيّدة عائشة: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ {فقال لها عليه السلام: أفلا أكونُ عبداً شكوراً» } ! فصلوات ربي وسلامه على نبيّه المصطفى وحبيبه المجتبى. الأحكام الشرعية الحكم الأول: هل قيام الليل كان فريضة على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ ظاهر قوله تعالى: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} أن التهجد كان فريضة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنّ فرضيته كانت خاصة به، وممّا يدل عليه قوله تعالى في سورة الإسراء [79] {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} فإنّ قوله: {نَافِلَةً لَّكَ} بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه، فإنه على هذا الوجه لا يكون خاصاً به عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، بل معنى كونه التهجد نافلة له أنه شيء زائد على ما هو مفروض على سائر الأمة. وقد كان المؤمنون يصلون مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى ورمت أقدامهم وسوقهم من القيام، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ ... } [المزمل: 20] إلى قوله: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] الآية. قال ابن عباس: وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة. وقال جماعة من المفسّرين: ليس في القرآن سورة نسخَ آخرُها أوّلَها سوى هذه الآية. الحكم الثاني: هل تجوز قراءة القرآن بالتلحين؟ أمر الله جلّ ثناؤه بترتيل القرآن {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} أي اقرأه على تؤده وتمهل وتبين حروف، بحيث يتمكن السامع من استيعابه وتدبر معانيه. ولا خلاف بين العلماء أن قراءة القرآن بالترتيل بمعنى التجويد، وهو تبيين الحروف، وتحسين المخارج، وإظهار المقاطع حسن مطلوب، إنما الكلام في التغنّي به وتلحينه هل هو جائز أم ممنوع؟ وقد اختلفت فيه آراء الأئمة الفقهاء، تبعاً لاختلاف الصحابة والتابعين، ونحن نذكر مذاهبهم مع أدلة كلّ فريق بشيء من التفصيل، فنقول ومن الله نستمدّ العون: مذاهب الفقهاء في القراءة بالتلحين: أولاً: مذهب (المالكية والحنابلة) : كراهة القراءة بالتلحين، وهو منقول عن (أنس بن مالك) و (سعيد بن المسيّب) و (سعيد بن جبير) و (القاسم بن محمد) و (الحسن البصري) و (إبراهيم النخعي) و (ابن سيرين) . ثانياً: مذهب (الحنفيّة والشافعية) : جواز القراءة بالتلحين، وهو منقول عن: (عمر بن الخطاب) و (ابن عباس) و (ابن مسعود) و (عبد الرحمن بن الأسود بن زيد) وقد ذهب إليه من المفسرين (أبو جعفر الطبري) و (أبو بكر بن العربي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 أدلة المذهب الأول: أ - حديث: «أقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم، وإيّاكم ولحونَ أهل الكتاب والفسق، فإنه يجيءُ من بعدي أقوام يرجّعُون بالقرآن ترجّع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهُمْ، مفتونةٌ قلوبُهم وقلوبُ الذين يعجبهم شأنُهم» . فقد نعى عليه السلام على من يرجّع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح على نحو ما يفعله أكثر قرّاء هذا العصر. ب - حديث: «يتخذون القرآن مزامير، يقدّمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنّيَهم غناءً» . ج - حديث: «إنّ الأذانَ سهلٌ سمحٌ، فإن كان أذانُك سهلاً سمحاً وإلاَّ فلا تؤذّن» قالوا: فقد كره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يطرب المؤذن في أذانه، فدلّ ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق الأولى. د - وقالوا أيضاً: إن التغنّي والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه، وذلك لأنه يقتضي مدّ ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفاً كثيرة وهو لا يجوز، هذا إلى أن التلحين من شأنه أن يلهي النفوس بنغمات الصوت، ويصرفها عن الاعتبار والتدبر لمعاني القرآن الكريم. وقد سئل (مالك) عن الألحان في الصلاة فقال: لا تعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنّون به ليأخذوا عليه الدراهم. وروي عن الإمام (أحمد) أنه كان يقول: قراءة الألحان ما تعجبني، والقراءة بها بدعة لا تسمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 وسئل: ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال للسائل: ما اسمك؟ قال: محمد، قال له: أيسرّك أن يقال لك: يا موحامد ممدوداً؟ أدلة المذهب الثاني: واستدل المجيزون للقراءة بالتلحين وهم (الحنفية والشافعية) بأدلة نوجزها فيما يلي: أ - حديث: «زينوا القرآن بأصواتكم» . ب - حديث: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» . ج - حديث عبد الله بن مغفّل قال: (لقد أعطيتَ مزماراً من مزامير آل داود) فقال له أبو موسى: (لو علمت أنك تسمع لحبّرته لك تحبيراً) . هـ - حديث: «ما أذِنَ الله لشيء أذنَه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» . ووقالوا أيضاً: إنّ الترنّم بالقرآن والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس، وأنفذ في القلب وأبلغ في التأثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 وقد روى الطبري: عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأبي موسى الأشعري: ذكّرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن فيقول عمر: من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل. وكان ابن مسعود: تعجبه قراءة (علقمة الأسود) - وكان حسن الصوت - فكان يقرأ له علقمة، فإذا فرغ قال له: زدني فداك أبي وأمي. هذه خلاصة موجزة لأدلة الفريقين، وأنت إذا أمعنت النظر وجدت أن الخلاف بينهم يكان يكون (شكلياً) لا (جوهرياً) فالفقهاء جميعاً متفقون على حرمة قراءة القرآن بالأنغام، التي لا تراعى فيها أحكام التجويد، كمدّ المقصور، وقصر الممدود، وترقيق المفخّم، وتفخيم المرقق، وإظهار ما ينبغي إدغامه، وإخفاء ما ينبغي إظهاره ... إلخ، والتي يكون الغرض منها (التطريب) وإظهار جمال الصوت فحسب دون تقيّد بالأحكام وآداب التلاوة، كما يفعله بعض الجهلة من قراء هذا العصر، فإن هذا لا يشك أحد في تحريمه. أما إذا كان المراد ب (التلحين) هو تحسين الصوت بالقراءة وإخراج الحروف سليمة من مخارجها، دون تعقر أو تمطيط، مع تطبيق أحكام التجويد ومراعاة الوقوف والمدود فإن هذا لا يقول أحد بتحريمه، لأن الصوت الحسن يزيد في جمال القرآن، وله أثر في نفس الإنسان، وقد استمع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى قراءة بعض أصحابه، فأعجب بحسن صوته حتى قال لأبي موسى الأشعري: «لقد أعطيتَ مزماراً من مزامير آل داود» والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. تمّ بعونه تعالى الجزء الثاني من كتاب «روائع البيان» وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631